عظـــات القديــس أغسطينوس
على فصول منتخبة من العهد الجديد
الجزء الثاني
مترجمة عن The writings of The Nicene&Post-Nicene Fathers First Series- Vol. 6
(1961)
1- إنجيل متى من العظة 1 إلى العظة 44
2- إنجيل مرقس من العظة 45 إلى العظة 47
3- إنجيل لوقا من العظة 48 إلى العظة 66
4- إنجيل يوحنا من العظة 67 إلى العظة 97
+ + +
العظة السادسة عشر
يوحنا المعمدان
عن كلمات الإنجيل مت11: 2 “وأما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل إثنين من تلاميذه وقال له أنت هو الآتي أم ننتظرآخر الخ….”
1-أعظم مواليد النساء:
1- لقد وضع فصل الكتاب المقدس أمامنا سؤالا يخص يوحنا المعمدان. ليت الرب يساعدني لأشرحه لكم كما سبق أن شرحه هو لنا. لقد مُدح يوحنا بشهادة المسيح كما سمعتم – في تعبيرات مدح كهذه أنه لم يقم من بين مواليد النساء أعظم منه. ولكن الأعظم منه قد ولد من العذراء. كم هي عظمته؟ لندع البشير نفسه يخبرنا عن الفارق العظيم بينه وبين الديان الذي أرسله. فقد سبق يوحنا المسيح في ميلاده وبشارته و لكن بالطاعة سبقه وليس لتفضيله نفسه عن المسيح. هكذا جاء جميع الخدام قبل الديان ولكن الذي ساروا قبله هم في الحقيقة بعده. أنه شهادة مشهورة شهد بها يوحنا للمسيح؟ كما في قوله” الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه.(1) وما هي الشهادة الأعظم من هذه؟
2- إتضاع:
يقول “ومن ملئه نحن جميعنا أخذنا”. لقد اعترف أنه ليس إلا مصباحا يضئ بنور المسيح، فهو يحتمي عند قدميه لئلا يطمح في العلو والعلاء فينطفئ بريح الكبرياء. هكذا كان يوحنا عظيما حتى ظُن أنه المسيح ولولا إعلانه بنفسه أنه ليس هو المسيح لاستمر هذا الخطأ وحُسب أنه المسيح. ياله من إتضاع عجيب. قدم الناس إليه المجد، أما هو فرفض. أخطأ الناس في عظمته، أما هو فوضع نفسه ولم يرغب في العلو بكلام الناس، ناظرا أنه يدرك كلمة اللُه.
3- ثابتا في تعاليمه:
2- هذا ما قاله يوحنا عن المسيح، وماذا قال المسيح عن يوحنا؟ لقد سمعنا ذلك الآن “إبتدء يسوع يقول للجموع عن يوحنا ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا اقصبة تحركها الريح.”(2) بالتأكيد لا لأن يوحنا لم يكن “محمولا بكل ريح تعليم(3)“
4- ناسكاً:
لكن ماذا خرجتم لتنظروا إنسانا لابسا ثيابا ناعمة هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة في بيوت الملوك. لا فيوجد كان لابسا ملبسا خشنا. وكان ردائه من شعر الإبل لا من الملابس الناعمة. ولكن ماذا خرجتم لتنظروا أنبياء.
5- أفضليته عن الأنبياء:
نعم أقول لكم وأفضل من نبي. “لما هو أفضل من نبي؟ لقد تنبأ الأنبياء بمجيء الرب واشتهوا رؤيته دون أن يروه، وأما هو فقد أعطى له ما بحثوا عنه. رأى يوحنا الرب، رآه وأشار إليه بأصبعه قائلا هوذا حمل اللُه الذي يرفع خطية العالم. (4) هوذا. أنه هاهنا. لقد جاء المسيح ولم يعرفه حدث خطأ كما حدث بالنسبة ليوحنا نفسه. هوذا الذي اشتهى الآباء رؤيته والذي تنبأ الأنبياء عنه، والذي تنبأ الناموس عنه بالرموز. “هوذا حمل اللُه الذي يرفع خطية العالم. “قدم يوحنا شهادة صادقة للرب. كذلك قدم له الرب أيضا، فقد قال الرب” لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه(5) الأصغر من ناحية الزمان ولكن الأعظم من ناحية الكرامة.
هذا ما قاله الرب. فيوحنا المعمدان عظيم جدا بين البشر الذين ليس فيهم أعظم إلا المسيح. يمكن أن نشرح هذا أيضا بمعنى غير الذي شرحته، “لم يقم بين مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم من يوحنا “يقصد بملكوت السموات في “الأصغر في ملكوت السموات أعظم” أنه حيث يكون الملائكة. أذن الأصغر في الملائكة أعظم من يوحنا. بهذا يعرض أمامنا عظمة الملكوت الذي ينبغي أن نشتاق إليه، ويضع أمامنا مدينة ينبغي أن نشتهي أن نكون من سكانها. من أي نوع هم هؤلاء السكان؟ كم هم عظماء؟ الأصغر فيهم أعظم من يوحنا. أعظم من أي يوحنا هذا؟ من الذي “لم يقم بين مواليد النساء أعظم منه”.
هل شك في شخص المسيح:
3- هكذا قد سمعنا الشهادة الحقيقية الصالحة من كل من يوحنا عن المسيح ومن المسيح عن يوحنا. إذن ماذا يعني إرسال يوحنا تلميذيه للمسيح عندما كان في السجن على وشك أن يوضع للموت وقال لهما “اذهبا وقولا له “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر”(6)؟ هل هذا هو كل مدحه؟ هل تحول ذلك المدح إلى شك؟
ماذا تقول يا يوحنا؟ لمن تتحدث؟ لمن تقول؟ انك تحدث الديان الذي أنت مخبر عنه. لقد بسطت أصبعك وأشرت إليه قائلا” هوذا حمل اللُه الذي يرفع خطية العالم لقد قلت “ومن ملئة نحن جميعا أخذنا “لقد قلت” الذي لست مستحق أن أحل سيور حذائه فهل تقول الآن “أنت هو الآتي أم ننتظر أخر”؟ أليس هو المسيح نفسه؟ من أنت؟ ألست السابق له؟ ألست الذي عنك قد تنبئ “ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك”(7) فكيف تهيئ الطريق وأنت ضال عنه؟ لذلك جاء تلميذي يوحنا فقال الرب لهما
“اذهبا وأخبرا يوحنا.. العمي يبصرون والصم يسمعون والعرج يمشون والبرص يطهرون والمساكين يبشرون وطوبى لمن لا يعثر في”(8) لا تظن أن يوحنا عثر في المسيح ومع هذا فقد كانت كلماته “أنت هو الآتي أم ننتظر أخر”؟ إسأل أعمالي “العمي يبصرون والصم يسمعون والعرج يمشون والبرص يطهرون والموتى يقومون والمساكين يبشرون” ومع هذا هل تسأل عما إذا كنت أنا هو؟ إنه يقول أن أعمالي هي كلماتي وحتى لا يقول أحد أن يوحنا كان صالحا ولكن روح اللُه فارقة لذلك تكلم بهذه الكلمات بعد ذهابهما” إذهبا وإخبرا يوحنا.. وبينما ذهبا “مدح المسيح يوحنا بعد ذهاب التلميذين الذين أرسلهما يوحنا.
4- إذن ماذا يعني هذا السؤال الغامض؟ ليته تشرق تلك الشمس (المسيح) علينا تلك التي اقتبس ذلك المصباح نوره منها. بهذا يتضح حل هذا السؤال تماما. لقد خصص يوحنا تلاميذا له لا ليفصلهم عن المسيح بل ليعدهم ليكونوا شهودا له.
لأن هذا يليق بشخص عليه أن يشهد للمسيح وقد جمع لنفسه تلاميذا، الذي يشتهيه ولكن لا يستطيع رؤيته. كان تلاميذ يوحنا يقدرون سيدهم تقديرا عظيما وقد سمعوا من يوحنا شهادة عن المسيح وتعجبوا، وإذ قرب موته رغب في تثبيتهم بواسطة المسيح لأنهم بلا شك كانوا يقولون فيما بينهم “أشياء عظيمة كهذه يقولها عن المسيح ولا يقولها عن نفسه.
إذهبا وإسألاه “ليس لأنني أشك بل لأجل تعليمكم “اذهبا إسألاه اسمعا منه ما أخبركم به لقد سمعتم الرسول (المخبر) فلتثبتوا بواسطة الديان. “اذهبا أسألاه أنت هو الآتي أم ننتظر أخر”؟ لذلك ذهبا وسألاه لا لأجل يوحنا بل لأنفسهما. من أجل نفسيهما قال المسيح “العمي يبصرون والعرج يمشون والصم يسمعون والبرص يطهرون والموتى يقومون والمساكين يبشرون” لقد رأيتماني فلتعرفاني لقد رأيتما الأعمال فلتعرفا صانعها “وطوبى لمن لا يعثر في” هذا أقوله عنكم لا عن يوحنا لذلك ينبغي أن نعرف أنه لم يكن يتكلم بهذا عن يوحنا فعندما رحلا ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا أن الحق، الحق نفسه يعلن مدحه الحقيقي.
5- أظن أنه قد وضح هذا السؤال بما فيه الكفاية، أن هذا يكفي ولا حاجة للإطالة في الشرح. لتتذكروا الفقراء الآن. إعطوا يا من لم تعطوا بعد إلى الآن. صدقوني أنكم لن تخسروا (ما تعطونه). حقا أنه يبدر أنكم تخسرون فقط ما لا تحملونه إلى الميدان”(9)
ينبغي علينا أن نعطي الفقراء تقدماتكم بتقديمكم شيئا، فالمبلغ الذي معنا أقل من التقدمات المعتادة تخلصوا من هذا الإسترخاء. لقد صرت شحاذا للشحاذين. ماذا يكون هذا بالنسبة لي؟ أريد أن أكون شحاذا للشحاذين حتى تحسبون في عداد الأبناء.
—————————-
(1) يو 1: 27
(2) مت 11: 7
(3) افسس 4: 14
(4) لو 1: 29
(5) مت 11: 11
(6) مت 11: 7
(7)مت 11: 10
(8) مت 11: 4-6
(9)-The Circus (Quadrigan)
العظة السابعة عشر
الاعتراف
عن كلمات الإنجيل مت 11: 25 “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء الخ…
————
1- عندما قرأ إلانجيل معنا أن الرب يسوع تهلل بالروح قائلا “أعترف“(1) لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” ان هذا كثير علينا أن نبدأ به، فإنه إذا ما تبصرنا في كلمات الرب باهتمام واجب وبهمة (نشاط) وفوق الكل بتقوى فإننا نجد أنه ينبغي قبل التعمق في الموضوع- أن لا نفهم كلمة “الاعتراف” عند قراءتها في الكتاب المقدس أنها الاعتراف الذي يخص الخاطئ. لأنه ما أن نطق القارئ بهذه الكلمة أي عند سماعها، أقصد سماع قول الرب “أعترف لك أيها الآب” حتى تبعها قرعات على صدوركم. فعند النطق بهذه الكلمات “أنا اعترف” تضربون على صدوركم. ماذا تعني هذه الضربات على الصدور إلا إظهار ما قد خبأ فيها، وانتهار الخطايا الخفية بضربات منظورة؟ ولماذا تصنعون هذا إلا لسماعكم اعترف لك أيها الآب “لقد سمعتم الكلمات “أنا اعترف” دون أن تتبصروا في من هو الذي يعترف. تبصروا الآن إن كان المسيح البعيد عن كل الخطايا يقول “اعترف” فإن الاعتراف “لا يخص الخطاة فحسب بل يخص أحيانا الذين يسبحون الله أيضا. لذلك فاننا نعترف سواء في تسبيحنا لله أو في استذناب أنفسنا. وكلا الأمرين هو اعتراف حسن، سواء في لومكم لأنفسكم يا من لستم بلا خطية أو في تسبيحكم لله الذي بلا خطية.
الاعتراف بالخطية دليل الحياة:
2- لكن إذا تأملنا جيدا فإننا نجد أن خزيك هو مجد لله. لأنه لماذا تعترف الآن متهما نفسك بالخطية إلا لأنك قد حبيت من الموت؟ لأن الكتاب المقدس يقول “الإعتراف يعدم من الميت إذ يعود كلا شيء”(2) فإذا كان الاعتراف يعدم من الميت، فلابد وأن يكون المعترف حيا.
و إذا اعترف بخطيته فبلاشك يكون قد قام ثانيا من الموت والآن إذا كان الذي يعترف بالخطية قد قام من الموت فمن هو الذي اقامه؟ لا يمكن لإنسان ميت أن يقيم نفسه. المسيح وحده الذي كان حيا في نفسه هو الذي كان قادرا على إقامة نفسه الذي رغم موت جسده فانه لم يكن هو ميتا، لأنه أقام ما كان ميتا. لقد أقام نفسه الذي هو حي في نفسهHimself (3) ولكنه كان ميتا في جسده المقام. لأنه ليس الآب وحده أقام الابن الذي قال عنه الرسول “لذلك رفعه الله أيضا”(4) بل أقام الرب نفسه أيضا أي جسده لذلك قال السيد “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه”(5) أما الخاطئ فميت خاصة الذي تضغط عليه ثقل العادات الخاطئة، المدفون كما لو كان مثل لعازر. لأنه لم يكن لعازر ميتا فقط بل مدفونا أيضا”(6) أن كل من ثقل بأثقال العادات الشريرة والحياة الشريرة والشهوات الأرضية، أقصد بالحقيقة ذلك الذي حالته كحال الذي وصفه المزمور برثاء “قال الجاهل في قلبه ليس إله”(7) فانه يكون انسان كهذا الذي قبل عنه “الإعتراف يعدم من الميت.
إذ يعود كلا شيء”(8) من يستطيع أن يقيمه إلا ذاك الذي عندما رفع الحجر صرخ قائلا لعازر هلما خارجا”(9) ماذا يقصد بـ “هلما خارجا” إلا إخراج ما هو ميت؟ إن المعترف “يخرج خارجا “هلم خارجا”. إنه لم يكن ذلك ممكنا مالم يكن حيا، ولا يمكن أن يكون حيا مالم يكن قد أقيم ثانيا. لذلك فإنه في الاعتراف إذ يتهم الإنسان ذاته بتمجد الله.
عمل الله وعمل الكاهن:
3- قد يقول قائل ما فائدة الكنيسة الكهنوت إن كان الذي يعترف ينهض في الحال قائما إلى الحياة ثانيا بصوت الرب؟ ماذا ينتفع المعترف من الكنيسة التي قال عنها الرب “ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء”(10) تأمل الأمر ذاته في حالة لعازر، فإنه خرج خارجا ولكن بأربطته. انه كان حيا بالاعتراف ولكن لم يكن قادرا على السير بل يسقط (يختبل) بسبب أربطته. ماذا تفعل الكنيسة التي قيل لها “كل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء” إلا ما قاله الرب لتلاميذه “حلوه ودعوه يذهب”.
الاعتراف يمجد الله:
4- إننا نمجد الله سواء باتهمنا لذواتنا أو مدحنا له مباشرة فإن كنا نتهم أنفسنا بقصد ورع فاننا بذلك نمجد الله. عندما نمدح الله مباشرة فإننا نفعل هذا مبجلين قداسته الذي بلا خطية وأما عندما نتهم ذواتنا فإننا نمجده بالذي أقامنا مرة أخرى. فإن فعلت هذا (أي اتهمت ذاتك) لا يجد العدو فرصة يحتال بها عليك أمام القاضي. إن كنت تتهم ذاتك، والرب هو مخلصك ماذا يكون العدو سوى مجرد محتال؟
بهذا يستطيع المسيحي لسبب حين أن يحمي نفسه ضد أعدائه لا المنظورين الذين هم من لحم ودم (هؤلاء الذين نشفق عليهم أكثر من أن نخاف منهم) بل الذين ينصحنا الرسول أن نتدرع ضدهم “فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم”(11) أي ليست مع البشر الذين نراهم يغضبون علينا. انهم ليسوا إلا أوان يستخدمها غيرهم، ليسوا إلا أدوات في أيدي الأخرين. فيقول الكتاب المقدس ” ألقي الشيطان في قلب يهوذا الاسخريوطي أن يسلمه”(12) قد يقول قائل وماذا أنا بفاعل؟ اسمع الرسول يقول “لا تعطوا إبليسا مكانا”(13) بإرادتك الشريرة تعطه مكانا فيدخل ويمتلك ويستخدمك انه لا يمتلك ان لم تعطه مكانا.
5- لذلك يحذرنا قائلا “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين”(14) قد يظن أحد أنه يقصد بذلك ملوك الأرض وسلاطين هذا العالم” كيف هذا؟ أليسوا هم من لحم ودم؟ وقد قيل عن الكل (كل الأعداء) ليست مع لحم ودم “غض نظرك عن كل البشر فأي أعداء بعد يبقون؟ مع الرؤساء مع السلاطين مع أجناد الشر مع ولاة العالم “وحتى يزيل اللبس، وضح ما هو هذا العالم الذين هم ولاته “ولاه العالم عالم الظلمة “ما هو عالم الظلمة” هذا؟ العالم مملوء بالذين يحبونه وبغير المؤمنين هؤلاء الذين عليهم هم (أي الشيطان وجنوده) ولاه.
هذا ما يدعوه الرسول ظلمة “فالشيطان وجنوده هم ولاة هذه الظلمة إنها ليست بالظلمة الطبيعية، غير المتغيرة، بل تتغير وتصير نورا. إنها تؤمن ومتى أمنت تضئ وعندما يحدث لها هذا تسمع هذه الكلمات “لأنكم كنتم قبلا ظلمه وأما الآن فنور في الرب”(15) لأنكم إذ كنتم ظلمة لم تكونوا في الرب وبالتالي عندما استضائم فإنكم لا تضيئون من ذواتكم بل بالرب” وأي شيء لك لم تأخذه”؟(16) فبكونهم أعداء غير منظورين ينبغي أن يقاوموا بطرق غير منظورة. حقا يمكن أن تتغلب على العدو المنظور بالضربات، أما غير المنظور فانك تقهره بالإيمان. الإنسان عدو منظور والضرب منظور أيضا. الشيطان عدو خفي وكونك تؤمن فهو غير منظور أيضا. إذن توجد حرب غير منظورة ضد الأعداء الخفيين.
6- كيف يمكن لإنسان أن يقول أنه في مأمن من هؤلاء الأعداء؟ لقد بدأت أن أتكلم عن هذا ولكن أظن أنه ينبغي أن أعالج موضوع هؤلاء الأعداء في شيء من الإيجاز. الآن قد عرفنا الأعداء دعنا نبحث عن طريقة دفاعنا ضدهم “أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي (مز 18: 3). لقد رأيت ما ينبغي أن تفعله أدعو بحمد أي أن تدعو الرب بحمد “لأنك لا تكون في مأمن من أعدائك إن مدحت ذاتك “أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي “لأنه ماذا يقول الرب ذاته” ذابح الحمد يمجدني والمقوم طريقه أريه خلاص الله” (مز 50: 23) أين هو الطريق.
في ذبيحة الحمد. لا تدع أرجلك تحيد عن هذا الطريق. كن فيه و لا تبتعد عنه، لا تبتعد عن مدح الرب خطوة ولا قيد أنملة، لأنك إن حدت عن الطريق ومدحت ذاتك بدلا من أن تمدح الرب فانك لا تنجو من أعدائك، فقد قيل عنهم “مّدوا شبكة بجانب الطريق” (مز140: 5) لهذا إن ظننت أن لك صلاح في ذاتك ولو إلى أدنى درجة فإنك تكون قد حدت عن طريق مدح الله. عندما تضلل ذاتك لماذا تتعجب إن ضللك عدوك؟ استمع إلى الرسول “لأنه إن ظن أحد أنه شيء وهو ليس شيئا فانه يغش نفسه” (غل 6: 3).
