مجمع العقيدة والإيمان
CONGRÉGATION POUR LA DOCTRINE DE LA FOI
إعلان «الرب يسوع» حول وحدانية الخلاص وشموليته
في يسوع المسيح والكنيسة
DÉCLARATION DOMINUS IESUS
sur l’unicité et l’universalité salvifique
de Jésus-Christ et de l’Église
حاضرة الفاتيكان 2000
مقدمة
1- قبل صعوده إلى السماء، سلّم الرب يسوع رسله وصية التبشير بالإنجيل في العالم كله ومنح العماد لسائر الأمم: «اذهبوا في العالم كله واذيعوا البشارة في الخليقة كلها. من آمن واعتمد يخلص ومن لا يؤمن يدان» (مر 16/15-16) «لقد أعطيت كل سلطان في السماء والأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس وعلّموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به. وها أنا معكم طول الأيام حتى انقضاء الدهر» (متى 28/18-20؛ لو 24/46-48؛ يو 17/18؛ 20/21/ أع 1/8).
رسالة الكنيسة الجامعة تولد من وصية يسوع المسيح وتتحقق على مدى الأجيال في إعلان سرّ الله، الآب والإبن والروح القدس، وفي سرّ تجسّد الأبن كحدث خلاصي للبشرية جمعاء. هذا هو المضمون الأساسي لشهادة الإيمان المسيحية: «أؤمن بإله واحد، آب كلّي القدرة، خالق السماء والأرض، كلّ ما يرى وما لا يرى. أؤمن برب واحد، يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور: هو إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، هو والآب جوهر واحد، به كان كل شيء. من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وبالروح القدس أخذ جسداً من مريم العذراء وصار انساناً. وصلب عنّا على عهد بيلاطس البنطي. تألم وقُبر وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب وصعد الى السماء وجلس عن يمين الآب. وسوف يأتي بالمجد ليدين الأحياء والأموات. ولن يكون لملكه انقضاء. أؤمن بالروح القدس المحيي، المنبثق من الآب والإبن ومع الآب والإبن يُسجد له ويمجّد الناطق بالأنبياء. أؤمن بالكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية. أعترف بمعمودية واحدة لمغفرة لخطايا. وأترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي»[1].
2- على مدى العصور، أعلنت الكنيسة إنجيل يسوع وشهدت له بأمانة. ومع ذلك، ففي نهاية الألف الثاني، لم تكتمل بعد هذه الرسالة[2].
لذا فنداء بولس الرسول بخصوص مهمة جميع المعمّدين الرسولية لا تزال قائمة اكثر من كل وقت: «ليس التبشير بالإنجيل بالنسبة لي عنوان افتخار؛ بل هو ضرورة تقع على عاتقي. نعم، الويل لي ان لم أبشّر!» (1 قو 9/16). من هنا انتباه السلطة الكنسية الخاص الى تشجيع وتعضيد رسالة التبشير في الكنيسة وبخاصة ازاء التقاليد الدينية المنتشرة في العالم[3].
والبيان المجمعي في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، بعد أن ينظر بانفتاح وموضوعية الى القيم التي تشهد لها هذه التقاليد وتقدمها للبشرية، يؤكّد على ما يلي: «فالكنيسة الكاثوليكية لا ترذل شيئاً مّما هو حق ومقدس في هذه الديانات. بل تنظر بعين الإحترام والصراحة الى تلك الطرق، طرق المسلك والحياة، والى تلك القواعد والتعاليم التي غالباً ما تحمل شعاعاً من تلك الحقيقة التي تنير كل الناس، بالرغم من انها تختلف في كثير من النقاط عن تلك التي تتمسك بها هي نفسَها وتعرضها»[4]. وفي السياق ذاته، فإن مهمة الكنيسة للكرازة بيسوع المسيح، الذي هو الطريق والحق والحياة، لا تزال اليوم تتبع سبيل الحوار بين الأديان الذي لا يحل محل «الرسالة الى الأمم» بل بالأحرى يرافقها بسبب «سرّ الوحدة» هذا الذي عنه ينجم أن «كل الذين واللواتي نالوا الخلاص يشتركون، ولو بأنواع مختلفة، بسر الخلاص، سر يسوع المسيح بواسطة الروح القدس»[5]. وهذا الحوار، الذي هو جزء من رسالة الكنيسة التبشيرية[6]، يتطلب موقف تفهّم وعلاقة تعارف وغنى متبادلين في طاعة الحقيقة واحترام الحريّة[7].
3- من التطبيق والتنظير في الحوار بين الإيمان المسيحي وسائر التقاليد الدينية تبرز مسائل جديدة يجب مواجهتها باتّباع طرق بحث جديدة وبتقديم اقتراحات وعرض تصرّفات يجب اخضاعها لتمييز دقيق. ودور هذا الإعلان هو تذكير الأساقفة واللاهوتيين وسائر المؤمنين الكاثوليك ببعض المضامين العقائدية الأساسية التي تساعد على التفكير اللاهوتي لكي يكتشف تدريجياً حلولاً تناسب معطيات الإيمان وقادرة أن تجيب على تحديات الثقافة المعاصرة.
وهذا الإعلان، من حيث غائيته هو بيان. فلا ندّعي اننا نعالج عضوياً وعلمياً وحدانية سرّ المسيح والكنيسة وشموليته الخلاصية، ولا اننا نقدّم حلولاً لقضايا لاهوتية قابلة للجدل بحريّة. بل بالأحرى، نودّ عرض عقيدة الإيمان المسيحي بهذا الخصوص مرة جديدة، وفي الوقت عينه نشير الى بعض المشاكل الأساسية يبقى المجال فيها مفتوحاً لتعمّق لاحق وندحض بعض الآراء الخاطئة او التي تحمل التباساً.
وهكذا يستعيد الإعلان العقيدة التي تُعلّمها وثائق السلطة الكنسية السابقة.
4- إن استمراريّة التبشير الإرسالي في الكنيسة هي اليوم في خطر من قبل النظريات النبويّة التي تدّعي تبرير التعددية الدينية ليس فقط عملياً بل نظرياً أيضاً (أي كمبدأ). وهي تعتبر كحقائق بائدة الصفة النهائية والتامة لوحي يسوع المسيح، مثلاً، أو لطبيعة الإيمان المسيحي بالنسبة الى الديانات الأخرى، أو وحي أسفار الكتاب المقدس، أو الوحدة الشخصية القائمة بين الكلمة الأزلي ويسوع الناصري، أو وحدة التدبير القائمة بين الكلمة المتجسد والروح القدس، أو وحدانية الخلاص وشموليته في سرّ يسوع المسيح، أو وساطة الكنيسة الشاملة والخلاصية، أو عدم الفصل، وان للتمييز، بين ملكوت الله وملكوت المسيح والكنيسة، أو قيام الكنيسة الواحدة في الكنيسة الكاثوليكية.
هذه النظريات ترتكز على بعض الإفتراضات الفلسفية أو اللاهوتية التي تجعل فهم الحقيقة الموحاة وقبولها صعباً. إليكم بعض الإفتراضات: القناعة بأن الحقيقة حول الله لا تُدرك ويصعب الكلام عليها، وإن من خلال الوحي؛ الموقف النسبيّ تجاه الحقيقة الذي يجعل ما هو حق في نظر الغير ليس حقاً في نظر الآخرين؛ التناقض الأساسي بين الذهنية الغربيّة العقلانية والذهنية الشرقية الرمزيّة، الذاتانية لدى الذين يعتبرون العقل كمصدراً وحيداً للمعرفة يجعل صاحبه «غير قادر على رفع ناظريه الى أعلى ليجرؤ أن يبلغ الى حقيقة الكيان»[8]؛ صعوبة رؤية وفهم وجود الأحداث النهائية والاسكاتولوجية في التاريخ؛ تجريد التجسّد التاريخي من بعده الماورائي وتحويله الى محض ظهور لله في التاريخ؛ الإنتقائية في البحث اللاهوتي التي تجمع الأفكار من قرائن فلسفية ودينية متنوعة بدون التنبّه الى تناسقها المنطقي ولا الى انطباقها على الواقع المسيحي؛ وأخيراً النزعة الى قراءة الكتاب المقدس وشرحه خارج تقليد الكنيسة وسلطتها.
على أساس هذه الإفتراضات، المقبولة دون تنسيق وكأنها حقائق أكيدة في نظر البعض وافتراضات في نظر آخرين، قامت معطيات لاهوتية أضاعت طابع الحقيقة المطلقة والشمولية الخلاصية الخاصتين بالوحي المسيحي وبسرّ يسوع المسيح والكنيسة، أو أقلّه أضفت عليها الشك والريب.
