يوحنا المعمدان.. ثورة الأنبياء
بقلم: الأب بسّام آشجي
إن يوحنّا المعمدان هو أنموذج أنبياء عهد الانتظار يرسم لنا صورة مسبقة “لشاهد الإيمان” في العهد الجديد، الذي يتحوّل فيه الترقب والانتظار للملكوت، إلى عيش له من خلال ظهوره في شخص “المنتظر” يسوع المسيح. فهو “الشاهد” الأمين للعريس، كما يدعو نفسه.
من العقر والشيخوخة إلى الفقر والبريّة!..
إنَّ ولادة يوحنا من عاقر طاعن في السن، هي صورة للعهد القديم لما بلغ شيخوخته وذروة عقره؛ فالعهد القديم باطل في ذاته، يأخذ قيمته من تهيئته لحدث “المسيح”. إن الله بحنانه، وهذا تفسير كلمة يوحنا، يفتقد شعبه بإنسان برّية، خشنٍ، يأكل الجراد، يفترش الأرض ويلتحف السماء، ليعلن عن تدشين خصوبة عهدٍ جديد، كاملٍ ونهائي، هو اللقاء بيسوع.
نحن أيضاً بدورنا، نعيش أحياناً العهد القديم، فنختبر في حياتنا الإيمانيّة عقراً، وتُهرمنا الآمال المتجمّدة، عندئذٍ يفتقدنا الرب بحنانه، فيدعونا إلى “البريّة” ليخاطب قلبنا (هو2/16).
إنَّ الخروج إلى البرية في حياة المؤمن هو أن يتفرّغ لاستقبال الرب. فالإيمان لا ينمو فينا دون فراغ وصمت، دون خلوة وترقب!.. ليست الخشونة هدفاً بحدِّ ذاتها في تربية إيماننا، بل إنها، كيوحنا، منهجاً يعدُّ الطريق للرب (مت3/3). فلا شهادة للإيمان دون إعدادٍ مسبقٍ لها.
“كان لباس يوحنا من وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد وكان طعامه الجراد وعسل البر” (مت3: 5).. كان فقيراً من أجل الله!.. الفقر الروحي، الذي يطوّب يسوع من يلتزم به، هو عدم الرغبة في التملّك من أجل الله. هو أن نقول لله: كل شيءٍ لا قيمة له أمام حضورك، لأنك أنت الثمين، أنت الكنز، من أجلك نتخلّى عن كل شيء.. ليس لأنّ الأشياء سيئة بحدّ ذاتها، ولا لأن التملّك شرّ، ولكنَّ الفقير بالروح هو من أراد أن يقول: “الله وحده يكفي”.
الفقر بالروح، الذي عاشه يوحنا في البريّة، هو التحرّر من كل ما يُعيق النموّ في الحياة بالله، شيئاً كان أم شخصاً أم الذات نفسها. وهو تالياً، لا يخصُّ النساك والمتصوفين وحسب، وإن كانوا هم السبّاقين في السعي إليه، بل إنه موقف داخلي إنجيلي يدعو كلّ مسيحي التحلي به، متشبّهاً بالله نفسه، الذي زَهِدَ بجميع ما خلق لصالح الإنسان؛ افتقر من أجل من ميّزه عن الخليقة بإبداعه له على صورته ومثاله. الله لا شيء له، لأن كيفية وجوده هي في العطاء الكامل، في فرح “إخلاء الذات”. الله بخلقه الإنسان يفتقر بوجهين: الأول في فعل خلق الإنسان بحدّ ذاته، عندما يخلقه حرّاً على صورته ومثاله، أي يهبه كيانه. والثاني، عندما يُقدّم له الخليقةَ بأسرها هدّية مجانيّة..
إنّ يوحنا الذي ندعو أنفسنا إلى التشبّه به، قد تشبّه بالله، فزهد بوجهين: عدم التملّك، وإخلاء الذات.
هل يعني أننا مدعوون إلى التشبّه بالله في زهده؟!.. كيف يمكن للإنسان أن يختبر الزهد تشبّهاً بالله؟!.. كيف يمكن أن يكون لا شيء له، لأنه كل شيء؟.. أن يكون “فقيراً وهو يغني كثيرين” (2كور6/10)؟ !.. الله لا يغتني إلا بالإنسان.. والإنسان بدوره، لا يغتني إلا بالله. من هنا ضرورة تلازم الزُهدَين وإلا صار خلق الإنسان كارثة، وزهد الإنسان مرضاً.
