في الصبر و التخشع – القديس أفرام السرياني
من يؤثر أن يرضي اللـه ويصير وارثاً بالأمانة، ويسمى ابن اللـه، ومولود من الروح القدس فليتمسك قبل كل شئ بالصبر وطول الروح، ويجب عليه أن يحتمل بشهامة الغموم والضيقات والشدائد التي تدهمه، إما أمراض وآلام جسدانية وإما تعيرات ومسبات من الناس، وإما الغموم التي لا ترى المتخالفة ضروبِها الواردة إلى النفس من أرواح الخبث لتعيقها عن الدخول إلى الحياة مريدة أن تقتادها إلى الاسترخاء وصغر النفس وعدم الصبر.
فبتدبير اللـه تختبر كل نفس بأحزان مختلفة ليستوضح الذين يحبون اللـه بكل أنفسهم وإن كانوا قد احتملوا سائر المحن المجلوبة من الخبيث ولم يبتعدوا من الاتكال على اللـه بل ينتظرون العزاء كل حين بالنعمة بأمانة وصبر كثير فلذلك يمكنهم أن يخرجوا من كل محنة وهكذا ينالون الموعد ويحصلون مستحقين للملك.
فسبيل النفس التابعة قول الرب أن تحمل صليبه كل يوم كما كتب أن من لا يحمل صليبه كل يوم ويتبعني فلا يستطيع أن يكون لي تلميذاً ، الأمر الذي معناه أن تكون مستعداً أن تصبر من أجل الرب على كل حزن وتجربة إما ظاهرة وإما مكتومة وتتعلق بالرب دائماً لأنه مفوض سلطانه أن يُحزن النفس وأن ينجيها من كل محنة وحزن، فإن لم تتشجع وتحتمل بشهامة مصطبرة على كل محنة وحزن، بل تحزن وتضجر وتتثقل بالعارض وتتضايق وتسأم من الجهاد أو تقطع رجائها كأنْها لا تخلص،
الأمر الذي هو دأب العدو أن يلقي الإنسان في الضجر وصغر النفس لئلا يكون له رجاء أو ينتظر كل وقت نعمة الرب بأمانة لا شك فيها فمثل هذه النفس لا تحصل في الحياة المنتظرة لأنْها لم تتبع آثار القديسين ولم تسلك في آثار الرب.
تأمل وأبصر كيف الآباء منذ القديم ورؤساء الآباء والأنبياء والرسل والشهداء عبروا في طريق الغموم والمحن فاستطاعوا بذلك أن يرضوا اللـه حين احتملوا كل محنة وحزن بشهامة وألتذوا بالضيقات لأنَهم انتظروا الثواب كما يقول الكتاب يا ولدي إن تقدمت لتخدم الرب فأعد نفسك للمحن قوم قلبك وأصبر. والرسول يقول أيضاً إن كنتم خلواً من الأدب الذي قد شاركه الكل فأنتم نغول ولستم بنين .
وفي فصل آخر أيضاً يقول: كافة التي توافيك أقبلها كالصالحات عالماً أنه بغير علم اللـه لا يصير شئ .
والرب يقول: مغبوطون أنتم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا فيكم كل كلمة خبيثة كاذبين من أجلي أفرحوا وتَهللوا فإن أجركم جزيل في السموات والطوبى للمطرودين من أجل البر فإن لهم ملكوت السموات.
فالمطرودون إما مطرودون من الناس ظاهراً وإما يضطهدون من أرواح الخبث سراً الذين يقاومون النفس المحبة للـه ويلقونَها في غموم مختلفة ليعيقونَها عن أن تدخل إلي الحياة لتختبر إن كانت تحب اللـه باصطبارها علي كل حزن وتمسكها بالرجاء إلى النهاية وانتظارها الخلاص،
أو تظهر من قبل ضجرها وسآمتها ونقص رجائها إنْها لا تحب اللـه لأن الأحزان والمحن المتباينة توضح النفوس المستحقة وغير المستحقة اللاتي لها إيمان ورجاء وصبر واللاتي ليس لها لكي ما في كل حال تظهر النفوس المختبرة والمستحقة والمؤمنة الصابرة إلى الغاية الماسكة رجاء الإيمان.