7- انتبه إلى اعتراف الرب “اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض” اعترف لك أي أحمدك. إنني أحمدك ولست أتهم ذاتي. والآن لو أخذنا في الاعتبار الشخص ذاته فان كله نعمة، نعمة فريدة كاملة أي استحقاق لهذا الشخص الذي هو المسيح لو اخذت منه النعمة(21) ولو كانت هذه النعمة عظيمة الشأن التي بها يليق أن يكون مسيحا و احدا وبها يكون هذا نعرفه أنه هو (المسيح)؟ لتنزع هذه النعمة فماذا يكون بعد في المسيح إلا مجرد إنسان؟ وماذا يكون سوى مثلك؟ لقد أخذ روحا وجسدا، أخذ إنسانا كاملا، لقد وحده فيه(22) لقد صار الرب في خادمة شخصا واحدا. (23) أي نعمة جزيلة الشأن هذه ؟ المسيح في السماء المسيح في الأرض، المسيح نفسه في السماء وعلى الأرض.
المسيح مع الآب، المسيح في بطن العذراء، المسيح على الصليب، المسيح يعتق بعض الأرواح التي في الجحيم وفي ذات اليوم هو في الفردوس مع اللص المعترف. وكيف وصل هذا اللص إلى هذه البركة إلا لأنه سلك هذا الطريق الذي فيه أعلن المسيح خلاصه؟
ذاك الطريق الذي ينبغي أن لا تحيد أرجلك عنه. ففيه أوان نفسه وامتدح الله، وجعل حياته مباركة. أنه نظر في رجاء لهذه (الحياة) من الرب قائلا له “اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك”(24) لقد تأمل أعماله الشريرة فحسبها كثيرة، فهل تشمله رحمة الله ولو في النهاية. في الحال بعد قوله “اذكرني” متى؟ “إذا جئت في ملكوتك” قال له الرب “الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس ” الرحمة قدمت للحال في الشقاء من أجّل.
الحكمة الباطلة:
8- استمع إلى اعتراف الرب “أعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض بماذا أعترف؟ هل أمدحك في اعترافي؟ لأن هذا الاعتراف كما سبق أن قلت يعني الحمد “لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” ما هذا يا أخوتي؟ لتفهموا (ما يقصد بالحكماء والفهماء) مما جاء بعكسهم قال “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء” ، ولم يقل أنه أعلنها للأغبياء والجهلاء بل بالحقيقة “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال “أخفاها عن هؤلاء الحكماء الذين هم بالحقيقة مثار سخرية ومتكبرين، الذين يتظاهرون باطلا أنهم عظماء ولكنهم بالحق ليسوا إلا متكبرين. انه لم يذكر عكسهم الأغبياء والجهلاء بل الأطفال. من هم الأطفال؟ أنهم المتضعون. لهذا “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء “فبقوله “أعلنتها للأطفال” أوضح أنه يقصد الكبرياء تحت اسم الحكمة والفهم.
لذلك أخفيتها عن من هم ليسوا بأطفال. ما هو المخفي عن من هم ليسوا بأطفال أي عن غير المتضعين، الذين هم ليسوا سوى المتكبرون؟ أنه طريق الرب. إما أنه لا يكون احدا منهم هناك او يظل الطريق مخبأ لكي ما يعلن لنا. لماذا تهلل الرب؟ لأنه أعلن ذلك للأطفال.
ينبغي أن نكون أطفالا صغار، لأنه ان أردنا أن نكون عظماء “حكماء وفهماء كما قيل فعندئذ لا يعلن لنا. من هم هؤلاء العظماء؟ إنهم “الحكماء والفهماء” وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء”(25) هنا تجد علاجا تعرفه من الضد. فإذ تزعم أنك حكيم تصير جاهلا، فلتعترف في نفسك أنك جاهل فتصير حكيما. ولكن لتشهد بذلك بالحق اعترف بهذا في القلب لأن هذه هي الحقيقة كما تشهد. فان شهدت بذلك لا تشهد به أمام الناس دون أن تعترف به أمام الله بالنسبة لذاتك وكل ما يخصك أنت بكليتك مظلما.
لأنه أي غباء أكثر من أن يكون قلبك مظلما؟ أنه يقول عنهم في النهاية “وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” ماذا نجد قبل زعمهم هذا؟ وأظلم قلبهم الغبي”(26) إذن لتعرف أنك لست نورا لنفسك بل الأصح أنك عين لا نور ما فائدة العين حتى المفتوحة والسليمة بدون وجود نور؟ لتعرف إذن أنك لست نورا لذاتك ولتصرخ كما هو مكتوب “لأنك أنت تضيء سراجي. الرب إلهي ينير ظلمتي. (27) لأني أنا نفسي كنت بكليتي ظلمة ولكن أنت هو النور الذي يبدد الظلمة وينير في. أنا لست نورا لنفسي، ليس لي نصيب من النور إلا بك.
9- هكذا ظنوا يوحنا صديق العريس أنه المسيح، ظنوا أنه النور “لم يكن هو النور بل ليشهد للنور.” (28)ولكن ماذا كان النور؟ لقد كان النور الحقيقي. ما هو هذا النور الحقيقي؟ هو “الذي ينير لكل إنسان “إن كان هو النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان فلابد وأن يكون قد اضاء يوحنا أيضا، الذي شهد واعترف بحق “من ملئه نحن أخذنا”(29) انظرا أنه قال ما ينبغي قوله وهو ليس إلا “لأنك أنت تضيء سراجي”.
أخيرا فبكونه مضيء قد شهادته لأجل الأعمى قدم السراج شهادة إلى اليوم(30) انظر كيف إنه سراج. قال يسوع أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق…. وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة”(31) لقد كان السراج الموقد المنير. أنه السراج أي أنه الشيء المضيء استضاء لكي ما يضيء الذي يمكن أن يضاء يمكن أيضا أن يطفئ، لذلك لا يعرض نفسه لرياح الكبرياء حتى لا ينطفئ. لهذا “أعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء.
“أخفيتها عن هؤلاء الذين ظنوا أنفسهم أنهم نور وكانوا ظلمة. فإذا هم ظلمة وظنوا أنفسهم نورا لم يستطيعوا حتى أن يستضيئوا. وأما الذين هم ظلمة واعترفوا بانهم ظلمة فقد كانوا أطفالا صغارا وليسوا بعظماء، كانوا متضعين وليسوا بمتكبرين. كذلك لهم بالحق ان يقولوا “أنت تضيء سراجي” إنهم يعرفون أنفسهم ويمدحون الله. إنهم لم يضلوا عن طريق الخلاص. ادعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي. (31)
10- لنرجع إذن إلى الرب إلهنا، الآب القدير في نقاوة قلب. لنعد إليه بقدر ضعفنا، بحمد فياض، مصلين إلى صلاحه الفريد بكل قلوبنا، حتى يهبنا أن يسمع صلواتنا في مسرته الصالحة ويطرد بقوته العدو من أعمالنا وأفكارنا، ويقوي إيماننا ويرشد عقولنا ويهبنا أفكارا روحية، ويحضرنا سالمين إلى بركته اللانهائية بابنه يسوع المسيح. أمين
——————–
(1) جاء النص confess مطابقا للطبعة الكاثوليكية
(2) حكمة يشوع 17: 26
(3) ملاحظة ان كلمة “نفسه” التي وردت في هذا الجزء من العظة لا يقصد بها Himself بل His soul ذاته.
(4) فى2: 9.
(5) يو 2: 19.
(6) يو 11: 17.
(7) مز14: 1.
(8) حكمة يشوع17: 26.
(9) يو11: 43.
(10) مت16: 19، 18: 18.
(11) افس6: 12
(12) يو13: 2
(13) افس4: 27
(14) افس6: 12
(15) افس5: 8
(16)اكو4: 7
(21) هنا يفترض جدلا انه لو انفصل اللاهوت عن الناسوت (وان كان اللاهوت لا ينفصل عن الناسوت لحظة واحدة ولا طرفة عين) وتجريده من النعمة وبذا لا يكون المسيح (وهذا مستحيل ولكنه يفترض حدوثه)
(22) اي اتحد الناسوت باللاهوت
(23) اي اتحد اللاهوت بالناسوت وليس هو باثنين بل واحد
(24) لو23: 42
(25) رو1: 22
(26) رو1: 21
(27) مز18: 28
(28) لو1: 8
(29) لو1: 16
(30) لعله يقصد باليوم “الوقت الذي فيه يعلن النور عن ذاته (المسيح).
(31) [؟؟؟؟؟؟؟]
العظة الثامنة عشر
الحكمة الباطلة
أيضا على كلمات الإنجيل مت11: 25 “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض الخ.
1) الاعتماد على الحكمة البشرية:
1- لقد سمعنا ابن اللُه يقول اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض”. بماذا يعترف له؟ بماذا يمدحه؟ “لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال”. من هم الحكماء والفهماء؟ من هم الأطفال؟ ماذا أخفى عن الحكماء والفهماء وأعلنه للأطفال. لقد قصد بالحكماء والفهماء أولئك الذين تكلم عنهم القديس بولس “أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهل اللُه حكمه هذا العالم(1). ومع هذا فلعلك لازلت تسأل من هم هؤلاء؟ ربما يكونون أولئك الذين يجدفون باطلا عن اللُه في جدالهم الكثير عنه، الذين ينتفخون بتعاليمهم الخاصة فلا يستطيعوا أن يجدوا ويعرفوا اللُه بحكمه، والذين بسبب عدم إدراك ورؤية جوهر اللُه يظنون أن الهواء والسماء هما اللُه أو أن الشمس هي اللُه وأن أي شيء له مكانا عاليا بين المخلوقات هو اللُه [؟؟؟؟] لعظمة وجلال وقوة المخلوقات يبقون فيها دون أن يجدوا اللُه.
2- هؤلاء يزجرهم سفر الحكمة حيث يقول “لأنهم إن كانوا قد بلغوا من العلم أن استطاعوا إدراك كنه الدهر فكيف لم يكونوا أسرع إدراكا لرب الدهر”(2) أنهم متهمون بتضييع وقتهم وعملهم في الجدال في أبحاث ومقاييس كما لو كان مخلوقا. أنهم يبحثون في دوران النجوم وبين الكواكب وحركات الأجسام السماوية هكذا إلى أن يصلوا بحسابات دقيقة إلى هذه الدرجة من المعرفة والتنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر، فتنبؤا هكذا بالحوادث باليوم والساعة وبالأجزاء التي ستحجب من الأجسام. ياله من مثابرة عظيمة ونشاط ذهني ضخم.
ولكنهم يبحثون عن الخالق خلال هذه الأمور، ذلك الذي ليس هو ببعيد عنهم ومع هذا فلم يجدوه. هؤلاء الذين لو استطاعوا أن يجدوه للزم أن يجدوه في داخلهم، فيحق، وبحق أكيد قد اتهموا، هؤلاء الذين استطاعوا البحث في عدد النجوم وحركاتها المختلفة وعرفوا وتنبأوا بانحجاب الكواكب، أقول بالحق اتهموا أنهم في هذه لم يجدوه، ذاك الذي به خلقت (هذه الأشياء) ودبرت وذلك بسبب وإهمالهم في البحث عنه.
لا تقلق كثيرا إن كنت تجهل حركة النجوم وعدد الأجسام السماوية والأرضية. أنظر إلى جمال العالم النقي ومجد الخالق مدبره، تطلع إلى ما قد صنع وحب صانعها ليكن هذا هو اهتمامك العظيم. حب صانعها لأنه صنعك أيضا على صورته حيث ينبغي أن تحبه.
2)الذين عرفوا اللُه ولم يمجدوه:
3- إن كانت هذه الأشياء غريبة، تلك التي قال عنها المسيح “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء” قد أخفيتها عن حكماء كهؤلاء الذين ينشغلون كلية بالمخلوقات، راغبين في البحث بإهمال عن الخالق فلم يستطيعوا أن يجدوه، فانه يبقى ما هو اكثر عجبا أن يوجد بعض البشر “حكماء وفهماء ولهم قدرة على معرفته” لأن غضب اللُه معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم”(3). ربما تسأل أي حق يحجزونه بالإثم؟ “إذ معرفة اللُه ظاهرة فيهم لأن اللُه أظهرها لهم” كيف أن (معرفة اللُه) ظاهرة؟ أنه يردف قائلا “لأن اللُه أظهرها لهم “ألعلك لازلت تسأل كيف أظهرها للذين لم يتسلموا الشريعة؟ لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات”(4) .
أنهم كانوا هكذا، ليسوا كموسى خادم اللُه أو بعض الأنبياء الذين كان لهم إدراكا ومعرفة بهذه الأمور وقد أرشدهم روح اللُه الذي نالوه بالإيمان وشربوه بفم الصلاح وفاضوا به بفم إنسانهم الداخلي. إنهم لم يكونوا كهؤلاء بل مختلفين عنهم تماما، هؤلاء كان في قدرتهم أن يصلوا إلى معرفة الخالق بواسطة المصنوعات المنظورة وأن يقولوا عن هذه الأشياء التي صنعها اللُه “تطلعوا إلى تلك الأشياء التي صنعها اللُه ودبرها وضبطها أيضا. أن الذي جبلهم يملأ ما قد خلقه بنفسه بواسطة حلوله. هكذا كان يمكنهم أن يقولوا الكثير عن هذا أشار بولس في سفر أعمال الرسل عندما تكلم عن اللُه “لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد(5)، فلأنه كان يحدث الأثينيون الذين كان من بينهم المتعلمون أضاف للحالّ” كما قال بعض (شعرائكم) إنهم لم يقولوا كلاما تافها “لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد”.
4- اذن في أي شيء كانوا لا يشبهون الأخرين (أي موسى والأنبياء)؟ لماذا وبُخوا؟ لماذا بحق أتهموا؟ استمع إلى كلمات الرسول التي بدأت أن استشهد بها، فانه يقول “لأن غضب اللُه معلن من السماء على جميع فجور الناس” حتى هؤلاء أي الذين لم يتسلموا الشريعة” على جيمع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم” أي حق؟” إذ معرفة اللُه ظاهرة فيهم” لمن ؟ بواسطة من هذا الإظهار (الإعلان)؟” لأن اللُه أظهرها لهم” كيف؟ لأن أمور غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركه بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته “لماذا أظهرها لهم؟” حتى أنهم بلا عذر” إذن لماذا يوبخون؟ “لأنهم لما عرفوا لم يمجدوه أو يشكروه كإله.”
5- ماذا تعني هذه الكلمات “لم يمجدوه… كإله”؟ أي لم يشكروه، هل الشكر أيضا بمجد؟ نعم بالحقيقة هو كذلك. لأنه أي أمر أشر من هذا وهو أن تخلق على صورة اللُه وتأتي إلى معرفته ولا تشكره؟ فبالتأكيد تقديم الشكر يمجد اللُه. يعلم المؤمن متى وأين تقال “فلنشكر اللُه ربنا” من هو الذي يقوم الشكر لله إلا الذي يرفع قلبه للرب؟ لذلك يوبخون وهم بلا عذر” لأنهم لما عرفوا اللُه لم يمجدوه أو يشكروه كإله “ولكن ماذا فعلوا؟” بل حمقوا في أفكارهم” لماذا حمقوا إلا لأنهم كانوا متكبرين؟ يختفي الدخان هكذا متى ارتفع عاليا يشتعل اللهب بأكثر قوة واصلى وضموح فيما لو وضع منخفضا” بل حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبي” هكذا الدخان رغم ارتفاعه عاليا عن اللهب إلا أنه مظلم.
6- فلتلاحظ أخيرا ما يلي هذا ولتنظر إلى الأمر الذي يتوقف عليه الموضوع كله “فبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء”(6) فإذ ادعوا لأنفسهم بغير حث ما أعطاهم اللُه، أخذ اللُه ما قد أعطاهم. بهذا يخفي ذاته عن المتكبرين معطيا معرفة ذاته للذين يبحثون بنشاط عن الخالق خلال الخليفة. لذلك يقول الرب حسنا “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء” سواء الذين وصلوا إلى بحث كامل للخليقة عن طريق محاولاتهم المتعددة وبحثهم الدائم ولم يعرفوا شيئا عن الخالق، أو الذين عندما عرفوا اللُه لم يمجدوه أو يشكروه كإله،
اللذين لم يستطيعوا أن ينظروا نظرة سليمة بسبب كبريائهم “لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” أي أطفال؟ للمتضعفين. قل على من يستقر روحي فيهم؟ إلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي”(7) عند هذه الكلمات ارتعد بطرس وأما افلاطون فلم يرتعد. لقد اكتسب الصياد ما خسره أكبر الفلاسفة المشهورين “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال “أخفيت هذه عن المتكبرين وأعلنتها للمتضعين. أية أشياء هي هذه؟ عند قوله هذا لم يكن يقصد السماء والأرض، ولا أشار إليهما كما لو كانتا في يده أثناء حديثه. لأنه من لم يراهما؟ الصالح يراهما والشرير كذلك “فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين”(8) إذن ما هي هذه الأشياء؟ “كل شيء قد دفع إليّ من أبي”(9).
———————-
(1)1كو1: 20
(2) حك13: 9
(2) رو1: 18
(4) رو1: 20
(5)1ع 17: 28
(6) رو1: 22
(7) اش66: 2
(8) مت5: 45
(9) مت11: 27
العظة التاسعة عشر
كيف ننال الراحة؟
عن كلمات الإنجيل مت11: 28 “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”
1) بالاتضاع:
1- لقد سمعنا في الإنجيل أن الرب قد تهلل بالروح قائلا لله الآب “أعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك. كل شيء قد دفع إليّ من أبي وليس أحد يعرف الابن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له”(1) أن عملي هو أن أحدثكم وأنتم تسمعون فلنصغي جميعا إلى ذاك الذي أردف قائلا “تعالوا إلى يا جميع المتعبين”(2) فلماذا جميعنا متعبون إلا لأننا بشر فانين، خلائق ضعيفة واهية، حاملين أنية فخارية حيث تتجمع وتقوم بعضها البعض.
ولكن إن كانت هذه الأواني الجسدية قد فومت فليتسع مجال المحبة. إذن ماذا كان يقصد (المسيح) بـ “تعالوا إلي يا جميع المتعبين” غير أنكم لا تعودوا بعد تتعبون أكثر؟ أقول في كلمة أن وعده واضح تماما. فإذا يدعو المتعبين فانهم يتسألون: ماذا ينتفعون بالدعوة؟ لقد قال “وأنا أريحكم”.
2- احملوا نيري عليكم وتعلموا مني”(3) لا في صنع العالم ولا خلقه الأشياء المنظورة وغير المنظورة ولا صنع المعجزات وإقامة الموتى في العالم الذي خلقه هكذا بل “لأني وديع ومتواضع القلب أتريد أن تكون عظيما فلتبتدئ من الأخر. أتريد أن تصنع بناءا عاليا قديرا “أذن فلتفكر أولا في أساس التواضع يا لضخامة البناء الذي يرغبه الإنسان راسما أن يبني فوقه، يرتفع المبنى إلى أعلى أثناء البناء وأما الذي يحفر الأساس فعليه أولا أن ينزل إلى أسفل جدا. هكذا ترى أن البناء يكون منخفضا قبل ارتفاعه، وأما القمة فترتفع بعد الاتضاع.
