الفصل الثالث عشر: الإنسان
وستعرفون الحق و الحق يحرركم
الفصل الثالث عشر: الإنسان
الإنسانُ شخصٌ فيه روحٌ وجسد، ينسبُ كلَّ شيءٍ إلى الأنا فيقول روحي جسدي رأسي يدي فكري قلبي … فالإحساس الرئيسي هو الإحساس بالأنا الشخصي والإنسان له شخصية تميّزه.
يولد الإنسان بصورةٍ مختلفة عن باقي الكائنات الحيّة، والحيوانات تُولَد وتقوم غالباً بحاجاتها بصورة سريعة فلا تحتاجُ الى معونة الأم إلّا نادراً، بعض الحيوانات يقوم بحاجاته فوراً، فالحيوانات في البراري، العصافير تحتاج إلى معونةٍ مؤقتة أمّا الإنسان فيحتاج الى معونةٍ طويلة، يُولد عاجزاً مئة بالمئة ولكنّه مزوّداً بالروح، الله له المجد خلق الحيوانات قادرة على الإكتفاء الذاتي أمّا الإنسان فخلقه لينشط ويعمل ويبتكر ويخلق ويتطوّر من حالٍ إلى حال وينمو بالمعرفة وبكل شيء، الحيوانات لها وضعها الخاص الثابت منذ بداية الكون حتى الآن، أما الإنسان فتطوّر كثيراً، قبل مئات السنين كان هناك بشرٌ بدائيين جداً جداً ولم يزل في العالم شيءٌ من الإنسان البدائي الأول، ولكن نرى عبر التاريخ أنّ الإنسان قابلٌ على التحسّن الدائم وعلى خلق الحضارات والمدنيات والثقافات والعلم وكل أنواع الوسائل التي تؤدّي إلى إرتقائه في كلّ الميادين، طاقات قوية جداً محدودة لأن الإنسان محدود،
ولكن في حدّ ذاتها هي طاقات هائلة جداً كما نرى اليوم في ميادين العلم والإبتكار. جسدياً إذاً هو ضعيف ولكنّه بالعقل يصير جباراً، جسدياً تركيبه رائع جداً ودقيق جداً وبالرغم من وجود عدد هائل من العلماء منذ ألوف السنين حتى اليوم فما زال جسد الإنسان معجزة وما زال الأطباء والعلماء ينكبّون على دراسته دون أن ينتهوا من المَهمّة الشاقة جداً، إعادة تركيبه البدني رائع ودقيق وعسير الفهم وبالرغم من وجود المجاهر الإلكترونية التي تكبّر مئة ألف مرّة فما زال البحثُ في بداياته رغم التقدم العلمي والطبّي والجراحي.
فإذا كان الإنسان يعيي العلماء في القرن 21، فكيف وُجدَ هذا الانسان؟ ومن خطط وجوده وتركيبه وبنيته؟ إن كان العلماء الكبار في أوروبا وأميركا ما زالوا تلاميذ في مدرسة تشريح الإنسان ودراسته، فمن كان موجوداً قبل آلاف ملايين السنين؟ الله أعلم متى إبتدأ الإنسان على الأرض.
مَنْ كان موجوداً ليخطط هذه الدنيا الهائلة؟ سامح الله المتكبّرين وأصلحهم، التواضع يصل إلى الله، الكبرياء تصل إلى الكفر بالله، فليتواضع بنو البشر. فإذاً في تركيب الإنسان المعجزات التي لا نهاية لها، ومع ذلك إن قارناه بالحيوانات وجدنا إمتيازات للحيوانات عليه.
