الفصل الحادي والعشرون: الرياء
وستعرفون الحق والحق يحرركم
الفصل الحادي والعشرون: الرياء
في الفصل السادس من إنجيل متّى طعن يسوع في بِرّ الفريسيين لأنه بِرٌّ ظاهريٌ، فصلواتهم وصدقاتهم وأصنامهم ظاهرية نفاقية بينما الصوم والصلاة والصدقة تتمّ في السرّ والكتمان لمجد الله لا للمجد الباطل وللإحتيال على الأرامل والناس، بالتظاهر بالتقوى والباطن مملوء نجاسةً وخطفاً وكذباً ورياءً ونفاقاً.
طعن يسوع في الكذب وإعتبر الكذب عملاً شيطانياً، والشيطان هو أبو الكذّابين وأبو الكذب أيضاً ولذلك فالكذب خطيئة كبيرة. وطعن جداً في الرياء، والرياء عيبٌ كبير كثيراً لأنه يفرّغ الإنسان من كلّ ما هو داخلي عميق ليصبح ظاهرياً منافقاً خداعاً للناس. والرياء والخبث والكذب فئة واحدة، الخبث يدخل في الخطايا جميعاً لأن جميع الخطايا إلتواء وإنحراف، والخبث هو الإنحراف. بولس الرسول طعن في خمير الخبث والسوء فأوصانا بأن نكون صافين نقيّين أطهار مع الحق دائماً. ويسوع طلب بأن نقول الحق وأن نكون مع الحق، فالفرّيسيون طعنوا في عجائبه فقالوا انّه ببعلزبول رئيس الشياطين يُخرج الشياطين، فإعتبر ذلك تجديفاً على الروح القدس لأنّه يخرج الشياطين بروح الله، فكيف يقول ببعلزبول؟ ولذلك بولس الرسول قال مقولته الشهيرة في الفصل السادس من كورنثوس الثانية: لا علاقة إطلاقاً للحق بالباطل ولا للخير بالشر ولا للبِرّ بالإثم ولا للمسيح بالشيطان ولا لهيكل الله بهيكل الشياطين. الفصل كامل أمّا أشعيا فقال في الفصل الخامس والآية العشرين: وإلى القائلين للصدق كذباً وللبر إثماً وللإثم بِرّاً وللنور ظلام وللظلام نور وللحق باطل وللباطل حق وإلى آخره.
في المسيحية هذا أمر أساسي جداً ولذلك رفض يسوع المسيح أن ينكر الإنسان يسوع أمام الناس باللسان، فأمر له المجد بالإعتراف به علناً ولو كلّفنا الأمر قطع الرؤوس. فمن ينكره أمام الناس ينكره هو أمام أبيه الذي في السموات وأمام الملائكة. فإذاً هناك حرب ضدّ كلّ ما هو ظاهري، لا يجوز أن يكون في الإنسان باطن وظاهر، الباطن هو المهمّ والباطن ينعكس في الخارج، والروح الطاهرة تنعكس في الجسد الطاهر. ولذلك ليس في تعليم المسيح ما يسمح بالإنحراف لأي سبب كان.
مَنَعَ يسوع أن يُقسِمَ الإنسان الإيمان وأمرنا بأن يكون كلامنا نعم نعم لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير. علّمنا أن لا نُفني العمر في الهموم والغموم من معاشية وسواها بل أن نعتمد على الله وأن نتأمّل زنابق الحقل والطيور فهو يَقُوتها، ونحن علينا أن نتّكل عليه ولكن علينا أن نعمل أيضاّ، بولس الرسول قال: منْ لا يعمل لا يأكل. فالبطالة أم الرذائل والعمل أبو الفضائل. فالعمل ضروري أمّا البطالة فهي مرضُ العُضال، أمّ للرذائل، البطّال لا يفكّر إلاّ في الرذائل. علّمنا أن نكون صادقين، ما من باطن وظاهر بل الباطن والظاهر واحد. هذه الصراحة المطلقة مهمّة جداً لأنّ الباطنية مرض العُضال. يُسرّ الإنسان خلاف ما يُبطن فتعود العلاقات البشرية مضطربة لأننا لا نفهم متى يقول فلان الصدق ومتى يقول الكذب، ولا نفهم متى يكون مخلصاً أو وفياً ومتى يكون كاذباً منافقاً مرائياً خائناً، وفيٌّ في الظاهر خائن في الباطن، ذو وجهين ذو لسانين ذو قلبين ذو هويَين ذو ميلين، هو في جميع الأحوال لا يكون على وتيرة واحدة، متقلّب خائن لا يصمد لا يستخفي شيء لا يثبت في شيء، الثبات عدوّه يُرواغ كما يرواغ الثعلب، ليّنٌ كالصابون ولكنه بدون متانة داخلية. النفاق عيب كبير كثيراً. الرب يسوع وبولس وبطرس طلبوا العمق في الإنسان الداخلي العميق جداً جداً.
العمق الداخلي هو الأساس. ركّز يسوع على الطهارة، أن يكون الإنسان طاهراً، طاهر اللسان طاهر الحواس جميعاً، طاهر العينين. إن النظر إلى إمرأة إذا إشتهيها فقد زنى، لم يعد الزنى هو الفعل المادي بلّ صار النظر بخبثٍ ونيةٍ سيئة وزنى أيضاً. طهارة الحواس جميعاً مطلوبة. على الإنسان أن يكون طاهراً روحاً وجسدًا، يجب أن تكون أفكاره طاهرة وأفعاله طاهرة وكلامه طاهر وأن لا يًنطق إلاّ بالصالحات، وهو مسؤول عن كلّ كلمة بطّالة يلفظها، سيؤدي عنها الحساب يوم الدين.
