المصباح الرهباني
الباب السادس عشر: في تناول الأسرار المقدسة
– تناول الأسرار المقدّسة هو اقتبالها بحال مقدّس كما تقول الكنيسة المقدّسة في القداس الإلهي في حين الرفعة: الأقداس للقديسين أي من تناولها بحال مقدّس فذاك قد تناولها. ومن كانت حالته غير مقدّسة فذاك ولو تناول فكأنه لم يتناول، بل عوض أن يتبرّر يتضرّر كقول الرسول: إن من تناول جسد ودم الرب وهو غير أهل فإنه يأخذ دينونة لنفسه.
– وهذا التناول هو تسليم إلهي منذ حين العشاء السرّي إلى الآن وللأبد. واستعماله ضروري للخلاص بدليل قوله تعالى: إن لم تأكلوا جسد إبن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة في ذاتكم. أي إن أنت إمتنعت عن تناول الأسرار الرهيبة فليس فقط لا تربح بل تخسر أيضاً الخلاص.
– فينتج مما قلناه أن تناول الأسرار المقدّسة هو ضروري لنا. وضروري أيضاً أن نتناولها بحال مقدّس. ولأجل هذا فرض القانون علينا فرائض تساعدنا على واجب هذا التناول الضروري، وهي بالعدد أربع.
الفريضة الأولى : جب على الراهب أن يكون على الدوام مستعداً بالعمل والشوق لتناول الأسرار المقدّسة.
– قد سبق القول في باب الصلاة أنه ينبغي للمصلي أن يسبق فيستعدّ لعمل الصلاة بعمل السيرة الصالحة. فإذا كان المخاطب ربّه خطاباً فقط يلزمه العمل الصالح فكم بالحري يلتزم به المقتبل ربّه قبولاً حسيّاً حقيقياً، والمسكنه داخل صدره وأضلعه وفي وسط قلبه، والمتحد معه بالمحبة والمشيئة إتحاداً سرّياً حقيقياً.
– فلأجل هذا رسم القانون بأنّ الراهب، من حيث هو ملازم تناول الأسرار، يجب أيضاً أن يكون ملازماً العمل الصالح اللائق بتناول الأسرار، كقول القديس أفرام: لنوقف ذواتنا مستحقين تناول الأسرار الإلهية خصوصاً، أي أنه يجب أن يكون سعينا وعملنا جميعه كسعي وعمل من هو متوجّه ليتناول الأسرار. وهذا الإلتزام يقع علينا من حيث أننا نور العالم، كما قال الرب. ومعنى ذلك: أنظر إلى الأفاضل من العالم كيف يحفظون ذواتهم قبل تناولهم القربان المقدّس، هكذا يجب أن يكون الراهب أيامه كلها، لأنه بهذا يتميز من العالمي ويتقدمه بالرتبة كتقدم النور على الظلمة. إذاً الصلاح الذي يفعله العالمي في السنة مرتين وثلاثة وعشرة ذاك يفعله الراهب دائماً. وإلاّ فليس هو نور العالم بل كواحد من أهل العالم وراهب كذّاب.
– قال أحد الآباء: إن الراهب الذي يستعد لتناول الأسرار المقدّسة وقت التناول فقط، يشبه اليهود الذين خرجوا إلى إستقبال الرب في يوم دخوله مدينتهم بالفرح والتمجيد، ثم بعد قليل إنقلبوا يعاندونه ويسعون بما يحزنه ويغيظه. هكذا أنت الذي خرجت من العالم لتسعى قدام ربّك سعي الكمال، ثم إقتصرت بهذا ولم تعمل بموجبه إلاّ في اليوم والوقت الذي فيه تستقبل ربّك فقط. فأنت كاليهودي السابق ذكره والعالمي الذي هو في العالم، لا كالتلميذ الصادق الملازم خدمة معلمه كل وقت وزمان.