3- ما هي قمة تشييد هذا البناء الذي نؤسسه؟ إلى أين ستبلغ قمة هذا البناء العالية؟ أقول للحال إلى رؤية الله . والآن ترى كم هو عظيم أن تعاين الله. إن الذي ارتفع إلى هذا يستطيع أن يفهم كل ما أقوله وما يسمعه. قد وعدنا برؤية الله، رؤية الله ذاته تتعالى لأنه حسن أن نرى الذي يرانا، فالذين يعبدون آلهة باطلة يرونها بسهولة، ولكنهم يرون التي لها أعين ولا تبصر.
وأما نحن فقد وُعدنا بمعاينة الله الحي المبصر حتى نشتاق لرؤية ذلك الإله الذي يقول عنه الكتاب المقدس: “الغارس الأذن ألا يسمع؟ الصانع العين ألا يبصر؟” (مز94: 9) ألا يسمع ذلك الذي صنع لك ما تسمع به، أما يرى ذلك الذي خلق ما ترى به؟ لذلك يقول في المزمور حسنا: “افهموا أيها البلداء في الشعب ويا جهلاء متى تعقلون” (مز 94: 8)، لأن كثيرين يرتكبون أفعالاً شريرة ظانين أن الله لا يراهم. حقيقة إنه يصعب عليهم أن يعتقدوا أنه لا يستطيع رؤيتهم، بل يظنون أنه لا يريد ذلك. قليلون هم الملحدون تمامًا الذي يتم فيهم المكتوب:
“قال الجاهل في قلبه ليس إله”. هذا جنون القليلين فقط. فإذ قليلون هم الورعين تمامًا فإنه ليس بأقل منهم أيضًا هم الملحدون تمامًا، وأما غالبية البشر فيقولون هكذا، ماذا؟ هل يفكر الله الآن فيّ، حتى يعرف ما أفعله في منزلي، وهل يهم الله ما قد أختار فعله على سريري. من يقول هذا؟ “أفهموا أيها البلداء في الشعب ويا جهلاء متى تعقلون” (مز 94: 8) فبكونك رجل فإنه من شأنك أن تعلم بكل ما يحدث في منزلك وأن تصلك أفعال وأقوال خدمك.
ألا تظن أن لله عمل كهذا أن يلاحظك، الذي لم يتعب في خلقتك؟ أفلا يثبت عينيه عليك ذاك الذي صنع عينيك؟ أنك لم تكن موجودا وقد خلقك وأعطاك الوجود. ألا يهتم بك الآن وأنت موجود، الذي “يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رو 4: 17)؟ إذن لا تعد نفسك بهذا فإنه يراك، إن أردت أو لم ترد. وليس هناك مكان تستطيع أن تختبئ فيه عن عينيه. “إن صعدت إلى السماء فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت” (مز 139: 8).
عظيمة هي أتعابك بينما لا ترغب في الانفصال عن الأعمال الشريرة، مع هذا فإنك لا ترغب في أن يراك الله . حقا يا له من تعب مضني! كل يوم ترغب في صنع الشر ومع هذا أتشك في أنك لا تُرى؟ استمع إلى الكتاب المقدس القائل: “الغارس الأذن ألا يسمع. الصانع العين ألا يبصر” (مز 94: 90). أين تستطيع أن تخفي الأعمال الشريرة عن أعين الله؟ إن لم تمت عنها فإن بالحق تعبك مضني.
4- إذن لتنصت إلى (المسيح) القائل “تعالوا إلي يا جميع المتعبين أنك لا تستطيع أن تنهي تعبك بالهروب. هل تريد أن تهرب منه (المسيح) وليس بالأحرى إليه؟ لتجده إذن حيث يمكن أن تهرب إليه وهكذا تطير. ولكن إن كنت لا تستطيع أن تهرب منه لأنه موجود في كل مكان. اهرب إلى الله (فإنه قريب جدا) الحال حينما وجدت. اهرب هوذا في طيرانك قد عبرت السماء، أنه هناك. لقد هبطت إلى الجحيم. فهو هناك.
أي صحاري الأرض ستختار فانه هناك، ذاك الذي قال “أملاء السموات والأرض”(10). إذن إن كان يملأ السماء والأرض فانه لا يوجد مكان يمكنك أن تهرب إليه منه، لتنهي تعبك هذا ولتهرب إلى حضرته، لئلا يدركك مجيئه. لتتشجع بالرجاء أنك بالحياة الصالحة ترى ذاك الذي يراك وأنت في حياتك الشريرة. ففي الحياة الشريرة تُرى ولا يمكن أن تَرى وأما الحياة الصالحة فتَرى وتُرى. بأي حنان عظيم ينظر إليك ذاك الذي يتوج المستحقين، هذا الذي بعطفه يراك وأنت غير مستحق ليدعوك؟
قال نثنائيل الرب الذي لم يكن بعد قد عرفه “من أين تعرفني”(11) قال له الرب “وأنت تحت التينة رأيتك” يراك المسيح وأنت في ظلك أفما يراك وأنت في نوره؟ لأنه ماذا تعني “وأنت تحت التينة رأيتك”؟ ماذا يعني هذا؟ أن يذكرنا بخطية آدم الأصلية التي فيها مات جميعنا. فعندما أخطأ أولا، صنع لنفسه مئزرا من أوراق التين، معلنا بهذه الأوراق تهيج الشهوة التي سقط فيها بالخطية. هكذا نحن ولدنا، ولدنا بهذه الحالة، ولدنا في جسد الخطية، الذي يكون شفاءه فقط” في شبه جسدا الخطية” لهذا أرسل (الله ) ابنه في شبه جسد الخطية”(12) لقد جاء في العذراء التي كانت قبلا عذراء.
أنه اختار هذه التي خلقها. لقد خلق تلك التي دبر اختيارها لقد جاء ثمرة العذراء دون أن ينقص نقاوتها.
أنه الذي يأتي إليك بدون تهيج أوراق شجرة التين يراك “وأنت تحت التينة” استعد إذن لتراه في علو مجده، الذي قد تطلع إليك برحمته. وإذ القمة مرتفعة فكر في الأساس أي أساس؟ ماذا تقول “تعلموا منه لأنه وديع ومتواضع القلب “لتحفر أساس الاتضاع هذا عميقا فيك، وبهذا تحصل على قمة المحبة. لنرجع إلى الرب… (13)
——————-
(1) مت11: 25-27
(2) مت11: 28come unto me all ye that labour
(3) مت11: 29
(10) ار23: 24
(11) يو1: 48
(12) رو8: 3
(13) انظر نهاية العظة السابعة عشر.
العظة العشرون
أيضا عن كلمات الإنجيل مت11: 28 “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”… الخ
2) بالجهاد:
1- أنه يبدو غريبا للبعض أيها الأخوة أن يسمعوا الرب يقول “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني. لأني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف”(1) ناظرين إلي أن الذين يحنون رقابهم بخوف لهذا النير والذين يحملون ذلك الحمل على أكتافهم باتضاع عظيم، ويتدربون على مصاعب عظيمة هكذا في الحياة، حتى يبدو أنهم لم يدعوا من التعب إلى الراحة بل من الراحة إلى تعب آخر، حيث يقول الرسول أيضا “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون”(2).
لذلك قد يقول قائل: كيف يكون النير هين والحمل خفيف عندما تحمل هذا النير وذلك الحمل الذي هو ليس إلا لكي ما تعيش بالتقوى في المسيح؟ وكيف قيل “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” ولم يقل بالأحرى “تعالوا إلي يا من أنتم في راحة وكسل فتتعبون”، لأنه هكذا وجد المرتاحين والكسالى، هؤلاء الذين استأجرهم حتى يتحملوا حرارة النهار(3)، ونسمع الرسول تحت النير الهين والحمل الخفيف يقول “بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات … الخ”(4) وفي موضع آخر من نفس الرسالة يقول “من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة ثلاث مرات ضربت بالعصى مرة رجعت ثلاث مرات انكسرت بي السفينة ليلا ونهارا قضيت في العمق”(5) وبقية المخاطر التي حقا يمكن إحصائها ولكن لا يمكن احتمالها إلا بمعونة الروح القدس.
2- لقد كان يعاني دائما وبكثرة من كل هذه التجارب الخطيرة الثقيلة التي أشرنا إليها، ولكن في نفس الوقت كان يعمل الروح القدس معه في إبطال الإنسان الخارجي وتجديد إنسانه الداخلي يوما فيوم، فبتذوقه للراحة الروحية في مباهج الرب الغزيرة تهون المتاعب الحاضرة على رجاء البركة المستقبلة وتخف كل التجارب الثقيلة. هوذا ما أحلى نير المسيح الذي حمله، وما أخف ذلك الحمل حتى قال ان هذه المتاعب الصعبة والخطيرة التي يقشعر كل من يسمعها عند تلاوتها كما سبق هي “ضيقات خفيفة” كما نظرها بأعينه الداخلية، اعني بالإيمان.
ياله من ثمن عظيم للأمور الفانية أن تشتري بها الحياة القادمة والهروب من آلام الشر الأبدية والفرح الكامل متحررا من كل المضايقات في سعادة البر الأبدية يعاني البشر التقطيع والحرق لا من أجل آلام أبدية بل مقدمين الثمن وهو الآم أكثر قسوة من أجل الآم أكثر دوما من الالآم المعتادة فالجندي يعاني أتعاب الحرب جميعها تاعبا السنوات الطويلة لأجل فترة من الراحة قصيرة غير أكيدة في نهاية حياته، تاعبا أكثر مما يتمتع به من هدوء في النهاية. إلى اية أمواج وزوابع وأي اضطراب مخيف ومريع للسماء و البحر يعرض التجار أنفسهم له من أجل طلبهم ثروات زائلة كالريح ومملؤة بمخاطر وزوابع أعظم هولا من تلك التي تحملونها للحصول عليها. كم يتحمل الصيادون من حرارة وبرودة،
ومخاطر خيول والسقوط في حفر، والأنهار والوحوش الضارية، أي الآم جوع وعطش، كم من أزمات تجعلهم يأخذون مأكلا ومشربا رخيصا رديئا، هذا كله لأجل اصطياد وحش؟ أحيانا بعد كل هذا يكون لحم (الوحش) الذي قاسى من أجله هذا كله غير صالح للطعام. رغم اصطياده خنزيرا بريا أو إيلا إلا أنه يكون أعذب عند عقل الصياد لأنه اصطاده عنه في حلق الآكل لأنه معد له للطعام.
كم يخضع الأطفال الصغار إلى تهذيبات صارمة ترسم لهم يوميا. يالالآم المبرحة التي يكابدونها في تدريبهم على السهر والتعب في المدارس، ليس من أجل تعليمهم الحكمة الحقيقية بل من أجل الغنى والمجد الباطل، فيتعلموا الحساب والآداب الأخرى وتملق الفصاحة.
3- في كل هذه الأمثلة نجد أن الذين لا يحبون هذه الأمور يشعرون (بالاتعاب) أنها في غاية القسوة أما الذين يحبونها فحقا يتحملونها هي بذاتها دون أن يبدو عليهم أنهم يشعرون بقسوتها. لأن المحبة تصنع كل شيء. حقا بالأكثر وأسهل للمحبة أن تصنع بالنسبة للبركة الحقيقية تلك التي تصنع ما تستطيع لأجل الاشتياق لأمور ليست هي إلا شقاءا؟
كم يسهل أن تحتمل الضيقات الزمنية من أجل تجنب العقاب الأبدي وإدراك الراحة الأبدية! لم يقل الإناء المختار اعتباطا بفرح زائد “فإني أحسب أن الآم الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا”(6) أنظر أذن كيف أن ذلك “النير هين وذلك الحمل خفيف” فإن كان عسير على القليلين الذين اختاروه إلا أنه سهل الذين يحبونه. يقول المرتل “على حسب كلام شفتيك لزمت طرقا وعره”(7) الأشياء الصعبة للذين دبر الصلاح الإلهي أن لا يخضع بعد ذلك “الداخل الذي يتجدد يوما فيوما”(8) للناموس بل للنعمة، ويتحرر من تلك الملاحظات الغير محصية التي هي فعلا حملا ثقيلا،
لكن تفرض بلياقة على العنق العنيد متاعب عظيمة، تلك التي يمكن للأمير المطرود الذي يفرضها من الخارج على الإنسان الخارجي أن يجعلها خفيفة بواسطة السعادة الداخلية الناتجة عن لطافة الإيمان البسيط والرجاء الصالح والمحبة المقدسة. لأنه هكذا ليس هناك أسهل لدى الإرادة الصالحة من الإرادة الصالحة ذاتها وهذا يكتفي به الله . إذن كم للعالم بالأكثر أن يغضب، بالحق تهللت الملائكة عند ميلاد الرب بالجسد قائلة “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة”(9) لأن نير (المولود) هين وحمله خفيف” وكما يقول الرسول بأن الله أمين الذي لا يدعنا نجرب فوق ما نستطيع بل يجعل مع التجربة المنفذ لنستطيع أن نحتمل”(10).
————————-
(1) مت1: 28-30
(2)2تيمو3: 12
(3) أنظر مت20: 4
(4) 2كو6: 4
(5) 2كو11: 24 الخ
(6) رو8: 18
(7) مز16: 4 طبعة الكاثوليك
(8) 2كو4: 16
(9) لو2: 14
(10) أنظر أكو1: 13
العظة الحادية و العشرون
عن كلمات الإنجيل مت12: 32 “من قال (كلمة) على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي”
أو عن التجديف على الروح القدس.
1- لقد أثير سؤال هام بخصوص الفصل الأخير من الإنجيل”(1) هذا الذي لست كوفء بذاتي بأي حال من الأحوال للإجابة عليه، ولكن “كفايتنا من اللُه”.(2) فإلى أي درجة نستطيع أن نتقبل معونته. أنظروا أولا إلى ثقل هذا السؤال، لانكم إذ ترون ثقله الموضوع على كتفي تصلون من أجل أن يعينني في عملي، وبواسطة هذه المعونة التي توهب لي تجدون بنيان لنفوسكم
1)انفصلوا عن مملكة الشيطان:
عندما أحضر إليه أعمى وأخرس فشفاه حتى أن الأعمى الأخرس تكلم وأبصر فبهت كل الجموع وقال ألعل هذا هو ابن داود. أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين. فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم: كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت. فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته: فكيف تثبت مملكته”(3) قال لهم السيد هذا القول حتى يجعلهم يدركون عن طريق اعترافهم أنهم بسبب عدم إيمانهم به قد اختاروا الإنتماء إلى مملكة الشيطان، التي إذ أنقسمت على ذاتها لا يمكن أن تثبت ليختار الفريسيون ما شأوا، فإن كان الشيطان لا يستطيع أن يخرج شيطانا فانهم لا يجدوا ما يقولونه على المسيح، وأما إن كان ذلك ممكنا فبالأولى أن ينظروا إلى أنفسهم وينفصلوا عن مملكته لأنها إذ هي منقسمة على ذاتها لا يمكن أن تثبت.
2) كيف يخرج التلاميذ الشياطين؟
2- وحتى لا يظنوا أن يسوع المسيح برئيس الشياطين يخرج الشياطين فليستمعوا إلى ما جاء بعد ذلك. لقد قال “وإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فابناؤكم بمن يخرجون. لذلك هم يكونون قضاتكم”(4). بلاشك أنه يقصد بهم تلاميذه، أبناء هذا الشعب، هؤلاء الذين هم تلاميذ يسوع المسيح. فمن المعروف تماما أنهم لم يتعلموا من سيدهم الصالح أي فن من الفنون الشيطانية به يتسلطون على الشياطين، لهذا قال لهم “لذلك هم يكونون قضاتكم. “إنهم أوفياء ومن أحقر طبقات البشر ليس لدى أحدهم أي حقد كاذب بل تظهر عليهم بساطة قوتي المقدسة. أنهم سيكونون شهودا لي، ويكونون قضاة لكم. عند ذلك أضاف قائلا “إن كنت أنا بروح اللُه أخرج الشياطين” فأولادكم الذين لم أعطهم أي تعليم مضر ومخادع بل ببساطة الإيمان فقط يستطيعوا أخراج الشياطين، فانه بلاشك سوف يقبل عليكم ملكوت اللُه حيث تهلك مملكة الشيطان وبالتالي تهلكون معها.
3- بعد ذلك قال لهم “فأبناؤكم بمن يخرجون”؟ حتى يظهر لهم أنهم (يفعلون هذا) بنعمته وليس حسب استحقاقهم، ثم قال لهم “أم كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولا وحينئذ ينهب بيته”(5) وإن كان أولادكم الذين آمنوا بي أو سوف يؤمنون يخرجون الشياطين ببساطة القداسة وليس بقوة بعلزبول فانهم بالتأكيد كانوا أو مازالوا خطاة وأشرار مثلكم فإذ هم في منزل الشيطان وأنيته هكذا كيف يستطيعون الخلاص منه، هذا الذي ربطهم بظلمة متسلطا عليهم، مالم يكن قد ربط بسلاسل عدالتي، فأخذ منه أنيته التي كانت أنية سخط وأحولها إلى آنية رحمة؟ هذا ما قاله الرسول المبارك أيضا عندما زجر المتكبرين والمنتفخين باستحقاقاتهم “لأنه من يميزك؟(6) أي من غّيرك من الهلاك الأبدي الموروث عن آدم أي من كونك أنية للسخط؟ وإذ لا يستطيع أحد يقول أنه “ببري” لذلك يقول “وأي شيء لك لم تأخذه”؟(7) في هذا يقول عن نفسه “وكنا بالطبيعة أبناء غضب كالباقين أيضا”(8) فبولس الرسول نفسه إذ كان مضطهدا للكنيسة” مجدفها ومقاوما وحاقد وحاسداً” كما اعترف بذلك فانه كان اناء في منزل ذلك القوي (أي الشيطان) القوي في الشر، ولكن (المسيح) الذي ربط ذلك القوي أخذ أنية الهلاك وجعلها آنية مختارة.
هل الكنيسة المنقسمة على ذاتها:
4- إذ ينبغي لغير المؤمنين والأشرار وأعداء المسيحية ألا يظنوا أن مملكة المسيح قد أنقسمت على نفسها بسبب وجود الهرطقات المختلفة والانشقاقات التي لأولئك الذين يجمعون الخراف الضالة تحت اسم المسيحية، لهذا أضاف قائلا “من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق”(9) انه لم يقل “الذين لهم الاعتقاد الظاهري (الخارجي) باسمي أو بصورة قداستي بل “من ليس معي فهو يفرق” كما لم يقل “الذي لا يجمع إلى الاعتقاد الظاهري (الشكلي) باسمي” بل “من لا يجمع معي فهو يفرق” إذن مملكة المسيح غير منقسمة على نفسها بل يحاول البشر أن يقسموا تلك التي اشتريت بدم المسيح. لأنه “يعلم الرب الذين هم له. وليتجنب الأثم كل من يسمى اسم المسيح”(10) فإنه إن لم يتجنب الإثم لا ينتسب إلى ملكوت المسيح حتى ولو سمي باسم المسيح.
