اكليمنضوس الثامن
هيبوليتوس الدوبرانديني 1592 – 1605
هو سليل عائلة قديمة نزحت من فلورنسا إلى روما، ولد في 24 شباط 1536 ببلدة فانو، وقد يسّر له درس الحقوق اسكندر فارنيز حفيد بولس الثالث، دخل الدوبراندي في خدمة البابا وأصبح مراقباً في محكمة الروتا ثم كردينالاً لكنيسة القديس بنكراس سنة 1585، برهن سنة 1588 عن مواهبه ودماثته في النزاع على خلافة اسطفان باتوري، ومع أنه كان، وهو كردينال، ينتقد توظيف الأقارب، فقد وقع في نفس الخطأ، لما أصبح بابا، فعينّ، بعد أعمال الفكر والروية، وبإلحاح الكرادلة، ابني أخيه كردينالين وكاتمي سر الدولة، وهما: سينزيو الدوبراندي وبيترو الدوبراندي، كان هذان الاثنان نخبةً. ولئن كان بيترو الذي بنى الدارة (فيلا) الأنيقة المسماة الديبراندي دمثاً ديبلوماسياً، ذكياً، ولئن قام، في السياسة، بالدور الأول: فإنّ سينزيو فاقه بكثير، فقد كان هذا النصير القوي للآداب والعلوم، والأول في تاريخ مناصري الأدب الأنيق العالي الكبار؛ وهو الذي أعطى اسمه للروائع والجدرانيات، التي جمعها في الدارة، الشهيرة في الفاتيكان والتي اكتشفت آنذاك. أما جيان فرنسيسكو ابن شقيق البابا فقد كان جندياً ممتازاً وحاكماً صالحاً. رفض اكليمنضوس أن يقيم أو يجعل إمارة لعائلته.
إن المسألة الفرنسية، الدائمة النزاع، كانت للبابا مشكلة ملحّة، لكن ذكاء، هنري الرابع، السياسي الذي هو كذكاء البابا وضعا، أخيراً الحل بارتداد الملك إلى الكثلكة سنة 1595. إن حلّ الحرم والاعتراف بهنري الرابع ملكاً شرعياً كان له الوقع العظيم على الهيمنة الأسبانية تحت حكم فيليب الثاني، عندها رأت الباباوية نفسها بأنها قد تحررت من عبء ثقيل لا يطاق، وأصبح بمقدور البابا اكليمنضوس إذ ذاك التدخل كمصلح ومهدئ وخاصة ليدعم السلام في حضن كنيسة فرنسا.
ومع ذلك اصطدم بصعوبات كبيرة، منها أن الملك لا يستطيع أن ينشر ويعلن مقررات المجمع التريدنتيني خوفاً من غيظ الغليكانيين والهوغونوت. بعد مرسوم نانت (30 نيسان 1598) الذي ضمن للبروتستانت حرية العبادة في بعض المدن والاقطاعيات، وضمن لهم أيضاً المساواة في الحقوق المدنية مع الكاثوليك، واعترف بحقوقهم كجماعة دينية في مملكة كاثوليكية، عندها انحلت المشكلة الحادة التي بسببها كانت الحروب الدينية التي دامت مدة من الزمن. فأصبحت فرنسا رأس الخط القائم لإعادة البناء الكاثوليكي: فبدلاً من المؤسسات الشرطية برز في فرنسا رعيل مدهش رائع من الكهنة والعلمانيين الذين قد أصلحوا، بحسب روح المجمع التريدنتيني وقوانينه، ما فسد، وقاموا بنهضة كاثوليكية مدهشة التي اضطلع بها العالم الحديث.
يكفي أن نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، القديس فرنسيس دي سال والقديس منصور دي بول ومدام آكاري من راهبات بورت رويال (قبل الجنسانية).
ما إن كانت سنة 1597 حتى انقرضت السلالة الشرعية لآل ايست، عندها استطاع البابا أن يوسع رقعة دولته فألحق بها فراره (بمساعدة هنري الرابع) فأصبحت مقاطعة من مقاطعات الكنيسة؛ بعد مدة وجيزة، أصبح فيليب الثالث خلفاً لفيليب الثاني، في حين كان البابا قد أقام ستة أشهر في فراره، وعلاقاته مع أسبانيا بقيت متوترة؛ ولم يفسح المجلس للبابا بإقامة حلف ضد الأتراك الذين شرعوا يتقدمون. أما في انكلترة فلم يتغير شيء سوى أنه بعد وفاة اليزابيت الأولى سنة 1603 تسلّم العرش، ابن ماري ستيوات، جاك الأول فدافع بلباقة سياسية دينية عن مذكرة له، حيال القديس روبرت بلرمينوس. أما في داخل الكنيسة فقد كان لاكليمنضوس مكانة عالية في كل أوروبا، وراح يتصدى لعدد كبير من الأسئلة، بينها المجادلة بين الدومينيكان واليسوعيين حول النعمة، فقد أولى هذه المجادلة المكان الأول. أما تطبيق الإصلاحات التي قررها المجمع فكانت تطبّق تدريجياً وتحت إدارة البابا المباشرة. أما المجامع التي أقامها سيكستوس الخامس فقد بقيت في الإيداع لمدة من الوقت. أما أهم معاونو اكليمنضوس الثامن منهم: الكردينال ابن الأخ بياترو والدوبرانديني، دوبيرون ودوسا بلرمينوس وبارونيوس، أما للإشراف على الدولة الباباوية فكان الكردينال بياترو الدوبرانديني هو الذي كان يقوم بكل الأعباء. وقد أعيد تنظيم جباية الضرائب الباباوية.
