– الأدب تحدّث عنه بعض العلماء أنه خوف الحياء والخجل، وهو مرغوب به عند الآباء القديسين جميعاً. وقد جاءت به الوصية في الكتب المقدّسة كثيراً، منها قول الحكيم: من يقصِ الأدب يمقت ذاته. وقال المرتل: إلزموا الأدب لئلا يغضب الرب. وقال القديس أفرام: عدم الحياء أبو الفجور. وقال أيضاً: كما أنه غير ممكن أن يوجد في الجرّة نبيذ وخل معاً، كذلك غير ممكن أن يوجد في الراهب فضيلة وعدم الأدب معاً. وقال الإنجيل المقدّس عن قاضي الظلم: أنه كان لا يخاف الله ولا يستحي من الناس. فلمّا يضرب لنا ربنا هذا المثل إلاّ لحثنا على خوف الله والأدب والإحتشام معاً، كما هو واضح البيان.
– وجملة الكلام أن الأدب هو فضيلة تختص بالرهبان كثيراً، ثم يلزمها الإفراز أيضاً كثيراً لئلا نرضي الناس ونغيظ الله. ولأجل هذا قرن ربنا بمثله السابق ما بين خوف الله والأدب معاً، ليدلنا على أنّ الأدب المقترن بالخطيئة ليس هو أدب، بل المقترن بالفضيلة البري من الخطيئة هو الأدب. وهذا لا نقوى على معرفته وإمتلاكه إلاّ بواسطة الفرائض التي رسمها لنا القانون. وهي بالعدد ست:
الفريضة الأولى: يجب على الراهب ألا يظهر قدام أحد ولا خارج قلايته إلاّ وهو لابس ثوبه باحتشام.
– قد إبتدأ القانون بهذا الباب من أدب الكسوة، كون ذلك هو الألزم والأسهل لعمل الأدب والحشمة. لأن من لا يحتشم بقليل ثيابه فهو بالأزيد لا يحتشم بكثير كلامه. ومن لا يخجل من عيب كسوته فهو بالأكثر لا يستحي من عيب حركاته. والرب تعالى قال: من ثمارهم تعرفونهم. وقال أيضاً: إن كنتم لا تؤمنوا بي فآمنوا بأعمالي.
– ومضمون الكلام أن السيرة صورة السريرة، والحركات الخارجة تدل على الهمة الباطنة. والقديس أفرام ذمّ الراهب الذي يمشي ويضع طرف ردائه على كتفه. وقال أيضاً: أنه لموافق للراهب ألا يخرج من قلايته خلواً من منتين أي رداء على ظهره، فإن ذلك يمنحه وقاراً وعفافاً. لأن من يتعرى من لبوس طقس الرهبنة ويمشي متصابياً، فذاك خزي له. لأنه قد كتب: تزنّر والبس نعليك والبس ثوبك واتبعني. إنتهى كلام القديس.
– ومضمونه أن الملاك، لما أخرج بطرس من الحبس، لم يسمح له أن ينطلق محلول الزنار وبلا نعل وبلا رداء على ثيابه، ليدلنا على أن ذلك غير مناسب فضيلة الأدب والحشمة. وهكذا يليق بكل راهب أن لا يترك العيب يلحقه بنوع من الأنواع من قبل كسوته البتة. وأن تكون كسوته تناسب الفقر، كما سبق الكلام في باب الكسوة، لأن كل ما هو خلاف الفقر هو عيب ونقص أدب. والمثل العرفي يقول: إن الزائد أخو الناقص، والناقص في الظاهر ناقص في الباطن، كما أن رداءة قشر الجوزة تدل على رداءة قلبها. فثوبك إذاً هو دليل على قلبك.
– وقد جاء في البستان عن جماعة من الفلاسفة كانوا يتنزهون خارج المدينة في البرية. فعبر بهم راهب عليه إسكيم حسن وكسوة جيدة. فأحبوا أن يختبروه بما عنده من الفضيلة. فصاحوا به بإستخفاف ليقبل نحوهم. فشتمهم ولم يذهب، وبقي سائراً في طريقه، وبعد قليل مرّ بهم أيضاً راهب آخر، شيخ في السن، فقير بكسوته. فصاحوا به كالأول، فمضى إليهم. فلما وصل عندهم بادر أحدهم ولطمه على خده، فحوّل له الشيخ الخد الأخير. حينئذ أقبل الفلاسفة وسلّموا عليه باحتشام واحترام، قائلين له: أنت الراهب الحقيقي، وخاطبوه وانتفعوا من خطابه. فقد صحّ من قبل هذين الراهبين قول ربنا تعالى، بما أنه الصحيح: إن الثمر دليل على الشجر، أي العمل دليل على العامل.
– ومما قلناه نفهم أن كل حركة نتحركها بكسوتنا ضدّ الأدب هي ضدّ الفضيلة والقانون. وذلك مثل من يعلّق طرف ثوبه بزناره من غير ضرورة والذي يكشف ساقيه أو ساعديه من غير إحتياج لازم. ومثله الذي يحل زناره أو يكشف صدره أو قلسوته أو مهما كان من كسوته من غير سبب يوجب. فهذه جميعها مرذولة عند الآباء، كما يقول القديس أفرام: علامة نقص الأدب في الراهب أن يكشف ساقيه، إذا جلس بين إخوته. أما المتورّع فيجلس بحسن زي. وقس على هذا.
