تلميذا عمواس
يروي لنا القديس لوقا الإنجيلي لقاء السيد المسيح مع تلميذين للسيد وهما في طريقهما إلى عمواس، قرية تبعد حوالي 7.5 ميلاً شمال غربي أورشليم، يرجح أنها في موقع قرية”الخماسية” أو “القبيبة”.
هذان التلميذان أحدهما “كليوباس” [18] وهو اسم مختصر من “كليوباتروس” أو “المجد الكامل“،
أما الثاني فيرى الدارسين أنه لوقا الإنجيلي نفسه، ويرى العلامة أوريجينوس والقديس كيرلس الكبير أن الشخص الثاني يدعى “سمعان” من السبعين رسولاً، خلاف سمعان بطرس وسمعان القانوي.
ويلاحظ في القصة كما رواها القديس لوقا الآتي:
أولاً: كان التلميذان – وهما من السبعين رسولاً – يسيران في طريق عمواس الذي يمتد سبعة أميال ونصف، فإن كان رقم 8 يشير للحياة الأبدية، لأن رقم 7 يشير إلى زماننا الحاضر، فإن هذين التلميذين قد عبرا الحياة الزمنية لكنهما لم يبلغا قوة القيامة وكمالها (رقم 8). بمعنى آخر سلوكهما في هذا الطريق يشير إلى الإنسان الذي يؤمن بالقيامة في فكره وتكون موضوع حديثه لكنه لا يتمتع بها ولا يمارسها.
كثيرون يؤمنون بالقيامة بل ويكرزون بها لكنهم لا يعيشونها. هؤلاء لا يزالوا في طريق عمواس يحتاجون إلى ظهور السيد لهم وحديثه معهم ليلهب قلوبهم في الحياة الداخلية بالحياة المقامة، فيعيشونها قبل رحيلهم من هذا العالم.
ثانيًا: يحدد الإنجيلي تاريخ هذا اللقاء، بقوله: “في ذلك اليوم“ [13]، أي في يوم أحد القيامة، وكان ذلك نحو الغروب حيث قارب النهار أن يميل [21] وكأن التلميذين بقيا النهار كله تقريبًا في أورشليم يسمعان ويتحاوران مع بعضهما أو مع النسوة وبطرس ويوحنا الذين ذهبوا إلى القبر، كما كانا يسترجعان الذكريات عن أحاديث الرب بخصوص قيامته قبل آلامه، ومع هذا لم يحملا يقين الإيمان، إنما “كانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع هذه الحوادث“ [14].
ثالثًا: “وفيما هم يتكلمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه، وكان يمشي معهما“ [15]. حقًا لم يكونا على يقين الإيمان لكنهما كانا مشغولين بالسيد يتكلمان ويتحاوران، وفي ضعفهما لم يستطيعا إدراك الحق، فحّل الحق في وسطهما يعلن ذاته ويسندهما إذ سبق فأكد لنا: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” ( مت 18: 20).
رابعًا: “ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته” [16].
ربما عجزا عن معرفته، لأنه إذ قام حمل جسده نوعًا من المجد عن ذي قبل، لذا لم يستطيعا معرفته، كما حدث مع مريم المجدلية (يو 20: 14)، والتلاميذ على شاطئ البحيرة (يو 21: 4). وربما كان علة عجزهما عن معرفته ضعف إيمانهما وتباطؤهما في الفهم الروحي، أو بقصد إلهي حتى يكشف لهما السيد أسراره الإلهية وتحقيق النبوات فيه. “ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب“ [27]
– إذ صار له الجسد الروحي (ذات جسده المولود به من العذراء يحمل طبيعة جديدة تليق بالحياة السماوية) لا تمثل المسافات المكانية عائقًا لحلوله (بالجسد) أينما أراد، ولا يخضع جسده لنواميس الطبيعة بل للناموس الروحي والفائق للطبيعة.
