معجزة الافخارستيا
القديس يوحنا الذهبي الفم
من أهم الأمور أن نتعرَّف على المعجزة الحادثة في أسرارنا، ونعرف ما يتم فيها، ولماذا مُنحت لنا، وما الربح الروحي الذي نستمده منها؟
إننا نصير بها جسداً واحداً مع الرب و“أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ” (أف 5: 30) فلينصت جيداً كل مَن يتقدَّم إلى الأسرار إلى ما أقول, لقد قَصَدَ الرب أن يجعلنا واحداً معه، ليس فقط بمشاعر المحبة، بل وبالفعل الواقعي أيضاً، حتى نصير ممتزجين به في جسدٍ واحد.
وقد حقَّق ذلك بالمأكل الحق الذي وهبه لنا مجاناً، مُعبِّراً بذلك عن مقدار محبته التي أحبنا بها.
وهكذا، فقد مزج نفسه بنا حتى جعل جسده يمتزج بأجسادنا لكي نصير معه كياناً واحداً، بمثل ما تكون أعضاء الجسد متصلة بالرأس. فإن هذه هي سمة المحبة الشديدة لقد عبَّر أيوب عن ذلك مشيراً إلى عبيده الذين أحبوه لدرجة أنهم كانوا يشتهون أن يصيروا ملتحمين بجسده.
فقد كانوا يقولون بسبب شدة محبتهم من نحوه: “مَنْ يَأْتِي بِأَحَدٍ لَمْ يَشْبَعْ مِنْ طَعَامِهِ؟ “ (أي 31: 31) فالذي كانوا يشتهونه من جهة سيِّدهم، هذا قد حقَّقه لنا المسيح، لكي يُظهِرَ لنا محبته من نحونا ولكي يُدخلنا في علاقة أوثق به, فهو لم يجعلنا فقط نراه، بل أعطانا أيضاً أن نلمسه، بل ونأكله ونستقبله داخلنا بالتمام, فنشبع من حبه على قدر ما اشتهينا.
فلْنعُدْ، إذن، من المائدة المقدسة كمثل الأُسود المملوئين غيرة، ولنصِر مُرهِبين للشيطان، إذ نذكر باستمرار ذاك الذي فينا الذي هو رأسنا، ونذكر الحب الفائق الذي أظهره من نحونا. إن الأمهات كثيراً ما دَفعْنَ أطفالهن إلى مرضعات، وأما أنا – يقول الرب – فإني أُغذيكم بجسدي الخاص، لكي أجعلكم جنساً كريماً، وأُعطيكم من الآن رجاء الخيرات العتيدة.
فالذي يُعطيكم ذاته في الحياة الحاضرة، فكَم بالأحرى في الأخرى؟ لقد ارتضيتُ بأن أصير أخاً لكم، ومن أجلكم اشتركتُ معكم في اللحم والدم، والآن، هوذا أنا أُسلِّم إليكم مرة أخرى جسدي ودمي اللذين بهما صرتُ شريكاً في جنسكم.
هذا هو، يا أحبائي، الدم الإلهي الذي يُجلِّي فينا صورة المسيح ملكنا، ويُعطي نفوسنا بهاءً فائقاً لا يزول طالما هو يرويها ويُغذيها متواتراً. فهذا الدم يروي نفوسنا وينعشها ويمنحها أعظم قوة.
حينما نتناوله باستحقاق، فهو يجعل الشياطين تهرب منا، ويستدعي فينا الملائكة والله نفسه رب الملائكة, إن الشياطين تهرب خائرة أول ما ترى فينا الدم الإلهي؛ وأما الملائكة فتقترب وتسجد.
هذا الدم المسفوك هو الذي غسل المسكونة كلها من أقذارها… هذا الدم هو تقديس نفوسنا وخلاصها، إنه يزيدها بهاءً ويشعلها كالنار، إنه يُعطينا فهماً مستنيراً أكثر من لهيب النار ونفساً لامعة أكثر من الذهب. إن هذا الدم لَمَّا سُفك على الأرض، قد جعل السماء في متناول أيدينا.
