الفصل الرابع والعشرون: الصوم والصلاة والصدقة
وستعرفون الحق والحق يحرركم
الفصل الرابع والعشرون: الصوم والصلاة والصدقة
الصوم وسيلةٌ كبيرةٌ ليقمعَ الإنسانُ شهواته وأهواءه الجسدية، وينتقل من هذا القمع إلى قمع أهوائه النفسية. وبذلك يحقّق نصراً مزدوجاً. الإنسان شخص في جوهرين كلٌّ منهما يؤثّر في الآخر. الصوم الجسدي يؤثّر في الصوم الروحي والعكس صحيحٌ. والمسيحية تركّز جداً على الصوم، موسى صام وإيليا صام ويوحنا المعمدان عاش ناسكاً كبيراً جداً ويسوع المسيح صام أربعين يوماً وعلّمنا أن الصوم يعطينا الغلبة على الشيطان، فبعد الصوم غلب الشيطان، وهو قال مرّة لتلاميذه في نوعٍ من الشياطين: “هذا الجنس لا يُغلب إلّا بالصوم والصلاة”.
ولذلك فالنّسك طابع المسيحية، يسوع ضرب مثلاً وهو مثل العذارى العشر، خمسٌ منهنّ فطينات جمعنا البتولية والأعمال الصالحة والنور الإلهي، وخمسٌ حمقى خسرن الموعد، وقال هذا في الفصل 25 من متّى. الفصل 19 زكّى البتولية وقال هناك منْ خسروا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، وبولس الرسول عظّم البتولية في الفصل 7 من رسالته الأولى الى كورنثوس وذكر وجود متبتّلات في أيامه، وفي رسالته إلى تيموثاوس ذَكرَ الأرامل التقيّات المنتظمات في سلك معيّن يشبه الرهبنة اليوم لا يتزوجن ثانية، عَشْنَ في الفضيلة والتقوى والأعمال الحسنة، وعملياً ترهّبن بعد الستين من العمر.
بولس الرسول لم يؤيّد الزواج الثاني إلاّ بصعوبة وللضرورة لئلا تتبذّل الأرملة لئلا يسوء الأرمل أيضاً.
ومن هنا نشأت في المسيحية الدعوات إلى التبتّل فتبتّلت الصبايا أولاً ثم ظهرت الرهبانية والنسك وكانت هناك متبتلات في القرن الأول. القديسة إيلاجيا الأنطاكية الشهيدة عيدها 4 أيار متبتّلة وسواها كثير، وظهر النسّاك في المسيحية أرباباً للتقوى والفضيلة وبالغوا في النسك حتى صار سمعان العامودي يقضي صوم الأربعين برمته منقطعاً عن الطعام والشراب. التقشّف مسألة مسيحية أساسية. الطعن في الصوم هو الطعن في بند مسيحي هام كثيراً. النسّاك في خطى يوحنا المعمدان، وإنتهى الأمر إلى الرهبانية وصارت الرهبانية العَصَب الحسّاس في الكنائس القديمة، ولا يزال الرُهبان في جبال آثوس وما شابهه في الأرثوذكسية النماذج الحيّة لحياة الفضيلة والتقوى.
الصوم يَلْجُمُ الجسد وبِلَجمه الجسد يؤثّر في الروح فتنقطع الروح عن الأعمال الشريرة. القديس باسيليوس الكبير قال أن الصوم يُبطل الحروب يُطفئ الحروب. في الصوم ينقطع المؤمن عن الفكر الشرير والعمل الشرير، يصبح الصوم مفكّرة تفكّره تذكّره دائماً بالعمل الصالح، بالإمتناع عن الأعمال الشريرة. الصوم مَنْخَسْ ينخس الإنسان للعودة إلى الله لإقتناء الفضائل والأعمال الصالحة. الإنسان شخصٌ في روحٍ وجسد، الجسد يخضع للتدريب، وتدريب الجسد يفيد الروح جداً. عندما أتمرّس بالأصوام أتمرّس روحياً بالإنضباط بالإمساك عن الشرور، يُصبح لديّ منخس ينخسني. الصوم الكبير في الأرثوذكسية أكبر مَظهر من مظاهر التقوى والعبادة الحسنة والتوبة والندامة والرجوع إلى الله، ترافقه صلوات حارة فتمتزج الصلوات بالصوم فيعودان نافعين جداً.
