الصلاة هي إقتران العقل بالله تعبداً. وهي وصية إلهية قد جاءت في الإنجيل المقدس مرات عديدة. وهي ضرورية جداً لسيرة العبادة وخاصة لرفع التجارب، كقوله تعالى: صلّوا لئلا تدخلوا في التجارب. ولا تخلو من أن تكون إما شكراً أو طلباً. وكل من الشكر والطلب، لا يخلو من أن يكون إما بالعقل فقط، وهي الصلاة العقلية؛ إما بالعقل واللفظ معاً وهي الصلاة اللفظية. والصلاة، عقلية كانت أم لفظية، تنقسم في ذاتها إلى ثلاث درجات:
الدرجة الأولى هي جمع العقل مع الله تعالى بتعب كثير.
الدرجة الثانية هي جمع العقل مع الله تعالى بتعب قليل.
والدرجة الثالثة هي جمع العقل مع الله تعالى من غير تعب البتة. ولنتكلم في معنى واحدة فواحدة منها. فأولاً:
الدرجة الأولى
وهي جمع العقل مع الله تعالى بتعب كبير
إعلم إن جمع العقل في الصلاة هو إتصالها، أي إتصال التمجيد والطلب من الله من غير إنقطاع، ما دامت الصلاة. وهذا هو المقول من الآباء في تعريف الصلاة: إنها إقتران العقل بالله والملاصقة له، أي المخاطبة له، عزّ وجلّ، وإتصالها بتمكّن الإتصال. وهذا الإتصال من عادته أن يكون متعباً للمبتدئ بفضيلة الصلاة. وسبب التعب هو أن الأفكار الغريبة تعرض على عقله بتواتر، فيطردها ويحصل له، من قبل طردها المتواتر، التعب الكثير. وحقيقة هذا التعب، ليست من قبل طرد الأفكار على الإطلاق، بل من قبل طردها بالنوع الذي ليس فيه تنازل نحوها البتة. لأن من يتعب بطرد الأفكار الغريبة من صلاته بعد قبولها أو بعد السبي أو التنازل معها فذاك لا يعدّ من أصحاب هذه الدرجة ولا هو من رتبة المصلين الحقيقيين بل هو من الخارجين عن رتبة الصلاة الحقيقية وعن حدود عملها. وتعبه يتميّز عن تعب أصحاب الدرجات المختصة بالصلاة لأن خاصة تعب أصحاب الدرجات هو التحفّظ من التنازل والسبي مع الأفكار الغريبة مطلقاً. وبهذا النوع يصدق القول على الصلاة أنها متصلة التمجيد والتضرّع وغير منقطعة ومقترنة بالله الإقتران الصادق.
فإن قلت أن التمجيد ينقطع ضرورة عند طرد الفكر ولو كان الطرد بغير تنازل، أجبتك إن طرد الفكر الغريب لما يكون بكل القوَّة من غير تنازل نحوه، يحسب صلاة ونوعاً من أنواع تمجيد الله، كما يجيء بيانه. وهكذا يصح القول أن صلاة هذه الدرجة، كونها بمعزل عن التنازل مع الأفكار الغريبة، هي متصلة وغير منقطعة البتة.
فإن قلت: وأيّ عيب يلحق الصلاة إذا هي انقطعت بالتنازل مع الأفكار الغريبة ثم إتصلت؟ أجبت إن ذلك عيب كبير لها ونقص واضح. وبيانه إن الصلاة من حيث هي مخاطبة الله، فالقائم أمام الله يخاطبه إذا هو تركه والتفت يخاطب سواه، فكيف لا يكون هذا عيباً عظيماً ونقص إحتشام جسيم؟ لأن التنازل مع الأفكار الغريبة إنما هو إشارة الإلتفات نحوها. وهذا عيب واضح في مخاطبة الله تعالى. فإذا نحن حكمنا على الصلاة إنها فضيلة حقيقية فقد إلتزمنا بالحكم أنها مبرّئة من كل عيب لأن العمل المعاب لا يصح أن يكون فضيلة حقيقية. إذاً لا يصح القول على أن من يقلل الأدب فيتنازل لمخاطبة أفكاره ويترك مخاطبة الله أنه عامل صلاة حقيقة بل شكل صلاة.
وجميع ما قلناه، ينحصر في ثلاثة معاني:
الأول: إن المبتدئ بالصلاة يلحقه فيها حرب الأفكار الغريبة ويتعب في طردها كثيراً.
الثاني: يخصه عدم التنازل معها.
الثالث: يحسب له طردها بعدم التنازل معها صلاة. ولنأتي بإثبات ما قلناه شيئاً فشيئاً.
فأولاً في أن المبتدئ بالصلاة يلحقه فيها حرب الأفكار ويتعب في طردها كثيرا. فهذا المعنى جاء عنه في البستان، وغيره أخبار وأقوال كثيرة، تدل عليه وتحققه، منها قول جمهور الآباء: أنه ليس علينا من الأفكار إذا دنت منا بل علينا إن قبلناها أو تنازلنا معها. إذاً حيث ليس تنازل فليس عيب. وهذه هي صلاة المبتدئين. وقد شبّه القديس السلّمي المبتدئين وصلاتهم بمروضي الأطفال. فقال: متى كنا لم نستقنِ صلاة واضحة فإننا إنما نماثل الذين يروضون الأطفال في مبادئ مشيهم. فالصلاة الواضحة يريد بها الصلاة الكاملة الواضح سهوها وإتصالها. قال: إن هذه ما دامت غير موجودة فصلاتنا تكون مثل مشي الطفل، كثيرة التعثر والسقوط. أي مرات كثيرة نقطع مخاطبة الله تعالى ونتشاغل في حرب الأفكار الغريبة وطردها، شبه الذي يمشّي الطفل ويسنده وينهضه بمداومة. ومن هنا يلحقه التعب الكثير العظيم. لكنه لا يُعاب على ذلك بل يُتشفّق عليه.
والقديس المذكور يشجّع صاحب هذه الصلاة على هذا التعب بتعزية بقوله: جاهد في أن تصاعد همتك لتحبسها في ألفاظ صلاتك. فمتى ما ضعفت بسبب طفوليتها وسقطت من الصلاة، فأدخلها إليها أيضاً. فإنّ خاصة عقلنا عدمه أن يثبت واقفاً. وممكن عند المقتدر أن يثبت البرايا كلها، أن يثبته- إنتهى كلام القديس. وكأنه يقول: إصبر، يا أيها المصلي، على تعب الصلاة الأولى وجاهد فيها بكل القوة ولا تضجر من عروض الأفكار الغريبة على عقلك، بل كلما مرّت اطرحها ولا تتهامل بطردها. ولا تعظم لديك هذه الحرب وتستغربها فإنها ناتجة عن سببين واضحين، ومنهما تتحقق أن هذه الحرب وهذا التعب ليسا بغريبين عنك.
فالسبب الأول هو لأنك قائم في أولى درجات الصلاة التي تشابه مشي الطف.