– قال القديس السلّمي: إن الراهب الشره المحب بطنه يسبق ويحسب للعيد ويستعد له قبل أيام عدة. وهكذا نحن نقول كنحو قصد القانون: إن الراهب العابد المحب ربّه يسبق دائماً ويستعد قبل أيام عدة بالتحفظ من كل خطيئة عرضية فضلاً عن الخطيئة المميتة لتناول الأسرار المقدّسة. ومن حيث أنه يلازم تناول الأسرار المقدّسة كثيراً، فيحصل بالضرورة متحفظاً دائماً. وهذا هو الإستعداد الأول والأعظم لتناول القربان المقدّس.
– والإستعداد الثاني هو الشوق والرغبة: أي لا يكفيك أن تستعد لقبول الأسرار المقدّسة بالتحفظ من الخطأ فقط، بل أيضاً أن تحرك قلبك للشوق إليها دائماً، كما أنّ المقتبل الضيف كما يجب، لا يكفيه أن يقدم فقط الأكل والشرب ولوازمه، بل أيضاً البشاشة والرضى، هكذا المقتبل ربّه، سبيله أن يستعد لقبوله لا بالتحفظ بالسيرة الصالحة فقط، بل والشدّة والرغبة نحوه تعالى دائماً، على موجب قوله عزّ وجلّ: من أكلني عاد جائعاً.
– والقديسون والآباء أجمع ينبهوننا إلى عمل هذا الشوق. وقد شرح عنه الأب توما الكمبيسي شرحاً مستطيلاً. والقديس نيلوس قال: أنه لممتنع أن يتخلص المؤمن ما لم يتناول جسد المسيح ودمه الطاهر بخوف وشوق. وقال القديس الذهبي الفم: أنه يجب أن نتقدّم إلى الأسرار الإلهية كسباع تتنفس ناراً، أي نار الشوق والرغبة.
– قال الأب بيمين في تفسيره الجملة الداودية القائلة: كما يشتاق الأيل إلى ينابيع المياه كذلك إشتاقت نفسي إليك يا الله قال: إن الأيل يبتلع الحيات من البراري. فإذا ما إلتهب به سمها جرى مسرعاً نحو المياه. فإذا شرب إستراح من وهج اللهيب. وهكذا الرهبان يتحرقون من سموم وساوس العدو وينتظرون يومي الأحد والعيد وفيهما يتقدمون إلى ينابيع المياه الحية أي الأسرار المقدّسة التي تُذهب من قلوبهم مرارة أفكار الشياطين (إنتهى كلام القديس).
– ومنه نفهم أن الآباء والرهبان القدماء كانوا يروضون ذواتهم في أن يتقدموا إلى الأسرار برغبة وشوق شديد كشوق الأيل إلى ينابيع الماء سامعين بآذان عقلهم صوت السيّد القائل: من كان عطشاناً فليُقبل إليّ. فالعطش معناه الشوق. ومن يمتلكه، قال الرب، ذاك فليقترب ويتناول، الذي معناه بالنتيجة: من كان غير مشتاق ولا يتناول ولا يتقدم.
– وقد جاء عن القديس فيلبس النيري أنه لشدّة شوقه إلى تناول الأسرار الإلهية كان لما يشرب الكأس في القداس يمصّ دائماً فضلة الدم مصّاً قوياً حتى آثر في الكأس أثر أسنانه.
– فإن قلت مستفهماً: هل إذا كنت عديم الشوق فاتر الرغبة نحو الأسرار الإلهية لا يجوز لي من كافة الجهات أن أتناولها أبداً؟ أجبتك إن العلماء بالسيرة الروحية قالوا: إن الفاتر مرذول على الإطلاق، لكن بعض الأحيان تحدث لنا برودة الشوق ويبوسة القلب في الحركات الروحية كلها، ونطلب ونتحسّر ولا نجد إلاّ البرودة، ومن جملتها برودة الشوق إلى تناول الأسرار، ولم يكن ذلك كسلاً وتضجيعاً بل من حسد الشياطين. فحينئذ لا يجب أن نرتجع عن تناول الأسرار بل فلنستعمل الشوق إلى الشوق، أي إذا تحسّرنا وقلنا: يا رب حرّك قلبنا إلى شوق تناول أسرارك وأضرم نار رغبتنا إليك، وأمثال ذلك. فهذا الطلب وهذا التمني يقوم مقام الشوق. وحينئذ فلندنوا من تناول الأسرار بوقار وإحترام متكلين على جود الله ولا نمتنع من الشركة الخلاصية.
