المصباح الرهباني
الباب الثامن: في سكنى القلالي
– سكنى القلاية هو أن تبتعد عن خلطة الناس وتجتمع مع ذاتك وربك. وهذا العمل مرتب على سيرة الرب يسوع نفسه، إذ قد إنفرد في الجبال والبراري مرات عدة، صائماً مصلياً واضعاً لنا بذلك مثالاً نمتثله. وعليه سلك الآباء وإياه علمونا وله خاصة ترتبت القلالي، كقول جمهور الآباء: إن الجالس في القلاية يلزمه دوام الهذيذ الروحاني ونسيان كلما هو خارجاً.
– ومثل ذلك قال القديس مكاريوس وغيره من الآباء: إنّ الهرب من الناس هو أن تجلس في قلايتك وتبكي على خطاياك. وقال الأب بيمين: إن الجالس في قلايته، أما في الظاهر فيجب أن يعمل بيديه ويأكل في النهار مرة واحدة، أما في الباطن، فيلوم نفسه في كل أمر يعمله ويتحفظ من أفكاره.
– وجملة الكلام أن جلوس القلاية يقتضي ترتيب الظاهر والباطن. فإن لم يكن الراهب في قلايته على هذه الصفة فلا فرق بينه وبين المحبوس في حبس الولاة، هذا إذا كان متوانياً باختياره. لكن إذا كان نشيطاً عمالاً ويعرض له السجس والطياشة من قتال الشياطين ويصبر محارباً، فهذا مجاهد هو، ولا يبطئ حتى يمتلك نعمة سكنى القلاية، فيستريح في البعد من الناس، ويستلذ بالأوجاع مع ذاته وربه. وليس يستريح في البعد من الناس لبغضه لهم، لأن الرسول يوحنا يقول: من لا يحب قريبه لا يقدر أن يحب ربه، بل يبتعد من الناس لأن القرب إليهم يعيق القرب إلى الله، كما قال الأب أرسانيوس لأحد الرهبان حين سأله لماذا تهرب منا فأجابه: الله يعلم أني أحبكم، لكن لا أقدر أن أكون مع الله والناس، أي إن خلطة الناس تضر المنفرد في قلايته وتفوته فائدتها.
– ومضمون الكلام إن سكنى القلاية هو الإنفراد فيها والتحفظ من البطالة والطياشة. ومن دون هذا لا يستقيم سعي الراهب أبداً. واستناداً إلى ذلك وضع لنا القانون وسائط تساعدنا على حفظ الجلوس في القلاية وهي الفرائض الآتية وعددها ست.
الفريضة الأولى: يجب على الراهب ألا يخرج من قلايته إلا لسبب
– الراهب الذي يخرج من قلايته بغير سبب يوجب الخروج منها فقد دلّ على ذاته أنه يحب أن يرى العالم ويختلط بالناس ويكره الخلطة بالله تعالى ولأجل ذلك نهى الآباء عن هذا الخروج نهياً متكاثفاً.
– قال القديس باسيليوس: ينبغي للراهب أن لا يخرج من قلايته ومنسكه إلاّ لضرورة، أي إذا قُرع الناقوس للصلاة أو المائدة أو دعتنا الطاعة إلى عمل ما، أو لأجل الحب الأخوي الذي يضطرنا إلى تكميل قصد من قصدنا بنوع لا ينافي الفضيلة. وبالجملة إذا نحن خرجنا لضرورة لا يديننا ضميرنا عليها، بها ضجر أو غرض فاسد. بمثل هذا الخروج لا يضاد القانون البتة، وهو سبب واجب. وما كان بخلاف ذلك فهو زلة واضحة من قبل ثلاثة أسباب:
– الأول: تضييع الزمان بالباطل.
– والثاني: إنفعال الآلام.
– والثالث: مخالفة القانون الذي أمر أمراً أن لا يخرج الراهب من قلايته إلا لسبب. ومثله أوصى الآباء إجمالاً وبقدر ما ذُموا أو ثلبوا الخروج من القلاية ومدحوا الثبات فيها.
– قال القديس إسحق: إغصب نفسك في أن تلبث في قلايتك بالسكون، وتحقق أنك ما دمت فيها، فحواسك تكون مصانة وأفكارك وخشوع قلبك محفوظاً وتكون شيئاً آخر غير ما أنت فيه في كل أمورك.