– وقد جاء عن أبينا أنطونيوس أنه مرة كان يهم ليعبر النهر واستصعب رفع ثوبه لئلا ينفضح جسمه، مع أنه لم يكن هناك أحد يبصره. ولبث متحيراً ساهياً لا يدري كيف يعمل. وفيما هو على مثل هذا الحال، حُمل بإذن الله ووجد في الناحية الأخرى من النهر كما كان يطلب.
– فلنتأمل نحن، إذا كان القديسون يلاحظون الحشمة في عبور النهر، فكم يلزمنا عملها في باقي تردّدنا، مثل المشي والعمل والقيام والقعود! فليكن جميع ذلك، من حيث الكسوة، بحسن زي، وإلاّ فيخطئ الراهب ضدّ القانون القائل: يجب على الراهب ألا يظهر قدام أحد ولا خارج قلايته إلاّ وهو لابس ثوبه باحتشام.
الفريضة الثانية : وليلازم السجود للرؤساء والكهنة المتقدمين في الأوقات المعينة لذلك حسب التسليم وطقس الأخوة وعادتهم.
– السجود للرؤساء والكهنة المتقدمين هو تسليم قديم، لا عند الرهبان والمسيحيين فقط بل أيضاً عند جميع المِلل والمذاهب، مما يقتضيه الأدب والطاعة معاً، كما هو مشهور. فإذا كان ذلك كذلك، إذاً لا حاجة إلى الكلام فيه مع الرهبان، من حيث أنهم مختصون أكثر من الجميع بعمل الأدب والطاعة والخضوع للرؤساء والمتقدمين، ورسومهم وكتبهم مملوءة من هذه الأخبار والتعاليم.
– منها ما قال القديس أفرام: لنكن مستعدين لعمل السجدة نحو أي كلمة نسمعها لا سيما من المتقدمين علينا بالرب. وكما أن الماء يطفي النار كذلك السجدة تخمد الحرد، وتردّ السخط. ويحقق لك ذلك الرئيس الخمسين الذي أتى إلى إيليا النبي. ومن أجل إتضاع رأيه وتذللّه، إستعطف النبي وخلص من السخط. إنتهى كلام القديس. ومنه نفهم أن السجود ليس يختصّ بعملنا من حيث فرض القانون فقط بل أيضاً من حيث مناسبة عمل البرّ مطلقاً. إذاً السجود هو لازم لسيرتنا من الجهتين، أي من جهة القانون والفضيلة معاً. ولذلك قال القديس السابق ذكره: يلزمنا أن نستعد لعمل السجود، على أنّ الأمر ضروري جداً ويلزمه الإستعداد. إذاً من لا سجود له، فلا أدب له وهو مرذول جداً في سيرة الرهبنة.
– وهذا نتحققه من الخبر الذي جاء في البستان عن أحد الآباء الذي سأله أحد الأخوة مرات عدّة، بأن يمضي معه إلى قلايته، ليأكل طعاماً، قصده بذلك نياحه، فلم يذهب الشيخ معه. فأخيراً سجد له الأخ سجدة وسأله أن يذهب معه. فأطاعه وذهب معه. فسأله أيضاً الأخ وقال: لماذا لم تذهب معي سابقاً حين سألتك مرات عدّة، والآن لما سجدت لك ذهبت؟ فأجابه الشيخ: إن عملك سابقاً لم يكن عمل راهب، فلذلك لم أعتدّه شيئاً. والآن لما عملت السجدة صار عملك عمل راهب، فلذلك إعتبرته وأجبت إلى تكميله. إنتهى الخبر.
– ومنه نفهم أن السجود للمتقدمين هو علامة الراهب بأنه راهب. والذي ليس هو براهب، فقد أعطانا علامته القديس أفرام قائلاً: إن من لا أدب له يستهزئ بالشيوخ، أي لا يسجد لهم. ومن كانت هذه حالته، فهو على كل حال غير طائع. وقال أيضاً القديس المذكور: إن من لا طاعة له ملعون. فلنفطن إذاً لئلا نُعَدّ مع الذين لا أدب لهم، ونسقط تحت اللعنة لعدمنا السجود والإحترام لرؤسائنا والكهنة المتقدمين حسب عوائد الرهبنة، لأن هذا يخرجنا من حدود الطاعة والأدب معاً.
الفريضة الثالثة :ولا يمسّ أخاه مطلقاً إلاّ عند الوداع واللقاء وإن دعت الحاجة لعلّة مرض.
– هذه الفريضة تقصد الأدب والطهارة معاً. فالأدب في ذلك من حيث أن ملامسة أحدنا الآخر تدّل على خفة القلب وأخلاق صبيانية. والدليل على ذلك هو أن الرسول والآباء القديسين جميعاً أوصونا بأن نسعى في إكرام بعضنا بعض. والذي يجب له عليك الكرامة لا يجب أن تلمسه، بل أن تبتعد عنه بحشمة وتحترمه كإحترام العبيد ساداتهم. وهذا هو الأدب والغرض الأول المحتوي في هذه الفريضة.
– أما الغرض الثاني فهو الطهارة، لأن لمس أحدنا الآخر على الأغلب لا يحدث إلاّ من قبل الدالة والصحبة الخصوصية. وهذه والدة الرذائل وأُم الزناء، كقول الآباء: إن الدالة هي ريح السموم تفسد أثمار الفضائل كلها. والبعض مثلوها بالنار تحرق كل عشب وشجر الأعمال الصالحة. وغيرهم دعوها أصعب أسقام الهوى. وما أكثر ما نهى العلماء القديسون عن الدالة، وكم قد حذرونا منها، وكم من الأفاضل إنخدعوا بها حين توهموا أن محبتهم روحية! وربما كانت أولاَ روحية لكن فيما بعد إبتدلت إلى ألمية وانهبطوا من قبلها إلى دوار الدالة المهلك واختنقوا فيه بالتمام.
