موعظة الجمعة العظيمة
الأب بشار متي وردة
الموعظة الأولـــى : مشيئة الآب – إنسان محبوب
في نشيد لمار أفرام يقول فيه: عندما أراد الله في البدء خلق الإنسان، حمل تُراب آدم في يديه المُقدستين ونظرَ إلى ابنه المولود منذ الأزل وقال: “يا ابني يسوع، هذا هو الإنسان الذي سأصنعه، سيكون سبباً لآلامك: سيهزأ بك ويحكم عليك، وسيجلدك بالسياط القاسية، ويُسمّرك على الصليب كاللصوص والمجرمين، وسيطعن جنبك بحربةٍ فيجري دمُك نبعاً متدفقاً، ويدفنك في القبر. فإذا أردتَ أن أخلقه فسأخلقه، وإلاّ أدعه يسقط مجهولاً في الفراغ”؟.
أجابه الابن الأزلي قائلاً:” لقد شئتُ فاخلقه، لأني بمريم سأعيده في ملء الزمان، وبدمي سأفديه على الصليب، فتكون له الحياة الأبدية”. وهكذا صار، “فخلق الله الإنسان على صورته ومثاله”.
نُصلّي يومياً: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”. ويُصليها ربنا يسوع أيضاً ولكن لا نعنيها مثلما يعنيها ربنا. فنحن غالباًً ما نتساءل في حيرة مُشككة:
يا رب نُريد أن نعمل مشيئتك ولكن الحياة مُتعبة، مؤلمة، قاسية. فهل هذه هي مشيئتك؟
هل ترضى يا رب بأن ترى عذاباتنا وآلامنا وتبقى صامتاً ساكتاً غير مُبالٍ؟
كيف لنا أن نقبل اليوم عذاب وألم يسوع، هذا المُحب الذي راح ينشر البسمة والطيبة بين الناس؟
كيف لك أن تقبل موت شاب في الثالثة والثلاثين من عمره، والحياة مفتوحة أمامه؟
كيف يُمكن أن نتصوّر أنك تقبل بنهاية حياة هذا الإنسان المُتحمس لخلاص العالم، ولم يعمل سوى ثلاث سنوات وما زال أمامه الكثير ليعمله لأجل خلاص الناس؟
كيف يُمكن أن نسكت لموت عنيف كهذا وما يؤلمنا فيه هو أنه موت ظالم ولا عدل فيه البتة؟
ومثله آلاف الأبرياء من الناس يموتون كل يوم بظلم وعنف الآخرين؟
كيف لنا أن نفهم أن هذا الإنسان، يسوع المسيح، الخادم المطيع، بُشرى الله، معرى من ثيابه، ويُضرب بعنف، وقلبه يُنشد مرتاحاً في الله: أنا هنا، لأعمل بمشيئتك يا الله؟
أين الحقيقة الآن يا رب؟ هل هي عند الذين يمتلكون السلطة فيضعون بداية ونهاية لحياة الإنسان؟ أم عند مَن يحني رأسه؟ ويسير حاملاً الصليب؟
آلاف الأبرياء اليوم يدفعون حياتهم ثمن عدم نزاهة وصدق الإنسان مع ذاته ومع الآخرين، وآلاف الأبرياء تُهدر دماؤهم برخص من جراء سوء استخدام القوّة حتى الذين يعملون ذلك باسم الله. هناك رياء وكذب وخداع، وينقصنا الكثير من الشجاعة لفضحها فنقف صامتين أمام جريمة قتل الأبرياء. خداع وكذب ورياء من قبل الأقوياء، ومن قبلنا نحن أيضا إذ نسكت وكأننا لم نرَ ولم نسمع. وكلٌّ منا يُبرّر موقفه قائلاً: هذه العذابات أكبر من أن أواجهها أنا الضعيف. وربنا يسألنا:
لماذا لم تُخفف ألم الجائع، والعطشان، الغريب والمريض والمظلوم؟
أين كنت من ألم هؤلاء؟ كنت مشغولاً بنفسك! كنت نائماً! هذا هو نومنا وهو نوم تلاميذ يسوع في الجتسمانية، فكلٌّ منّا يتراجع مُتخاذلاً مُدَّعياً أنه بريء من عذاب الناس إذ وبكل بساطة: يغسل يديه مثلما نغسل أيدينا عشرات المرات لنُحافظ على سُمعتنا وفرصتنا في الحياة، لئلا ننشغل ونتوسخ ونُهان إذ نصرخ: الإنسان يتعذب. ويأتينا صوت ربنا: قوموا، استيقظوا لئلا تقعوا في التجربة: تجربة الصمت في الدفاع عن حق الإنسان، كل إنسان في الحياة. قوموا وعزوا الإنسان المتألم من جراء خطاياكم وإهمالكم وتجاهلكم. قوموا لتكونوا بجنب مَن أُتهِمَ وأُهمِلَ ظلماً، لتفهموا عمق ألمه.