فمن جهة النظر مثلاً نظر النسر أقوى من نظر الإنسان، من جهة الشمّ حيوانات عديدة تشمّ بسرعة أكثر من الإنسان حاسة الشم عند الكثير من الحيوانات والحشرات قوية جداً جداً. النسور والغربان والرخم ينهشون الجيف المنتنة ولا يتأثّروا برثيمها، الإنسان لا يتحمّل رائحتها، الثعلب والهر يأكلان عظام السمك،
هل نستطيع إن نتحمل نحن ذلك؟ الكلب وحيوانات كثيرة تقضّ العظام بأسنانها، الفيل جبّار بالخضرة البنيةالجسدية، الأسد قوي جداً وهكذا حيوانات عديدة أخرى. فمن ناحية البدنية إذاً هناك حيوانات عديدة تتفوق على الإنسان في القدرة والبنية والقوة والحواس( النظر، السمع، الشم) الكلاب البوليسية تشم، معرفة الطرق بعض الحيوانات بحاسة الشم وسواه تحفظ الطريق التي سلكتها، وهناك ملاحظات عديدة، عين البرغشة وسواها من الحشرات الصغيرة قوية جداً بالرغم من صغرها، حاسة الشمّ عندها كذلك قوية. هذا نتركه لكتب الإختصاصيين، ولكن أيّ إنسان كانْ يستطيع أن ليلاحظ هذه الأشياء بالبداهة لأنها أمورٌ بديهيّة.
هرةٌ صغيرة تأكل السمك كما هو ونحن لا نستطيع ان نتحمّل أيّ شيء من عظام السمك، الجمل يأكل الصبير كما هو، كيف؟ ماذا في جسم الحيوانات المذكورة حتى تستطيع ذلك؟ نترك ذلك للإختصاصيين ولكنها ملاحظات نستطيع جميعاً أن نلحظها. ولكن جبروت الإنسان في الروح، الروح والجسد ملتصقان إلتصاقاً دقيقاً لا يعلم كيفيته إلا الله.
كيف تتحد الروح بالجسد؟ الله يعلم ذلك. حاول ديكارت ان يحدد نقطة الإلتقاء وأخطأ، وأخطأ العلم الغربي معه في هذا التفريق بين الروح والجسد، بما أن الإنسان شخصٌ واحد في روح وجسد فلا نستطيع أن نفرّق، الموت فقط يفصل الروح عن الجسد، وما عدا ذلك هما منسجمان في وحدةٍ كبيرة جداً يعلمها الله لا الإنسان.
نعرف إنّ الروح تؤثر في الجسد والجسد يؤثر في الروح، كيف؟ لا نعلم ذلك بالتدقيق نلاحظ ذلك، الفرح يظهر على الوجه بالإبتهاج والتهليل والإنشراح، الحزن يظهر على الجسد بالهمّ والإكتئاب وتجعّد الوجه وإرتباك الإنسان، كل النواحي النفسية تؤثر في الجسد وكل النواحي الجسدية تؤثر في الروح أيضاً، لا نستطيع أن نفصل بينهما ولكن قد يحتجّ المادّيون، أين الروح؟
سؤالك هذا من أين أتيت به؟ هل له مكان في الجسد؟ هل تستطيع المجاهر الإلكترونية أن ترى الفكر والفلسفة واللاهوت والعلم في الجسد؟ يقول قائل الدماغ يعمل والأعصاب تعمل والجسم يتأثّر بالفكر وأحوال النفس يتأثر لأن الروح والجسد متحدان مرتبطان أحدهما بالآخر.
ولكن هل نستطيع أن نقرأ في الدماغ الفكر البشري؟ هل نستطيع أن نقول أن الدماغ البشري أنشأ ملايين الكتب التي تملأ مكتبات المدن الكبرى؟ هل الدماغ هو الذي يفكّر؟ الدماغ آداة بيد الروح.