لذلك كما يقول مرقس أنه ظهر لهما “بهيئة أخرى” (مر 16: 12)، فلم يسمح لهما أن يعرفاه.
قيل: “أمسكت أعينهما عن معرفته“، حتى يعلنا حقًا مفاهيمهما المملوءة شكًا، فينكشف جرحهما ويتقبلا الشفاء، ولكي يعرفا أنه وإن كان ذات الجسد الذي تألم قام ثانية لكنه لم يعد منظورًا للكل، وإنما لمن يريدهم أن ينظروه.
وأيضا لكي لا يتعجبا أنه لم يعد يسير وسط الناس (كما كان قبل القيامة)، مظهرًا أن تحوله لا يناسب البشرية بل ما هو إلهي، مقدمًا نفسه مثالاً للقيامة المقبلة حيث نصير سائرين كملائكة وأبناء الله.
الأب ثيؤفلاكتيوس
بحق حجب إعلان نفسه عنهما بظهوره بهيئة لا يعرفونها؛ فعل هذا بخصوص الأعين الجسدية من أجل ما فعلاه هم بنفسيهما داخليًا بخصوص عين الذهن. فإنهما في الداخل وإن كانا قد أحبا لكنهما شكا. فإذ تحدثا عنه ظهر لهما، ولكنهما إذ شكا أخفى هيئته عنهما.
البابا غريغوريوس (الكبير)
إن كانت أعينهما قد أمسكت عن معرفته، لكنه تقدم بنفسه إليهما ليبدأ الحديث معهما، إذ سألهما: “ما هذا الكلام الذي تتطارحان به، وأنتما ماشيان عابسين؟” [17]. فإن كان السيد قد تألم وصلب فالموت لم يفصله عن تلاميذه، وإن كان قد قام فقيامته لم تبعد به عنهم. من أجلنا قد صلب ومات وقام لكي يقترب إلينا ويبادرنا بالحب، مشتاقًا أن يدخل معنا في حوار، لكي يقدم ذاته لنا، فنفتح أعيننا لمعاينته وقلوبنا لسكناه فينا.
على أي الأحوال، إن قصة لقاء السيد المسيح بتلميذي عمواس اللذين أُمسكت أعينهما عن معرفته هي قصة كل إنسان روحي، يرافقه الرب كل الطريق، ويقوده بنفسه، ويلهب قلبه، ويكشف له أسرار إنجيله، ويعلن له قيامته، ويفتح بصيرته لكي يعاينه ويفرح به.
يقول القديس أغسطينوس: [ليس غياب الله غيابًا. آمن به فيكون معك حتى وإن كنت لا تراه. فعندما اقترب الرب من الرسولين لم يكن لهما الإيمان… لم يصدقا أنه قام، أو أنه يمكن لأحد أن يقوم… لقد فقدا الإِيمان ولم يعد لهما رجاء… كانا يمشيان معه في الطريق. موتى مع الحيّ، أمواتًا مع الحياة. كانت “الحياة” تمشى معهما، غير أن قلبيهما لم يكونا ينبضان بالحياة.]
خامسًا: “فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟!” [17].
إن كنا في هذا العالم نبكي على خطايانا ونحزن لكن خلال لقائنا مع المسيح المقام يلزمنا ألا نمشي عابسين بل نفرح بالرب، لأن ملكوت الله هو “برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17).
جاء عن القديس أغسطينوس في اعترافاته أن الله كان يمزج عبادته بنشوة روحية تفوق كل ملذات العالم لكي يفطمنا عن لذة الخطية.
قيل عن القديس أبوللو الذي التقى به القديس جيروم في منطقة طيبة أنه كان دائم البشاشة، وقد اجتذب كثيرين إلى الحياة النسكية كحياة مفرحة في الداخل، ومشبعة للقلب بالرب نفسه. كثيرًا ما كان يردد القول:
[لماذا نجاهد ووجوهنا عابسة؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية؟ اتركوا العبوس والوجوم للوثنيين، والعويل للخطاة، أما الأبرار والقديسون فحري بهم أن يمرحوا ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات.]
