الطريق إلى الفردوس
القديس باسيليوس الكبير
مترجم عن كتاب GATEWAY TO PARADISE Basil the Great
Edited by Oliver Davies NEW City Press Brooklyn, New York
إصدار: أبناء البابا كيرلس
ت: 2053240 القاهرة
المراسلات: ص.ب. 9542 – قرية الأطفال
مدينة نصر – القاهرة
يطلب من مكتبة سان رافائيل
1 شارع يلبغا بشبرا
اســم الكتــاب: الطريق إلى الفردوس
إصــــــدار: أبناء البابا كيرلس السادس
المطــــــبعة: مطبعة دير مارمينا بمريوط
رقــم الإيـداع: 11905 / 96
الترقيم الدولي: 7 – 40 – 5049 – 977
حياة وأعمال القديس
ولد القديس باسليوس حوالي سنة 330م في واحدة من العائلات المسيحية المضيئة في كل الأزمان، أبوه باسليوس كان ابن القديسة ماكرينا الكبيرة، وأمه إميليا كانت ابنة لشهيد مسيحي، اثنان من أخوة القديس باسيليوس أصبحوا أساقفة، منهم إغريغوريوس أسقف نيسا، الذي كان واحداً من الأطباء الروحيين العظماء في الكنيسة.
كان القديس باسليوس قد تعلم في مدارس فن البلاغة التي في وطنه قيصرية في كبدوكية، ثم في مدينة القسطنطينية. وأخيرا في أثينا. وهناك قابل وتصادق مع الخطيب العظيم إغريغوريوس أسقف نزيانزين. ورجع إلى قيصرية حوالي سنة 356 م وهناك شرع في عمله بفن البلاغة، ولما مال إلى أن يكرّس حياته بالأكثر إلى الله زار المراكز المهمة للحياة النسكية.
ونتيجة لما رآه هناك قرر القديس باسيليوس أن ينسحب وينعزل، فذهب بعيداً عن قيصرية الجديدة فتبعه بعض من الرجال حديثي السن الذين كانوا يفكرون في الحياة الرهبانية، فكتب القانونين اللذين اشتهر بهما، وأسس بهما حياة الرهبنة في المشرق التي ما زالت باقية إلى وقتنا هذا، والتي كان لها تأثير كبير على الغرب. وفي خلال هذه الفترة أسس القديس باسيليوس عدة أديرة، وفي سنة 364 م سيم كاهناً وفى سنة 370 م سيم أسقفاً للعاصمة قيصرية.
وكان القديس باسيليوس أسقفا نشيطاً جداً، فقد بنى المستشفيات للمرضى وأماكن ضيافة للمسافرين.
اشترك القديس باسليوس بقوة في الخلافات التي حدثت في هذا الوقت والتي كانت تتركز حول أريوس وتعاليمه التي قال فيها ” أن الابن ليس من نفس جوهر الآب من حيث الأبدية بل فقط هو أول خليقته ” واستمرت هذه الهرطقة سائدة لأن الإمبراطور فالنس دعّمها في الشرق، وتعرض القديس باسليوس الكبير لضغط هائل حتى يستسلم للإمبراطور والأريوسية ولكنه قاوم بشدة، وكان لكتاباته الكثيرة المتألقة في هذا الموضوع أثرها الكبير، حتى تم قهر هذه الهرطقة، وإسقاطها نهائيا في مجمع القسطنطينية سنة 381 م.
تنيح القديس باسليوس سنة 378 م، وترك تراثاً قوياً وافراً للكنيسة من لاهوتيات، ونسكيات، وطقوس ( القداس الباسيلي )، وفى هذا الكتاب نورد أجزاء من مقالاته البديعة عن: الفردوس
( مدينة الله )، والآلام والتجارب والأحزان كأدوية شافية لنفوسنا تجعلنا مستحقين لمدينة الله، ثم مقالات عن الإيمان الحقيقي، وهي مقالات مختارة تقرب الإنسان إلى معرفة الثالوث القدوس والشركة معه ليستحق الدخول إلى مدينة الله، ثم بعض مقالات نسكية تساعدنا في حياتنا الوقتية هذه، نافعة لكل المؤمنين. وأخيرا نورد في هذا الكتاب بعضا من مقالاته البديعة، تعبر عن جهاده الدءوب لجمع المسيحيين كلهم في وحدانية إيمانية أرثوذكسية.
نطلب من هذا القديس المجاهد العظيم أن يصلي عنا لكي يكون لنا نصيبا وميراثاً في مدينة الله، ثابتين على الإيمان القويم إلى النفس الأخير بالثالوث القدوس الذي له المجد والسجود إلى الأبد أمين.
طريق الكمال
من رسالة القديس باسليوس إلى صديقه إيوستاثيوس في سباستيا:
أنا أضعت وقتا كثيرا، وكرست معظم أيام شبابي في اقتناء العلوم الأرضية، التي تظهر لي الآن أنها مثل حماقة أمام الله. وفجأة في يوم استيقظت وكأني كنت في نوم عميق، ورأيت النور الشديد للحقيقة السمائية، وأدركت أن كل الحكمة التي تعلمتها من معلمي هذا العالم كانت باطلة، فبكيت بدموع كثيرة لأسفي على حياتي، وصليت ليعطيني الله بعض الإرشادات التي توصلني إلى حياة الإيمان.
أول كل شيء فعلته لأصلح مساري القديم في الحياة هو: إنني أختلط بالفقراء، وأمكث أقرأ في الكتاب المقدس.[1]
فكرت أن أفضل طريقة للبدء في طريق الكمال هو أن أعتني باحتياجات هؤلاء الأخوة والأخوات المعدومين، وأن أشترى أطعمه وأوزعها عليهم، ونحّيت جانبا كل متعلقات ومشاكل هذا العالم بعيدا عن عقلي بالكلية، وبحثت عن الذين يشاركونني هذا العمل ويسيرون معي في هذا الطريق، حتى وجدت من أبحر معه في محيط هذا العالم.