بما أن الإنسان شخص فيه روح وجسد فلا يمكن الفصل بين الإثنين، كلاهما يعملان معاً والجسدُ آداةٌ للروح، الروح هي التي تحرّك الجسد وتطلقه، الروح عنصر آخر مختلف جذرياً وإن كان متحداً بالجسد، الروح تتمتّع بالعقل والحرية، فهل الحرية موجودة في عالم المادة وفي العالم الأرضي كلّه؟
الحرية من ميزات الروح، يستطيع الإنسان أن يتقلّب بين ملايين المواقف، لا يستقر الإنسان على حال، هو يتطور بإستمرار كما قال العالم الروسي الكبير أوبارين: التطوّر هو في عالم الإنسان يتطوّر من صفر حين الولادة إلى رجل علم وثقافة وفكر وعالم ومخترع ومفتكر، أخلاقياً يستطيع أن يكون ذا أخلاق سامية ويستطيع أن يكون ذا أخلاقاً منحطّة، يستطيع أن يتقلّب بين العدل والظلم بين العفّة والإنحراف، الإرتباك والصحو، يستطيع ان يتنقّل بين الصدق والكذب بين الإستقامة والإعوجاج، بين كلّ الفضائل وكلّ الرذائل، يستطيع أن يتنقّل بينهم، يستطيع أن يغيّر رأيه أن يغيّر تفكيره أن يغيّر عقائده أن يغيّر مبادئه، وخلال العمر تتطور معارفه وأفكاره وعقائده ومبادئه، من يبقى كما هو إلا الحجر؟
كلّ إنسان يتطوّر، والإنسان قابل للعلم والثقافة والفكر وهو ينطق باللغات ويترجم بين اللغات ويكتب ويخطب ويتكلم ويخطط ويدرس الكون ويقوم بدراسات. هل الحيوان يقوم بدراسات؟
يقول قائل فالجسد يشترك بهذا كلّه، أنا لا أنكر ذلك، أنا لست من الذين يفرّقون بين الروح والجسد، الروح والجسد متحدان إتحاداً لا يعلمه إلّا الله، كيف هما متحدان؟ الله وحده الذي خلقني هو الذي يعرف كيف روحي وجسدي يتحدان، كيف يرتبطان، الروح والجسد متحدان إتحاداً قوياً جداً. الروح هي التي تصنع الحضارات والمدنيات والثقافات والأفكار واللغات والشعر والأدب والموسيقى وتبتكر الإبتكارات وتصنع الأدوات والمركبات الفضائية وكل شيء.
كل هذا يحتاج إلى الروح، والروح لا تقف عند حدود العقل فقط، فالعقل بدون الحريّة يصبح شيئاً محدداً، أمّا الحرية هي التي تتيح للإنسان التبدّل والتغيّر والإنتقال من حال الى حال، تسمح له بالتعلّم بالتبدّل، هل هناك تربية ممكنة بدون حرية؟ كيف نربّي الإنسان؟ علامَ نتكل في تربية الإنسان؟
أليس على حريته؟ الإنسان حرّ ولأنه حرّ نستطيع أن نبدّله ونغيّره ونطوّره أخلاقياً وفلسفياً وعلمياً، كلّ إمكانات التطور موجودة أمامنا لنبدّل الإنسان. الطفل نؤثر فيه لأنه كائن حرّ نبدِّله ونصنعه، لماذا؟ لأنه كائن حر، هل نستطيع أن نصنع الحيوانات؟ كل هذه الكيانات في التاريخ وفي العالم وكل هذه المليارات من البشر ماذا يغيّرها عن الحيوان؟ الروح بصورة عامة، ولكن في المنظور والملموس نرى الإنسان ذا عقلٍ يفكّر وذا حرية تساعده على الإنتقال من حالٍ الى حال وعلى التطوّر من حالٍ الى حال، فقد يَسيرُ إلى الأعلى وقد يسير إلى الأدنى وقد يهفو في منتصف الطريق.