وهكذا تقبل الفداء بالنعمة وتصير وارثة الملكوت بعدل فكل نفس تؤثر أن ترضي اللـه فلتتمسك بشهامة الصبر والرجاء قبل كل شئ، وهكذا تستطيع أن تنجوا من كل مقاومة وحزن من العدو لأنه إلى هذا المقدار يسمح اللـه أن يجرب الرب النفس المتوكلة علية والصابرة له إلى أن تدفع إلى محن وأحزان لا يمكنها احتمالها
كما يقول الرسول صادق هو اللـه الذي لا يهملكم أن تمتحنوا بما يفوق طاقتكم لكنه يجعل مع المحنة منفذاً ليمكنكم احتمالها لأن ليس كما يؤثر الخبيث يمتحن النفس ويحزنْها بل بمقدار ما يسمح اللـه فتحتمل النفس بشهامة وتتمسك بالرجاء بأمانة منتظرة المعونة ممن له النصر الذي لا يمكن أن يهملها.
لأنه بمقدار ما تجاهد بالأمانة والرجاء والصبر ملتجئة إلي اللـه منتظرة العون منه والخلاص بلا ارتياب ينجيها الرب بسرعة من كل غم مطيف بِها
لأنه يعلم كم تقدر النفس أن تحتمل من الاختبار والامتحان وبقدر ذلك يسمح أن تجرب فإذا احتملت صابرة إلى الغاية فلا تخزى كما كتب أن الحزن يصنع صبراً والصبر تدرباً والدربة والخبرة رجاء والرجاء لا يخزى.
وأيضاً كما يليق بخدام اللـه بالصبر الجزيل بالأحزان بالشدائد بالضيقات وتوابع ذلك والرب يقول: من يصبر إلى المنتهى يخلص. وأيضاً بصبركم اقتنوا أنفسكم وفي فصل آخر يقول: من وثق بالرب فخزى أم من يثبت في كلامة فخذل أو من استغاث به فأعرض عنه .
لأنه إن كان الناس ذوو الفهم والعقل اليسير يعرفون أن يختبروا ويميزوا كم ثقل يحمل كل واحد من الحيوان من بغل أو جمل وعلي حسب ذلك يحملونه،
والفاخوري إذا جبل الأواني وأحكمها إن لم يدخلها الأتون لتحمى وتيبس فلا توافق لاستعمال الناس، ويعلم أيضاً كم يحتاج أن يتركها في النار حتى تستوى ولا يتركها فيها زيادة عن الواجب لئلا تحترق وتتلف ولا يتركها أقل من ذلك لئلا تكون غير نافعة.
فإن كان الناس في الأشياء البالية والظاهرة اقتنوا مثل قدر هذا التمييز والمعرفة فكم أولى باللـه الذي لم يزل في علمه غير مدروك وفي فهمه لا يقاس وهو ذو كل حكمة يعلم كم تحتاج النفوس التي تؤثر أن ترضيه وتشتاق أن تنال الحياة الأبدية من الامتحان والتجارب وتصبر بشهامة ونشاط ورجاء علي كل حزن إلى النهاية وحينئذ تصير مختبرة وموافقة لملكوت السموات.
إن القنب لا يصلح أن يصير منه غزلاً دقيقاً إن لم يدق ويمشط كثيراً وبمقدار ما يدق ويمشط ويصير نقياً مبيضاً موافقاً للعمل،
هكذا النفس التي تحب اللـه الداخلة في محن وتجارب كثيرة الصابرة على الأحزان بشهامة تصير مهذبة طاهرة وجزيلة النجابة في الروحانيات ذات صناعة دقيقة تؤهل أن ترث المملكة السمائية ومثل الإناء الجديد اختراعه إن لم يلق في النار فلا يصلح لاستعمال الناس
أو كالطفل ما دام طفلاً لا يصلح لأعمال العالم فلا يبني مدناً ولا يقدر أن يغرس غروساً ويلقي بذاراً ولا يكمل عملاً آخر من أعمال العالم.
هكذا النفوس المشاركة النعمة الإلهية تَهرب لحلاوة راحة الجسد بصفة أطفال لكونِها لم تختبر بتجارب مختلفة وأحزان من الأرواح الخبيثة التجارب التي توضح الصبر فتلك النفوس هي أطفال لا تصلح للملك كما قيل إن كنتم خالين من الأدب الذي قد شاركه الكل فأنتم إذاً نغول ولستم بنين.
فقد أستوضح إذاً أن الأحزان والمحن موافقة للإنسان وتجعل النفس مختبرة وصلبة إن اصطبرت على النوائب التي توافيها بشهامة ونشاط وهي متوكلة على المسيح منتظرة بإيمان لا أرتياب فيه النجاة من لدن المسيح ورحمته فهي غير ممكن أن تخيب من موعد الروح ومن الخلاص من آلام الرذيلة.