ووجدت كثيرين في الإسكندرية ومصر وآخرين في فلسطين وسوريا وميزوبوتاميا، وتأثرت كثيراً بطريقة اعتدالهم في تناول الطعام، ومثابرتهم في الأعمال، وطريقتهم في أن يقاوموا النوم بالصلاة والتسبيح. حقاً أنهم يبدون كأنهم قادرين على مقاومة أي قوة في الطبيعة، ودائما يعطون لأرواحهم السهر بالكمال حتى ولو كانوا يعانون من الجوع والعطش والبرد والعرى. لم يستسلموا لأهواء أجسادهم أو حتى يعطوه أي اهتمام، وكأنهم يعيشون في عالم آخر، ويظهرون بأعمالهم أنهم حقا غرباء عن هذه الأرض وموطنهم الحقيقي هو المملكة السمائية.
حياة هؤلاء الناس ملأتني بالسعادة والتعجب، لأنهم أظهروا أنهم حاملون في داخلهم جسد المسيح، ولهذا قررت – طالما أنا أستطيع – أن أحاول إتباع مثال حياتهم.
المقالة الأولى : الـفــردوس
جمال الفردوس:
” وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله ” ( تك 2: 8 ).
ليتنا نفكر الآن يا أصدقائي في طبيعة الفردوس، الذي يعتبر منحة من الله، هذا الفردوس الذي يعكس أسلوب وإرادة الخالق العظيم، فقد كتب: ” وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة ” ( تك 2: 9 ).
لقد أراد الله أن يكون الإنسان هو وحده متفوقا على كل شكل من أشكال الحياة الأخرى، والمكان الذي هيأه الله للإنسان، والذي خلق فيه كل شيء آخر من أجله، أراد الله أن يجعله بارع الجمال، أرضاً مرتفعة لا يمكن أن يُحجب نورها، فكان ذا جمال رائع في آمان تام، وكان بهاؤه يتألق ببريق يفوق كل شيء وينتشر شعاع ضوئه مثل نجم ساطع، فالمكان الذي غرس الله الفردوس فيه لا توجد فيه رياح عنيفة أو طقس موسمي، كما حافظ فيه على اتزان الحرارة، فلا تكون هناك زوابع ملتهبة أو ريح ثلجية أو عواصف رعدية عنيفة، فلا صيف حار، ولا خريف جاف، بل تناسب تام بين كل الفصول، يتعاقب كل فصل وراء الآخر بهدوء، وكل فصل له عطاياه المفرحة، وكانت الأرض مخصبة غنية تفيض لبنا وعسلاً، وتنتج أثماراً يانعة مختلفة، ومحاطة بمياه عذبة شفافة جميلة، تعطى سروراً للعيون، وتمنح الحياة بالحقيقة ” كان نهر يخرج من عدن ليسقى الجنة ” ( تك 2: 10).
قصد الله من خلقة الإنسان:
” وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حية، وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً، ووضع هناك آدم الذي جبله ” ( تك 2: 7، 8 ).
لقد خلق الله آدم، ثم في نفس اللحظة خلق الفردوس، وأدخل آدم إليه، حتى لا يخلق البشرية في عوز وفقر، لقد خلق الكمال منذ البداية، ثم أدخل الإنسان فيه، حتى يعرف الإنسان الفرق بين الحياة في الخارج والحياة التي تحدث في داخل الفردوس، فيدرك تفوق جمال الفردوس، وعاقبة السقوط والطرد منه.
” وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن، ليعملها ويحفظوها ” ( تك 2: 15 )، لابد أن نفكر في كلمات هذه الآية، وتقارنها بكلمات الرب يسوع المسيح له المجد لتلاميذه القديسين: ” أنا الكرمة وأنتم الأغصان ” ( يو 15: 5 ) وتعنى هذه الآية أنهم زُرعوا بيد الله، فينبغي أن نبدأ في النمو في بيت الرب ونمتلئ بالثمار في بيت إلهنا ” مغروسين في بيت الرب، في ديار إلهنا يزهرون “(مز92: 13)، قال أيضا داود النبي ” طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار….. فيكون كشجرة مغروسة عند مجارى المياه، التي تعطى ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل ” ( مز 1:1-3).
لقد كوّن الله المكان الذي يلائم استقبال البشرية، وغرس فيه كل نوع من الأشجار الجميلة، لتفرح قلب الإنسان.
كيف أضع أمام عينيك جمال مسكنك الذي طردت منه، فتشعر ليس بالحزن فقط، بل بالحنين إلى كل شيء فقدته، فتتذكر الجمال والسعادة التي كانت هناك، التي لم تختلط بالألم والتعب.
أما الآن في أرض الشقاء التي طُردنا إليها، فإن الزهور تخفى داخلها أشوكاً، فتشعر بالسعادة مع الألم، وذلك يرينا أن السعادة في هذا العالم دائماً ممزوجة بالألم، فلا توجد سعادة كاملة على الأرض، لأنها سرعان ما تشتبك مع الأحزان، الزواج مع الترمل، جلب الأطفال مع المتاعب، الولادة مع الموت، الشرف العظيم مع العار العظيم، الصحة مع المرض.
عندما أنظر إلى الظهور أحزن، لأن كل وقت أرى فيه زهرة أتذكر خطيتنا التي سببت فساد الأرض حتى أنبتت شوكاً وحسكاً بل إن الزهرة ينتهي جمالها في وقت قصير جداً، فتتركنا ونحن مازلنا نشتاق إليها، ومن اللحظة التي نقطفها فيها تبدأ تموت بين أيدينا.
ولكن في الفردوس كانت الزهور يانعة طوال السنة، ورائحتها الزكية لا تتلاشى، وجمالها البراق لا يزول، فهي تبقى جميلة إلى الأبد.