– والإفراز ما بين المحبة الصادقة والردية يصعب على كثيرين من الرهبان. لكن القديس باسيليوس نصب لنا ميزاناً نوازن به الغرض، وقال: إن المحبة النقية هي ما كانت في الوسط ما بين البغض والدالة، أي لا تبغض ولا تدل؛ وقال أيضاً: كما أنه لا يجوز لنا أن نحتوي في ذاتنا على شيء من الكراهة لإخوتنا، هكذا أيضاً لا يجوز أن نقتني شيئاً من الدالة نحوهم. أما القديس مكاريوس، فقد نفى الدالة إلى ما هو أبعد من ذلك، وقال: أنه لا يجوز للراهب أن يعمل الدالة ولا مع ذاته، أي لا يجوز لك أن تتحرك في قلايتك، حين تكون وحدك، حركة غير محتشمة، أو أن تلمس ذاتك لمساًَ يُستحى منه، غير ضروري، ولا أن تدفع ذاتك لشيء فيه شكل الإفتراج والبطر في كل نوع من القيام والقعود والنوم والأكل والشرب. فإن هذه كلها تضر الطهارة وتنتسب إلى الدالة مع ذاتنا.
– فلنفطن إذاً، إن كانت الدالة تضر هكذا، فلا بد أن الأدب يفيد كثيراً. وهو ضروري جداً، وبالأكثر أنه ضروري مع غيرنا، من حيث اللمس الذي هو الغرض بهذه الفريضة. قد يلزمنا أيضاً التجنب من هذا اللمس حذراً من الشكوك، لأن الكثيرين من الناظرين إلينا إذا رأونا نلمس بعضنا بعضاً بشكل الدالة يرتابون فينا، وربما يجعلهم الحسد أن يتكلموا فينا ما لا ينبغي.
– ولأجل هذا وغيره رسم القانون أن نبتعد من لمس أخوتنا مطلقاً، إلاّ عند الوداع واللقاء، حينئذ يجوز للأخ أن يحتضن أخاه إحتضان الود، لأن في هذين الوقتين لا يوجد للدالة مدخل على الطبع، لأن عمل الدالة يحتاج إلى طول زمان وكثرة كلام. والوداع واللقاء بعيدان عن هذين المعنيين. والآباء القديسون سلموا للأديرة عموماً عمل الوداع واللقاء بالإحتضان. فلو كان فيه خطأ لنهوا عنه.
– وقد يجوز أيضاً لمس أحدنا أخاه إذا كان مريضاً، كقول القانون. لكن هذا أيضاً يلزمه الحرص. وليس هو للكل، بل للذي يرتضيه الرئيس، إذ، على الغالب، لا يقوى الشاب على خدمة الشاب في حين مرضه، لأن مكامن الشياطين كثيرة وخفية جداً، وقد نبّه على ذلك القديس أفرام قائلاً: إن أنت أكملت خدمة ودهنت السقيم دهناً، فاحتفظ بناظريك ويديك ولسانك لئلا تطفر خارج حدود العفة. فإن هذا هو الأليق بالتدبير الحسن. ضع يديك على أعضاء قريبك بفرق ورعب، كمن يلمس الأشياء القدسية نفسها. إنتهى كلام القديس.
– ومنه نستدل كم يخاف علينا الآباء من لمس بعضنا بعض. ولنفطن، إذا كان الحذر قد يلحقنا من لمس المرضى، فكم يجب أن نحذر لمس الأصحاء! فلننتبه بالأكثر، نحن الشباب، ولنحفظ بما فرضه القانون نظراً إلى الأدب والطهارة معاً.
الفريضة الرابعة :وليكن دخوله وخروجه في الأبواب وغلقها وقرعها بهدوء ورصانة.
– الهدوء والسكون مرغوب به عند الآباء منذ الإبتداء. وقد إنفرد الأفاضل منهم، مثل إيليا ويوحنا وغيرهما وسكنوا البراري ليفلتوا من الإنزعاج والقلق، على أن ذلك يؤذي العقل ويكدر صفاء البصيرة. والرب تعالى أثبت حسن عملهم بعمله، إذ كان يتردّد مرات كثيرة إلى البرية والهدوء، كأنه يستمدّ نفعاً، ممهداً لنا بذلك طريقاً نتبعه به. وقد تبعه الكثير من الآباء القديسين، ما لا يحصى عددهم، وبه نجحوا وأفلحوا. وبعضهم بالغ في عمل الهدوء مبالغة هذا مقدارها حتى صار ينفر من صوت العصفور. وآخر إستصعب صوت القصب الأخضر حين تضربه الريح. والأب إسحق لام الرهبان حين استماعه عندهم صوت الديك.
– وذلك جميعه يدلنا على أن الهدوء موافق لسيرتنا جداً. وهذا هو غرض القانون بأن لا يصنع الراهب شيئاً يجلب السجس والقلق، حتى ولا في غلق الأبواب وفتحها، كما قال القديس المعروف بالشيخ: بسكون ورزانة إفتح وأغلق باب قلايتك وقلاية أخيك من غير إجلاب وإزعاج البتة.
– ويجب أن نعلم أن الهدوء نوعان: ظاهر وباطن.