إن يوبيل سنة 1600 قد جذب إلى روما حوالي ثلاثة ملايين حاج. قد اضطربت حبرية اكليمنضوس الثامن بالمعارضة العاصفة بين الحزب الفرنسي (الدوبرانديني) والحزب الأسباني (فارنيز). فاجعتان قد احتلتا، أخيراً، الصدارة في عهد اكليمنضوس الثامن هما: تنفيذ الإعدام في الهرطوقي الشهير جيوردانو برونو وفي قاتلة والديها بياتريس سانسي؛ وكان للبابا، يد فيهما.
كان اكليمنضوس وابنا أخيه الكردينالين من نصراء الأدب والعلوم النشطين الفاعلين. فبيترو وضع تحت حمايته جان باتيست ماريني مؤسس الأدب البليغ المرصّع، والكردينال سينزيو قد أنشأ مجمعاً علمياً من أبرز المساهمين فيه: باتيستا غاريني مؤلف المأساة المضحكة الراعي الأمين وعلى الخصوص لاتاس الذي جعل من قصيدته: أورشليم المحتلة وقيمتها الأدبية أقل من الأولى، فضلاً عن محاضراته حول قصائد الحماسة التي قدمها إلى سينزيو الذي كان يعمل المستحيل لمساعدة الشاعر المسكين. إن الفضل في كل ذلك يعود إلى البابا المنفتح على الأشعار والآداب، وقد وضع هو أناشيد جميلة ورائعة في كتاب الصلوات منها: أبو الأنوار، نظمها بمناسبة مباراة شعرية. قدّم له رولاند دو لاّسو سنة 1597 آخر مؤلف له بعنوان: دموع مار بطرس. أكمل جياكومو ديلاّ بورتا قصر اللاتران خلفاً لفونتانا سنة 1596. أما في سنة 1593 وضعت الكرة والصليب المذهب فوق قبة مار بطرس، في حين كن كافاليير داربينو يقوم برسم الفسيفساء من الداخل.
أما المذبح الباباوي الجديد ـ لم يزل دون قبة ـ القائم تحت القبة الكبرى، فقد كرسه اكليمنضوس في 26 حزيران 1594، دعيت الكابيلا بالاكليمنضوسية (كليمنتين) باسمه وهي المقابلة للكابيلا الغريغورية. تولى الكردينال بارونيوس اختيار اللوحات التي تزين المذبح، وبعد وفاة دي بورتا استدعى البابا كارلوماراتّا كمهندس بنّاء، فقام بعدد كبير من المشاريع والأعمال في كنيسة اللاتران، كما بنى في الفاتيكان أيضاً قاعة اجتماع الكرادلة والقاعة الاكليمنضوسية (كليمنتين)؛ وبفضل البابا انتهت الأعمال التي ابتدأها، في الكابيتول، ميكال أنج، لكن البابا لم يعش حتى نهابة الأعمال. كذلك كان الكرادلة يتنافسون في بناء الكنائس.
في عهد اكليمنضوس وضع الشاعر والفيلسوف الدومينيكاني توماسو كمبابيلاّ مؤلفه سنة 1602، مدينة الأرض، التي استوحاها عن توما موروس من مؤلفه اليوطوبيا لجمهورية كاثوليكية شاملة.
إن اكليمنضوس الذي كان بابا تقياً ذا ضمير حي عادلاً ومسالماً، يرتاح الآن في كابيلاّ بورغيز، في كنيسة القديسة مريم الكبرى، التي بناها بولس الخامس، كانت صحته متقلقلة، كثيراً، ما كانت تجبره على التراجع في حين كان عليه أن يأخذ القرار، وهو البابا النشيط العامل، من هنا ظهر التباين في حبرية اكليمنضوس. إن اكليمنضوس كان مستقيماً وعادلاً، كان يصغي بكل جوارحه للانتقادات الموجهة إليه والاقتراحات. وكان أيضاً هذا البابا المحب يتناول طعامه القشف أمام عدد من الفقراء الذين كان، أحياناً، يخدمهم بنفسه.
Discussion about this post