اليوم الرابع من شهر آب المبارك
تذكار جان ماري فيانيه
خوري آرس شفيع السنة الكهنوتية
فرنسا في زمن خوري آرس:
وُلد جان ماري في زمن صعب جدّاً بالنسبة للكنيسة الفرنسيّة، فبعد ولادته بثلاث سنوات نشبت الثورة الفرنسية، وفي 12 تمّوز 1790 صوّت المجلس التشريعيّ على “وثيقة الدستور العلمانيّ للإكليروس”، وبموجبه صار الكهنة الفرنسيّين يُعتبرون موظّفين لدى الدولة، يأتمرون بقراراتها
ويرفضون أي علاقة بالبابا وبالكنيسة الجامعة. وفي 27 تشرين الثاني 1790 أضافوا تعديلاً أقسى، فرضوا بموجبه على الكهنة أن يقسموا الوفاء للثورة أمام ممثّل رسميّ لسلطة الرعب القائمة آنذاك.
رفضت روما هذا القرار، ورفضه أيضاً مُعظم الكهنة في فرنسا، وكانت النتيجة مأساويّة:
قُتل عدد كبير جدّاً من الكهنة، وحصلت مجزرة “الكرمل” في باريس. المجزرة بدأت بإعدام 23 كاهناً رفضوا أن يقسموا الولاء وينفصلوا عن الكنيسة الجامعة،
وقد تمّ إعدامهم في دير كان قد تحوّل الى سجن للكهنة، وبدأ الإعدام بصرخة الضابط: “أيّها الشعب، أنت تذبح عدوّك، أنت تقوم بواجبك”.
وحين أنتهت الفرقة من عملها، صرخ الضابط عينه: “لم يعد لدينا شيء نقوم به هنا، فلنذهب الى الكرمل”.
وصلت الفرقة الى دير الآباء الكرمليين حيث اجتمع أكثر من 150 كاهناَ لم يقسموا اليمين، ذهبوا كلّهم وركعوا أمام القربان في الكنيسة حين سمعوا الجنود يقتربون. دخل الجنود بالسيوف وبالعصيّ وبالفوؤس، فقتلوا رئيس أساقفة أرل، و
أسقف سانت وأسقف بوفيه، ورئيس عام الرهبان البندكتان والكهنة الموجودين معهم. بعدها بدأت الدولة تنفي الكهنة عن أرضها، فصارت ترسلهم في قوارب الى غويانا، وأقفلت المؤسسات الدينيّة التي لم تتبع قرار الدولة، وأغلقت المدارس الإكليريكيّة.
بين 1786 و 1859، أي فترة حياة خوري آرس، عرفت فرنسا الكثير من التغييرات في نظامها، فتحوّلت من نظام ملكيّ الى نظام ثوريّ فنظام ملكيّ دستوريّ، فجمهوريّة أولى،
ثم الى دولة يحكمها قنصل، ثم الى أمبراطوريّة، ثم الى نظام ملكيّ من جديد (ما يعرف بنظام تمّوز الملكيّ)، فإلى أمبراطوريّة ثانية… لقد شهد خورى آرس ومؤمنيه تقلّبات سياسيّة واجتماعيّة كثيرة، إنّما ما جمع كلّ الأنظمة التي توالت،
كان العداء للكنيسة وللديانة الكاثوليكيّة، ممّا أدّى الى حالة من الفتور ومن الإلحاد. لم يكن حال فرنسا دينيّاً أحسن منه اليوم، بل كان أسوأ بكثير.
العديد من المدارس الخاصّة التي يديرها رهبان أو راهبات أٌقفلت، إغلقت الإكليريكيّات، نفي الأساقفة والكهنة، قتل الرهبان والراهبات. والمسيحيّون المؤمنين فكانوا بغالبيّهم القصوى ينمون على منطق “فتّش عن الله دون الكنيسة”، ينمون دون كهنة، دون أسرار، دون تعليم مسيحيّ: لقد كان الإيمان يُعدم بشكل تدريجيّ.
طفولة جان ماري فيانّيه:
قضى جان ماري فيانّيه هذه السنوات العصيبة في قريته، في داردييّ الصغيرة حيث وُلد، ثمّ في آرس حيث كان الراعي. في جوّ سياسّي محوم، وفي انقسامات سياسية عنيفة، لم توفّر حتى المناطق النائية.