هذا الجسد الذي يميل إلى الأرض المفسود منذ الرضاعة الأولى، كيف يمكن أن ينضبط بدون لجام؟ الصوم هو اللجام، الصوم هو القيد الذي نقيّد به الجسد لنمنعه عن الإنزلاق نحو المسرّات نحو الملذات نحو الإنحرافات، الطعام والشراب والجنس.
الصوم بالنسبة للجسد عمليّة جراحيّة ممتازة يُخرج القيح من الجسم، قيح الإنغماس في الشرور الجسدية. بالصوم يتذكّر المرء عيوبه وشروره ما فعله ويحاسب نفسه. ذكرت أن الصوم منخس، نعم الصوم منخس ينخسني ليلاً ونهاراً. النفس تقع في الشطط والإهمال والنسيان. لا يستطيع المرء أن يبقى يقظاً طوال أربع وعشرين ساعة يومياً، الشطط والنسيان والإجهاد يرافقان الإنسان دائماً، هذه أموراً ترافق الإنسان دائماً، بدون النسيان والشطط يُصاب الإنسان بإجهاد عقلي كبير وإجهاد عصبي كبير، لذلك نفتّش عن تسلية، عن شيء ما نغيّر به عوائدنا، الروتين يرهق، التركيز العقلي الطويل مُرهق، الضجر يلاحقنا من المهد إلى اللّحد، أفكارنا لا تستقرّ على حال، ننتقل من فكرة إلى فكرة ومن موضوع إلى موضوع ثم ننتهي بغفوةٍ ونعاس، كم يفاجئنا النعاس من مرةٍ في اليوم، في كلّ هذه الظروف نحتاج الى المنخس، الصوم منخس كبير كلّما طاشت أفكارنا كلّما أدركتنا الغفلة والنعاس والنسيان. يأتي الصوم كمُنخس ينخسنا لننتبه ونستيقظ وننصرف إلى الصلاة وعمل الخير.
الإنسان خلال يوم كامل من الجهود في العمل في الحياة وشتّى ظروف الحياة والدراسة يُصاب بإجهاد، يحتاج إلى فترات من الإستراحة الى فترات من النعاس والغفلة، خلال ذلك ينفلت القيد فتنهار اليقظة بنسبة كبيرة ويخفّ التّركيز، في هذه الظروف نسهى كثيراً، الصوم مُنخس يذكّرنا في كل هذه الظروف بواجباتنا. نغرق في العمل مثلاً فننسى الصلاة، إن كنّا صائمين فالصوم يذكّرنا بالصلاة.
وللصوم فوائد، أنا لا أتكلم عن فوائد الصوم الصحيّة هذا شأن الأطباء، لكن أستطيع أن أقول طبيّاً إنّ الصوم يريح الجسم، يريح الجسم من اللحوم والسمون والدهون وكل المواد التي ترهق المعدة والأمعاء والكبد. صومنا الأرثوذكسي إنقطاع عن اللحوم والزفر فيرتاح الجسم بواسطة تناول الأعشاب، الأعشاب لا ترهق الجسم وفيها فيتامنات وسهلة الهضم وتجدّد الجسم تضعفه من ناحية وتفيده من نواحٍ ولكن نرتاح من ناحية ثِقَلْ الطعام الغني باللحوم والدهون. فصحياً النباتات والنظام النباتي يعود بالخير على الجسم ولكن الفائدة الكبرى هي الفائدة الروحية، أصوم أربعين يوماً مثلاً فأبقى أربعين يوماً مُمسكاً ضابطاً لنفسي واعياً إلى أنّي في مرحلة توبة وندامة وإعتراف وصلاة وخشوع وإبتهال، فالذين يطعنون في الصوم لم يجرّبوه، عليهم أن يجرّبوه ويصلوا بحرارة لكي يدركوا أن الصوم هو الأخ الشقيق للصواب.
