في الأحلام
القدّيس إغناطيوس بريانتشانينوف
نقلتها إلى العربية راهبات دير مار يعقوب، دده – الكورة
تستخدم الشياطين الأحلام لكي تزعج وتجرح النفس الإنسانيّة. وهكذا فالإنسان أو الراهب الذي تشغله أحلامه يؤذي نفسه.
لهذا، نجد لزاماً علينا أن نبحث في أهميّة الأحلام بالنسبة للذين لم تتجدّد نفوسهم بعد بالروح القدس. تكون حالة الإنسان أثناء النوم في سكون تامّ، حتى إنّ الإنسان نفسه يفقد وعيه لوجوده، لذلك نقول بأنّ الإنسان هو في حالة نسيان.
تتوقّف، أثناء النوم، كلّ النشاطات الإراديّة التي تحرّكها الإرادة عن العمل، خلا الدورة الدمويّة، وعمليّة الهضم، وعمليّة التنفّس وغيرها..
هذه النشاطات اللاّإراديّة تستمرّ في نشاطها أثناء النوم. وكذلك النفس، الأفكار، الخيالات والأحاسيس، يستمرّ جريانها، ولكن بدون الاعتماد على العقل والإرادة، وذلك لأنّ جميعها تتمّ في اللاّوعي. الحلم هو خيال مجبول بأحاسيس وأفكار.
وأحياناً كثيرة تبدو أحلامنا شديدة الغرابة كونها لا تمتّ إلى واقع حياتنا وأفكارنا بصلة، كما تكون الأحلام مجرّد حكايات تتناسب مع إنساننا العميق. ولكن في جميع الأحوال، ليست الأحلام شيئاً في حدّ ذاتها.
تشتدّ الرغبة عند الكثيرين في قراءة مستقبلهم، أو مستقبل من يهمّهم أمرهم، عن طريق الأحلام أو تفسير الرؤى الليليّة. ولكن هل يجوز الركون إلى الأحلام لمعرفة مستقبل الناس؟
للشياطين القدرة أن تتدخّل في حياتنا الليليّة والنهاريّة معاً. عندها القدرة أن تمزج خيالاتنا بخيالاتها. فعندما يلاحظ الشيطان ميل أو اهتمام إنسان في الأحلام، يبدأ، للحال، حربه عليه بأن يغذّي فيه حبّ الأحلام، ويجعله شغوفاً بها.
وهكذا يبدأ هذا الإنسان، شيئاً فشيئاً، بوضع ثقته في الأحلام، فيسقط، عندئذ، فريسة للشيطان. تقترن الثقة بالأمور الشيطانيّة، عادة، بالغرور.
وتأتي خطورة الغرور من كونه قادراً أن يجعل الإنسان يرى نفسه في القمّة على الدوام. وعندما يتمكّن الشيطان من السيطرة عليه عبر الأحلام، وزرع الغرور في عقله وقلبه، يكون قد حقّق، عندئذ، أمراً بالغ الأهميّة بالنسبة إليه، وهو أنّه لا يعود قادراً أن يحكم في نفسه حكماً صحيحاً سليماً. وهذا هو مطلب الشياطين الأردياء أن لا يعود الإنسان يرى عيوبه ونقائصه لأنّه جميل في كلّ شيء،
وجماله الكلّيّ هذا خدعة شيطانيّة. ولكنّ هذه الحيل قد لا ينجح بها الشيطان مع كلّ الناس، وذلك لأنّ هناك كثيرين قد تقدّموا في الحياة الروحيّة، فما عادت هذه الأساليب تقوى على خداعهم. يظهر الشيطان لأمثال هؤلاء في هيئة ملاك نور، أو في صورة قدّيس، أو شهيد مات من أجل المسيح.
إنّ هذه الصور الشيطانيّة قادرة أن تخترق حتى حصن كبار المتقدّمين روحيّاً كونها تأتيهم بأشكال مختلفة تجعلهم في حيرة من أمرهم، وهكذا يبدأ هلاك النفس عند هؤلاء.
نحن بحاجة أن ندرك ما هو وراء الصور والرؤى، طالما أنّنا لم نستحمّ بعد في حمّام الروح القدس. نحن غير قادرين، بعد، أن نفهم كلّ الحيل الشيطانيّة التي تجرح نفوسنا على الدوام.
يتدفّق في اليقظة عالم من الأفكار والخيالات في كياننا، تتدفّق، بدون توقّف، الأفكار والخيالات في طبيعتنا المنفسدة، والسبب هو الشياطين الذين يحرّكون الفساد الذي فينا على الدوام.
تأتينا التعزية في حياتنا من إحساسنا بالخطيئة والضعف. تذكّر الموت على الدوام قادر أن يساعدنا على قبول نعمة الروح القدس الحاصلة فينا بالمعموديّة.
أحياناً، تكون رؤية النار الأبديّة في الأحلام، افتقادا من الله من أجل التوبة، وهكذا تنغرس فينا نواة مخافة الله. ولكنّ مثل هذه الأحلام، ليست نافعة لنا على الدوام، لأنّها تعرّض الإنسان إلى الكبرياء.
ومن يتعرّض إلى الكبرياء، يتعرّض إلى فقدان أثمن أمر بالنسبة لخلاصه، وأعني التواضع.