والثاني لأن خاصة عقلنا هي أن لا يثبت واقفاً. ولكن ليس ذلك ممتنعاً بالكلية بل الله قادر أن يثبته ويجعله أن يقف متمكناً غير منسحب ولا متسجس من عروض الأفكار الغريبة وذلك حين ينعم عليه بالخروج من هذه الدرجة والإرتقاء إلى ما فوقها من الدرجات. ومن هذا القول يفهم كل واحد أن صلاة المبتدئ هي متعوبة بطرد الأفكار وهذا هو معناها الأول.
أما معناها الثاني فهو أن تعبها لا يتجه حقيقته من قبل طرد الأفكار على الإطلاق، بل من قبل طرد الأفكار مع عدم التنازل إليها. وهذا المعنى قد أوضحه أيضاً القديس السلّمي بأوضح البيان. وقد قال مخاطباً المصلي: نعم أقول لك متى إستقنيت، على الحقيقة، الجهاد خلواً من نقص وتقصير فسيحضر فيك من يحصر بحر عقلك ويقول له: في صلاتك إلى هذا الحد توافي وما تتجاوزه. أي إن عقلنا وأفكاره كالبحر يمتنع حصره. لكن متى ما جاهد المصلي بطرد أفكاره بكل قوته ولم يتنازل البتة ومارس العمل ودام فيه معها كما هو الواجب فحينئذٍ يحضر الله فيه ويأمر أمواج أفكاره أن تقف ولا تتجاوز حدوداً جديدة يضعها لها عقلنا غير حدود هذه الدرجة. وحينئذ لا يعود يخشاها يبس عقلنا. أي يصير لا يتعب كثيراً بطرد الأفكار الغريبة ولا يخافها إلا قليلاً.
وعن هذا المعنى نفسه قال أيضاً القديس نيلوس: إذا قمت تصلي فلا تسمح أن يدخل إلى قلبك فكر يميني أو شمالي سوى الطلب من الله والنظر إليه والإشراق المتكون من السماء والإشتغال بعمل الصلاة العظيم نفعه لأن هذا هو أصل زوال الموت- إنتهى كلام القديس- فقوله لا تسمح أن يدخل قلبك فكر يميني أو شمالي يعني أن الأفكار لا بد من عروضها وحدوثها لكن عدم التنازل معها ممكن وليس بممتنع. فلذلك لا تتركها تدخل قلبك منغلباً لها ومتنازلاً معها، ولو كانت يمينية، أي جيدة روحانية. فإن ذلك يعيب صلاتك. وإنما المطلوب هو الإشتغال بما هو معنى صلاتك فقط.
قال: إن هذا هو أصل زوال الموت. يريد بزوال الموت الصلاة الكاملة وإختطاف عقلنا نحو الرب بالتمام الذي يتولد فينا من عدم تنازلنا مع الأفكار الغريبة في حين صلاتنا. أي إن الدرجة الثانية تتولد من العمل بالدرجة الأولى وذاك الغصن من هذا الأصل وتلك الثمرة من هذه الشجرة.
أما الذي يطرد الأفكار الغريبة بعد أن ينغلب لها أو يتنازل وينسبي معها فذاك لا يصل إلى زوال الموت أي لا يعطى نعمة الصلاة الكاملة لأنه لم يسلك أولاً في عمل الدرجة الأولى التي هي عدم التنازل نحو الأفكار، بل سعى في طريق الخارجين عن حدود الصلاة. إذاً هو ساقط من درجاتها كلها. وهذا قد نبّه عليه أبونا أنطونيوس بقوله: صلاة الكسلان كلام بطال. أي ليست بصلاة حقيقية. وعلى هذا النحو يقول القديس باسيليوس: إن الذي يرضى بتشتيت عقله في الأفكار الغريبة في صلاته ذاك يغيظ الله. ومضمون هذا الكلام إن الصلاة الحقيقيّة ليس فيها تنازل نحو الأفكار الغريبة. وهذا هو ثاني معنى الصلاة.
أما المعنى الثالث على ما سبق القول هو أن طرد الأفكار من غير التنازل معها يحسب صلاة. وبيانه من قول القديس السلّمي قال: إبتداء الصلاة هواجس مطرودة بلفظ مفرد منذ مبادئها. يريد باللفظ المفرد سرعة الممانعة للفكر منذ مبادئه مع ما يرى. أي إنّ المصلّي مع ما يعترض له الفكر، يطرحه حالاً ولا يتركه أن يستقر في الفهم راسخاً البتة بل يقتله ويميته. فهذا العمل يحسب صلاة تختص برتبة المبتدئ بالصلاة، كما حسب القتل الذي صنعه فنحاس ذبيحةً وبرّاً.
فإن قلت: إن هذا يحدث للمبتدئين والكاملين معاً، أجبتك إن الكامل لا تحاربه الأفكار إلاّ نادراً وقليلاً. لكن المبتدئ يُحارب بها كثيراً. فلذلك يختص بغلبة الأفكار. وقد شبّه الآباء صلاة المبتدئ بذبيحة إبراهيم المقبولة التي كانت الطيور تقع عليها وكان إبراهيم يداوم كشّها. وهكذا نحن ما دمنا نواصل طرد الأفكار من غير تنازل البتّة ونرجع إلى عمل الصلاة فصلاتنا تقبل عند الله ويعتدّها كالكاملة، أي متصلة غير منقطعة. وقد جاء عن القديسة بريجيتا أنها تعبت يوماً ما من طرد أفكارها كثيراً وحزنت لذلك جداً. فظهرت لها سيّدة الكل وعزّتها بهذه الكلمات قائلة: إعلمي يا إبنتي إن الشيطان بما أنه يحسد خير البشر بكل قوته فهكذا أيضاً يحسد عملهم الصلاة ويصرف جهده في منعها. ولذلك ينبغي لكِ أن لا تهملي صلاتكِ لأجل وساوسه بل دافعيها. ولك في مدافعتها ثواب عظيم- إنتهى الخبر–
ومن مضمونه ومضمون ما تقدم من القول فهمنا أن طرد الفكر في الصلاة هو صلاة. أي مفيد ومقبول قدام الله. وجملة الكلام إن إبتداء الصلاة جمع العقل مع الله تعالى بتعب كثير. وهذا تمام معنى الدرجة الأولى من الصلاة.
الدرجة الثانية
جمع العقل مع الله بتعب قليل
هذه الدرجة لا تتميز من التي قبلها إلاّ بعدمها التعب الكثير. وهي نعمة من الله لمن يمارس تعب الصلاة الأولى. وتتولّد ليس منها فقط بل ومن قتال الآلام وتهذيب كل عمل، كما هو المشهور عند الآباء: إن الصلاة مرآة الراهب وميزان نجاحه. أي بقدر نجاحك في قهر آلامك بقدر ذلك تكون راحتك في صلاتك. فإن كنت تتعب كثيراً في محاربة أوجاعك فتتعب كثيراً في جمع عقلك في الصلاة. ومتى صرت تقهر الآلام بسهولة فبسهولة أيضاً تجمع عقلك في صلاتك، كقول القديس السلّمي: إذا أنت توشّحت بالوداعة وزوال الغيظ فما تتعب كثيراً في تحرير عقلك في صلاتك من السبي. وقال أيضاً أن الصلاة تريّش بالأمانة والعفة. وقال جمهور الآباء إن المنغلب لألم من آلامه لا يقوى على جمع عقله في الصلاة كما ينبغي.