هذه هي الحقيقة التي أراد ربنا يسوع المسيح أن يعيشها بيننا: الله أحبَّ الإنسان منذ البدء فأراده شريكاً له، فخلقه على صورته ومثاله. فمن حق كل إنسان أن يعيش بكرامة ويعيش حياته للملء. ولهذا سار ربنا يسوع الطُرقات من الجليل مُبشراً أن الله يرغب بأن يعود الإنسان إليه ولا يُبعده عنه شي. لا مرض ولا وجع، لا عوق ولا مهانة، لا شر ولا خطيئة تستعبده وتحرمه حق الحياة. هذا ما عاش لأجله يسوع لأنه آمن أن الله أبٌ ويريد الحياة لأبنائه، وربنا يسوع مُستعد أن يموت لأجل حقيقة الحياة الكريمة لكل إنسان. علّم بأن نستيقظ لنرى القريب، ونستقبله كأخٍ لنا. المُعلمٌ أراد أن يُفهِمَ تلاميذه كيف للإنسان أن يرى الفجر في حياته فسألهم:
“متى يطلع الفجرٌ ويطلُ على الإنسان؟
أجاب أحد التلاميذ: “عندما نتمكن من تمييز الأشياء! فردَّ المعلم: كلاّ.
رفع آخر صوته قائلاً: “عندما نُميز الأبيض من الأسود! فأجاب المعلم: كلاّ.
فقال آخر: “عندما يُشرق النور ويتبدد الظلام! فردّ المعلم: كلاّ.
حينها سأل التلاميذ: متى يا معلم إذن يطلُ علينا الفجر؟
أجاب: “عندما تلمحون من بعيد إنساناً، وتقولون: “هذا أخي”. عندها يبزغ الفجر في حياتكم.
ربنا يسوع يرى في الإنسان ما يراه الله: الصديق: أدعوكم أصدقائي. ويدعونا لنسير طريق أورشليم لنتعلم لقاء الإنسان كصديق. وهو مستعد لأن يُضحي بنفسه من أجل هذه البشارة، فما من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه. فعلى الصليب ثَبّتَ ربنا هذه البُشرى، فلم يتنازل عنها ولم يتراجع عندما بشّرَ بها من الجليل حتى أورشليم. ربنا يسوع مثلنا لم يشأ أن يموت، بل أراد أن يُواصل الطريق ليُعلن لا لأورشليم فحسب، بل لكل العالم أن الآب يُحبنا ويُريدنا في بيته.
ربنا يسوع يركع مُصليا أمام أبيه مندهشا متسائلا عن سبب عذاب الصليب هذا. هو مؤمن تماماً بأن الله أباه الذي تعوّد أن يدعوه: أبا: بابا، لن يتركه ولن يكون سبب دموع الألم هذه. لذا فهو يستسلم بثقة طفل لأبيه: أبّا لتكن مشيئتك. ربنا لم يفهم كيف أنه استخدم يديه ليُبارك الناس ويُعينهم في محنتهم ويقويهم ويرفع الألم عنهم ماسحاً دموع الخطيئة عن عيونهم، فيما تستخدم الناس أيديها لتعذيبه وتعذيب الآخرين وحرمانهم حق الحياة الكريمة. إنَّ الله يُعامل الإنسان بالطيبة والرحمة، بينما يلتفت الإنسان بغضب وحقد وكراهية واستغلال تجاه أخيه فيستعبده ليستملكه. ربنا تعوّد أن يُعانق المُعذّب والخاطئ ويحتضن البعيد، هوذا اليوم يُعانق الصليب الذي جعل الناس مُعذبين وخطاة وبعيدين.