أمّا الصلاة فهي مناجاة الله، إن أنجزنا الصلوات بتقوى ووضوح وتركيز وخشوع أصبحنا أصدقاءً لله. الصلاة الحارة هي إرتماء الإنسان بين يَديّ الله، متى جمعنا أفكارنا جمعاً متيناً وصلّينا راكعين خاشعين مبتهلين إقتربنا من الله كثيراً. برئتين نتنفس الهواء بالصلاة الحارة النقية الطاهرة نتنفس روائح الله أنوار الله. كيف أتّصل بالله وكيف يتصل الله بي؟ هل خلقني وتركني أمْ خلقني ليجدني؟ كيف أستطيع أن أكون صديقاً لله، شريكاً لله قريباً من الله؟ الصلاة هي التي ترفعني بكليّتي روحاً وجسداً الى الله. أُغلق عيني وأذنيّ وحواسي عن هذا العالم وأرتفع عنه وأجتمع بالله بصفاء وإبتهال، أكون بين يديّ الله أودع نفسي أودع ذاتي بيد الله وأصبح وديعة لديه، أتخلّص من ذاتي قدر المستطاع لأنطلق الى الله.
لا أستطيع الطيران جسدياً ولكني أستطيع الطيران روحياً فأرفع روحي برمتها إلى الله، متى حفظت روحي من الشرود والنسيان والكسل والتواني والإهمال جمعتها بين يدي الله وأضحيت أنا بكلّيتي بين يدي الله. ولذلك فالصلاة هي عملية روحية كبيرة جداً أجمعُ فيها طاقاتي الروحية والجسدية لكي أضع نفسي في يديّ الله مستسلماً إليه إستسلاماً كاملاً، أخرج من ذاتي وأُلقي بذاتي في يديّ الله. الصلاة الحارة الحقيقية هي الخروج من الذات للقاء الله ولكن أنا ضعيف وعقلي لا يستقرّ على حال وذهني يشرد كثيراً وأنتقل من موضوع الى موضوع. أصلّي في الكنيسة وعقلي شارد في البراري والجبال والبحار وفي الكواكب والنجوم، أعجز عن ضبط نفسي عن حصر نفسي عن التركيز النفسي لأني إنسان ساقط. كيف أستطيع أن أتخلّص من السقوط؟ بالصلاة الحارة بالصلاة الملتهبة. ليست الصلاة تَرْتاد كلمات جافة الصلاة لهيب نار، المزمور 109 بحسب النص العبراني جاء في الآية الأولى “أمّا أنا فصلاةٌ”، أن يصبح الإنسان صلاة هذا يعني أنه يتبخّر يذوب ويتبخّر ليصعد بخّوراً ذكياً الى الله.
عندما يصبح الإنسان صلاة ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّه تبدّل مئة بالمئة وإنتقل من حاله الساقطة إلى حالة الملائكة، الملائكة فقط يستطيعون أن يقولوا: “أمّا أنا فصلاة” لأن دعوتهم الصلاة المتواصلة والتسبيح الدائم لله. فإذا إستطعت أنا أن أجمع ذاتي بكلّيتي لأصبح صلاةً أكون قد صرت مثل الملائكة بلا هموم بلا شرود بلا نسيان بلا ذهول بلا نعاس، أُصبح لهيباً من نار الروح القدس لحضرة الله.
الرب يسوع دعا أن نكون واحداً فيه وفي الآب، في هذه الصلاة الحارة نصبح واحداً في يسوع وفي الله. لا نعود لأنفسنا بل نعود لله. نعمة المعمودية التي أخذناها تتجلّى آنذاك بكل قوتها، الروح القدس الذي أخذناه بالميرون يتجلّى فينا بكل قوته فنصبح ناراً من ناره وقوةً من قوته. الروح القدس يجعلنا نتخلّى عن أنفسنا لنصبح لله مئة بالمئة. بصلاة من هذا النوع ناريّة الشكل نعود ملائكةً بالجسد نتخلص من الأنانية، نبذل أنفسنا لله. نخرج من هذا العالم لنكون مع الله ولله وفي الله. الصلاة هي الوسيلة رقم واحد لندخل في حوار حميمي مع الله، نُصبح عائلة الله عشيرة الله نصبح حقيقةً أبناء الله قولاً وفعلاً. لا نعيشُ في ذهنٍ فاسدٍ تجرّه الأهواء والشهوات الجسدية بل نعيش في ذهنٍ صافٍ طاهر نقي متحد بالله. بصلاة نقية طاهرة من هذا النوع يسكن الله في ذهننا وينزل إلى قلوبنا ونصبح نحن والله واحداً بصورة لا يعرفها الاّ الله وحده. النعمة الإلهية التي أخذناها بالمعمودية والميرون تُضحي هي التي تعيش فينا وتجعلنا نعيش في الله، نبدو آنذاك إلى معونة المسيح، يتمجد الله فينا ونتمجد في الله كما قال يسوع في إنجيل يوحنّا وكما قال بولس في الرسالة الثانية إلى “أهل تسالونيكي”. هذا المجد المتبادل (يتمجّد الله فينا ونتمجّد في الله) هو الغاية. لا معنى للحياة على الأرض إلا في هذا المجد.كيف يستطيع إنسان أن يقول إنّي أموت كما تموت الجرذان والحشرات؟ هذا إنسان يحتاج الى مُعجزة إلهية ليُخرج هذا الفكر الشيطاني من رأسه.