نشأ في بيت مؤمن، ولم يكن والداه يتردّدان في استقبال الكهنة الهاربين. ودرس جان ماري الكهنوتيّ الأوّل جاء من حديث سمعه، كان يدور بين والدته وبين كاهن أدّى يمين الولاء خوفاّ من الموت، ف
كان يسمع والدته تؤنّب الكاهن لعدم وفائه للبابا ولأوّلية الحقيقة في حياته، حتى قال لها الكاهن الضيف: “أنت على حقّ سيّدتي، فالكرمة أهمّ من الأغصان”.
هذا الكرم في الضيافة الّذي دفع عائلة فيانّيه الى المخاطرة بأمنها في سبيل استقبال من كانوا يعتبرونهم رسل المسيح لم يكن الكرم الوحيد.
فقد جهدوا ليستقبلوا الفقراء أيضاً ويقاسموهم الخبز القليل الّذي كانوا يمكونه. والكرم الأكبر الّذي زرعوه في قلب أولادهم، كان الكرم في العطاء المطلق للمسيح من خلال الصلاة. منذ صغره، نشأ الأولاد على حبّ المسبحة الورديّة، وحين كان جان ماري في الرابعة من العمر، وكان يحاول استرداد مسبحته من إخته، قالت له أمّه:
“أعط المسبحة لإختك مرغريت، فهكذا يكون يسوع مسروراً”.
حادثة صغيرة انطبعت في حياة الصغير، ورافقته دوماً، فتعلّم معنى العطاء، عطاء يكبر أكثر فأكثر. وانطبع أيضاً فيه حبّ مريم:
“إن مريم العذراء هي حبّي الأقدم، أحببتها حتى قبل أن أعرفها”
أنه سوف يطلب في المستقبل ليكمل سماع الإعترافات، ولها كرّس رعيّته، لمريم البريئة من الخطيئة الأصليّة، حتى قبل أن تعلن الكنيسة هذه العقيدة بسنوات كثيرة.
كان جان ماري من ضحايا النظام السياسيّ أيضاَ، فبسبب النظام المعادي للكنيسة أُغلقت المدرسة الوحيدة في قريته، لذلك لم يتعلمّ القراءة حتى بلغ عمر التاسعة، وبسبب هذا فسوف يعاني دوماً من عجر كبير من الناحية العلميّة كان يمنعه من أن يصبح كاهناً. كما اضطر الى الإنتظار حتى عمر الثالثة عشرة سنة لينال المناولة الأولى، بسبب النقص في التعليم الديني وغياب المكرّسين،
ولهذا السبب أيضاً اضطر الى التأخر لدخول الإكليريكيّة، فالتحق بقسم الدعوات المتأخّرة رغم أنّه بدأ يعي دعوته منذ الصغر.
عقبات كثيرة أمام دعوته:
العقبة الأكبر التي كانت تعيق الشاب عن تلبية دعوة الرّب كانت معارضة والده لكهنوت الإبن، فجان ماري القوّي “مثل شجرة السنديان” كان ضروريّاً لعمل الحقل، وكان جان ماري يتفهّم حاجة والده، وكان يتمزّق بين ضرورة الإستجابة لنداء الرّب، وبين مسؤوليّته تجاه عائلته.
كان الشاب يعلم أن الأحوال الإقتصاديّة السيّئة في فرنسا، والجوع المتنامي، كان يحتّم عليه مساعدة عائلته في مصدر رزقها الوحيد: عمل الحقل، ومن كان يقدر أكثر منه على الإعتناء بحقل العائلة، وقد منّ الله عليه بالقوّة الجسديّة وبالخبرة.
أمّا العقبة الثانية فكانت عدم قدرته على تعلّم الّلغة اللاتينيّة، واللاتينيّة ضروريّة لتعلّم اللاهوت وللخدمة الليتورجيّة. لقد تعلّم جان ماري القراءة بعمر التاسعة، وكان ذو قدرة علميّة محدودة جدّاً، وقد صار متقدّماً في العمر أكثر من الطلاّب الآخرين، فكيف يقدر على مجاراتهم؟ وكيف يقدر على اجتياز امتحان اللّغة اللاتينيّة الصعب؟ ولكنّ هذه العقبات لم تخمد رغبته بالكهنوت، فشارك في زيارة حجّ الى لوفيسك، لدى القدّيس جان فرانسوا رجيس، ليطلب منه “الحدّ الأدنى من اللاتينيّة ليجتاز الإمتحان”. وقد استطاع، بجهد وكدّ، وبنعمة الله، من اجتياز الإمتحان، ممّا أهّله لاكمال الدراسة.