– فالظاهرهدوء حركاتنا وحواسنا الظاهرة.
– والباطن هدوء الفكر والمخيلة.
– والثاني يتولد من الأول لأن الآباء يعلمونا أن العمل الجسداني يتقدم الروحي، والهدوء الروحي هو أعظم قدراً من الهدوء الجسداني، لأنه مدخل الكمال. إذاً، إن كنت تؤثر أن تبلغ إلى الهدوء الروحي الذي هو هدوء الفكر والمخيلة، إستعمل أولاً الهدوء الجسداني، وسكّن حركاتك الظاهرة ورتبها، حسب قول القانون، بعمل الرصانة في فتح الأبواب وغلقها، وحركات دخولك وخروجك ومشيك وقيامك وقعودك وعمل يدك، وما أشبه ذلك من حركاتك الظاهرة، لكيما من ترتيبك هذه تنتقل إلى ترتيب الحركات الباطنة وتقوى على السكون والهدوء الروحي، عند وقوع الإضطراب وحدوث الإنزعاج ونهوض النفس وتوبتها. لأن الهدوء في مثل هذه الحوادث هو ضروري لسيرة الرهبنة والكمال.
– والآباء يوصوننا عليه كثيراً، كقول القديس السلّمي: أنه ينبغي لنا أن نتمسك في كل وقت بالسجية الهادئة الفاقدة الإرتجاف. وقد جاء في البستان عن الأب يوحنا القصير أنه يوماً ما كان جالساً والأخوة محيطون به، يسمعون تعليمه. فمرّ به أحد الرهبان، وكان أحمق منفعلاً من حسد الشيطان. فقال للقديس: أنت يا أبانا يوحنا تشبه الزانية التي تتزين لتكثر أصدقاءها. فأجابه القديس: نعم يا أخي، حقاً أني كما قلت. وبعد قليل سأله واحد قائلاً: هل تسجست يا أبانا من تعيير الأخ؟ فأجابه القديس: لا، بل كما كنت في الظاهر، هكذا كنت في الباطن.
– وحكي عن أبينا انطونيوس أن بعض الناس أحضروا إليه مجنوناً ليصلي عليه ويشفيه. وقبل أن يصلوا إليه، سبقهم المجنون مبادراً إلى القديس، ولطمه على خده. فلم يضطرب الأب من اللطمة ولا تحرك إلى الغيظ البتة، بل بسلامة وهدوء ضمير، حوّل للمجنون الخد الآخر. فمع ما أبصر الشيطان فضيلته خرج لوقته من المجنون، لعدم ثباته مقابل الروح الذي في القديس، وشفي الرجل.
– هذا ومثله كثير مسطر في الكتب الروحية، مما يدلنا على أنّ السكون والهدوء الباطن هو رتبة عالية وفضيلة سامية، لكن مبدأها لم يكن إلاّ من السكون والهدوء الظاهر، كما سبق بيان ذلك. ولذلك رسم القانون هذه الفريضة بفرض الهدوء الظاهر ورصانة الحركات، لكي من ممارستها نرتقي إلى هذه الأفكار. وإلاّ فما دمنا منزعجين مطربين باطناً وظاهراً، فمن أين يتجه سكنى الروح القدس فينا؟ لأنه تعالى يدعى روح السلامة، والروح المعزي، وقال أنه لا يسكن إلاّ في الودعاء الهادئين السليمين.
– والشيطان ضدّ ذلك، لا يسكن إلاّ في قلوب الغضوبين الخبثاء. وقال القديس السلّمي: إن النفس المنزعجة هي كرسي إبليس. وقد يلحق الراهب المنزعج المضطرب خطر آخر، وهو الويل المختص بأهل السجس والقلق. لأن الراهب العديم الهدوء يخبط ويزعج بحركاته المضطربة عقول وقلوب أخوته، ويحزن رؤساءه وأبهاته، ويعيق عمل التأمل والصلوات وكل هذيذ روحي، ويعيب عمل الحب والأدب مع كل من يحب الهدوء. وبعد هذا كله يوجد مخالفاً قانونه الذي يأمره بعمل الهدوء.
-إذاً، ضروري هو التحفظ من القلق والسجس الظاهر، وضروري هو أيضاً الحرص في تهذيب حركاتنا الخارجة كلها، لكي بواسطتها نعطى الحظ بحلول الروح القدس فينا، ونبلغ لهدوء الباطن، لأن ذاك، الإبتداء؛ وهذا، الإنتهاء.
الفريضة الخامسة : وليظهر، وقت مخاطبته أخاه، المحبة والبشاشة المقترنة بخوف الله.
– قال الإنجيل المقدّس: إن الشاب الغني لما سأل الرب: ما يعوزني لعمل الكمال، فلكي يجتذبه الرب إلى العمل بما سأل، نظر إليه نظرة المحبة، ثم أجابه بما سأل، ليعلّمنا أن المخاطبة بالمحبة تجذب المخاطَب إلى غرض من يخاطبه وتخترع الإتفاق والإلفة. وعكس ذلك هي المخاطبة بالعبوسة والمقت. فإنها تخترع البغض والعناد والإنشقاق والمماحكة. وقد أثبت ذلك إبن سيراخ بقوله: إن الكلام اللطيف يكثر الأصدقاء ويلاطف الأعداء. وقال الحكيم الكلمة القاسية تهيج الغضب.
