في توبة أهل نينوى
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
حين أنظرُ تلكَ الأيام التي مرَّت بدونِ تعليم، وأنظر نفسيَ مضطرّاً إلى السّكوتِ بسبب المرض، أشعرُ بالضيقِ والانزعاج، كمثلِ رياضيٍّ على أتمِّ الاستعداد، يُحرمُ من الدّخول إلى الملعب ليشارك في المباريات.
كنت أراكم جائعين للغذاء العقلي، وأنا عاجزٌ عن العطاء.
كنت أرى الوقتَ وقتَ تجارةٍ، ونفسي غيرَ قادرةٍ أن تبرمَ معكم ولا صكاً واحداً.
كنت أرى الصَّيدَ وفيراً، والصَّيّادَ همَّتُه على الصَّيدِ ضعيفةٌ. لكنني في معاناتي الشديدة لأجلَ هذا، كنت أعتبرُ أن أضيفَ على حالي الآلام فأستطيع أن أعاود الكنيسة وأشارككم القداس التالي، أفضلَ من ملازمتي الفراش فأنفصلُ عنكم ثانيةً ، منهكَ القوى ليومين أو ثلاثة.
لهذا آتيكم اليوم، بنعمةِ الرَّب ومعرضاً عن الأحاديثِ اليوميّة، لكي أؤَدّي واجبي تجاهكم. هلمّوا إذاً لنجذب قاربَنا في بحرِ توبةِ أهلِ نينوى.
لكلِّ فئةٍ من النّاسِ ما يفيدها من الكلام، أمّا علاج التوبة فأظنُّه مفيدٌ للجميع. وحيث ما من أحدٍ معتقٌ من الخطيئة، بالتّالي لا أحدٌ بغنى عن التّوبة. ولطالبيها، يبدو من الضروري ذكرُ مثالِ الّذينَ خلصوا بالتّوبة، لعلّه (المثال) يدخلُهم بنفس الوسيلة إلى الصّحّة.
لنرَ من شابهوا الوحوش يدركون رتبة الملائكة.
لنرَ الذين دمّروا المدينةَ بأعمالهم يعيدونَ بناءها بطريقةِ فلسفتهم (حياتهم).
لنرَ أعداءَ اللّه يصيرون أصدقاءَه، والّذين كان السَّيدُ متَّهِماً لهم قبلاً، يقتنونه فيما بعد محامياً عنهم.
لنرَ المحكومَ عليهم يسعون لدى القاضي بعد صدور القرار، فيُسقطون الحكم.
لنرَ اللّه كاذباً لأجلِ محبّتهِ للبشر.
سمعنا قبلاً كيف أنّه حالما نادى النَّبيُّ اضطربتِ المدينة. وكما يضطّرب البحرُ من ريحٍ عاتية، هكذا كانَ وقعُ سقوط صوتِ يونان، فسبّبَ لشعبِ نينوى جزعاً ورعدة.
سمعنا أنَّ المدينة لدى استقبالها النّبأ لم تسقط في اليأس، بل نشطت إلى التّوبة، وبينما لم يكن لها دالّةٌ للخلاص شرعت في عبادةِ اللّه ومصالحته. يا ترى ماذا فعلت من أجلِ المصالحة؟
قد قيلت في ذلك شذرات، أما أنا فعليَّ أن أعطيكم القولَ كلَّه: لأنَّهم “نادوا بالصّيام، ولبسوا المسحَ من صغيرهم إلى كبيرهم.”
يا للعجب الغريب، المخيف للإنسان، والذي تتوق إليه الملائكة!
تأملْ، لخاطري، هذه الرّبوات الكثيرة من أولئك الرّجال مع النساء والأولاد يلبسون المسوحَ حادّينَ لأجلِ الشَّيءِ نفسه. كلُّ المهن تتعطّل وكلُّ عملٍ بشري، لا أحدٌ في أيِّ مكان يقومُ ولو بعملٍ واحد. حزنُ الجميع مع ضجيجٍ وصراخ يرتفع إلى السَّماء.