ومضمون هذه الأقوال إن جمع عقلنا في الصلاة يكون على مشابهة سعينا في أوجاع نفسنا، على أن الصلاة هي مرآتنا وميزاننا. إذاً من كان يرى ذاته منغلباً لأوجاع نفسه ويتوهّم أنه يصلّي كما يجب، فليتحقّق أنه مخدوع وبالأكثر إذا توهّم بنفسه أنه بلغ هذه الدرجة الثانية. لأنّ البلادة في الهمّة والفهم توهم المصلي أنه إرتقى إلى درجة من يقتدر أن يطرد الأفكار بسهولة. والحال إن هذه الدرجة هي نجاح الأولى وثمرة تعبها وعلامة القرب من إنعتاق الآلام أي إن مارست تعب الدرجة الأولى زماناً وبعده شعرت بنفسك راحة في صلاتك وقوّة زائدة في طرد أفكارك الغريبة ودمت في مثل هذا الحال زماناً فاعلم حينئذ أنك قد ارتقيت إلى الدرجة الثانية من الصلاة.
وقد يتفق لصاحب هذه الدرجة أن يتعب بعض الأحيان في جمع عقله وطرد أفكاره مثل الأولين. وأحياناًُ أيضاً يستريح في صلاته مثل الكاملين وذلك لحدّ توسطه ما بين الحالتين. لكن على الأغلب يقاتل أفكاره الغريبة ويطردها بسهولة وبقليل من التعب مثال أحد الراهبين الحديثين اللذين ترهبا عند الأب مكاريوس، كما أخبر هو عنهما. قال أنه رآهما في حال صلاتهما فكانت الشياطين بصورة الذباب يجلسون على فم الأخ الصغير وعلى عينيه. وكان ملاك الرب ماسكاً سيف نار يطردهم به ويحامي عنه، دلالةً على أن هذا الراهب كان يُقَاتل من الأفكار الغريبة، لكنه كان يطردها بقليل من التعب لأن الملاك كان يساعده ويكسر قوّة الشياطين عنه. فهذه هي الدرجة الثانية بالتمام. قال: أما الأخ الأكبر فلم تكن الشياطين تقوى على الدنو منه. وهذه هي الدرجة الثالثة.
الدرجة الثالثة
جمع العقل مع الله تعالى من غير تعب البتة
إن الأفكار الغريبة تدنو من عقل المصلي الكامل بالصلاة كعابر الطريق، لا تصارع ولا تقارن، بل تدنو على البعد وتذهب. وهذه هي نعمة الصلاة وتمام ثمرة تعبها. وقد يحقق لنا ذلك القديس نيلوس إذ قال: كما أن إقتران النار بالحديد يجعل لمسه ممتنعاً هكذا تجعل الصلاة المتواترة المتعبة عقل الراهب يتوقد لهيباً حاداً فيحصل لمسه ممتنعاً عند الشياطين. أي لما ندمن على عمل الصلاة ونجاهد في إتقانها في الدرجتين السابقتين نحصل من ذاك الجهاد، على نعمة هذا محلها حتى إن عقلنا يحصل بأعين الشياطين كالنار، ويخشى الخونة مذ ذلك الحين أن يدنوا منهلرشق أفكارهم الخبيثة.
وقد جاء في البستان أخبار كثيرة طبق هذا المعنى منها: أن أحد الآباء لما كان ينهض ويبتدئ في صلاته كانت الشياطين تنهزم في الحال خارج قلايته. وذلك، من حيث أنه لم يمكنهم أن يسجسوه بالأفكار، فما كانوا يطيقون الثبات مقابله واستماع تمجيده. نظير ذلك من الأخبار والشهادات يوجد كثيراً في الكتب الروحانية تدل أوضح دلالة على أنّ الصلاة الكاملة هي خالية من تعب الأفكار الغريبة وفنون صراعها وأن صاحبها في راحة وسلامة.
فإن قلت أننا قد نرى الآباء الكاملين مرّات كثيرة يشتكون من تعب عقلهم في الصلاة. أجبتك أن تعبهم في صلاتهم يتميزعن تعب صلواتنا من ثلاث جهات:
أولاً: إننا نحن غير الكاملين في الصلاة نتعب في صلاتنا من أول وقوفنا فيها لأن الأفكار الغريبة لا تتركنا مقدار تلاوة الصلاة الربانية بلا سجس. أما الكامل في عمل الصلاة إذا هو تعب فيكون ذلك بعد وقوفه ساعات عديدة. والأغلب إن ذلك يصيبهم من قبل ضعف الجسد وعجزه وضجره، كما يقول القديس نيلوس: قد يجتهد الشياطين الأردياء بكل حيلة لهم أن يجعلوا في المجاهدين كسلاً عن الدوام في الصلاة وعجزاً عن متابعتها لعلمهم أنها فعل مغتال عليهم- إنتهى قوله- فلم يقل أنّ الشياطين يجعلون على المجاهدين كسلاً في الصلاة على الإطلاق، بل قال يجعلون كسلاً عن دوام الصلاة وعجزاً عن متابعتها. أي أنهم إذا أطالوا الوقوف وملّ وكلَّ الجسد من التعب، حينئذ تقوى الأفكار الغريبة على إختراع السجس، كما جرى للقديس مكاريوس حين عزم أن يقف في صلاته خمسة أيام ولم يقف على ذلك، لأنه في اليوم الخامس ملّ وكلّ وأبطل الصلاة. وهذا خلاف الضعفاء مثلنا وخلاف كل من هو غير كامل في الصلاة الذين يلحقهم سجس الأفكار منذ إبتداء الصلاة.
ثانياً: إن التعب الذي يلحق الكاملين في الصلاة ليس هو دائماً من قبل أفكار غريبة تغتصبهم، بل أحياناً يكون من قبل يبوسة قلبهم عما هم معتادون عليه في الإستغناء بالإفهام وزيادة اللذة والرغبات الروحية. فهذه، بعض مرات تفارقهم ويحصلون في الصلاة كالناشفين من الحلاوة والعذوبة. فيتوجعون ويتحسرون ويستغيثون إلى الرب ليفرّج عنهم جماد قلبهم، كالقائل للرب: أنر عينيّ وأضئ ظلمتي، ونفسي كأرض بلا ماء.