– وقد جاء في البستان عن الأب مكاريوس أنه كان يوماً ما ماضياً مع تلميذه في البرية. فأمر تلميذه أن يتقدمه. ولما ابتعد التلميذ عنه قليلاً، وجد خادم الأصنام يحمل الحطب ويمشي متعوباً جداً، لشدّة الحرّ. فناداه التلميذ: إلى أين تذهب يا خادم الشياطين؟ فلما سمع الخادم كلام التلميذ إلتهب بالغضب وطرح الحطب عن ظهره وجاء إليه وضربه ضرباً موجعاً إلى أن غشي عليه، وتركه ومضى حمل الحطب وسار في طريقه. فلم يبرح إلاّ قليلاً، والتقى بالأب مكاريوس. ولم يكن الشيخ يعلم بالذي صار. غير أنه سلّم على خادم الأصنام وقال له: تقوّ أيها المتعوب. فبهت الخادم من كلمة الشيخ، وسأله قائلاً: ما الذي رأيته فيّ من الحسن حتى سلّمت عليّ؟ أجابه القديس: لأني رأيتك متعوباً فلذلك سلّمت عليك. فقال الخادم: وأنا قد إنتفعت من سلامك، وتحققت أنك رجل صالح. ثم أخبره بأمر التلميذ وطرح ذاته على رجليه قائلاً له: لا أفارقك، وعندك أكون راهباً. فأخذه الشيخ معه إلى حيث التلميذ مطروحاً، وحملاه إلى الدير. وعمّد الخادمَ وصيّره راهباً.
– وكان هذا الأب القديس يقول: إن الكلمة السوء تصنع الأخيار أشراراً والكلمة الجيدة تصنع الأشرار أخياراً. وقد صحّ قوله هذا من الخبر المذكور، أعني من كلمته وكلمة تلميذه مع خادم الأصنام: فكلمة التلميذ الردية صنعت قتلاً، وكلمة الشيخ الصالحة صنعت خلاصاً. ولهذا الغرض رسم القانون أن تكون المخاطبة ما بين الرهبان، بمحبة وبشاشة، لكي بهذا ينمو الحب والبنيان وكل حسن الترتيب الأخوي، ويبتعد الحزن وكل سجس.
– وعن هذا يقول القديس سمعان العامودي: لتكن أسماء أخوتك حلوة في فمك، ومنظرهم جميلاً بعينيك، وخدمتهم ميسّرة بيديك. وقال القديس نيلوس: كن في سلامك حلواً، وفي جوابك بهياً لذيذاً. وقد يجب علينا أيضاً، إن نحن أظهرنا البشاشة والسهولة لإخوتنا وقت خطابنا، أن لا نطرح لجام الإحتراس بالكلية بل نلاحظ غرض القانون. لأنه يقول لنظهر المحبة والبشاشة المقترنة بخوف الله. أي لنفعل هذا الوداد مع الأخ، ونحن نفطن بأن الله تعالى ينظر إلينا ويراقبنا لكي لا نفرط ونفرّط في التودد فننهوي إلى حفرة قلّة الأدب؛ بل لنمزج بالفرح الأدب، بشكل يليق بالورع والعفاف، ليتم فينا المقول في النبي: إن العدل والسلامة تلاثما. فالعدل نفهم أنه الأدب؛ والسلامة، البشاشة والوداد.
– ولنجتهد خصوصاً بعمل البشاشة وقت غيظنا على من أغاظنا، وعند سماعنا كل كلام يهيج الحزن والبغض. لأن البشاشة تحصل عندنا حينئذ بمنزلة التحفة نشاغل بها طفولية طبعنا ونعوقه عن التنمر والعربسة نحو من أحزنه. وقد نبّه على هذا القديس أفرام قائلاً: رأي محمود هو، أن تقطع الغضب بالتبسم، أفضل من أن تتوحش متنمراً بلا إستئناس. وقال أيضاً: إن عرض وشتمك أحد الناس، فلا تحتدّ غيظاً، بل تبسّم متعففاً، وأبدل الغيظ إلى سلامة. وإن نحن رصدنا فنجد الآباء القديسين جميعاً سلكوا هذا المسلك.
– وقد يوجد تبسم لا يليق فعله لأنه يهيج الغضب ويؤذي الحب والسلامة. وقد نبهنا عنه أيضاً القديس أفرام وقال: أنه قد يوجد ضحك يلهب غيظ القريب، وهو إذا أنت ضحكت على غيظه. وهذا هو المقول من الحكيم: إن ضحك السفيه يخترع شروراً كثيرة. فالأدب يقتضي، عند إغتياظ الأخ منك، أن تلزم السكون أو التفدّي والإعتذار المحتشم، لا البشاشة المقترنة بالإستخفاف به؛ لأنها حينئذ ليست مقترنة بخوف الله. والمقصود من القانون: البشاشة المخترعة السلامة والحب، المقترنة بخوف الله.
الفريضة السادسة :وعلى الإطلاق فليكن محتشماً مؤدّباً في سائر أقواله وحركاته.
– قد قسّم القانون الأدب إلى قسمي الكلام والعمل. فالأدب بالكلام ينقسم أيضاً، بالنظر إلى كميته وكيفيته.
– فمن حيث الكمية، هو أن لا نتكلم كثيراً، ولو كان الكلام مفيداً. لأن إكثار الكلام، عند الآباء، يولد عيوباً ومضرات كثيرة، كقول القديس السلّمي: إن إكثار الكلام دليل على قلّة المعرفة. وهو باب الوقيعة، مرشد إلى المزاح، خادم الكذب تحليل للخشوع، داعٍ إلى الضجر، سابق للنوم، تشتيت لجمع العقل، إبادة للتحفظ مبرد للحرارة، إظلام للصلاة. ومثل هذا قال الآباء كثيراً.