فجمال الزروع كلها يعكس عمل وإبداع الخالق العظيم، فالأغصان الكبيرة والصغيرة تحمل الثمار، سواء ذات الفرع الواحد أو ذوات الأفرع الكثيرة، وأوراقها خضراء جميلة، وتظل خضراء يانعة طوال السنة، حتى التي لا تحمل أثماراً فهي تعطى بهجة وسروراً، ولو قارناها بأي شيء في هذا العالم فمقارنتنا لن تكون كافية لتوصلنا إلى الصورة الحقيقية، فكل شيء هناك هو كامل ومتكامل، ” ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسنا جداً ” ( تك 1: 31 ).
ففي الفردوس كانت هناك جميع الطيور الجميلة، بريشها البديع بكل أشكاله وألوانه، وتغريدها العذب، فتنعش كل الحواس، ومع الطيور كانت كل أنواع الحيوانات تعيش في سلام وانسجام مع بعضها البعض، فلم يكن الثعبان موضع رعب، ولكنه كان أليفا لا يؤذى، ولم يكن يزحف على الأرض على بطنه، بل كان قائماً يتحرك على أرجله، وجميع الحيوانات التي نعتبرها الآن متوحشة وعدوة للإنسان كانت في هذا الوقت أليفة ورقيقة.
في هذه البيئة وضع الله الإنسان الذي خلقه، ” وأخذ الرب الإله آدم، ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ” ( تك 2: 15 ). فقد خلق الله آدم في مكان ثم أدخل إلى الفردوس، وبنفس الطريقة خلق أولاً النور ثم ثبته في السماء، خلق الإنسان من الطين، ثم وضعه في الفردوس.
في الحقيقة قد أبهجتك بوصفي سعادة الفردوس، ولكن شرحت لك في نفس الوقت الحياة الممزوجة بالألم هنا في هذه الأرض، وبالتأكيد سوف يدرك عقلك مقدار المقارنة، ويشتاق إلى مسكنه الحقيقي ويحاول أن يحصل على هذه السعادة التي وعدنا بها الوحي قائلاً: ” ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه ” ( 1كو 2: 9 ). ولكن من يستطيع أن يعرف ما لم تره عينه أولاً، وما لم تسمعه أذنه أولاً؟، لأن كل شيء ندركه بالحواس لابد أن يُطبع في الذاكرة، ولكننا عندما نشرح ونصف الفردوس بالطريقة الجسدية التي أشرنا إليها سابقاً، فأننا نستطيع أن نحس روحياً بواسطة الرموز مقدار جمال هذا المكان، لأنه كُتِبَ ” وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا ” ( تك 2: 8 ). فنجد أنه لم يخبرنا بكل شيء عن هذا المكان، ولكننا نستطيع أن نقول أن “عدن” هي السعادة أو “المتعة”، من أجل هذا لعلك تستطيع أن تعطى صورة للفردوس في عقلك حيث النور الإلهي، والسعادة الروحية، فإنك لو تخيلت مكاناً على الأرض يعيش فيه القديسون، متألقين بنور فضائلهم، ويتمتعون بنعمة الله، ويعيشون في حياة هادئة بالحق والعدل والسعادة، فهذا المكان لن يكون بعيداً عن الصورة المنطقية للفردوس.
السعادة الحقيقية:
ولكن ما هي هذه السعادة التي نقصدها؟ أهي الأطعمة التي تدخل الفم وتصل إلى المعدة وتخرج وتنتهي؟ أهذه العطية وهبت لجنس البشر بإحسانات الله، لكى تكون هناك معدة ممتلئة وجسم ممتلئ صحة، وشهوات وقتية؟ أهذا هو ما لا نستطيع أن نعبر عنه بالكلمات؟ هل السعادة الحقيقية هي أن نتكبر بقسوة ونطلب أن نسّمن أجسادنا، ونغرق نفوسنا في ارتكاب الخطايا والشهوات؟ لابد أن نعرف أن هذه كلها، هي بعيدة تماما عن السعادة، وبعيدة عن المعنى الذي من أجلها خلقها الله.
إذن ما هو نوع هذه السعادة التي تتفق مع الفضيلة والقداسة، ومع قصد الخالق العظيم ؟ .
في الفردوس تجد هناك الجموع الكثيرة من الملائكة الأطهار القديسين، وهناك الأساس المتين لكل الفضائل الروحية، هناك التسبيح الدائم وثماره النقاوة والطهارة، وهناك نهر ماء الحياة، نهر الله، الذي من عرشه تنبع المياه التي تبهج مدينة الله، التي صنعت وشيدت بالله ” نهرا صافياً من ماء حياة، لامعا كبلور، خارجاً من عرش الله والخروف ” ( رؤ 22: 1 ).
هذا النهر هو الذي ينبع من عدن ( السعادة الحقيقية ) ويروى الفردوس ” وكان نهر يخرج من عدن ليسقى الجنة ” ( تك 2: 10 )، هذا هو نهر التمتع الدائم برؤيا الله، والشبع الكامل بالتأمل في مجد المسيح وجماله، وفى سلامنا الدائم من أجل تواجدنا في حضرته.
هذه كلها أرشدت القديسين، ولابد لكل المؤمنين أن يقوموا بتداريب روحية صارمة، حتى يصلوا إلى حياة الكمال، هذه التي أرادها الله لكل سكان الفردوس.
عندما تفكر في هذا، ستشكر الله صانعها الذي خلق كل هذا لأجل سرورك، وبذل كل جهد حتى يجعلك مستحقا لها. وعندما تتجه إليه، حينئذ سيستنير عقلك وستفهم أساس خلقتنا، ومصير آخرتنا، له المجد إلى الأبد أمين.
المقالة الثانية : الآلام والتـجـارب والأحـزان
الله يسمح بالألم لأجل نفعنا:
إذا لحقت العواصف والأمواج العاتية بأية سفينة مسافرة في البحار، فإنها تتحطم وتغرق، إلا إذا كان قبطانها الذي يقبض على دفة السفينة خبيرا بالبحار، كذلك كل من يصادفه الضيق والتجارب والأحزان، يمكن أن تتحطم روحه، وأمله في الخلاص أيضا يتحطم، إلا إذا كان يسترشد بتعاليم إلهنا له المجد.