ولكنّ عقبة غير متوقّعة جاءت تعترض طريقه نحو الكهنوت: الخدمة العسكريّة التي سوف تجبره على وقف دروسه، رغم تقدّمه في العمر بالنسبة للإكليريكيّين.
لقد كان في الأصل معفيّاً بسبب عمره، ولكنّ خطأ إداريّاً جعل اسمه يرد في لائحة المطلوبين للإلتحاق بالجيش في الحرب ضدّ إسبانيا. فما كان منه إلاّ أن التحق، وأرسل قبل أيام قليلة من المعركة سيراً، وحده، الى اللحاق بكتيبته التي كانت تسبقة بعدّة أيّام. وعلى الطريق التقى بشاب هارب من الخدمة، أرشده في الطريق الخاطيئ فلم يستطع اللحاق بكتيبته، وصار معتبراً جنديّاً فارّاً يواجه خطر السجن وحتى الإعدام.
هرب جان ماري فيانيّه في عابات بلاد اللوار العليا، وعمل خفية لدى مزارع استقبله حوالي السنة، إلى أن صدر عفو من نابليون على الفارّين، فعاد الى الإكليريكيّة في ليون، ولكنّه كان قد تأخّر كثيراً،
وصار عمره 26 سنة، فطرده المسؤولون من الإكليريكيّة بسبب عدم قدرته على التعلّم. فعاد جان ماري الى كاهن ساعده منذ الصغر، الأب بالاي، الّذي كان يؤمن بدعوة الشاب الكهنوتيّة، في سبيل التعلّم على يده.
الكهنوت حلم يتحقّق:
بعد أربعة سنوات من الكدّ والتعب على يد الأب بالاي، صار جان ماري مستعدّاً للكهنوت. في 23 حزيران 1815 نال السيامة الشمّاسيّة في ليون، في 13 آب 1815، وبعمر التاسعة والعشرين سنة،
صار الطالبُ كاهناُ في مدينة غرينوبل بوضع يد الأسقف سيمون. الكلمات التي سوف يكتبها بعد أعوام قليلة يمكنها أن تصف حالة الفرح والفخر الّذي شعر به الكاهن يوم سيامته:
“كم هو عظيم الكاهن، لن يفهم حقيقته إلاّ في السماء. لو قدر على فهم هذا على الأرض لمات، لا من الخوف، إنّما من الحب”.
عيّنه الأسقف مساعداً لمعلّمة الأب بالاي في رعيّة في أكولي، وفي 9 شباط 1818 وصل إلى آرس حيث عيّنه الأسقف كاهناً لهذه الرّعيّة الصغيرة، حيث سوف يبقى لمدّة 41 سنة، ولن يتركها إلاّ ساعة الإنتقال إلى بيت الآب.
خوري آرس:
وصل إلى رعيّة فقيرة، وهو بعمر 31 سنة، دون مورد رزق، ودون قدرة كبيرة على الوعظ، إنّما بحيوّية كبيرة، حيوة الرّوح تنبعث من صلاته. وصل إلى آرس ذات الإيمان الخامد، والتقوى الميتة، وكان يحمل في قلبه رغبة وحيدة:
أن يعطي نفسه للرّب بكلّيته ويتّكل عليه في صعاب حياة الرعيّة الجديدة. كان هدفه أن يعيد الى الله هذه الجماعة التي أوكلتها الكنيسة الى عنايته، وكان أحياناً يخاف من هذا الثقل الملقى على كتفيه: ثقل النفوس التي يريد الرّب خلاصها، وان يرى نفسه ضعيفاً جدّاً، ومسؤوليّته كبيرة، فحاول ترك الرّعية ثلاث مرّات ليلاً،
ولكن رعيّته كانت تمنعه من الخروج، كانوا يجبرونه على العودة إلى بيت الكاهن. وحين كان يستغيث بالأسقف، كان الجواب دوماُ: “إبق حيث تريدك الكنيسة أن تكون”.
كانت آرس قرية مسيحيّة، تعلن إيمانها المسيحيّ بسبب التقليد والعادة، ولكن لا بحرارة الإيمان وبالإستعداد للشهادة، كانت التقوى باهتة والإيمان كان يموت تدريجيّاً.