1- وحي يسوع المسيح الكامل والنهائي
5- لمعالجة هذه الذهنية النسبوية التي تزداد انتشاراً على الأيام، يجب التأكيد مجدداً وقبل كل شيء على ان وحي يسوع المسيح هو نهائي وتام. علينا أن نؤمن ايماناً ثابتاً ان وحي ملء الحقيقة الإلهية قد تحقق في سرّ يسوع المسيح ابن الله المتأنس الذي هو «الطريق والحق والحياة» (يو 14/6): «لا أحد يعرف الإبن الاّ الآب ولا أحد يعرف الآب الاّ الإبن وقد أراد الإبن أن يبيّنه له» (متى 11/27)؛ «الله لم يره احد قط؛ الإبن الوحيد المولود منه والقائم فيه هو الذي أظهره» (يو 1/18)؛ «فيه يحلّ جميع كمال الألوهية حلولاً جسدياً وفيه تدركون الكمال» (كو 2/9-10).
والمجمع الفاتيكاني الثاني، الأمين لكلمة الله، يعلّم: «أمّا الحقيقة الخالصة التي يطلعنا عليها الوحي، سواء عن الله أم عن خلاص الإنسان، فإنها تسطع لنا في المسيح وسيط الوحي بكامله وملؤه في آن واحد»[9] ويوضّح: «يسوع المسيح اذن، الكلمة المتجسّد، الإنسان المرسل الى البشر»، «يتفوّه بكلام الله» (يو 14/9) الذي، بحضوره وظهوره بالكلام والأعمال، بالآيات والعجائب، وبخاصة بموته وقيامته المجيدة من بين الأموات، وأخيراً بإرسال روح الحق، يُتم الوحي اذ يكمّله ويثبته بشهادة الله […]. فالتدبير المسيحي، الذي هو العهد الجديد النهائي، يثبت الى الأبد، ويجب ألاّ ننتظر وحياً عامّاً جديداً قبل ظهور سيدنا يسوع المسيح المجيد (1 تي 6/14؛ تيطس 2/13)»[10].
بهذا المعنى تذكّر الرسالة «رسالة الفادي» الكنيسة بواجب إعلان بشارة الإنجيل بوصفها ملء الحقيقة: «في كلمة وحيه النهائية هذه، أظهر الله ذاته كليّاً: قال للبشرية من هو، وهذا الوحي النهائي لله عن ذاته هو الداعي الأساسي الذي يجعل الكنيسة ارسالية بطبيعتها. فهي لا تستطيع الاّ أن تعلن البشارة أي ملء الحقيقة التي علّمنا ايّاها الله عن ذاته»[11]. فوحي يسوع المسيح وحده «أدخل في تاريخنا حقيقة شاملة ونهائية تحث الفكر البشري على التقدّم الدائم»[12].
6- والطرح القائل بأن وحي يسوع المسيح محدود وناقص وغير تام، وبأن وحياً تأتي به ديانات أخرى يكمّل وحي يسوع، هو اذن طرح يناقض ايمان الكنيسة. وهذا الطرح يرتكز على قناعة ان حقيقة الله يستحيل ادراكها واظهارها بتمامها وكمالها بأيّ دين تاريخي كان، ولا حتى بالدين المسيحي او بيسوع المسيح.
هذا الموقف يناقض جذرياً التأكيدات الإيمانية السابقة القائلة بأنّ الوحي التام والنهائي لسرّ الله الخلاصي يتحقق في يسوع المسيح. إن كلام يسوع وأعماله وكل وجوده التاريخي تصدر عن شخص الكلمة المتجسّد الإلهي وإن كانت محدودة كحقائق بشريّة. ان هذا الشخص هو «إله حق وإنسان حق»[13]، فهي تحمل إذن في ذاتها الطابع التام والنهائي لوحي طرق الله الخلاصية وان بقي السرّ الإلهي في حد ذاته متسامياً وغير مدرك. فحقيقة الله لا تتلاشى ولا تنقص عندما نعبّر عنها بلغة بشريّة. بل على العكس تبقى فريدة وتامة ونهائية اذ الذي يتكلم ويعمل هو ابن الله المتجسّد. من هنا فإن الإيمان يتطلب الإعتراف بأن الله المتجسّد، في كل سرّه، منذ تجسّده الى مجده، هو نبع وكمال كل وحي إلهي اتى لخلاص الإنسان[14]، وان كان هذا النبع مشتركاً بالنبع الأساسي فهو حقيقي، وبأنّ الروح القدس هو روح المسيح، «يعلّم الحقيقة كاملة» (يو 16/13) للرسل وبواسطتهم للكنيسة في كل العصور.
7- الجواب الملائم للوحي الإلهي هو «طاعة الإيمان» (رو 1/5؛ 16/26؛ 2 قو 10/5-6) حيث يسلّم المرء ذاته بكلّيته وبحرية لله، «فيُخضع خضوعاً تاماً عقله وارادته للإله الذي يوحي ويقبل عن رضى الحقائق التي يوحيها له»[15]. فالإيمان نعمة مجانيّة: «هذا الإيمان، لكي يوجد، هو بحاجة الى نعمة الله السابقة والمساعدة والى معرفة الروح القدس الداخلية الذي يحرّك القلب ويرده الى الله ويفتح بصيرة العقل ويعطي الجميع العذوبة في قبول الحقيقة والإيمان بها»[16].
وطاعة الإيمان تتضمّن قبول حقيقة وحي المسيح التي يضمنها الله الذي هو الحقيقة بالذات[17]: «الإيمان هو اولاً قبول الإنسان شخصياً بالله، وهو في الوقت عينه، وبدونه انفصال، الإعتناق الحر لكل الحقيقة التي اوحاها الله»[18]. فالإيمان اذن، الذي هو هبة من الله و«فضيلة فائقة الطبيعة يبثها الله»[19]، يتضمن علاقتين: علاقة بالله الموحي وعلاقة بالحقيقة الموحاة، وذلك نظراً للثقة الموضوعة في الشخص الذي يؤكّد. لذلك «يجب ألاّ نؤمن إلاّ بالله، الآب والابن والروح القدس»[20].
علينا إذن أن نتمسك ثابتين بالتمييز بين الإيمان كفضيلة إلهية وبين المعتقدات في الديانات الأخرى. فبينما الإيمان هو قبول الحقيقة الموحاة بالنعمة و«الذي يتيح لنا ولوج السرّ ويساعدنا على إدراكه إدراكاً عميقاً»[21]، نرى ان المعتقدات في الديانات الأخرى هي مجموعة خبرات وأفكار، هي كنوز بشريّة من الحكمة والتديّن عاشها الإنسان وتأملّها في بحثه عن الحقيقة كعلاقات بألألوهة والمطلق[22].
هذا التمييز لا نجده دائماً في التفكير الحالي، مّما يحمل غالباً على المزج بين الإيمان كفضيلة إلهية، الذي هو قبول الحقيقة الموحاة من الإله الواحد والمثلث الأقانيم وبين اعتقادات الديانات الأخرى التي هي اختبار ديني لا يزال يبحث عن الحقيقة المطلقة ولم يتوصل بعد إلى الإتحاد بالإله الموحي. وهذا هو أحد الأسباب الذي ينقّص من أهميّة الفروقات القائمة بين المسيحية وسائر الديانات، لا بل يلغيها.
8- ويتكلمون على الإلهام في الكتب المقدسة لدى الديانات الأخرى. يجب بدون شك أن نعترف أن بعض عناصر هذه الكتابات هي فعلاً أدوات تمكّن العديد من الأشخاص، بالأمس كما اليوم، من تغذية وحفظ علاقتهم الدينية بالله.
لذا، فعند النظر إلى طرق العمل والقواعد والعقائد لدى الديانات الأخرى، يؤكّد المجمع الفاتيكاني الثاني، كما ذكرنا سالفا، انها «غالباً ما [تحمل] شعاعاً من تلك الحقيقة التي تنير كل الناس، بالرغم من انها تختلف في كثير من النقاط عن تلك التي تتمسك بها [الكنيسة] نفسها»[23].
مع ذلك فتقليد الكنيسة يحتفظ بصفة «الكتب الموحاة» للكتب القانونية الموجودة في العهدين القديم والجديد بصفتهما موحيان من الروح القدس[24]. استناداً الى هذا التقليد، يعلّم الدستور العقائدي في الوحي الإلهي من المجمع الفاتيكاني الثاني: «وأمّنا الكنيسة المقدسة، بفضل الإيمان الذي تسلّمته من الرسل، تعتبر اسفار العهد القديم والعهد الجديد كلها بجميع اجزائها مقدسة وقانونية، لأن تلك الأسفار التي كتبت بإلهام الروح القدس (يو 20/31؛ 2 تيم 3/16؛ 2 بط 1/19-21؛ 3/15-16)، هو الله ألّفها وسلّمت كما هي عليه الى الكنيسة نفسها»[25]. «وهذه الكتب تعلّم بقوّة وبأمانة وبدون خطأ الحقيقة التي أراد الله أن تُدرج في تلك الأسفار المقدسة لأجل خلاصنا»[26].