صلى يسوع فماتت فيه كل مشاعر الخوف لاستسلامه الكلي لإرادة الله، وهذا مُؤلم أن نتنازل عن تكبرنا واعتنائنا بأنفسنا. صلاة يسوع هي من أجل أن يموت عن نفسه، والموت مؤلم، وأن يُولد في الله والولادة مؤلمة. في الجتسمانية يثبّت حُبّاً وإيماناً مجانيّاً، فنحن لا نُحب الله لخير نرجوه، أو ليُجنِّبَنا شراً نكرهه، بل حُبنا مجاني، فلا يلومنا أحد من أننا مؤمنون بالله ونخاف على الإنسان طمعاً في نعمة أو هبة. مسيحيتنا سيرٌ متواضع أمام الله من خلال عدالتنا وحبنا للرحمة (ميخا 6: 8). مسيحيتنا تمسُّكٌ بالله رغم كل شيء حتى وإن لم نفهم وفي ذلك مغامرة الإيمان، التي بدأت مع ابراهيم وتثبتت بيسوع لتصل إلينا دعوة للقاء وجه الله في وجه القريب المتألم الذي يُصلي إلى الله طالبا نجدتنا.
في تلك ليلة الجتمسانية وما تبعها من أحداث يبدو لنا أن الإنسان الوحيد الذي احتفظَ بسلامه الداخلي كان يسوع، إذ ترك كل شيء لعناية الله. استسلم وهو ينظر يهوذا المُضطرب وقبلة الخيانة، وشهد حماس رجل رفع السيف ليُدافع عنه، ورأى التلاميذ وهم يهربون. الكل مُضطربٌ وقت الأزمة لا يعرفون أين يتوجهون وكيف يتصرّفون، إلا يسوع الذي احتفظ بهدوء المؤمن بالله العارف أنه ماضٍ ليعمل مشيئة الآب. يُعلن هويته: هو المسيح ابن الله، وابن الإنسان. وهو يعرف أن إعلان هويته هو توقيع مرسوم إعدامه، ومع ذلك، وبكل شجاعة يُعلن أنه المُخلص ولا يحتاج لأن يتكلم، فالله سيسكت من الآن لأنه أعطى كل شيء ولم يُبقِ لنفسه شيئاً، فعلى الصليب قدّم كل ما عنده للإنسان.
نجد أنفسنا ما بين ذات الجماعة التي سلمّت يسوع، تركته وخذلته. ونحن نخذله كلما خذلنا إخوته الفقراء. شوارعنا مزدحمة بأناس يكافحون تحت ثقل يحملونه. الإذلال، اليأس، الجوع، العنف، المعاملة السيئة، الخداع، الخيانة وينقصنا جميعاً الشجاعة لنُوقِف مثل هذه المشاهد ولأسباب عديدة. لقد أوصانا ربنا بالناس: هذه هي وصيتي: أن يُحب بعضكم بعضاً: فحب الناس ليس من اختياري ومزاجي وطبعي، وإنما هو وصية، أمر يُنفذ. ويُنفذ عندما أُقدم يدي وكتفيّ مثل سمعان القيراوني لأحمل عن الآخر جزء من ثقل وعذاب الطريق.