تأمَّلْ زوال التّمايز بين الأسياد والعبيد، بين الرّؤساء والمرؤوسين. هوذا الملك حاضرٌ في وسطِ الجموع بمظهرٍ مماثلٍ لها يرتِّبُ الخدمةَ العباديّة للّه وكأنّها تنظيمٌ عسكري.
يقول الكتاب: “وصل الكلام للملك فنهضَ عن عرشه، خلع بزّته، التحفَ المسوحَ، وجلسَ على الرَّماد”. يا للملكِ الحكيم. الملك بنفسهِ أوّلَ من أعلنَ التوبة، وذلك ليجعلَ مدينته بحالةٍ أفضل. لأنّه من ذا الّذي يرى الملكَ نفسَه مجاهداً لأجلِ الخلاص ويتراخى من بعدُ؟
جراحاتُ التاج تشفيها المسوح، خطايا العرش يمسحها بجلوسه على الرَّماد، مرض الكبرياء يعالجه بتذلّلِ المظهر، وبالصِّيام يداوي جراحاتِ التَّنعّم.
ولدى سلوكه في ذلك عمليّاً كان ينهضُ الجميعَ بندائه، فيسلكوا النَّهجَ ذاته. لأنَّ الكتابَ يقول: “ونودِيَ من الملك: النّاس والبهائم والبقرُ والغنم لا تذوقنَّ شيئاً، لا ترعى، ولا تشربْ ماء.”
هذا تشريعٌ فريدٌ لملك. يوصي المرضى بالصِّيامِ كما لو كانَ طبيباً.لا بل إنَّ المشرِّعَ الّذي قضى حياته بالمتع يقلِّدُ التعاليمَ الرَّسوليّة حولَ الصِّيامِ الموقَّر، ويأمرُ أن تشاركَ النّاسَ في هذا الصيام الحيواناتُ العجم، حتى، بواسطةِ الطبيعةِ عادمةِ الخطيئة، يُميلَ اللَّهَ إلى مراحمٍ عظمى.
يقول الكتاب: “ولبسوا المسوحَ، البشرُ والبهائم”. يا للتّرتيبِ السّماوي! ياله من طابورٍ مرعبٍ للشيطان! كان الشّيطان يقف منتحباً لدى رؤيته كاملَ جيشِهِ يتحوَّلُ نحو اللّه ويحاربُ الشّياطين.
في هذهِ المعركة أولادٌ ونساءٌ ورضَّعٌ مع الرّجالِ يحاربون، حتّى طبيعةُ البهائم صارت مشاركةً في صفوف الحرب. فرأى الشّيطان منظراً جديداً. فالحيوانات الأهلية تدفع عن الناسِ ضريبةَ البر، وتصومُ من أجلِ خلاصِ مالكيها “الناسَ والبهائم والبقرُ والغنم لا تذوقنَّ شيئاً ولا ترعى”. نحّى الملكُ شاراتِ السلطة جانباً، وأخذ دورَ الكهنةِ فانتصبَ متكلّماً متفلسفاً، ومؤدّباً أهلَ نينوى.
يقولُ لهم: يا أصدقائي، مخيفةٌ هي الأسواءُ المحيطةُ بنا.
بينما أخضعنا المسكونةَ كلَّها، كأشرارٍ نُسحَقُ بالحكمِ الإلهي.
بينما نحن متملّكين على جميعِ النّاس، كآخِرِ الجميع حُكِمَ علينا بالموتِ بطريقةٍ غريبة.
بينما طوَّبَنا الآخَرونَ جميعُهم، سنظهرُ أكثرَهم بؤساً صائرين للجميعِ أسطورةَ حياةٍ ورواية. فمجدنا السّابق لم يقدر أن يتجاهل سيّئاتنا.