ومع ذلك، فلأن الله اراد أن يدعو اليه كل الشعوب بالمسيح يسوع وأن يعطيهم ملء وحيه وحبّه، لم يستنكف من أن يكون حاضراً معهم بطرق متعددة «ليس فقط كأفراد بل أيضاً كشعوب، وذلك بواسطة غناهم الروحي المعبّر عنه بطريقة أساسية في الديانات وإن شابها «بعض نواقص واختزالات وأخطاء»[27]. لذلك فالكتب المقدسة لدى سائر الديانات تغذي حياة اتباعها وتوجهها وقد نالت من سرّ المسيح عناصر الصلاح والنعمة التي تحويها.
2 – الكلمة المتجسد
والروح القدس في عمل الخلاص
9- في الفكر اللاهوتي المعاصر، غالباً ما يظهر يسوع الناصري كصورة تاريخية خاصة ومحدودة تكشف عن الالوهة، إنما ليست فريدة بل مكمّلة لوجود صور أخرى خلاصية. فالمحدود والمطلق وسرّ الله النهائي يظهر ايضاً للناس بصور عديدة وبأشكال تاريخية أخرى، فيصبح يسوع الناصري احدى هذه الصور. وبكلام أوضح، هو، في نظر البعض، أحد الوجوه التي أخذها الكلمة عبر الزمن لكي يتصل خلاصيّاً بالبشر.
ولتبرير شمولية الخلاص المسيحي والتعددية الدينية، يعرضون تدبيراً آخر للكلمة الأزلي، مقبولاً خارج الكنيسة وبدون علاقة بها، وكذلك تدبيراً آخر للكلمة المتجسّد. فالتدبير الأول ينعم بصفة الشموليّة بالنسبة الى الثاني الذي يبقى محدوداً وخاصاً بالمسيحيين ولكن حيث حضور الله يكون اكمل.
10- هذه الأطروحة تناقض تماماً الإيمان المسيحي. يجب أن نؤمن إيماناً راسخاً بعقيدة الإيمان القائلة بأن يسوع الناصري، ابن مريم، وهو وحده، ابن الآب وكلمته. الكلمة الذي كان «منذ البدء عند الله» (يو ½) هو ذاته «صار انساناً» (يو 1/14). في يسوع «المسيح ابن الله الحي» (متى 16/16) «يحلّ جسدياً كل ملء الألوهة» (كول 2/9). «انه الابن الوحيد المولود الكائن في حضن الآب» (يو 1/18) «ابنه الحبيب الذي به خلاصنا [ …] وقد حسن الى الله ان يحل به الكمال كله وان يصالح به ومن أجله كل موجود مّما في الأرض ومما في السماوات وقد حقق السلام بدم صليبه» (كول 1/13-14؛ 19-20).
بقي مجمع نيقيا الأول أميناً للكتاب المقدس ورافضاً التفاسير الخاطئة والمختزلة. وقد حدد رسمياً ايمانه «بيسوع المسيح ابن الله المولود من الآب، المولود الوحيد، أي من ذات جوهر الآب، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، به كان كل شيء مما في السماء ومما في الأرض، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من الشماء وتجسد وصار انساناً، وتألم وقام في اليوم الثالث وصعد الى السماء، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات»[28]. ووفقاً لتعاليم الآباء، فإن مجمع خلقيدونيا يشهد ان «الابن الواحد ذاته، ربنا يسوع المسيح، وهو الكامل في لاهوته والكامل في ناسوته، هو ذاته إله حق وإنسان حق […] مساوٍ للآب في الجوهر من حيث لاهوته ومساوٍ لنا في الجوهر من حيث ناسوته […] مولود من الآب قبل الدهور من جهة لاهوته وفي الأيام الأخيرة [مولود] من أجلنا ومن أجل خلاصنا من العذراء مريم ام الله من جهة ناسوته»[29].
وكذلك يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني ان المسيح، «آدم الجديد»، «صورة الله غير المنظور» (كول 1/15) هو «الإنسان الكامل الذي أعاد إلى أبناء آدم الصورة الإلهية التي تشوّهت منذ الخطيئة الأولى […]. هو حمل بريء استحق لنا الحياة، بدمه المسفوك بحريته، وبه صالحنا الله معه ومع بعضنا البعض اذ خلصنا من عبودية الشيطان والخطيئة. بحيث ان بمقدور كل واحد منا أن يقول مع الرسول: ابن الله «أحبني وجاد بنفسه لأجلي» (غل 2/20)[30].
بهذا المعنى، أعلن يوحنا بولس الثاني صراحة: «التفرقة بين الكلمة ويسوع المسيح أمر يناقض الإيمان المسيحي […]؛ يسوع هو الكلمة المتجسد، اقنوم واحد غير منقسم […] وليس المسيح سوى يسوع الناصري الذي هو كلمة الله المتجسد من أجل خلاص الجميع […]؛ واذ نكتشف تدريجياً المواهب المتنوعة ونقيّمها وبخاصة الكنوز الروحية التي يفيد بها الله الشعوب كافة، يجب ألاّ نفصلها عن يسوع المسيح الذي هو محور تصميم الله الخلاصي»[31].
لذلك ففصل عمل «اللوغوس» الخلاصي في ذاته عن عمل الكلمة المتجسد هو مناقض للإيمان الكاثوليكي. بالتجسد اصبحت كل الأعمال الخلاصية، التي يقوم بها كلمة الله، يعملها بالطبيعة البشرية التي اخذها لأجل خلاص سائر الناس. الأقنوم الواحد الذي يعمل في الطبيعتين الإلهية والإنسانية هو اقنوم الكلمة الواحد[32].
فالنظرية التي تعزو عملاً خلاصياً «للوغوس» في ذاته وفي ألوهيته، عملاً يتمّ «أبعد» و«أسمى» من بشرية المسيح، حتى بعد التجسد، هي نظرية لا تنسجم مطلقاً وعقيدة الكنيسة.
11- كما يجب أيضاً أن نؤمن إيماناً راسخاً بالعقيدة الإيمانية القائلة بوحدة التدبير الخلاصي الذي اراده الله الواحد والمثلث الأقانيم. إذ مركز هذا التدبير ومحوره هو سرّ تجسّد الكلمة، الذي هو وسيط النعمة الإلهية للخلق وللفداء (كول 1/15-20) والذي يجمع كل شيء (أف 1/10) الذي «صار لنا حكمة وبراً وقداسة وفداءً» (1 قو 1/30). فلسرّ المسيح اذن وحدة ملازمة منذ الإختيار الأزلي في الله حتى ظهوره الأخير: [فالآب] اختارنا فيه قبل انشاء العالم لنكون في نظره قديسين بلا عيب في المحبة» (اف1/4)؛ «وفيه أيضاً جعلنا ورثة مختارين بتدبير ذاك الذي يصنع كل شيء كما تريده مشيئته» (اف 1/11)؛ «ذلك بأنه عرفهم بسابق علمه وسبق أن قضى بأن يكونوا على مثال صورة ابنه ليكون هذا بكراً لأخوة كثيرين. فالذين سبق أن قضى لهم بذلك دعاهم أيضاً، والذين دعاهم برّرهم أيضاً والذين برّرهم مجدّهم أيضاً (رو 8/29-30) [33].
فالسلطة الكنسية، أمانة منها للوحي الإلهي، تؤكد ان يسوع المسيح هو الوسيط والفادي لجميع الناس: «كلمة الله، الإنسان الكامل، الذي به كل شيء كوّن، صار جسداً كي يخلّص كل إنسان ويجمع كل شيء في ذاته […]. هو الذي أقامه الآب من بين الأموات ورفعه وأجلسه عن يمينه وجعله ديّان الأحياء والأموات»[34]. وهذه الوساطة الخلاصية تتضمّن ايضاً وحدة ذبيحة المسيح الخلاصية، الكاهن الأسمى والأبدي (عبر 6/20؛ 9/11؛ 10/12-14).
12- هناك نظرية تقول بتدبير خاص بالروح القدس ذي طابع اكثر شمولية من تدبير الكلمة المتجسد والمصلوب والقائم من الموت. وهذا ايضاً يناقض الإيمان الكاثوليكي الذي يعتبر، على عكس ذلك، تجسد الكلمة الخلاصي حدثاً ثالوثياً. فالعهد الجديد يرى في سرّ يسوع الكلمة المتجسد، مركز حضور الروح القدس ومبدأ حلوله على البشر، ليس فقط في الأزمنة المسيحانية (أع 2/32-36؛ يو 7/39؛ 20/22؛ 1قو 15/45)، بل أيضاً في الحقبة السابقة مجيء المسيح في التاريخ (1 قو 10/4؛ 1 بط 1/10-22).