طالَبَنا يسوع بأن نكون متواضعين وديعين لأنه هو متواضع ووديع، طالبَنا بأن نكون محبّين لأعدائنا مُحسنين، قال أحبّوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا من أجل الذين يلعنونكم. قال بولس الرسول باركوا ولا تلعنوا وإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فإسقه، فإذا أحسنّا إلى الذين يُحسنون إلينا فما الفضل في ذلك؟ الخطأة والعشَّارون يفعلون مثل هذا. طلب إلينا أن نُعامل الناس دائماً بالحسنة، علّمنا أن نتسامح وأن نتصالح وأن نتعاتَبْ لنصفّي القلوب من الضغائن وأن نأخذ معنا إثنين أو ثلاثة، إن العتاب لم يفد لكي تتمّ المصالحة على أيديهم، وإن لم يقبل منهم طلب أن نشتكي للكنيسة، وعلى الخصم أن يخضع لأمر الكنيسة ويصالح وإلاّ كان كالوثن والعِشَّار. الرحمة في الإنجيل مهمّة جداً، قال جئت لأطلب رحمةً لا ذبيحةً، جئت لأدعوا الخاطئين لا لأدعوا الصدّيقين. الرأفة بالمرضى الرأفة بالإنسان الساقط عظيمة جداً جداً. أبان لنا ضعف رجال الدين في عمل الرحمة في مثل السامري الشفيق فلا الكاهن ولا اللّاوي إهتم بالواقع على ضريح الجريح بينما خصمه اللدود السامري أشفق عليه وتحنّن عليه وعالجه. هذا المثل مهمّ جداً أيّ الإحسان إلى ألدّ الأعداء. المسيح على الصليب صلّى من أجل أعدائه، علّمنا بذلك أن نصلّي من أجل الأعداء، علّمنا التسامح والمصالحة، علّمنا ان لا نذهب الى القضاء بل أن نتصالح قبل الوصول إلى القضاء، علّمنا التسامح كما سامحنا هو، علّمنا التضحية المطلقة فبَذَلَ نفسه على الصليب من أجلنا، هو مات من أجلنا نحن الأعداء. فمن الذي يموت من أجل أعدائه؟ لو لم يكن إلهاً متأنّساً لما أقدم على هذا الموت من أجل أعدائه. ولذلك بهذا النوذج علّمنا أنّ علينا أن نبذل أنفسنا من أجل الآخرين، فالمحبة في المسيحية هي أساس كلّ شيء.
بَذْلُ الذات من أجل الآخرين هو العمل العظيم جداً المشابه لعمل المسيح والمهتدي بعمل المسيح، ولكن مَنْ يبذل نفسه من أجل أهله؟ فبالأحرى من أجل أعدائه؟ فبَذْلُ الذات عمل يحتاج إلى معونة إلهية لأنّ الإنسان أناني. ولذلك يسوع المسيح له المجد ببَذْلِهِ ذاته على الصليب علّمنا أن نخرج من الأنانية ونكون مضحّين بأنفسنا في سبيل الآخرين. ما حدود بذل الذات؟ رفض يسوع أن يقيّدنا بالإحسان إلى الأهل، طلب منّا أن نحسن إلى الأعداء إلى الخصوم، أن نبارك الذين يشتموننا، أن نصلّي من أجل أعدائننا، والصلاة من أجل الأعداء إن كانت بارّة هي عمل عظيم جداً جداً.
يسوع لم يطالبنا بالمحبّة الظاهرية وبالإحسان الظاهري، طالبنا بإحسان طاهر نقيٍّ من كل القلب. يُعطي الإنسان نفسه في إحسانه. ولذلك كان المسيح حرباً على البُخل حرباً على الشُّحّ. الغني الشّحيح الذي لم يشفق على لعازر بل أشفقت عليه الكلاب، أين كان مصيره؟ في الإنجيل؟ كان مصيره في الإنجيل الوقوع في الجحيم وفي العذاب الأليم. ما ذمّ المسيح الأغنياء بصورة مطلقة ولكن ذمّ بخلهم وشحّهم وتهافتهم على المكاسب وأساليبهم الملتوية، لذلك قال يَعثر على الغني دخول ملكوت السموات ولكن المستحيل عند البشر مستطاع عند الله. حبّ المال والطمع رزيلتان مذمومتان جداً في العهد الجديد، الكبرياء عدو العهد الجديد. تواضع المسيح بتأنّسه وصُلبه، هو العدو المطلق للكبرياء والعجرفة والإعتزاز بالذات والإنتفاخ والصَلَفْ وكلّ ألوان الإنتفاخ والعجب بالذات وحبّ المظاهر.
التواضع فضيلةٌ كبرى في المسيحية وأساسٌ كبير لجميع الفضائل، ويسوع ضدّ الغضب بجميع أنواعه وضدّ الأذى بجميع أنواعه. فالغضب ممنوع، القتل ممنوع، الأذى ممنوع، إيذاء الآخرين بأيّ طريقة من الطرق ممنوع، لا يؤذي الإنسان الآخرين لا بفكره ولا بلسانه ولا بيده ولا برجله. إستعمال السيف ممنوع قال: كل الذين يَأخذون بالسيف بالسيف يُؤخذون. إحترام الإنسان هو كلّ شيء عند يسوع لانّه مات من أجل الإنسان فكمّ يحبّ الانسان حتّى مات من أجله، وهو نفسه قال: “هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية”. هذا الحبّ المطلق دستور للمسيحيين، لا يجوز الإحتقار بل علينا أن نحترم كل إنسان في العالم وأن نعامل كل إنسان كأننا نعامل المسيح، نحترم الناس كأننا نحترم المسيح، نستقبلهم كأننا نستقبل المسيح، نُطعمهم كأنّنا نطعم المسيح. والعلاقة مع الإنسان لا تقتصر على الإحسان المادي، فالإحسان الروحي أهمّ من الإحسان الماديّ بقدر ما الروح أهمّ من الجسد. فالمعلمون الذين يعلّمون الناس التعليم المسيحي والأخلاق الحسنة هم يُحسنون كثيراً. ومَنْ يخلّص إنسان من الكفر ومن الخطيئة يحيي إنساناً وينقذ إنساناً من الموت الروحي. يسوع أحبّ الفقراء والمساكين والمرضى وتحنّن عليهم. في الإنجيل نرى الحنان الواسع على المرضى.
