بندكتوس الرابع عشر
بروسبير لمبرتيني 1740 – 1758
لقد ارتقى العرش الباباوي بشخصه أحد أبرز الباباوات وأحسنهم وجهاً. ولد في 31 أيار 1675، من عائلة قديمة فقيرة في بولونيا. درس بتفوق الحقوق واللاهوت، ويدين بتهيئته الأدبية إلى مؤلفات دانتي وتاس وآريوست. انخرط في المجمع الديني كمحام في خدمة الكيمنضوس الحادي عشر، ولا يزال المؤلف الذي وضعه آنذاك، في تطويب وقانونية تطويب خدام الله، متبعاً. كان يجمع المعلومات الواسعة إلى الروح العلمية ويتحد الكل بحسن الذوق السليم، وبندكتوس الثالث عشر الذي سامه رئيساً لأساقفة أنكون وكردينالاً، كان له عادة، حين يسأله في المسائل الهامة أن يقول له: “ماذا يقول علاّمتنا؟”. ما إن أصبح كردينالاً حتى كتب إلى صديق له: “كن على ثقة أنه في هذا التبديل فإني لا أبدّل إلا اللون فقط، أمّا ما تبقّى فسأبقى ذلك اللمبرتيني”.
عيّنه اكليمنضوس الثاني عشر رئيساً لأساقفة بولونيا، حيث أصبح، آخر الأمر، محترماً لدى الجميع، ومع كثرة الأعمال المتراكمة عليه، كان يجد وقتاً يكتب فيه، بتوسع، مؤلفات ومقالات قيمة، ولما أصبح بابا منع أخاه عن المجيء إلى روما. ربّ أحد أبناء أخوته بكل بصرامة لدى اليسوعيين.
إزاء التطور السياسي في زمنه والمذهب العقلاني المعادي للاكليروس، في ذلك القرن العظيم، استعمل بندكتوس الحكمة ليختار ما هو جوهري وغير قابل للتبدل مما ليس له منه بد، ويهمل ما يتأتى منه الضرر الكلي. يعزى إليه ليونة زائدة، وميلاً نحو التنازل الكثير. لكن عندما يرى اقتراب الضوضاء والانقلابات فيعمل بكل ما في وسعه ليؤخرها على الأقل. وبنظرته الصافية كان يدرك حدود اللطافة، ويعرف كيف يتجنب من جديد النزاعات وحتى أنه يمحو القديمة. وقّع معاهدات مع السافوا وأسبانيا ونابولي والبورتغال. لما كان سلفاؤه قد رفضوا الاعتراف بفريدريك الثاني كملك على بروسيا فقد اعترف هو به واضعاً هكذا حداً لهذا المشكل الشاق، ثم بعد ذلك كان له معه، فيما بعد، كثير من الأبحاث في السياسة الاكليريكية.
بعد انتخابه بوقت قصير توفي الإمبراطور شارل السادس ملك النمسا، وحالاً انفجرت حرب الخلافة على عرش النمسا. اعترف بندكتوس، بدون شك وعلى ضوء المرسوم القديم لسنة 1713، بحق الخلافة لماري تيريز، ورضي بأن يكون عرّاباً لابنها البكر، الأمير ولي العهد، جوزف. لكن في سنة 1742 انتخب في فرنكفورت، الأمير المنتخب، شارل البير البافاري، صهر جوزف الأول، وتوّج في براغ، فوجب على بندكتوس الاعتراف بانتخاب منتخب فريدريك الثاني وفرنسا هذا، وفي غضون هذا الوقت كانت جيوش أسبانيا تنزل في إيطاليا لانتزاع لومبارديا من ماري تيريز المحاصرة. عندها انقلبت ماري تيريز ضد البابا، ودخلت أراضي بولونيا، فيما كانت جيوش نابولي تمرّ عنوة في أراضي الدولة الباباوية لتتحد مع الأسبان. وبسخرية مرّة، كتب البابا بأن له الحق في وضع بحث حول شهيد الحياد.
في كل مكان تجد معسكرات الأعداء مخيّمة في أراضي الدولة الباباوية، حيث أضحى الوضع مزعجاً عندما أعطت ماري تيريز الأوامر سنة 1744 لاسترجاع نابولي وأن الجيوش الأسبانية والنابوليتانية والنمسوية راحت تعتبر الدولة الباباوية أرضاً مهجورة فهي للنهب ثم حاصروا روما. عندها وصل أمر إلى النمساويين بالتنازل عن المشروع النابوليتاني. لكن الجيوش بقيت شتاء آخر في أراضي الدولة الباباوية.