مهما كانت مشاكلك ، زارك الفقر، أو فقدت وضعك العالمي، وأجبرت أن تنزل إلى حياة مشينة، أو أصابك مرض أو ضعف، أو فقدت أحد أولادك أو أحبائك، أو ثقل عقلك أو قلبك بالهموم، أو تغطى جسدك بقروح الجذام، أو ابتعد عنك الناس وتجنبوك، لا تسمح لنفسك أن تنكسر بأي من هذه الأحزان الفظيعة، بل إسعى إلى السلام الداخلي في تعاليم الله، وحينئذ ستجد العزاء الكامل، إذا قرأت في تعاليم ووصايا سيدنا له المجد، فستصبح قبطانا جيدا تدير سفينتك إلى ميناء هادئة، وتجد نفسك منقادا إلى الهدوء والسلام الداخلي.
الله يؤدبنا لأنه يحبنا:
لا تفكر يا صديقي عندما تحل عليك واحدة من هذه المحن أن هذا نتيجة كره الله لك، فأرسل عليك هذه التجارب كعقاب، أو حبه قد تغير نتيجة لأفعالنا، بل إصغي إلى كلام الله من خلال حكمة سليمان قائلا: ” يا أولادي لا تبتعدوا عن التصاقكم بالله عند تأديبه إياكم لأن تأديب الرب هو علامة حبه لكم ” ( أم 3: 11 )، ( عب 12: 5 – 11 )، الوالدان لا يتوانيان في عقاب الابن المذنب الذي يحبونه جدا وكذلك المدرس غالباً يضرب التلميذ حتى يصلح سلوكه.
كذلك الله يؤدب الصدّيق حتى يجعله يعيش حياة أفضل في المستقبل، وأيضا ليؤنبه على أعماله السابقة. أنا سأثبت هذا الكلام من وحى الروح القدس، لكن قبل أن أفعل هذا سأريكم أن الله يسمح للصدّيق بالتجارب، حتى تظهر استحقاقاته بأكثر وضوح، كما قال معلمنا يعقوب في رسالته:
” احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة عالمين أن امتحان إيمانكم ينشئ صبراً وأما الصبر فليكن له عمل تام لكى تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء ” (يع 1: 2-4)،
ثم قال ” طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه ” ( يع 1: 12 ).
ولهذا يا أصدقائي لابد أن نفرح عندما نعانى آلاما متعددة، أو نجّرب بحروب عنيفة من قبل الرب إلهنا العادل. فأننا لا نفرح فقط إذا كان كل شيء يسير على ما يرام، بل نفرح عندما يكون كل شيء ضدنا، ونتذكر كلام بولس الرسول ” نفتخر على رجاء مجد الله وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضاً في الضيقات عالمين أن الضيق ينشئ صبراً والصبر تذكية والتذكية رجاء والرجاء لا يخزى لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ” ( رو 5: 2 – 6 ).
كثيراً من الفوائد تعطى للصديق من خلال خبراته في التجارب، وبنفس الطريقة الأرض لا تثمر وتصبح غنية ما لم يتعب فيها الفلاحون، ويعملون بجهد كبير في زراعتها، وبدون بذل هذا المجهود ليس فقط أن الأرض تقف عن إعطاء ثمرها لجنس البشر، بل ستتحول إلى النقيض وتنبت الشوك والحسك.
لهذا إذا لم يتحمل الناس المتضعين الآلام القاسية التي تجلبها عليهم المحن التي يتعرضون لها فأنهم سيقعون باستمرار في الخطية وينحرفون عن الطريق الصحيح.
لقد تعلمنا هذا من معلمنا بولس الرسول الذي كان رجلاً فاضلا بحق، وأُخذ إلى السماء الثالثة ودخل الفردوس، سمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها، وأكتشف أن التدبير الإلهي قد أرسل ملاك الشيطان ليعذبه حفظاً له من التكبر، فأعلن ذلك إلى أهل كورنثوس قائلاً: ” لئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع، من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني، فقال لي تكفيك نعمتي لأن قوتي في العف تكمل، فبكل سرور أفتخر بالحرى في ضعفاتى لكى تحل علىّ قوة المسيح، لذلك أسُر بالضعفات والشتائم والضرورات والإضطهادات والضيقات لأجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى ” ( 2كو 12: 7-10)
ليتنا نفرح ونتحمل بصبر كل شيء يجربنا به العالم، ونحن واثقين أننا دائما في الله.
لا نكون ساذجين بهذه الدرجة، حتى نتوقع أن بعدما نتمتع في هذه الحياة طوال الوقت برفاهية وفيرة، نأخذ أيضاُ في السماء عطايا في الحياة الأخرى.
منْ مِن القديسين استطاع أن يتحاشى أو يتحرر من أخطار هذا العالم ؟! فلو فحصت حياتهم بعناية ستجد أنه لا يوجد قديس واحد هرب من ضيقات هذا العالم، أو لم يعانى من تجارب هذا العالم بصبر، لكى يصل إلى حقيقة المجد الغير قابل للفساد.
كان لأب الآباء إبراهيم إيمانا عميقاً وأحب الله واستعد لأن يغمد السكين في جسد ابنه الحبيب إسحق، واختار أن يصير قائلا أفضل من أن يصير غير أمين لوصايا الله، وكأنه سمع مسبقا كلام مخلصنا حينما قال ” من أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني ” ( مت 10: 37 ) فلكي يكون مستحقا لله اتبع الوصايا الإلهية وقدم ابنه الوحيد كضحية، دون أي إحساس بالأسى. لأنه سوف يقتل وريثه الوحيد.