يسوع ألغى عقوبة الرجم فقال للساعين لرجم الزانية: “مَنْ كان منكم بلا خطيئة فليرمها هو حجراً في البداية”. وهكذا صَرفَهم. فكلّ الناس خاطئين ولذلك حرّم الدينونة لأنّ الدينونة تجريح للآخرين وقساوة وعداوة.
يسوع ضدّ قساوة القلب. الذين آتوه بالزانية للحُكم برجمها قُساةُ القلوب، وقُساةُ القلوب مَشحونون بالحقد والكراهية والقسوة والعُدوانية. يسوع منع ذلك كلّه، فطلب الطهارة من هذه الناحية، طلب أن نكون رأفةً ومحبةً للآخرين، طلب أن نحبّ الآخرين كما أحبّنا هو، طلب ان نبذل ذواتنا من أجل الآخرين، لا المال فقط بل أن نبذل الذات وأن نعمل كلَّ شيء بمحبة. الفصل 13 من رسالة بولس الرسول الأولى الى أهل كورنثوس آيةٌ من آيات الوصف للمحبة وصفات المحبة، فلتراجع في مكانها. علّمنا يسوع أن نحترم كلّ إنسان على وجه الأرض كأننا نحترمه.
يسوع أعاد إلى المرأة كرامتها، فالمراة في المسيحية تحتلّ مكانة هامة. بولس الرسول طلب من الرجل أن يبذل نفسه من أجل زوجته كما بذل المسيح نفسه من أجل الكنيسة، هذه الوصية مهمة جداً جداً. أوصانا بأن نرأف بالساقطين، فالساقطون لا يستحقون الجلد بل الرأفة والحنان، وهو أتى الأرض من أجل الساقطين فترك 99 خروفاً على الجبال وجاء يطلب الخروف الضال فحمله على مَنْكِبَيْهِ، هذا مثل جيد جداً حملنا على مَنْكِبيه. من الخروف الضال؟ كلنا ضالون، فلذلك كلّنا محمولون على كتفي يسوع. وذكر أن فرحاً في السماء يكون بخاطىء واحد يتوب، ركّز على التوبة. التوبة الحقيقية هي عصر، يعصر الإنسان نفسه عصراً ليبدل حياته برمتها وينتقل من حال السقوط الى حال اللّمعان.
علّمنا أننا أنوار في العالم، يجب أن يسطع نورنا أمام الآخرين ليروا اعمالنا الصالحة وليمجدوا آبانا الذي في السموات بفضل أعمالنا.علّمنا أنّ الإيمان بدون الأعمال الصالحة ميتٌ والأعمال الصالحة عديدة في العام الجديد.
ليست المحبة فقط هي كل شيء وإن كانت تجمع كل الفضائل في نظر بولس الرسول فهناك العفّة والطهارة الروحية والجسدية أيّ أن يكون الإنسان بريئاً روحياً وجسدياً. هناك اللطف والصلاح والوداعة والتواضع والإيمان والأمانة والصدق والإستقامة والعدل والإنصاف والنزاهة والمعاملة الجيدة للآخرين، أيّ أن نتعامل مع الناس كأننا نتعامل مع المسيح، أيّ لا يكون في التعامل مع الآخرين لا حقد ولا لؤم ولا خبث ولا إلتواء ولا نفاق ولا دجل ولا كذب ولا تزوير ولا تحريف ولا غشّ ولا أيّ لون من ألوان الخداع والمكر والبطش والغدر. علّمنا أن نشكر، والشكر مادة مهمّة جداً، فنكران الجميل عيبٌ كبير وإنقلاب كبير.
الإحسان إلى الآخرين يجب ان يُقابل من الآخرين بالشكر، إلحاح كبير في العهد الجديد على الشكر وأهمية الشكر. لا بدّ لنا من أن نتوجّه بالشكر إلى الله وإلى الآخرين. علّمنا أن ننصح الآخرين بوداعة، نحن مطالبون بإصلاح الآخرين وردعهم وهدايتهم وتأنيبهم ووعظهم، وهذا يجب أن يتمّ بروح الوداعة في الإجمال.
معاملة الغير في المسيحية هي معاملة إلهية أكثر منها إنسانية، أيّ يجب أن أتعامل مع الآخرين كما تعامل يسوع المسيح معهم، تعامُلُ يسوع المسيح طاهر وبريء مئة بالمئة، لا غش فيه ولا خداع ولا مكر ولا كذب ولا شيء تحتاني باطني، كلّه صريح وواضح وحق وعدل وإنصاف وشرف ونُبِلْ. شخص المسيح في الأناجيل معروف، لذلك على المسيحي أن يقتدي بالمسيح كما علمنا بولس، وهو نفسه قال: “كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات كامل، وكونوا رحيمين كما أن أباكم الذي في السموات هو رحيم”. هو طلب منا أن نكون كاملين كما أن أبانا الذي في السموات كامل، فإذاً يجب أن تكون كلّ صفاتنا كاملة، يجب أن نتخلّص من كلّ الأهواء أنّ نتخلّص من الشراهة من الطمع من الكسب الغير المشروع من الحسد والغيرة والحقد والكذب، أنّ نتخلص من كل العيوب، أنّ نتخلص من الزنى والشهوات الرديئة، ان نتخلص من المفاسد جميعاً من الإنهماك في الشؤون الأرضية. علينا أن نصوم وأّن نصلّي، فالصوم يقوّي الإرادة ويطهّر الروح والجسم ويدفعنا إلى الصلاة، والصلاة هي الرِئة التي نتنفّس بها الله. بالصوم والصلاة نلتصق بالله كما يجب ولا يتوهّم الناس انّ الصوم يضرّ الأطفال، هذا اللطف الزائد بالاّطفال مضرّ جداً، يجب تعليم الأطفال الصوم والحرمان لأنّ العطاء المفرط يخرّب نفس الأطفال، لا بد للإنسان من أن يكون متيناً. المسيحية تطلب من الإنسان أن يكون شهيداً في حياته في كل تصرفاته، شهيداً بروحه شهيداً بجسده شهيداً بأفكاره شهيداً بلسانه شهيداً بتصرفاته جميعاً. فإذاً كان المطلوب أن نكون شهداء، فالضعف والتراخي والكسل والميوعة والتلذّذ والعيش الرغيد المُفرط كل هذا سموم للحياة الروحية.