– سأل أحد الرهبان الأب موسى كلمة منفعة، فأجابه القديس إمضِ إجلس في قلايتك وهي تعلمك كل شيء. وقال أحد الرهبان لأحد الآباء أنا يا أبي حزين لأني بطال من عمل الرهبنة. آكل وأشرب وأرقد بأفكار سمجة وسجس كثير. فأجابه الشيخ إمضِ يا ولدي إجلس في قلايتك وإعمل طاقتك بلا سجس، فإن هذا الشيء اليسير الذي تعمله في قلايتك بهدوء، هو مثل تلك الأمور الكبار التي كان يعملها أنطونيوس في البرية، ولي أمانة بالله، إن كل راهب يجلس في قلايته، من أجل الله، ويرصد أفكاره ولا يفحص عن عيوب غيره، فإنه يكون مع أنطونيوس في النياح.
– وجاء أيضاً في البستان عن أحد الرهبان قاتله الضجر ليخرجه من قلايته قائلاً له: قم إذهب إلى فلان، الشيخ، واستمدّ منه تعليماً. فأجاب فكره: أني بعد الفراغ من العمل أذهب إليه. فقال له الفكر: إن مت كيف تذهب؟ قم إذهب الآن وسله عن الحصاد. فأجاب فكره: لم يبلغ بعد زمن الحصاد. فقال له فكره: اليوم الهواء طيب، قم إذهب إلى الشيخ قبل أن يصعب. فرمى الخوص من يده وقام ليمضي. وكان يسكن بجانبه شيخ فاضل ينظر الغائب. فلما رآه منطلقاً عرف أمره وناداه: إرجع يا مسبي، وهلمّ إلي. فسار الراهب إليه. فقال له الشيخ: إرجع إلى قلايتك. فعرف الراهب أن الشيخ عرف أمره، فأخبره حينئذ بأفكاره وطلب صلاته ورجع إلى قلايته. ولما دخل القلاية صاحت الشياطين غلبتمونا يا رهبان، والتهبت الحصيرة التي تحته وتلاشت الشياطين كالدخان. فهذا ومثله نجده مسطراً في الكتب الروحية، مما يوضح لنا نفع الجلوس في القلاية وضرر الخروج منها وعظم حرص الشياطين على أن يعدمونا فوائدها.
– فإن قلت هل يجوز لي أن أخرج من قلايتي بسبب طلب المنفعة من الآباء وافتقاد الإخوة وعمل المحبة، أجبتك قد نهى الآباء عن مثل هذه الحجج كثيراً، وهذا واضح من تعليم القديس باسيليوس وغيره. لكن من حيث أن الإفراز في ذلك مستصعب، فينبغي للراهب أن يتدبر في مثل هذا الحال حسب مشورة رئيسه ومعلمه الروحي، أعني أن تكشف أفكارك لمعلمك وتستخبره: هل جيد هو الخروج من قلايتي، كي أذهب إلى أخي فلان، ليعلمني ويفيدني وإلى الأخ فلان، لأفتقده وأعزيه؟ أم لا يفيدني ذلك؟ وكما يأمرك معلمك إفعل، لأن الضجر له عادة أن يخرجنا من قلالينا بمثل هذه الحجج.
– فإن قلت أيضاً هل يجوز أن أخرج من قلايتي بسبب ضجر وأستريح قليلاً لأن الضجر هو سبب، والقانون يسمح بالخروج بسبب؟ أجبتك على ما يقول القديس باسيليوس: أنه يجوز للراهب أن يخرج وقت الضجر من قلايته ليستريح قليلاً ثم يعود إليها، لكن البعض من الآباء أنكروا ذلك وقالوا: إن المجاهد الطالب الكمال سبيله أن يصبر على الضجر وحرب الجلوس في القلاية والثبات فيها، ولا يخرج إلاّ لسبب ضروري؛ وقالوا أن الراهب متى ما انغلب للضجر من واحدة وخرج من قلايته، فقد فتح للضجر الباب وجعله يفتقده متواتراً. وذلك أن الراهب متى اعتاد على أن يخرج من قلايته متواتراً بحجة الراحة من الضجر ينغلب لهذا الخروج جداً حتى يصير يُرى أغلب نهاره خارج قلايته، متشاغلاً بالكلام البطال، وينتهي إلى أسقام نفسانية صعبة. وهذا العمل قد نهانا عنه أبونا أنطونيوس، كما كتب لبعض أولاده قائلاً: لا تجلس في أزقة الدير، أي لا تترك قلايتك وتجلس خارجها وبالضرورة تتصل إلى أن تتكلم مع غيرك، وبالضرورة يلحقك من الكلام الضرر.