لماذا لم يشعر بالحزن؟ ذلك لأن قلبه كان مفعما بمحبة الله ونار إيمانه حطّم كل الأحزان. هذا هو نوع من الرجال الذين أحبوا الله بالحقيقة، والذي تكلم الله عنه وشهد له قائلا: ” الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنى ” ( تك 22: 12 )
كان لا يمكن بدون هذه التجربة والضيقات، وتحمله لكل شيء أن يستحق أن يدعى أبا لكل القديسين.
الله الطبيب السمائي:
يا أصدقائي لا تيأسوا عندما تصيبكم الأحزان، ولكن كونوا أقوياء شاكرين الله على كل شيء يرسله.
عندما يعاني جسدكم جميع أنواع الآلام لا تيأسوا، ولا تسمحوا لأرواحكم بأن تتحطم، أو تصرخوا ضد الله، بل بدلا من ذلك تذكروا مثال أيوب الذي أدهش الجميع بصبره، تذكروا عندما قال ” كما أراد الله سيكون وليكن اسم الرب مباركا ” ( أيوب 1: 21 ).
أنا أعرف أناساً تغطى جسدهم بآثار الجذام، ووصلوا إلى مرحلة من اليأس حتى اعتقدوا أن الله قد تخلى عنهم نهائياً، ولكن يلزم لكل واحد فينا أن يركّز نهارا وليلا ليدرك الأحكام الإلهية، إن الله عادل، وعدله أغلى من الذهب والحجر الكريم وأحلى من العسل، وهو الذي يقوم بالعلاج الحقيقي للأمراض لأن آلام المرض تستمر مدة قصيرة فقط أما الروح المتألمة فتستمر إلى الأبد.
صدقني يا صديقي أن الجسد لا يمكن أن يعود نظيفا بعد اتساخه بنفس الدرجة التي تصير إليها الروح بعد أن تنتقى.
ألا يحتاج الطبيب الذي يعالج المريض أن يفتح الجلد بالمشرط، أو في بعض الأحيان يحتاج على الكي ليستأصل الألم الذي يسببه المرض؟ إنك لا تعارض الطبيب الذي يفعل هذا، بل تكافئه بمنحة هدية. الله الطبيب السمائى بمشاعره الأبوية لديه الرغبة الأكيدة لمساعدة الذين خلصهم من الموت.
لهذا السبب يرسل لنا ضيقات وقتية حتى يحرّر أرواحنا من الضيقات التي تؤدي على موتها الأبدي.
لهذا يا أصدقائي مهما أرسل الله من محن، لابد أن نتقبلها بالرضي، وبدون تذمر، حتى نستحق أن نكون في مدينة الله، بل إنك ستشعر بالألم والأسى بالحقيقة، إذا حرمت من هذه المدينة، ولذلك تحمّل كل شيء بحكمة وإتضاع نحو الله، حتى تكون نفسك مستعدة وأهلاً لمواطنة هذه المدينة وهذا الفردوس وتكون إلى الأبد في العرس السمائي.
أسألك يا صديقي أن تضع اضطرابك ويأسك جانباً ولا تسمح للألم أن يوصلك إلى اليأس من المستقبل.
لا تصدق هؤلاء الناس الأغبياء الذين يعتقدون إنهم سيبعثون مرة أخرى يوم القيامة وأجسادهم ستكون في صورتها الحالية، إن هذه تفاهة وخرافة وليس لها أي أساس. في الحقيقة أنا اسأل من يعتقدون هكذا أن يدلوني في أي صفحة في الإنجيل يوجد هذا، أنا متأكد إنهم لو فحصوا الإنجيل بدقة سوف لن يجدوا هذه الأكذوبة وهذا الخطأ الفاحش. إن الجهل يخلق نفسا متعبة وعقلا فارغا، إن هذا هو دمار رهيب !.
دعونا يا أصدقائي نترك هذه الجهالة، ونعود لنجد الحكمة في كلمات الوحي الإلهي، ولننظر إلى القائل: ” علمني يا رب طريق فرائضك فأحفظها إلى النهاية، فهمني فأفحص ناموسك وأحفظه بكل قلبي، دربني في سبيل وصاياك لأني بها سررت ” ( مز 119: 33 – 35 )، فإنه إن علمك الله الطريق، فلن تتذبذب مع العواصف التي حولك.
احتمال الألم عربون القيامة:
تذكر الرجاء الذي كان في أيوب في وسط معاناته الصعبة, والقوة التي أظهرها عندما كان جسده ينهار بالألم. لأنه آمن أن الألم يحضر جسده ليوم البعث فقال: ” أما أنا فقد علمت أن وليي حي، والأخر على الأرض يقوم، وبعد أن يفنى جسدي هذا، وبدون جسدي أرى الله، الذي أراه أنا لنفسي وعيناى تنظران وليس آخر ” ( أيوب 19: 25 – 27 ).
أنتم أيضا يا أصدقائي لابد أن يكون فيكم هذا الرجاء، والثقة في أنكم ستصلون إلى بهاء الخلود في العالم القادم، لأنه بهذا الرجاء تصير كل الآلام الحاضرة سهلة وخفيفة لنتحملها. حقاً إن الألم لن يعتبر عقابا ونبعا للحزن، ولكن سيملأ روحنا بالفرح.
دعنا نتكلم باختصار على انتقال الجسد، منصتين إلى كلمات معلمنا بولس الرسول التي قالها باستفاضة ووضوح تام، للذين كانوا غير متأكدين بل ومتشككين في هذا الموضوع، سألوه كيف يقوم الموتى، وفى أي شكل؟ فأجاب قائلاً: ” يا غبي الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت، والذي تزرعه لست تزرع الجسد الذي سوف يصير، بل حبة مجردة ربما من الحنطة أو أحد البواقي، ولكن الله يعطيها جسما كما أراد ولكل واحد من البذور جسمه ” ( 1كو 15: 36 – 38).
حبة الحنطة التي تدفن في الأرض تبدو كأن ليس لها معالم الحياة، ولكن مجرد أن تثبت جذورها في الأرض تدفع بساقها، وتنتج سنابل متعددة، تلبس كل منها ثوبا نباتيا جميلا، هذا يفسر قوله أن الله يعطيها جسما كما أراد، ولكل واحد من البذور جسمه.