المسيحية أخرجت النسّاك الكبار، أخرجت العاموديّين في سمعان العامودي وسواه، أخرجت سيرافيم ساروفيسكي، أخرجت أنطونيوس الكبير وسواهم من النسّاك الكبار، أخرجت عشرات الملايين من الشهداء الذين ماتوا من أجل إسم المسيح، ورفضوا أن ينكروا المسيح وفضّلوا الموت على نكران المسيح. المسيحية تعلّم البطولة الروحية طبعاً لا الجبن والخوف والهرب والإنهزام، تعلّم العمل المجدي النافع الذي يخدم الله ويخدم الآخرين، تعلّم الناس أن يكونوا أبطالاً في الخير لا أبطالاً في الشر. تُعلّم السلام تعلّم الوئام والوفاق، والسلام أمرٌ مهمّ في المسيحية، ويسوع هو سلامنا، هو السّلام الذي جمع الناس كلّهم في منطقة واحدة بدون تمييز بين الناس، لا يميز أبداً لا بسبب الوطن ولا بسبب العِرق ولا بسبب اللون ولا بأي سبب من الأسباب، لا يميّز بين المرأة والرجل، بولس الرسول قال: لا عبد ولا حرّ لا ذكر ولا أنثى، الكلّ واحد في المسيح، يسوع المسيح له المجد علّمنا أن نحبّ المستضعفين فنرى في الأناجيل صديقاّ للخطأة وللفقراء والمساكين، وهو كان مع الشعب وصديق الشعب ورفيق الشعب، الجماهير كانت تتبعه ولكن المجلس اليهودي الأعلى هو الذي أفسد الشعب وهو الذي حرّضه على يسوع، أحسنَ الناسُ المستضعفين من مرضى وسواهم، أحسنَ للمرضى من كلّ الأنواع، الرسل، أحسنَ للجميع وكانوا يشعرون بآلام الآخرين. يسوع أوصانا بالجياع والعطاش والمسجونين والمرضى والغرباء، وإن عاملناهم يجب أن نعاملهم كما يعاملهم هو، وهؤلاء ليسوا فقط مرضى الجسد وعطاش الجسد وجياع الجسد، العطش الروحي والمرض الروحي أقوى بكثير، كلّ نسل آدم مريض روحياً، وجاء هو له المجد ليغسل خطايانا بدمه الطاهر.
سلسلة الفضائل في الإنجيل والعهد الجديد واسعة جداً وما على المرء إلاّ أن يطالع والمسيحي مطالب بمطالعة الإنجيل. الإنجيل يغرسنا في المسيح والروح القدس ينقش الإنجيل في قلوبنا، علينا أن نقتدي في المسيح، أين نجد المسيح؟ نجده في الأناجيل. والأناجيل خير مرجع عن حياة المسيح وفضائل المسيح وشمائل المسيح. لا أستطيع في فصل واحد ان أُورد كل ما جاء في الأناجيل عن يسوع المسيح. إحصائية أميركية ذهبت منذ سنوات الى أنّ عدد كتب حياة المسيح بلغ نيّفاً ومئة كتاب.
لاغرانس الفرنسي الشهير مؤسس المدرسة الكتابية في القدس قال في 1927 في كتاب حياة الرب يسوع مادِحاً كتاب Fillion إنّ المرء لا يستطيع أن يحلم بشيء أكمل من هذا الكتاب، يتألف من ثلاثة مجلدات في 1839 صفحة، والطبعة الثانية 1921 صفحة. طبعاً هناك مستجدات عديدة في الأبحاث العديدة، لذلك يحتاج إلى طبعة جديدة مزيّدة ومنقّحة ومصحّحة. فكتاب عن حياة المسيح بهذا الحجم، لا أستطيع ان ألخّص مثل هذا الكتاب وسواه في كلمات وفي فصول، ولكن الإنجيل موجود بين أيدينا نستطيع ان نطالعه لنتعرف الى ما فيه من كنوز روحية، نتعرف الى شخصية يسوع المسيح الفذّة، الإله الانسان، نسمع أحاديثه من فمه بالذات، أخلاق إلهية لا بشرية. والمطلوب منّا أن نكون ملائكة في الجسد، هذا عسير على الناس وأنا أعرف أن هذا عسير كثيراً على الناس ولكن الله يعيننا، نحن نؤمن بالنعمة الإلهية وما دمنا نؤمن بالنعمة الإهلية فهي تساعدنا في عمل الخير وبالتوبة نستطيع دائماً أن نغيّر أحوالنا وننتقل من حالٍ الى حال ونضع الفضائل مكان الرذائل.
قد يقول قائل إنّ الانجيل عسّر الأمور، هذا صحيح بالنسبة للضعفاء الذين لا يريدون أن يجاهدوا الجهاد الحسن، يسوع عدَلَ بملكوت النور فقال في الفصل 13 الآية 43 من إنجيل متّى: ويكون الأبرار شموساً مضيئة في ملكوت السموات. فإذا كنّا نسعى لأن نكون شموساً مضيئة في ملكوت السماوات فلا يمكن أن يقبل يسوع منا أن نكون 50-50 أي 50 في الفضائل و50 في الرزائل، لا يقبل ان تكون رِجْلٌ في الفردوس ورَجلٌ في الجحيم. الملكوت الذي سنصل إليه ملكوت روحاني عادل جديد واضح. الجسد لا يرث ملكوت السموات، الذي يرث ملكوت السموات هو الروح الطاهرة أمّا الجسد بشهواته وإندفاعاته وأهوائه… كيف يرث ملكوت السموات؟ هل من الممكن أن يرث السكّير والخاطئ والمنفسد أخلاقياً والملتوي أخلاقياً والمنحرف جنسياً؟ هل يمكن أن يرث هؤلاء ملكوت السموات؟ هل يمكن أن يرث ملكوت السموات اللصوص والسارقون والخطّافون والمعتدون على أعراض الناس وأموال الناس؟ هل يمكن للظالمين أن يرثوا؟ هل يمكن للقتلة والسفّاحين أن يرثوا؟ هذا مستحيل. لذلك مع المسيح لا يوجد شيء من الإحتمال للشرور، يجب ان يتطهّر الإنسان من كل الشرور ويصبح ملاكاً في الجسد.