فبالحقيقة، ما أرهب أسرار الكنيسة! وما أرهب مذبحها المقدس! من الفردوس الأرضي كانت تنبع عين مياه تتفرَّع إلى عدة أنهار مادية، والآن من هذه المائدة يخرج ينبوع مياه روحية تندفع منه أنهار نِعَم روحية…
لو استطاع أحد أن يغمر يده أو لسانه في الذهب المنصهر، لكان يستردها وكلها مكسوَّة بالذهب، هكذا، بل وبطريقة أعظم من هذه، يكون الأثر الحادث في النفس التي تشترك في هذه الأسرار…
إن هذا الدم صار ثمناً لافتداء العالم. به اقتنى المسيح كنيسته (أع 20: 28)، به قد زيَّنها بكل موهبة… إن الذين يتناولون من هذا الدم يصيرون ملازمين للملائكة ورؤساء الملائكة والقوات السمائية. بل يكونون لابسين ثوب المسيح نفسه ملكهم وحاملين أسلحة الروح، بل إني بقولي ذلك لم أُعبِّر عن الحقيقة العظمى, إنهم يصيرون لابسين المسيح نفسه ملكهم, هذه هي الحقيقة العظمى والمُدهشة بالحق. فإذا ما اقتربتم منها بطهارة، فإنكم تقتربون من الخلاص [*]
إنه لم يكتفِ بأن يصير إنساناً وأن يُضرب ويُقتل، ولكنه أراد أيضاً أن يمزج نفسه بنا، وذلك ليس فقط بالإيمان، بل وبالفعل الواقعي أيضاً، فقد جعلنا جسداً له… فبأيِّ طهارةٍ فائقة ينبغي أن يتقدَّم ذلك الذي ينال من مثل هذه الذبيحة؟ وألا ينبغي أن تكون تلك اليد التي تقسم مثل هذا الجسد أكثر نقاوة من أشعة الشمس؟
وذلك الفم الذي يمتلئ بالنار الإلهية؟ وذلك اللسان الذي يصطبغ بهذا الدم الرهيب؟ فانظرْ إلى مقدار الكرامة التي دُعِيتَ إليها، وإلى سمو المائدة التي ستشترك فيها. فالشيء الذي ترتجف الملائكة من مجرد رؤيته، ولا تجسر أن تنظر إليه بدون رعدة، بسبب شدة الضوء المنبعث منه؛ هذا الشيء بعينه هو الذي نأكله. وبه هو نفسه نحن نمتزج لنصير به جسداً واحداً ولحماً واحداً مع المسيح.
“مَنْ يَتَكَلَّمُ بِجَبَرُوتِ الرَّبِّ؟ مَنْ يُخْبِرُ بِكُلِّ تَسَابِيحِهِ؟” (مز 106: 2) أيُّ راعٍ عَالَ رعيته بأعضائه الخاصة؟ ولماذا أتكلَّم عن الرعاة بينما توجد أُمهات كثيرات بعد أن احتملن آلام الولادة، دفعن أطفالهن إلى نساء أُخريات كمرضعات. ولكنه لم يطِقْ أن يفعل هكذا، بل هو نفسه يُغذينا بدمه الخاص، وبكل وسيلة يمزجنا بنفسه.
فاعلم جيداً أنه بميلاده قد اشترك في طبيعتنا. ولكنك تقول: وما المنفعة من ذلك لجميع الناس؟ بَلَى، إن هذا يخص الجميع, لأنه إن كان قد جاء في طبيعتنا، فمن الواضح أن هذا الإحسان قد صار للجميع. وإن كان للجميع، إذن، فلكل واحد منا بخصوصيته. ولكنك تقول: فمن أين، إذن، أن الجميع لم ينتفعوا من مجيئه؟ هذا التقصير لا يرجع إليه، إذ أنه قصد أن يتجسَّد من أجل الجميع، ولكن التقصير من أولئك الذين لم يشاءوا الخلاص.
إذن، فهو يمزج نفسه في الأسرار مع كل واحد من المؤمنين. والذين ولدهم، أولئك يطعمهم من ذاته ولا يدفعهم لآخر. وبهذا أيضاً هو يقنعك أنه قد أخذ جسدك. فلا نكن، إذن، جاحدين لإحسانه؛ بعدما استؤهلنا لمثل هذا الحب ولمثل هذه الكرامة. أَلاَ ترون الرُّضعان كم يشتهون ثدي أُمهاتهم، وبكم من الاشتياق يثبتون شفاههم في الثدي؟ فبنفس الاشتياق ليتنا نقترب إلى هذه المائدة، ونرتشف من كأس الحياة.
ليتنا نجتذب منها لأنفسنا نعمة الروح، وليكن حزننا الوحيد هو أن نُحرم من هذا القوت السماوي.
إن الأسرار التي تُقام أمامنا ليست من عمل إنسان، فالذي أقامها في ذلك الزمان في ذلك العشاء الأول هو بعينه الذي يُقيمها الآن. وأما نحن فلسنا سوى خدَّام له. ولكنه هو بنفسه الذي يُقدِّس القرابين وينقلها… فهذه المائدة هي نفس المائدة التي كانت في ذلك الزمان ولا تنقص عنها شيئاً.
ليس أن المسيح أقام تلك والإنسان يُقيم هذه الآن، ولكن المسيح هو بنفسه الذي يُقيم هذه أيضاً بالسوية. فنحن الآن في العليَّة حيث كانوا مجتمعين في ذلك الزمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+ تمت الترجمة بواسطة رهبان دير أنبا مقار
[*] ماقبل علامة النجمة ترجم عن :
NPNF, 1st ser. Vol. XIV, p. 166-167. بالمقارنة مع Oeuvres Complètes, trad. Par M. l’abbé Joly, Paris, 1864, t. I, p. 566 ss.
و ما بعدها مترجم عن :
NPNF, 1st ser. Vol. X, p. 495,497. بالمقارنة مع Oeuvres Complètes, trad. Par M. l’abbé Joly, Paris, 1864, t. VII,
No Result
View All Result
Discussion about this post