سادسًا: ما هو إيمان تلميذي عمواس؟
بلا شك لم يكونا بعد قد استطاعا أن يدركا لاهوته، ولا أن يقبلا سرّ الصليب، إنما كانا يتوقعان فيه محررًا لإِسرائيل أو فاديًا لليهود من الحكم الروماني. وقد حطم الصليب آمالهما، إذ قال كليوباس عن السيد المسيح:
“كان إنسانًا نبيًا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه.
ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل، ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك. بل بعض النسوة منّا حيرننا، إذ كن باكرًا عند القبر.
ولما لم يجدن جسده أتين قائلات: إنهن رأين منظر ملائكة قالوا أنه حيّ. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر، فوجدوا هكذا كما قالت أيضًا النسوة، وأما هو فلم يروه” [19-24].
ويعلل الإنجيلي يوحنا عدم إيمان التلاميذ بقوله: “لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات” (يو 20: 9).
ويضيف القديس كيرلس الكبير لتلميذي عمواس عذرًا آخر… وهو أن الأخبار التي نقلتها النسوة لم تكن كافية أن يؤمنا بالقيامة، بل كانت موضوع دهشة وحيرة:
“بعض النساء منا حيرننا...” لأنها تحمل أنباء القبر الفارغ وشهادة الملائكة. ولا حتى الأخبار التي نقلها بطرس لأنه لم يرَ سوى القبر الفارغ والأكفان، كما قال التلميذان: “وأما هو فلم يروه” [12].
سابعًا: إذ أعلن التلميذان ضعف إيمانهما أو خطأه، قدم لهما تأكيدات من الناموس والأنبياء، إذ قال لهما: “أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟! ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب” [25-27].
يقول القديس كيرلس الكبير: [قدم الرب للتلميذين موسى والأنبياء، وكشف لهما ما غمض عليهما من معانيهما. فالناموس هو تمهيد للطريق، وخدمة الأنبياء هي إعداد الناس لقبول الإيمان. لأن الله لم يرسل شيئًا بلا فائدة، بل لكل شيء فائدته في وقته. فالأنبياء هم الخدام الذين أرسلهم السيد أمامه لتكون نبواتهم تمهيدًا لمجيئه. وكأن هذه النبوات كنز ملكي مختوم، ينبغي أن يفتح في الوقت المناسب ما فيه من رموز.]
ثامنًا: “ثم اقتربوا إلى القرية التي كانا منطلقين إليها، وهو تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد” [28].لم يقل لهما أنه منطلق إلى مكان أبعد، وإنما تظاهر هكذا، لكي لا يقحم نفسه بنفسه في موضعهما، إنما إذ يطلباه ويصرا في طلبه يستجيب.
الله لا يقحم نفسه في حياتنا بغير إرادتنا، لكنه يطلب أن ندعوه، ونلح في الدعوة معلنًا كمال حرية الإنسان في قبوله أو رفضه. هذا من جانب ومن جانب آخر،
كما قال البابا غريغوريوس (الكبير) إنهما إذ كانا لا يزالا غريبين في الإيمان “تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد”.
تاسعًا: “فألزماه قائلين: امكث معنا، لأنه نحو المساء وقد مال النهار“[29].
النفس التي ذاقت ما ذاقه التلميذان لا تكف عن أن تقول مع عروس النشيد: “في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي… فأمسكته ولم أرخه، حتى أدخلته بيت آمي وحجرة من حبلت بي… شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني… تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي” (نش 3: 1، 4، 2: 3، 6).