السؤال صريح في الإنجيل سنكون في الآخرة مثل الملائكة، لا زواج ولا أكل ولا شرب بل سنكون في النور الإلهي. ما هو ملكوت النور؟ فكيف يمكن أن يجتمع الظلام والنور؟ هو طالبنا أن نكون أولاد النور أن نعيش في النور أن نكون مع النور. كيف يمكن ان نكون أولاد النور ونحن غارقون في السكر والعربدة والقتل والسفه والضرب والإيذاء والسرقة والخطف والطمع والشراهة والقسوف ومختلف الشهوات والرغبات والأهواء؟ المطلوب منّا أن نقمع كلّ هذه وأن نحوّل طاقاتنا برمّتها إلى محبة الله، يسوع طلب منّا أن نحبّه أكثر مما نحبّ الأب والأم والأخوة والأخوات والزوجة والأبناء، وإذا لم نحبّه أكثر منهم لا نستحقه وإن أحببناهم فنحبّهم إكراماً له ومن أجله. يسوع يطالبنا في الإنجيل بأن تتجه أشواقنا برمتها إليه، أشواقنا ترتفع من الأرض إلى السماء، أُحب أهلي إكراماً له ولأجله، أُحب الكون برمته من أجله. هو محور الحياة كلّها، الإنجيل واضح، هو محور الحياة كلّها، كل الحياة تدور حوله وفيه ومعه وله وبه، الإنفصال بيننا وبين يسوع مستحيل. في الإنجيل يسوع يقيم فينا يحلّ فينا ويسكن فينا، كيف يسكن فينا ونحن فاسدون؟ ونحن منهارون؟ هذا مستحيل ولذلك كلّ ما في الإنجيل مختوم بختم سماوي.
على الإنسان أن يرتفع أن يكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم وينبعث، قد يقول البعض هذا مستحيل، لا، هذا مستحيل على الضعفاء والفارين والهاربين والإنهزاميين، ولكن الذين كرّسوا حياتهم ليسوع يجدون هذا أسهل مما يمكن حمله لأنهم سعداء في يسوع ويحملون يسوع الخفيف اللطيف. يسوع علّمنا أنّ نقمع الجسد وأهواه الجسد برمّتها، أن نتخلّص منها ونصنع الفضائل بصبرٍ جميل، مَنْ يصبر الى النهاية يخلص، فبصبركم تقتنون أنفسكم، طلب منّا الصبر والتحمّل، طلب منّا أن نكون رجالاً معديين لحمل المشقات والمتاعب بفرحٍ وصبرٍ جميل. الضجر مرضٌ عُضال نتخلص منه بالصلاة بالتأمّل بالفرح الإلهي. كلّ أحلامنا في الدنيا تصير أحلاماً روحية، نعمل لنمجّد الله في العمل، نتعامل مع الآخرين ليتمجّد الله في تعاوننا. النفور من الآخرين ممنوع، الوجه الذي نستقبل به الآخرين هو وجه يسوع المسيح، إن إستقبلنا الناس إستقبلناهم كأننا نستقبل المسيح، إن سلّمنا عليهم نسلّم عليهم كأننا نسلّم على المسيح، نصافحهم كأننا نصافح المسيح. المسيح يدخل في كل ظروف حياة المسيحي. المسيحي برمته روحاً وجسداً يلتصق بيسوع المسيح وتظهر فيه أعمال يسوع المسيح.
يسوع المسيح يشعّ في الإنسان المسيحي الحقيقي ولذلك يكون صورة عن يسوع المسيح، لا نرى المسيحيين صوراً عن يسوع المسيح، لا نَدِنْ الآخرين، نحن نلتفت إلى أنفسنا، قبل ان أدين الآخرين عليّ ان أُصلح نفسي، منْ أنت يا من تدين عبداً آخر؟ علينا أن لا ندين الآخرين، علينا أن نحبّ الآخرين وأن نسعى الى إصلاح الآخرين ولكن العدوانية موجودة في الإنسان، فإذاً يجب أن نتخلّص من العدوانية وأن يصير كلّ شيء في حياتنا محبّة، أن نصبح محبةً متجسّدةً. لا يجوز أن نسيء إستعمال الغير ولا بصورة من الصور، نستعمل الغير إستعمالاً حسناً نُعامله كأنّه المسيح نُعامله بروح المسيح، هو المسيح ونحن المسيح ونتعامل كأننا مسيحان. قد يقول قائل: هذا مستحيل، المستحيل عند الناس هو ممكن عند الله، قدرتنا الذاتية نحن أشباح ولسنا بشراً ولكن بقدرة المسيح نحن رجال صناديد، نحن شهداء أحياء. كل حياة المسيحي إستشهاد، كيف؟ إن لم يستشهد بالسيف إستشهد بسيطرته على أهوائه ورغباته وشهواته وميوله، بتحويلها جميعاً إلى حمد إلى فضائل إلهية. يسوع أبطل شريعة الطلاق فكان الطلاق عند اليهود مدرستين، مدرسة شمّاي المحافظ نسباً ومدرسة هليّل الإباحية، هليّل يبيح الطلاق لأي سبب من الأسباب، فالمرأة صفر على الشمال، متعة لا وزن لها، تأتي وتذهب بدون وزن، السلطة الكاملة للرجل يطلّق بتعسف بغير تعسف له الحق أن يطلّق إمرأته أيّاً كان السبب وهذا ظلم ما بعده من ظلم. أين تذهب المطلّقات؟ وما مصيرهنّ إن كان الطلاق سهلاً بهذه الصورة. في التلمود اليهودي جاء أن المرأة بلا روح ولدى اليهود صلاة يصلّيها الرجال يشكرون فيها الله لأنّه خلقهم رجالاً ما خلقهم نساءً بلا أرواح، وسوى ذلك من التعابير المؤذية في المسيحية هذا مرفوض. حاملات الطيب في الإنجيل هنّ الوفيات اللواتي أتين القبر صباحاً ليدهنّ يسوع بالطيوب، ظهر الملائكة فآمنوا بكلام الملائكة، التلاميذ إتهمهنّ بالخَرف بالجنون ولم يؤمنوا وذهب بطرس ويوحنا الى القبر وشاهد القبر فارغاً، ومع ذلك بقي التلاميذ مرتابين وظهر لهم مساءً فبقوا مرتابين حتى طمأنهم وأعطاهم الأدلة بالأكل أمامهم ليصدّقوا أنه هو نفسه وليس روحاً صرفاً، ولما ظهر لهم في الجليل بعضهم إرتاب أيضاً، بينما النساء لم يرتبْنَ بل صدّقن الملائكة، ورأته مريم المجدلية وذهبت تشهد بأنّها رأته فلمّ يصدقوها. ففي الأناجيل العجب العجاب من عدم تصديق الرسل، وتوما بقي مشكّكاً حتى ظهر له بعد 8 أيام وطلب منه أن يلمس الجراح.