فإذاً دعوة الإنسان الحقيقية هي دعوة إلى القداسة، والقداسة لا تكون بدون الصلاة، هل يقدسني الله ضدّ رضاي؟ أنا بملء رضاي أستدعي الله ليسكن فيّ بنعمته الإلهية، أنا الذي أغرز النعمة الإلهية في قلبي لأحيا فيها لا لأحيا بذاتي ولا لذاتي بل لله الذي خلقني. الصلاة هي أمّ الفضائل جميعاً، كل الفضائل مرتبطة بالصلاة لأنّي من تلقاء نفسي لا أستطيع أن أفعل شيئاً لأني إنسان ملوّث. الروح القدس هو الذي يطهّرني من كل خطيئة بدم يسوع المسيح ربنا، ولذلك كل الذين يدّعون العلم والمعرفة وينتفخون وينادون للإلحاد كلّ هؤلاء لا ينطقون من أنفسهم بل ينطقون من روح الكبرياء الذي فيهم، والكبرياء غرزةٌ شيطانية. بدون التواضع لا نستطيع ان نستقرّ في الله، بالتواضع نستقرّ في الله فقط، ولذلك المتكبّرون المتعجرفون هم الذين يقعون في شِبَاك الشيطان. العلم الفارغ والفهم الفارغ والإدّعاء الفارغ هذا من تراكيب الشيطان، أمّا الإنسان المتواضع العميق روحياً فيعرف أنّ التواضع هو طريق السلامة إلى الله.
الذين ينطقون بإسم الله هم المتواضعون، المتواضعون مثل مريم العذراء يعرفون أنّ الصلاة مهمّة جداً وهي خبزنا الجوهري اليومي طوال أربع وعشرين ساعة، فليس للصلاة وقت وإن كانت الكنيسة قد نظّمت الأوقات بل كل وقت هو وقت للصلاة، لذلك طالب الرب يسوع في الفصل 18 من لوقا الصلاة الدائمة وطالب بولس في تسالونيكي الأولى (17,5) بأن نصلّي بلا إنقطاع. كل وقت هو وقت صلاة، كيف؟ يكفي أن تقول يا يسوعي. أنت في زحمة الأعمال؟ نعم، ولكن هذا لا يمنعك من ترداد كلمة يا يسوعي إرحمني، كلمة سهلة، يستطيع الرجل والمرأة ان يردّداها وهما في ورشة العمل مهما كانت الورشة عسيرة. يا يسوع! كلمة سهلة نستطيع ان نردّدها في الليل والنهار، أمّا الذين يعتذرون فأعذارهم مرفوضة. الدعاء يا يسوع إرحمني! غير عسير، الذي يعسّر علينا الأشياء هو الشيطان، وعلينا أن نحارب الشيطان الذي يجعلنا نعتذر، الأعذار مرفوضة، قد يكون ديدي طالب جامعة: أنا منهمكٌ في الدراسة لأنني سأتقدّم إلى إمتحانات آخر السنة، أنا أعذره نسبياً، ولكن هل هذا يمنع من أن يردّد بين الحين والأخرى: يا يسوع إرحمني! فلذلك علينا أن ننتبه إلى مسألة الأعذار، والأعذار شيطانية، كلّ تهرّب من التقوى والإيمان والعبادة هو شيطاني. علينا أن ننتبه لئلا نصبح ألاعيب شيطانية.