بنفس الطريقة الجسم الفاسد الذي يدفن في أعماق الأرض، لا توجد له حياة في ذاته، فهو كحبة الحنطة التي تظهر بذور الحياة، وذلك عندما يأمر الله في يوم القيامة أن يأتي، سوف لا يقوم فاسداً وفانياً، بل سيقوم عادم الفساد خالداً، لأنه مكتوب أيضاً ” هكذا أيضا قيامة الأموات يزرع في فساد ويقام في عد فساد، يزرع في هوان ويقام في مجد، يزرع في ضعف ويقام في قوة، يزرع جسماً حيوانياً ويقام جسماً روحانياً. يوجد جسم حيواني ويوجد جسم روحاني ” ( 1كو 15: 42 -44 )
هذا يعنى إن الجسد الذي لنا الآن سينتهي مباشرة بعد الموت. ويتعفن ويكون غذاء للدود، بل وحتى قبل الموت يأخذ جسدنا في الانحلال بصفة مستمرة حتى قبل خروج النفس، فجميع أطراف الجسد تبدأ تضعف. وتبدأ في عملية الانحلال.
أننا نعانى من الأذى ومن أسقام غير محصاة، جوع، عطش، تعب، شدّ عصبي، درجات مرارة متفاوتة، لأن في هذه الحياة نحن نتكون من جسد طبيعي وروح.
في الوقت الحاضر لنا جسم آدمي، ولكن في المستقبل سيكون جسم روحاني، لأنه يوجد جسم حيواني، وجسم روحاني، ويوجد بهاء آدمي وبهاء سمائي. البهاء الآدمي الذي نعيش به على الأرض مؤقت ومحدود، بينما السمائي لا نهائي وغير محدود، سيظهر عندما يتحول الفساد إلى عدم فساد، والفناء يتحول إلى خلود.
يا صديقي لا يوجد شك أنك ستحصل على الجسم السمائي، ولا تظن أنه لأن جسدك الحالي مغطى بالقرح الجذامية أو أي تشوه آخر أنك تحرم من البهاء السمائي لهذا السبب.
على النقيض كأمثلة لعازر وأيوب، إننا سنكون أكثر استحقاقا للدخول إلى الملكوت السمائي.
فقط سنمنع من الدخول إلى الملكوت إذا كانت خطايانا تبقى داخلنا، ونحرم من الملكوت إذا فكّرنا أن الله إلهنا القادر على كل شيء لا قوة له. الإنسان الذي يفكر في أن الله لا قوة له هو الإنسان الذي يعتقد أن الله لا يستطيع أن يصلحه ويغيّره. وبالتأكيد أنت لا تعتقد هكذا في الله الذي يمكن له أن يعيد الحياة من جديد وينعش الحياة الجافة ويحيى العظام واللحم. ألا يستطيع أن يحولهم إلى بهاء سمائي؟
أنك لا تستطيع أن توافق أن الله القادر على كل شيء يعجز عن هذا، وتنكر أنه لا قوة له في صنعها.
التجارب تؤدي إلى النمو الروحي:
ربما وصلت مرة من المرات إلى مرحلة اليأس من الحياة، وفكرت في أن كل الناس قد تخلوا عنك، وأنك محاط بالأحزان لأجل الخطايا التي ارتكبتها. ولكن يجب أن تعتبر هذا إعلان عن حب الله لك أكثر من كرهه لك، لأن الرب في هذه الحياة يحب أن يضبطنا لأننا أولاده، لكى تكون أرواحنا في الحياة الأخرى في حالة طهارة ونقاوة.
مكتوب في الكتاب المقدس ” لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله ” (عب 12: 6 ).
فلذلك إذا وجدت إنساناً ارتكب أخطاء عظيمة، ولم يعاقبه الله ولم يتألم جسده بأي نوع من الأمراض أو المحن، فتأكد انه متروك من الله لضخامة هذه الخطايا، وهذا الإنسان لا يعاقب من الله لأنه غير مستحق الخلاص. ولكن أنت توبخ حتى لا تُسلم إلى الموت الأبدي، يقول داود النبي ” تأديبا أدبني الرب وإلى الموت لم يسلمني ” ( مز 117 ).
حتى أورشليم عندما ارتكبت جريمة أمام الله بقتلها الأنب1: الذين أرسلوا إليها لخلاصها، عانت من الدمار والسبي إلى بابل حتى يرجع أولادها إلى المسار الصحيح، فهذا تأديب يؤدى إلى الإصلاح، فبعد انقضاء سبعين سنة رجعت المدينة مرة أخرى إلى مجدها السابق، وأظهر الله تحننه وأرسل لها كلمات التعزية على يد رجال الله الأنبياء القديسين قائلاً: ” قد رجعت على أورشليم بالمراحم…..، والرب يعزى صهيون بعد، ويختار بعد أورشليم ” ( زكريا 1: 16 – 17 ).
لو كنت مسيحيا بالحق فلابد أن تفرح لو قابلتك المصاعب لأنك ستكون أكثر استحقاقا. ولو كنت خاطئا فلابد أن تفرح لو تألمت لأنه بهذه الطريقة ستنظّف من خطاياك، وتجد عزاء في وقت رجوعك.
الآلام ذات فائدة في كل حالة، لأن الروح المنسحقة تعتبر ذبيحة لله، والله لا يحتقر القلب النادم والذليل.
إذا أدب الله خاطئا ما، ولكنه رفض أن يغير طريقه القديم، وأنتابه اليأس من الحياة وقال ” لا توجد لدىّ فرصة للغفران، الله تخلى عني، كل حياتي إلى الهلاك ولا أتوقع سلام بعد الموت “. مثل هذا الشخص يظهر علامات موته، ووقوعه تحت سيف اليأس، وينضم على تلك المجموعة التي يقول عنها النبي ” لم يرضوا مشورتي، رذلوا كل توبيخي ” ( أم 1: 30 ).