وكما أن الشهداء القديسين صبروا في الظاهر على تعاذيب كثيرة وأفضوا إلى الموت وحفظوا الاتكال على اللـه وصانوا الاعتراف النفيس وظهروا بذلك مختبرين واستحقوا أكاليل العدل، والذين احتملوا تعاذيب كثيرة وصعبة جداً اقتنوا عند اللـه مجداً ودالة أكثر، وكافة الذين فقدوا الإيمان وجزعوا من الأحزان والسياط ولم يلبثوا إلى الغاية في الإقرار النفيس استوضحوا هنا وفي يوم الدينونة لا دالة لهم خازين على هذا المقياس نفسه.
إن النفوس التي تدفع إلي الأحزان لتمتحن من أرواح الخبث فتعذب عذاباً ظاهراً وغير ظاهر، في الباطن بأفكار خبيثة وظاهراً بالآلام الجسدانية فإذا صبرت بشهامة متمسكة بالرجاء منتظرة عطية الجزاء من الرب تؤهل لأكاليل العدل وتقبل باطناً الخلاص وسريعاً وتجد تلك الدالة دالة الشهداء بنعمة اللـه في يوم الدينونة.
لأن شهادة الأحزان التي تكبدها أولئك بالصليب هؤلاء احتملوا من أرواح الخبيث الذين فعلوا في أولئك المردة وبمقدار ما احتملوا أحزاناً من مقاومات الخبيث وتمسكوا بالرجاء إلى النهاية يخولون عند اللـه مجداً أعظم ويخلصون بقدر رجائهم ويؤهلون لتعزية الروح القدس ويرثون هناك الخيرات الأبدية.
وكافة الذين يهربون من الجزع والخوف ولا يحتملون الأحزان بل يفضون إلى السأمة وعدم الصبر وقطع الرجاء ويرجعون من الطريقة المقسطة ولا ينتظرون رحمة الرب فهؤلاء يوجدون غير مختبرين ومرفوضين فكيف يمكنهم أن ينالوا الحياة الأبدية.
لأن كل نفس مضطرة من أجل المسيح الذي مات من أجلنا أن تطيل أناتِها وتصبر وتحفظ التوكل عليه. فإذ قد عرفنا هذه الأشياء يا أحبائي فلا نرقد في خلاصنا الذي نناله بالصبر على التجارب المطيفة بنا وإله الرجاء يثبتنا في التمسك بالوصايا وبه يليق المجد إلى أبد الدهور.
إن الإله الذي جبلنا إذ عرف ضعف ذهننا وسوء صناعة مضادنا منحنا الكتب الإلهية ككنوز اشفية وخزائن أسلحة تلك التي توجد فيها أسلحة مختلفة أنواعها لأن داود يقول: لقد جعلت ساعدي قوسا نحاس وأيضاً أرسل نبله فشتتهم وأكثر برقه فأقلقهم، وفي فصل آخر يقول: يتناول غيرته سلاحاً شاكاً ويصطنع البرية سلاحاً للإنتقام من الأعداء يتسربل درع العدل ويضع عليه خوذة الإنصاف الذي لا يرائي يتخذ البر قوساً لا يحارب يرهف السخط صارماً سيفاً والعالم يحارب معه إلى الجهال يتسارع بإصابة رشق شهائب بروقه
ويطفر إلي الإشارة كأنْها من قوس السحب المستديرة حسناً ويلقي عليهم البرد من مدر صخرة صعبة يغتاظ عليهم ماء البحر والأنْهار تطبق عليهم سريعاً، يقاومهم ريح الاقتدار وينشفهم كالزوبعة. واليشع النبي يقول: لا تخف فإن الذين هم معنا أكثر من الذين معهم.
وابتهل اليشع وقال: يارب أفتح عيني الصبي ليبصر ففتح الرب ناظريه وأبصر وإذا الجبل مملوءاً خيلاً ومركبة نارية محتفة باليشع. فأما إشعياء النبي فقال: وجعل فمي كسيف مرهف وخبأني تحت كنف يده وجعلني كسهم مختار وسترني بجعبته.