بطرس الرسول يقول الشيطان يطوف حولنا يزأر ويزأر ليبلعنا، لا نترك الشيطان ليبلعنا، هذا ضعفنا، نحتجّ بالضعف نحتجّ بالوقت نحتجّ بالأشغال حججنا فارغة مهما تعدّلت. كلمة يا يسوع إرحمني! لا تعيِّ أحداً ولا تضايق أحداً بل تنشّط المؤمن تجدّد المؤمن وتنشط شبابه.
يسوع واقف إلى جنبنا فلماذا نتجاهله؟ لا نستطيع أن نختفي، هو حاضر إلى جانبنا، كيف نستطيع أن نتجاهل؟ أن ندير ظهرنا؟ لذلك مسألة الصلوات الدائمة مسألة موت وحياة بالنسبة للإنسان. وإما أن تكون مصلياً وإمّا أن لا تكون إنساناً، ما الفائدة من علمك ومن جمالك ومن ثرواتك إذا كانت نهايتك في الجحيم؟ أنت محاصر، أنت بين السندان والمطرقة لا تستطيع أن تتخلّص من عقاب ينتظرك إن كنت مهملاً، أنت ستموت لا تستطيع أن تتخلص من الموت، وإن كنت لا تستطيع أن تتخلص من الموت فعدّ إلى الله مصلّياً تائباً نادماً راكعاً خاشعاً مبتهلاً صارفاً ذهنك عن هذه الدنيا الفانية إلى الدنيا الآخرة، وإن كنت رجل أعمال كبير جداً ومنهمك في أعمالك فهذا لا يمنعك من الصلاة، وإن كنت باحثاً في معاهد البحث الكبرى في الدول الكبرى فهذا لا يمنعك من الصلاة.
أعلمني صديقي جان الكلش أنّه كاتب العلماء الأميركان الذين يطلقون المركبات الفضائية فأعلموه أنهم مؤمنون. فالعلم الحقيقي لا يُناقض الدين والعلم الحقيقي يتفق والدين والعالم الكبير الصحيح المتواضع هو مؤمنٌ كبير يعرفُ انّ هذا الكون زائل وأن لا بقاء إلاّ للمؤمن وسيذهب الى الفردوس إلى النعيم إلى النور الأبدي الأزلي.
أمّا الصدقة فهي مهمة جداً أوصى بها يسوع في إنجيل متّى وفي إنجيل لوقا ولكن شريطة أن لا تكون فرّيسية الشكل، وحب الظهور وجذب مدائح الناس. يجب أن تكون في الخفيَة ليعلم بها الآب السماوي فقط. الصدقة تعبير كبير عن المحبّة والشفقة والحنان واللطف والوداع ورقّة القلب.
البخيل قاسي القلب البخيل الشحيح لا قلب له متحجّر صخري ميّت الضمير لا يشفق على الناس ولا يحسّ بالناس، روابطه مصلحية، فاقد الحنان، أمّا المسيحي الحقيقي فكلّه حنان، قلبه أرقّ من النسيم، إن رأى مريضاً تمزّقت أحشاءه، إنّ رأى جائعاً تمزّق قلبه، إن رأى عطشاناً إلتهب ذهنه. يعيش آلام الآخرين، يجوع معهم يعطش معهم يتألم معهم، هم حُشاشة روحه، الرجل الصديق يتصدّق الليل والنهار، قلبه رحمة يده حنان عيناه لطف وجهه عذوبة وحيّاه سكيب دموعٍ على الآم الآخرين، لا يعيش في ذاته يعيش في الآخرين، آلامهم آلامه، أتراحهم أتراحه، أفراحهم أفراحه، هم بالنسبة إليه الحياة والوجود، لا يحيا في ذاته، يحيا فيهم، لا يهتمّ في ذاته يهتمّ فيهم. كيف هذا؟ الله يعلَمْ.