والمجمع الفاتيكاني الثاني ذكّر ضمير الكنيسة بهذه الحقيقة الأساسيّة. في عرض تصميم الآب الخلاصي للبشرية كلها، يربط المجمع مباشرة وحصرياً سرّ المسيح بسرّ الروح[35]. كل عمل يسوع المسيح الرأس في بناء كنيسته يصفه محققاً بالاشتراك مع الروح[36].
أضف ان عمل يسوع المسيح الخلاصي، بالروح القدس ومعه، يعمّ البشريّة جمعاء، حتى وراء حدود الكنيسة المنظورة. عندما يتكلّم المجمع على السرّ الفصحي، حيث يُشرك المسيح منذ الآن المؤمن بحياته في الروح وينيله رجاء القيامة، يؤكّد: « لا يصحّ ذلك فقط في الذين يؤمنون بالمسيح ولكن في كل الناس ذوي الإرادة الصالحة، الذين تعمل النعمة في قلوبهم بطريقة خفيّة. فإذا كان المسيح مات عن الجميع، وإذا كانت دعوة الإنسان الأخيرة هي حقاً واحدة للجميع، أي انها دعوة إلهية، علينا إذاً أن نتمسّك بأن الروح القدس يقدم للجميع إمكانية الإشتراك في سرّ الفصح بطريقة يعرفها الله وحده»[37].
والعلاقة بين سرّ الكلمة المتجسّد الخلاصي وسرّ الروح واضحة جداً، وهي في النهاية تُدخل قوة الإبن المتجسّد الخلاصية في حياة كل الناس الذين يدعوهم الله لمصير واحد، أعاشوا تاريخياً قبل مجيء الكلمة المتجسّد أم بعد مجيئه في التاريخ: روح الآب الذي يهبه الإبن بدون حساب (يو 3/34) ينعشهم جميعاً.
لذلك فالسلطة الكنسية اليوم تذكّر بقوّة ووضوح حقيقة التدبير الإلهي الوحيد: «حضور الروح ونشاطه لا يعنيان الأفراد وحسب، بل المجتمع والتاريخ والشعوب والثقافات والديانات […]. فالمسيح القائم من الموت يعمل عندئذ بقوّة روحه في قلوب البشر […]. هو الروح أيضاً الذي ينشر «زرع الكلمة» الحاضر في الطقوس والثقافات ويعدّها للنضوج في المسيح»[38]. وإذ تقرّ السلطة الكنسية بالدور التاريخي الخلاصي للروح، في الكون كلّه وفي التريخ كله[39]، لاتني توضح: «هذا الروح ذاته عمل في تجسّد يسوع وفي حياته وموته وقيامته ولا يزال يعمل في الكنيسة، فهو إذن لا يحل محل المسيح ولا يملأ نوعاً من فراغ كذلك الذي تدّعي أحياناً احدى الفرضيّات انه ممكن وجوده بين المسيح و«اللوغوس». أما ما يفعله الروح في قلوب الناس وفي تاريخ الشعوب وفي الثقافات والديانات يُعتبر استعداداً انجيليّاً وذلك لا يمكن أن يتمّ دون صلة بالمسيح، الكلمة الذي صار جسداً بقوّة الروح «حتى، وهو الإنسان الكامل، يخلّص جميع الناس ويجدّد كلّ شيء فيه»[40].
وختاماً، فالروح لا يعمل بموازاة المسيح أو خارجاً عن المسيح. فهناك تدبير خلاصي واحد للإله الواحد والمثلث الأقانيم، وقد تحقّق في سرّ التجسّد وموت ابن الله وقيامته. وقد حدث هذا التدبير بمساهمة الروح القدس، وبتأثيره الخلاصي عمّ البشرية جمعاء والكون: «فالبشر اذن لا يستطيعون الدخول في شركة مع الله إلاّ بالمسيح وبفعل الروح»[41].
3- وحدانية وشمولية
سرّ يسوع المسيح الخلاصي
13- غالباً ما يردّدون انكار وحدانية وشمولية سرّ يسوع المسيح الخلاصي. ليس لهذا الموقف أي مستند كتابي. إذ يجب أن نؤمن إيماناً وطيداً، كعنصر دائم من إيمان الكنيسة، بحقيقة يسوع المسيح، ابن الله، كرب ومخلص وحيد، الذي بتجسّده وموته وقيامته أتمّ تاريخ الخلاص اذ هو كماله ومركزه.
والعهد الجديد يشهد بوضوح: «أرسل الله ابنه مخلّص للعالم» (1 يو 4/14)؛ «هذا هو حمل الله حامل خطايا العالم» (يو 1/29). في خطابه في مجمع الرؤساء، ولكي يبرّر شفاء المقعد منذ مولده الذي حدث باسم يسوع (أع 3/1-8)، يعلن بطرس: «لا يوجد تحت السماء اسم آخر يعطى للبشر، يمكن أن نخلص به (أع 4/12). ويضيف الرسول ذاته ان المسيح «هو رب الجميع»؛ وهو «الديّان الذي أقامه الله ليدين الأحياء والأموات»، إذن «كل من يؤمن به ينال باسمه غفران خطاياه» (أع 10/36، 42-43).
ويكتب بولس الى جماعة قورنتس: «قد يكون في السماء أو في الأرض ما يُزعم انهم آلهة، بل هناك كثير من الآلهة وكثير من الأرباب، وأمّا عندنا نحن، فليس إلاّ إله واحد وهو الآب، منه كل شيء وإليه نحن أيضاً نصير، ورب واحد وهو يسوع المسيح، كل شيء به وبه نحن أيضاً» (1 قو 8/5-6). ويؤكّد يوحنا الرسول: «فإنّ الله أحبّ العالم حتى انه جاد بابنه الوحيد كي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. فإن الله لم يرسل ابنه الى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم» (يو 3/16-17). في العهد الجديد نرى ان ارادة الله الخلاصية الشاملة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوساطة المسيح الوحيدة: [الله] يريد أن يخلّص جميع البشر ويبلغوا الى معرفة الحق لأن الله واحد والوسيط بين الله والناس واحد «وهو الإنسان يسوع المسيح الذي جاد بنفسه فدى لجميع الناس» (1 تيم 2/4-6).
والمسيحيون الأوائل، لأنهم وعوا حقيقة عطية الخلاص الوحيد والشامل الذي أنعم به الله علينا بيسوع المسيح في الروح القدس (أف 1/3-14)، توجّهوا الى الشعب الإسرائيلي ليبيّنوا لهم كمال خلاصهم الى أبعد من الناموس. ثم توجهوا الى العالم الوثني آنذاك، الذي كان يتوق الى الخلاص على يد عدد من الآلهة حاملي الخلاص. إنّ إرث الإيمان هذا عرضته مجدداً السلطة الكنسية: «أما الكنيسة فهي تؤمن بأن المسيح الذي مات وقام من أجل الجميع (1 قو 5/15) يقدّم للإنسان، بواسطة روحه القدوس، النور والقوّة ليستطيع أن يجاوب على دعوته السامية. إنها تؤمن بأنّه ما من اسم سواه تحت السماء أعطي للناس كي يخلصوا به (أع 4/12). وتؤمن أيضاً بأن بداية تاريخ كل إنسان ونقطة ارتكازه وغايته هي بيد سيّدها ومعلمّها»[42].
14- يجب إذن أن نؤمن إيماناً راسخاً، كحقيقة ايمانية كاثوليكية، بأن ارادة الله الواحد والمثلث الأقانيم الخلاصية الشاملة قد ظهرت وتمّت مرة واحدة في سرّ تجسّد ابن الله وموته وقيامته.
إنطلاقاً من هذا المعطى الإيماني، تدعو الكنيسة اللاهوت المعاصر، عندما يتأمّل بوجود خبرات دينية أخرى ومعناها في مخطط لله الخلاصي، لكي يتفحّص وجوه وعناصر هذه الديانات الإيجابيّة: هل تدخل في مخطط الله الخلاصي؟ كيف؟ فالبحث اللاهوتي يجد في هذا التفكير حقلاً واسعاً من العمل تحت إشراف السلطة الكنسية. وقد أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني أن «وساطة المخلّص الفريدة لا تمنع، بل بالأحرى تحث الخلائق على التعاون المتنوع والمشترك النابع من مصدر واحد»[43]. يجب توضيح مضمون هذه الوساطة بالمشاركة التي يجب أن تظلّ موجهة نحو وساطة المسيح الوحيدة: «ذلك لا ينفي اسهام وساطات أخرى من أشكال ونظم مختلفة. ولكن هذه لا تستمد معناها وقيمتها إلاّ بالمسيح، ولا يجوز اعتبارها متوازية معها أو مكمّلة لها»[44]. فالحلول التي تتكلّم على عمل إلهي خلاصي خارجاً عن وساطة المسيح الوحيدة هي إذن مناقضة للإيمان المسيحي الكاثوليكي.
