– الإعتراف هو سرّ كنائسي يفيد غفران الخطايا ورجوع النعمة المفقودة من قبل الخطايا. وهذا قد منحه الرب تعالى لرسله حين قال لهم: من غفرتم له خطاياه غفرت له ومن مسكتموها عليه مُسكت. وهو قائم من جهة المعترف بثلاثة أشياء وهي: ندامة، إقرار، قبول القانون.
– فالندامة هي بغض الخطيئة والعزم الكامل على عدم الرجوع إليها.
والإقرار هو الشكوى على ذاتنا عند معلم الإعتراف عما صدر منا من الخطايا بتمام ما هي وكم هي ولأجل أيّ غرض هي.
– وقبول القانون هو الرضا بجميع ما يأمرنا معلم إعترافنا من عمل العبادة وصدق النية على كمال عمله.
– وقد يلزم الإعتراف أشياء قبله ومعه وبعده:
– فقبله يلزم فحص الضمير وإستيفاء معرفة الزلات وكميتها.
– ومعه يلزم التواضع.
– وبعده يلزم عدم التباطؤ في وفاء القانون.
– والرسول يعقوب قد أوصانا بهذا الإعتراف حيث قال: إعترفوا بعضكم لبعض بخطاياكم. والكنيسة المقدسة قد تسلمته من الرسل وأمرتنا به على ألسن الآباء والعلماء والمجامع المقدسة. وقد حقق لنا الله تعالى نفعه بأخبار كثيرة ومناظر غزيرة صدرت متسلسلة منذ أول الكنيسة إلى الآن. منها ما جاء في البستان عن الذي اعترف لدى جماعة الرهبان بخطيئته، وكان الملاك الطاهر بجانبه، ضابطاً بيده كتاب خطاياه يخط عليها بالقلم عندما كان يعترف. ومثل هذه الرؤيا نفسها صار أيضاً في دير التوبة بشهادة القديس السلّمي. وقال القديس المذكور: أني سألت رئيس الدير لماذا أمر المترهب أن يعترف أمام الرهبان كلهم. فأجابه: لكي بكثرة خجله يخلص من الخزي والخجل المنتظر. ثم قال: وعندي أيضاً رهبان لم يعترفوا بخطاياهم، فبهذا أستحثهم لكي يتشجعوا على الإعتراف بها، الأمر الذي خلواً منه لا يرزق أحد الصفح عن زلاته. (إنتهى الخبر).
– فمن حيث أن هذا صار في أيام القديس السلّمي، فقد صحّ إذاً القول أن سرّ الإعتراف هو قديم منذ أول الكنيسة إلى الآن، وضروري هو للتخلص من الزلات، كما قال الرئيس السابق ذكره، وهذا هو المشهور. ولذلك ينبهنا عليه القانون وغرضه لا أن يفرضه علينا، لأنّ سرّ الإعتراف فرض إلهي، بل يفرض علينا ثلاثة أشياء تساعد على تقويم عمله، وهي الفرائض الثلاث الآتي ذكرها:
الفريضة الأولى: يجب على الراهب أن يعترف عند من هو معين للإعتراف وإلاّ فليستأذن الرئيس.
– واضح هو أنه ليس كل كاهن كفوءاً لإستماع سرّ الإعتراف، فلذلك رسم القانون أن الكاهن المعين للإعتراف بإنتخاب الرئيس، ذاك وحده يبقى له وظيفة الإعتراف. وعن هذا المعنى قال القديس باسيليوس: ينبغي للخاطئ أن يعترف عند الذين أؤتمنوا على أسرار الله، أي المعينين لذلك السرّ دون غيرهم. فالكاهن الذي أمرك رئيسك أن تعترف عنده أُثبت عنده لأنه أُؤتمن على إستماع إعترافك. ولا تتبع هواك في التنقل إلى عند غيره، لأنّ تركك معلمك المنتخب هو دليل على إنغلابك للخجل أو على الهرب من ثقل القانون. وهذا فمنهى عنه عند علماء الدين جميعاً. وها هنا يجب أن يفطن المعترف بأنّ الغفران لا يكون إلاّ بقدر الخجل وقبول القانون، لأن ذلك دليل على صحة الندامة.