في العالم اليوم مليارات الناس مليارات من الرجال والنساء، هل يشبه أحدهما الآخر؟ هناك إختلاف بين البشر لأن لكلّ إنسان شخصيته، وكلُّ إنسانٍ ذو شخصٍ خاص به يميّزه عن سواه، مهما تشابه التوأمان تبقى لكلٍ منهما شخصيته وشخصه، يبقيان متميزان مهما تشابها. فإذاً عالم الإنسان هو عالم التميُّز عالم الإبداع عالم الإبتكار والإختراع والخلق، عالم التطوّر المتواصل، كلٌّ منّا يعرف أنّه إن توقّف في حالة معينة فَقَدَ إمكاناته البشرية، الذين يصابون بالجنون مهما طرأ عليهم فقدوا قواهم العقلية وصاروا عاجزين عن التطور الحقيقي، يُطبَّبون ولكن هل يعودون مئة بالمئة الى الصحّة التامة؟
وإن عادوا إنتكسوا أيضاً. فكل نقص في قوى الإنسان العقلية وفي الحرية يؤدي الى إرتباك في تطوّر الإنسان. ولكن الإنسان السليم يتطور بإستمرار وهو خلاقٍ مبدع، هو إقنومٌ، هو شخصٌ بشريٌ على صورة الله، ولذلك فهو خلاقٌ على صورة الذي خلقه، توضع له البرامج التربوية والثقافية والعلمية فينمو ويتقدّم الى الأمام. الإنسان مبدئياً يتطوّر إلى الأمام، وإن طرأ طارىء فأوقف تطوره عاد الى الوراء وإنتكس وتراجع. المصدومون نفسياً يتراجعون إلى الوراء ينتكسون وبدلاً من التقدم يتراجعون، الصدمات النفسية تؤثّر في قوى الإنسان العاقلة وفي العواطف وفي النموّ السليم، فيخسر الإنسان الكثير من طاقاته وقدراته، بينما إن ربّينا الإنسان تربيةً جيدة تفتحت طاقاته ونما نمواً سليماً.
منْ لا يتقدم يتأخر، فشريعة الحياة البشرية هي التقدّم الى الأمام، لا يتوقف الإنسان. عندما يتكاسل الشيخ ويتوانى نراه يصاب بالخرف أمّا إذا إستمر الإنسان في نشاطه الثقافي والعلمي والأدبي نراه يلمع، كلّما تقدم في العمر تقدّم في الحكمة. فإذاً شريعة الحياة الكبرى هي أن لا يعود الإنسان إلى الوراء بل أن يسير دائماً إلى الأمام، أن يتقدم بإستمرار ولكن عليه أن يُراعي طاقاته فلا يقع في إجهاد يرهقه ويتعب طاقاته، عليه أن يسير سيراً نسبياً لئِلا يصاب بالإجهاد، الإجهاد يسمّم طاقات الإنسان.
هذا الإنسان إذاً المخلوق على صورة الله، ماذا طرأ عليه؟ الكتاب المقدس يعلّمنا إن سقط من الجنّة وخسر الكثير من طاقاته ودخل في الفساد عليه والإنحلال وتشوّهت صورته، وقد قال مكسيموس المعترف أنّه تقطّع ألف قطعةٍ، وقال سواه أنّه مرآة إنقضت أرضاً فتهشّمت، ولكن كيف العودة إلى الصحة الروحية والخلاص من هذا التهشّم؟ الإنسان سقط وبسقوطه صار ينجرف وراء أهوائه الجسدية، يولد وحاجته الى الطعام والشراب والكساء ماسة جداً، فإذاً في بداياته الإنسان كائنٌ ماديٌ أو بالأحرى حيواني، حاجاته المادية هي الحاجات الرئيسية، يعلّمه الأهل النّطق شيئاً فشيئاً، يدخل في هذه الأيام المدارس فيتعلّم في المدارس وينمو، ولكن في نشأته حاجاته المادية هي الحاجات الأساسية التي يستميت الأهل في تقديمها إليه، ومنذ أن ينشأ الطفل