المرأة تظهر هنا وفيّة تماماً، لم يهربنَ، حضر يوحنا الصلب ولم يزر القبر إلا بعد أن أبلغته مريم المجدلية أن القبر فارغٌ، ففي الإنجيل تظهر النساء وفيّات، والكنيسة تعتبر حاملات الطيب مبشّرات الرسل ورسولات الرسل. المرأة إرتفع قدرها بعد أن كان التاريخ قد ظلمها وكانت سلعةً، ففي المسيحية تجد المراة مكانتها الحقيقية وهي عند الأرثوذكس صدر البيت كما ذكرت قبلاً، وصدر البيت يعني أنها مهمّة جداً، طبعاً أنا لا أقول بالإسترجال وبالسيطرة على الرجل، لا، لا في الإنجيل ولا في العلوم النفسية هذا ممكن، العلوم النفسية نفسها تعطي الرجل الأولية والسلطة المنزلية وخير للنساء أن يكون الرجال رجالاً لا أن يكونوا مخنّثين وأدوات. وفي علم النفس الشيء الكثير عن ذلك، وهو يؤيّد كلامي[1].
أمّا بالنسبة للعبيد فيسوع شفى عبد قائد االمئة. وفي تعاليم بولس الرسول يتحوّل العبيد المؤمنون إلى أخوة لأسيادهم، وعلى كلٍّ منهم أن يُعامل الآخر كما يُعامل المسيح وهم أخوة في المسيح. ورسالة بولس الرسول إلى فيلمون طافحة بالحنان والحب لعبدهِ الآبق اونيسيموس وردّه إليه بوصاية حارة جداً جداً. وهكذا يصبح العبد موظّف عند سيّده ويتعاملان كأخوين، لا إستبداد لا ظلم لا عدوان، وإن تعدّد العبيد عاملهم السيد بالتساوي بدون أن ينحاز إلى أحدهم دون الآخر، فمن المعروف أنّ هناك بعضٌ من الناس يتزلّفون للمديرين ورؤسائهم وأسيادهم فيقتنسون عطفهم ومودّتهم ولطفهم، وهذا يجري في كلّ بيت فنرى البكر يقتنس عطف الوالدين ومودّتهم وينتهي الأمر في كثير من الأحيان إلى الإحتيال والنصب وإستيلاء على قسم من الثروة وأحيانا على حرمان الآخرين من الثروة.
إساءات الإستعمال في الحياة العملية لا تعدّ ولا تُحصى. فأنا محام عتيق إختبر الحياة وعرف شؤون الحياة، إساءات الإستعمال لا تعدّ ولا تحصى، والآباء علّمونا أن الخطيئة هي إساءات الاستعمال، فألوان إساءات الإستعمال لا تعدّ ولا تحصى. منْ يعامل الإنسان الآخر معاملة كما يعامل المسيح، هذا أمر متروك لله، لا أريد أن أدين الناس، ولكن وأعرف أني رأيت في الحياة ما رأيت من ظلم وعدوان وإساءات إستعمال وخطف وكذب ورياء ومكر وغدر وأخبار لا تُعدّ ولا تحصى. فإساءات الإستعمال هو التنكّر للجميل، هذا أمر خطير جداً التنكّر للجميل وقسيت منه ما قسيت.
ولذلك الإنسان المسيحي شهيدٌ حيٌّ بما يتحمله من الآخرين بصبرٍ وفرح كبير معتبراً كلّ هذا مناسبات للصلاة من أجل الآخرين ولتمجيد الله. وَضعُ المسيحي في العالم وضعٌ قاس جداً هو مصلوب ولكن يَعلم أنّ هذا الصليب سيوصله يوماً ما إلى الآخرة الصالحة فيكون شمساً مضيئةً في ملكوت الله، والغاية من هذا الوجود هو الوصول إلى هذا المجد العظيم. والبشر مسافرون على الأرض يقيمون قليلاً يجنون الفضائل فيذهبون إلى النور الأبدي وإلاّ فالجحيم ينتظرهم. نجّا الله البشر جميعاً من حوله. لا شكّ أن المسيحية قائمة في الصليب والصليب هو سرّ المسيحية والمسيحيين، هو يفسّر كل شيء في حياة المسيحي، إنّ نقّى نفسه من الشوائب فبقوّة الصليب نقّى نفسه، وإن دخل الملكوت فبصبره الجميل وأناته الطويلة قد دخل الملكوت.