15- كثيراً ما يطالبون، في اللاهوت المعاصر، تجنّب تعابير «وحدانية»، «شموليّة» «مطلق» لأنها تعطي الإنطباع أننا نصرّ أكثر من اللزوم على معنى حدث يسوع المسيح الخلاصي وقيمته بالنسبة الى الديانات الأخرى. لكن هذه المفردات تعبّر في النهاية عن الأمانة للوحي، لأن غايتها هو التوسع الصادر عن ينابيع الإيمان ذاتها. في الواقع تعرفّت جماعة المؤمنين مباشرة على قوّة يسوع الخلاصيّة المميّزة. بهذه القوة، هو وحده، لكونه ابن الله المتجسّد والمصلوب والقائم من الموت، يعطي الوحي (متى 11/27) والحياة الأبدية (يو 1/12؛ 5/25-26؛ 17/2) للناس جميعاً ولكل واحد، وذلك بالرسالة التي له من الآب وبقوّة الروح القدس.
بهذا المقدار، يمكننا القول، بل يجب أن نقول: إن ليسوع المسيح مهمة واحدة وفريدة نحو الجنس البشري وتاريخه: وهذه المهمة خاصة به، محصورة به، شاملة ومطلقة فهو في الواقع كلمة الله المتجسد من أجل خلاص الجميع. والمجمع الفاتيكاني الثاني، إذ تلقى هذا الوعي الإيماني، يعلّم: «إن كلمة الله، الإنسان الكامل، الذي به كل شيء كُوّن، صار جسداً ليخلّص جميع الناس ويجمع كل شيء فيه، والرب يسوع هو نهاية التاريخ الإنساني، هو النقطة التي تلتقي فيها رغبات التاريخ والحضارة، هو نقطة ارتكاز الجنس البشري، هو فرح جميع القلوب لأنه يقود توقانها الى الكمال. هو الذي أقامه الآب من بين الأموات وأجلسه عن يمينه وجعله ديان الأحياء والأموات»[45]. «وهذا الطابع الفريد هو الذي يؤتي المسيح هذا المدى المطلق والشامل الذي به، مع وجوده في التاريخ، يكون مركز التاريخ بالذات وغايته. «أنا الألف والياء، الأول والآخر، البداية والنهاية» (رؤ 22/13)[46].
4- وحدانية الكنيسة ووحدتها
16- لم يقم السيد المسيح، المخلّص الوحيد، جماعة تلاميذ فحسب، بل أسس كنيسة كسرّ للخلاص: فهو ذاته مقيم فيها وهي تحيا فيه (يو 15/1… ؛ غل 3/28؛ أف 4/15-16؛ أع 9/5). كذلك فملء السر الخلاصي بالمسيح يخص الكنيسة المتّحدة بسيّدها بدون انفصال. ووجود الخلاص بالمسيح وعمله يتواصلان في الكنيسة وبالكنيسة (كول 1/24-27)[47] التي هي جسده (1 قو 12/12-13-27؛ كول 1/18)[48]. وكما ان الرأس والأعضاء في الجسد الحي لا ينفصلان بل يتميّزان، فالمسيح والكنيسة لا يمتزجان ولا ينفصلان ويؤلّفان معاً «المسيح الكامل»[49]. وعدم الإنفصال هذا يُعبّر عنه في العهد الجديد بتشبيه الكنيسة بعروس المسيح (2 قو 11/2؛ أف 5/25-29؛ رؤ 21/2-9)[50].
لذلك، ونظراً لوحدانية وشمولية وساطة يسوع المسيح الخلاصية، يجب أن نؤمن إيماناً وطيداً بأن وحدة الكنيسة التي أسسها المسيح هي حقيقة إيمانية كاثوليكية. وكما ان هناك مسيح واحد، فله جسد واحد وعروس واحدة: «كنيسة واحدة كاثوليكية رسولية»[51]. ثم ان مواعيد الرب بألاّ يترك كنيسته (متى 16/18؛ 28/20) وبأن يقودها بروحه (يو 16/13) تتضمّن، بحسب الإيمان الكاثوليكي، ان الوحدانية والوحدة، وكل ما يتعلّق بكمال الكنيسة، لن تُلقى أبداً[52].
على المؤمنين أن يعترفوا بأن هناك تواصلاً تاريخياً – مرتكزاً على التسلسل الرسولي[53]. من الكنيسة التي أسسها الى الكنيسة الكاثوليكية: «هذه هي كنيسة المسيح لواحدة […] التي سلّمها مخلّصنا بعد قيامته الى بطرس ليكون راعيها (يو 21/17) وأوكل أمرها اليه وإلى سائر الرسل كي ينشروها ويسوسوها (متى 28/18…) والتي أقامها دوماً عمود الحق وقاعدته (1 تيم 3/15). هذه الكنيسة المؤسسة والمنظمة كمجتمع في هذا العالم قائمة في الكنيسة الكاثوليكية ليسوسها خليفة بطرس والأساقفة المتّحدون معه بالشركة»[54]. بهذا الكلام (قائمة في الكنيسة الكاثوليكية)، أراد المجمع الفاتيكاني الثاني أن يعلن حقيقتين عقائديتين: من جهة، إنه بالرغم من انقسام المسيحيين تبقى كنيسة المسيح قائمة بتمامها في الكنيسة الكاثوليكية وحدها؛ من جهة ثانية، «هناك عناصر عديدة لحياة النعمة والحقيقة خارج هذه الأطر»[55] أي في الكنائس والجماعات الكنسية التي لا تنعم بعد بالشركة الكاملة مع الكنيـسة الكاثوليكية[56]. لكـن يجب التأكيـد،
بالنسبة إلى هذه الكنائس والجماعات، إن «قوتها تنبع من كمال النعمة والحقيقة الذي أوكل الى الكنيسة الكاثوليكية»[57].
17- هناك إذن كنيسة واحدة للمسيح نجدها في الكنيسة الكاثوليكية التي يسوسها بطرس والأساقفة المتحدون معه بالشركة[58]. والكنائس التي تبقى متحدة بالكنيسة الكاثوليكية برباطات حميمة، كالتسلسل الرسولي والإفخارستيا الصحيحة، وان لم تكن بشركة كاملة معها، هي كنائس خاصة حقيقية[59]. لذا فكنيسة المسيح حاضرة وفاعلة في هذه الكنائس بالرغم من غياب الشراكة الكاملة مع الكنيسة الكاثوليكية الناتج عن عدم قبولهم للعقيدة الكاثوليكية القائلة بأولية بطرس التي ينعم بها فعلاً بالنسبة الى الكنيسة جمعاء وفقاً للإرادة الإلهية[60].
وعلى العكس، فالجماعات الكنسية، التي لم تحتفظ بالأسقفية الصحيحة ولا على جوهر الإفخارستيا[61]الأصيل والكامل، ليست كنائس بالمعنى الأصلي، ومع ذلك فالذين قبلوا سرّ العماد في هذه الجماعات هم متحدون بالمسيح بالعماد وبذات الفعل هم في شراكة وان ناقصة مع الكنيسة[62].إن العماد موجه أساساً الى اختيار ملء الحياة في المسيح وذلك بشهادة كاملة بالإيمان وبالإفخارستيا وبملء الشراكة مع الكنيسة[63].
«لذا فلا يحق للمؤمنين ان يتصوّروا كنيسة المسيح كجماعة فحسب – منقسمة على ذاتها، نعم ولكنها محافظة على شيء من الوحدة – ككنائس وجماعات كنسيّة؛ كما لا يحق لهم القول بأن كنيسة المسيح لم تعد قائمة في مكان ما بحيث تصبح هدفاً يجب البحث عنها في كل الكنائس مشتركة»[64]. وفعلاً «عناصر تلك الكنيسة المعلنة تتوفّر موحدة في كمالها في الكنيسة الكاثوليكية، وبدون هذا الكمال في الجماعات الأخرى»[65]. «وبالتالي فالكنائس والجماعات المنفصلة نفسها، مع اننا نعتقد انها مصابة بتلك الشوائب، لا تخلو أبداً من معنى وقيمة في سرّ الخلاص. فروح المسيح لم يتمنّع عن استخدامها بمثابة وسائل خلاصية تنبع قوتها من كمال النعمة والحقيقة الذي أوكل الى الكنيسة الكاثوليكية»[66].
لا شك في ان عدم الوحدة بين المسيحيين هو جرح للكنيسة، لا كحرمان من وحدتها، بل «كعائق ازاء تحقيق كامل لشموليتها في التاريخ»[67].