شرهاً وقاسياً فيعضّ حلمة أمّه أحياناً، ويُعاند أمّه ويصطدم بأهله وبأمّه خاصة كثيراً لأنه لا يرى إلا بعينيه ولا يسمع إلا بأذنيه ولا يلمس إلا بجسده ويديه، يريد ان يضع كل شيء في فمه يريد ان يلمس كل شيء، قد تضطر الأم والأهل إلى التدخّل لمنعه من أشياء كثيرة جداً، وينمو شيئاً فشيئاً وهو منكمشاً على ذاته مرتبطٌ بحاجاته الجسدية، فمه يسيطر عليه، ينمو ويتعلّم، يقوى ولكن تبقى حاجات الجسد قوية جداً جداً. من هنا ينشأ الإنسانُ جسدانياً حسوداً غيوراً، منذ نشأته هو غلوظ يتحرّك في بطن أمّه غاضباً أحياناً إن طرأ شيءٌ يزعجه، يُولد ليغضب إذا طرأ ما لا يسرّه، يعضّ حلمة أمه، يرضع بشراهة يأكل بشراهة يلتهم الطعام بشراهة، هذا لا يخلو من الغريزة العدوانية على الطعام وعلى الحليب، في كل هذه المظاهر نرى العدوانية، فالعدوانية إذاً قديمة في الإنسان.
في التحليل النفسي نستعمل كلمة التضاد وقد عرّف أرنست جونس الإنكليزي التضاد بتواجد الحبّ والكراهية في اللّاشعور، الحبّ والكراهية في اللاشعور مشكلة المشاكل في حياة الإنسان، الحبّ والكراهية يلتقيان ويتدافعان ويمتزجان ويختلطان ويفترقان، لا تستطيع مراقبتهما في إنسانٍ واحد مدى العمر لأنهما يتحركان بإستمرار وبصور لا تُعدّ ولا تحصى، هما مشكلة أساسية في حياة الإنسان، يتحرّك بينهما مثل المكوك، ومكوك دائم ما دام الإنسان حيّاً.
التربية تحرص على تنمية في المحبة وتمصل العداوة والكراهية نسبياً، لا نجاح باهر في هذا الميدان مئة بالمئة يبقى الإنسان غلوب عدواني أناني. القديس مكسيموس المعترف يعتبر الأثرة هي أمّ الأهواء. الإنسان أناني منذ الطفولة، أناني كبير وتدور أهوائه ورغباته حول أنانيته فبسبب أنانيته يتصرف تصرفات غير إجتماعية، التربية هي التي تحوّل الإنسان الى كائن إجتماعي وبصعوبة، وبالرغم من المسيحية ومن العلم والتقدم والثقافة والفكر ما زال الإنسان يشكو من التضاد، ما زالت العداوة قائمة في اللاشعور، كيف نتغلب عليها؟ الأمر يحتاج الى تربية روحية خاصة والى النعمة الإلهية، بالطاقة البشرية لا نستطيع أن ننتزع من الإنسان الكراهية المستترة في أعماق أعماقه، فهي التي تسبب لنا مشاكل عديدة في الحياة، هي المسؤولة عن الحروب وعن العدوانات وعن الكراهيات وعن الإفتراءات وعن الذم والقدح والنقد وكل المشاكل التي تطرأ بين البشر وفيها عدم رضا مبنية على التضاد والكراهية. المحبّة التامة الكاملة هي عمل النعمة الإلهية، بدون النعمة الإلهية لا تُنزع منّا النزوات العدوانية نبقى مدى العمر نشكو منها، التربية تخفيها بنسب معينة، ولكنّ المهمّ هو الخلاص منها بتربية واعية. الكبت لا ينهي المشكلة، الذي ينهي المشكلة هو التطوّر الروحي الداخلي، التطور الروحي الداخلي بالنعمة الإلهية بالتوبة، والإنسحاق هو الذي يريح الانسان ويخلّصه الى حدٍّ ما، لله أعلم بهذا الحدّ من العدائية.