مملكة الشيطان منقسمة على ذاتها:
لنعطي توضيحا على سبيل المثال أن روح الطمع وروح التبذير منقسمين على نفسيهما لأن الواحد يجمع والآخر يسرف، ومع ذلك فلاكهما ينتسبان لمملكة الشيطان. بين عبدة الأوثان نجد روح Juno (11) وروح الإله هرقل منقسمين على نفسيهما ومع هذا فكليهما ينتميان لمملكة الشيطان. الوثني عدو المسيح واليهودي عدو المسيح منقسمين على نفسيهما. الوناتستين واتباع مكسمانوس هراطقة ومع هذا فمنقسمين على أنفسهما. كل شرور البشر وأخطائهم المضادة بعضها لبعض منقسمة على ذاتها ومع ذلك فجميعها تنتمي لمملكة الشيطان. لهذا فإن مملكته لن تثبت.
وأما البار والشرير، المؤمن وغير المؤمن، المنتمي إلى الكنيسة الجامعة و الهرطوقي، فمنقسمين على أنفسهم ولكن لا ينتمي جميعهم لمملكة المسيح. يعلم الرب الذين هم له”(12) لا يخدع إنسان نفسه لمجرد تسميته. إن أراد أن ينتفع من اسم الرب فعليه إذ “يسمى باسم المسيح فليتجنب الاثم”
هل يوجد في العالم من لم يجدف على الروح القدس:
1) الوثنيون:
5- فرغم وجود بعض الغموض في كلمات الإنجيل هذه فانني أظن أنني قد أوضحتها بمعونة الرب، ولم تعد بعد صعوبة كالصعوبة التي تبدو في الكلمات التالية “لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس. وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي”(13) ما هو مصير هؤلاء الذين ترغب الكنيسة في اكتسابهم؟ فإذ يتجددون ويدخلون إلى الكنيسة تائبين عن كل خطاياهم على رجاء غفران خطاياهم الموعود به، فهل يكون رجائهم باطلا؟ من ذا الذي لم يخطئ بكلمة على الروح القدس قبل كونه مسيحيا أو كونه تابعا للكنيسة الجامعة؟ ففي المكان الأول أليس الوثنيون الذين يعبدون ألهه كثيرة، عابدين الأصنام، إذ يقولون بأن الرب يسوع صنع العجائب بقوة سحرية يكونون مثل أولئك الذين قالوا أنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين؟ وأيضا إذ يجدفون على مقدساتنا يوما فيوم، أليس هذا التجديف إلا تجديف على الروح القدس؟ ماذا؟
2) اليهود:
أليس اليهود- الذين اذ تكلموا عن الرب أوجدوا هذه المناقشة- أما ينطقون حتى اليوم بكلمة على الروح القدس، وذلك بإنكارهم حلول الروح القدس في المسيحيين، كالأخرين الذين انكروا وجوده في المسيح؟ فانهم لم يسيئوا إلى الروح القدس فقط بزعمهم بعدم وجوده أو زعمهم بأنه رغم وجوده إلا أنه مخلوق وليس اللُه، أو أنه ليس لديه القدرة على إخراج الشياطين، فانهم لم يقولوا هذا أو ما يشبهه عن الروح القدس بدون مناسبة. فالصدوقيون بالحقيقة أنكروا الروح القدس وأما الفريسيون فقد اكدوا وجوده مخالفين بدعتهم (بدعة الصدوقيين) لكنهم أنكروا وجوده في الرب يسوع المسيح إذ ظنوا أنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين مع أنه أخرجها بالروح القدس.
3) الهراطقة:
على ذلك فان كل من اليهود والهراطقة الذين يعترفون بالروح القدس ولكنهم ينكرون وجوده في جسد المسيح الذي هو كنيسته الواحدة الوحيدة ليست سوى الكنيسة الواحدة الجامعة، هؤلاء بلاشك يشبهون الفريسيين الذين كانوا في ذلك الوقت، فرغم اعترافهم بوجود الروح القدس إلا أنهم كانوا ينكرون وجوده في المسيح، ناسبين إخراجه للشياطين إلى كونه رئيسا للشياطين. أنني لا أتحدث إلى حقيقة بعض الهراطقة الذين إما أنهم يتمسكون بجسارة أن الروح القدس مخلوقا وليس خالقا مثل الأريوسيين Eunomian والمقدونيين أو ينكرون وجوده تماما إذ ينكرون سر التثليث زاعمين أن اللُه هو الآب فقط وأنه يدعى أحيانا بالابن وأحيانا بالروح القدس، مثل أتباع سابيليوس والذين يسميهم البعض Passians لأنهم يعتقدون أن الآب تألم ، وإذ ينكرون وجود ابن اللُه فانهم بلاشك ينكرون الروح أيضا. كذلك أتباع فوتينيانوس Photinians الذين يقولون بأن الآب وحده هو اللُه وأما الابن فمجرد إنسان منكرين تماما وجود الأقنوم الثالث الروح القدس.
6- فمن الواضح إذن أنه قد جدف كل من الوثنيين واليهود والهراطقة على الروح القدس فهل يهمل هؤلاء ولا يكون لهم رجاء حيث تثبت الآية “وأما من قال (كلمة) على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي”(14)؟ وهل لا يتحرر من هذه الخطية إلا الذي يكون في الكنيسة الجامعة منذ طفولته؟
إن كل الذين آمنوا بكلمة اللُه بأنهم يصيروا تابعين للكنيسة الجامعة صاروا بالتأكيد في النعمة وسلام المسيح سواء كان هؤلاء من الوثنيين أو اليهود أو الهراطقة. فأنه إن لم يكن هناك غفران لتلك الكلمات التي قد تفوهوا بها على الروح القدس فباطلا نعد البشر ونبشرهم بأن يرجعوا إلى اللُه وينالوا السلام وغفران الخطايا، سواء بالمعمودية أو في الكنيسة. لأنه لم يقل “لا يغفر له إلا بالمعمودية” بل “لا يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي”.
4) المسيحيين أنفسهم:
7- يظن البعض أن الذين اغتسلوا في جرن الولادة الجديدة في الكنيسة هم وحدهم الذين يخطئون إلى الروح القدس، بجحدهم تلك العطية العظمى التي للمخلص، ملقين بأنفسهم فيما بعد في الخطايا المهلكة كالزنا والقتل والارتداد التام عن اسم المسيحية أو عن الكنيسة الجامعة ولكن كيف يمكننا البرهنة على هذا المعنى؟ لا أعرف البرهنة على هذا حيث لا ترفض الكنيسة قط التوبة عن أي خطية أيا كانت. يقول الرسول أنه يمكن توبيخ الهراطقة أنفسهم لأجل هذا الهدف “عسى أن يعطيهم اللُه توبة لمعرفة الحق فيستفيقوا من فخ ابليس إذ قد اقتنصهم لإرادته”(15) لأنه ما فائدة الاصلاح بدون وجود رجاء للغفران؟ أخيرا فان الرب لم يقل “المسيحي(16) المعمد الذي يقول (كلمة) على الروح القدس” بل قال “وأما من قال” بمعنى أيا كان القائل “فلن تغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي “فسواء كان وثنيا أو يهوديا أو مسيحيا أو هرطوقيا من بين اليهود أو المسيحين، أو أيا كان فاعل هذه الخطية. انه لم يقل هذا الشخص أو ذاك بل “وأما من قال (كلمة) على الروح القدس “أي من جدف على الروح القدس “فلن يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي”.
علاوة على ذلك فكما رأينا سابقا أنه اذا كانت كل خطية مضادة للحق ومعادية للسلام المسيحي هي “قول” (كلمة) على الروح القدس ومع ذلك فان الكنيسة لم تكف عن تهذيب غفران خطايا أولئك الذين سيحصلوا على غفران خطاياهم وينالوا الروح القدس ذاته الذي جدفوا عليه.
أظن أنني قد اكتشفت سرا عظيما يوضح هذا السؤال العظيم. ليتنا نطلب من اللُه نورا للإيضاح.
هل يقصد بالتجديف المعنى العام أم المعنى الخاص؟
8- ارفعوا أيها الأخوة، ارفعوا أذنكم إليّ وقلوبكم إلى الرب. انني أخبركم يا أحبائي أنه ربما لا يوجد في الكتاب المقدس كله سؤالا أكثر أهمية وأكثر صعوبة من هذا السؤال. لذلك إذ اجعلكم شهودا عليّ فانني أتجنب دائما صعوبة وارتباك هذا السؤال أثناء عظاتي للشعب، ليس بسبب أنه ليس لدي أفكار من أي نوع فيما يخص هذا الموضوع- إذ لا أهمل السؤال والطلب والقرع في موضوع على جانب كبير من الأهمية كهذا، لكنني لا أظن أنني أستطيع بواسطة الكلمات التي أنطق بها في تلك اللحظة أن أنصف في تفهيم ذلك (المعنى) الذي قد وضح لي إلى درجة ما ولكن إذ اصغيت إلى فصل اليوم الذي يجب علىّ أن أعظكم عنه فإنه إذ بنبضات تدق في قلبي أثناء قراءة الإنجيل حتى اعتقدت أنها إرادة اللُه هي أن تسمعوا شيئا عن هذا الموضوع مني.
9- أولا، أطلب إليكم أن تنظروا وتفهموا أن الرب لم يقل لا يغفر لأي تجديف على الروح” أو من يقول أي كلمة أيا كانت على الروح القدس سوف لا تغفر له” بل قال “وأما من قال كلمة” لأنه لو قال العبارتين السابقتين لما كان هناك موضوعا نناقشه. فإذا كان أي تجديف أو أي كلمة تقال على الروح القدس لا تغفر، لما استطاعت الكنيسة أن تربح أي إنسان من كل طبقات الخطاة الأشرار المقاومين لعطية المسيح ولمقدسات الكنيسة، سواء أكانوا يهودا أو أممين أو وثنين أو هراطقة من أي نوع أو حتى أولئك القليلي المعرفة من الذين في الكنيسة الجامعة نفسها. حاشا أن يكون ذلك هو قول الرب. أقول- حاشا للَّه أن يقول الحق بأن كل تجديف أو أي كلمة تقال على الروح القدس ليس لها غفران لا في هذا الدهر ولا في الآتي.
10- أن أرادة اللُه في الواقع هي أن يدربنا بواسطة صعوبة هذا السؤال، لا أن يخدعنا بقرار باطل. فإذ لا توجد حاجة لأحد أن يفكر بأن أي تجديف أو أي كلمة تقال على الروح القدس ليس لها غفران، بل هناك ضرورة لتوضيح وجود بعض تجديفات معينة وبعض كلمات متى قيلت على الروح القدس لا يمكن غفرانها. لأننا لو أخذنا (النص) بمعنى “كل كلمة) فمن يستطيع أن يخلص؟ أيضا إذا ظننا أنه لا توجد “كلمة” هكذا (أي ليس لها غفران) فإننا نناقض المخلص. إذن فبلاشك توجد بعض تجديفات معينة وبعض الكلمات التي لو قيلت على الروح القدس لا يكون لها غفران. ولكن ما هي هذه “الكلمة”؟ إن إرادة اللُه أن نسأل ومع ذلك فلا يوضحها. كما أقول أنها إرادته لا أن نعترض بل أن نسأله. لأن نظام الكتاب المقدس غالبا ما يكون هكذا، وهو أنه يعبر عن أمر بدون تحديد أي معنى عام أو خاص و بذا لا يكون من الضروري أن يفهم المعنى العام لا الخاص. لو كان قد قيل “كل تجديف على الروح لن يغفر “أو لو قيل “من قال” بأي كلمة على الروح القدس لا تغفر له في هذا الدهر ولا في الآتي”، لكان ينبغي أن يشرح هذا الموضوع في أقصى مداه أي بالمعنى العام. ولو كان قد قيل بعض التجديف على الروح القدس لا يغفر “لكان ينبغي أن يشرح جزئيا أي بالمعنى الخاص، ولكن إذ لم يأتي الموضوع لا في صورة عامة ولا في صورة خاصة، إذ لم يقل “كل تجديف أو بعض تجديف على الروح” بل قيل التجديف على الروح فلن يغفر” لم يقل “كل من قال أي كلمة كانت” ولا من قال كلمة معينة “بل بدون تحديد “من قال” “كلمة” فليس من الضروري أن نفهمها بأنها “كل تجديف أو كل كلمة” بل من الواضح أنه من الضروري أن ندرك أن الرب قصد أن نفهم بعض أنواع التجديف وبعض أنواع الكلمات. فمع أنه لم يشأ توضيحها حتى متى حصلنا على فهم صحيح لها عن طريق السؤال والطلب، والقرع ينبغي أن نتقبله غير مستهينين به.
11- وحتى يظهر لكم ذلك بأكثر وضوح تأملوا ما قاله الرب نفسه لليهود “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية”(17). فإن هذه أيضا لم يتحدث بها بأي معنى محدد كما لو كان قد قصد أن تفهم بأن اليهود لم يكن لهم أي خطية بالمرة لو لم يجئ ويتكلم معهم. لأنه في الحقيقة وجدهم مملؤين ومثقلين بالخطايا. لذلك يقول “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال(18)! أية أحمال إلا أحمال الخطية والتعدي على الناموس؟ “وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية(19) حيث يقول بنفسه في موضع آخر “لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة(20)“. كيف إذن لم تكن لهم خطية لو لم يكن قد جاء المسيح؟ فلو لم يعبر على ذلك الموضوع لا بالمعنى العام ولا الخاص بل بدون تحديد أما كنا مجبرين على أن نفهمه عن جميع الخطايا؟ بل بالتأكيد ما لم نفهم أن هناك بعض الخطايا لم تكن لهم لولا مجئ المسيح إليهم وكلامه لهم، لكان ينبغي أن نقول أن الموضوع باطل- حاشا للَّه. أنه لم يقل “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم أي خطية” لئلا يكذب الحق، ولا قال أيضا بصورة محدودة “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم بعض خطايا معينة” لئلا لا يتدرب شغفنا الورع.
لأنه في غنى الكتاب المقدس نتغذى بالأجزاء الواضحة بينما نتدرب بالأجزاء الغامضة فبالأولى يطرد الجوع وبالثانية توجد لذة.
فبالنظر إلى أنه لم يقل “لم تكن لهم ولا خطية” ينبغي أن لا نضطرب رغم معرفتنا بأن اليهود كانوا خطاة حتى لو لم يأت المسيح. ولكن إذ قيل “لو لم أكن قد جئت لم تكن لهم خطية” فأنه ينبغي أن يكونوا قد ارتكبوا- ليس جميع الخطايا- بل بعض الخطايا التي لم تكن لهم قبل مجيء الرب فانه بالحق هذه هي الخطية وهي أنهم لم يؤمنوا به، ذاك الذي كان حالا بينهم متحدثا معهم حاسبينه عدوا لهم مميتين إياه لأنه كان يتكلم الحق. أنه من الواضح أن هذه الخطية عظيمة والمرعبة هكذا لم تكن لهم لو لم يجيء المسيح ويتكلم معهم. لذلك عند سماعنا لهذه الكلمات “لم تكن لهم خطية” لا نفهمها على جميع الخطايا بل بعضها، وهكذا إذ نسمع في فصل اليوم “التجديف على الروح القدس لن يغفر” لا نفهمه على أنه جميع التجديف بل بعض أنواع معينة من التجديف. وعندما نسمع “وأما من قال (كلمة) على الروح القدس لا تغفر له” ينبغي أن لا نفهمها بأنها كل كلمة بل بعض أنواع معينة من الكلمات.
12- ففي هذا قال أيضا في نفس النص “وأما التجديف على الروح فلن يغفر له” فإنه بالتأكيد ينبغي ألا نفهمه على أنه تجديف على أي روح بل على الروح القدس فرغم عدم توضيحه هذا بتفصيل أكثر في أي موضوع أخر فمع ذلك من ذا الذي تصل به السخافة إلى أن يفهمها بمعنى آخر؟ بنفس هذه القاعدة في الحديث نفهم هذا التعبير “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح”(21) ففي هذا الموضوع لم يقل “الروح القدس” ومع ذلك فأنه يفهم ضمنا. فاننا لا نجبر على فهمها بأنها أي نوع من الأرواح بسبب قوله من الماء والروح.
إذن عند سماعكم “وأما التجديف على الروح فلن يغفر له” إذ لا ينبغي لنا أن نفهم أنه يقصد أي نوع من الأرواح، هكذا لا نفهم أنه يقصد أي تجديف على الروح.
13- فإذ لا يعني كل تجديف على الروح فإنني أراكم ترغبون في الاستماع إلى ماهية هذا التجديف الذي لن يغفر، وما هي هذه الكلمة التي تقال على الروح القدس ولا يغفر لها إذ ليست كل كلمة تقال على الروح القدس لا يغفر لها في هذا الدهر ولا في الآتي:
ومن ناحيتي فانني أود أن أخبركم للحال ما تنتظرون سماعه بانتباه عظيم، ولكن تحملوا إلى لحظة هذا التأخير الذي تتطلبه المثابرة بحرص أعظم، حتى أُبسط لكم بمعونة اللُه المعنى الكلي للنص المعروض أمامكم.
عندما تحدث الإنجيليان الآخران مرقس ولوقا عن نفس الموضوع لم يقولا “تجديف أو كلمة” حتى لا نفهمهما على أنها كل تجديف بل أنواع معينة من التجديف ولا كل كلمة بل أنواع معينة من الكلمة. ماذا قالا إذن؟ لقد جاء في مرقص “الحق أقول لكم أن جميع الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها. ولكن من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو مستوجب دينونة أبدية”(22). وجاء في لوقا “وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له”(23) إذن هل يوجد اختلاف في نفس الموضوع بسبب الاختلاف في التعبير؟ بالحقيقة لا يوجد سبب أخر لعدم ذكر الإنجيليين لنفس الشيء بنفس الطريقة (التعبير) إلا لنتعلم بذلك تفضيل الحقائق عن الكلمات وليس الكلمات عن الحقائق وأن لا نبحث عن شيء أخر في المتكلم غير قصده، وأن نأخذه بما يقصده بالكلمات (أي ليس بالكلمات في ذاتها) لأنه أي اختلاف جوهري بين القول (التجديف على الروح لن يغفر له) أو القول (من جدف على الروح القدس فلا يغفر له) سوى أن النص الآخر أكثر وضوح من النص السابق، وبذلك فلا يهدم الإنجيلي الأخر بل يوضحه. أن “التجديف على الروح” تعبير غير واضح لأنه لم يقل صراحة أي روح يقصد، إذ ليست كل الأرواح هي الروح القدس. هكذا يقال “التجديف على الروح” عندما يجدف إنسان على الروح كما يقال “صلاة بالروح” عندما يصلي شخص بالروح. ومن ثم يقول الرسول “أصلي بالروح وأصلي بالذهن أيضا”(24) ولكن هذا الغموض يزال عندما يقال “من جدف على الروح القدس “كذلك أليس التعبير “فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو مستوجب دينونة” ما هو إلا ما عبر عنه متى “فلن يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي” قد عبر عن نفس الفكرة بكلمات متباينة وتعبيرات مختلفة. وما قد جاء في متى “وأما من قال (كلمة) على الروح القدس “ينبغي أن لا نفهمه سوى التجديف الذي عبر عنه الأخرون بأكثر وضوح بـ “من جدف على الروح القدس” فان الأمر عينه قاله الجميع ومع ذلك فلم يبتعد أحدهم عن قصد المتكلم (المسيح) فلأجل الفهم جاءت هذه الكلمات المنطوق بها و المكتوبة والمقروءة والمسموعة.