بعد وفاة شارل السابع، انتخب دوق توسكانا الكبير، زوج ماري تيريز، إمبراطوراً في 13 أيلول 1745 باسم فرنسوا الأول فاعترف به البابا، الذي برهن هذه المرة أيضاً، عن نقاء قلبه، إذ عندما يجب عليه أن يسهل كل الصعاب التي تكون عائقاً في سبيل السلام؛ وجاءت معاهدة اكس لا شابيل في 18 تشرين الأول 1748 تنهي حرب الخلافة على عرش النمسا وتعطي إيطاليا حقبة من السلام مدتها أربعون سنة، وتثبّت للإمبراطور حيازة ميلانو ومانتو وتوسكانا، كما أعطت لشارل السادس دي بوربون مملكة الصقليتين، وإعطت لأخيه فيليب دوقية بارم وبليزانس التي حاول بندكتوس عبثاً جعلها تحت ولاية الكنيسة.
عندما شرع ملك بروسيا، فريدريك الثاني، سنة 1756، بحرب السبع سنوات، لم يوافق بندكتوس على تسمية حرب الاكتساح هذه حرباً دينية لكنه كان سعيداً عندما رأى تحالفاً يتم بين فرنسا والبيت النمساوي بعد قرون من العداء. أما في داخل الكنيسة، فقد وضعت الجانسانية ومسألة اليسوعيين البابا أمام مشاكل هامة. أما بالنظر إلى الجانسانيين فقد عبّر بندكتوس الرابع عشر ـ بدون أن ترى عليه علامة الرضى ـ عن إرادة متحفظة للسلام. ثم حدد، بعض مضي أكثر من قرن ونصف، مشكلة المذاهب الصينية والملابارية (1742 ـ 1744) بالمعنى الذي كان ينتظره متنافسو المذاهب (قد أرسل هو نفسه بعثات رسولية مكلفة بدراسة هذه المسألة الفريدة من نوعها بالصعوبة).
أما ملاحظته فهي: “إن المذاهب لم تكن عاطلة لأنها منعت، بل بما أنها منعت لذا فهي عاطلة”. اهتم بتطهير المصارف في ولاياته، إذ أنها كانت، من أساسها في وضع عاطل، وبإعادة تنظيم دولته التاعسة، عاش بتواضع وكان يطلب ذلك من الآخرين. تخلى عن زيارة مسقط رأسه ليوفر أجر تنقلاته لمصلحة الفقراء، نظم جيشه الصغير مقتنعاً بأنه كان غير نافع. عضد الشعب تجاه ملاكي الأراضي الكبار والمضاربين. كان يهتم بكل فرع من فروع الاقتصاد وجعل الجميع يشعرون بسلطته الشرعية.
روما مدينة له بإصلاحات عديدة، اهتم خاصة لإيجاد معرض للوحات في قصر المتاحف، وبإغناء متحف الكابيتول حيث وينكلمان، الذي أقام في روما منذ سنة 1755، استمد انطباعاته المقنعة.
لم يكن هناك معلمون كبار في حبريته فالمحافظة على الشيء كانت عنده أهم من إيجاده. إن المجامع العلمية التي أنشأها بندكتوس ولم تزل، هي المجمع الطقسي (الليثورجي) والمجمع العلمي الروماني للأثار القديمة. ثم أنشأ البابا مراكز جديدة، للعلوم الرياضية العالية والكيمياء، في جامعة روما، فضلاً عن مختبرات الفيزياء والكيمياء. شجّع خاصة العلوم الطبيعية والفيزيائية الاختبارية. أنشأ هذا البابا، وبدون حكم سابق، في جامعة بولونيا مركزين لأستاذين من النساء، وذلك قبل أن يتقرر ذلك، وبما يقرب من قرنين، عدا عن ذلك فقد أنشأ في مسقط رأسه متحفاً ومركزاً في علم التحاليل والتشريح، لقد برز بين العديد من أقطاب العالم في العلوم والفنون الذين دعمهم البابا أنطونيو موراتوري أبو العلم التاريخي الإيطالي، وجيوفاني باتيشتا بيرانيزي، فقد كان هذان الأكثر نبوغاً.