ثالثاً: قد يمكن أن يعرض للكامل في الصلاة أفكار غريبة مسجسة وتتعبه. لكن ذلك قليلاً جداً ونادراً. وإنما، على الأغلب، إذا مرّت عليه الأفكار، فلا تكون إلاّ كعابر الطريق وإن هي قصدت محاربته فتتلاشى بلفظة واحدة وزجرة مفردة من غير تعب، كما دبّر الرب في سياسته مع الشيطان في الجبل حين سمح أن يدنو اللعين منه ليجربه ويعيقه عن صلاته. فطرده، تعالى، بكلمة واحدة من غير تعب وبقي ثابتاً في الصلاة مهاباً عند الشيطان كالنار لا يجاسر على الدنو منه البتة. وهكذا على مثاله يحصل كل كامل في الصلاة مهاباً عند الشياطين لا يهوون الدنو منه لإختبارهم كسره لهم وتهزيمه وقهره إياهم كما جاء في البستان عن أحد الآباء من أصحاب النظر الروحي أنه سمع الشيطان يقول لصاحبه: تعالَ معي حتى نذهب إلى ذاك الراهب النائم ونوقظه للصلاة ونطغيه كأنه يرى ملائكة. فأجابه الآخر قائلاً: ما أقدر أصنع هذا لأني أيقظته فقام وكسرني كسرة سوء بصلاته. وقد أخبر الأب بفنوتيوس أنه مرة سمع أحد الشياطين يقول للآخر: أنا أقاتل راهباً صبوراً، من زمان كثير، وكلما دنوت إليه حتى أزرع فيه أفكاراً رديئة يقوم في ساعته للصلاة فأخرج من عنده محترقاً- إنتهى الخبر–
– ومما قلناه يفهم كل إنسان أن صاحب الصلاة الكاملة هو في صلاته في راحة وسلامة ومعتوق من تعب الأفكار الغريبة ويسهل عليه طردها وطرد الشياطين معاً في غير أن يعتدّهم شيئاً. حتى ولا إلى الملائكة الروحانيين يلتفت وقت صلاته، كما جاء عن الأب فنوايل، إن الملاك وقف أمامه وقت صلاته نحو ساعة كبيرة. ولما رأى الشيخ لا يكلمه قال له: كلمني، يا أبي، فإني ملاك الرب أنا بتحقيق. فلم يجبه الشيخ بكلمة قط. وبعد زمان طويل، لما فرغ من صلاته، إلتفت إلى الملاك وقال له لا أحد من ذوي العقول يكون يكلم الملك فيتركه ويلتفت يكلم عبداً مثله، كما هو مكتوب: أنه لا ملائكة ولا قوات يفرزوننا من حب المسيح.
فهذه هي الصلاة الحقيقة المتصلة المتغربة من العالمين التي يسمّيها الآباء إختطاف العقل نحو الله، وإن كانوا، بعض الأحيان، يقصدون بإختطاف العقل صلاة السهو بالله. لكن التكنية بالإختطاف تعم الصلاتين معاً، خاصة أن هذه الدرجة لا تخلو من السهو بالله أحيانا.
وهذا قد أوضحه الشيخ القديس بقوله: إن صلاة الحركات لا تثبت بغير السهو بالله- يريد بصلاة الحركات، الصلاة التي كلامنا فيها ودرجاتها الثلاث القادرة على طرد الأفكار الغريبة. قال: هذه لا تثبت بدون السهو بالله، أي لا تخلو، وقتاً بعد وقت، من إختطاف العقل نحو الله على جهة السهو به والخروج من الذات بالتمام، كما كان يعرض للآباء الكاملين وقت صلاتهم فأولئك السعداء كان يعرض لهم ذلك طويلاً. وهؤلاء المصلّون وبالأكثر الكاملون بجمع العقل، يعرض لهم السهو قليلاً، وباقي صلاتهم تكون بفهم ألفاظ ومعاني الصلاة، كما أخبرنا تلميذ الأب أمون وقال: أني مرة كنت أتلو في صلاتي المزامير، فتعربس عقلي وعبرت كلمة من المزمور. فلما أكملنا الخدمة إلتفت إليّ الأب أمون وقال لي: يا بني أنا لما أقف في الصلاة أظن أني واقف في نار ألتهب وما يقدر فكري أن يميل يميناً ولا شمالاً، وأنت أين كان فكرك حين تركت كلمة من المزمور؟ أما تعلم أنك كنت قدام الله واقفاً وله تخاطب؟ إنتهى الخبر- ونتيجته أن الكامل بالصلاة يصلي ما بين مختطف ومتفهم ألفاظ صلاته.
ومضمون كل شيء قلناه هو أن الصلاة الكاملة المعتاد عليها عند الروحانيين، هي أن يجمع المصلي عقله كله في معاني صلاته من غير إلتفات إلى فكر غريب ولا يتعب في ذلك البتة. فإن قلت إن القديس السلّمي حدّد هذا المعنى للمتوسطين في الصلاة لا للكاملين، أجبتك: إن القديس قال ذلك نظراً إلى صلاة السهو بالله ووضعه لها درجة ثالثة. أما نحن فكلامنا نحو جمع العقل فقط، لحال أنّ السهو بالله ليس هو بيد المصلي وإنما هو فعل خصوصي لروح القدس وحده ويهبه لمن يشاء. ولأجل ذلك لا يقدر على الكلام فيه إلا من إختبره بالفعل. ثم ولا ذاك أيضاً يقدر على الكلام فيه كما يجب. ومن يريد أن يتحقق كلامنا فليقرأ كتب الآباء في معنى السهو بالله، لأن الشرح فيه لا يسعه هذا المختص.
وهذا آخر ما قلناه في معنى الصلاة، عقلية كانت أم لفظية، لأن الحدود الثلاثة التي تخص الدرجات الثلاث يصح إطلاقها على الصلاة مطلقاً، عقلية ولفظية معاً. ومن يشاء أن يرتقي إلى إحداهنّ فليروض عقله أولاً في عمل الوسائط المناسبة لإكتسابها كمرسوم الفرائض الآتي ذكرها وهي بالعدد ثلاث.
الفريضة الأولى: يجب على الراهب، في كل صباح ومساء، أن يصرف مقدار نصف ساعة أو ساعة في الصلاة العقلية عقب الصلاة اللفظية أو قبلها حسب شور الرئيس
تعيين الصلاة في الصباح والمساء، هو لأن الصباح ابتداء النهار، والمساء إبتداء الليل، والشيء يكون كإبتدائه غالباً. وهذا مشهور عند جمهور الآباء بأننا كما نكون في صباحنا هكذا نكون في نهارنا، وكما نكون في مسائنا هكذا نكون في ليلنا. فإن نحن إستفدنا من الصلاة، صباحاً، خشوعاً وتهذيب سجايا وحسن خوف الله، فهذا يلبث معنا نهارنا كله. وإن حصلنا على مثل هذه الفوائد عند المساء، فننحفظ في سهرنا وفي نومنا وفي ليلنا كله.
وتحديد الزمان للصلاة بنصف الساعة أو ساعة إشارة على أن نصف الساعة هي للضعفاء في الصلاة وأيضاً لضعفاء الأجسام، والذين لهم إهتمامات وإشتغالات مانعة عن طول القيام في الصلاة، أما الأقوياء قليلاً الذين لا مانع لهم عن الصلاة، فينبغي أن يصلوا ساعة كاملة لأنها لازمة لمن كان راغباً أن يمتلئ من الخشوع. والأولى أن نقول: إن الساعة ضرورية لتحصيل الخشوع، كقول القديس السلّمي أننا نحتاج نحن، بما أنه فاتنا أن نكون تامين، إلى كثرة كمية الصلاة مع إحتياجنا إلى كيفيتها، لأن توفرها يسبب نقاوتها. ومعنى كلامه أن الصلاة التامة التي تلهب قلبنا وتلصقه بالله وبمحبته، وجودها فينا قليل. فلذلك يلزمنا أن نطيل القيام في الصلاة إلى أن نحصّلها ولا تفوتنا فائدتها.