الأسخياء الحقيقيون لمجد الله يفضّلون أن يجوعوا ليُطعموا الآخرين ويتخلّوا عن بعض كِسوتهم ليلبسها الآخرون. الأمثال عديدة، في التاريخ المشهور هو يوحنا الرحيم بطريرك الإسكندرية الشهير، فهذا كان كريماً جداً يدعو الفقراء أسيادي[1]. ويبين نماذج عديدة في التاريخ من هؤلاء الأشقياء الكبار الذين يجودون بثيابهم وبطعامهم وبأموالهم. هم أغنياء في المسيح فقراء في الدنيا كلّ ما لهم هو للغير. هم نماذج حيَّة عن ربنا يسوع المسيح وبولس الرسول والرسل الأطهار. أمثالهم موجودون في العالم ولكن مَنْ يعرفهم؟ الله يعرفهم.
من العسير على الإنسان العادي أن يتخلّى عن ثيابه وطعامه وأمواله للآخرين لأنّه أناني وبخيل. بعضهم إن أعطى فلساً طبّل وزمّر ومنّن الناس بعطاياه الرزيلة. البخل خطيئة كبيرة[2]، البخل عيب كبير جداً جداً. ولكن ويا للأسف الإنسان أناني والبخيل أناني الأكبر. ما العمل؟ الصبر. لا نستطيع ان نغيّر كل الناس ولكن نستطيع ان نؤثّر في الناس فبعضهم يصير قديساّ وبعضهم يبقى وسطاً. لا يمكن أن يكون البشر صورة واحدة فلكلّ واحد منهم قوامه وميذاته وسيئاته، ولكن السخاء ميزة مسيحية فضلى.
الصوم والصلاة بدون السخاء تمثيل. يجب أن يتحلّى بالصوم والصلاة والصدقة. الفضائل الثلاثة تتكامل. صلاة بدون بذل ذات سطحية، وسخاء بدون صلاة نقص، لا بدّ من أن نجمع السخاء والصلاة وإلاّ كان السخاء معيباً بصورة ما من الصور. الصلاة الحارة هي التي تجعل السخاء طاهراً بريئاً لوجه الله. الإنسان ملوّث وكلّ أعماله قابلة للتلوّث، فالسخاء نفسه قابل للتلوّث بدون الصلاة الحارة. الصلاة الحارة تساعد السخاء على التطهّر من العيوب والأهواء والشهوات كما أنّها تساعد الصوم على الصيرورة أداةً للعفّة والطهارة والنقاوة.
في النهاية الصوم والصلاة والصدقة مترابطات، لا بدّ من أن نجمعهم في منطقة واحدة. الإنسان كما قال مكسيموس المعترف مقطّع الى ألف قطعة، فجَمْع القطع ضروري جداً وهذا يتمّ بالصوم والصلاة والزكاة وكل عمل فاضل. فإذاً الصوم والصلاة والصدقة هي أيضاً وسائل للعيش المسيحي الكامل.
ذكرنا الأسرار، ذكرنا الفضائل والآن ذكرنا الصوم والصلاة والصدقة. بهذه جميعاً نرتقي إلى الله ونتحّد بالله ونؤهّل أنفسنا تأهيلاً جيداً لنكون مع الله دائماً في ملكوتٍ أبديٍ لا يحول ولا يزول. فيا أيها الرب الإله العظيم وحده، أنعِمْ علينا دائماً أن نكون في مرضاتك في مَوَدتك في محبتك، فأشملنا برضوانك وعاهدنا بأن نعيش لك حياة سعيدة بالتمام لنفوز بملكوتك السماوي شفاعة إله القديسين آمين آمين. أيّها الرب الإله إرحمنا وخلّصنا آمين آمين.
[1] تفتخر كنيستنا بأنداده البطريرك غريغوريوس الرابع مراد وغريغوريوس جبارة مطران حماه (1925) والأب الشهيد حبيب خشه (16/7/1948) والمطران بولس بندلي مطران عكار 3-4 حزيران 2008. هؤلاء نماذج حية عن جودِ ربنا يسوع المسيح. تصدقوا بثيابهم وتصدق بولس حتى بحذائه.نفعنا الله بصلواتكم أجمعين.
[2] من أفضل الكتب في وصف البخلاء كتاب “البخلاء” للجاحظ. يرى المرء فيه غرائب أطوار البخلاء. أحد البخلاء أسرف في البخل فهجرته زوجته وأولاده. – ستعرفون الحق والحق يحرركم
Discussion about this post