14- ولكن قد يقول قائل: أنظر فاني قد فهمت و سلمت بأنه حيثما تستخدم كلمة “تجديف” بدون أن يعبر عنها “بكل تجديف أو بعض أنواع من التجديف” فانه يمكن فهمها على أنها تكون إما جميع أو بعض أنواع معينة من التجديف، ولكن ليس بالضرورة جميع التجاديف. فإذا لم تفهم على أنها بعض التجديف فان ما قد قيل يكون غير حقيقيا. كذلك إذا لم يقل (كل أو بعض الكلمات) فانه ليس بالضرورة تفهم على أنها جميع الكلمات. فما لم تفهم على أنها بعض الكلمات لما كان هذا بأي الأحوال حقيقيا. ولكن عند قراءتنا “من جدف” كيف يمكنني أن أفهم أنواعا معينة من التجديف حيث لم تستخدم كلمة “تجديف” أو كيف يمكنني أن أفهم كلمة معينة إذ لم تستخدم كلمة “كلمة” عند القول “من يجدف” بل تبدو في صيغة الشمول؟
أجيب على هذا الاعتراض بهذا. لو كان قد قيل في هذا النص “الذين يجدف بأي نوع كان من التجديف على الروح القدس “لما كان هناك داع للتفكير في البحث عن أنواع معينة من التجديف لئلا يفقد الأمل في المغفرة للوثنيين واليهود والهراطقة وجميع أصناف البشر الذي يجدفون على الروح القدس بأخطائهم المختلفة ومخالفاتهم وبذلك فإنه لا يبقى بعد شكا في أنه لا يقصد بالنص “من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة” من جدف بأي نوع من أنواع التجاديف بل الذي يجدف بطريقة معينة هذا لن يغفر له.
15- لأنه إذ قيل في هذا “(اللُه) لا يجرب أحدا”(25) فإنه لا يفهم من ذلك أن اللُه لا يجرب أحدا بأي نوع من التجارب، بل لا يجرب بأنواع معينة فقط “لئلا باطلا يكون المكتوب الرب إلهكم يمتحنكم”(26) ولئلا نعترض على كون المسيح هو اللُه ولئلا نقول بأن الإنجيل باطل عند قراءتنا أنه سأل تلميذه “ليمتحنه لأنه هو علم، ما هو مزمع أن يفعل”(27) فهناك تجربة تقود إلى الخطية، هذه لا يجرب اللُه بها أحد. وتوجد تجربة تمتحن إيماننا تلك التي يهبنا اللُه أن نجرب بها. هكذا عندما نسمع “من جدف على الروح القدس” يجب أن لا نأخذها على أنها جميع أنواع التجديف كما لم نأخذ في الموضوع الآخر (أي يع1: 3) كل أنواع التجارب.
16- هكذا عندما نسمع “من آمن واعتمد خلص”(28) فبالطبع لا نفهمها على الذي يؤمن بأي طريقة ما فـ “الشياطين يؤمنون ويقشعرون”(29) كما لا نفهمها على الذين يتقبلون المعمودية بأي طريقة كانت كسيمون الساحر الذي رغم امكان تعمده إلا أنه لا يمكن له أن يخلص. إذن عندما قال “من آمن واعتمد خلص” لم يقصد جميع الذين يؤمنون ويعتمدون بل البعض فقط، هؤلاء الذين يشهد لهم(30) أنهم راسخون في ذلك الإيمان الذي يحسب توضيح الرسول “العامل بالمحبة”(31) لذلك عندما قال “من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة” لم يقصد كل أنواع التجديف على الروح القدس بل خطية تجديف معينة على الروح القدس، تلك التي إذا ربط بها أحد لا يمكن أن يحل بأي غفران.
17- كذلك عبارة السيد “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه”(32) كيف ينبغي لنا أن نفهمها؟ هل يمكن أن يشمل هذا القول حتى الذي يقول عنه الرسول “يأكل ويشرب دينونة لنفسه”(33) عندما يأكل هذا الجسد ويشرب هذا الدم؟ ماذا ! فيهوذا رغم إعلان الإنجيلي لوقا بأكثر وضوح أنه أكل وشرب مع بقية تلاميذ الرب في العشاء الرباني الأول من جسده ودمه اللذين قدسهما. بيده ، فهل يهوذا ثبت في المسيح والمسيح فيه؟ وبالاختصار هل ما يفعله الكثيرون الذين أما أنهم يأكلون ذلك الجسد ويشربون ذلك الدم في رياء أو الذين بعد أكلهم وشربهم يرتدون (عن الذين)- هل هؤلاء يثبتون في المسيح والمسيح فيهم؟ مع هذا فبالتأكيد توجد طريقة لأكل الجسد وشرب الدم التي إذا أكل بها أحد وشرب يثبت في المسيح والمسيح فيه.
فكما أنه ليس كل من يأكل جسد المسيح ويشرب دمه بأي طريقة كانت يثبت في المسيح والمسيح فيه، بل بلاشك هناك طريقة معينة كان يقصدها المسيح عند نطقه بهذه الكلمات، هكذا في هذا التعبير أيضا. من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة “لا يكون مجرما بهذه الخطية التي بلا مغفرة الذي يجدف بأي طريقة ما، بل ذاك الذي يجدف بتلك الطريقة المعينة. فهذه هذه إرادة اللُه الذي نطق بهذه الآية المرعبة الحقيقية وهي أن نبحث ونفهم.
ما هو المعنى الخاص الذي قصده السيد بالتجديف على الروح القدس؟
1) الروح القدس وهب الشركة روح الآب والابن معا:
18- والآن ما هو (هذا) التجديف أو بالأحرى ما هو هذا التطرف في التجديف ما هو هذا التجديف المعين، وما هي تلك الكلمة التي تقال على الروح القدس، أن ترتيب العظة يتطلب مني أن أقول ما أراه ولا أؤجل ما توقعتموه هذا الذي طالما قد أرجاءته طويلا للضرورة. أنكم تعلمون يا أحبائي أن في سر التثليث غير المرئي وغير الفاسد الذي يعتمد عليه إيماننا وتعتمد عليه الكنيسة الجامعة ويبشر به، أن اللُه الآب ليس أبا للروح القدس بل للابن وحده بل هو روح الآب والابن(34) وأن سر التثليث هذا رغم احتفاظ كل أقنوم بكيانه وخواصه المستقلة(35) إلا أنه بسبب الجوهر غير المنقسم ولا منفصل أو الطبيعة السرمدية(36)، الحق والصلاح ليسوا ثلاثة ألهة بل إله واحد. وبهذه الطرق بحسب مقدرتنا وبقدر ما وهب لنا أن نرى هذه الأمور “خلال مرآة”، خاصة ونحن في حالتنا هذه فقد سلمت لنا فكرة العلة في الآب والبنوة في الابن وشركة الآب والابن في الروح القدس، والمساواة في الثلاثة وبذلك إذ صارت مسرتهم أن ننال بواسطة ذاك الذي هو رابطة الوحدة بين الآب والابن، ننال الشركة مع بعضنا بعضا ومعهم، وأن تجتمع معا في واحد بواسطة نفس العطية، تلك الوحدانية التي لهم أي بواسطة الروح القدس الذي هو اللُه وفي نفس الوقت عطية اللُه. ففي هذا تصالحنا مع اللُه Pivinty وابتهجنا فيه. لأنه ماذا تفيدنا معرفة أي صالح نعرفه إن لم نحبه؟
لكن كما نتعلم بالحق هكذا بالمحبة نحب، حتى بهذا نصل أيضا إلى معرفة أكمل وننعم ببركة ما نعرفه “لأن محبة اللُه قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا”(37) وإذ بسبب الخطية صرنا غرباء عن امتلاك الصلاح الحقيقي، فان “المحبة تستر كثرة من الخطايا”(38).
هكذا فان الآب هو نفسه العلة الحقيقية للابن الذي هو الحق، والابن الذي هو الحق (نابعا) (39) من الآب الحقيقي، والروح القدس هو الصلاح منبعث(40) من الآب الصالح… (41) ولكن في الثلاثة اللاهوت متساو، الوحدة غير منفصلة.
2) به ننال المغفرة:
19- فلأجل الحصول على الحياة الأبدية التي ستعطى لنا في النهاية، فانها توهب لنا من صلاح اللُه منذ بداية الإيمان بمغفرة الخطايا. ففي بقائها بقاء نوع من العداء للَّه والغربة عنه التي تحدث بسبب الشر الذي فينا، لذلك لم يقل الكتاب المقدس باطلا “آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم”(42) لذلك فانه لا يهبنا أموره الصالحة إن لم ينزع شرنا. فتزداد الأولى كما نقصت الثانية ولا تكمل أحدهما إلا بهلاك الأخرى. ولكن يغفر الرب يسوع الخطايا بالروح القدس تماما كما يخرج الشياطين بالروح القدس وهذا يفهم من هذا، أنه قال لتلاميذه بعد قيامته من الموت “اقبلوا الروح القدس “ثم أردف للحال” من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت(43) لأن هذا التجديد أيضا الذي فيه تغفر الخطايا السالفة يحدث بواسطة الروح القدس، ذلك كما يقول الرب إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت اللُه”(44) ولكن الولادة من الروح شيء والانتعاش بالروح شيء آخر، تماما مثل الولادة بالجسد التي تحدث عندما تلد الأم ابنها فهي شيء غير الانتعاش بالجسد الذي يحدث عندما ترضع الأم طفلها، ذاك الذي يعود نفسه على الشرب بسرور من الجسد الذي وُلد منه ليجد حياة، حيث ينال دعائم الحياة من الجسد الذي منه نال بداية ميلاده. لذلك ينبغي أن نعتقد أن العطية الأولى لصلاح اللُه في الروح القدس هي مغفرة الخطايا. بهذا أيضا بدئت بشارة يوحنا المعمدان الذي جاء متقدما الرب. فقد كتب هذا “وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلا توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات”(45) وأيضا من هنا بدئت بشارة ربنا إذ نقرأ من ذلك الزمان ابتداء يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات”(46)
3) به نحب اللُه:
من بين الأمور التي تحدث بها يوحنا إلى الذين جاءوا ليعتمدوا منه قوله “أنا أعمدكم بماء للتوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار”(47) قال الرب أيضا “يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير”(48) إلى يوم العنصرة. فبحسب تعبير يوحنا “نار” فرغم أنه يمكن أن تفهم على انها ضيقات يتحملها المؤمنون من أجل اسم المسيح إلا أنه من المعقول أن نفكر بأنه يقصد بـ “نار” نفس الروح القدس. لذلك عندما حل قيل “وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم”(49) لهذا قال الرب نفسه “جئت لألقي نارا على الأرض”(50) ومن ثم يقول الرسول أيضا “حارين في الروح”(51) لأن منه تأتي غيرة الحب “لأن محبة اللُه قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا”(52) وبالنقيض لهذه الغيرة ما قاله الرب “تبرد محبة الكثيرين”(53) الآن فان الحب الكامل هو العطية الكاملة للروح القدس. ولكن العطية “الأولى هي ما تخص غفران الخطايا والتي ببركتها أنقذنا من سلطان الظلمة”(54) ومن رئيس هذا العالم(55) الذي يعمل الآن في ابناء المعصية(56)، وذلك ليس إلا بالاتصاق بالخطية- والارتباط بها والتي تبطل بواسطة إيماننا. فبالروح القدس الذي به اجتمع شعب اللُه في واحد يطرد الروح الشريرة الذي انقسم على ذاته.
20- يتكلم القلب غير التائب ضد هذه العطية المجانية وهذه النعمة الإلهية. عدم التوبة هذه هو “التجديف على الروح القدس الذي لن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي “لأنه يتكلم بالفكر أو باللسان بكلمة شنيعة وبالغة الشر ضد الروح القدس الذي به تغفر كل خطاياهم بالعماد والذي قبلته الكنيسة التي متى غفرت به أي خطية غفرت، ذاك “إن لطف اللُه يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبا في يوم الغضب واستعلان دينونة اللُه العادلة الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله(57). عدم التوبة هذا يمكن أن نطلقه بوجه عام على كل من التجديف والقول بكلمة على الروح القدس اللذان ليس لهما مغفرة إلى الأبد.
أقول أن عدم التوبة هذا الذي صرخ ضده كلا من التلميذ والديان قائلين “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات”(58) والذي بسببه (ضده) فتح الرب فاه مبشرا بالإنجيل، والذي بسببه (ضده) اخبر بأن الإنجيل سيكرز به في كل أنحاء العالم وذلك عند مخاطبته لتلاميذه بعد قيامته من الأموات: “وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث. وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجيمع الأمم مبتدأ من أورشليم”(59). عدم التوبة هذا في كلمة واحدة ليس له مغفرة لا في هذا العالم ولا في الآتي “لأن بتلك التوبة وحدها يحصل على المغفرة في هذا العالم والتي سيكون لها أثارها في الدهر الآتي”.
21- ولكن عدم التوبة هذا أو القلب غير التائب قد لا يكون أكيدا مادام الإنسان يحيا في الجسد. لأننا لا نيأس قط مادامت طول آناة اللُه تقود الشرير إلى التوبة” ولا يأخذه سريعا من هذه الحياة. “هل مسرة أسر بموت الشرير يقول الرب. “إلا برجوعه عن طرقه فيحيا”(60) أنه وثني اليوم ولكن كيف تعلم أنه لا يكون مسيحيا غدا؟ أنه اليوم هرطوقي ولكنه ماذا يكون لو عاد غدا إلى الحق الذي للكنيسة الجامعة؟ أنه الآن منشقا ولكن ماذا يكون لو احتضن سلام الكنيسة الجامعة غدا لماذا يكون لو أن هؤلاء الذين تلاحظهم الآن في خطايا من أي نوع والذين تذمهم كما لو كانوا في أشد حالات اليأس، لو أنهم تابوا قبل نهاية حياتهم ووجدوا الحياة الحقيقية التي ينبغي السير فيها؟ لذلك دع أيها الأخ قول الرسول يحثك على هذا “لا تحكموا في شيء قبل الموت”(61) لأن هذا التجديف على الروح الذي لا غفران له والذي فهمته أنه ليس كل أنواع التجديف بل نوعا معينا منه والذي كما قلت أو اكتشفت أو كما أظن أنه قد ظهر بوضوح أنه يكون حالة المداومة بعناد على عدم توبة القلب، هذا التجديف أكرر بأنه لا يمكن أن يكون عند أي إنسان بأي حال من الأحوال مادام يحيا في هذه الحياة.
22- لا يبدو لك ذلك باطلا أن الإنسان الذي بينما هو يصر على عدم التوبة بعناد يتحدث كثيرا ضد هذه النعمة التي للروح القدس، فجميع أن الإنجيل يدعو عصيان القلب المستمر هذا كما لو كان أمر خاص بفترة زمنية قصيرة قائلا بأنها “كلمة” ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من قال الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي “فبالرغم من أن هذا التجديف يسمر طويلا ويتكون من عدة كلمات كثيرة جدا إلا أن هذه هي طريقة الكتاب المقدس أن يدعو حتى الكلمات الكثيرة بـ ” كلمة” فلم يتكلم أي نبي بكلمة واحدة فقط، ومع ذلك نقرأ. وللكلمة التي قيلت بنبي كهذا أو ذاك “ويقول الرسول” وأما الشيوخ المدبرون حسنا فليحسبوا أهلا للكرامة مضاعفة ولا سيما الذين يتعبون في الكلمة والتعليم”(62) أنه لم يقل “في الكلمات” بل “في الكلمة” ويقول القديس يعقوب “كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط”(63) فانه لم يقل أيضا “بالكلمات” بل “بـالكلمة” رغم أن كلمات كثيرة خارج الكتاب المقدس تقرأ وتقال وتسمع في الكنيسة في تسابيحها وتذكاراتها. وكذلك مهما طال عمر أي واحد منا في التبشير بالإنجيل فانه لا يدعى مبشرا بالكلمات بل بالكلمة. ومهما طال إصغاء أي واحد منهم بانتباه ونشاط إلى تبشيرنا فانه يدعى سامع غيور ليس للكلمات بل للكلمة هكذا فانه بحسب نظام الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة يكون ان ذاك الذي خلال حياته بالجسد مهما طالت يتكلم- دون اهمية كم هي عدد الكلمات- يتكلم سواء بالفم أو بالفكر فقط، بقلب غير تائب ضد ذلك الغفران للخطايا الذي يوهب من الكنيسة، يقول كلمة “على الروح القدس”.
هل الروح القدس أعظم من الابن؟
23- لذلك ليس فقط كل كلمة تقال على ابن الإنسان بل بالحقيقة أيضا كل خطية وتجديف يغفر للبشر. فحيث لا توجد هذه الخطية وهي القلب غير التائب التي هي ضد الروح القدس الذي بواسطته تغفر الكنيسة الخطايا فإن جميع الخطايا الباقية تغفر لكن كيف تغفر تلك الخطية التي تعوق غفران بقية الخطايا أيضا؟ إذن فجميع الخطايا تغفر لاؤلئك الذين ليست لديهم هذه الخطية التي لن تغفر وأما الذي عنده هذه الخطية فإذ لا تغفر له هذه الخطية ولا باقي الخطايا أيضا لأن رباط هذه الخطية أعاق غفران كل الخطايا. لهذا فانه ليس “من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له “وأما” من قال (كلمة) على الروح القدس فلن يغفر له “بسبب أن في الثالوث الروح القدس أعظم من الابن، لم تقم هراطقة أشارت بهذا، بل من يقاوم الحق ويجدف على الحق الذي هو المسيح حتى بعد إعلانه عن نفسه بين البشر إذ أن الكلمة الذي هو ابن الإنسان وهو المسيح نفسه “صار جسدا وحل بيننا”(64)، إذا لم يقل أيضا تلك الكلمة التي هي عدم توبة القلب- على الروح القدس الذي قيل عنه “إن لم يولد الإنسان من الماء والروح”(65)وأيضا “اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له”(66) أي أنه إذا تاب فانه يتقبل عطية غفران كل الخطايا وهذه الخطية أيضا وهي أنه “قال كلمة على ابن الإنسان” لأنه لم يضف إلى خطية الجهل أو العناد أو التجديف من أي نوع خطية عدم التوبة ضد هبة اللُه ونعمة” التجديد والمصالحة التي توهب في الكنيسة بالروح القدس.
24- لذلك ينبغي أن لا نظن كالبعض أن الكلمة التي تقال على ابن الإنسان تغفر وأما التي تقال على الروح القدس فلا تغفر بسبب أن المسيح صار ابن الإنسان يتجسده وبهذا فان الروح القدس يكون من هذه الناحية بالطبع أعظم، والذي هو مساو للآب والابن الوحيد الجنس في الجوهر بحسب لاهوته، بحسب ذلك الذي به أيضا الابن الوحيد الجنس مساو للآب والروح القدس لأنه لو كان هذا هو السبب لما كان بالتأكيد قبل أي شيء عن أي نوع آخر من التجديف لكان يبدو أن الذي وحده قابلا للغفران هو ذلك الذي يقال على ابن الإنسان من حيث ناسوته فقط(67) ولكن إذ قيل أولا “كل خطية وتجديف يغفر للناس”(68) وقد عبر عنه إنجيلي آخر “أن جميع الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها”(69). فبلاشك أن هذا التعبير العام يشمل ضمنا التجديف على الآب، ومع هذا فقد كتب أن التجديف على الروح القدس وحده هو الذي بلا غفران. ماذا؟ هل أخذ الآب شكل العبد حتى صار الروح القدس أعظم من الآب في هذا الشأن؟
بالتأكيد لا، لأنه بعد الإشارة العامة لكل الخطايا والتجاديف أراد أن يوضح باكثر تخصص التجديف على ابن الإنسان للسبب الآتي، لأنه بالرغم من أن البشر سيربطون بالخطية التي أوضحها بقوله “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية”(70)، تلك الخطية أيضا التي أوضح إنجيل يوحنا كونها خطية خطيرة جدا، عند قوله عن الروح ذاته عندما وعد بأنه سيرسله قائلا “ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلانهم لا يؤمنون بي”(71) ومع ذلك إذا لم يقل ذلك القلب الغليظ غير التائب أي كلمة على الروح القدس حتى تلك التي تقال على ابن الإنسان تغفر له. لعطية الروح القدس، لأنه بتلك العطية يحصل على مغفرة الخطايا.