طريق الألم الذي يسيره يسوع اليوم لم يكن طريقاً اختاره هو، بل آخرون فرضوه عليه ليهربوا هم من عدالة رفضهم لله ولكلمته، ولكنه لم يتراجع أمام هول الألم، ولم يُفكر أن يُكمّل مشيئة إله غير مُبالٍ بآلام الناس ومصائبهم، فراح يُصلي: أبّا. فحتى في هذه الساعة المُرعبة يبقى الله: أبا؛ بابا. فإذا ما آمنّا وتمكنّا من أن ندعو الله: بابا في كل وقت، فسيكون ممكناً تحمل كل شيء. بالطبع لن نفهم بين الحين والآخر ما يُريده الله منّا، ولكننا نؤمن بأن يد الله لن تتركنا ولن تكون سببا في دموعنا. هذا ما يعرفه يسوع تماماً وهو مؤمن به، ويُريدنا أن نعرفه أيضاً. فالله حضر بيسوع لجميع الناس ليُعيدهم إليه. الله صالحنا بيسوع المسيح، وربنا يسوع أراد أن يكون طريقا لنا للآب. أطاع مشيئة الآب حتى الموت لكي لا يكون الموت حاجزاً يمنعنا من الوصول إلى الآب. ربنا يسوع مستعد ليحمل الصليب والألم عنّا فيكون بشير التوبة وطريقاً لها.
يشرح لنا معلمونا حب الله للإنسان من خلال قصة عن الفريسي الذي قرأ ما كتبه يسوع على التراب. فقد جاء الكتبة والفريسيون إلى يسوع يوماً ومعهم امرأة أُمسكت بفعل زنى، فأرادوا أن يُجربوه فسأله: بماذا تحكم على امرأة كهذه. لم يقل يسوع شيئاً بل إنحنى، مثلما ينحني اليوم أمام الصليب، وكتب بإصبعه على التراب، ثم نهضَ قائلاً: مَن كان بلا خطيئة فليرمها بأول حجر! فإذا بالحاضرين ينسحبون الواحد تلو الآخر.
ويُحكى أن أحد الفريسيين المتراجعين عاد إلى بيته يُفكّر في قول يسوع وأراد أن يعرف: ماذا كتبَ يسوع على التراب قبل أن يُسكتهم بالسؤال. فقد لمحَ يد يسوع تخطُ جُملتين. ما نام تلك الليلة، فأسرع في الصباح إلى نفس المكان فوجد الكتابة قد انمحت تقريبا بأقدام الناس، ولكنه حاول التركيز فإذا به يتعجب إذ كتبَ يسوع:
في الجملة الأولى: الله يُحب الإنسان فيمحو له خطيئته إذا يكتبها على التراب.
أما الجملة الثانية فكانت: من يرمي المرأة الخاطئة بأول حجر فسيُصيبني.
اليوم يختار يسوع أن يُواصل الطريق من دون تراجع، وأكثر من ذلك يموت بدل إنسان يستحق الموت. فبرأبا القاتل كان مُستحقاً الموت، اليوم يُنقذه حضور يسوع، ليحيا ويشهد للخلاص الذي ناله. برأبا هو كل إنسان أُطلق حُراً بسبب يسوع. فلنسأل ربنا: يا يسوع المسيح: ارحمنا.