ولكن هذا الأمر لم يمنع الخوري الساعي الى قداسته والى قداسة رعيّته من الجهاد من أجل تغيير الواقع، فكان يزور العائلات ويهتّم بمشاكلهم، كانوا يرونه يصليّ دوماً، يهتمّ بالفقراء، يزور المرضى، كان دائم الحضور في الرعيّة، لا بل في الكنيسة نفسها، حتى صاروا يقولون أن “الخوري يسكن في الكنيسة لا في بيت الرعيّة”.
ورغم هذا، بقي يصطدم بحقيقة أن كنيسته كانت فارغة يوم الأحد، فقد كانوا كلّهم في حقولهم يعملون، ومن لا يعمل، فكان يذهب الى المقهى في ساحة البلدة.
إرتداد الرعيّة:
لم يكن هذا الإلحاد العمليّ سبباً لفقدان أمل خوري آرس، فكان أوّل ما قام به هو تجديد أواني كنيسته، صارفاُ على هذا الأمر كلّ مقتنياته، فاشترى الكؤوس الفاخرة، وثياب القدّاس الباهرة، وأجمل صلبان المذبح والشموع الخلاّبة والأواني الأكثر زخرفة، فكان بعمله هذا يقول:
“الرّب هو الأولى بالخدمة”، “تمضون الأحد في عمل الحقل وفي المقاهي، بينما الله متروك”،
لقد قرّر الكاهن أن يعطي المقام الأوّل لجمال خدمة الله. إثر هذا، بدأ ابناء الرعيّة يأتون الى القدّاس، ليروا ما يحدث أوّلاً، ثم يبقون إثر كلمات خوريهم. وفي غضون أشهر قليلة، سوف تتحوّل آرس إلى الرعيّة الأكثر التزاماُ في الأبرشيّة كلّها. لقد كان قاسيّاً بداية،
ليجعلهم يعون فداحة خطأهم، كان يقول أن ليس من الضروريّ أن نقتل، أو نسرق مال أبينا وإمّنا لنكون ملعونين، بل يكفي أن نتبع صوت كبريائنا، لنذهب الى جهنّم. وبينما كان يعرّف راهباّ، قال له هذا الأخير”لقد كنت مهملاً في هذا الأمر، ولكن نيّتي كانت حسنة” فما كان من الخوري إلاّ أن أجاب “آه يا عزيزي، النوايا الحسنة، إن أرض جهنّم مرصوفة بها”.
لم يكن ينام أكثر من ساعتين أو ثلاثة، ويقضي كل وقته في سماع الإعترافات، وكان التائبون يأتون إليه من كلّ فرنسا، ولم يكن يتوقّف إلاّ ساعة القدّاس.
“كان لخوري آرس طريقة تعاطي تختلف بحسب شخص التائب. من كان يأتي إلى كرسي الإعتراف مدفوعاً داخليّاً وبضعة من حاجةٍ الى المغفرة الإلهيّة، كان يجد لديه التشجيع للغوص في “غمر الرحمة الإلهيّة”
التي تغسل كلّ شيء بجرفها. وإن كان أحدٌ يتألّم منالضعف وعدم المثابرة، خائفاً من سقطات مستقبليّة، كان خوري آرس يظهر له سرّ الله بعبارات تلمسنا بجمالها:
“إن الله الفائق الجودة يعلم كلّ شيء. وقبل أن تعترف أنت، كان يعلم أنّك سوف تسقط مرّة أخرى، ورغم هذا غفر لك. كم هو عظيم حبّ الهنا الّذي يندفع الى درجة أنّه ينسى المستقبل بإرادته، لكيما يغفر لنا”.
أمّا الّذي كان يعترف بفتور وبقلّة اكتراث، فكان خوري آرس يقدّم له، عبر دموعه هو، الدليل الساطع والأليم على كم أن تصرّفه آثم، قائلاً: “أنا أبكي لأنّك لست تبكي”. “لو أن الله لم يكن صالح اً، ولكنّه صالح، وحده البربريّ يتصرّف هكذا أمام آب صالح بهذا القدر”.
كان يجعل التوبة تولد في القلوب الفاترة، ويدفعهم، بعينيه، إلى رؤية آلام الله بسبب الخطايا، آلام “متجسّدة” تقريباً على وجه الكاهن الّذي يعرّفه.
أما الّذي كان يحضر لديه بتوق وقدرة على عيش حياة روحيّة أعمق، فكان يشرّع له أعماق الحبّ، شارحاً له جمالاً لا يوصف، جمال العيش متّحدين بالله وبحضوره:
“كل شيء تحت أنظار الله، كلّ شيء مع الله، كلّ شيء لإرضاء الله… كم هو جميل هذا”.
