يوليوس الثاني
جولييان ديلا روفرد 1503 – 1513
عاد قيصر بورجيا، وقد شفي من مرضه، إلى روما قبيل وفاة البابا بيوس الثالث ببضعة أيام، وكان ينوي إقامة بابا حسب مزاجه، فراح عملاؤه يتضاربون مع رجال اورسيني عند افتتاح المجمع الانتخابي (31 تشرين أول 1503). فقد وقع اتفاق بين الكردينال جوليان ديلا روفر وقيصر بورجيا. فنال قيصر وخداً بأنه يكون حاكماً عسكرياً للكنيسة. ما إن نال هذا الوعد حتى جلب للكردينال ديلا روفر جميع أصوات الكرادلة الأسبان، وفي أول تشرين الثاني انتخب الكردينال ديلاّ روفر بالاجماع. مع يوليوس الثاني ستصل النهضة إلى الأوج.
عمل البابا، وخاصة السياسي، أنه سيكون رئيساً: فقد وطّد السلطة الزمنية للكرسي الرسولي وحررها من الضغوطات الخارجية. ولد في 5 كانون الأول 1443 في ألبيزولا، قرب سافون من والدين لا مال لهما. دخل عند الفرنسيسكان ونال قسطاً وافراً من المعرفة. جعله البابا سيكستس الرابع كردينالاً لكنيسة القديس بطرس إس ليان. أما موقف يوليوس الثاني من المحسوبية فكانت من أولى العلامات الدالة على تغيير الأمور، مع أنه جعل بعضاً من آل روفر كرادلة، لكن هؤلاء لم يكن لهم أي شأن. توفي غاليوت، وهو أفضلهم ومعبود الفنانين، في سن مبكرة، فجعل البابا مكانه أحد أبناء أخيه المفضل لديه فرنسيسكو ماريا روفر، دوق اوربان ووريثه منذ قبل الانتخاب. لم ينل أحد من الأقارب إعانة ذات أهمية مطلقاً. كانت الوظائف والمداخيل لا تزال تباع، إنما فقط لسد عجز صندوق الكنيسة. وهذا لا يعذر أبداً من سيّيء الاستعمال ولا من بيع الغفرنات، مع أن يوليوس الثاني كان مسعفاً للفقراء واللاجئين.
أول عمل قام به البابا هو تركيز ودعم سلطة الكرسي الرسولي الزمنية، فقد بلغ ذلك على ثلاث مراحل: إبعاد قيصر بورجيا، إبعاد البندقية، إبعاد الفرنسيين. قد ألزم البابا قيصر بورجيا برد كل المراكز التي كان يحتفظ بها الواحد تلو الآخر ثم في سنة 1504 أوقفه. لكن، سنة 1506، قيصر توصل أن يهرب، وهربه كان بلا فائدة، لأنه إنسان قد انتهى، فذهب إلى نافار وهناك قتل بطريقة غامضة سنة1507، فأصبح البابا منذئذٍ سيداً في ولاياته، والأحسن من ذلك ورث قيصر بورجيا. ولكي يبعد البابا سلطة البندقية التجأ إلى المحالفة الفرنسية، لأن الحقد الأوروبي ضد البندقية كان عاماً، فأوصل، في 10 كانون الأول سنة 1508، لويس الثاني عشر ليؤلف حلف كمباري، وقد وقعت السيطرة على ميلانو، مع الإمبراطور مكسميليان وفردينان الكاثوليكي. فالتحق يوليوس الثاني بهذا الحلف سنة 1509، بالرغم من خذره حيال فرنسا، بعد أن سعى بكل ما لديه من الوسائل السلمية لحل النزاع البندقي. أخيراً رشق البندقية بالحرم فاندحرت تماماً في معركة أناديلاً قرب كريمون في 14 أيار سنة 1905، فبقي عليه أن يبعد فرنسا، ففي 15 شباط 1510 تم الصلح في روما، ونالت البندقية الحل من الحرم.
بعد سنوات سيطرة آل بورجيا، أخذ البابا، إذ ذاك، يوقظ الضمير الوطني الإيطالي بإثارته ضد سيطرة الفرنسيين وكان من حلفائه الذين لهم شأن السويسريون بقيادة مطران سيتن، ماثيو شينّر، الكاردينال السويسري الوحيد حتى القرن التاسع عشر. فأعلنت فرنسا، من جهة استقلاليتها الكنسية (الغليكانية)، ومن جهة ثانية النزاع مع البابا في الحقلين السياسي والديني. فسار يوليوس الثاني من جديد نحو الشمال، سيراً حثيثاً، ليقود بنفسه العمليات ضد فرنسا. في بولونيا، إذ وصلته أخبار بأن خمسة كرادلة انحازوا إلى معسكر لويس الثاني عشر، في حين أنّ جيوشاً فرنسية قد وصلت إلى أبواب المدينة، ومعهم آل بنتيفوغلي المتعطشين للانتقام، لكن عندما اقتربت الجيوش الأسبانية والبندقية المتحالفين، انسحب الفرنسيون.