“له أن ينمو.. ولي أن أنقص”..
لقد اكتشف يوحنا، وهو لم يخرج بعد من بطن أمّه، زهد الله لمّا تجسّد كلمته في أحشاء مريم العذراء فاهتزّ طرباً.. واكتشف أيضاً، في صداقته مع يسوع، زهد يسوع، فعرف كيف يموت لكي يحيا الرب العروس (يو3/28-30).
وبذلك يصبح مدرسة إيمان يُعدُّ الطريق للذي “أخلى ذاته آخذاً صورة عبدٍ صائراً في شبه البشر” (فيل2/7)، ومنح حركة “إخلاء الذات” (kenosis)نهجاً أساسياً في نموِّ شهادة الإيمان. لقد أحبَّ يسوعُ الشابَ الغني لمعرفته الجيّدة ما ينبغي، ولكنَّ الشاب مضى حزيناً، لأنَّه لم يتشجّع ويعزف نغمةً أساسيّة في شهادة الإيمان، هي “التخلي” أو “الزهد” (مر10/17-27). بينما نجد زكا يتخلى ببساطة كاملة، علامة شهادةٍ للإيمان الذي انتعش في قلبه.
“توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات”..
كان يوحنا لطيفاً وعنيفاً في آن. تمنّع باحترام وودّ عندما اقترب يسوع منه ليعتمد، وصرخ بأن لا يحق لهيرودس الزواج من زوجة أخيه الحيّ، فسجن واستشهد في سبيل إعلانه كلمة الحق.
الوداعة في المسيحيّة لا تنفي الشجاعة!.. علينا ألا نضحي بالحق تحت شعار المحبة، وبالمثل علينا ألا نفقد المحبة في سبيل الشهادة للحق!.. فيوحنا الذي يعبّر عن “حنان الله”، كما ذكرنا، يدعو إلى التوبة بصوته الصارخ: “في تلك الايام أقبل يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية، ويقول توبوا فقد اقترب ملكوت السموات.. صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة. (مت1:3-4).
يوحنا.. إشارة مرور!..
يحدِّقُ يوحنا إلى يسوع ويهتف: “هذا هو حمل الله” (يو1/ 29). وبهذه الشهادة يتحوَّلُ تلميذاه عنه إلى النور الحقيقي. ماذا تريدان؟.. يسألهما يسوع ليُهيئهما لفعل شهادة الإيمان!
ربما لو طُرِح هذا السؤال على الكثير من المسيحيين لتلعثمت الإجابة في أفواههم!.. يجيب التلميذان: “أين تقيم؟..” إنَّه سؤال معرفي. ربما لدينا، مثلهما، الكثير من نوع هذا السؤال: أين تقيم؟.. مَن أنت؟.. ماذا تعمل؟.. ما هي تعاليمك؟.. كيف تعيش؟ ماذا تطلب منّا؟… يختصر يسوع الأسئلة، ويدعو إلى “الإقامة” عنده. إنَّ يوحنا الذي “حدَّق” إلى يسوع قد شهد له، فمهّد الطريق لتلميذيه “ليقيما” عنده. ولشدة عمق خبرتهما سوف يظل يوحنا أحد هذين التلميذين يتذكّر ساعة اللقاء (أنظر: يو1/39ب)، فالاختبارات العميقة لا تنسى. الإيمان الحق هو العبور من الرغبة في الاستزادة في معرفة من هو الله، إلى التمرّس الحقيقي في اللقاء إليه.
فالقديس في المسيحية ليس الفقيه والعارف لحقائق الإيمان، القديس هو مَن يختبر العيش مع من يعرف، وله يشهد. لذلك نشاهد أندراوس، في النص نفسه، يشهد لأخيه، وفيلبس لصديقه نثنائيل.
يوحنا.. الشاهد لظهور الثالوث
إن يوحنا المعمدان يعمِّد معدّاً الطريق ليسوع. ومعموديته هي دعوة للتوبة ومغفرة الخطايا. وإشارة لاقتراب حلول الملكوت. إنها زمن مؤقت، بشارة باقتراب إطلالة الزمن الأبد، حيث يأتي المسيح ليعمِّد بالروح القدس والنار (مت3/11).
