سيكستوس الخامس
فيليكس بيريتي 1585 – 1590
إن هذا البابا الجديد قد خرج من الأوساط الفقيرة جداً. ولد في 13 كانون أول سنة 1521، ببلدة غروتامار، دخل في سلك الرهبانية الفرنسيسكانية، فلمع نجمه فيها خاصة كواعظ، وقد عرف بصرامته وبإصلاحاته، فجعله بولس الرابع محققا في محكمة التفتيش بالبندقية، وبيوس الخامس جعله نائباً عاماً للأديار الفرنسيسكانية، مع سيامته، في الوقت عينه، مطراناً على كنيسة القديسة أغاتي دي غورت ولما أصبح كردينالاً سنة 1570 دعا نفسه باسم مونتالتو، أما في عهد غريغوريوس فلم يكن له أي شأن لأن غريغوريوس كان ينعته بالتراخي ـ كان الاثنان يتباغضان ـ إن نقمته على غريغوريوس كانت واضحة، بسبب اغتيال ابن أخيه، زوج فيتوريا اكرومبونا، الذي دخلت قصته في الأدب، بالقصة التي وضعها كل من تياك وستاندال، الذي بقي بلا عقاب. وما إن ارتقى سيكستوس الخامس العرش الباباوي، الذي كان دائماً يتوق إلى اعتمار التاج المثلث، حتى أسرع وعيّن ابن أخيه اسكندر بيرتي نتالو كردينالاً، وهو فتى بعمر خمسة عشر عاماً، ولكنه أصبح بعدئذٍ شخصيةً لاعيب فيه، كما عيّن أيضاً أقارب له آخارين في وظائف، ولكن ليس على حساب الباباوية. ثلاث من بنات أخوته تزوجن في عائلتي اورسيني وكولونا. وقد ولّى سيكستوس الخامس رئيسي هاتين العائلتين سلطة جلساء العرش الباباوي؛ وعليهما ممارسة هذه الوظيفة بالتناوب؛ وهده الولاية الفاتيكانية هي من اعلى الرتب التي تمنح للعالميين.
بدأت حبرية سيكستوس الخامس بمحاربة اللصوصية، بأقصى وسائل الصرامة والجذرية. حكم الموت هو الحكم الذي يطبق على اللص وعلى من يتواطأ معه، حتى ولو كان من أعلى الرتب. ساد الأمان والهدوء، بعد سنتين، ولاية البابا، وقد أصدر قرارات صارمة جداً، منها الحكم بالموت على مرتكبي المحرمات وتجار الرقيق للبغاء، والإجهاض والصادومية والزنا. لم يوفر البابا من هذه الأحكام أحداً حتى أقاربه الادنين، جهز، في الوقت نفسه، البابا أسطولاً حربياً لحماية الشواطئ من القراصنة. اهتم، أيضاً بازدياد الغلات لتموين روما، إذ راح يجفف مستنقعات بونتان، أنهض الزراعة، نشّط صناعة الصوف والحرير، حتى أنه، سنة 1589، استطاع أن يجمع أرباحاً عامة بقدر أربعة ملايين سكودي أتته من السياسة الاقتصادية التي انتهجها، وكذلك جباية الضرائب ونظام البيع والشراء.
حدّد أخيراً عدد الكرادلة نهائياً بسبعين كردينالاً على هذا النحو: ستة منهم أساقفة، خمسون كهنة وأربعة عشر كرادلة شمامسة. لم يزل هذا العدد مرعياً الإجراء حتى يومنا. ومما يجدر ذكره التنظيم المنسّق للجمعيات وإصلاح بنّاء وأساسي للمجلس الروماني (الكوريا) وتنظيم المجالس الرومانية الذين أعضاؤها هم ولاة الأمور في الكنيسة الرومانية. هذه اللجان (لجنة تعادل كلمة جمعية أو مجلس) قوامها جماعة الكرادلة، الذين لهم أصوات فاعلة، ومستشارون لاهوتيون. أما اللجان الأكثر أهمية فيرأسها البابا نفسه. وزع سيكستوس الخامس الأعمال بين خمس عشرة لجنة.
اللجان السكستينية هي اللجان التأسيسية والتي تحتفظ بمراكزها واختصاصاتها حتى تصطلح الكوريا، والتي سيصلحها وينظمها سنة 1908 البابا القديس بيوس العاشر. أن هذا التنظيم مأخوذ عن المجالس الأسبانية، وهو سيكون الأساس الذي تبني الكنيسة عليها حياتها في القرون المستقبلية. أما في الحقل السياسي فممّا يجدر ذكره مواقف الباباوية بالنظر لانكلترة وأسبانيا، وبالنظر لفرنسا بقد اغتيال هنري الثالث، سنة 1589، وهو آخر رجل من آل فالوا، وكان هناك أحد ورثة آل بوربون هنري دي نافار. وكان هذا رئيسا للهوغونوت، وكان هذا قد وعد بضمانة مصالح الكاثوليك.