وكان يعلّمهم كيف يصلّون: “يا ربّ، أعطني نعمة أن أحبّك بقدر ما يمكنني أن أحبّك”.
لقد عرف خوري آرس في الفترة التي عاش فيها كيف يبدّل قلوب الكثيرين وحياتهم، لأنّه عرف كيف يجعلهم يشعرون بحبّ الله الرحوم.
هذا الإعلان عينه هو ضروري أيضاً في أيامنا هذه، وضروريّة شهادة مماثلة لشهادته عن حقيقة الحبّ: “الله محبّة” (1يو 4، 8). فمن خلال الكلمة ومن خلال أسرار “يسوعه”، عرف جان ماري فيانّيه كيف يبني رعيّته، رغم أنّه كان غالباً ما يضطرب ليقينه بعدم أهليّته الشخصيّة، الى درجة التمنّي عدّة مرّات أن يتخلّى عن مسؤوليّة الخدمة الرعويّة لأنّه غير أهل لها بحسب ظنّه. إنّما بطاعة مثاليّة بقي دوماً في وظيفته، لأنّ الغيرة الرسوليّة لخلاص الأنفس كانت تلتهمه.
كان يسعى للإلتزام بكلّيته في دعوته الخاصّة وفي رسالته عبر حياة تقشّفيّة قاسية، وكان يشكي: “إن الكارثة التي تحلّ بنا، نحن كهنة الرعايا، هي ضعف الحياة الروحيّة”،
قاصداً بهذا القول إعتياد الراعي الخطير على الخطيئة وعلى حياة الإستخفاف التي تحيا فيها نعاجه. لقد كان يقمع جسده، بالسهر وبالأصوام، لكي يمنعه من معارضة روحه الكهنوتيّة. ولم يكن يتردّد في إماتة ذاته من أجل خير الأنفس الموكلة اليه، ولكي يشترك في التعويض عن الخطايا الكثيرة التي كان يسمعها في كرسي ّ الإعتراف.
كان يقول لكاهن آخر: “سوف أعطيك وصفتي: أُعطي الخطأة تعويضاً صغيراً، وأقوم بالباقي عوضاً عنهم”.
أكثر من الإماتات الملموسة التي كان يفرضها خوري آرس على نفسه، يبقى أساسيّاً للجميع قلب تعليمه: “إن النفوس ثمنها دم المسيح، ولا يمكن للكاهن أن يتكرّس لخلاصهم إذا رفض أن يشارك شخصيّاً “بثمن الفداء الباهظ””. (رسالة الأب الأقدس البابا بندكتوس السادس عشر بمناسبة افتتاح السنة الكهنوتيّة)
ورغم هذا الوقت الّذي قضاه في سماع الإعترافات، وجد خوري أرس الوقت ليؤسّس في رعيّته مدرسة وميتماً، دعاه “ميتم العناية الإلهيّة”، كما شجّع رعيّته على المشاركة بما أمكنها في الحملة التي نظّمها أساقفة فرنسا، بعد مرور سنوات الرعب، من أجل إعادة تبشير فرنسا.
كان معدماّ من ناحية المال، إنّما لم ينقصه الطعام يوماً في الميتم: كانوا يذهبون لأخذ الخبز، فيجدونه فارغاً، فيأتون الى بيت الرعيّة ليشكوا لكاهنهم الأمر، فيطلب منهم أن يصلوّا معه، وبعدها يعودون الى الميتم ليجدوا المعجن مليئاً بالقمح.
وحين كانت عاصفة بَرَد تضرب آرس، كان الفلاّحون يأتون طالبين إذن كاهنهم لعدم المشاركة في القدّاس، ليذهبوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فكان يعلم كيف يجد الحلّ الوسيط بين خوفهم المحقّ وبين واجبهم الإيمانيّ،
فما كان يتواني في تأخير القدّاس حتى عودتهم، لا بل كان يساعدهم أيضاً. ورغم هذا، فإن سكّان الرعيّة كانوا يردّدون دوماً أن العواصف القويّة لم تضرب قريتهم بقسوة كما ضربت القرى المجاورة، وذلك طيلة حياة القديس بينهم.