رأيت مرة ناسكاً كبيراً ينرفز للحظة عابرة ويستعيد هدوءه كيف؟ لأننا نتطور روحياً ونحاول إختراع الغضب من عروقه الأصلية ولكن لا ينتزع مئة بالمئة تبقى هناك حركات خفيفة تظهر على السطح أحياناً ولكنها غمامةُ صيفٍ تذهب سريعاً، فالصّراع الداخلي الأخلاقي بين الحبّ والكراهية، بين الغضب والوداع، هذا صراع العمر، يقضي الأنسان عمره كلّه روحياً وهو يصارع الغضب وهو يصارع الأهواء الرديئة وهو يصارع الغيرة، الحسد.
الطفل غيّور ولو كان عمره تسعة أو عشرة أشهر، فالغيرة موجودة والغيرة تؤدّي إلى القتل كما نرى في حادثة قايين وهابيل، فقايين قتل هابيل وحوادث الأذى التي يتسبب بها الغيّور لا تُعدّ ولا تحصى، الغيرة بين الأخوة وبين الأهل وبين الأصدقاء.
الغيرة مرض متعصٍّ في كلّ إنسان، له فوائده ولكن له أضراره الفاحشة. الغيّور الحسود يكره، هو أناني كبير، الغيرة ترتبط بالأنانية والعدوانية، لها مظهر حبّ ولكنّها في النتيجة هي عدوانية، أغار على أختي ولكن هذه الغيرة لا تخلو من عدوانية تجاه الغير، يغار الرجل على زوجته ولكنّه عدواني بالنسبة للغير، والرجل الغيّور يزعج المرأة جداً جداً، بعض الغيّورين يرهقون النساء بأساليبهم وقد يلجأ بعضهم إلى إيذاء المرأة الى الضرب والإيذاء والشك والإتهام، وتصبح الحياة جحيماً بين الإثنين وتنتهي أحياناً كثيرة بالطلاق. ولذلك الإنسان معقّد جداً.
الطفل أناني رقم واحد متمركز حول ذاته، التربية هي التي تخلّصه من الأنانية والتمركز حول ذاته وتفتحه على الحياة الإجتماعية ومع ذلك يبقى الأخوة غيّورون لا يخلون من شيء من الكراهية المبطّنة أيّ التربية العادية لا تنقذ الإنسان من التضاد. لا بدّ من التربية الروحية، التربية الروحية وحدها تنقذ الإنسان بنسبة كبيرة من التضاد، فيصبح الإنسان محباً لا يكره. والتربية مهمّة عسيرة تلعب الأم الدور الرئيسي فيه.
الأم في الحقيقة هي الرسول الأول في الكنيسة، هي التي تلقّن أبنائها الأصول الدينية التي تختمر في اللاشعور وفي الشعور فينشأ الإنسان متديناً، وبدون الأم لا يستطيع المجتمع أن يسدّ الفراغ أبداً. أمٌ تافهة لا يستطيع المجتمع بسهولة أن يسدّ الفراغ عند أبنائها، فلا بدّ من تربية جيّدة للبنات للنساء لكي تكون التربية، رسالة المدرسة الأولى هي الأم، الرسول الأول هي الأم، أنا لست متحيّزاً للنساء ولكني أقرّ حقيقة واقعية. فالإنسان إذاً ذو طاقات جبّارة عملاقة في كلّ الميادين، ومن هذه الميادين القداسة، ولكن ويا للأسف الشديد سقوط الإنسان يجرفه نحو الأهواء والشهوات والرغبات الجسدية والأرضية والدنيوية، فيحوّل نظره عن السماويات الى الشؤون الأرضية. وهكذا نرى البشر يسيرون نحو الهاوية بكمية كبيرة.