5- الكنيسة
ملكوت الله وملكوت المسيح
18- رسالة الكنيسة هي «التبشير بملكوت المسيح والله وإنشائه بين الشعوب وجُعِلتْ زرع هذا الملكوت وبدأه على الأرض»[68]. من جهة، الكنيسة هي «السر، أي العلامة والأداة للوحدة الوثيقة مع لله ولوحدة الجنس البشري كلّه»[69]. فهي إذن علامة وأداة للملكوت: مدعوة للتبشير به وببنائه. من جهة أخرى، هي «الشعب الذي يستمد وحدته من وحدة الآب والإبن والروح القدس»[70]؛ وهي إذن «ملكوت المسيح الحاضر الآن سرّياً»[71]، إذ هي زرعه وبدؤه. فملكوت الله عمق اسكاتولوجي: «هو حقيقة حاضرة في الزمن لن تتحقق تماماً إلاّ في نهاية التاريخ أو في كماله»[72].
لا انطلاقاً من النصوص الكتابية ولا من شهادة الآباء ولا من كتابات السلطة الكنسية نقدر ان نستنتج مفهوماً ذا معنى واحد لا لملكوت السماوات ولا لملكوت الله ولا لملكوت المسيح. كما إننا لا نستطيع ان نستنتج معنى واحداً لعلاقة كل هذا بالكنيسة التي هي ايضاً سرّ لا يحيط به أي مدلول بشري. فحول هذه القضايا هناك شروحات لاهوتية متعددة ممكنة. إنما لا يوجد شرح واحد يمكنه أن يرفض أو أن يلغي العلاقة الحميمة بين المسيح والملكوت والكنيسة. وفي الواقع، «إ؟ن ملكوت الله كما نعرفه من الوحي» لا يمكن فصله «لا عن المسيح ولا عن الكنيسة […]. فإذا ما وضعنا جانباً ملكوت يسوع، لا نكون أخذنا بالإعتبار ملكوت الله الذي أوحاه لنا ونصل إلى إفساد معنى الملكوت الذي قد يصبح موضوعاً بشرياً أو ايديولوجياً لا أكثر ولا أقل ونفسد هكذا هوية المسيح الذي لا يعود ذاك السيّد الذي يجب أن يخضع له كلّ شيء (1 قو 15/27). كما انه لا يمكن الفصل بين الملكوت والكنيسة. من المؤكّد ان الكنيسة ليست غاية في ذاتها بل موجهة الى ملكوت الله من حيث هي زرعه وعلامته وأداته. ولكن في حين ان الكنيسة مميزة عن المسيح والملكوت، فهي مع ذلك متحدة بهما من دون أي انفصام[73].
19- قولنا أن الوحدة بين الكنيسة والملكوت لا تنفصم لا يعني مطلقاً ان ملكوت الله – وإن اعتبرناه في مرحلته التاريخية – يؤلّف مع الكنيسة كائناً واحداً في واقعه المنظور والإجتماعي. ينبغي ألاّ ننسى «فعل المسيح والروح القدس خارج حدود الكنيسة المنظورة»[74]. علينا إذن أن نتذكّر أن «الملكوت يعني الإعتراف بزخم الوجود الإلهي في التاريخ البشري الذي يحوّله ويعززه. كما إنّ بنيان الملكوت يعني العمل في سبيل التحرير من الشر بكافة أشكاله. وبكلمة، إن ملكوت الله هو إظهار وتحقيق مخططه على الخلاص بكلّيته»[75].
عندما ننظر الى العلاقات بين ملكوت الله وملكوت المسيح والكنيسة، علينا بالضرورة أن نتجنّب الصيغ الأحاديّة مثال هذه «المفاهيم التي تشدّد عن قصد على الملكوت وتحدّد ذاتها وكأنها «مرتكزة على الملكوت»، فهي تُظهر صورة كنيسة لا تفكّر بذاتها بل تهتم فقط بالشهادة للملكوت وبخدمته. يقولون انها «كنيسة من أجل الآخرين» كما إن المسيح هو «إنسان من أجل الآخرين» […]؛ بالإضافة الى المظاهر الإيجابية، غالباً ما تتضمّن هذه المفاهيم مظاهر سلبيّة. أولاً، إنها تلزم الصمت بالنسبة الى المسيح: فالملكوت الذي تتكلّم عليه مؤسس على «الإرتكاز على الله» إذ – كما يقولون – لا يمكن أن يفهم المسيح أولئك الذين لا ينعمون بالإيمان المسيحي، بينما الشعوب والثقافات والديانات المختلفة تقدر أن تلتقي حول الحقيقة الإلهية الواحدة مهما كانت تسميتها. وللسبب ذاته يفضلّون الكلام على سرّ الخلق المنعكس في الثقافات المتنوعة والقناعات المختلفة، إنما يرفضون الكلام على سرّ الفداء. بالإضافة إلى ان الملكوت، في مفهومهم، ينتهي بتهميش الكنيسة او التقليل من أهميّتها، وذلك كردّة فعل ضد «الإرتكاز على الكنيسة» المفترض انّه من الماضي، ولأنهم يعتبرون الكنيسة كعلامة فقط وعلامة لا تخلو من الإلتباس»[76]. هذه الطروحات هي ضد الإيمان الكاثوليكي لأنها تنكر وحدة العلاقة بين المسيح والكنيسة من جهة وملكوت الله من جهة ثانية.
6 – موقف الكنيسة والأديان من الخلاص
20- ما ذكرناه حتى الآن يفرض ضرورة مراحل على الطريق التي على علم اللاهوت أن يقطعها لتوضيح العلاقة بين الكنيسة والديانات الأخرى وبين الخلاص.
يجب قبل كل شيء أن نؤمن إيماناً راسخاً بأن «هذه الكنيسة في مسيرتها على الأرض ضرورية للخلاص. فالمسيح وحده وسيط الخلاص وهو حاضر لنا في جسده أي الكنيسة. وهو نفسه إذ شدّد بصريح العبارة على ضرورة الإيمان والعماد (مر 16/16؛ يو 3/5)، قد أكّد لنا في الوقت عينه ضرورة الكنيسة التي يدخل إليها الناس بالعماد الذي هو الباب»[77]. لا يجب أن تتعارض هذه العقيدة وإرادة الله الخلاصية الشاملة (1 تيم 2/4)؛ لذا «لا بد من التمسّك بهاتين الحقيقتين أي امكانية الخلاص الحقة في المسيح للناس أجمعين وضرورة الكنيسة للخلاص»[78].
«الكنيسة هي سرّ الخلاص الشامل»[79]، إذ، بطريقة سرّية وبتبعيّة، وهي مرتبطة دوماً بيسوع المسيح مخلّصها الذي هو رأسها، لها في مخطط الله علاقة لا غنى عنها بخلاص كل انسان[80]. بالنسبة الى الذين ليسوا اعضاء الكنيسة بطريقة صريحة ومنظورة، فالخلاص بالمسيح يمكن إدراكه بفضل نعمة لها علاقة سريّة بالكنيسة، ولكنها لا تُدخلهم فيها شكليّاً بل تنيرهم بطريقة ملائمة لحالتهم الروحيّة ولإطارهم الحياتي. وهذه النعمة تأتي من المسيح وهي ثمرة ذبيحته ومعطاة بواسطة الروح القدس»[81] وهي مرتبطة بالكنيسة التي تتجذّر في رسالة الإبن ورسالة الروح القدس وفقاً لقصد الله الآب»[82].
21- على غرار نقل نعمة الله الخلاصيّة على غير المسيحيين، هذه النعمة التي يعطيها دوماً الروح القدس بعلاقة سريّة بالكنيسة، يكتفي المجمع الفاتيكاني الثاني بالتأكيد على ان الله يعطيها «بطرق يعرفها هو»[83]. ويحاول علم اللاهوت التعمّق في هذه الفكرة. فيجب أن نشجّع هذا العمل اللاهوتي إذ يقود بدون ادنى شك إلى فهم أفضل لمقاصد الله الخلاصيّة ولأشكال تحقيقها. مع ذلك، وبعد كل ما ذكرنا إلى الآن حول وساطة يسوع المسيح وحول «العلاقة الفريدة والوحيدة»[84] بين الكنيسة وملكوت الله بين الناس – الذي هو أساساً ملكوت المسيح المخلّص الشامل –إنه من الواضح أن اعتبار الكنيسة طريقاً للخلاص من بين طرق أخرى هو مضاد للإيمان الكاثوليكي. إذ تُعتبر الأديان آنذاك مكمّلة للكنيسة وحتى معادلة لها جوهرياً، حتى وإن تلاقت وإياها في ملكوت الله الإسكاتولوجي.
لا شك ان التقاليد الدينية المختلفة تحتوي على عناصر تديّن تأتي من الله[85] وتعرضها وهي تؤلف قسما ممّا «يعمله الروح في قلوب البشر وفي تاريخ الشعوب وفي الثقافات والديانات»[86]. ولا شك أيضاً أنّ بعض الصلوات وبعض الطقوس في الديانات الأخرى تستطيع أن تلعب دور إعداد للإنجيل، كونها مناسبات وتعاليم تشجّع قلوب الناس على الإنفتاح على عمل الله[87]. مع ذلك لا نستطيع أن نعزو اليها أصلاً إلهياً أو فعالية خلاصية تعمل بذاتها كما يحدث للأسرار المسيحية[88]. من جهة ثانية، لا نقدر أن نجهل ان هناك طقوساً تنجم عن خرافات أو عن أخطاء مماثلة (1 قو 10/20-21) تكوّن بالأحرى عائقاً في وجه الخلاص[89].