لكن لأن السيرة في الدير الجامع تقتضي المساواة، لا سيما لأجل المضي إلى المائدة عند العشاء الذي يكون بعد الصلاة، ولأجل أحوال أخرى غير المائدة، رسم القانون أن تعمل الصلاة العقلية حسب شور الرئيس، قبل الصلاة اللفظية أو بعدها، حتى يوافق حضور الكل بالسواء، أي المصلين ساعة ونصف ساعة، كترتيب الرئيس.
هذا ما قلناه في ترتيب أوقات الصلاة. أما ما نقوله في ترتيب عملها فهو هذا:
إعلم أن الصلاة، عقلية كانت أم لفظية، فهي شكر وطلب لا غير، كما هو واضح في كتب الآباء جميعاً. والشكر والطلب يتقدّمهما عملان ويصحبهما ثلاثة: يتقدّمهما إستعداد وإستحضار الله، ويصحبهما التواضع والنشاط والإحتشام.
أوّلاً: الإستعداد
وهو نوعان: بعيد وقريب:
فالبعيد هو التوبة والندامة على ما نحن فيه من الخطأ والحقد وكل نية خبيثة، لأنه تعالى قال: إذا قمتم تصلون إغفروا لمن لكم عليه. وقال على لسان النبي: إن المنافق إذا قدّم لي عجلاً فهو كمن يقدّم كلباً. وقد كتب أيضاً في الإنجيل المقدس أن الله لا يسمع للخطأة. إذاً الصلاة يلزمها أن تتقدمها التوبة. وبالنتيجة نفهم ذلك أنه إصلاح السيرة، من حيث أننا نصلي كل يوم مرات عديدة: فيلزم أن نكون فاعلين فعل الندامة لإستعداد الصلوات دائماً. وهذه هي السيرة الصالحة عينها. إذاً السيرة الصالحة هي إستعداد الصلاة الحقيقي.
وقد حقق لنا ذلك القديس أغوسطينوس بقوله: إن من يعيش كما يجب يصلي كما يجب. وهذا هو الإستعداد البعيد.
أما الإستعداد القريب، فهو أن نفكر، قبل الصلاة، بما يجب أن نطلب ونسأل الله في صلاتنا، لأن الذي يدخل على الملك ليسأله شيئاً ولم يكن يعلم ما يسأل، يُعدّ دخوله جسارة وحقارة بالملك ويحركه للغيظ عليه، بدلاً من الرحمة. وهذا قد نبّه عليه القديس السلّمي قائلاً: فجميعنا الذين نمضي لنقف لدى ملكنا وإلهنا ونخاطبه ينبغي لنا أن لا نجعل سعينا خالياً من الإستعداد، لئلا يبصرنا الملك من بعد لسنا مالكين أسلحة الوقوف بحضرته ولا حلّة ملكية، فيوعز إلى خدامه وغلمانه بنفينا مكتوفين إلى موضع شاسع عن وجهه، ويردّ رقاع رسائلنا مخزقة أمام وجوهنا. إنتهى كلام القديس.
ومعنى قوله بالحلّة الملكية هو التوبة السابق ذكرها والمغفرة للقريب. أما الأسلحة المناسبة للوقوف بحضرة الله فهي أفعال الرغبة بمشيئته تعالى. وكأنه يقول: كما أن القائمين أمام الملك الأرضي لهم ثياب وأسلحة مختصة برتبتهم، هكذا المصلي له أن يكون غفوراً لمن أساء إليه تائباً عن الشر ساعياً مع مشيئة الله لا مع مشيئة غريبة. وعن هذا يقول القديس باسيليوس: إذا نحن وقفنا نصلي، فلنحذر أن لا نطلب شيئاً عوض شيء. أي لا نطلب أموراً جسدانية لا يريدها الله عوض أمور روحانية يريدها الله. والعلماء بالسيرة الروحية قالوا: ينبغي للمصلي أن يطلب الألزم له. وهذا هو الطلب لمشيئة الله لأن الله يريد الألزم لنا. إذاً طلب الألزم وطلب مشيئة الله معنى واحد، والإستعداد لهما واحد. والرب قد حثنا على هذا الإستعداد بقوله: إذا وقفتم تصلون قولوا لله لتكن مشيئتك. ومشيئته تعالى في الراهب هي، على الأغلب، العمل بفرائض القانون.
ومن تأمل ذلك جيداً يفهم ما قلناه ويفهم أن هذه الهمة للمصلي هي كالسلاح المناسب حمله لمن يقف قدام الله. وجملة الكلام: إستعداد الصلاة هو رفض الشر مطلقاً والعزم على طلب ما نظنه يشاؤه الله. هذا هو عمل الصلاة الأول. والعمل الثاني هو:
ثانياً: إستحضار الله
أي بعد أن نكون إستعدينا الإستعداد السابق شرحه ووقفنا لنصلي، فأولاً يجب أن نستحضر الله أمامنا. وهذا الإستحضار نوعان: تجريد وتشخيص.
فالتجريد هو أن نفطن بأن الله تعالى يملأ السماء والأرض ويحويها وينظر ويصغي إلينا، من غير أن نفكر بما هو، وكيف هو. والتشخيص، هو أن نتصوره كملك أو قديم الأيام، كما رآه دانيال، أو ممجداً بنوع من الأنواع أو مصلوباً، أو في حضن والدته، وأمثال ذلك من أنواع التشخيص، وأنه ناظر صاغ إلينا. وهذا العمل مشهور عند الآباء كثيراً، والكتب مملوءة منه.
ثالثاً: الشكر
وهذا لا يخلو من أن يكون، إما شكراً وتمجيداً أو تسبيحاً ينشأ من القلب فقط، أو معه حركات حسية، كالسجود وقرع الصدر وما شاكل ذلك من حركات التضرّع؛ وإما أعترافاً بالخطايا وإقراراً بالضعف وباقي أفعال التواضع التي مضمونها تمجيد وتعظيم لله وترفيعه تعالى. وهذه هي وصيته القائلة: إذا صليتم قولوا: ليتقدس إسمك. ومثل ذلك أوصانا جميع الآباء الروحانيون بأن نفتتح مخاطبة الله بالتمجيد والشكر لا بالطلب والتضرّع وإن كان جائزاً، لكنه غير لائق.
رابعاً: الطلب
أي بعد أن نشكر ونمجد فلنطلب ما قد إستعدينا لطلبه. وهو، كما سبق القول، ما نظنه أنه مشيئة الله والذي يُرى لنا أنه الألزم لنا من حيث خلاص الروح، كقوله تعالى: إطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا جميعه تزدادونه. وإن كنا نؤثر أن نطلب أشياء جسدانية تُرى لنا كأنها ضرورية، فأولاً نطابق مشيئتنا بمشيئة الله ثم نطلب ما نريد، إذ نقول نظير الأبرص: يا رب إن شئت فليكن هذا. والطلب هو وصية إلهية، لأنه تعالى قال: سلوا تعطوا إطلبوا تجدوا.