أراد يوليوس، إبّان شتاء سنة 1151، أن يجعل فراره مقاطعة للكنيسة، والتي هي آنذاك حليفة فرنسا. ففي أثناء حصار حصن ميراندول الذي سقط في 20 كانون الثاني، رسمت لوحة طريفة للبابا في ثيابه الشتوية، واللوحة موجودة، اليوم في روما، في قصر شيجي. التزم البابا أن يوقف حملته ويعود إلى بولونيا عندما سار الفرنسيون بقيادة المرشال تريفولزيو من جديد لاقتحام بولونيا. والمدينة سقطت، في أيار، بين يدي تريفولزيو وأصبحت تحت سيطرة آل بنتيفوغلي؛ فهرب البابا أولاً إلى رافينا، ثم إلى ريمييني؛ وفي هذه الأثناء طلب الكرادلة “الانفصاليون”، الذين يسيطر عليهم لويس الثاني عشر ومكسميليان الأول، الدعوة لعقد مجمع.
راح الإمبراطور من جهة، وملك فرنسا من جهة ثانية يحرضان المسيحية للقيام ضد البابا المحارب. فهدد الإمبراطور بالانشقاق، وملك فرنسا نشر مقالات نقد لاذعة وصوراً هزلية؛ وأخذ السعي يسير لاجتذاب هنري الثامن ملك انكلترة وملك هنغاريا. لكي تكون هذه التهديدات غير فعّالة، دعا البابا يوليوس الثاني، من جهته، إلى مجمع مسكوني يعقد في نيسان سنة 1512، ولكنه أصيب بمرض خطير، ما ظنّ أحدٌ أنه سيشفى، ولكنه شفي منه فجأة في شهر آب ممّا أدهش العالم كله.
أما الجواب السياسي، على المؤامرات الفرنسية ـ الإمبراطورية، فكان أن أنشئ الحلف المقدس لحماية البابا والولايات الباباوية والمجمع. وهذا الحلف، الذي كان قوامه البابا، والملك فردينان، ملك أسبانيا والبندقية، وأعلن في 4 تشرين أول، ثم التحق بهم الملك هنري الثامن في شهر تشرين الثاني. أما الأربعة الكرادلة الانفصاليون فقد جرّدوا من كل صلاحياتهم وحطّوا عن درجتهم وحرموا. و”مجمعهم” التأم أولاً في بيز ثم في ميلانو وأخيراً التجأ إلى أستي فليون حيث انتهى بطريقة غامضة سنة 1512. كاد يكون انتصار الفرنسيين، بقيادة القائد الكبير غاستون دوفوا، على جيوش الحلف قرب رافينا، منذ 11 نيسان سنة 1412، جازما، ولكن غاستون دوفوا قتل أثناء المعركة ولم يستغل الفرنسيون انتصارهم هذا. ثم راحت الأوضاع تنقلب شيئاً فشيئاً، إذ وجد الفرنسيون، منذ حزيران سنة 1512، أمامهم الجيوش السويسرية بقيادة الكردينال شينرّ، وكذلك جيوش دوق اوربان، وجيوش البندقية، والجيوش الأسبانية. فأخلوا إيطاليا بدون قتال.
فاختار يوليوس الثاني، للاحتفال بصلاة الشكر لله، كنيسته القديمة المعروفة باسم مار بطرس إس ليان. احتفل البابا بتحريره أمام السلاسل التي ربط بها أول بابا وسجن (سلاسل مار بطرس): وهذا العمل كان تعظيماً للباباوية، وقد ألمح رفائيل في لوحته “تحرير بطرس” إلى ذلك بتعبير فني. إن النصر النهائي في تحرير البابا يعود الفضل فيه إلى السويسريين الذين منحهم البابا يوليوس لقب “حماة حرية الكنيسة” للذكر المؤيد. وفي كانون أول اعترف مكسيميليان الأول بمجمع اللاتران، الذي لم يكن انتصاراً سياسياً ليوليوس فحسب بل انتصاراً في داخل الكنيسة. أما همّه الأكبر والأخير هو ارتقاء أسبانيا الذي لا يقهر ومصير مستقبل إيطاليا، ولما اضطجع البابا، بعد بضعة أشهر، في نعشه، في كاتدرائية مار بطرس، شعر الناس، تجاه هذا المأتم العام، أن بابا ذا مهابة وعظمة قد ترك هذا العالم. لم يعد البابا قادراً على إدارة جلسات المجمع الملتئم قبيل وفاته لاشتداد وطأة المرض عليه.