– أما الأدب في الكلام، من حيث كيفيته، فعلمونا أن نبتعد من أشياء كثيرة:
– فأولاً- الكلام الباطل الغير المفيد، كالذي قال عنه الرب أننا نعطي عنه الجواب. وقال القديس باسيليوس: إن دعت الحاجة إلى كلام فليكن مما فيه المنفعة للأخوة أو للغير، وما سوى ذلك فمرذول لأنه كلام باطل.
– ثانياً- الكلام العديم الترتيب. أي يجب أن لا نتكلم إلاّ بفهم وعدم تخليط. وعن هذا يقول القديس أفرام: فخر الراهب الكلام الصادق المرتب حسناً. وقال الرسول: ليكن كلامكم في كل حين متبّلاً بالملح لتعرفوا ما ينبغي لكم أن تجيبوا.
– ثالثاً- الكلام الغير المعتدل الصوت، أي يجب ألا نرفع صوتنا بالكلام كثيراً، ولا نخفضه كثيراً، كقول القديس باسيليوس: لا ينبغي أن يصيح الواحد للبعيد منه بزيادة عما تدعو الحاجة إليه. وقال القديس السلّمي: لا تصرّ صموتاً غير ناطق إذا سببت لآخرين قلقاً ومراراً. أي متى سئلت ولم تردّ الجواب، أو أجبت بصوت لا يسمع فيه الكلام، فقد أنقصت في الأدب وأخطأت ضدّ المحبة، من حيث أنك توجع وتمرمر الذي يخاطبك.
– رابعاً- الهزء والمزاح. قال القديس إسحق: إن المزاح والمخرقة يولدان الزنى. وقال القديس باسيليوس: لا يمكن للنفس أن تكون مستيقظة فيما لله ومنهرقة في كلام الهزء. وقال النبي: طوبى للرجل الذي لم يجلس في مجلس المستهزئين.
– خامساً- الكلام القاسي اللذاع. وهذا قد نهى عنه الرسول بقوله: لا نأتِ بشيء نحزن به إخوتنا. وقال أيضاً: إن المحبة لا تأتي بما يكره. والحكيم يقول: الكلمة القاسية تهيج الغضب.
– سادساً- الكلام الخبيث والكذب والمراءاة أو ما شاكل، مما نهى عنه الرسول وقال: هذا جميعه فلينتزع منكم. والكتاب المقدّس يقول: إن الخبثاء يستأصلون. والمرتل يقول مخاطباً الله: وتهلك كل الذين يتكلمون بالكذب. وما أكثر ما أعطى الرب الويل للمرائين.
– سابعاً- كلام الدينونة والنميمة والثلب وما شاكل ذلك، مما نهت عنه الكتب المقدّسة والآباء الأفاضل. منهم قول الرب: لا تدينوا لئلا تُدانوا. وقال القديس السلّمي: تجاسر أحدِنا أن يدين غيره هو إختلاس وقح لرتبة إلهنا. وقال النبي: أني كنت أطرد الذي كان يقع بقريبه خفياً. وقال الحكيم: الثالب هو رجاسة الناس. وقال يعقوب الرسول: لا تتذمروا، أيها الأخوة، بعضكم على بعض، لئلا تدانوا.
– ثامناً- المخاصمة والمشارّة في الكلام. قال الرسول: عبد الله ما سبيله أن يخاصم. وحكي عن أحد الآباء أنه لما أراد أن يدخل إلى قلايته دار حولها ثلاث دورات ثم دخل. فلما سئل عن السبب، أجاب: أني سمعت صوت الخصام بإذني، لأجل ذلك درت ثلاث دورات حتى طرحت ما سمعت من أذني قبل أن أدخل قلايتي. وغيره من الآباء كان محملاً عمل يديه على جمل ذاهباً به ليبيعه. فلما رأى الجمّال يريد مخاصمته، ترك كل شيء له وهرب.
– تاسعاً- المماحكة والمجادلة في الكلام. قال القديس السلّمي: إن الذي يريد أن يقيم كلمته في الخطاب، وإن كان قوله حقاً، ليعلم أنه سقيم بداء المحال. وقال بعض الآباء: إن المماحكة تدفع الإنسان إلى الحرد، والحرد يسلمه إلى عمى العقل، وعمى العقل يجعله أن يصنع كل الشرور. وقال إبن سيراخ: لا تجادل عما لا يضرك. وقال الأب بيمين: إبتعد من كل إنسان مماحك يحب قيام كلمته.
– عاشراً- كلام العجب والتنفخ، كمخاطبة الرؤساء والأكابر، المتكلمين بصيغة الجمع لا المفرد، كمن يقول: أخذنا وأعطينا وصلينا. فمثل هذه المخاطبة الضخمة لا تليق بالزاهد المختص بسيرة التواضع. ولا أيضاً المخاطبة بها تليق بالأدب الرهباني، بل يجب على الراهب أن تكون كلماته ومخاطبته متواضعة محتشمة بصيغة المفرد. فيقول أخذت أعطيت كتبت صليت وأمثال ذلك. وهذا قد نبه منه الآباء كثيراً والكتب مملوءة منه أعني أن يكون الراهب متواضعاً في كلامه غير متباهٍ في مخاطبته. والرب تعالى يقول: إن الكائن المتعظم في قليل كلامه هو كائن ومتعظم أيضاً في كثير أعماله. ومن هذا نفهم أن كل كلام ينتج لنا عجباً وافتخاراً، من أي نوع كان، فذاك يعيب بسيرة الأدب الرهباني مطلقاً.