يقول القديس أغسطينوس: [إن كنت تريد الحياة تشبه بالرسولين حتى تتعرف على الرب. لقد ألحا عليه بالدعوة، وتظاهر هو كأنه ينوي مواصلة الطريق… غير أنهما أمسكا به وقالا له: امكث معنا لأنه نحو المساء.]
كما يقول: [امسك بالقريب إن أردت أن تتعرف على مخلصك، فقد أعادت الضيافة إلى التلميذين ما نزعه الشك وعدم الإيمان، وأعلن الرب ذاته عند كسر الخبز… فتعلم أين تطلب الرب فتحظى به على مائدة الطعام.]
عاشرًا: “فلما اتكأ معهما أخذا خبزًا وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه، ثم اختفى عنهما” [30-31].
يرى البعض أن ما فعله السيد المسيح هنا هو “سّر الإفخارستيا“، وأن الرب يعلن ذاته خلال هذا السرّ، يفتح أعين مؤمنيه الداخلية لمعاينته،
وإن كان البعض الآخر يرى أنه لم يكن “سّر اإأفخارستيا”، إذ لا نسمع عنه أنه أخذ كأسًا أيضًا وناولهما، كما لم يذكر عند كسر الخبز أنه جسده المبذول عنهما، كما فعل في العشاء الأخير.
يقول القديس أغسطينوس: [متى أعلن الرب عن نفسه؟ عند كسر الخبز… لذلك عندما نكسر الخبز نتعرف على الرب، فهو لم يعلن نفسه إلا هنا على المائدة… لنا نحن الذين لم نستطع أن نراه في الجسد، ولكنه أعطانا جسده لنأكل. فإذا كنت تؤمن بهذا فتعال مهما كنت. وإذا كنت تثق فاطمئن عند كسر الخبز.]
يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [تُفتح أعين الذين يتقبلون الخبز المقدس لكي يعرفوا المسيح، لأن جسد الرب يحمل فيه قوته العظيمة غير المنطوق بها.]
يعلل القديس كيرلس الكبير اختفاء السيد المسيح عنهما بقوله:
[لقد اختفى الرب عنهما، لأن علاقة الرب بتلاميذه بعد القيامة لم تعد كما كانت عليه من قبل. فهم في حاجه إلى تغيير، وإلى حياة جديدة في المسيح… حتى يلتصق الجديد بالجديد وغير الفاسد بالفاسد. وهذا هو السبب الذي جعل الرب لا يسمح لمريم المجدلية أن تلمسه كما ذكر (يو 20: 17) – إلى أن يصعد ثم يعود مرة أخرى.]
أحد عشر:ختم القصة بقوله: “فقاما في تلك الساعة، ورجعا إلى أورشليم…”.
هذا هو غاية عمل الله فينا أن يهبنا قوة القيامة، إذ يقول: “قاما“، بهذه الحياة المقامة نرجع إلى أورشليم العليا التي تركناها، نرجع إلى مدينة الله الملك العظيم (مت 5: 35)، إلى “أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا” (غل 4: 26). بمعنى آخر يحوّل الله اتجاهنا، فبعد أن كنا متجهين إلى عمواس معطين ظهورنا لأورشليم، نعطي ظهورنا لعمواس متجهين بوجهنا وقلبنا وفكرنا نحو أورشليم.
+ + +
ملحوظة: كم مرة كنا فيها مثل تلميذي عمواس، نطلب الخلاص بالطريقة التي نراها نحن وليس بحسب رأي الرب. فمن هو مريض ولا يستجيب الله صلواته ويشفيه يظن أن الله لم يخلصه كما ظن تلميذي عمواس أن المسيح لم يخلصهم لأن الخلاص في مفهومهم هو خلاص من الرومان.
وأيضا عليك أن تلاحظ أن مرض بولس كان لخلاصه. وإذا تعرضت إرادتنا مع إرادة الرب فإن عيوننا تعمى ولا نعرف الرب ولا نراه كما حدث مع تلميذي عمواس بل نتصادم معه.
Discussion about this post