يا أهلَ نينوى، ربحنا حروباً كثيرة فلنجاهدِ الآن بشجاعةٍ أكبر لأجلِ خلاصنا. من قبلُ فَعَلنا كلَّ شيء لنصيرَ أسياداً للآخرين، أمّا الآن فجهادنا هو ألاّ نَبيدَ مع نسائنا وأولادنا في طرفةِ عين.
لصدِّ حربٍ غريبة فلنحاربْ بطريقةٍ غريبة:
لنرشقِ السَّماءَ بالتّسابيح، لنقذفْها بالتراتيلِ بدلَ الرِّماح، لنرشقِ اللّهَ بمقلاعِ الصلاة، لنطفئْ غضبَه بدموعنا المستمرّة، لنمزّقْ فيلقَ أعمالنا الشّرّيرة، لِنَسُدْ على حصونِ الشَّر، ولنحاربْ بأسلحةِ الفضيلة: درعُ البِر لا يجتازه سهم، ترسُ الإيمانِ لا تكسره صاعقة، خوذةُ الرّجاءِ لا يطيقُ اللّه سحقها، لا يمزِّقُ الغضبُ العلويُّ قميصَ العفّة، ولا يقوى تهديدٌ بالخراب على هدمِ حائطِ الاعتراف. حكمُ الدّمار يتلاشى كالدّخان أمام توبةٍ جدِّيّة.
هكذا يا أصدقائي، إذا حاربنا بمثلِ هذه الأسلحة، كما غزونا السّماء، نغزو الأرض.
تشجّعوا يا أهلَ نينوى، تشجّعوا فمن يقاتلُنا ملكٌ محبٌّ للبشر: يطرحُ أعداءه غير آبهٍ بتوسّل، لكنّه متى تحوَّلَ غضبُهُ يصبحُ محسناً لأعدائه.
بمثلِ هذهِ الأقوال العزائيّة حفّزَ الملكُ الشَّعبَ إلى التّوبة، بينما نفّذَ الشَّعبُ ما أمرَ به ملكُهم باستعدادٍ تام، إذ يقول الكتاب “لبسوا المسوحَ، البشَرُ والبهائم، وصرخوا بشدّةٍ نحو اللَّه”. لم تكن جاهزيَّةُ الكلام مصحوبةً بفكرٍ بالهواء، لم يكن نطقُ اللّسان مترافقاً بذهنٍ سارح، ولَفظُ الصّوتِ ما كان يصاحبه عقلٌ جائل، بل الكلُّ معاً كان يعبد اللَّه.
أرخى اللّيلُ سدائله فزادَ الخوفَ، طردَ النّومَ، والأهمُّ أنّهُ علَّى التَّسبيح.
أمّا النهار، فبدوره، أظهرَ السَّماءَ كئيبةً تضربها بروقٌ لا تتوقف ورعود، الّذي كان يدفعُ الجميعَ في حالِ رعبٍ تفوقُ الحسبان فصرخوا صراخاً عظيماً.
الأرضُ تأرجحت فسبَّبَتْ للنَّاسِ اضطراباً شديداً. تراكضَ الأطفالُ جميعُهم إلى حُجُرِ أمّهاتهم خوفاً، وبكوا في أحضانهنَّ ما خلقَ لكلِّ من رآهم نحيباً يتعذّرُ وصفُه ونوح.
قطعانُ الأبقارِ والأغنام والحيوانات الأخرى، التي قُطِعتْ عن الماء والكلأ،كانت تحرِّكُ الحزنَ في القلوبِ الماسيّةِ بأصواتٍ مختلفةٍ أطلقتها. وبينما التّهديد والخوف مهيمنان، لم يكن يحتمل (الملك) أن يفقدَ الرَّجاء الحسن، إنَّه يقول: “فمن يعرف. ألعلَّ اللَّهَ يندمُ ويرجعُ عن سخطِ غضبهِ، فلا نهلك.”
No Result
View All Result
Discussion about this post