تحفّظ البابا سيكستوس الخامس حيال هذا، بينما فيليب الثاني طلب إلى البابا التوسط، وكان هذا نفسه قد قام بحرب ضد فرنسا واندحر في ايفري. كان البابا سيكستوس رجلاً ذكياً موهوباً وسياسياً قديراً، فرأى أن السيطرة الأسبانية خطرة، وكان قد أدرك أيضاً أن استقلال روما لا يستقر إلا بتعادل القوى بين الكاثوليك. دفن سيكستوس الخامس في “الكابيلا السكستينية” في كنيسة القديسة مريم الكبرى وقد بناه له سنة 1586 دومينكو فونتانا، والذي كان قد نقل إليه أيضاً بيوس الخامس. أما قلبه، كقلب كل الباباوات، فقد وضع في كنيسة القديسين فانسان وأناستاز، ابتداءً منه حتى لاون الثالث عشر.
كان سكستوس الخامس، الفرنسيسكاني الصارم، باباً كبيراً، نادراً ما يقع في الإغراءات البشرية. لكننا لا نستطيع أن ننكرعليه سمو صفاته الملكية، فنرى فيه الثيوقراطي، على مثال اينوشنسيوس الرابع وبونيفاسيوس الثامن، لأنه كان عنيداً متشبثاً برأيه، اللهمّ في ما يخص الحقوق المكتسبة للباباوية، ولذلك وضع على لائحة الكتب المحرمة، كتاب الجدليات، الذي وضعه بلرمينوس، وطوره وعرض فيه، ذلك اللاهوتي اليسوعي، نظريته في “السلطة الغير مباشرة” للباباوية في الحقل الزمني. إن تطلعنا في البابا كرجل دولة فنراه في وصف أعظم العظماء في عصره: واقعية، وضوح، عدالة، قوة دون وهن، مع أن الرجل كان بسيطاً ومتقشفاً: فرنسيسكاني لا غبار عليه حتى وهو على عرش مار بطرس فسيرته لا تزال حية في روما.
لم يكن سكستوس الخامس بعيداً عن الاهتمام بالآداب والفنون، فقد أهدى إليه بارونيوس المجلدان الأولان من تواريخه. وقد حضن لاتاس. أمانشاطه في حقل البناء فقد كان معتبراً: أقام في ساحة الكويرينال، منهلاً للماء دعاه: دي لاكوا فيلس، يغذي سبعة وعشرين منهلاً، كرّس عمودي تراجان ومرقص اوريلوس على اسم الرسولين القديسين بطرس وبولس، ثم حوّل الأبنية الوثنية إلى نصب مسيحية.
جمّل المدينة بشق طرقات جديدة وساحات، أعطى اسمه لشارع سكستيناً؛ أقام في وسط ساحة القديس بطرس مسلّة كاليغولا الضخمة التي جيء بها من هيليوبولس، وبقيت أجيالاً نصف مدفونة قرب الكنيسة، وعلى قاعدة المسلّة أمر البابا بنقش هذه الكلمات التي أصبحت نشيداً من أناشيد الكنيسة الرومانية: “يحيا يسوع، يملك يسوع، ليتسلط يسوع” وقد نبش سيكستوس الخامس مسلاّت أخر في روما، لينصبها أمام الصليب المقدس وأمام كنيسة اللاتران وأمام كنيسة مريم الكبرى وفي ساحة الشعب. بنى له بأمره، فونتانا قصر اللاتران سنة 1586، والذي يحتوي اليوم أهم وأعظم التحف، ولهذا الغرض هدم، وبكل أسف، الآثار القديمة من العصور الوسطى؛ وفي قصر اللاتران أيضاً الجدرانيات التي تظهر وتشيد بأعمال البابا. أما الفاتيكان فقد قسم سيكستوس الخامس ساحة بلفيدير إلى قسمين بالبناء الذي أقامه والذي هو اليوم المكتبة؛ أما قاعة سيكستوس الخامس، فقد تزينت كذلك بجدرانيات تشير إلى حياة البابا وعظمة ما سُجّل له، وهذه القاعدة هي، اليوم، من أروع قاعات العرض الموجودة للكتب.
بدأ فونتانا ببناء قصر الفاتيكان الجديد سنة 1589 وانتهى بناؤه ونقشه وزخرفته في عهد الباباوات خلفائه. أما الفعل العظيم الذي قام بنشاط وهمة هذا البابا، فهو أنه في 22 كانون الأول سنة 1588 شرع ببناء قبر مار بطرس على يد جياكومو ديلابورتا وفونتانا حسب تصميم ميكال أنج، وذلك بعد خمس وعشرين سنة لوفاة المعلم. وفي 4 أيار سنة 1590 تمّ، بعد قداس تكريس آخر حجر يحمل خصيصاً اسم سيكستوس الخامس. وقد وضع في القبة، حيث يتدلى القنديل، مكتوب عليه بفسيفساء ذهبية هذه الكلمات: “الأب الأقدس المالك سعيداً سيكستوس الخامس الحبر الأعظم سنة 1590” هناك صورة لسيكستوس الخامس، في المدرسة الرومانية، معلقة في معرض الرسوم في الفاتيكان.
Discussion about this post