– الحادي عشر- الحلف والقسم. قال الرب: ليكن كلامكم النعم نعم، واللا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير. ويعقوب الرسول يقول: ليكن كلامكم النعم نعم واللا لا، لئلا يجلب عليكم القضاء. والقديس المعروف بالشيخ يقول نحو الرؤساء: أيها الأب أوصِ أولادك ألا يحلفوا بإسم الله تعالى في جميع أقوالهم جهلاً وتحامقاً، بل ولا يلفظوا إسمه القدوس بقسم أصلاً. وقال القديس أفرام: الجهل الموبق في الإنسان يعوده أن يحلف بفمه. فهذه جملة الأدب الواجبة ملاحظته في الكلام على سبيل الإختصار.
– أما الأدب المتعلق بالعمل فهو:
– أولاً- أن نبتعد من الضحك وكل الخلاعة، لأن الرب يقول: الويل لكم أيها الضاحكون. وقال القديس أفرام: إن الضحك يحذف تطويب النوح وينقض الفضائل المبنية، ويحزن الروح القدس. وقال أيضاً: لا تجرّب أخاك بإجتلابك أشكالاً مضحكة لئلا تدفع إلى الشدائد.
– ثانياً- يجب أن نتجنب كل عبوسة وحركة حزن مع غيرنا كقول الأب أشعيا: ليكن وجهك عبوساً أبداً، إلاّ إذا أتاك أخوة، فكن معهم باشاً. وقال القديس نيلس: كن في سلامك حلواً وفي جوابك بهياً صالحاً. وحكي عن الأب سيصويص أنه مرة تنهّد قدام أخ كان عنده من غير أن يكون واعياً- لأن عقله كان مشغولاً في الصلاة. ولما رجع إلى ذاته قال للأخ: إغفر لي يا أخي، فإني بعد لم أصر راهباً، لأني تنهدت قدامك.
– ثالثاً- يجب أن نبتعد من كل حركة تخالف الأدب في المشي والتخطر. أي لا نتقدم قدام من هو أكبر منا، متى مشينا معه، بل نتأخر عنه قليلاً، كما هي وصية أكثر الآباء. وليكن شكل مشينا برصانة وورع، ولا نضع، وقت مشينا، رداءنا على كتفنا، ولا نحدف بأكمامه إلى الوراء، ولا نكتف أيدينا إلى خلفنا، ولا نرفع صدرنا وحواجب أعيننا وننصب عنقنا. وجملة الكلام كل شيء يفعله أهل العالم من التنزه والتباهي والتخطر وقت المشي، فلنرذله بالتمام. وفي هذا المعنى قال القديس أفرام: جاهل من يمشي ويحرك ساعديه وكتفيه تحريكاً بألم، وعلامة نقص الأدب في الراهب، أن يشيل جانب مزرته شيلاً بألم. وقال أيضاً: تزين الثياب وعين طموحه وعنق منتصب ومنكبان مكشوفان ورجلان يسيران سيراً ألمياً، هذا يستدعي إلى الموت. وقال الأب أشعيا: إذا كنت تمشي لا تلتفت إلى هنا وهناك.
–رابعاً- يجب الإحتراس من نقص الأدب في الجلوس، أي لا تتكئ على الجانب الواحد وقت جلوسك، أو تضع الرجل الواحدة فوق الأخرى، كما كان يصنع القديس أرسانيوس في إبتداء رهبنته، فأدبّه الأب بستوريوس وجعله أن يجلس مستوياً. ثم يجب أيضاً أن لا يرى، وقت جلوسنا، شيء من أرجلنا مكشوفاً. وهذا قد مرّ ذكره في الفريضة الأول من هذا الباب.
– خامساً- الحذر من زينة الوجه واللحية ونظافة الجسم الألمية مطلقاً. قال القديس أفرام: أيها الراهب، هكذا بلا خشية تنظف ذاتك وتزينها! إسمع الرسول القائل: الشهوات الشبابية أهرب منها. وقال أيضاً القديس المذكور: وسخ الرجلين بقلب نقي، أفضل من الإهتمام بتنظيفها وغسلهما بألم. وقد جاء عن أبينا انطونيوس أنه لم يغسل رجليه عمره كله. وقد أجمع رأي الآباء على أن المحب زينة ذاته هو خادم شيطان الزناء، أم شيطان العجب أم كليهما معاً.
– سادساً- يجب أن نحذر السرعة والتباطؤ في كل حركة تولد لغيرنا تمرمراً. أي متى كنت تمشي أو تعمل عملاً مع غيرك فلا تسرع أكثر منه إلاّ إذا أمرك بذلك، لئلا تقلقه. وكذلك لا تتباطأ لئلا تمرمره. قال القديس السلّمي: لا تكن عاجزاً في خلقك مبطئاً في خطواتك إذا أمرت أن تسارع. وإن لم تقبل، فقد صرت شراً من الهائمين المزعجين.