وما نراه اليوم في العالم غريب جداً. لماذا؟ لأنّ الإنسان يسير نحو الفردية والأنانية، وما يسمونه حريات ليس بتسمية صحيحة فالحريات تلتصق اليوم بالأنانية والفردية في كلّ الميادين، ولذلك صارت العلاقات العائلية ضعيفة والعلاقات الإجتماعية ضعيفة، وصار الناس مصلحيين وصارت علاقاتهم قائمة على المصلحة وقائمة على الهوى والرغبات.
لم تعد المحبة العميقة هي التي تحكم المجتمعات، المصلحة صارت هي الشيء الرئيسي في حياة الشعوب والأمم والأفراد، والمصلحة تقوم على الأنانية فصارت الأنانية هي ربُّ الناس ومتى قلنا أثرة وأنانية قلنا أن الإنسان منكمش على نفسه متمركز على نفسه، على العالم الآخر أن يكون محباً أن يكون إجتماعياً أن يكون إنسانياً يتحسس حاجات الناس يهتم بأمور الناس يكرّم الآخرين ويفضّلهم على نفسه ويخدمهم بشجاعة ورفق، أن يتحسس أمور الناس أن يكون معطاءً يهتم بالفقراء والمساكين والمحتاجين والبائسين والمرضى والمساجين وكل الناس الذين هم بحاجة الى المعونة، أن يكون رقيق المشاعر متجه نحو الآخرين بمحبة فائقة، أين هذا اليوم؟
في هذه الأيام الأنانية هي الأساس، الأغنياء يصرفون ملايين الدولارات في ألعاب القمار وما إلى ذلك من الأمور السخيفة التافهة في البذخ في الحفلات وينسون أن هناك في العالم أقوام جائعة ومريضة، الأغنياء ينفقون على كلابهم وقططهم ثروات بينما هناك ملايين يحتاجون إلى رغيف الخبز. هذه الدعوة إلى الحريات تبطّن الأنانية والفردية ولذلك نرى الحياة العائلية تتفكّك على نطاقٍ واسع، وهذا ما سأعرضه في فصلٍ قادم. فإذاً أنتهي إلى أن الإنسان عملاق بالرغم من سقوطه، عملاقٌ في الخير وعملاقٌ في الشر، إن سار في طريق الخير وصل إلى القداسة وصنع المعجزات، وإن سار في طريق الشر كان في الجحيم، ونعرف كيف هؤلاء الأشرار في القرن العشرين ضحّوا بمئات الملايين من الناس إمّا سفكاً وإمّا جوعاً وتشريداً وتتييماً وترويلاً وتخريباً ووو.
الإنسان بدون الله هو شبه جحيم، الإنسان الفارغ من الله هو جحيم داخلية، لا يخلّصنا من جحيمنا الداخلية إلا يسوع المسيح له المجد. لا نستطيع أن نستهين الأمور ما دام التاريخ قد أخرج هتلر وجانكيخان وتيمورلنك وستالين وكاغانوفيتش وفيريا وسواهم من الفتّاكين المخربين، فلا أستغرب شيئاً. إذاً كل إنسان يخفي شيئاً من هتلر وتيمورلنك وستالين ونابوليون وباقي العتاد في التاريخ البشري، وإن كان أحدنا لا يصل الى درجتهم فلأنّ التربية حفظته من هذه الحالات السفّاكة لأن ظروفه لم تتح له أن يكون مثلهم، هؤلاء كلّهم أبناء جدتنا كلهم أبناء آدم. كل السفاحين والمخربين والمؤسيين والمدمرين روحياً أخلاقياً إجتماعياً سياسياً تاريخياً كلّهم أولاد آدم، ما من إنسان تحت السماء إلا هو من نسلِ آدم وكل الشرور الموجودة في العالم هي موجودة في طبيعة آدم، المسيح الإنجيل التربية أنسبت الناس بنسب مختلفة ولكن هذا لا يعني أننا صرنا جميعاً قديسين، لا نعرف في أية ساعةٍ تنفجر الأمور في داخلنا فننقلب وحوشاً ضاريةً أو مجانين سفّاحين لا يهدأ لنا بال إلا بالسفح.