خامساً: التواضع
وهو نوعان: الأول طرح الدالة أي لا تخاطب ربك بالشكر والطلب كمن يخاطب صديقه وصاحبه، أو كمن هو غير مذنب إليه، بل كن كمجرم يخاطب الحاكم عليه وكعليل يبتهل إلى الطبيب ومثل فقير يسأل الغني الصدقة. وهذا قد نبّه عليه القديسون كثيراً. منهم القديس السلّمي. قال: لا تدل صلاتك ولو كنت تمتلك شيئاً من الطهارة والنقاء من الزلل. وليردعنا خبر الفريسي لئلا نصاب مصابه.
والنوع الثاني من تواضع الصلاة هو إجتناب الفصاحة والبلاغة في الخطاب وكل لفظ ومعنى ضخم، أي لا تتأمل في صلاتك بالأفكار المرتبة والأقوال المنتظمة على قواعد أهل العلم وإصطلاحات المنطقيين والنحاة وما شاكل ذلك مما يدل على جودة الفطنة ودقة العقل. فمثل هذه المخاطبة يمقتها الله لأنها لاتصدر إلا عن همّة متعظمة منتخفة تناقض الإتضاع الواجب للصلاة، وتخالف مخاطبة العبد لسيّده ومولاه. بل ليكن كلامك وأفكارك في صلاتك بنوع بسيط سهل وديع ممتزج ما بين الخوف والرجاء والمحبة. قال القديس السلّمي: لا تتحاكم في صلاتك بألفاظك فإن مناغات صبيان بسيطة، خالية من تلونها استعطفت واسترضت في أكثر الأوقات أبانا الذي في السماوات- إنتهى كلام القديس.
فإذا أنت صليت أيها الأخ بموجب نوعي التواضع المذكورين يجب أيضاً أن تحذر شيئين يدخلان عليك من النوعين نفسهما. وذلك أن لا تفرط في صلاتك بعمل طرح الدالة وطرح الأقوال المنتظمة وتسعى بغير إفراز، فتسقط في عملين رديئين، هما الكسل وقلة الأدب. وبيان ذلك أن المصلي إذا أفرط في المخافة من الله حتى صار يخشى أن يفتح فاه ولا يدري كيف يفكر ينسرق إلى الذبول والبطالة ويذهب الوقت بالباطل أو يستفيد قليلاً. وكذلك إذا أفرط في عمل البساطة في المخاطبة مع الله وطرح الترتيب بغير إفراز، ينسرق إلى التجزيف والهذر والخلط. فلأجل ذلك لزم المصلي أن يلاحظ مع طرح الدالة النشاط ومع طرح الكلام المنتظم، الحشمة. ومن هنا أضيف الى هذه العوامل الخمسة عاملان التي تساعد على الصلاة وهما:
سادساً: النشاط وطرح الكسل في مخاطبة الرب
والقديس باسيليوس عبّر عنه بالصبر لأنه يقول: إن الصلاة يلزمها الصبر. وهذا هو النشاط، لأن المقصود هو طرح الملل والكسل. وعنه يقول النبي: ملعون من يعمل عمل الرب بكسل. والرب نفسه أعطى العبد الكسلان الويل. والآباء جميعاً يوصوننا بمجاهدة عمل الصلاة وأن لا نملّ من الشكر والطلب ولا نجبن نظير قايين ونستعظم ونستصعب مخاطبة الله ونعرض عنها، بل بوقاحة ممدوحة تشاكل عمل الأرملة، ننشظ ذواتنا لدى القاضي الخائب من الظلم. وقد وضع لنا الآباء في ذلك مثالاً وهو موسى النبي لما كان يحارب عماليق، فكان لما يرفع يديه ينهزم عماليق ولما يرخيهما ينهزم شعب الله. هكذا المصلي إذا هو تناشط بالهمة والفكر نجحت صلاته وإذا هو تراخى وتجامد رذلت طلبته.
سابعاً: الحشمة
أي لا يجب أن نفكر أو نتكلم بلا رصانة ولا هدوء وما شاكل ذلك مما يضاد الحشمة بل لنقف في صلاتنا مع الله ونخاطبه بثقل رأس وجمع حواس وهدوء حركات ظاهرة وباطنة تليق بجلاله تعالى كأننا نتلطف بجوده لئلا نزعجه ونغيظ حلمه فيكرهنا ويشمئز منا ويستثقل الإصغاء إلينا. وفي هذا العمل، من حيث الباطن، يجب أن نكون بهمة ساكنة وأفكار هادئة كقول القديس نيلوس وباسيليوس والسلّمي وغيرهم القائلين بأن نتمسك كل حين بالسجية الهادئة الفاقدة الإرتجاف لا سيما وقت صلاتنا. أما من حيث الظاهر، فلنتمسك أيضاً بعدم الإنزعاج في حركاتنا الخارجة لا سيما بالكلام والألفاظ، أي لا نجعل بألفاظنا وننزحم في كلامنا. فهذا هو كثرة الكلام التي نهانا الرب عنها. ومثله كثير من الآباء ومنهم القديس السلّمي. قال: لا ترومنّ أن تكثر أقوالك لكيلا تشتت عقلك في إبتغاء ألفاظ التضرع. كلمة واحدة من العشار إستغفرت الله ولفظة واحدة مؤمنة خلصت اللص. وهذا الكلام في الصلاة أكثر الأوقات قد خيّل عقلنا وجزّأه وبدّده، والقول المفرد في طباعه أن يجمع، أكثر الأوقات، عقلنا، إنتهى كلام القديس.
ومنه إتضح لنا أن كثرة الكلام وكثرة المعاني والسرعة باللفظ يلحقها التخليط، لعجز العقل في إختراع الإفهام والألفاظ الجديدة. وإذا وقع الخلط والطياشة وقع نقص الأدب في شأن الله تعالى الذي نحن نخاطبه.
أما الكلام القليل والتأمل بشيء واحد واللفظ الغير المنزحم السهل المملوء هدوءاً أو راحة فذاك يمنح العقل سهولة الفهم والحس بهيبة الله. لأنه بمقدار ما الإنزعاج والإزدحام يسجس العقل، بمقدار ذلك يجمعه الهدوء والسهولة ويغنيه بالحس. وهذا الحس ضروري هو للصلاة أكثر مما سواه. وقد نبّه عليه القديس السلّمي حيث قال: ينبغي أن نعمل دائماً كل فضيلة بحس كثير، وأكثر من كلها الصلاة. والرسول يقول: إن كنت لا أدري بما أتكلم فإنما أكون بمنزلة من يخاطب الهواء. ومضمون الكلام هو أن ترتيب عمل الشكر والطلب إذا كان بإعتدال لا ينافي التواضع بل يوافقه جداً من حيث الحشمة والأدب. وإذا وقعت المبالغة في الترتيب واتصل إلى فخامة عبارة الكلام ودقة الإفهام فحينئذ ينسب ذلك إلى الإفتخار ومخالفة التواضع، كما سبق الشرح فيه.