وقال حزقيال: وأنت يا ابن الإنسان خذ لك سيفاً مرهفاً أَحد من موسى الحلاق وأقتنيه لك. والرسول يعلمنا قائلاً: ألبسوا سلاح اللـه الشاك ليمكنكم أن تقاوموا بإزاء حيل المحال فإذا رشقنا العدو ندجج ذاتنا بالأسلحة المقدم ذكرها لأن أسلحتنا ليست بشرية بل مقتدرة باللـه لأن صراعنا ليس هو بازاء دم ولحم لكن بإزاء أرواح الخبث.
فهذه الكنوز يوجد فيها أدوية وافرة مختلفة أنواعها حتى إن قاوم أحد المحال وانجرح يبادر بسرعة إلى كنز الأشفية ويضع علي الجرح مرهم التوبة ويصير صحيحاً ويحارب عن سيدة ثانياً فإن صغر النفس هو سهم العدو الذي جرح به كثيرين وطرحهم،
فلنأخذ الصبر سلاحاً علي صغر النفس مكررين في ذاتنا القول المكتوب، تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب فتتأيد النفس من القول وتستطيع أن تحتمل بسهوله النوائب المتهافتة إليها من العدو الأجنبي وتستريح كأنْها متكأة علي عصا أو كمحمولة على مركبة يستخف تعبها.
فلنتذكر هذا الفصل مخاطبين به أنفسنا وبعضنا بعضاً، تشجع وليتأيد قلبك وأنتظر الرب فإن هذا القول يوافقنا جداً إن صمنا إن سهرنا إن صلينا إن عملنا أن صنعناً شيئاً آخر لأنه ينهض النشاط لإكمال الفضيلة المبروء بِها جاهد ما دمت تجد وقتاً لتحصد من الآن المختص بذلك.
إذاً لا تسترخِ لا تحب البغض أرفض الجسد والمحك والسبح الباطل، أمقت العادة الرديئة والوقيعة فإنه عما قريب تنصرف من هنا فما لك وللغيرة المرة، والحسد، والمعاداة للقريب، وبعد قليل ستصير رماداً وتراباً حب التخشع، تُقْ إلى الثبات، حب الحمية لتنجيك من أتعاب كثيرة ومهمات باطلة، أبكِ إذا صليت لتجد نياحاً حيث عتيد أن تمضي، أهتم بالعمل كما يليق بحكيم وفهيم فإن الوقاحة والضحك لا ينفعانك في يوم الوفاة بل ولا ألفاظ المزاح والخلاعة فهذه تمكث دائماً في قلب الجهال.
أحذر من الرياء الكاذب إن لم ترهب الرب من صميم قلبك حب التواضع بقلب صادق فتجد نعمة لدى الإله الماسك هنا وفي العالم العتيد إن أعليت ذاتك ستتزعزع بسهولة كما تتحرك الورقة في الشجرة من الرياح لأن ملاذ العالم تزول كالظل، لا تكن بيت مرارة لئلا تفسدك المرارة ويبكيك سمها قبل أن تدفع إلي العذاب.
لا تخجل أن تحفظ الورع بقلب متواضع فإن الذين يزدرون بك لا ينفعونك في يوم الشدة، أتقِ اللـه بكل قوتك فيحكمك كيف تخلص، ليكن لك تواضع ووداعة فتحل عليك نعمة الرب، إن دنس الجسد ليس فيه شئ سوى الأياس والنار التي لا تطفأ والطهارة تسبب في هذا الدهر مديحاً وفخراً وفي العتيد تفيد إكليلاً لا يذوي.
أيها الأخ إن جسمك هيكلاً للروح القدس الساكن فيك فأهتم بالهيكل لئلا تُحزن الساكن فيك، لكن لعلَ أحد يقول أنا أؤثر أن أحفظ نفسي من الدنس وأنا لا أقهر جسمي فماذا أصنع ؟
فهذا يشبه من يشاء أن يمسك محاربه بلا قتال ولا تعب وكأننا نعطي الذين يحاربوننا نبلاً برقادنا وعدم تحفظنا وإهمالنا حراسة أبواب النفس فنصير بذلك مغتالين خلاصنا مانحين للمضادين مدخلاً كما إذا طمحنا بأعيننا بلا خجل متفرسين في الأشياء التي لا يجب معاينتها إذ العائش بالفضيلة لا يجوز أن يتأمل جسده بغير خجل فلا نسبب بذلك المضار لذاتنا.