– فإن قلت أنك تؤثر الإعتراف عند كاهن حكيم، فجيداً تصنع، لأن معلم الإعتراف الجاهل، تغييره واجب، لكن لا تفعل ذلك من تلقاء عقلك وحدك لا سيما أنك راهب ملتزم أن تتدبّر بالمشورة والطاعة، بل إذهب إلى رئيسك واكشف له أفكارك. فإن سمح لك بتغيير معلمك جاز لك تغييره وإلاّ فلا. والسبب إلى ذلك، لا لأجل الطاعة فقط بل لأن إفراز الرئيس أوفق من إفرازك؛ لأن المعترف يُخشى عليه من محبة الذات ومكر الشياطين، فيحتجّ باطلاً بأنه يطلب معلم إعتراف حكيم. وربما لنقص معرفته يتوهم غير النافع نافعاً. وربما يكون معلم الإعتراف غير نافع لكنه أكثر نفعاً من الذي تطلبه عوضه. وربما أنت تنتفع من الذي تطلبه عوض معلمك لكنه هو لا ينتفع من إعترافك عنده. وجملة الكلام أن الرئيس هو أخبر منك بالنافع.
– ثم أن الثبات عند معلم واحد هو أنفع من التنقل عند الكثيرين؛ لأن معلم الإعتراف هو رئيس سرّي. ومثلما أن التنقل تحت أيدي رؤساء كثيرين، مذموم عند جميع الآباء، هكذا التنقل تحت أيدي معلمي إعتراف كثيرين، مذموم جداً، إلاّ لضرورة يراها الرئيس. وإذا كان أبونا انطونيوس قد أوصانا بأن لا نخطو خطوة إلاّ بإذن الرئيس لتبقى أفعالنا كلها منفعلة بالطاعة، فكم بالحري عمل الإعتراف المانح لنا الغفران وإعادة بنوة الله، أن لا نستعمله إلاّ بموجب إذن الرئيس. إذاً جيد هو التمسك بما رسمه القانون: أن نعترف عند الذي عينه لنا الرئيس، وإن دعت الضرورة إلى تركه فعن إذن الرئيس.
الفريضة الثانية :وليعترف في الجمعة أقله مرة واحدة.
– المشهور عند العلماء أن جودة العمل لا تكسب إلاّ بالممارسة. وهذا الغرض هو غرض القانون في عمل الإعتراف، أي أن نمارسه ونواصله لنكتسب جودته وغايته التي هي غفران الخطايا وتقويم السيرة. والدليل على أن غاية الإعتراف هي تقويم السيرة فهو من أن علماء الذمة جميعاً يمنعون إعتراف من يثابت خطيئته ولا يصلح سيرته. ولما كان ذلك كذلك رسم القانون بمواصلة عمل الإعتراف متواتراً متكاثفاً، لكيما إذا إمتلكنا عمله نبلغ غايته وتستقيم سيرتنا. ومثلما أهل العالم يجتهدون في تنظيف ثيابهم وأجسادهم ويتباطأون في تنظيف الروح والإعتراف، هكذا ينبغي لنا أن نفعل ضد فعلهم، فنجتهد بكثرة الإعتراف ونظافة الروح ونتباطأ في نظافة الجسم والكسوة، من حيث أننا ملزومون بتغيير شكل العالم حسب أوامر الرب ورسله.