وإنني أسال في هذه النقطة أيضا عما إذا كان المسيح وحده هو الذي يخرج الشياطين ام الآب والروح القدس أيضا؟ لأنه لو كان المسيح وحده، فما معنى قوله “الآب الحال في هو يعمل الأعمال”(72) لأنه هكذا قيل “هو يعمل الأعمال كما لو كان الابن لا يعملها بل الآب الحال في الابن. إذا لماذا يقول في موضع أخر “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل”(73) ثم يردف بعد قليل قائلا “لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك(74) ولكن عندما يقول في موضع آخر “لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالا لم يعملها أحد غيري”(75) فانه يتكلم كأنه عملها بمفرده.
والآن إذا كانت تشرح هذه الأمور هكذا بأن كلا من أعمال الآب والابن غير منفصلة، فماذا ينبغي أن نعتقد في الروح القدس أنه يعمل مساويا لهم؟ لانه في نفس الموضع الذي برز منه ذلك السؤال الذي نناقشه عندما كان المسيح يخرج الشياطين قال “إن كنت أنا بروح اللُه(76) أخرج الشياطين فقد أقبل عليهم ملكوت اللُه”(77).
26- ربما يقول قائل الروح القدس يُعطى بالحرى بواسطة الآب والابن أكثر من أنه يعمل أي شيء بإرادته الخاصة، وأن هذا هو فصل الكلمات “أنا بروح اللُه (in) أخرج الشياطين” لأنه لم يصنع هذا الروح القدس ذاته بل المسيح بالروح (in) ولذلك فينبغي أن يفهم التعبير “اخرج الشياطين بروح اللُه (in) كما لو كانت “اخرج الشياطين بواسطة (by) الروح القدس” لأن هذه هي طريقة الكتاب المقدس ، وهم قتلوا بالسيف (in) أي بواسطة السيف. كذلك أحرقوا بالنار (in) (78) أي بواسطة النار. “فصنع يشوع سكاكين من صوان وختن بها بني اسرائيل(79)قاصدا بذلك” وختن بواسطتها” وأما أولئك الذين على هذا الأساس يأخذون من الروح القدس قوته الخاصة به فليرجعوا إلى ما نقرأه مما قاله الرب الريح(80) تهب حيثما تشاء(81) وإلى ما يقوله الرسول “ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء(82). أنه يخشى أن يظن أحدا أن الآب والابن لا يعملانها (أي أعمال الروح القدس) في حين أنه ذكر بوضوح بين هذه الأعمال كلا من “مواهب الشفاء” وعمل قوات” التي تشمل بالتأكيد إخراج الشياطين. ولكن عندما يضيف الكلمات “قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء” فانه يظهر بجلاء قوة الروح القدس أيضا رغم أنها غير منفصلة بوضوح عن الآب والابن؟ فإذا وضحت هذه الأمور هكذا أن عمل
مقدرته على تحقيق ذلك وحده أو أنه اتخذ تلك المعونة لنقص في مقدرته على ذلك العمل، بل لأنه من المناسب أن الروح المنقسم على ذاته ينبغي أن يطرد بذلك الروح Spirit الذي يشترك فيه الآب والابن غير منقسمين على ذواتهم.
28- إذ لا تغفر تلك الخطايا بعيدا عن الكنيسة ينبغي أن تغفر بواسطة ذلك الروح الذي به تجتمع الكنيسة معا في واحد بالحقيقة إذا تاب أي شخص من الخارجين عن الكنيسة عن خطاياه فانه بسبب الخطية الكبيرة التي بها هو غريب عن كنيسة اللُه، يكون له قلبا غير تائب، فماذا تنفعه توبته؟ ناظرين أن بهذه فقط يقول كلمة على الروح القدس، بها يكون غريبا عن الكنيسة التي قبلت هذه العطية وهي غفران الخطايا بالروح القدس؟
وبالرغم من آية الغفران هو من عمل الثالوث جميعا إلا أنه يفهم أنه يخص الروح القدس لأنه هو بروح التبني للأبناء “الذي به نصرح با أبا الآب”(83) حتى يمكننا أن نقول له “اغفر لنا ذنوبنا”(84) وكما يقول يوحنا الرسول “وبهذا نعرف أنه (المسيح) يثبت فينا من الروح الذي أعطانا”(85) الروح نفسه أيضا يشهد لأرواحنا أننا أولاد اللُه.” (86) لأن من اختصاصه الشركة التي بها صرنا جسدا واحدا لابن اللُه الواحد الوحيد، حيث كتب “فإن كان وعظا في المسيح إن كانت تسلية ما للمحبة ان كانت شركة ما في الروح”(87) وبالنظر إلى هذه الشركة تكلم أولئك الذين استفز عليهم أولا، بالسنة كل الأمم، لأنه كما تكون شركة الشعوب أكثر إحكاما بالالسنة، هكذا من اللائق بهذه الشركة التي بين أبناء اللُه واعضاء المسيح التي تتكون من جميع الأمم [؟] أن يشار إليها بالنسبة كل الأمم. وإذ في ذلك الوقت عرف أن الذي ينطق بالسنة كل الأمم قبل الروح القدس، هكذا ينبغي الآن أن يعرف الذي يربط برباط السلام الذي للكنيسة، المنتشر بين كل الأمم، قد قبل الروح القدس حيث يقول الرسول “مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام”(88).
29- أنه روح الآب- يقول الابن- فيه “من عند الآب ينبثق”(89). وفي موضع يقول لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم”(90).
وإذ هو روح الابن أيضا يقول الرسول “أرسل اللُه روح ابنه إلى قلوبكم صارخا يا أبا الآب”(91) أي يجعلكم تصرخون، لأن هذا هو ما نصرخه ولكنه فيه، أي يملأ قلوبكم بالمحبة التي بدونها يكون صراخكم باطلا. حيث يقول أيضا “ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له”(92). لأي أقنوم من الثالوث إذن يمكن أن تخص هذه الشركة الخاصة إلا لذلك الروح المشترك للآب و الابن؟(93)
30- فأولئك الذين قد انفصلوا عن الكنيسة ليس لهم هذا الروح إذ يعلن يهوذا الرسول بأكثر وضوح قائلا “هؤلاء هم المعتزون بأنفسهم نفسانيون لا روح لهم”(94) لذلك ينتهر بولس الرسول حتى الذين في الكنيسة نفسها الذين رغم وجودهم في وحدتها قد أثاروا نوعا من الشقاق بسبب أسماء بشرية، قائلا من بين أمور أخرى “ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح اللُه لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحيا”(95) هذا يوضح قصده “لا يقبل” أي أنه لا يقبل كلمة المعرفة. هؤلاء إذ لهم مكانا في الكنيسة يتحدث عنهم كأطفال ليسوا بعد روحيين بل لازالوا جسديين، وهكذا كما لو كانوا يقتاتون لبنا وليس طعاما. يقول، بل كجسديين كأطفال في المسيح سقيتكم لبنا لا طعاما لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون بل الآن أيضا لا تستطيعون”(96). ينبغي أن لا نيأس عندما نقول “حتى الآن” إذا كنا نتجه نحو مالم نبلغه حتى الآن “لأنه يقول “لأنكم بعد جسديون” مظهرا كيف أنهم جسديون بقوله “فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديين وتسلكون بحسب البشر”(97) وأيضا يقول بأكثر وضوح “لانه متى قال واحد أنا لبولس وآخر أنا لأبولس أفلستم جسديين. فمن هو بولس ومن هو أبولس بل خادمان كنتم بواسطتهما”(98)
هؤلاء إذن أي بولس وأبولس يتفقان في وحدانية الروح وفي رابطة السلام، ومع ذلك فاذ بدء الكورنثوسين ينقسمون على أنفسهم “وأن ينتفخ كل على الآخر “قيل عنهم أنهم رجال جسدين وطبيعيين غير قادرين على تقبل الأشياء التي لروح اللُه، ومع أنهم لم ينفصلوا عن الكنيسة دعوا “أطفالا في المسيح”، لأنه بالحق يرغب في أن يكونوا ملائكة أو حتى آلهة- هؤلاء الذين أنتهرهم لأنهم كانوا بشرا أي كانوا في جهادهم لا يهتموا بما للَّه بل بما للناس”(99) وأما هؤلاء الذين انفصلوا عن الكنيسة فلم يقل عنهم فقط “لا يقبل ما لروح اللُه” لئلا يقصد به ادراك المعرفة، بل قيل having not the Spirit لأنه لم تتبع ذلك أن الذي له هذا يستطيع أيضا بالمعرفة أن يدرك ما عنده.
31- رغم أن لـ “الأطفال في المسيح” مكان في الكنيسة، الذين لازالوا طبيعين وجسديين، فانهم لا يستطيعوا أن “يدركوا” أي يفهموا ويعرفوا ما أخذوه، أخذين ذلك الروح لأنه كيف يمكن أن يكونوا “أطفالا في المسيح إلا إذا كانوا قد ولدوا ولادة ثانية بالروح القدس؟(100) ينبغي ألا ندهش من أن يمتلك أحد شيئا ومع هذا فلا يعرف ما عنده. فاذ بعدم الحديث عن لاهوت القدير ووحدة الثالوث غير المتغير، من ذا الذي يستطيع بسهولة أن يدرك بالمعرفة ما هو الروح مع أنه من ممن ها هنا ليس له روح؟ أخيرا، حتى نعرف باكثر تأكيد “الأطفال في المسيح” الذين لا يقبلون مالروح اللُه “ولو أن لهم روح اللُه، دعنا ننظر إلى ما يقوله الرسول بولس بعد تبكيتهم بقليل “أما تعلمون أنكم هيكل اللُه وروح اللُه يسكن فيكم”(101) هذا هو بالتأكيد ما يريد أن يقوله (بدون أن نمط) إلى أولئك الذين قد انفصلوا عن الكنيسة، الذين يوصفون بأنه ليس لهم روح”
32- ولكن لا يمكن أن يقال عن من امتزج بقطيع المسيح في مخالطة جسدانية فقط، في خداع قلبي، أنه في الكنيسة أو ينتمي إلى شركة الروح. لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش”(102) لذلك كل من تعمد في (المجالس) الجمعيات أو بالأحرى في انفصالات المنشقين والهراطقة، فرغم عدم ولادتهم ثانية بالروح كما لو كانوا كاسماعيل بن إبراهيم حسب الجسد وليس كإسحق ابنه بالروح لأنه ابن الموعد، ومع ذلك فعندما يعودون إلى الكنيسة الجامعة ويرتبطون بشركة الروح الذي بلا شك لا يمكن أن ينالوه خارج الكنيسة، وغسل الجسد لا يتكرر في حالتهم هذه. لأن صورة التقوى “هذه لم تكن تنقصهم حتى عندما كانوا خارجين (عن الكنيسة) ولكن يضاف لهم “وحدانية الروح برباط السلام الذي لا يمكن أن يعطى إلا بالداخل، فقبل كونهم داخل الكنيسة الجامعة يكونون كما يقول عنهم الرسول “لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها”(103) لأن صورة (مظهر) الغصن الظاهرية يمكن أن توجد حتى ولو كان منفصلا عن الأصل (الكرمة) ولكن لا يمكن أن يكون له الحياة الخفية للأصل إلا في الأصل (الكرمة) فإن المقدسات الجسدية، التي يحتملها ويقدسها حتى هؤلاء المنفصلين عن وحدة جسد المسيح، تعطي صورة التقوى “ولكن لا يمكن بأي حكمة أن تكون لهم القوة الروحية غير المنظورة التي للصلاح. ذلك مثل الشعور الذي لا يلازم العضو متى انفصل من الجسد.
33- وحيث أن الأمر كذلك فان غفران الخطايا الذي لا يعطي إلا بالروح القدس لا يمكن أن يعطى إلا في تلك الكنيسة التي لها الروح القدس. لأن هذا هو تأثير غفران الخطايا وهو أنه لا يعود يملكنا رئيس الخطية، ذلك الروح المنقسم على ذاته، وبخلاصنا من سلطان الروح الشرير نكون هيكلا للروح القدس متقبلين إياه، الذي به نتطهر بقبول المغفرة ويسكن فينا ويعمل البر وينميه ويكمله. فعند حلوله الأول تكلم أولئك الذين قبلوه بالسنة كل الأمم، و خاطب الرسول بطرس الحاضرين المندهشين، فنخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس وبقية الرسل “ماذا نصنع أيها الرجال الأخوة”(104) عرفونا ذلك “فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس”(105) في الكنيسة الحقيقية حيث كان بها الروح القدس كان كل من غفران الخطايا وقبول هذه العطية ممكنا. لذلك كان هذا باسم يسوع المسيح لأنه عندما وعد بالروح القدس ذاته قال: “الذي سيرسله الآب بإسمي” لأن الروح القدس لا يسكن في أي شخص بدون الآب والابن، كما أن الابن لا يعمل بدون الآب والروح القدس، والآب لا يعمل بدونها فبسكناهم غير منفصل كما أن عملهم غير منفصل. ولكنهم أحيانا يظهرون أنفسهم منفصلين وذلك بأمثلة مستعارة من الخليقة وليس بحسب جوهرهم. وذلك تماما كما ينطق بهم منفصلين بواسطة الصوت في مقاطع، الذي يشغل مسافاتهم الخاصة منفصلة، ومع ذلك فانهم غير منفصلين عن بعضهم البعض بأية فترات أو لحظات من الزمن. لأنه لا يمكن أن يكون منطوق بهم حيث لا يمكن أن يوجدوا إلا معا. ولكن كما سبق أن قلت أكثر من مرة، أن مغفرة الخطايا التي بواسطتها تهدم وتطرد مملكة الروح المنقسم على ذاته، والشركة التي لوحدة كنيسة اللُه التي لا يوجد خارجها هذا الغفران للخطايا، ينظر إليها كعمل خاص بالروح القدس وبلا شك مع اشتراك الآب والابن لأن الروح القدس نفسه هو بنوع ما الشركة بين الآب والابن فالآب لا يعتبر كأب للابن والروح القدس معا لأنه ليس أبا لكليهما. وكذلك الابن لا يعتبر ابنا للآب والروح القدس معا لأنه ليس ابنا لكليهما. وأما الروح فيعتبر روحا بالنسبة للآب والابن معا لأنه هو الروح الواحد لكليهما.
34- لذلك كل من يكون مذنبا بعدم التوبة ضد الروح الذي به تكون الوحدة والشركة في جماعة الكنيسة، لا يكون له غفران. لأنه أبطل ينبوع المغفرة على نفسه واستحق أن يدان بالروح المنقسم على ذاته. وهو نفسه أيضا منقسم على الروح القدس غير المنقسم على ذاته. تحذرنا شهادات الإنجيل نفسها من هذا، لعلنا نبحث عنها باهتمام زائد فانه بحسب (إنجيل) لوقا لم يقل الرب من جدف على الروح القدس فلا يغفر له”(106) في ذات الموضع حيث يجب الرب على أولئك الذين قالوا أنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين. لذلك يبدو أن هذا الكلام لم يقله الرب مرة واحدة فقط، بل ينبغي علينا أن نأخذ في اعتبارنا الظروف التي فيها قيلت تلك الجملة الأخيرة أيضا لأنه كان يتحدث عن الذين يعترفون به أو ينكرونه قدام الناس، ذلك عندما قال “وأقول لكم كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة اللُه ومن أنكرني قدام الناس ينكر قدام ملائكة اللُه”(107) لئلا يخشى من اليأس من خلاص بطرس الرسول فأنه أردف للحال قائلا “وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له”(108) قاصدا بقوله “جدف” ذلك التجديف الذي للقلب غير التائب الذي تحدث به المقاومة لغفران الخطايا الذي يمنح في الكنيسة بواسطة الروح القدس. هذا التجديف لم يصنعه بطرس فبطرس تاب للحال عندما “بكى بكاءا مرا”(109) والذي عندما غلب الروح المنقسم على ذاته والذي أراد “أن يغربله”(110) والذي لأجله طلب الرب حتى لا يُفنى إيمانه “حتى أخذ الروح القدس نفسه الذي لم يقاومه- فلم تغفر خطاياه فحسب بل بواسطته كان يبشر بغفران الخطايا ويمنحه.
35- وبحسب رواية الإنجيليين الأخريين فإن ظروف القول بهذه العبارة الخاصة بالتجديف على الروح القدس، نشأت عند ذكر الروح الشرير المنقسم على ذاته. لأنه قد قيل عن الرب “أنه برئيس الشياطين يطرد الشياطين “في ذلك الموضع قال الرب أنه يخرج الشياطين بالروح القدس وهكذا فان الروح غير المنقسم على ذاته يغلب ذلك الروح المنقسم على نفسه ويطرده، فان ذلك الإنسان الذي يرفض بعدم توبة أن يعبر إلى سلام الروح القدس غير المنقسم على نفسه، وبذلك يبقى مربوطا في هلاكه الأبدي. هكذا جاءت رواية مرقس “الحق أقول لكم أن جميع الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها. ولكن من جدف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو مستوجب دينونة أبدية”(111) وعندما قال كلمات الرب هذه أردف بكلماته هو قائلا “لأنهم قالوا أن معه روحا نجسا(112) أي مظهرا بذلك أن سبب قوله هذا الكلام نشأ بسبب قولهم أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. ليس بسبب أن هذا كان تجديف لا غفران له، لأنه حتى هذا سيغفر لهم بمقدار ما يتبعه من توبة صادقة. لكن كما قلت أن هناك سببا لهذه العبارة ليقولها السيد حيث ذكر الروح الشرير الذي أوضح الرب انقسامه على ذاته، لأن الروح القدس ليس فقط غير منقسم على نفسه بل يجعل الذين يجمعهم غير منقسمين على أنفسهم وذلك بغفران خطاياهم المنقسمة على ذاتها، وبسكناه في المطهرين لتلازمهم كما هو مكتوب، في سفر الأعمال “وكان الجمهور الذين آمنوا قلب واحد. ونفس واحدة”(113) لا يقاوم أحد هذه العطية التي للغفران، غير الذي له قلبا صارما غير تائب. لأنه في موضع آخر قال لليهود عن الرب أن به شيطان”(114) ومع ذلك لم يقل شيئا عن التجديف على الروح القدس، لأنهم لم يثيروا موضوع الروح النجس الذي يمكن أن يظهر من أفواههم أنه منقسم على ذاته مثل بعلزبول الذي بواسطته قالوا أن الشياطين يمكن أن تطرد.