وإذا أملنا مسامعنا إلى الأقوال الرديئة والأغناني الزنائية أَلسنا نكون سببنا الخسارة لأنفسنا وكذلك ندنس فمنا بالوقيعة والأقوال الفاحشة ولا نلجم لساننا كما كتب أم اللسان قد ركب في أعضائنا يدنس كافة الجسم ويلهب بكرة اللون ويحترق من جهنم والأناف ( جمع أنف ) نضمخها بالطيوب والأدهان، وأيدينا نلقيها بلا ترتيب على ما لا يجب لمسها، وأرجلنا نطرحها في طريق غير مستقيم.
فهذه الأشياء نعملها هكذا فكيف يمكننا أن نقدم للرب غمر العفة بل ولا وجه لنا، وإذ لم نمهد وجه الأرض بالحمية والأتعاب فكيف يمكن أن نمنع الدخان من الدخول إلي باطننا وأبواب حواسنا مفتوحة بازاء الذين يوقدون النار بجانبنا بلا انقطاع، إن كرهت الدخان فاحفظ الأبواب لئلا يسود بيتك في الشتاء، سد نوافذ أبواب المنزل لئلا ينضر جسمك من البرد، كيف استلقينا بلا تحرك متكاسلين عن منفعة النفس ويجب علينا أن نعطي جواباً للفاحص القلوب ؟
كيف ما حفظنا الهيكل الذي أُتمنا عليه ؟ فالبيت المعمول من طين وحجارة وخشب ليتدفأ به الجسم نَهتم به بحرص والمنزل الذي هو أفضل من ذلك لا نَهتم به ! خزي عظيم وقضية صارمة يحلان حينئذ بمن أفسد هيكل الرب إن لم يستعد بالتوبة للصفح ويرحض الأوساخ بدموعه، فلنبغض السبح الفارغ والفخر والغضب، الأنواع التي لا ثمر لها، ويجب علينا أن نتأمل سيرة القديسين ونضاهيهم.
ولنستفق لئلا تديننا النسوة الحريصات، تأمل حرص رفقة وتواضعها فإنك تعجب من فضيلة تلك المغبوطة كيف قبلت التغرب لأنه قد كتب أن رفقة لما نزلة إلي العين ملأت الجرة وصعدت فحضر الغلام إلى ألتقائها وقال: أسقيني ماءً يسيراً من جرتك. فقالت: له أشرب يا سيدي وبادرت فحطت الجرة علي ساعديها وسقته إلي أن ارتوى من الشرب. وقالت: أنا أسقي جمالك.
فأكملت الصوت الإنجيلي قبل أجيال كثيرة، لأن الرب يقول: إن سخرك أحداً ميلاً واحداً فإذهب معه ميلين. وهكذا هذه المغبوطة ضاعفت النعمة حين قالت له: أشرب يا سيدي وأنا أسقي جمالك إلى أن تشرب كلها وترتوي.
وإذ قالت هذا القول أثبتته بالفعل علي حسب المكتوب إن ملكوت السموات ليس هو بكلام فقط بل بقوة لأن رفقة أفرغت الجرة كلها في المسقى وبادرت إلى البئر لتستقي وسقت الجمال كلها فأبصر فضيلة نفس لا عجز فيها ولا كبرياء ولا تعظم دعت الغريب سيداً خدمت المسافر كخادمة له بنية خالصة.
هكذا صنع يعقوب حين دحرج الحجر عن البئر وسقي غنم لابان أخي أمه، لكن إن قال أحد: إنما صنع هذا لأجل حرمة الجنسية. فسيوبخ هذا من أفعال موسى لأن الكتاب المقدس يقول:
إن موسى تنحى من حضرة فرعون وجاء إلي أرض مدين فجلس علي البئر وكان لكاهن مدين سبعة بنات راعيات غنم يثرون أبيهن فلما أقبلن استقين إلي أن أوعين الأحواض ليسقين غنم أبيهن، فلما جاء الرعاة أخرجوهن فنهض موسى فخلصهن وسقى غنمهن.
يارب عظيمة نعمتك الشارقة في نفوس أبرارك لأنْهم قد تسربلوا بأم الفضائل أي المحبة الفاقدة المراءاة بتوجع وحرص عظيم.
حب أن تسمع تعاليم الكتب الإلهية، أننا في كل يوم نَهتم بغذاء الجسد ونلذذه بالأطعمة، وطعام النفس لا نَهتم به، سبيلنا يا أخوتي الأحباء أن نتهاون بطعام الجسد لتتغذى النفس بطعام الروح القدس كل يوم الخبز الذى تعطيه حكمة اللـه، وأشرب الماء النابع من الصخرة الروحانية ليسموا عقلك باستنارة العلم.