– وقد أورد الأب رودريكوس في هذا الصدد قول النبي القائل: قد سمع الرب شهوة الفقراء، أي لكونك عديم الشوق فأنت فقير لكن لما تشتهي الشوق فيقتبل الرب شهوتك هذه كأنها هي الشوق. لكن هذا لا يكون دائماً، أي لا تحسب الشهوة إلى الشوق بمنزلة الشوق لما تكون كسلاناً في همتك وتأملاتك وفاتراً في تحريك قلبك إلى الشوق، بل كما سبق القول: لما تكون تشاء تؤثر الشوق بكل قوتك وتتحسّر لوجوده ولا تعطاه من قبل حسد الشياطين، وربما يكون ذلك من قبل تدبير إلهي، فحينئذ يحسب لك الإشتهاء إلى الشوق بمنزلة الشوق ويكون تناولك الأسرار الإلهية على هذه السجية مقبولاً لدى الله تعالى بغاية القبول. فهذا هو الإستعداد الثاني لتناول الأسرار الإلهية.
– وقد يوجد إستعداد آخر لتناول القربان لكنه قريب التناول وهو الإحترام والوقار. أي لا تنحرف إلى الشوق الغير مرتب وتنهوِ إلى حفرة الدالة، وتتقدم إلى الأسرار الإلهية بلا إحترام ولا خوف وإكرام، فتصادف ما صادف ذاك الذي لمس تابوت الرب بجسارة تفوق رتبته ولحقته النقمة وسقط ميتاً. وإذا كان الرب تعالى قد اغتاظ من الذي لم يهابوا ولا احترموا أبواب هيكله البرانية وأدّبهم بالضرب والطرد وقَلَبَ موائدهم، فكم بالأكثر يغتاظ ويؤدّب الذين لا يحترمونه نفسه ويهينون جسده ودمه بتناولهم إياهما بقلّة وقار وعدم إحترام.
– وهذا قد أعلنه تعالى واضحاً على لسان النبي قائلاً: أني أكرم من يكرمني وأُهين من يهينني. والكنيسة المقدّسة الملهمة بروح القدس رتبت لهذا الصدد ترتيباً حسناً وهو أنها علّمت الكهنة، لما يدفعون القربان الإلهي لأحد أولادها، وقبل أن يُناولوه السرّ الرهيب، أن يطلبوا منه أن يقول: يا رب لست مستحقاً أن تدخل تحت سقف بيتي، لكيما من هذا القول يستهاب المتناول السرّ المقدّس ويتضع ويقدم الإحترام والوقار اللائقين لجلالة الذبيحة الرهيبة.
– وهذا هو الإستعداد الثالث القريب اللازم لمن يتناول الأسرار الألهية. وهذا لم يذكره القانون لأنه من ذاته يتبع الإستعدادين السابق ذكرهما، إذ كان المستعد بحسن العمل والشوق، لتناول القربان المقدّس، يصعب عليه أن يتقدّم بغير إحترام، كما هو واضح. ولذلك حصل المعنى بغرض القانون كأنه يقول: يجب على الراهب أن يكون على الدوام مستعداً لتناول الأسرار الإلهية بحسن العمل والشوق والإحترام، أي يكون حاله في سيرته، حالَ إنسان، كل وقت تطلبه، تجده مستعداً ليتناول من غير تعويق. فهذا هو الراهب بتحقيق.