بولس الرسول علّمنا أن نرحّب في الفصل 6 من رسالته الثانية الى كورنثوس أن نرحّب صدورنا أن نوسّع قلوبنا، علّمنا في غلاطية أن نحمل بعضنا أثقال بعض وهكذا نتمّم شريعة المسيح، شريعة المسيح هي إذاً أن نحمل أثقال بعضنا. أن نحمل أثقال بعضنا مهمّة شاقة ولكن بنعمة الله نستطيع ذلك، إن كنا لا نستطيع ذلك بقوتنا فبقوة يسوع نستطيع كل ذلك. ليس من السهل على إنسان ساقط مثلي قابع في قعر الجحيم أن يخرج من قعر جحيم خطاياه وميوله وشهواته وأهوائه الفاسدة وحياته الفاسدة ليكون ملاكاً في الجسد. المسألة تتطلب جهاداً روحياً هائلاً ضد الأهواء الشريرة المتعددة ضد ذاته ضد العالم ضد الكون ضد هذا العالم الفاسد. الجهاد الروحي مسألة مهمّة في الكنيسة.
بولس الرسول في الفصل 15 الأية 30 من رومية والفصل 4 الأية 12 من كورنثوس يعتبر الصلاة جهاداً أيّ حرباً، الصلاة نفسها حرب فكل شيء في حياة المسيحي حرب، يقمع شهواته.
يسوع علّمنا إن عَسَرتْكَ عينك فإقلعها، إن عسرتك يدك ورجلك فإقطعها، طبعاً المقصود القطع المعنوي والقلع المعنوي، ولكن هذا يتطلّب رجولة، ولذلك وإن كنّا نتحنّن على الآخرين ونلطف بهم فالأمر يبقى هو هو أيّ أنّ المسيحي مُطالب بالسيطرة التامة على جسده وعلى أفكاره وعلى أهوائه وعلى أشواقه وعلى تعلّقاته، بإختصار يجب أن أسحب تعلّقاتي وعشقي وحبّي وإيثاراتي من جسدي من هذه الدنيا كلّها، وأن أوجّه كلّ قواي وطاقاتي نحو يسوع المسيح. فأنا بين أمرين إمّا أن أعشق هذه الدنيا وما فيها من مفاسد وغرائب، وإمّا أن أعشق يسوع، بعشق يسوع كما قال يوحنا السلّمي أطرد عشق هذه الدنيا. أنا مرتبط بالعالم بسبب جسدي وأهوائه ولكن كلّ هذا يجب ان يتبدّل ويتغيّر.
ولذلك المسيحية طرحت موضوعاً هاماً، ألا وهو العفّة الدائمة أيّ البتولية، فيسوع والرسل كانوا متبتلين، بطرس تزوّج ولكن يبدو من كلامه مرّةً أنّه ترك كل شيء وتبع يسوع أيّ ترك إمراته. هذا التخلّي الكامل عن الدنيا وما فيها ليعيش الإنسان عفيفاً متبتلاً يُجاهد ضدّ الأهواء الجسدية ليصير ملاكاً في الجسد مدى العمر، هذا الأمر في المسيحية مهمّ جداً. يسوع المسيح قال هناك من خسروا أنفسهم لأجل ملكوت الله، بولس الرسول في الفصل 7 من كورنثوس فضّل البتولية على الزواج وإعتبر الزواج دواءً علاجياً للزنى.
فإذاً البتولية في المسيحية هي الأساس والبتولية في النتيجة هي عيش ملائكي، المتبتّل الحقيقي والمجاهد طبعاً هو ملاكٌ في الجسد، النسّاك الكبار ملائكة في الجسد. أنطونيوس، باخوميوس، سمعان العامودي، دانييل العامودي، سرافيم ساروفيسكي وسواهم من النسّاك الكبار ملائكة في الجسد. ولكن بارك الله الزواج وقال بولس: “فليكن الزواج مكرّماً في كل شيء والمضجع غير دنس”. إنّما في الزواج المطلوب العفّة أيضاً، أن لا يكون الجسد هو همّ الرجل والمرأة بلّ أن يكون التعاطي الجسدي بطهارة وعفّة وإعتدال وسيطرة على الذات وحسن المعاملة، حسن المعاملة بين الزوجين، ذكرنا الكثير عن ذلك ولكن يا للأسف الخطيئة موجودة والضعف موجود.
تقويم الإنسان تقويماً كاملاً مسيحياً مسألة جهاد روحي وعسير وطويل الأمد، لا يسيطر الإنسان على ذاته في يومٍ أو يومين، يحتاج إلى الأصوام والصلوات والتنهدات والقراءات الروحية والتأملات الروحية والجهاد الروحي والصبر الجميل.
طبعاً المسيحي الحقيقي مصلوب بولس قال صراحة: “مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ”. المسيحي يحصر نفسه من أجل ملكوت الله سواءً كان راهباً أو متزوجاً والمسيحية لا تفرّق بين الراهب والمتزوج، فالراهب يدخل ملكوت السموات والمتزوج يدخل ملكوت السموات ولكن إن عاشا ليسوع المسيح له المجد.
هذا غيضٌ من فيض، في فصل واحد لا يمكن جمع كلّ الأناجيل فخلال ألفيّ سنة تقريباً كتب المسيحيون عشرات الآلاف من الصفحات في تفسير العهد الجديد في الكلام عن ربنا يسوع المسيح ولم ينتهوا ولن ينتهوا لأن الإنجيل كلمة الله وكلمة الله واسعة جداً ولا يمكن ان نحيط بها بسهولة. شرّاح عديدون خلال الألفي سنة ومع ذلك يظهر دائماً شرّاح جديدون يجدّدون المادة.