لقد سعى البابا عبثاً في جذب أحد تلاميذه القدامى في الحقوق إلى روما، الشاعر العظيم في بلاط فيينا وأكبر المتحررين في ذلك القرن، بياترو ميتاستازيو. كثيرون من المؤلفين من كل البلدان قدموا له الولاء والاحترام إما بقصائد مدح ينشرونها وإما بكتب يهدونها له. فولتير الذي كان قد نظم شعراً تضمينياً لاتينياً يصف فيه البابا، أرسل له مؤلفه محمد، فشكره بندكتوس بأيقونتين من الذهب، ولم يعرف أنه حصل على مؤلف من عدو الكنيسة إلا مؤخراً، فمنع عرض محمد في روما. قد كان أيضاً على علاقات مع بيار لويس دي موبيرتويس الفيزيائي الشهير.
وعندما غلوك قدم على المسرح الفضي، في روما، أولى مؤلفاته من انتيغون، قدم له البابا وسام المهماز الذهبي، لأجل ذلك يدعى غلوك فارساً. وهب بندكتوس لمكتبة الفاتيكان أغنى الكنوز ثم بدأ بالأعمال فيها كنشر جداول وفهارس ونماذج للمخطوطات، فاستحق لذلك لقباً مشرّفاً: بابا العلماء، كما دعاه مونتسكيو. أما كقانوني فهو في الطليعة، بمنهجه التاريخي، حول التطور المتوازي للحق المدني.
توفي بندكتوس بعد آلام مريرة بعمر أربع وثمانين سنة، وآخر كلمة قالها: “إني ذاهب إلى حيث يلفني السكون والنسيان، إلى المكان الوحيد الذي يخصني”. وقبره الفخم القائم في كنيسة القديس بطرس، لا يتماشى مع تواضع ولطافة البابا لمبرتيني. قد أقام له ابن هوراس والبول تمثالاً في معرضه وقرّظه بقصيدة، ككاهن يحبه الكاثوليك ومحترم لدى البروتستانت، لا كبرياء ولا أنانية، أمير بلا أفضلية، بابا بدون محاسيب، عالم لا يضاهى. عندما قرأ بندكتوس، الذي لا تهزه التمليقات، هذه القصيدة، قال “ليس عاطلاً” بين التماثيل في كنيسة بطرس إذا نظرناه من بعد. جان بت أحد أقارب وليم بت العظيم، وبروتستاني مثل والبول، قد وضع في قصره تمثالاً نصفياً لبندكتوس الرابع عشر، ومعه هذه الكتابة: “جان بت الذي ما قال أبداً شيئاً حسناً عن اكليريكي روماني، قد أقام هذا الأثر التذكاري على شرف البابا بندكتوس الرابع عشر”.
صلاح لا ينضب، يتجلى فيه الصدق والاستقامة حيوية ثقافية ونقد موقظ هذه هي الخطوط العريضة التي تصف هذا البابا. الرومان كانوا يرونه متنزهاً في المدينة وبيده عصا من خيزران، ويتحدث مع الناس، لم يكن يهتم أو يحقد على الإهانات الشخصية. هجاه هجّاء بشعر رديء النظم هجاءً ساخراً لاذعاً. فصحّح له أبياته الوسخة وأعادها إلى المؤلف متمنياً له التقدم في مؤلفاته في المستقبل. كان يأنس كثيراً لسخريات بييه لاون غيزي، الذي لم يكن يوفر البابا ولا الكرادلة من سخرياته. كان يتقبل النقد المفتوح من الحكومة فيصححه. لرسائله نكهة نادرة فهي مزيج من الرصانة والنكتة والنقد والصراحة الهائلة، وشعور بالمسؤولية، والمغفرة للآخرين، مزيج من السخرية ومن التواضع.
ذكر البابا لمبرتيني يبقى في إيطاليا، وخاصة في روما. لقد دعاه ماكوالي: الأحسن والأعقل بين المئتين والخمسين بابا خلفاء مار بطرس، فهو لشعبه أكثر إنسانية. يحبه المؤمنون وغير المؤمنين. تبقى شخصيته حيّة، وصورته التي رسمها كريسي موجودة في الفاتيكان.
Discussion about this post