– وعندنا لإثبات ما قلناه أخبار كثيرة أعرضنا عن ذكرها هرباً من طول الشرح. ومن لم يكن أميناً على القليل من الكلام، فهو أيضاً غير أمين على الكثير من الأخبار.
الفريضة الثانية : وليتناول الأسرار الإلهية كل أحدٍ وعيد واجبة بطالته.
– مضمون قول القانون، هو أن الراهب العامل، له أن يتناول القربان المقدّس كل يوم يشاء، لكن بعد الإذن من الرئيس. ولا مانع يمنعه البتة، كما كانت عادة المسيحيين الأولين، حسبما يخبر عنهم كتاب أعمال الرسل. ومثل ذلك صنع كثيرون من أفاضل القديسين؛ ليكن الراهب الفاتر في استعداده لتناول الأسرار الإلهية، الغير العامل، فهذا يلتزم على الأقل أن يتناول كل أحد وعيد واجبة بطالته.
– وقد كان هذا الرسم في القديم عند الرهبان المستحبسين الذين لم يسمح لهم قانونهم بالخروج من قلاليهم، كما يخبر عنهم مار إسحق وغيره. ولأنه لم يتهيأ لهم كل يوم إستماع القداس، إلاّ يومي الأحد والسبت، فكانوا فيهما يخرجون من محابسهم ويبادرون إلى تناول الأسرار المقدّسة. وقد مرّ ذكر ذلك من تعليم الأب بيمين في الفريضة السابقة. والسبت، إنما هو إشارة إلى العيد كنحو غرض الشريعة العتيقة. والغرض في يومي الأحد والعيد فقط، هو لما يناسب السلوك في الطريق المشاع المعتدل الذي يقوى عليه الكل، وفيه مقصدان:
– المقصد الأول هو ملازمة تناول القربان في كل سبّة، حذراً من التباطؤ. لأنّ التباطؤ في التناول يؤذي النفس لأسباب عديدة. منها لأن القربان المقدّس، على رأي جميع الآباء، هو قوت النفس وطعامها. فمتى ما تباطأت في تناوله، جاعت الجوع الروحي. ومثلما نرى الجوع الجسداني يفعل بالجسد هكذا سبيلنا أن نفطن بأنّ الجوع الروحي، الصادر عن التباطؤ بتناول القربان المقدّس، يفعل كذلك بالروح أي يفقدها قوتها بعمل الفضيلة مطلقاً. وعن مثل هذا الجوع يحذّرنا أحد القديسين قائلاً: إن كان هو خبزاً يومياً، فلماذا تتناوله سنوياً. ثم إن التباطؤ في التناول يبعد نعمة الله عنا ويقوّي شرّ الشياطين علينا. وقد حققت لنا الكتب الروحية ذلك كثيراً. منه ما جاء في البستان عن القديس مكاريوس، حين خلّص الإمرأة من شرّ السحراء والشياطين الذين قلبوا صورتها لصورة فرس. فبعد أن شفاها القديس المذكور بالصلاة وبنضح الماء المقدّس، قال لها: هذا قد أصابكِ لأنكِ مكثتِ أربعين يوماً بلا تناول القربان المقدّس. ثم أوصاها بملازمة تناوله قائلاً: ليصونكِ من شرّ الشياطين. وما أكثر الشهادات والأخبار الناطقة بصحة ذلك. والله تعالى أصدق القائلين، وفمه المقدّس نطق بذلك: إن من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه. إذاً الحياة هي في تناول القربان المقدّس؛ وفي زيادته زيادتها، وفي نقصه نقصها، وفي عدمه عدمها.
– والمقصد الثاني في تناول القربان كل سبّة، في يومي الأحد والعيد، هو لأن فيهما يسهل على الرهبان عمل العبادة أكثر من باقي الأيام:
أولاً لبطالتهم عن عمل اليد الجسداني.
Discussion about this post