– سابعاً- يجب أن نبتعد من كل حرفة بطالة لا يحتاج إليها، لأنها تدل على طياشة القلب أو على خبث النية. والنوعان ضاران جداً. وذلك مثل من يحرك كتفيه ويغمز بعينيه، ويشير بأصابعه ويلوك بفمه ويسارر بكلامه، وما أشبه ذلك من الحركات الدالة على فاعلها، أما أنه عديم رصد أفكاره، مسلوب فهم الروحيات، أو أنه خبيث ردي السيرة والسريرة، ملاّق غدّار. قال القديس باسيليوس: إن الغمز والمسارّة في الآذان فلنرذلها لأن كل الغمزات لها نوع النميمة، وتحريك العينين أيضاً نميمة. وقال بعض الآباء: لا تغمز بعينيك ولا بأنفك ولا تكثر حركة يديك ورأسك. وقال غيره: لا تولع بأصابع يديك ولا بأنفك ولحيتك. وأنا أقول لا تولع أيضاً بمسبحتك ومفتاح قلايتك، وبالجملة لا تشغل حركاتك إلاّ بما تدعو الحاجة إليه.
–ثامناً- لا تتظاهر بحركات العبادة الخفية التي تقدر أن تكملها سراً، أو لا ضرورة لها لتكميل العبادة، مثل حمل المسبحة في الزنار، وغير ذلك من كتب الصلاة. ومثل قراءة سلام السيّدة كلما قرع ناقوس الساعة، خلاف العادة المشاعة، ومثل الدموع والخشوع، متى ما ذُكر إسم السيّد، أو نظرت صورته أو صورة والدته بيد أخيك. ومثل السجود والإستغفار والإعتذار فيما لا يلزم وفي غير وقته وقرع الصدر في الكنيسة في مجمع الإخوة، خلافاً للعادة، والهرب من بعض خصوصيات في المآكل والتنزه مع الأخوة، وتطويل الصلاة والقداس بزيادة خلافاً للإخوة، وصلب اليدين في الكنيسة خلافاً لعادة الإخوة. وبالجملة، كل عمل مفيد لا تلزمك فيه الطاعة ولا يناسب موافقة الجمهور، لا تفعله جهراً، لأنه يخالف الأدب ويؤذي التواضع.
– وقد نهى عن مثل هذا القديس السلّمي بقوله: إذا ما حضرت مع إخوتك لا تجتهد البتة في أن تستبين أوفر منهم براً، فإنك تعمل من الشر صنفين: تقرّع أولئك بحرصٍ فيك، كاذب مصنّع، وتسبب لنفسك، من كل بد، إستعلاء في عزمك. كن حريصاً في نفسك، ولا تظهر ذلك البتة، لا في جسمك ولا في شكلك ولا في كلامك ولا في رمزك. إنتهى كلام القديس. ويجب أن نعلم أنه يحسن بالراهب أن يتمسك بعبادات خصوصية تزيد على غيره في الظاهر، لكن إذا كان تدبيرها حسب رأي الرئيس حينئذ لا تعد من التي نهى عنها.
– تاسعاً- إحتفظ من أن تفعل شيئاً يخصك ويكرهه أخوك فيك، مثل أن تكشف قدامه عقورك وقروحك، أو تطرح قدامه بصاقك ومخاطك. وكذلك يجب ملاحظة الحشمة في السعال والتثاؤب والتجشؤ، وأن يتغطى في ذلك الفم باليد. وبالجملة كل شيء يستحى منه أو يكره، لا نفعله إلاّ لضرورة وبأدب. قال الأب أشعيا: إذا كنت جالساً مع إخوة وهاج بك أن تتنحنح، فلا تطرحه بين أيديهم بل قم ألقه خارجاً، ولا تتمطى بين أيدي الناس. وإن جاءك التثاؤب، فلا تفتح فمك وهو يذهب عنك. وإذا أُلجئت إلى السعال فالفت بوجهك إلى الحائط. وقال أحد الآباء: لا تستعمل حكاك جسمك بزيادة قدام أخيك. أما في الأماكن التي يستحى منها، فذاك لا يجب فعله البتة.
– عاشراً- الحذر من النزاقة والحدّة والإضطراب في كافة أعمالنا وحركاتنا مطلقاً، لأن الرب تعالى قال: أنه لا ينظر إلاّ إلى الوديع الهادئ الساكن القلب. والقديس السلّمي وغيره من الآباء قالوا: إن التمسك بالسجية الهادئة العديمة الإرتجاف والحدّة هو أمر ضروري لسيرة العبادة. والنزاقة والحدّة، عمى لناظر العقل.
– حادي عشر- الحذر من إنحلال الحواس. وهذا قد مرّ ذكره في باب الطهارة فلا حاجة إلى شرحه ثانياً. وجملة الكلام أنه يجب على الراهب أن يكون في جميع أقواله وأعماله مرتباً بهذا المقدار، حتى من النظر إليه يتمجد الله وتنتفع الناس. وهذا هو قول الله تعالى والآباء القديسين جميعاً. ومضمون معنى العمل فيه، هو أن تكون في صوتك وحركتك ومعاشرتك للناس معتدلاً، لا مفرطاً ولا بليداً، ولا تدنُ من شيء لا يلزمك ولا تفتش عليه. وهذا هو تمام معنى الأدب السابق تعريفه بأنه خوف الحياء والخجل. وقد طابق هذا الرأي القديس أفرام بقوله: مغبوط من يرهب كل شيء لأجل التورع، أي يحترص بجميع أقواله وأعماله لئلا يفوت حدود الأدب. ومن طلب الشرح بالأدب مستطيلاً، فليقرأ كتب الآباء، لأن هذا المختصر لا يسعه. والذي قلناه كافٍ لغرض القانون برسمه لنا أن نحتشم في سائر أقوالنا وحركاتنا.
Discussion about this post