في الإنجيل عمق ما بعده من العمق كلّما قرأناه كلّما إزددنا إيماناً وقوةً. المسيحية مع بولس الرسول تركّز على الفضائل جميعاً وتختار منها الإيمان والمحبة والرجاء، والإيمان والمحبة يلصقاننا بيسوع المسيح بالإيمان. يسكن يسوع في قلوبنا بالمحبة، يسكن يسوع في قلوبنا بالرجاء، نمتدّ نحو يسوع بكل قلوبنا وأشواقنا. نرجو الملكوت السماوي بفرحٍ كبير وشوقٍ كبير. الشوق في المسيحية مهمّة جداً، كلّ أشواقنا يجب أن تتجه إلى يسوع. الإنسان منذ طفولته يتعلّق بأشياء عديدة، يتعلّق بالرضاعة ثمّ يتعلق بسواها، يخترع الإنسان لنفسه ملايين الأسباب ليتعلّق ولو بثقاب كبريت. لا يخلو الانسان من تعلّقات، هذا يتعلّق بالطعام وهذا يتعلق بالشراب هذا يتعلق بالثياب هذا يتعلّق بالمناصب هذا يتعلّق بالثروات هذا يتعلّق بالذهب هذا يتعلّق بالفضة هذا يتعلّق بالزهور هذا يتعلّق بالعصافير هذا يتعلق بالقمار هذا يتعلّق بالمسكرات هذا يتعلق بالمخدرات ألوان الهوايات كثيرة جداً، ألوان الهوس عديدة جداً، لا يخلو إنسان من لونٍ من ألوان الهوس، ولدى الطفل الهوس قوي جداً، ويكمل الإنسان ويبقى يفتّش عن شيء يُصبح مهووساً به ويهرب من الضجر الى مواضيع هوسه.
ظروف الحياة المعاصرة تصنع الأولاد (الصبيان والبنات) حسّاسين مدللين. في فرنسا نصف السكان مصاب بوجع الظهر والشقيقة والربو لأسباب نفسية. في التحليل النفسي ترتبط هذه الأمراض بالحسّاسية. في المعالجة النفسية تسقط الحسّاسية فيزول المرض. المطلوب هو متانة الطفل لا الإفراط في الحسّاسية. الحسّاسون مصابون بكبت عميق لما يسميه المحللون “الغريزة العدوانية”. إن لم يحل هذا الكبت بقي المرء يتألم. كل المعالجات السطحية فاشلة إلا إذا أزلنا هذا الكبت.
كما ذكرت سابقاً، الإنسان جبّار، جبّار إن كان عالمياً في شؤون هذه الأرض، وجبار إن سار وراء المسيح نحو القداسة وصار قديساً وشهيداً عظيماً. إمكانات الإنسان نراها في العالم، مليارات البشر لكلّ منهم هوايته لكلّ منهم هَوَسه لكلّ منهم همومه وأعماله ومساعيه، هذا كلّه إن جمعناه ماذا يعني؟ يعني أن طاقات الإنسان هائلة جداً جداً، ولذلك جاء المسيح ليجمع هذه الطاقات حوله فيصبح هو وحده الأمل والحياة، يصبح وحده غاية الوجود ومحطّ الآمال، هو الشغل الشاغل للذين يعبدونه.
ماذا كان يشغل بال النسّاك والعاموديين؟ يسوع المسيح. ماذا كان يفعل أنطونيوس وسمعان العامودي؟ كل الوقت كان مكرّساً للإتصال بيسوع وللصلاة. ماذا كان يعمل سمعان العامودي؟ هل كان لديه مهنة يشتغل فيها؟ كان يأكل العدس المنقوبة ومضى وقته يسهر الليالي يصوم الصوم الكبير كلّه بلا طعامٍ ولا شراب، أين وقته؟ أين عقله؟ وقته وعقله ووجدانه وضميره وحياته كلها عند يسوع المسيح، هذا إنسان كان جسده في الأرض وروحه في السماء، طبعاً لا يستطيع كل الناس أن يكونوا سمعان العامودي، لكلّ إنسان دعوته كما قال بولس الرسول، ويسوع نفسه قال: “ما كلّ الناس مدعوون ليكونوا خصيان روحياً ليخصوا أنفسهم لمجد الله”، هؤلاء الذين خصوا أنفسهم لمجد الله معدودون على الأصابع وهم اليوم كثرة في العالم المسيحي فالرهبان في العالم المسيحي اليوم آلاف وأكثر من مليون ولكن هؤلاء إستثنائيون بالنسبة لطبيعتنا البشرية الضعيفة. إنما بصلواتهم يحمي الله الأرض من الطوفان. يجب أن لا نكون متشائمين مئة بالمئة.
الذين يصلّون في الخفاء ويلتصقون بيسوع لا يُطبّلون ويزمّرون أمامهم مثل الفرّيسيين، هؤلاء يصلّون في السرّ في العمق، لا يشعر الناس بهم إلاّ إذا أراد الله أن يكشفهم لنا، إنما هم ملح الأرض الذي يحمي الأرض من الطوفان ومن الفساد. بجميع الأحوال يبقى يسوع هو أمل الإنسانية الأوحد. بدون يسوع الغرائز تلعب دورها، بدون يسوع العالم يسير نحو الدمار، بيسوع المسيح يضع الناس أيديهم على قلوبهم ليراجعوا أنفسهم. العالم في خطر لأن يسوع غائبٌ عن وجدان كثيرين ممنّ يقودون العالم ولذلك علينا أن نصلّي بحرارة من أجل الذين يقودون الشعوب والممالك لكي يهديهم الله إلى السبيل القويم لنعيش بسلام وأمان ممجّدين الله في كل حين، في القلب والفكر والحماس، مكرّسين أنفسنا للعمل الصالح الدؤوب بدلاً من الغرق في عيوب هذه الدنيا الفانية.
[1] هيلانة دويتش أنشأت بالإنكليزية كتاباً هاماً في جزئين عنوانه “بسيكولوجية النساء” مترجماً الى الفرنسية أيضاً: فيه فصل هام جداً في الموضوع تبين منه صحة رأي في أولوية الرجل.
Discussion about this post