يا أصدقائي تحاشوا أن تصيروا هكذا بل لابد أن تستعدوا وترحبوا من كل القلب بحكم الله، كما قال داود النبي: ” إن كلماتك حلوة في حلقي أفضل من العسل والشهد في فمي ” ( مز 119: 103 ).
قساوة التأديب:
في بعض الأحيان يظهر التأديب أنه قاسى، ولكنه بعد ذلك يخف وينتهي في المستقبل، هذا التأديب يحولك عن الخطية ويوصلك إلى طريق الفضيلة. بسببه ستقهر الموت وتجد الحياة، ستتحاشى العقاب الفظيع في المستقبل، وتكسب الفرح الأبدي، ستتحول بعيداً عن الكبرياء وتتجه إلى السلام والخضوع لله، تذكر دائما القائل ” خير لي أنك أذللتني حتى أتعلم حقوقك ” ( مز 119: 71 ).
لو حفظت كل ما قلته لك ووضعته في قلبك، ودمت صادقا في النعمة والبركة، وكنت دوما تشكر الله، فإنك دائما ستشعر بروح الله في داخلك، لأن كل أحد يضع فكره في الله، فإن الله لن يتركه أبدا، سوف يخفف آلام الجسد، ويقوى قدراتك إلى المنتهى، وحتى لو كان جسدك مُغطى كله بجروح متقيحة، تستطيع أن تبقى في هدوء ذهني ونفسي منضبط ومتزن، بمساعدة إلهنا يسوع المسيح الحي الذي له المجد إلى الأبد آمين…
المقالة الثالثة : الإيـمــان الحـقـيـقـي
فكر الرب في عقولنا وقلوبنا
يقول داود النبي: “الرسول: أفكارك يا الله عندي، ما أكثر جملتها ” ( مز139: 17 ).
ويقول معلمنا بولس الرسول : ” لأنه من عرف فكر الرب فيعلمّه، وأما نحن فلنا فكـر المسيح ” (1كو 2 : 16 ).
إنه حقاً شيء جيد إن نحتفظ بفكر الله العلىّ في عقولنا، وأي إنسان مسيحي حقيقي لا يتوقف عن أن يفعل هذا.
ولكن لكى نعبّر عن هذا الفكر في كلمات، فهذه مخاطرة صعبة جداً، لأن ذكاؤنا غير كاف ليتعامل مع هذا الموضوع، واللغة التي نستطيع أن نعبر بها هي قاصرة وفقيرة عن وصف ذلك.
لكن الرغبة في تمجيد الله هي طبيعة موجودة في كل مخلوق عقلاني، إلا أن القدرة للتعبير عن هذا الموضوع بكفاءة ليست متساوية.
لا يوجد إنسان إلا ويرى في نفسه أنه قاصر وعاجز تماماً عن إدراك هذا، وكلما تعمق في الفهم في هذا الاتجاه فإنه يشعر أكثر بالجهل.
فبالرغم من أن الاثنان إبراهيم وموسى وصلا إلى أعلى قامة ممكن أن يصل إليها فهم البشر، إلا أنهما شعرا بضآلتهما أمام وجه الله، فقال إبراهيم ” أني فقط تراب “، وموسى فكّر في أن صوته ضعيف ولسانه متلعثم، لأنه وجده غير قادر على التعبير عن كنه القوة العقلية.
ولكن لأن جمهور المستمعين لي قد جاءوا ليسمعوا ما أتكلم به عن الله، ولأن الكنيسة دائما مستعدة أن تسمع، كما هو مكتوب “لا توجد نهاية للسمع ” ( جا 1: 8 )، أنا أشعر إنني مرغم أن أتكلم بأكبر قدر من قدراتي، وسوف لا أتكلم عن الله كما هو، بل سأتكلم عن الله كما نفهم نحن فقط.
ولذلك فإذا أردنا أن نتحدث، يعتبر هذا فوق طاقة قدرتنا، لأنه حتى لو كان لدينا لسان الملائكة في كل طبيعتهم الذكية، فلا نستطيع أيضا أن نقدم إلا جزيئات صغيرة في هذا الموضوع لو أردت أن تتكلم عن الله أو تستمع إلى الله فلابد أن تسمو بجسدك وحواسك، وتعلو بعيدا فوق الأرض والبحر، وتترك الغلاف الجوي السفلي ورائك وتسافر فيما وراء الزمن والإيقاع الطبيعي للأرض ونظامها، وتحلّق في الجو فوق الكواكب مع أشكالهم وأحجامهم المذهلة، وكل شيء يجعلها تسير في انسجام، وضوءها والوضع والحركة في التجاذب والتنافر مع بعضهم البعض، وعندما تذهب فيما وراء هذا ارتفع فوق في السماء وزد ارتفاعا وانظر حولك، وعقلك يفكر في هذا الجمال الذي هناك. الجموالله:ائية وجموع المرنمين من الملائكة ورؤساء الملائكة، ومجد هذه المنطقة، صفوف العروش، القوة، السلطة، الكرامة، وبعد أن مررت بكل هذا تأمل كل واحد منهم بعقلك.
في النهاية ستصل إلى الطبيعة الإلهية التي مازالت ثابتة، وهادئة، لا تتغير، بسيطة، نقية، واحدة لا تتجزأ، قوة تفوق الوصف، ومقدار غير محدود من المجد الذي لا يعبّر عنه، جمال لا يمكن أن تتصوره، الذي هو أداة جذابة حقيقية لأرواحنا المجروحة، ولكن لا تعبر عنها بالكلمات.