الموعظة الثانية : من الألم إلى معرفة الله
أبا، يا أبتِ ، إنك على كل شيء قدير، فاٌصرف عني هذه الكأس. ولكن لا ما أنا أشاء بل ما أنت تشاء. (مر 14: 36). هذا هو يسوع في لحظة مصيرية: موته. فهو مُنهارٌ تماماً أمام رُعب وعنف الصليب كأي إنسان. يعرف مهانة الألم، يشعر بالعُزلة والتوحش والاضطهاد. ربنا يركع مُصليا وصور الاستهزاء والإذلال أمامه، لأنه يعلم جيداً أن هناك مَن يتربص للحظة كهذا. فنفس الشعب الذي صرخَ: أوشعنا بالأمس، سيرفضه في الغد، أو في أحسن حال سيصمت. ولربما تساءل ربنا: أي ذنب اقترفته حتى أُصابَ بهذا الألم؟ هل محبتي وغيرتي للإنسان تائباً أمام وجه الله تُجازى برفضٍ كهذا؟ هل وصلت قساوة قلب الإنسان إلى حد مُقابلة الطيبة بالمهانة؟ هل قُربي من الإنسان، كل إنسان يُقابله الإنسان بالإهمال؟ أم أن الإنسان يُريد أن يُجرّب أمانة الله مع عبده فيُزيد عذابه وألمه ورفضه حتى الموت؟ ما الداعي لهذا الألم؟
رُغمَ كل هذه التساؤلات والتي تجعل الألم سرّا مُحيِّراً لا يُشرح عقلياً، لا بل هو تناقض وخُبثٌ لا مُبرر له، يبقى ربنا يسوع قادراً على أن يرفع رأسه بثقة لا حد لها لأبيه السماوي مُنادياً: بابا … لتكن مشيئتك. في يسوع مثلما فينا مشاعر الاحتجاج والنفور: لماذا كأس الألم هذا يا رب؟ لماذا أنا بالذات؟ أي ذنب فعلته ليُجازينا الإنسان بعذاب كهذا؟ ربُنا يشكو ويشكو بمرارة أنه متروك: إلهي إلهي لماذا تركتني؟
ولكنه رُغم ذلك يستسلم لأبيه مُصلياً: أبا لتكن مشيئتك. ومشيئة الآب هي مواصلة طريق التضامن مع الإنسان المتألم والمعذب، فيُوقف في جسده شر الخطيئة، فلا يتألم من بعده إنسان. ربنا يُريد أن يُميت الخطيئة بموته، فلا يسمح للخطيئة أن تُثمِرَ فيه ضغينة أو حقداً أو كُرها حتى على مُعذبيه، فيقوم طالباً لهم المغفرة: يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون. فلذلك تؤمن الكنيسة بأن الصليب لن يكون لتعذيب وألم الرب بل لتمجيده إذ يشعّ عليه نُور القيامة فيفرح الإنسان. ولن تكون خطيئتنا إلا حافزاً لنا للعودة إلى بيت الآب.
غالباً ما نحاول إيقاف المتألم والمُعذب من التساؤل وكأنه يُجدف، لا نفعل ذلك لنتركه يُصلي إلى الله لأنه يُؤمن أن الله ليس إلا خيراً يفيض حياة ملؤها طيبة ورحمة. كيف للشر وللخطيئة أن تكون والرب هو الخالق والمدّبر؟ كيف يسمح الرب للخطيئة أن تعبث خُبثاً وألماً مفرطاً في حياة الإنسان وهو المحبة التي ترعى الإنسان بكُليته؟ تساؤلات المتألم قد لا تجد لها جواباً سوى أنه سيسمع صوتاً يُناديه: قُم انهض المُجرب والشر آت ليُزيد من شره، فهل ستسعى لأن تُوقفه؟ هل ستقبل بكل هذا الشر الموجود في العالم، أم تنطلق في خدمة الآخر البريء والمُعذّب ظلماً؟ فالرب يطلب مخافته والتي تُترجم عملياً بأن نعتني بالإنسان لاسيما الفقير والمتروك والمُشرد والجائع والعطشان والمريض والغريب. ديانتنا ليست أفكاراً بل أعمال رحمة.
خطيئتنا هي أننا كلما صلينا: “لتكن مشئيتك”، فنحن حالاً نخاف ونُفكّر: ما الذي يُريده الله مني؟ من الممكن أنّ الله يطلب كل ما يُريد شرط ألاّ يُكلفني راحتي؟ أنا مستعد أن أُساعد وأحب وأتضامن وأُعين ولكن وفق مزاجي وراحتي ووقتي. في الاقتراب من الآخر حتى في ألمه، لربما لن نستطيع إزاحة الألم عنه، ولكن بمقدورنا أن نُخفف عنه ثقل الألم إذ نبقى إلى جانبه: إسهروا، ابقوا معي، هذا ما طلبه ربنا من تلاميذه، من أصدقائه، منّا. عوز الثقة هو ما ورثناه من آبائنا الأولين: الخطيئة الأصلية كما يقولون في اللاهوت العقائدي، بدء الشر. ويأتي يسوع ليُعطينا مثالاً حياً عظيماً في ثقة مُطلقة واستسلام تام لمشيئة أبيه، فيعود إلى أصدقائه الكسالى المتعاجزين، ليُوقظهم من جديد ويُواصلوا المسيرة.