22- بمجيء يسوع المسيح المخلّص، أراد الله أن تصبح الكنيسة ألتي اسسها أداة خلاص للبشرية جمعاء (أع 17/30-31)[90]. هذه الحقيقة الإيمانية لا تنقّص أبداً من احترام الكنيسة الصادق لديانات العالم. لكن، في الوقت عينه، تنفي جذرياً ذهنية اللامبالاة «المتبعة بروح النبويّة الدينية التي تعتبر كل الأديان متساوية»[91]. وإذا صحّ انه باستطاعة أتباع الديانات الأخرى قبول النعمة الإلهية، فالأصحّ من ذلك هو انهم، موضوعياً، في فقر مدقع بالنسبة للذين داخل الكنيسة حيث ينعمون بملء وسائل الخلاص[92]. «على كل أبناء الكنيسة أن يذكروا أنّ عظمة وضعهم ترجع، لا إلى استحقاقاتهم الشخصية، بل إلى نعمة خاصة من المسيح التي، إن لم يتجاوبوا معها فكراً وقولاً وفعلاً، استحقت لهم لا الخلاص بل دينونة عظمى»[93]. نفهم هكذا ان الكنيسة، وفقاً لوصايا الرب (متى 28/19-20) ولما تتطلبه محبتنا لكل الناس، تبشّر ويجب عليها أن تبشّر دوماً بالمسيح الذي هو «الطريق والحق والحياة» (يو 14/6) فيه يجد الناس كمال الحياة الدينية وبه صالح الله كل شيء»[94].
«يحافظ النشاط الرسولي اليوم ودائماً، وفي الحوار الديني، على قوته وضرورته كاملتين»[95] إذ «يريد الله خلاص الجميع وأن يصلوا الى معرفة الحق» (1 تيم 2/4). إنه يريد خلاص الجميع بمعرفة الحق. إن السلام نجده في الحق. الذين يطيعون إلهام روح الحق هم منذ الآن على طريق الخلاص؛ إنما على الكنيسة، التي وُكلت اليها هذه الحقيقة، أن تمضي الى لقاء هذه الرغبة وتقدمها لهم. فلأنها تؤمن بمخطط الخلاص الشامل، عليها أن تكون مُرسلة»[96]. والحوار، الذي هو جزء من الرسالة الإنجيلية، ليس سوى أحد أعمال الكنيسة في رسالتها إلى الأمم[97]. والمساواة، التي هي شرط للحوار، تعني الكرامة الشخصية المتساوية بين المتحاورين، وليس المساواة في العقيدة وبخاصة لا المساواة بين يسوع المسيح – الإله ذاته المتأنس – وبين سائر مؤسسي الديانات. والكنيسة المنقادة بالمحبة وباحترام الحريّة[98]، عليها بادىء ذي بدء أن تبشر الجميع بالحقيقة التي أوحي بها الرب نهائياً وأن تعلن ضرورة الإهتداء الى يسوع المسيح والإنتماء الى الكنيسة بالعماد وسائر الأسرار، لكي يشترك المرء اشتراكاً كاملاً بالإتحاد بالله الآب والإبن والروح القدس. كما انّ التأكّد من إرادة الله الخلاصية الشاملة لا يقلّل من واجب واستعجال التبشير بالخلاص والإهتداء إلى الرب يسوع المسيح، بل إنه ينمي هذا الواجب.
خاتمة
23- أراد هذا الإعلان، لكي يعلن مجدداً بعض حقائق الإيمان، أن يتبع مثل الرسول بولس تجاه أهل قورنتس: «لقد سلّمتكم أولاً ما تسلّمته أنا» (1 قو 15/3). إزاء بعض الطروحات المعقدة بل الخاطئة، التفكير اللاهوتي مدعو إلى تثبيت إيمان الكنيسة وإلى تبرير رجائها بقناعة وفعاليّة. بما يتعلّق بالديانة الحقيقية، الوحيدة، يؤكّد آباء المجمع الفاتيكاني الثاني: «إن هذه الديانة الحقة الوحيدة قائمة في الكنيسة الكاثوليكية الرسولية التي عهد إليها الرب يسوع في مهمة نشرها على كل البشر عندما قال لرسله: «اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس وعلّموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به» (متى 28/19-20. فعلى كل الناس ان يبحثوا عن الحقيقة ويعتنقونها إذا ما عرفوها، ويحافظوا عليها، لاسّيما تلك التي تتعلّق بالله وبكنيسته»[99].
يبقى وحي المسيح في التاريخ «النجمة الحقيقية التي تهدي على نورها»[100] البشرية جمعاء: «الحقيقة، التي هي المسيح، تفرض ذاتها كسلطة شاملة»[101]. إن السرّ المسيحي يتجاوز كل حدود الزمان والمكان، فهو يحقق وحدة العائلة البشرية: «من مختلف الأمكنة والتقاليد، الجميع مدعوون في المسيح الى المشاركة في وحدة أسرة أبناء الله […] لقد هدم يسوع حواجز التفرقة وحقق الوحدة بطريقة مبتكرة وراقية بالمشاركة في سرّه. هذه الوحدة هي من العمق بحيث تستطيع الكنيسة أن تردّد قول القديس بولس: «لستم بعد غرباء ولا نزلاء، بل أنتم من أبناء وطن القديسين ومن أهل بيت الله» (أف 2/19)[102]
إن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، في الموعد الذي أعطاه في 16 حزيران لرئيس مجمع العقيدة والإيمان، بكامل علمه وسلطته الرسولية، قد وافق على هذا الإعلان وأقرّه في جمعية عمومية وصادق عليه وأمر بنشره.
روما، مقر العقيدة الإيمان، 6 آب 2000، يوم عيد تجلي الرب.
@ JOSEPH Card. RATZINGER
Préfet
الكردينال جوزيف رتزينغر- رئيس
@ TARCISIO BERTONE, S.D.B.
Archevêque émérite de Verceil- Secrétaire
الكردينال تارسيزيو برتوني- الأسقف السابق لفرساي- سكرتير
[1] مجمع القسطنطينية المسكوني الأول، قانون القسطنطينية، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 50.
[2] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 1: أعمال الكرسي الرسولي 83 (1991) 249-340,
[3] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، «الى الأمم» و «في عصرنا»، بولس السادس، ارشاد رسولي «واجب التبشير بالإنجيل»: أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976)5-76: يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي.
[4] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في عصرنا، عدد 2.
[5] المجلس البابوي للحوار بين الأديان ومجمع تبشير الشعوب، «حوار وتبشير»، عدد 29: أعمال الكرسي الرسولي 84 (1992) 414-446؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 22.
[6] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 55.
[7] المجلس البابوي للحوار بين الأديان ومجمع تبشير الشعوب «حوار وتبشير»، عدد 9.
[8] يوحنا بولس الثاني، الإيمان والعقل، عدد 5: أعمال الكرسي الرسولي 91 (1999) 5-88.
[9] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، كلمة الله، عدد 2.
[10] المرجع السابق، عدد 4.
[11] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 5.
[12] يوحنا بولس، الإيمان والعقل، عدد 14.
[13] المجمع المسكوني الخلقيدوني، قانون ايمان خلقيدونيا : DH 301، القديس اتناسيوس، في التجسّد، 54،3 :SC 199-458.
[14] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، كلمة الله، عدد 4.
[15] المرجع السابق، عدد 5.
[16] المرجع السابق.
[17] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 144.
[18] المرجع السابق، عدد 150.
[19] المرجع السابق، عدد 153.
[20] المرجع السابق، عدد 178.
[21] يوحنا بولس الثاني، الإيمان والعقل، عدد 13.
[22] المرجع السابق، عدد 31-32.
[23] المجمع الفاتيكاني الثاني، في عصرنا عدد 2؛ إلى الأمم، عدد 9، يذكّر بالعناصر الإيجابية في الطقوس الخاصة وحضارات الشعوب الخاصة؛ نور الأمم، عدد 6، يذكر ما هو صالح وحقيقي عند غير المسيحيين وهو اعداد لقبول الإنجيل.
[24] المجمع المسكوني التريدنتيني، الكتب المقدسة والتقاليد المقبولة : DH 1501؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول، ابن الله، عدد 2.
[25] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، كلمة الله، عدد 11.
[26] المرجع السابق.
[27] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 55-56. بولس السادس، ارشاد رسولي، واجب التبشير بالإنجيل، عدد 53.
[28] مجمع نيقيا المسكوني الأول، قانون ايمان نيقيا : DH 125.