إنّ معرفة إرادة الله أمر جزيل الأهميّة بالنسبة لخلاص نفوسنا، ولا تتمّ هذه المعرفة إلاّ بالغوص والتأمّل بالكتاب المقدّس، وأمّا إتمام وصايا الله الواردة فيه، فتقينا وتحمينا من كلّ المتاهات والسقطات المرّة. لقد أظهرت الخبرة أنّ الذين كانوا يرون رؤى في أحلامهم، كان يشملهم الانذهال لما يرون إلى حين،
ولكن سرعان ما تتبخّر الصور والخيالات بعد قليل تاركة إيّاهم عرضة لاضطراب كبير. لقد عانى أمثال هؤلاء من نهاية مريرة لاتّكالهم على الأحلام. هناك أشخاص أحلامهم قليلة، إذ إنّ دراستهم لكلام الله في الكتاب المقدّس بعمق ورويّة، وشغفهم بالسماويّات، وتسمير كيانهم فيها بلغت بهم إلى حالة من الرفعة والسموّ صارت معها الأرضيّات بالنسبة إليهم وكأنّها غير موجودة.
تحدّث القدّيس يوحنّا السلّميّ عن دور الشياطين في الأحلام إذ قال:
“إنّ الشياطين، متى تركنا بيوتنا وأهلنا لأجل الربّ، وبُعنا ذواتنا للغربة حبّاً بالمسيح، يحاولون إقلاقنا عن طريق الأحلام، فيصوّرونهم لنا إمّا نادبين أو محتضرين أو مسجونين وفي عناء بسببنا. فمن يصدّق الأحلام يشبه بالتالي من يركض وراء ظلّه إلى الأبد”.
تتحرّك شياطين المجد الفارغ في الأحلام. إنّها تحاول أن ترسم لنا مستقبل حياتنا، وعندما تتحقّق هذه الرؤى نطير نحن من الفرح، ونظنّ أنّنا ملكنا معرفة الغيب، وهذه خدعة شيطانيّة خطيرة جدّاً.
إنّ الشيطان، هو على الدوام، نبيّ بالنسبة للذين يؤمنون به، ولكنّ خداعه ينفضح دائماً عند الذين يزدرونه. الشيطان روح، ويقدر أن يغوص إلى أعماقنا ليعرف ما يجري، لهذا إذا لاحظ إنساناً مشرفاً على الموت، يسرع، للحال، إلى أكثر الناس خفّة وغباوة، ويكلّمهم في الحلم بأنّ الإنسان الفلانيّ سيموت عمّا قليل.
لا تستطيع الشياطين، في الواقع، أن تنبئ بالمستقبلات، لأنّها لا تقدر على ذلك، ولهذا فإنّ السحرة والمنجّمين لا يقدرون أن يحدّدوا ساعة الموت.
تأتينا الشياطين، مراراً كثيرة، في الليل بصورة ملاك من نور، أو قدّيس من القدّيسين العزيزين على قلبنا، وإن استجبنا لنواياهم نسقط في جبّ الكآبة والغرور.
كلّ هذه الرؤى الليليّة هي أوهام شيطانيّة، لأنّنا ما إن نستيقظ حتى نجد أنفسنا في فراغ كبير. وعندما نُستعبَد للشياطين في الليل، نصبح مستعدّين لخدمتهم في اليقظة.
إنّ من يصدّق الأحلام هو إنسان عديم الخبرة بالكلّيّة، كذلك من يرفض الأحلام، ولا يصدّق ما تنقله لنا هو إنسان حكيم للغاية.
صدّقْ الأحلام التي تذكّرك بالدينونة، ولكن عندما تعكّر هذه الأحلام محبّتك لله، وتجعل تواضعك يتداعى، اعلم، عندئذ، أنّ هذه الأحلام هي، أيضاً، من خداع الشياطين.
روى القدّيس كاسيانوس
عن راهب عاش في ما بين النهرين أنّه انخدع بالرؤى الشيطانيّة التي كانت تأتيه في الأحلام.
وقد لاحظ أنّ الراهب هذا كان يهتمّ كثيراً بتعب الجسد غير منتبه إلى نموّه الروحيّ، فكانت النتيجة أنّه سقط في الخديعة التي رُسمَت له، إذ إنّه ما عاد ينتبه إلى حياته الداخليّة، بل انحصر جهاده الروحيّ في إتعاب وتعذيب الجسد.
وبعد أيّام جاءته الشياطين في الأحلام، بعد أن كبرت ثقته بنفسه وبما يعمل، وقالت له: إنّ اليهود يتمتّعون بالفرح السماويّ، بينما المسيحيّون يذوقون ألواناً مختلفة من العذاب في جهنّم. ثمّ بعد أن تنكّر الشيطان في هيئة ملاك قال: اقبل بالتعاليم اليهوديّة لكي تنال قسطاً من هذا الفرح السماويّ. وهذا ما فعله الراهب بدون تردّد.
إنّ الروح القدس هو السيّد على الإنسان الجديد، ونعمته هي التي تنير حياته، لهذا من يتّكل على الربّ في نومه ويقظته، ويبتعد عن الخطيئة والأفكار والخيالات الشيطانيّة،
هو إنسان يضع نفسه تحت قيادة الروح القدس الذي سيقدّس حياته ويحوّلها إلى مجد الله. وهكذا استطاع يوسف الصدّيق خطيب مريم أن يقبل سرّ تجسّد الله، وكذلك بواسطة الحلم هرب إلى مصر مع مريم والطفل يسوع، وبحلم آخر عاد إلى فلسطين من جديد.
إنّ الأحلام التي تأتينا من الله، تجلب الراحة والتعزية واليقين، وهذا ما يؤكّده رجال الله القدّيسون، والذين لا يقدرون أن يفسّروا هذا، لا يزالون إلى الآن يتخبّطون في أهوائهم.
No Result
View All Result
Discussion about this post