وهذا تمام معاني أعمال الصلاة السبعة بالإختصار. فالمصلي الذي يصرف الساعة بموجب هذه الأعمال فقد صلى كما يجب. وإن هو جاهد واجتهد في أن يرتاض بعمل هذه الأعمال ولم يقوَ على ذلك، من قبل قساوة قلبه أو بلادة فهمه، ولم يقدر أن يشكر ويطلب باتضاح ونشاط واحتشام، بل يبقى بعد استعداده للصلاة واستحضاره الله، ناشف القلب يابس العقل، فهذا يلزمه حينئذٍ عمل التأمل والهذيذ المفيد للصلاة.
فإن سألت ما هو عمل الهذيذ؟ أجبتك إن الآباء الروحيين قد رتبوا لنا صناعة سهلة لتحريك قلبنا وقت يبوسته لعمل الصلاة، أي لعمل الشكر لله والطلب منه تعالى. وهذه الصناعة هي أن نتذكر أشياء صادقة نقتنع بصدقها تناسب مقصدنا في صلاتنا ونتفكر بها ونقلب تفكرنا بها وننقله على جهة تحريك الميل نحو المقصود من صلاتنا. مثلاً: كان إستعدادك في أن تشكر الله وتسبحه فقط من غير أن تطلب منه شيئاً، ووجدت قلبك جامداً بالكلية من عمل الشكر، فخذ بعمل التأمل والهذيذ المحرك إلى شكر الله وتسبحته وذلك مثل أن تفكر بعظم قوة الله كيف خلق العوالم بكلمة ويمسكها بكلمة ويفنيها بكلمة لأنه قال فكانت وأمر أن تثبت فثبتت وسوف يأمر أن تزول فتزول فهذا الفكر ومثله يحرك العقل إلى أن يمجد الله كما جرى للنبي لأنه لما تأمل هذه دعا لوقته كافة البريا إلى تسبحة الرب. ومثله صنع القديسون كلهم.
وكذلك إذا تأملت أعمال السيّد مثل تجسده أو إحتماله أو قيامته وأي نوع كان من سياسته المجيدة العجيبة تتحرك، من قبل ذلك إلى تمجيده، كما صار بالإمرأة التي لما نظرت آياته وسمعت كلماته إلتهبت في الحال بالغيرة على شكره إلتهاباً هذا مقداره حتى ما أمكنها الصمت أصلاً بل هتفت لدى الجموع وقالت الطوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين أرضعاك.
وكذلك هو الهذيذ بأقوال الأنبياء والرسل القديسين التي تحثنا على تمجيد وشكر الله كقول الرسول: على كل شيء وفي كل وقت تكونون تشكرون الله. وقول النبي أبارك الرب في كل وقت وكل حين. وأمثال هذه الأقوال التي التأمل بها يحرك القلب إلى تمجيد الله.
وإن أنت إستعديت لصلاة الطلب من الله، مثلاً: آثرت أن تطلب نعمة الطهارة. وعندما شئت أن تبتدئ بالتضرع والطلب وجدت قلبك يابساً لا يتحرك لمخاطبة الله فحينئذ خذ بالتأمل بما يحركك إلى نحو مقصودك هذا. مثلاً: أذكر أن الرب يسوع كان بتولاً طاهراً وكذلك إنتخب أمه السيّدة بتولاً وأحبّ يوحنا أكثر من باقي رسله لأجل طهره وبتوليته. والرسول قال أشاء أن يكون الجميع مثلي أطهاراً بتولين وقس على ذلك. وإذا كنت تريد أن تطلب من الله الخلاص من شر الزناء فاذكر المصائب التي نزلت بالعالم من قبل الزناء كالطوفان وحريق سدوم والخمس مدن وهلاك كثيرين من إسرائيل وغيرهم وبلوة داود وشمشون ووصية الله القائلة لا تزن وقول الرسول إن الزناة لا يرثون ملكوت السماء وأمثال ذلك. فمن هذا الهذيذ يتحرك القلب إلى طلب الطهارة وبغض الزناء ويتسهل ذلك جداً. وفي هذا قال النبي: في هذيذي تتقد النار. أي نار الرغبة والميل تتقد نحو الشيء لما نستعمل الهذيذ والتأمل به. وهذا الهذيذ كما سبقنا وقلنا نحتاج إليه لما يكون قلبنا بارداً وعقلنا جامداً في عمل الصلاة أي في التسبيح والتضرع أما إذا كان القلب مستعداً ومؤثراً ذلك فحينئذ لا حاجة لنا إلى هذيذ وتأمل. بل بعد أن نستعد ونستحضر الله فلنبتدئ في الحال بالتمجيد والإبتهال بتواضع ونشاط وإحتشام إلى أن يكتمل نصف الساعة أو الساعة حسب مرسوم القانون.
وها هنا شيء يجب التنبيه عليه وهو أنّ المصلي متى رأى قلبه غير راغب الصلاة أي غير مضطرم بالشوق نحو الصلاة لكنه قادر على أن يصلي من غير شوق وله إرادة بذلك فحينئذ لا يلزمه الهذيذ والتأمل لأن الإرادة وحدها تكفيه لعمل الشكر. والإبتهال بلا شوق أوفق له من أن يصرف وقتاً كبيراً من النصف ساعة في التأمل، وليس بمعلوم أنه يعطى بعده الرغبة والشوق، أو إذا أُعطي ذلك، يبقى له وقت يكفي للشبع من الصلاة.
وهذا الشبع إعتباره لازم لأن الآباء توصينا به كثيراً، كقول القديس السلّمي: لا تخرج من صلاتك إلى أن تبصر نار الخشوع وماء الدموع قد إنتهيا إلى غايتهما بأفضل سياسة. أي إذا شبعت النفس من التمجيد والطلب حينئذ إقطع صلاتك. إذاً لأجل هذا الشبع يجب أن لا نصرف من النصف ساعة أو الساعة، شيئاً في التأمل، إلاّ لضرورة. أي عند يبوسة القلب بالكلية حيث لا تقوى الإرادة على أن تظهر وتفعل فعلها. لكن متى كانت الإرادة تفعل فعلها بسهولة من غير حرارة شوق فهذا يكفي لعمل الصلاة لأن حرارة الشوق ليست ضرورية لعمل الصلاة. وهذا تمام ما قلناه في معنى الصلاة المقصودة من القانون في هذه الفريضة الأولى.
الفريضة الثانية: وله أن يجتمع مع بعض الإخوة في الكنيسة أو ينفرد وحده في قلايته.
الغرض من هذه الفريضة هو تلافي الضعفاء كثيراً وما يعرض لهم في الصلاة من الضجر والملل. فهؤلاء ينفعهم الإجتماع في الصلاة مع غيرهم في الكنيسة من جهتين:
الأول لأن الصلاة قدام القربان المقدس تطرح على العقل هيبة الله وإحترامه لتصوره تعالى أنه حاضر ناظر حضوراً متميزاً عن المعتاد. وبهذا ينهزم شيطان الضجر والملل المتلف صلاتنا، كقول النبي: كنت أسبق فأنظر الرب عن يميني لكيلا أقلق. أي عند شدّته وضيقته كان يسبق يستحضر الله قريباً منه. ومن هذا الإستحضار كان يقوى على الضيقات، وهكذا ينطرد الكسل المضر من هيبة القربان المقدس لما نصلي أمامه.