لأن التمتع بالأطعمة الحسية حين تعبر اللقمة تستقر لذاتِها، لِمَ تتشامخ أيها الإنسان بالحلة البهية لأنه إذا لبس أحد حلة جزيلة ثمنها يلبسها في النهار فإذا أدركه الليل يخلعها ويأكل ويشبع وينعطف إلي النوم وفي أثناء ذلك ربما تدب إليه وحوش ودبابات تميته، وإذا حان الصبح يقوم ويلبس ثيابه الحسنة ويتشامخ بالباطل الذي كان قبل هنيهة موضوعاً في الظلمة وبعد قليل سينحل في القبر.
إن آثرت أن تفتخر فليكن افتخارك بالرب وإن كان لك غناء فأكنز لذاتك بحسن الصنيع كنزاً في السموات لأنك إن احتشدت إلى أن يجئ الموت وجاءت الملائكة فتخلف الغناء وربما لمن لا تؤثره، لا تخف أن تضع أساً لسيرة صالحة فإنك إن ذقت حلاوة الروح القدس فيستضئ عقلك بدراسة الأشياء التي لا تبلى.
فلذلك يقول الروح القدس ذوقوا وانظروا إن الرب طيب مغبوط من يوجد في ساعة الوفاة ذبيحة قدسية مرضياً للرب فإنه يفارق بفرح جزيل الجسد وهذا العالم الباطل وإذا أبصرته جنود الملائكة في السماء يمدحونه كما يليق بنظيرهم في العبودية للرب.
صلاة
أما بعد فأنني أجترئ أيضاً بفم دنس أتوسل إليك أيها القدوس الطاهر النقي من قلب خبيث وفاجر كل يوم وأرسل إليك زفرات فإن العدو جذبني إلى دراسة الأفكار الخبيثة وأخجل أن أرفع طرفي إلى السماء لأنه قد صار لي خزي عظيم وعار من كثرة آثامي، فأتضرع إلى صلاحك أن ترثي لي بما أنك متحنن أطرد من ذهني المفسد الغاش واجعلني خالصاً قبل الموت من حظ المنافقين، يارب اذكرني برحمتك ورأفاتك وأصغِ بسمعك إلى طلبة عبدك لئلا أدان مع المستكبرين، لا تطرحني من اتجاه عينيك لئلا أصير نصيباً للهلاك ولا تغرقني في قعر اللجة لا تحبسني في مطابق الهاوية لئلا تفرش تحتى النار ويكون مسكني الدود،
لا تحسبني في الظلمة الأبدية تحت أساس الجبال مقيداً بقيود أزلية، ولا تدفعني إلى ملائكة غير راحمين، لا تحرقني في نار لا تطفأ، اذكرني يارب وخلصني أيها القدوس المستريح في القديسين، أنت قلت يارب اسألوا تعطوا إنما أطلب رحمة ورأفة لأنك قد منحت الكل وسائلهم بسعة ولم تعير أحداً أيها الرب الماسك الكل لأنك لم تزل صالحاً وللناس ودوداً، امنحنا يارب أن نجد دالة أمام مجدك فليتمجد بنا اسمك وليقبلنا الصديقون بسرور في المساكن الدهرية منقذين من أيدي المنافقين المتكبرين،
من ذا يسمع القول المرهوب فيصمت عن الهتاف إليك كل ساعة لأن الكتاب المقدس يقول: إن كان الصديق بالجهد يخلص فالمنافق والخاطئ أين يظهران. أما نحن فمتوكلون على رأفاتك نصبر متضرعين أن ننجى من النار التي لا تخمد ومن الخوف العتيد لأنه في القديم يارب قبض ملاكك علي ناصية حبقوق وفي ساعة وضعه ببابل فوق جب الأسود وفي الحين رده إلى أرض يهوذا أرضه،
فلتأخذنا يارب نعمتك وتعبرنا بلا خوف تلك الهاوية العظيمة الرهيبة التي جعلت بين الصديقين والظالمين حتى إذا نجيتنا نقول. المجد للآب الذي نجانا من ظلمة الجحيم وجعلنا في فردوس النعيم، المجد للابن الذي نجانا من النار التي لا تخمد والدود المؤبد
وأهلنا أن نصير وارثي أورشليم التي في العلا، المجد للروح القدس الذي نجانا من عقد الخطايا ومن الخزي الأبدي وكللنا بابتهاج في النور الصادق إلي أبد الدهور. آمـين
No Result
View All Result