إنه لمن الصعب إعطاء رأي موضوعي لهذه الحبرية، فيوليوس الثاني كان، لعدة سنوات، السيد المطلق الذي يدير لعبة العالم، لكن هل هذه دعوة الكرسي الرسولي؟
هناك اختيار ممكن فقد اختار هذه القضايا الممكنة: تطهير سمعة روما من التلوث السياسي، استئناف العمل السريع والجدي للإصلاح، إبعاد الغرباء عن إيطاليا، تحرير الكرسي الرسولي سياسياً وتركيز سلطته الروحية على سلطته المدنية، فهل يستطيع أن يفعل غير هذا؟ أما أحكام المؤرخين عليه فقد سارت تحت التأثير والانفعال الوطني أو الدفاعي. هناك شيئان نثبتهما على يوليوس الثاني: أزال عراقيل آل بورجيا، لم يقم بالإصلاح. يبقى الرجل ذا صورة عظيمة. ففي إيطاليا كانوا يدعونه “الرهيب” مع صرخة إعجاب؛ والناس كانوا يرون فيه ملكاً قادراً، مع أنه كان من وقت لآخر فظاً وشرساً، لم يكن أبداً متردداً، كان يكره النمامين والمداهنين؛ إنما ما يهمه هو عظمة الكنيسة والباباوية.
كما نرى فيه رجل دولة، فيوليوس الثاني سيعيش في ضمير الأجيال الآتية وفي أمجد صفحات التاريخ، كنصير للآداب فقد اجتمع حول عرشه؛ رفائيل، برامانت وميكال أنج وقد نفذوا أعمالاً جبارة ممّا جعل روما ثانية المدينة الأبدية. ومما هو جدير بالذكر، إن برامانت أصبح وزيراً للبابا يرافقه في الحل والترحال، وبتاريخ 18 نيسان سنة 1506 وضع يوليوس الثاني الحجر الأساسي لكاتدرائية جديدة قرب بيليه على اسم القديسة فيرونكا، تشاد حسب تصميم برامانت. وقد شرع برامانت هذا كذلك ببناء قصر الفاتيكان الجديد، انتهى فيما بعد، ثم قام بمشروع إقامة الرواقين العظيمين اللذين يصلان القصر ببلفيدير، وهو نفسه أنهى الرواق الشرقي والدرج الحلزوني الذي يؤدي إلى مكان إقامة البابا الصيفي. وفي سنة 1505 دعا ميكال أنج وقد كان هذا بعمر تسعة و عشرين عاماً، الذي كان يرى فيه وحده مثيلاً له، وأوعز إليه أن ينحت له قبره.
ثم بعد سنة طلب منه أن يصنع له التمثال البرونزي والذي دمّر سنة 1511. وفي سنة 1512 فيما هو يباشر بتدشين العمل الذي تمّ، فقد وعى جيداً للقسم الذي قدمه في مجال الرسم الذي هو من أعظم ما جرى في العالم. وفيما كان ميكال أنج يعمل في الكابيلاّ السكستينية كان رفائيل يرسم روائعه في الغرف التي تحمل اسمه؛ ونرى رسماً للبابا في جدرانيتين؛ الأولى تمثل هيليودور مطروداً من الهيكل والثانية قداس بولزن. والرسم الشهير للبابا من عمل رفائيل ـ الأصلية ونسخة عنها ـ موجود في قصر الأوفيس، أو أيضاً في قصر بيتي في فلورنسا.
أما تمثال موسى لميكال أنج، الموجود في كنيسة سان بيار إس ليان وهو القسم الأوحد والأبهى الذي خلّد يوليوس الثاني بالطريقة الأعظم وانتهى من مدفن هذا البابا الأكثر فخامة في عصر النهضة. أسس يوليوس الثاني، في 21 كانون الثاني 1506، الحرس السويسري، وكابلا المرتلين التي دعمها وسندها، والتي تدعى اليوم كابلاً جوليا؛ فيما اسم الكابلا السكستينية هو غير صحيح. وجعل في فانو أول مطبعة. وهو أيضاً الذي أمر سانسوفينا ليصنع مدافن الكرادلة: اسكانيو سفورزا، وجيرولامو باسو ديلا روفر، في كنيسة القديسة مريم سيدة الشعب.
Discussion about this post