[29] مجمع خلقيدونيا المسكوني، قانون ايمان خلقيدونيا : DH 301.
[30] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 22.
[31] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 6.
[32] القديس لاون الكبير، رسالة الى فلافيان، DH 294.
[33] القديس لاون الكبير،DH 318: رسالة الى الأمبراطور لاون الأول، «الألوهة والبشرية مرتبطان، منذ الحبل البتولي، بوحدة لا تنقسم بحيث ان الألوهة لا تعمل بدون البشرية ولا البشرية بدون الألوهة». انظر ايضاً DH 317.
[34] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 45، المجمع المسكوني التريدنتي، الخطيئة الأصلية، عدد 3: DH 1513.
[35] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 3-4.
[36] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 7، القديس إيريناوس «الشركة مع المسيح أي الروح القدس، اودعت في الكنيسة»، (ضد الهراطقة III، 24، 1: SC المصادر المسيحية 211، 472).
[37] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 22.
[38] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 28، حول «زرع الكلمة»، راجع ايضاً القديس يوستينوس، الدفاع 2، 8،1-2؛ 10/1-3؛ 13/3-6 طبعةE. J. Goodsped ، 84، 85، 88-89.
[39] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 28-29.
[40] المرجع السابق، عدد 29.
[41] المرجع السابق، عدد 5.
[42] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، فرح ورجاء، عدد 10، راجع ايضاً القديس اغسطينوس، الذي يؤكّد «خارجاً عن هذا الطريق [المسيح] الذي لم يخيّب الجنس البشري أبداً،[…] لم يخلص احد ولا يخلص احد ولن يخلص أحد»: مدينة الله، 10/32، 2 CCL 47، 312.
[43] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 62.
[44] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 5.
[45] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني فرح ورجاء، عدد 45. فردانية المسيح وشموليته في التاريخ البشري ضروريتان ومطلقتان: القديس ايريناوس أعطى شرحاً جيداً لهذا المفهوم بتأمّله بأولوية يسوع كبكر: [أوّلية] في السماء، أولاً، لأنه بكر مشورة الآب، الكلمة الكامل، ليسوس كل شيء ويفرض شريعته، ثم في الأرض إذ هو بكر العذراء، إنسان بار، قديس، ورع، صالح، يحسن لله، كامل في كل شيء. وأخيراً ينجي من الجحيم كل من يتبعه لأنه بكر القائمين من الموت وهو يدّربنا على حياة الله». البيان،39: المصادر المسيحية SC 406، 138.
[46] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 6.
[47] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور لأمم، عدد 14.
[48] المرجع السابق، عدد 7.
[49] القديس اغسطينوس، في المزامير، مز 90 عظة 2، 1:CCL 39، 1266، القديس غريغوريوس الكبير، في ايوب، مقدمة، 6، 14:PL الآباء اللاتين 75، 525؛ القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية 3،48 أ. 2، 1.
[50] المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 6.
[51] قانون الإيمان الكبير للكنيسة الأرمنية DH 48. راجع بونيفاسيوس الثامن، واحدة مقدسة، DH 870-872؛ المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 8.
[52] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، استعادة الوحدة،عدد 4؛ يوحنا بولس الثاني، ليكونوا واحداً، عدد 11، أعمال الكرسي الرسولي AAS 87 (1995) 921-982.
[53] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 20؛ القديس ايريناوس، ضد الهراطقة 3، 1-3 SC 211، 20-44؛ القديس قبريانوس،رسالة 33، 1: CCL 3 ب، 164-165؛ القديس اغسطينوس، ضد أعداء الناموس والأنبياء، 1، 2، 139 CCL 49، 70.
[54] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 8.
[55] المرجع السابق، يوحنا بولس الثاني، ليكونوا واحداً، عدد 13، المجمع الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 15 واستعادة الوحدة، عدد 3.
[56] على نقيض المعنى الصحيح للنص المجمعي هو الشرح الذي يُستنتج من «قائمة في الكنيسة الكاثوليكية» الطرح القائل بأن كنيسة المسيح الواحدة قد تكون أيضاً في الكنائس والجماعات الكنسية غير الكاثوليكية. فالمجمع، على العكس من ذلك، اختار كلمة «قائمة في» ليوضح ان هناك «قيام» الكنيسة الحقيقية، بينما خارجاً عن جماعتها المنظورة، هناك فقط عناصر كنسية – أي عناصر الكنيسة ذاتها – تتجه وتقود الى الكنيسة الكاثوليكية»(حول كتاب «الكنيسة موهبة وسلطة» للأب ليوناردو بوف، ملاحظة مجمع العقيدة والإيمان، أعمال الكرسي الرسولي: AAS 77 [1985] 756-762).
[57] المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني، استعادة الوحدة، عدد 3.
[58] مجمع عقيدة الإيمان، سرّ الكنيسة، عدد 1، أعمال الكرسي الرسولي AAS 65 [1973] 396-408).
[59] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، استعادة الوحدة، عدد 14-15؛ مجمع العقيدة والإيمان، في الشراكة، عدد 17، أعمال الكرسي الرسولي AAS85 (1993) 838-850.
[60] المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول، الراعي الأبدي: DH 3053-3064؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 22.
[61] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، استعادة الوحدة، عدد 22.
[62] المرجع السابق، عدد 3.
[63] المرجع السابق، عدد 22.
[64] مجمع العقيدة والإيمان، سرّ الكنيسة، عدد 1.
[65] يوحنا بولس الثاني، ليكونوا واحداً، عدد 14.
[66] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، استعادة الوحدة، عدد 3.
[67] مجمع العقيدة والإيمان، في الشراكة، عدد 17؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، استعادة الوحدة، عدد 4.
[68] المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني، نور الأمم، عدد 5.
[69] المرجع السابق، عدد 1.
[70] المرجع السابق، عدد 4؛ القديس قبريانوس، صلاة الأحد، 23؛ CCL 3/أ، 105.
[71] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 3.
[72] المرجع السابق، عدد 9، الصلاة الى الله في الديداكة، 9، 4: SC 248، 176: «فلتجتمع كنيستك، بالطريقة ذاتها، من أقاصي الأرض، في ملكوتك» وأيضاً 10، 5: SC 248، 180: «اذكر يا رب كنيستك […] واجمعها من الرياح الأربع. هذه الكنيسة المقدسة، في ملكوتك الذي هيأته لها».
[73] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 18؛ ارشاد رسولي الكنيسة في آسيا، عدد 17: الرقيب الروماني، 7 تشرين الثاني 1999. «الملكوت هو متصل بالمسيح، بحيث، بمعنى معيّن، يصبح معه واحداً (راجع اوريجانوس، شرح متى، 14، 7: الآباء اليونان PG 13، 1197؛ ترتليانوس،، ضد مارقيون 4، 33، 8: CCL 1، 634.
[74] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 18.
[75] المرجع السابق، عدد 15.
[76] المرجع السابق، عدد 17.
[77] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 14؛ إلى الأمم، عدد 7؛ استعادة الوحدة، عدد 3.
[78] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 9؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 846-847.
[79] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 48.
[80] القديس قبريانوس، وحدة الكنيسة الكاثوليكية، عدد 6 CLL 3، 253-254؛ القديس ايريناوس، ضد الهراطقة، 3، 24، 1:SC 211، 472-474.
[81] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 10.
[82] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إلى الأمم، عدد 2. بهذا المعنى المشروح هنا يجب فهم الجملة الشهيرة «خارج الكنيسة لا يخلص أحد» (المجمع المسكوني اللاتراني الرابع، 1 الإيمان الكاثوليكي: DH 802). راجع ايضاً رسالة من مجمع الإيمان الى رئيس اساقفة بوسطن DH 3866-3872.
[83] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إلى الأمم، عدد 7.
[84] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 18.
[85] عبارة «زرع الكلمة الإلهية»، تقرها الكنيسة بفرح واحترام (راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إلى الأمم، عدد 11؛ في عصرنا، عدد 2).
[86] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 29.
[87] المرجع السابق، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 843.
[88] المجمع المسكوني التريدنتي، في الأسرار، عدد 8؛ في الأسرار عامة: DH 1608.
[89] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 55.
[90] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 17؛ يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 11.
[91] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 36.
[92] بيوس الثاني عشر، الجسد السري: DH 3821.
[93] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، نور الأمم، عدد 14.
[94] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في عصرنا، عدد 2.
[95] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إلى الأمم، عدد 7.
[96] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 851؛ و849-856.
[97] يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 55؛ ارشاد رسولي في الكنيسة في آسيا، عدد 31.
[98] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الكرامة البشرية، عدد 1.
[99] المرجع السابق.
[100] يوحنا بولس الثاني، الإيمان والعقل، عدد 15.
[101] المرجع السابق، عدد 92.
[102] المرجع السابق، عدد 70
Discussion about this post