الإيمان يُجّرب في ساعة المحنة، لا لأن الرب يُريد أن يُعذبنا، بل لأن الإنسان يعيش وسط بشر كلهم يمتلكون رغبة في الحياة، وكثيراً ما يتناسون الآخرين من أجل إرضاء وراحة أنفسهم، وفي نسيانهم يُعذبون آخرين عن قصد أو بغير قصد. هنا يُجرّبُ إيماننا ونعيش لحظات بستان الزيتون. فلكل واحد منّا جتسمانية لا يفهم فيها سبب الألم الذي يختبره في حياته، ولكن على مثال يسوع علينا أن نتعلّم أن نقول بشجاعة وصدق: أبّا: يا بابا لتكن مشيئتك. لم يتجرأ أحد من قبل يسوع أن يلفظ هذه الكلمة وهو يُنادي الله، ولكننا نسمعها اليوم من يسوع ونفهم كم أن يسوع مازال ثابتا في الله رغم كل شيء.
ربنا يقترب دوماً من أبيه السماوي اقتراب الطفل من أبيه. لا يخافه ولا يرتجف منه، بل تقرّب متواضع يُريد أن يُشارك الله في أن يعمل من أجل عالم وخليقة حسنة لا حزن ولا دموع فيها، لا ألم ولا مرض يُعذبها، لا حقد ولا كراهية تُبعد الناس عن شركة الحياة مع الله. يُعلمنا ربنا أن نثبت واثقين به حتى في ساعات الألم. لا تكن محبتنا مُغرضة، فنشكره لأجل الإحسانات المادية التي قبلناها. وإنما نبارك اسمه ونشكره على الدوام. فالرب هو هو في السراء والضراء.
هذه الثقة التي تُثبته في ساعة التجربة ليقوم وكلّه حماس ويحتضن الطريق كما كان يقبل الخاطئ ليعود في أحضان الآب. الطريق من جتسمانية حتى الجلجلة هو مواصلة لطريق بدأه يسوع من الجليل. إنه يدعو تلاميذه، كنيسته، نحن لنستيقظ من نومنا، من كسلنا، من تراخينا، فنواصل طريق الخدمة لنحمل صليب الخطيئة فيموت فينا وإلى الأبد إذ نغفر. ربنا في صلاته يُعلمنا أن الصلاة ليست لتغيير فكر الله ومشيئته، بل لتقوينا فنقبل منه الشجاعة لنعمل إرادته.
وهذا كلّه بحاجة إلى وقت، وربنا كان يقضي الليل كلّه في الصلاة، فالله بحاجة إلى وقتنا. سنتهرب قائلين: نحن مشغولين بقضايا مهمة في الحياة وليس لدينا وقت لله والله يعرف ذلك! ولكن انظروا إلى عذابات الإنسان:
أو ليست كلها بسبب أُناس بعيدون عن الله؟
أو أبعدوا الله عن حياتهم؟
أفلا تخاف أن تكون أنت واحداً منهم؟
أو لا تظن أن خطيئتي، وخطيئتك وخطايا الآخرين هي سبب آلام الناس اليوم؟
أو تُفكّر أن خطايانا هي التي تُحمل يسوع هذا الصليب؟
هل نسيننا أن نومنا وهربنا من البقاء مع يسوع، مع الإنسان المُعذّب إنما يُسبب ألماً ليسوع أكثر مما يُسببه جلد وضرب الجنود واستهزاء المارة؟