إنها ذروة العهد القديم، والصلة بالعهد الجديد. لذلك يدعو يوحنا تلاميذه إلى إتباع يسوع (يو1/36، 3/30). إنها بداية شمولية الإنجيل. معمودية يوحنا دعوة للجميع ليعاين كل إنسان خلاص الله (لو3/6، اش40/5). إن يسوع نفسه قد اعتمد على يد يوحنا. فالأناجيل تذكر وتركِّز على حدث اعتماد يسوع من يوحنا، نظراً لأهميته.
فهذا الحدث يغير دور يوحنا من مُعدٍّ معمِّد لطريق الرب إلى شاهد لظهور الرب: الآب والابن والروح القدس. وهنا الانعطاف الكبير في تاريخ الخلاص، الذي يعلن اكتمال البر (مت3/15). الذي هو الأمانة الكاملة والجذرية لقصد الله ومشيئته. ويسوع باعتماده يظهر الاتضاع طريقاً لتحقيق وكشف سر الله، فيناقض انتظار اليهود لمسيح زمني مسيطر.
فرغم أن يسوع هو من ذات جوهر الله، لم يعد مساواته له غنيمة، بل أخلى ذاته (فيل2/6-7)، لينحني أمام يوحنا، مع الشعب المنتظر، ويعتمد منه. كما سينحني لاحقاً على أرجل تلاميذه، ليغسلهم من كل مجد مزيف، ليكون حقاً حمل الله الرافع خطيئة العالم، بموته وقيامته.
إن معمودية المسيح من يوحنا هي “ظهور إلهي” (Epiphanie)، فالله، الآب والابن والروح القدس، يظهر للإنسان بظهور المسيح. لذلك نجد يوحنا المعمدان يهتف في إحدى الصلوات الطقسيّة نحو المسيح فيقول: “كيف أقبلت نحو العبد أيها الرب الذي لا دنس فيه؟ فباسم مَنْ أعمدك؟ أباسم الآب؟ لكنك تحمله في ذاتك. أم باسم الابن؟ لكنك أنت هو بالجسد. أم باسم الروح القدس؟ لكنك عرفت أن تمنحه للمؤمنين بفمك “.
الثالوث، وهو حقيقة الله، يُبادر نحو الإنسان ليدعوه إلى المشاركة في حياته على غرار “الإبن”، وقد بلغ به الحب، كما يقول الآباء، قمته في إخلاء الذات Kénose بظهوره إنساناً، واعتماده من يوحنا.
ولابدَّ لنا من الإشارة هنا إلى التوازي التي تشاهده الليتورجيا بمختلف طقوسها، كذلك الأناجيل، في فهم معمودية يسوع، بينها وبين اعتماد المؤمنين باسم الثالوث، الآب والابن والروح القدس. وكأن معمودية يسوع هي ظهور لله الذي يدخل تاريخ الإنسان كإنسان، ومعموديتنا التي ندخل فيها عهد الله، على غرار المسيح، كأبناء لله. فالليتورجيا الأرمنية مثلاً، تفهم سرَّ التجسد بأنه “تحوّل الظهور الإلهي Théophanie إلى ظهورٍ إنساني Anthropophanie”.
فعيد الظهور، في وجهيه الميلاد والاعتماد، هو بمثابة “تأشيرة دخول” (Visa) لله في تاريخ البشر كإنسان مثلهم، ورتبة المعمودية المسيحية هي أيضاً بدورها “تأشيرة دخول” لنا في عائلة الثالوث. تعبِّر أيقونات عيد اعتماد يسوع عن ذلك بظهور رموز الثالوث فيها: سحابة من السماء، أو يدٌ تظهر من السحابة ترمز إلى الآب، وشكل حمامة يرمز إلى الروح القدس.
خاتمة
نكتشف من خلال تأملنا شخصيّة يوحنا المعمدان ثورة جديدة في مفهوم النبوءة والأنبياء، وبالتالي في شهادة الإيمان.. فهل نقتبس منه هذه النبويّة في الشهادة للحق؟..
Discussion about this post