– ومن هنا يتضح لنا أن القديس باسيليوس إنما سمح وقت الضجر بالخروج من القلاية للضعفاء خاصة. والمجاهد بحقّ لا يرضى لنفسه الرخاوة، بل يصبر ثابتاً في قلايته بكل قوته حتى لا تفوته فائدة الثبات في القلاية التي هي معرفة الأفكار ومعرفة الصلاة.
– وجيد هو أن نذكر قول أبينا أنطونيوس ونرتعد من ترك القلاية. قال: الراهب يشبه السمكة، والقلاية تشبه الماء. فمتى طال مكثه خارجها مات. وبعض الآباء قالوا: إن القلاية تشبه أتون بابل تحفظ من هو داخلها وتحرق من هو خارجها. إذاً يجب أن نحتفظ بما قاله القانون ولا نخرج منها إلاّ لسبب واجب.
الفريضة الثانية: ولا يساكن في قلاّيته أحداً
– ومن جملة فوائد القلاّية هو الهدوء والسكون. وهذا لا يتم بسكنى الإثنين معاً، بل بالإنفراد خاصة وبه تقوى النفس على عمل التأملات الروحية والصلوات الإلهية الخشوعية كقول ربنا تعالى: إذا صليت إدخل مخدعك واغلق بابك، أي إنفرد وحدك، وصلّ بهدوء. وقال القديس باسيليوس: يجب أن نثبت في قلالينا بهدوء ونتحدث مع ذواتنا ونفتش أفكارنا وننزع الغلط والخطأ من نفوسنا. وحكي عن الأب أرسانيوس أنه كان لا يترك أحداً يدخل قلايته ليزوره إلاّ قليلاً جداً، خوفاً من أن يفقد الهدوء.
– ومن الظاهر المعلوم إن أحدنا متى شاء أن يصلي في قلايته بخشوع ودموع، يعسر عليه ذلك عند وجود غيره معه. بل والإجتماع أيضاً في ذاته يجلب الكلام والدالة اللتين غير ممكن أن يصير معهما صلاة نقية أو خشوع حقيقي، كقول القديس السلّمي: إن مرات كثيرة ينقض النوح كلمة واحدة.
– والدالة تدعى عند الآباء مفسدة الفضائل كلها. وربما يصدر أيضاً، من قبل السكنى معاً، البغض والحقد عندما يستثقل الواحد أحوال الآخر، كما قد يمكن أن يحدث من وجوه كثيرة. وربما الدالة النجسة تولد بنين أوفر نجاسة منها.
– فمن قبل هذه المخاطرات ومثلها حتّم القانون بأن لا يساكن الراهب في قلايته أحداً، ليتمكن من عمل الخير ودفع الشر بالوجه الأسهل، كقول القديس باسيليوس: وجب إفتراقنا بالقلالي لنقدر أن نقهر العوائد الردية التي لسيرتنا الأولى. أي إن كنت معتاداً على كثرة الكلام والمزاح أو الدينونة أو الدالة أو طموح الحواس وما شاكل من الرذائل، الموافق لها الإجتماع فلن تقدر أن تبتعد منها وتتناساها إلاّ بالجهادات المقترنة بقطع الخلطة من الناس، وأن يكون لك قلاية هادئة ذات سكون لكي بواسطتها تقوى على الصلاة والتأمل والخشوع، الذي هو روح كل الفضائل وقاتل كل الرذائل، كقول القديس السلّمي: إن نحن عملنا أي عمل كان من الفضيلة، ولم نمتلك معه قلباً متخشعاً، فعملنا كله باطل ضائع.
– إذاً جيد هو أن نحتفظ بما أمرنا القانون أن لا نساكن في قلايتنا أحداً معنا ليتسهل لنا عمل العبادة والخشوع.
الفريضة الثالثة: ولا يدخل قلاّية أخيه إلاّ عن إذنه
– هذا نوع من التواضع والأدب أن نستأذن غيرنا على الدخول عنده. وكما أننا لا نلبس ثوب أخينا ولا نمس عمله إلا عن إذنه، هكذا أيضاً من الواجب ألا ندخل قلايته إلاّ عن إذنه.
– وإن تأملنا، نجد في هذا العمل أحوالاً توجب عمله كثيراً، منها: ربما يكون صاحب القلاية غائباً، فتدخل أنت لوهمك أنه فيها، فيحدث من دخولك أنواع من الشكوك. وقد يكون أيضاً صاحب القلاية داخلها لكنه لا يريد حينئذ دخولك عليه لأسباب تغيظه. فإذا أنت دخلت حركته إلى أن يتكره منك ويبغضك. وربما أيضاً يلحقك أنت الخجل والحزن عند معاينتك أخاك بحالة تخجله، إذ ربما يكون عرياناً أو بشكل آخر، معاينته تخجل.