الخطر موجود الخطر كامل في داخل كل إنسان ولذلك الإنجيل وحده الدواء الشافي، الإنجيل وحده يربّي الناس على المحبّة الحقيقية على السلامة الحقيقية على النمو الطبيعي الحقيقي المؤدي الى ملكوت السماوات. الإنسان عظيمٌ بأصله كصورةٍ لله ولكنّه جهنّم بسقوطه، يتصارع فيه هذا السمو الأصلي وهذه الجحيم الطاغية بسبب الخطيئة والسقوط، فلذلك المسيح كان ضرورة قصوى لإصلاح البشر ولو بنسبةً. فالإنجيل يعمل في التاريخ منذ حوالي ألفي سنة فطوّر أخلاق البشر وعاداتهم بنسبةٍ كبير ولكن ما زلنا بحاجة الى المزيد لأن يسوع يعمل والشيطان يحارب ويقاوم ويهاجم، فكلّما تقدّم المسيح كلّما هاج الشيطان، الشيطان هاج عبر التاريخ ضدّ المسيح مراراً وتكراراً ولكنَّ يسوع هو الغالب الذي إنتصر وسينتصر وكيفما كانت الأحوال فالنصر لربنا يسوع المسيح على الشيطان وأدواته، الشيطان له أدواته كما أن يسوع له رجاله، ولكن هل رجال يسوع نشيطون كما يجب؟ هذا سؤال مهمّ، على المسيحيين في العالم أن يضاعفوا جهودهم مئات المرات ليستعيدوا كرامتهم الحقيقية، عليهم ان يتخلّصوا من النظريات الفاسدة المادية وغير المادية ليتبنّوا الإنجيل، فالإنجيل وحده يؤمّن الرقيّ الإنساني الصحيح، يؤمن الإنسان الكامل فلا كمال خارج يسوع المسيح، كل شيء فراغ بدون يسوع المسيح.
يسوع هو الذي يسدّ الفراغ الداخلي عند كل إنسان، وما دام الإنسان فارغاً داخلياً فهو على إستعداد لإرتكاب ما شاء شيطان من الشرور، إمّا أن تكون آداة حرّة شريفة بيد يسوع وإمّا أن تكون أداة شريرة بيدّ الشياطين، لا حلّ لا سلام بين يسوع والشيطان، الحرب بينهما قائمةٌ حتى نهاية العالم والناس حزبان حزب ليسوع يرتقي إلى السماء وحزب لإبليس يسقط الى قعر الجحيم. ولذلك فعلى جنود يسوع المسيح أن يتسلّحوا بكل الأسلحة الروحية للقضاء على ممالك الشيطان، وممالك الشيطان موجودة في قلوب الضالين الذين ينهارون روحياً وينهمكون في الأمور الدنيوية والفساد ولا يلتفتون إلى الله، الذين نظرهم في الجحيم ولا نظرهم في السماء.
فيا يسوع الرب القادر على كل شيء أرسل ملائكتك القديسين ليحتاطون الناس جميعاً ليقودوهم في طريق السلام والمحبة والوفاء ويصلحوهم ويمنعوهم من سلوك السبل الملتوية.
أيها الرب يسوع قوّم خطوات الناس أجمعين نحو الملكوت السماوي السعيد وإجعل الناس أجمعين أبناء الغلبة لك في البرِّ والقداسة الحق، أنر الجميع بأنوارك الإلهية، أصلح الجميع بصلاحك، قوّم الجميع بروحك القدوس لنعيش لك عمراً شريفاً سليماً، لنصل بواسطتك الى الملكوت السعيد، ومَنْ الملكوت السعيد؟ أنت هو الملكوت السعيد لك المجد والإكرام والسجود مع الآب والإبن والروح القدس إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
Discussion about this post