– وهكذا هو غرض القانون وكأنه يقول: أيها الراهب إن كنت لا تقوى على الإماتة الرفيعة بأن تعترف كل يوم أو كل يومين مرة واحدة، كما صنع كثيرون من القديسين، فأقلّه أسلك في الإماتة الوضيعة واعترف في السبّة مرة واحدة، ولا تتباطأ في إعترافك كأهل العالم، مع أنه يوجد في العالم كثيرون يعترفون كل سبّة مرة واحدة. فينتج من هذا أن الراهب الذي لا يعترف في كل أسبوع ليس هو براهب حقيقي بل شقي ومخدوع. والدليل على ذلك هو لأن الراهب إنسان لا يخلو من الزلات والهفوات ولو أنها صغيرة. فإن هو تباطأ في الإعتراف بها فقط سقط في الكسل وأدركته اللعنة المقولة: معلون من يعمل عمل رهبنته المختصة بالرب بكسل.
– وعن هذا المعنى قال الأب بيمين: إن الذي يخطئ ويتوب هو أفضل من الذي لا يخطئ ولا يتوب، أي لا يخطئ خطيئة عظيمة ولا يظهر على نفسه تواضع التائبين لأن التائب عن الخطايا الكبار هو أفضل من الحاصل في الخطايا الصغار ولا يشاء أن يتوب. لما نظر القديس السلّمي إلى توبة البعض من الرهبان القاطنين دير التوبة قال: لقد طوبتهم أكثر من الذين يخطئوا. وبالصواب هو قول القديس لأن نشاط النفس يرى في حرارة التوبة بعد الخطيئة لا في السيرة الفاترة بغير خطيئة.
– وجملة الكلام أن الخاطئ الكثير الإعتراف هو آمن سلوكاً من البار الفاتر في الإعتراف بدليل قول الآباء: إن الفضيلة يحكم لها بقدر تواضعها لا بقدر تعبها. إذاً إعترافك، بما أنه من أعمال التواضع، دليل نجاحك.
الفريضة الثالثة: وفي أول دخوله الرهبنة فليعترف إعترافاً عاماً عند الرئيس أو عند من يأذن له الرئيس بذلك.
– الإعتراف العام لازم للمبتدئ بالرهبنة من حيث أن الإبتداء يقتضي التغيير، كما أن الفلاح متى ما دعي للقيام بحضرة الملك ولأن ينعد من جملة الحاملين الأسلحة أمامه، فلا بدّ له من قلع كسوته وأن يستحمّ ويغتسل ثم يكتسي الكسوة اللائقة بمن يقف بحضرة الملك ويمتثل خدمته. هكذا هو العالمي، حين يطرح العالم ويقصد أن يتجند لملك الملوك في سيرة الرهبنة، سبيله أن ينزع شكله وزيه ويغتسل ويستحمّ بالتوبة والإعتراف العام، ثم يدخل إلى الزيّ الرهباني. وليبتدئ بعمل الجهاد مصحباً في ضميره كلام بطرس رأس الرسل القائل: يكفيكم ما قد مضى من الزمان الذي عملتم فيه بهوى الشعوب الذين يسعون بالنجاسات والشهوات.
– فهذا الخطاب نفسه تخاطب الرهبنة الراهب المبتدئ، من مضمون مطالبتها له بالإعتراف العام. وهكذا هي العادة منذ القديم كما نرى ذلك في البستان وغيره. إن الآباء كانوا في أول إستقبالهم الطالب الرهبنة يطالبونه بالإعتراف العام.
– قال القديس باسيليوس: خطر، هو أن يقبل الرئيس المبتدئ بغير فحص، وقبل قبول إعترافه عما سلف منه في حياته كلها. وإمتحان المبتدئين هو إعترافهم بغير تصعب.
– وقال القديس السلّمي: سبيلنا أن نقرّ بخطايانا لرئيسنا وحده قبل كل الناس. وإن أمرنا فينبغي أن نعترف بها لكل الناس أي عند من يريده من الناس.