ثانياً إن الإجتماع في الصلاة في الكنيسة يطرد أيضاً الضجر عنا من جهة الحياء والإحتشام من بعضنا بعض على ما يقتضيه الطبع في كل إنسان. وقد جاء عن القديسة تريزيا أنها وضعت على راهباتها قانوناً أن يعملنّ الصلاة العقلية جملة في الكنيسة. وذلك لأنها رأتهنّ ينعسنَ فيها ويتراخينَ جداً عند إنفراد كل واحدة منهنّ على حدتها. وقد أصابت القديسة بما رسمت، لأن التراخي والنعس بالصلاة يغيظ الله جداً، كما حكي عن راهب كان معتاداً أن ينعس في صلاته لفرط توانيه، فظهر له مرة السيّد المسيح مصلوباً على صليب وقفاه نحوه. فلما عاينه الراهب طلب منه أن يريه وجهه. فأجابه السيّد أنك لا تستحق أن ترى وجهي لكونك متوانياً في صلاتك. إنتهى الخبر. ومنه نفهم أن الإجتماع في الصلاة لعلة طرد الكسل هو عمل مفيد.
فإن قلت معترضاً أن الصلاة على إنفراد هي أوفق لدفع العجب، أجبتك إن الحكم عند الآباء هو أنّ الضعيف ليس له أن يهتم كثيراً بدفع العجب في حين عمله الفضيلة اللازم عملها، كون ذلك ممتنعاً عليه، بل يحتاج مرات كثيرة أن ينغلب للعجب ليغلب في عمله غيره من الأوجاع، كما صنع القديس السلّمي، مما حكاه عن نفسه أنه مرة، وهو شاب، إنغلب في حين جلوسه على المائدة للعجب، ولم يأكل كفايته. وبهذا غلب داء الحنجرة. ومرة كان يصلي وملّ في صلاته فدخل عليه زائر غريب فحس لوقته بزوال الضجر من قبل العجب واشتدّ بعمل الصلاة. ونتيجة القول إن قتال العجب وقهره بالتمام يخص غير المبتدئين لأن المبتدئ يعسر عليه دفعه ولذلك إن أمكننا أن نصلي على إنفرادنا من غير توانٍ فلنصلِّ وإلاّ فلنصلِّ جملة في الكنيسة من غير إلتفات إلى خطر العجب لأن هذا أوفق من أن ننفرد وحدنا ونضيع الصلاة بالرخاوة والملل.
أما الذي قد اختبر ذاته وعرف أنه يقوى على طرد الضجر والتضجيع في الصلاة في قلايته، فجيد له الإنفراد وحده. لأن الإنفراد يوافقنا لعمل ثلاثة أشياء: الأول جمع العقل، والثاني طرد العجب، الثالث إستعمال الحركات الخارجية مثل التنهد وقرع الصدر ورفع العينين واليدين إلى السماء والسجود وباقي حركات الخشوع. ثم نعرف فائدة الإنفراد في الصلاة من عمل إلهنا، لأنه تعالى كان ينفرد في صلاته. ثم علمنا ذلك بقوله: إذا صليت أدخل مخدعك وأغلق بابك وصلِّ لأبيك سراً. وهكذا صنع أكثر القديسين الأفاضل حتى لا أقول كلهم.
ومن هذا القول ينبغي لكل منا أن يميز ذاته في صلاته أو يستشير مرشده ويصلي بالنوع الذي يوافقه مع بعض الإخوة في الكنيسة أو منفرداً في قلايته وحده، كما رسم القانون.
الفريضة الثالثة : ولا يستعمل هذه الصلاة أحد من أصحاب الخدم المتعبة دون إذن الرئيس.
أصحاب الخدم المتعبة هم: الفلاح والحصاد والحداد والحجار والطباخ وما أشبه ذلك من الذين يُخشى عليهم من المرض لحال ثقل عمل أيديهم وانتصابهم في صلواتهم اللفظية والعقلية معاً. ولأجل هذا الخطر سمح القانون بإعفائهم من الصلاة العقلية وأن يكتفوا بعمل الصلاة اللفظية وحدها. لكن لأنّ الطبائع ليست كلها بالسواء، إذ قد يوجد أناس ممتلكون ملكة إحتمال التعب، كما قال فيهم القديس السلّمي وأخبارهم مشهورة، وبهذه الملكة تأيدت نفوس الشهداء، فهؤلاء قادرون على أن يتعبوا بالأعمال الجسدانية ويكملوا الصلوات اللفظية والعقلية بالتمام ولا يلحقهم ضرر. ويوجد غيرهم يكلفون أنفسهم فوق طاقتهم مثل الأولين. ويوجد آخرون يفعلون ذلك لغرض العجب والمجد الباطل ولغرض فاسد. ويوجد من هو قادر على هذه الصلاة والتعب لصحة جسده وموافقة رتبته في عمله ويتكاسل في ذل..
فمن قبل هذه الإختلافات رسم القانون أن يكون عمل هذه الصلاة، حسب رأي الرئيس ومشورته للمتعوبين خاصة، لئلا يؤول أمر بعضهم إلى المرض أو إلى الضجر والرجوع إلى تلف الصلاة العقلية واللفظية معاً. ثم ينقلبون إلى الإنهدام التام، كما جرى لكثيرين. وقد يحسن بالرئيس، إذا هو رأى راهباً، من أصحاب الخدم المتعبة، يغار لعمل الصلاة العقلية، وخشي عليه من مرض جسمه أو من الضجر، أن يسمح له بها. لكن لا يكلفه للإنتصاب فيها بل يسمح له أن يربض أو يجلس، وأن يستعمل بدلاً من الصلاة العقلية، صلاة لفظية أو تأملاً وتلاوةً في كتاب روحي. وإن لم يكن ذلك فليسمح له أن يصلي ولو متكئاً على وسادته ويسبح بمسبحته، لأن الصلاة ليست بموقوفه على الترتيب والإنتصاب، بل على إدراك الحق ورغبة النفس نحو الله.
وقد كان الآباء لا يقطعون الصلاة الدائمة. أي يصلون في كل مكان وأوان، حتى في حين أكلهم وشربهم، كما هو واضح في البستان وغيره، من غير أن يلاحظوا ترتيب القيام والوقوف. لا إن ذلك غير لازم بالكلية بل لئلا تبطل الصلاة لعدم إمكان الوقوف. وهذا جميعه يرجع لإفراز الرئيس.
ومضمون هذه الفريضة هو أنه لا لأجل فضيلة واحدة تبطل جملة فضائل، أي لأجل الصلاة العقلية تبطل الصلاة كلها وغيرها من الفضائل، بحدوث المرض العارض من قبل التعب أو الملل والضجر، ولا أيضاً لأجل أي خدمة أو تعب كان، نقطع الصلاة العقلية. بل لنستعمل في ذلك الإفراز، لا إفرازنا بل إفراز رئيسنا. وكما يحسن بنظره هكذا نصنع.
Discussion about this post