36- وأما حسب قول متى في هذا الموضوع، فقد شرح الرب بأكثر وضوح ما قصد أن يفهم هنا، أي أن ذلك الذي يتكلم بكلمة على الروح القدس هو الذي يقاوم بقلب غير تائب وحده الكنيسة التي فيها يعطي الروح القدس مغفرة الخطايا. لأن هذا الروح لم يأخذوه، كما سبق القول، فرغم انهم يحملون ويستخدمون مقدسات المسيح إلا أنهم منفصلون عن محفله (كنسيته) لأنه عندما تحدث عن انقسام الشيطان على الشيطان وكيفية طرده للشياطين بالروح القدس، ذلك الروح المخالف للروح الآخر المنقسم على ذاته، فحتى لا يظن أحد أن ملكوت المسيح أيضا منقسم على نفسه بسبب أولئك الذين مجتمعون معا في جماعات غير منتظمة تحت اسم المسيح ولكن خارج حظيرته، لذلك أردف للحال قائلا “من ليس معي فهو عليّ ومن لا يجمع معي فهو يفرق”(115) فعليه أن يظهر عدم انتماء الذين يجتمعون بالخارج إليه الذين لا يرغبوا في أن يجمعوا بل أن يفرقوا أردف بعد ذلك قائلا “لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يغفر للناس- وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس”(116). ماذا يقصد بقوله “لذلك” هل التجديف على الروح القدس وحده. لا يغفر لأنه “من ليس مع المسيح فهو عليه وذلك الذي لا يجمع معه فهو يفرق”. إنه كذلك بلا شك. فان الذي يجمع بدونه مهما يجمع باسمه لا يكون عنده الروح القدس.
37- هكذا أجبرنا جميعا أن نفهم أنه لا يحدث غفران لأي خطية أو تجديف بأي حال من الأحوال إلا بالأتحاد معا في المسيح الذي لا يفرق. فيحدث في الروح القدس تجمعا، وذلك بخلاف الروح النجس المنقسم على ذاته. ولهذا فإن كل المجالس (الجمعيات) أو بالأحرى التفرقات التي تدعى أنها كنائس للمسيح، وهي منقسمة على نفسها وتضاد كل الأخرى وتضاد لتجميع تلك الوحدة التي هي كنيسة الحقيقية، فانهم لا ينتمون إلى حظيرته بسبب ما يبدو من أن لديهم اسم (المسيح) ولكن كان يمكن أن يكونوا منتمين إلى (هذه الحظيرة) لو كان الروح القدس الذي يجمع في هذا المجتمع (الكنيسة) تنقسم على ذاته “ولكي ما دام الأمر ليس كذلك لأن “من ليس مع المسيح فهو عليه والذي لا يجمع معه فهو يفرق” لذلك فكل أنواع الخطايا والتجاديف سوف يغفر للذين في هذه الحظيرة التي جمعها المسيح في الروح القدس غير المنقسم على ذاته، وأما ذلك التجديف على الروح ذاته الذي في القلب غير التائب مقاوما عطية اللُه العظيمة هكذا حتى نهاية حياته الحاضرة فلا يغفر له.
فبالرغم من أن الإنسان يقاوم بنفسه الحق، مقاوما كلام اللُه، ليست في الأنبياء بل في ابنه الوحيد “لأنه من أجلنا كانت مسرته أن يكون ابن الإنسان هو ذلك الذي يكلمنا “ومع هذا فيغفر له متى عاد بتوبة إلى صلاح اللُه الذي يغفر لهم الخطايا بقدر ما هو “لا يُسر بموت الشرير بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا”(117) معطيا الروح القدس لكنسيته حتى أن كل من تُغفر له الخطايا في الروح تغفر له. وأما الذي يقف موقفا عدائيا من هذه العطية دون أن يبحث عنها في ندامة بل يقاومها في عدم توبة، فان خطاياه تصير بلا غفران، ليست هي خطية من نوع معين بل الأزدراء أو حتى مقاومة الغفران للخطايا نفسها، وهكذا عندما لا يعود البشر من التشتيت إلى التجميع (الحظيرة) التي قبلت الروح القدس بغفران الخطايا فان هذه هي كلمة تقال على الروح القدس. فانه متى جاء أي شخص إلى ذلك التجمع بدون رياء ينال غفران الخطايا بالروح القدس حتى ولو كان عن طريق كاهن شرير وفاجر ومنافق، لأنه قسيس يتبع الكنيسة الواحدة. لأنه هكذا هو عمل هذا الروح في الكنيسة المقدسة حتى وقتنا الحالي حيث تُدرس الحنطة مع فضلاتها (تبنها) فلا يستهين بأي اعتراف صادق ولا يخدع باي اعذار باطلة، وبذلك يبعد عن الخلاعة إذ مع هذا فمن سلطانهم أن يجمعوا الصالحين معا يوجد ملجأ واحد ضد التجديف الذي لا يغفر له وهو أن نحذر من القلب غير التائب، وأن لا نظن أن التوبة يمكن الحصول عليها إلا بحفظنا في الكنيسة التي نأخذ منها غفران الخطايا وشركة الروح محفوظين في رباط السلام.
38- لقد تناولت بواسطة رحمة اللُه ومعونته- بقدر استطاعتي هذا السؤال الصعب ذلك إن كنت بالحقيقة قد وقفت إلى حد ما. ومع هذا فما لم أستطع فهمه من الصعوبات لا يرجع إلى الحقيقة نفسها التي هي اختبار مفيد للصالحين حتى ولو كانت مخيفة وأما بالنسبة لضعفي فلا أستطيع أن أرى ما ينبغي أن يفهمه الأخرون أو لا أستطيع أن أشرح ما قد فهمت. وأما بالنسبة لما قد استطعت معرفته بقوة التأمل والتعبير عنه بالكلمات فانه ينبغي أن أقدم التشكرات عليه لذاك الذي طلبت منه وسألته وقرعت (بابه) لأجل انتعاش روحي في التأمل وتقديمه لكم بالحديث إليكم.
———————————
(1) أي الإنجيل الذي قرأ قبل العظة.
(2)2كو3: 5
(3) مت12: 22: 26
(4) مت12: 28
(5) مت 12: 29
(6) أكو4: 7
(7) أكو4: 7
(8) اكو4: 7
(9) اف2: 3
(10) مت12: 3
(11) 2تي2: 19
(12) زوجة جوبنز وملكة السماء وحامية الزواج (عند الرومان)
(13) 2تي2: 19
(14) مت12: 31- 32
(15) مت12: 32
(16) 2تيمو2: 25، 26
(17) مترجمة عن Catholic أي التابع للكنيسة الجامعة.
(18) يو15: 22
(19) مت1: 28
(20) رو5: 20
(21) مت9: 13
(22) يو3: 5
(23) مز3: 28، 29
(24) لو2: 10
(25) أكو14: 15
(26) يع1: 3
(27) تت13: 3
(28) يو6: 6
(29) مر16: 16
(30) يع2: 19
(31)
(32) نملاه 5: 6
(33) يو6: 56
(34) اكو11: 29
(35) لا يعني هذا أنه منبثق من الآب والابن بل منبثق من الآب ومستقر في الابن (راجع كتاب العنصرة رسالة بيت التكريس بحلوان)
(36) Property (Proprietate) and particular substance
(37) Nature of eternity
(38) رو5: 5
(39) ابط4: 8
(40) Orta
(41) Effusa
(42) نلاحظ أنه قد اضيفت الكلمتين (والابن الصالح).
(43) اسن59: 2
(44) يو20: 22، 23
(45) يو3: 5
(46) مت3: 1، 2
(47) مت4: 17
(48) مت3: 11
(49) اع1: 5
(50) اع2: 3
(51) لو12: 49
(52) رو12: 11
(53) رو5: 5
(54) مت24: 12
(55) كو1: 13
(56) انظر يو12: 31
(57) أفس2:2
(58) رو2: 4-6
(59) مت3: 2، مت4: 17
(60) لو24: 46، 47
(61) حز18: 3
(62) اكو4: 5
(63) اتيمو5: 17
(64) يع1: 22
(65) يو1: 14
(66)
(67)
(68)
(69)
(70)
(71)
(72)
(73) يو14: 10
(74) يو5: 17
(75) يو5: 19
(76) يو15: 24
(77) Holy Spirit
(78) مت12: 28
(79) مز73: 7 طبعة الكاثوليك سنة 1951
(80) يش5: 3
(81) The Spirit
(82) يو3: 8
(83) اكو12: 11
(84) رو8: 15
(85) مت6: 12
(86) 1يو3: 24
(87) رو8: 16
(88) في2: 1
(89)1ف4: 3
(90) ايو15: 26
(91) مت10: 20
(92) غلا4: 6
(93) رو8: 9
(94) لا يفهم من هذا أن الروح القدس منبثق من الابن إنما هو روح الآب والابن منبثق من الآب مستقر في الابن.
(95) 1كو2: 14
(96) 1كو3: 1-2
(97) 1كو3: 3
(98) 1كو3: 4، 5
(99) انظر مت16: 23
(100) أي عن طريق سر المعمودية
(101) 1كو3: 16
(102) حك1: 5 طبعة الكاثوليك سنة 1951
(103) 2تيمو3: 5
(104) 1ع2: 37
(105) 1ع2: 38
(106) لو12: 10
(107) لو12: 8، 9
(108) لو12: 10
(109) مت26: 75
(110) To harass him انظر لو22: 31
(111) مر3: 28، 39
(112) مر3: 28، 39
(113) مر3: 30
(114) 1ع4: 32
(115) يو7: 20، 8: 48
(116) مت12: 30
(117) مت12: 31
(118) أنظر مز33: 11
العظة الثانية والعشرون
الكرمة والكرام
عن كلمات الإنجيل مت12: 33 “اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدا أو اجعلوا الشجرة ردية وثمرها رديا لأن من الثمر تعرف الشجرة”.
1)- سنوات ثلاث للبشرية
1- لقد نصحنا الرب يسوع أن نكون أشجارا جيدة وبذلك يمكن أن نحمل ثمارا جيدة. لأنه يقول اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدا أو اجعلوا الشجرة ردية وثمرها رديا لأن من الثمر تعرف الشجرة عندما يقول “اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدا” هذا بالطبع ليس انذار بل وصية مفيدة ينبغي طاعتها. وأما قوله “اجعلوا الشجرة ردية وثمرها رديا “فهذا ليس بوصية ينبغي تنفيذها بل انذارا ينبغي الحذر منه. لأنه يتحدث عن هؤلاء الذين رغم كونهم أشرار أمكنهم أن يتكلموا بأمور صالحة أو أن تكون لهم أعمالا صالحة. هذا ما قال عنه الرب يسوع أنه مستحيل. لأنه ينبغي للإنسان نفسه أن يتغير أولا حتى تتغير أعماله. فإذا بقى إنسان في حالته الشريرة لا يمكن أن تكون له أعمالا صالحة، وإن بقى في حالته الصالحة لا يمكن أن تكون له أعمالا شريرة.
2- ولكن (أي إنسان) وجده الرب بارا حتى أن المسيح مات لأجل الفجار”؟(1) لقد وجدهم جميعا أشجارا ردية، ولكن الذين آمنوا باسمه “أعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد”(2) فمن وجد الآن بارا أي شجرة صالحة فانه قد وجد رديا ثم صار صالحا. ماذا كان لو أن عند مجيئه أراد أن يقتلع كل الأشجار الرديئة؟ أي شجرة سيبقيها دون أن تستحق نزعها؟ لكنه جاء أولا يصنع رحمة حتى يصنع بعد ذلك عدلا، ذلك الذي له قيل “رحمة وحكما أغنى لك يارب أرنم”(3)لقد أعطى غفرانا للخطايا للذين آمنوا به ولم يشأ أن يحاسبهم على ديونهم السابقة. لقد أعطى غفرانا للخطايا جعلهم أشجارا جيدة، لقد عطّل الفأس. اعطى أمانا.
3- يتحدث يوحنا عن هذه الفأس قائلا “والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار”(4).بهذه الفأس يهدد صاحب الكرم في الإنجيل قائلا “هوذا ثلاث سنين أني أطلب ثمرا عن هذه التينة ولم أجد. أقطعها لماذا تبطل الأرض أيضا “فتشفع الكرام قائلا “ياسيد اتركها هذه السنة أيضا حتى انقب حولها واضع زبلا. فإن صنعت ثمرا وإلا ففيما بعد تقطعها”(5) هكذا افتقد اللُه البشرية كما لو كان لمدة ثلاث سنوات أي في ثلاث مرات متعددة المرة الأولى قبل الناموس والثانية في ظل الناموس والثالثة الآن في عصر النعمة
1- قبل الناموس:
لأنه لو لم يفتقد البشرية قبل الناموس من أين كان هابيل واخنوخ ونوح وإبراهيم واسحق ويعقوب الذي سر أن يدعى إلههم؟ الذي تنتمي إليه كل الأمم كما لو كان إله ثلاثة أشخاص فقط قائلا “إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب”(6)
2- في ظل الناموس:
وإذا لم يكن قد افتقد في ظل الناموس ما كان قد أعطى الناموس.
3- عصر النعمة:
بعد الناموس جاء صاحب الكرم نفسه، لقد تألم ومات وقام ثانية، أعطى الروح القدس، جعل الإنجيل يبشر به في المسكونة، ومع ذلك فقد بقيت شجرة معينة بلا ثمر لازال يوجد جزء من البشر لم يُصلح نفسه بعد. ان الكرام يشفع والرسول يصلي لأجل البشر قائلا “احني ركبتي لدى (ابي ربنا يسوع المسيح) وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو. وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كل ملء اللُه”(7) يشفع أمام الكرام بإحناء الركب لأجلنا حتى لا نقتلع. لكنه مادام سيأتي حتما فلنهتم ان يجدنا مثمرين.
2) الحفر والتسميد:
الحفر حول الشجرة هو اتضاع التائب. لأن الحفرة منخفضة. أما تسميدها هو ثوب التوبة القذر. لأنه أي شيء أكثر قذارة من السماد ومع هذا ما أكثر فائدته متى أٌحسن استخدامه؟.
3) جدد القلب:
4- ليكن كل واحد شجرة صالحة. لا يظن أنه يستطيع أن يحمل ثمارا صالحة إذا بقى شجرة ردية. سوف لا تكون هناك ثمرة صالحة الا من الشجرة الصالحة. غير القلب فتتغير الأعمال. اقتلع الشهوات واغرس المحبة. فكما أن (الشهوة) (8) أصل لكل الشرور”(9) هكذا المحبة أصل لكل خير. لمذا يضطرب البشر ويتنازع كل مع الآخر متسائلين “ما هو الصلاح؟” هل تعرف الصالح! ما تشتهي أن يكون لك، ليس صالح تماما، هذا هو الصالح (المفيد) وهو الذي لا تشتهي أن تكون. فانك ترغب في أن تكون معافى الجسد، حقا هذا صالح. ومع هذا فانك لا تستطيع أن تفكر في أن تكون صالحا أكثر مما للشرير. إنك ترغب في أن يكون لك ذهب وفضة، وأني أوافق على أن هذه الأشياء أمورا صالحة ولكن هذا متى أحسن استخدامها. ولكنك لا تستطيع أن تحسن استخدامها إن كنت شريرا، وبذلك يكون الذهب والفضة شرا للشرير، وخيرا للصالح ليس لأن الذهب والفضة يجعلاهم صالحين بل لأن الفضة والذهب تجد صالحين فيصير استخدامها خيرا (صالحا) أيضا- انك تريد أن يكون لك كرامة. هذا حسن. ولكن هذا يكون الصالحا إذا احسنت استخدامه. كم كان الشرف فرصة للهلاك بالنسبة لكثيرين وكم كان وسيلة للأعمال صالحة بالنسبة لكثيرين.
5- لنوضح إن استطعنا- هذه الأشياء الصالحة لأننا نتكلم عن الأشجار الصالحة وهنا لا يوجد شيئا مما اعتاد كل شخص أن يفكر فيه كثيرا، فيحول عينيه إلى ذاته لتعلم في داخله ويختبر نفسه، ويفتش نفسه، ويبحث فيها، ويكتشفها، ويقتل كل ما هو غير سار ويشتاق إلى ماهو سار (اللُه) ويؤسسه فيه. لأنه إذا وجد إنسان أنه فارغ من الأعمال الصالحة لماذا يشتاق إلى الأعمال الخارجية؟ وما المنفعة بكنز مملوء بالأشياء الصالحة مع ضمير فارغ؟ اتشتاق إلى الحصول على الأشياء الصالحة ولا ترغب لذاتك أن تكون صالحا؟ أنظر ألا يجب أن تخجل من الأعمال الصالحة إن كان منزلك مملوء بها وأنت المالك لها شريرا؟ أخبرني ماذا تريده أن يكون رديئا؟ أنني متأكد أنك لا ترغب شيئا رديئا (شررا)، لا إمرأة ولا ولد ولا بنت ولا خادم ولا خادمة، ولا مضيف (مسكن خلوي) ولا معطف ولا حذاء، ومع هذا فانك ترغب في أن تكون لك حياة شريرة. أتضرع إليك أن تفضل طريق حياتك عن حذائك. كل الأشياء الأنيقة وجميلة في نظرك- لها ثمنا عظيما عندك فهل تستخف بنفسك وبذلك تجردها من الجمال؟ لو أمكن لهذه الأشياء الصالحة – التي امتلئ بها منزلك والتي اشتقت إلى امتلاكها وخشيت فقدانها- أن تجيبك أما كانت تصرخ إليك (قائلة) كما أنك ترغب فينا أن نكون صالحين فنحن نرغب في مالك صالح؟
الآن في نبرات صامته تشهد ضدك أمام ربك “هذا لقد أعطيته أشياء صالحة كثيرة وهو نفسه شرير. ماذا ينفعه ماعنده عندما لا يكون له (اللُه) الذي وهبه كل شيء!
6- قد يسأل شخصا تصح بهذه الكلمات وتحرك ضميره بها قائلا: ما هو الصالح؟ ماهي طبيعة الصالح؟ ومتى يأتي الشيء الصالح حسنا لقد فهمت أنه من واجبك أن تسأل ذلك وسأجيب أنا عن أسئلتك قائلا بهذا: هذا هو الخير الذي لا يمكن أن تفقده بغير إرادتك، فالذهب يمكن أن تفقده ولو بغير إرادتك. كذلك المنزل والشرف وحتى الصحة الجسدية. وأما الشيء الصالح الذي به تكون بالحق صالحا فلا يمكن أن تناله بغير إرادتك ولا تفقده بغير إرادتك. إذن أسألك ما هي طبيعة الشيء الصالح؟ تعلمنا أحد المزامير أمر هام ربما يكون الشيء الذي نبحث عنه إذ يقول “يابني البشر حتى متى يكون مجدي عارا Heavy in heart، إلى متى تبقى تلك الشجرة في سنواتها الثلاثة الغير مثمرة؟ يابني البشر حتى متى يكون مجدي عارا” heavy in heart ما هو “مجدي عارا”؟ لماذا تحبون الباطل وتبتغون الكذب” ثم يردف بعد ذلك عما نبحث عنه بالحقيقة “أعلموا أن الرب قد ميز تقيه”(10) الآن قد جاء المسيح، لقد تمجد، لقد قام ثانية وصعد إلى السماء، الآن يكرز باسمه في العالم حتى متى يكون مجدي عارا؟ تكفي الأزمنة فالآن إذ تمجد تقيه حتى متى يكون مجدي عارا؟ ماذا تبقى بعد الثلاثة سنوات غير الفأس؟ الا زال يبحث عن الأشياء الباطلة، عديمة النفع، الطائشة. الغانية. الآن قد تمجد المسيح الواحد القدوس. الآن يصرح الحق عاليا أمازال يبحث عن الباطل، حتى متى يكون مجدي عارا؟
7- لقد وبخ هذا العالم بشدة لسبب حين لأنه قد عرف الآن كلمات سيده. لقد قال “ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلا(11) لماذا؟ حتى يبحث عن إرادة سيده. العبد الذي لا يعلم إرادة سيده هو العالم قبل “أن يمجد تقيه” لقد كان العبد الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات وبذلك يستحق ضربات قليلة. وأما العبد الذي يعلم إرادة سيده أي الآن منذ قدّس (لاهوته) قدوسه ويعلن إرادة سيده ولا يستعد و لا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا.