فهل جئنا إلى يسوع اليوم لنفهم ألمه وألمنا، أم جئنا نُجدد فينا العزيمة لنبقى معه في ألمه، ونُعاهده بالسعي للبقاء بأمانة مع المتألمين. لا خير في الألم، ولا وجوه إنساني فيه. لا نحاول تزيين الألم بكلمات مرونقة. الألم شر، وشرٌ خبيث مرير يُصيب الإنسانية ويُجمّدها، ولكن لن يكون له الكلمة الأخيرة. فالألم يُوقظ فينا تحدياً متطلّباً: ما الذي ستفعله للقريب المتألم؟ عذاب القريب يُصحينا لنُرافقه في طريق التحسس لوجع القريب وجرحه، فيُصبح ألمه ألمي وعذابه عذابي، فلا أسكت. فالجائع لن يستطيع أن يُشبع نفسه بنفسه إلا إن قدمنا له رغيفاً بأيدينا، والعطشان لن يرتوي إلا بكأس ماء منّا، والعريان لن يأمن البرد إلا إذا كسوناه بملبس، والمريض لن يطيب إلا إذا رافقنا بالعناية والدواء، والمسجون لن يُحرر نفسه إلا إذا عملنا لتحريره. هكذا تظهر محبتنا من خلال حرصنا على راحة القريب، ومن ثمة هو جوابنا لخُبث الشر. الرب لا يطلب تفلسفاً بل يُريد عملاً، وكلنا جئنا اليوم لنكون مع يسوع ومع كل متألم.
جاء يسوع إلى تلاميذه؛ أصدقائه فوجدهم نياماً ثلاث مراتٍ. أيقظهم: قوموا، اسهروا لئلا تسقطوا في تجربة. جاء يسوع ليُفهم أصدقائه أن الحضور معه في ساعة مصيرية كهذه إنما هو فعل اتباع صادق نزيه، قد لا يتمكنون من درء الشر، لكنهم قادرون على سند القريب فلا يشعر بأنه غريب في الطريق. ناداهم ربنا ثلاث مراتٍ ولم ينفع النداء، ناموا مثلما ننام نحن اليوم، شعبه ورُسله لئلا نكون مع مَن يذرف الدموع ظلماً. فلنتجاوب مع دعوتنا ونتعلم أن نستقبل الإنسان بالرحمة التي صارت لنا بيسوع المسيح، أن نحتضنهم بالرعاية التي قدّمها السامري للغريب المجروح. فلا حقد ولا كراهية ولا ضغينة تُبعدنا عن الإنسان، بل يد تمتد لتُبشّر الجياع والعطشان، الحزانى والمهمومين بمحبة منزهة من كل مصالح شخصية. محبة تظهر عملياً في خوفنا على حياة القريب، لا خوفاً من عقاب إلهي ولا طمعاً في مكافأة، بل حرصاً على حياته. وبذلك يصدق تديننا، إذ ننُصف المسكين والبائس، فهذه هي معرفة الله الحقيقية (إرميا 22: 16).
فيا رب قوِّنا لنفهم:
أن الله محبة ولا يريد عذاب الإنسان، ولن يكون ألمنا وصليبنا مشيئته.
أنت مَن علّمتنا أن مشيئة الآب هي أن يخلص الجميع.
أنت الذي جئت لتكون لنا الحياة والحياة بوفرة.
أنت مَن رافقت المتألم والمجروح والمعذب فأقمته إنساناً مُعافى يعيش بكرامة اسمه، وطيب عيشه الإنساني.
أنت مَن اخترتنا أصدقاء وعلّمتنا وأفهمتنا حب الله.
أنت مَن احتضنتنا بحب الآب، وأطلقتنا للحياة أحراراً، أقوياء واثقين بأن الله راعينا ولن يتركنا حتى في ساعات الشدّة.
أنت مَن علمتنا أن نُصلي: أبّا: بابا. قوِّنا لنُعلنها بثقة لا حد لها، حتى في ساعة الألم، ولا تدخلنا في تجربة أن أبانا بعيد عنا لا يسمع صُراخنا.
قوِّنا يا رب لنستجيب لندائك فنستيقظ من نومنا، ونسير معك في طرقات أورشليم، مُقدمين حياتنا يداً وكتفاً نُُعين ونُُخفف عن الناس همومهم.
Discussion about this post