– وهذا مناسب لقول القانون: فليعترف المبتدئ عند الرئيس أو عند من يأذن له الرئيس بذلك. والسبب في إعتراف المبتدئ عند غير الرئيس هو متى كان الرئيس مزمعاً أن يسلمه تدبيره، أي أن يسلم سياسة المبتدئ لأحد الكهنة، فحينئذ يسوغ للرئيس أن يسمح لذاك الكاهن أن يستمع إعتراف المزمع أن يصير تلميذه، حتى، من إطلاعه على سالف سيرته، يقتدر على أن يدبره. لكن إذا كان الرئيس هو المتعاطي التدبير وحده، فالواجب أنه هو يسمع إعتراف الأخ المبتدئ لا آخر غيره. وهذا الأمر لا ينافي النهي عن فضح السرّ إذ للمبتدئ الخيار، إن أحب الدخول معنا، أن يعترف عند الرئيس أو عند من يأذن له الرئيس بذلك، وإلاّ فلا يدخل معنا. لأن المقصود في ذلك أشياء تفيد المبتدئ والرئيس معاً.
– وهذه إذ عرفها القديس السلّمي قال: سبيلنا أن نقرّ بخطايانا لرئيسنا وحده، قبل كل الناس، لأنه من سماعه إعتراف المبتدئ يستدل ويختبر لا سالف سيرته فقط بل أيضاً يفتهم مقدار همته في تورعه وتواضعه ونشاطه نحو الجهاد، كما قال القديس باسيليوس: إن إمتحان المبتدئ هو إعترافه بغير تصعب لأن هذا دليل جيد على صحة همته الجيدة.
– وقد أخبرنا القديس السلّمي عن لص ترهب في دير التوبة. وعندما أراد الرئيس أن يختبر عزمه بعد أن سمع إعترافه، طلب منه أن يعترف قدام جميع رهبان ديره. فأجابه اللص: إن شئت فإنّي أعترف في وسط مدينة الإسكندرية. ثم أكمل وعده بالعمل واعترف في الكنيسة أمام مجمع الرهبان إعترافاً عاماً. وعندما فرغ من إعترافه، قصّ الرئيس شعره وأحصاه مع رهبانه من غير تعويق بمنزلة من قد إستوثق، من صحة إعترافه، بصحة رهبنته وجودة همته في الخير، غير خائف من سالف سيرته غير المستقيمة وعوائده الرديئة، إذ كان لا دليل على حسن الهمة بالخير مثل التواضع، ولا تواضع مثل الإقرار بالخطايا بتذلل. فإن كان المبتدئ لا يقوى على أن يعترف كما يجب، فهذا دليل صادق على أنه لا يقوى على كثير من واجبات الرهبنة، وإن دعوته غير وثيقة صحتها، لأن المشهور عند العلماء بالسيرة الروحانية أن الفاتر بالإبتداء يبقى على الأغلب فاتراً دائماً. ومثلما يكون المبتدئ في زمن تجربته هكذا يبقى لا بل يرجع في العمل ويرتخي ولو قليلاً.
– قال القديس السلّمي: أنه لممقوت بالحقيقة ومؤذن بالخطر أن يسترخي المصارع في حين دخوله إلى الصراع، إذ يخوّل كل من يبصره دلالهً على ذبحه. ومما قلناه ينتج أربعة أشياء:
– الأول: إن الإعتراف العام هو ضروري للمبتدئ لأنه أول عمل الرهبنة.
– الثاني: يلزم من يسوس المبتدئ يسمع هو إعترافه دون غيره.
– الثالث: إن الإعتراف العام هو أول دليل على الراهب.
– الرابع: ينبغي للرئيس العام أن لا يدبّر الراهب على الإطلاق وخاصة المبتدئ إلاّ كنحو رأي الرئيس الذي اقتبل إعترافه العام وأدخله الرهبنة لأنه الخبير في ما يوافقه أكثر من غير. وبهذا يتم غرض القانون القائل: إن الإعتراف يكون عند الرئيس أو عند من يأذن له الرئيس بذلك، أي عند من يتعاطى تدبيره كما سبق القول.
Discussion about this post