ما العجب إذن إذا ضرب العالم ضربات كثيرة؟ ان العبد “الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته يضرب على أن لا يرفض الضرب بضربات كثيرة لأنه بغير حق لم يسمع لمعلمه، وبحق ينبغي أن يشعر بواسطة المسيح ربنا الذي يحيا ويملك مع الآب والروح القدس أبد الأبد آمين.
————————–
(1) رو5: 6
(2) انظر يو1: 12
(3) مز1: 1: 1
(4)
(5)
(6)
(7)
(8)
(9)
(10) مز4: 3
(11) لو8: 12
+++
العظة الثالث والعشرون
عن كلمات الإنجيل مت13: 19 الخ حيث يشرح الرب مثال الزارع.
1- لقد سمعتم اليوم وبالأمس مثال الزارع على لسان ربنا يسوع المسيح. هل تذكرون أيها الحاضرون اليوم ما قيل بالأمس؟ لقد قرأنا بالأمس عن ذلك الزارع الذي عندما بذر البذار سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته. وسقط آخر على الأماكن المحجرة الذي احترق من حرارة الشمس، و سقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه ولم يستطع أن يأتي بثمار، وسقط أخر على الأر ض الجيدة فأعطى ثمرا مائة وستين وثلاثين”(1) وأما اليوم فقد تحدث الرب بمثال آخر عن الزارع “إنسانا” زرع زرعا جيدا في حقله وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانا في وسط الحنطة”(2) وإذ كان النبات ينمو لم يظهر الزوان بعد. ولكن لما أتى بثمر حينئذ ظهر الزوان أيضا. غضب عبيد رب البيت عندما رأوا بعض الزوان بين الحنطة الجيدة، وأرادوا أن يقتلعوها، ولكنهم لم يكلفوا بذلك إذ قيل لهم “دعوهما ينميان كلاهما معا إلى الحصاد” شرح ربنا يسوع المسيح هذا المثال أيضا وقال أنه هو الزارع الجيد، موضحا أن أبليس هو ذلك العدو الذي زرع الزوان، وأن وقت الحصاد هو إنقضاء العالم، وأن حقله هو العالم كله. ماذا قال السيد؟ “وفي وقت الحصاد أقول للحصادين أجمعوا أولا الزوان وأحزموه حزما ليحرق، وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني” لقد قال لماذا تتعجلون أنكم خدام مملوؤن حماسا؟ أنكم ترون الزوان في وسط العالم أنكم تشاهدون مسيحين أشرار بين الصالحين وترغبون في اقتلاع الأشرار. أهدأوا أنه ليس وقت الحصاد أنه سيأتي ذلك الوقت لعله فقط يجدكم حنطة. لماذا تكدرون أنفسكم. لماذا لا تحتملون بصبر إختلاط الأشرار بالأبرار؟ أنهم يكونون معكم في الحقل ولكن لا يكون هكذا في المخزن.
2- تعرفون الآن الأماكن الثلاثة التي ذكرناها بالأمس التي لم تنمو فيها البذار، وهي الطريق، الأماكن المحجرة، الأماكن المملؤة أشواكا، وهذه نفسها كالزوان. لقد أطلق عليهم أسماء مختلفة في تشبيهات متباينة لأنه حينما تستخدم الأمثال أو عندما لا يعبر بالمعنى الحرفي للاستطلاع فإن لا يعطي الحق بل ما يشبهه (أو يرمز له) أنني أرى قليلين فقط هم الذين فهموا ما أقصده ومع ذلك فانني أتكلم بما هو لنفع الكثيرين. في الأشياء المنظورة الطريق هو الطريق والأماكن المحجرة هي الأماكن المحجرة والأماكن المملؤة أشواكا، هي الأماكن المملؤة أشواكا، أنها كذلك ببساطة لأن الأسماء قد استخدمت في معناها الحرفي وأما في الأمثال والتشبيهات فانه يمكن للشيء الواحد أن تطلق عليه أسماء كثيرة. لذلك لا يوجد تناقض في قولي لكم أن الطريق والأماكن المحجرة والأراضي المملؤة شوكا إنما هي المسيحيين الأشرار وأنها الزوان أيضا.
ألم يدعى المسيح حملا؟ أليس هو أسد أيضا؟ ان الحمل بين الحيوانات المفترسة والقطعان هو مجرد حمل والأسد هو أسد وأما المسيح فكليهما. الأول بالنسبة لماهيتها في صفة التعبير، والآخر (المسيح) فكليهما معا في معنى رمزي. ليس شيء أكثر من هذا قد يحدث بجانب هذا أن يطلق أشياء مختلفة عن بعضها البعض اختلافا كبيرا باسم واحد. لأنه ما أشد الأختلاف بين المسيح والشيطان، ومع ذلك يدعى كلاهما بـ”الأسد”. المسيح يدعى أسد” هوذا قد غلب الأسد من سبط يهوذا”(3) . والشيطان يدعى أسد “اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه هو”(4) إذن كلاهما أسد الأول أسد بسبب قوته والآخر بسبب قسوته. احدهما بسبب سلطانه والثاني من أجل توحشه.
الشيطان حية “تلك الحية القديمة”(5) فهل نحن مطالبون بتقليد الشيطان عندما طلب منا راعينا “كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام”(6).
3- لذلك تكلمنا بالأمس عن الطريق، الأماكن المحجرة والأماكن المملؤة شوكا، وقلت لكم تغيروا بقدر استطاعتكم. اقلبوا التربة الصلبة بالمحراث أذيلوا الحجارة من الحقل، أزيلوا الأشواك منها، احذروا من أن تحتفظوا بذلك القلب القاسي الذي سرعان ما تعبر عنه كلمة الرب ويفقدها. احذروا من أن تكون لكم تربة خفيفة فلا تتمكن جذور المحبة من التعمق فيها. احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زرعت فيكم بجهادي- بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم. لأن اللُه هو الذي يزرع ونحن لسنا إلا فعلة. فكونوا “الأرض الجيدة” لقد قلت بالامس وأكرر اليوم للجميع ليأتي الواحد بمئة وأخر ستون وأخر ثلاثين. “تكون لواحد ثمار كثيرة ولآخر ثمار أقل ولكن للكل مكان في المخزن.
لقد تحدثت بالأمس عن هذا كله، والآن أخاطب الزوان، بل الخراف أنفسها هي الزوان ايها المسيحيون الأشرار، يا من تزحمون الكنيسة بحياتكم الشريرة، أصلحوا ذواتكم قبل مجيء الحصاد لا تقل قد أخطأت فأي سوء أصابني”(6)اللُه لم يفقد سلطانه بل يطلب منك توبة. أقول ذلك للأشرار الذين هم مع ذلك مسيحيون، أقول هذا للزوان. فانهم في الحقل ويمكن أن يكونوا حنطة غدا الذين هم اليوم زوانا هكذا سأوجه كلامي للحنطة أيضا.
4- يا أيها المسيحيون ذوي الحياة الصالحة، أنكم تتنهدون وتتأوهون لأنكم قلة بين كثيرين، قلة بين كثيرين جدا. الشتاء سيعبر والصيف سيأتي. لقد أوشك الحصاد أن يقترب وتأتي الملائكة الذين يقومون بالفصل دون أن يخطئوا. أننا حاليا نشبه أولئك العبيد الذين قيل عنهم “أتريد أن نذهب ونجمعه”(7) فإننا نرغب لو أمكن الا يبقى شرير بين الأبرار. ولكنه يخبرنا قائلا “دعوهما ينميان كلاهما معا إلى الحصاد”(8) لماذا؟ لأنكم إلى حد ما مخدوعين. اسمعوا أخيرا لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه”(9) أي صلاح تفعلون؟ هل بغيرتكم تفسدون محصولي؟ الحصادون سيأتون، ومن هم الحصادين الذين أعلن عنهم “والحصادون هم الملائكة”(10نحن لسنا إلا بشر واما الحصادون فهم الملائكة. حقا اننا في نهاية طريقنا سنكون مساوين لملائكة اللُه، وأما الآن إذ نحن متضايقين من الأشرار لسنا إلا بشر ينبغي علينا أن ننصت إلى تلك الكلمات “إذ من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط”(11)أتظنوا أيها الأخوة أن هذا الزوان الذي قرأنا عنه لا ينمو في هذا (الكرم) (12)؟ أتظنون أن جميعهم أدنياء وليس منهم من هو مرتفع هنا؟ ليهبنا اللُه أن لا نكون هكذا” وأما أنا فأقل شيء عندي أن يحكم فيّ منكم”(13) أنني أخبرك عن الحق أيها الحبيب. أنك لتجد كلا من القمح والزوان بين الكراسي العظمى وبين العلمانييون أيضا. ليت الصالحين يحتملون الأشرار، والأشرار يصلحون ذواتهم مقلدين الصالحين. ليتنا أن نحصل على اللُه استطعنا ذلك. لنهرب برحمة اللُه من شر هذا العالم لنبحث عن الأيام الصالحة لأننا الآن في أيام الشر، ولكن ليتنا لا نجدف في أيام الشر حتى يمكنا أن نصل إلى الأيام الصالحة.
————————–
(1) أنظر مت13: 3 الخ
(2) مت13: 24، 25
(3) رؤ5: 5
(4) 1بط5: 8
(5) رو12: 9
(6) مت10: 16
(7) حكمة يشوع5: 4
(8) مت13: 30
(9) مت13: 39
(10) مت13: 28
(11) مت13: 29
(12) أكو10: 12
(13) يقصد به الكهنوت
(14)1كو4: 3
+++
العظة الرابعة والعشرين
عن كلمات الإنجيل مت13: 52 “كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا وعتقاء”.
1- أيها الحبيب أن فصل الإنجيل ينبهني للبحث لكي ما أوضح لك بقدر ما يعطيني الرب من قدرة من هو ذلك الكاتب المتعلم في ملكوت السموات الذي “يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا وعتقاء” لأنه إلى هذا ينتهي فصل الإنجيل.
ما هي الأشياء الجديدة والعتيقة التي لكاتب المتعلم؟ من المعروف تماما من هم أولئك القدامى الذين يدعون بحسب تقليد كتابنا المقدس (كتبه) أي الذين يمتهنون معرفة الشرعية، لأن بعض اليهود كانوا يدعون كتبه وهم ليسوا كاؤلئك الذين تدعون كتبه في خدمة القضاء أو في عرف الدولة. لأنه ينبغي ألا تدخل مدرسة بدون هدف بل ينبغي أن يعرف معنى كلمات الكتاب المقدس حتى لا يخطئ السامع عندما نشير إلى أي (تعبير) يكون له معنى دنيوي آخر. فبالتفكير في المعنى التقليدي (الكلام) بغير ما يسمعه. الكتبة إذن هم الذين امتهنوا معرفة الشريعة واختصوا بحفظها ودراستها كما يختصون بنسخ كتب الناموس وتفسيرها.
2- هكذا هم أولئك الذين وبخهم ربنا يسوع المسيح لأن لديهم مفاتيح ملكوت السموات وما دخلوا هم والداخلين منعوهم”(1) في هذه الكلمات نجد أخطاء الفريسيين والكتبة- معلمي شريعة اليهود- هؤلاء الذين يقول عنهم في موضع آخر “فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون”(2) لماذا يقال لك “لأنهم يقولون ولا يفعلون” لا لأن يوجد بعض من قال عنهم الرسول موضحا بمثل الذي تكرز أن لا يسرق أتسرق. الذي تقول أن لا يزني أتزني. الذي يستكره الأوثان أتسرق الهياكل. الذي تفتخر بالناموس ابتعدي الناموس تهين اللُه. لأن اسم اللُه يجدف عليه لسببكم بين الأمم. أنه من الواضح تماما أن الرب يتكلم عن هؤلاء “لأنهم يقولون ولا يفعلون” هؤلاء إذن كتبة ولكن غير متعلمين في ملكوت السموات.
3- ربما يقول أحدكم “كيف يستطيع شرير أن يقول أمور حسنة مع أنه مكتوب على لسان الرب نفسه “الإنسان الصالح من كنز الصالح في القلب يخرج الصالحات والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور(3) يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار(4) وتارة يقول “كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار” وفي موضع آخر يقول “فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون “إن كانوا يقولون ولا يفعلون فإنهم أشرار، وإن كانوا أشرارا فلا يستطيعوا أن يتكلموا بالصالحات، فكيف إذن نعمل ما نسمعه منهم حيث لا نستطيع أن نسمع منهم ما هو صالح؟ أحذر أيها القديس والحبيب كيف يتضح هذا السؤال. إن كل إنسان شرير يخرج من ذاته ما هو شر، فكل ما يخرج الشرير من قلبه هو شر لأنه كنز شرير. وأن كل ما يخرج الصالح من قلبه فهو صالح لأنه كنز صالح. من أين إذن يأتي الأشرار بأشياء صالحه، ألم يقل أولا “جلس الكتبة والفريسيون على كرسي موسى “إنه لا يريد أن يأمر باطاعة الأشرار، لأن ما يخرجوه من كنز قلبهم الشرير يكون مختلفا عن ما ينطق به من على كرسي موسى.
هكذا ينادي الحاجب بما يقوله القاضي. إن ما يقوله الحاجب لا ينسب إليه ما دام يتكلم في حضرة القاضي. إنما ما يقوله الحاجب في منزله يختلف عن ما يقوله حسب ما سمعه من القاضي فعلى الحاجب إن أراد أو لم يرد أن يعلن بمنطوق العقوبة ولو كانت على صديقه. وهكذا عليه إن شاء أو لم يشأ أن ينادي بمنطوق البراءة ولو كان على عدوه. افترضوا أنه يتكلم بحسب قلبه، فانه يبرئ صديقه ويعاقب عدوه. هكذا بالنسبة للكتبة لو فرض أنهم تحدثوا بحسب قلوبهم فإنكم ستسمعون “لنأكل ونشرب لأننا غدا نموت”(5) . افترضوا أنهم تكلموا على كرسي موسى، فستسمعون “لا تقتل لا تزن” لا تسرق. لا تشهد على قريبك شهادة زور.. أكرم أباك وأمك..أحب قريبك كنفسك”(6) لتفعل إذن بحسب ما يعلنه الكرسي الرسمي على فم الكتبة، لا ما تتفوه به قلوبهم. لأنه هكذا هو احتضان كل أحكام الرب، فلا تطيع احدهما وتذنب بعدم طاعة الأخرى بل ستفهم أن كليهما يتفقان معا وسترى أنهما حقيقتان وهما أن “الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور” والأخرى أيضا وهي أن هؤلاء الكتبة لا يتحدثون بأمور صالحة من كنز قلبهم الشرير بل يستطيعون أن يتحدثوا عن أمور صالحة من كنز كرسي موسى.
4- لذلك لا تقلق من كلمات الرب هذه عندما يقول “كل شجرة تعرف من ثمرها” هل يجتنون من الشوك عنبا أو من الحسك تبنا؟”(7) الكتبة والفريسيين من اليهود هم شوكا وحسكا ومع ذلك “فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا(8) هكذا يجني العنب من الشوك والتين من الحسك إذ أعطاك الرب أن تفهم بالطريقة التي عرضتها لك. لأنه أحيانا تتشابك كروم العنب في دعامة الكرمة المشوكة وتتدلى عناقيد العنب من الحسك. ما أن تسمع اسم الشوك حتى تهمل التفكير في العنب، ولكن أبحث عن جذور الأشواك فستجدها وأبحث أيضا عن جذور العناقيد المدلاه فستجدها أيضا. وأعلم أن أحدهما تشير إلى قلب الفريسين والأخرى إلى كرسي موسى.
5- ولكن لماذا مكثوا هكذا على هذه الحال؟ يقول القديس بولس لأن “البرقع موضوع على قلبهم”(9) فلم يروا أن “الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدا”(10). لهذا السبب مكثوا هكذا وهكذا كل الذين هم حتى الآن يشبهونهم. لماذا هي أشياء عتيقة؟ لأنها نشرت منذ وقت طويل. لماذا هي جديدة؟ لأنها تنتمي إلى ملكوت اللُه. كيف ينزع البرقع؟ يجيب الرسول على ذلك “ولكن عندما يرجع إلى الرب يرفع البرقع(11) هكذا هو حال اليهودي الذي لم يرجع إلى الرب فانه لم يترك عينه العقلية أن تنظر إلى النهاية.
هكذا تماما مثل بني إسرائيل كرمز “لم يستمروا في النظر إلى النهاية”(12) أي إلى وجه موسى. لأن وجه موسى المضيء يتضمن رمزا للحقيقة كان البرقع يتوسطهم لأن بني إسرائيل لم يستطيعوا أن ينظروا إلى مجد وجهه أي رمز قد أزيل؟ لأنه هكذا قال الرسول “الزائل” لماذا هو بزائل لأنه عندما يأتي الأمبراطور تزول صورته لأنه ينظر إلى الصورة في غياب الأمبراطور وأما متى وجد الذي له الصورة فإنها تبطل. لقد حملت عدة صور قبل مجيئه أي قبل مجيء أمبراطورنا الرب يسوع المسيح وعندما أزيلت الصور ظهر مجد حضرة الأمبراطور. لذلك “عندما يرجع إلى الرب يرفع البرقع”(13) صوت موسى تردد خلال البرقع وأما وجهه فلم يكن يرى، هكذا صوت المسيح يدوي إلى اليهود عن طريق كتب العهد القديم المقدسة أنهم يسمعون الصوت ولكنهم لا يرون وجه المتكلم أيريد هؤلاء أن ينزع البرقع، ليرجعوا إلى الرب، لأن الأشياء العتيقة لم تنزع بل وضعت في كنز حيث يستطيع للكاتب من الآن أن يتعلم في ملكوت السموات” مخرجا من كنزه ليس جددا فقط أو عتقاء فقط لأنه لو أخرج جددا فقط أو عتقاء فقط لا يكونوا (متعلما في ملكوت السموات مخرجا من كنزه جددا وعتقاء).
إن كان يقول ولا يفعل بما يقوله فانه يخرج من الكرسي الرسمي وليس من كنز قلبه ونحن نقول بالحقيقة يا اخوتي المقدسين أن الأمور المستخرجة من العهد القديم تتضح بالعهد الجديد لذلك لـ “نرجع إلى الرب فيرفع البرقع”.
————————
(1) أنظر لو11: 52
(2) رو2: 21-24
(3) مت12: 35، 34
(4) إش22: 13
(5) لو6: 44 ومت7: 16
(6) أنظر مز20: 12 الخ.
(7) مت23: 3
(8) مت23: 3
(9)2كو3: 15
(10) 2كو5: 15
(11)2كو3: 16
(12)2كو 3: 13
(13) 2كو 3: 16
+++
باسم الآب والأبن والروح القدس
إله واحد آمين
———–
شكرا للعناية الإلهية التي سمحت لنا بترجمة هذا الجزء من عظات أبينا القديس أغسطينوس… ليتمجد اللُه في كل أعماله.
No Result
View All Result
Discussion about this post