موت الراعي:
سنة 1858، أي سنة واحدة قبل موت القدّيس، بلغ عدد زوّار آرس سنوياً حوالى مئة آلف زائر يأتون للإعتراف. ورغم أن أسقف الأبرشيّة كان قد أرسل اليه فريقاً من كهنة يعاونونه في الإعتراف،
إلاّ أن الحجّاج كانوا يريدون الإعتراف أمامه هو، فكان يبقى في كرسيّ الإعتراف حوالى 17 ساعة يوميّاً. كلّ من عرف خوري آرس كان يقول أن طبعه لم يكن هادئاً، بل قاسياً وعنيفاً، والصبر لم يكن أقوى فضائله،
ولك نّه كان يقمع طبيعته في كرسيّ الإعتراف، صابراً ساعات طوال لقبول توبة المؤمنين، فكان “يبدو كملاك محبّة ولطف، إنّما على محيّاه كنّا نرى الإنهاك والإجهاد” بحسب قول شهود عايشوه. قوّة الرّوح التي حرّكت حياة جان ماري فيانّيه لم يقدر قلبه على تحمّلها طويلاً، وفي الساعة الثانية فجراً من 4 آب 1859، أسلم الخوري القدّيس الرّوح بسبب الإنهاك، بعد حياة تعب وخدمة متواصلة، بعمر 73 سنة.
ثلاثة وسبعون سنة قضاها في حبّ المسيح، واهباً له قلبه، واضعاً كلّ إمكانيّاته في خدمة الجماعة التي أوكلتها الكنيسة الى رعايته. مرّة، في صلاته، هاجمه الشرير صارخاً:
“لو كان هنا ك ثلاثة مثلك على الأرض، لكانت مملكتي مهدّمة الآن”، لذلك أعلنته الكنيسة شفيعاً للكهنة، وللإكليروس الأبرشيّ بشكل خاصّ، لكيما يكون مثالاً وقدوة في عطاء الذّات الكامل، في حبّ المسيح، وفي الوفاء لدعوته، وفي خدمة النفوس التي توكل اليهم، لتقديسها وتقديمها للرّب دون وصمة “ودون أن يهلك منهم واحد”.
إعلان القداسة:
في 8 كانون الأوّل 1905، أعلنه البابا بيوس العاشر طوباويّاً وشفيعاً لكهنة فرنسا. وفي 31 أيّار 1925 أعلنه البابا بيوس الحادي عشر قدّيساً، وفي العام 1929 عاد وأعلنه شفيع خوارنة الرعايا في العالم.
شهادة الأب لاكوردير: من أعظم الوعّاظ في تاريخ الكنيسة، كان جان باتيست هنري لاكوردير، واسمه في الدير الأب هنري دومنيك لاكوردير، راهباً من رهبة الآباء الوعّاظ (الدومنيكان)، ولد في ا2 أيّار 1802، ترك الإيمان في فترة الشباب، وصار محامياً لامعاً وخبيراً في فنّ الخطابة. إرتد عام 1824 وقرّر دخول الإكليريكيّة. طبع بشخصه كنيسة فرنسا في القرن التاسع عشر.
ذهب الى روما لدرس اللاهوت ودخل رهبانيّة الدومينيكان، ثم عاد الى فرنسا ليعيد إحياء الرهبانيّة بعد منعها فترة الثورة وصار واعظ كاتدرائية سيّدة باريس الرسميّ.
ذهب عام 1845 الى آرس ليتعرّف الى الخوري الشهير بعد أن سمع عنه الكثير في باريس، وعلم أهل القريّة بقرب حضوره، لأنّه كان من أشهر شخصيّات فرنسا،
فحضّروا له الإقامة في قصر أحد النبلاء حيث قضى الليل. وعند الخامسة صباحاً ذهب الى كنيسة الرعيّة فوجدها مكتظّة والخوري بدأ الإعترافات منذ ساعات عدّة. بقي الضيف على شرفة الكنيسة الى أن حان القدّاس الإلهيّ، وألقى خوري أرس عظة عن الرّوح القدس،
قائلاً “الرّوح القدس هو من يعمل في حديقة قلبنا”. بعد القدّاس ذهب لاكوردير للتعرّف عليه وبادره قائلاً: “لقد عرّفتني على الرّوح القدس حقّاً”،
أمّا خوري آرس فقال له “اليوم قد التقى النقيضان: العلم الأعظم والجهل الأعظم”. ثم رافق الخوري الراهب الى القصر وكانا يتحادثان، ولمّا وصلا، ركع خوري أرس وطلب من الأب لاكوردير أن يعطيه البركة، فما كان من لاكوردير إلاً أن ركع بدوره، منتظراً نهوض الخوري ليباركه”.
Discussion about this post