– فهذا ومثله أوجب على الراهب أن يستأذن بالدخول على أخيه. وهو الذي جعل الآباء أن يوحوا بذلك ويأمروا به، كما يقول القديس أفرام في مقالته السادسة: لا تدخل قلاية أخيك قبل أن تقرع بابها، وفي موضع آخر: يجب على الراهب، إذا ما دنا من باب الأخ، أن يقرع ويصنع مطانية. فإذا أمر بالدخول، يدخل. ومن هذا نأخذ المعنى، بالنتيجة، أنه ينبغي للداخل أن يقرع الباب بمقدار ما يسمع الأخ فقط، ويجيبه ذاك بالصوت، من داخل، بمقدار ما يسمع فقط، ويقول: أدخل. وحينئذ يدخل. لأن هذا السلوك واجب جداً لمناسبة الأدب والحشمة والترتيب اللائق بسيرة الدير المشترك معاشه. وهو تمام غرض القانون. ومن تجاوزه يخطئ ضد الأدب والتواضع وضد القانون.
الفريضة الرابعة : وإذا دخل أحد عليه في قلاّيته فليترك بابها مفتوحاً إلى أن يخرج
– غلق الباب على الإثنين معاً لا يخلو من الضرر، لأنه إمّا أن يكون عن حال واه، إمّا يحدث شكوكاً. فلذلك لا يجوز لك أيها الأخ أن تغلق باب قلايتك عند دخول أخيك عليك. قال الله من يمشي في النور لا يعثر. وقال الرسول أننا أبناء نهار لسنا أبناء ليل. فالنور والنهار نفهم أنهما البساطة، والليل هو الخبث. فالراهب البسيط في همته المستقيم عزمه، يعمل أعماله كلها في ضوء وتوضيح، بمعزل عن الشكوك والظنون. أما الخبيث والمعوج في عزمه، فيسعى بالإضطراب دائماً ويطلب الإحتجاب والإختفاء في أعماله، فيحصل في ليل وعتمة، عند ذاته وأخوته ورئيسه. وهذا، يشبه حشرات الأرض لا الناس، لأن الناس تطلب الضوء وتفرح إذا انفتحت عليها الأبواب المغلقة، أما الحيات والعقارب فتفرح إذا أنت سترت عليها وحجبتها.
– هكذا الراهب الخبيث. فإنه عندما يمزح ويضحك ويعبث بحركاته وعمل الدالة الممقوت، يطلب الإحتجاب لعلمه أنه مكروه بأعين أخوته ورؤسائه. فإذا هو وجد من يوافقه على قبح صنيعه، دخلا معاً القلاية وأغلقا بابها طالبين الإستتار، نظير آدم في الفردوس. فالله تعالى نادى: آدم أين أنت؟ فأجابه: سمعت مشيك فاستترت لأني عريان. فقال له الرب: من أعلمك أنك عريان؟ وهكذا يقول الرب للراهب الغالق بابه وأخوه عنده: من أعلمكما أن إجتماعكما ردي حتى غلقتما عليكما الباب؟
– قال القديس السلّمي: انه رأى عند رئيس دير التوبة عادة حميدة وهي أنه كان يرتب رهبان أفاضل تدور الدير وتمنع أعمالاً وإجتماعات لا تليق. وهذا هو غرض القانون في هذه الفريضة أن يبطل ويمنع كل إجتماع غير مفيد وكل صحبة ألمية. وإذا كان الإجتماع لا بد منه، فليُترك باب القلاية أو البيت، الذي فيه الإثنان معاً، مفتوحاً لا مغلقاً.
– فإن أنت زعمت أنك خال من خبث النية وسلمنا أنك كذلك، يبقى أن غلقك الباب، وأخوك عندك، يحدث شكوكاً؛ ثم يتماثل بك الراهب الخبيث العزم، وعلى يدك يتسهل له الشر. وإذا حدث في الدير مثل هذه الشكوك، فكم تكون الخسارة!
– إذاً، الواجب هو حفظ القانون بأن نترك باب قلايتنا مفتوحاً عند دخول أخينا علينا إلى أن يخرج.
الفريضة الخامسة : ولتكن تفتح بمفاتيح قلالي إخوته
Discussion about this post