جمال الله :
الآن ما هو أعظم من الجمال الإلهي؟ ما هو أبهج من التفكير في روعة الله؟ ما هو أقوى من اشتياقات النفس التي تحل عليها نعمة من الله؟ تلك التي تنقيها من الشرور، وهي صارخة بالحب الحقيقي ” أنا مجروح بالحب “! بريق الجمال الإلهي يفوق كل عبارات ووصف، فالكلمات لا تستطيع أن تعبر عنه، وقوىّ السمع لا يستطيع أن يستقبلها، فلا تستطيع أن تقارنه بإشعاعات كوكب الصبح أو القمر المضيء أو ضوء الشمس في نصف النهار، كل هذه المقارنات بالتأكيد تفشل في أن تعبر عن الطبيعة الحقيقية لهذه الإضاءة السمائية. كمثل مقارنة ظلام الليلة الغير قمرية الدامس مع شمس ساطعة في منتصف النهار.
الجمال الحقيقي لا يرى بالعين البشرية، ولكن يلتقط فقط بالروح والعقل، عندما يحدث ويشع في واحد من القديسين، ويترك وراءه اشتعالا من الحنين الذي لا يحتمل، والقديسون الذين يدركون حقيقة هذه الحياة الحاضرة يصرخون دائما ” وحسرتاه لقد طالت حياتي هنا “، أو ” متى أجيء وأتراءى أمام حضرة الله ؟ “، أو ” لأنطلق وأكون مع المسيح هذا أفضل جداً ” أو ” عطشت روحي لله القـوى الحي “، أو ” الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام “.
لأن هذه الحياة تظهر وكأنها سجن لأرواحهم، التي تلامست بالإشتياقات الإلهية، فأصبحوا نادراً ما يستطيعون أن يتحكموا في رغبتهم الملحّة للانطلاق، ورغبتهم ليروا جمال السماء الذي لا يشبعوا منه، ويتضرعون أن يستمر تفكيرهم في محبة الله بدون انقطاع في الحياة الأبدية.
طبيعتنا البشرية تحب الجمال، والصلاح دائما جميل، ويستحق الحب، الله هو الصلاح وكل الأشياء تحتاج إلى الصلاح وبالتالي كل الأشياء تحتاج لله…
معونات الرب يسوع المسيح
من خلال الابن الوحيد جاءت كل أنواع المعونات للإنسان، وكل واحدة منها أخذت اسما خاصا بها.
فعندما يجتذب إليه النفوس الطاهرة، التي لم يشوبها شائبة ولا نجاسة، مثل عذراء عفيفة، فهو عندئذ يدعى ” عذراء النفوس “.
وعندما يؤدب ويعالج النفوس التي إنجرحت من ضربات الشيطان الذي أسقطها في الخطية، ففي هذه الحالة يدعى ” طبيب النفوس “.
إن كل اهتماماته العظيمة بنا لا تجعلنا نستهين بقوته العظيمة أو بمحبته الكاملة للبشرية، تلك التي جعلت مخلصنا له المجد يعانى معنا أسقامنا، وأن ينزل إلى حالتنا التي في الضعف.
لأنه لا السماء ولا الأرض ولا كل البحار والمحيطات ولا المخلوقات التي تعيش في الماء أو على الأرض، ولا أي من النباتات، ولا النجوم ولا الهواء ولا كل الفصول، ولا كل الموجودات المختلفة التي في الكون، تستطيع أن تظهر جيداً سمو جبروته. لأنه بالحقيقة هو الإله الغير محدود، الذي استطاع بغير استحالة أن يقابل الموت من خلال جسده، وبآلامه الخاصة، منحنا الحرية من المعاناة كما قال معلمنا بولس الرسول ” لكن في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا ” ( رو 8: 37 ).
هذه العبارة لا توحي ببساطة هذه المهمة التي قام بها ربنا له المجد، ولكن على العكس تبين لنا عظم المساعدة التي أعطيت لنا بقوة لاهوته، حتى نحصل على انتصارنا.
إن كلمة الله الخالق وحيد الجنس، هو مانح المعونة، وهو موزع مساعداته المتنوعة والكثيرة لكل الخليقة كل حسب احتياجه: فالمحبوسون في ظلام الجهل يعطيهم النور، لذلك هو يدعى ” النور الحقيقي “.
عندما يقبل التائبين فهو عندئذ الديان، ولذلك يدعى ” الديان العادل “، لأن ” الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن ” ( يو 5: 22 ).
عندما يقيم الساقطين من الحياة إلى أسفل الخطية، فهو يدعى ” القيامة “، لأنه هو الذي قام من الموت وبعث الحياة، هو ” الخالق ” لكل الأشياء بلمسة من قوته وإرادته الإلهية، هو ” الراعي “، هو ” المنير”، هو ” المغذى “، هو “المقوي”، هو ” المرشد “، هو ” الشافي “، هو ” المقيم “، هو الذي ” دعي الأشياء التي لم تكن “، وهو الذي ” يثبت الأشياء الكائنة “.
لذلك كل المعونات الجيدة تأتينا من الله خلال ابنه الوحيد الجنس، الذي يعمل في كل حالة بسرعة عظيمة أسرع من أن ينطقها اللسان، فلا البرق، ولا سرعة الضوء في الهواء، ولا لمحة العين، ولا حتى حركة الفكر، تماثل سرعة استجابته، لأن القدرة الإلهية تفوق كل هذا.
البــاراكليـــــت
الروح القدس لا يستريح في النفس البشرية إلا بعدما تبتعد هذه النفس عن المؤثرات والأهواء التي أتت عليها نتيجة مرافقتها للجسد، والتي أدت بالتالي على انتزاعها من صداقتها لله.
فعندما يتنقى الإنسان من العار الذي أصابه بوقوعه في الرذيلة، ويرجع إلى الجمال الأصلي لطبيعته، التي هي الصورة الملوكية النقية، وترجع النفس إلى شكلها الأصلي، بعد هذا يمكن لها أن تقترب إلى ” الباراكليت “، الذي هو مثل الشمس، يجعل عينيك النقية ترى الصورة الحقيقية، صورة الله الغير مرئي، وتنظر الصورة المباركة لله، وتقترب من صورة الجمال الغير منطوق به ” للباراكليت “.
من خلال ” الباراكليت ” ترتفع القلوب إلى أعلى، والضعيف يقوده من يديه إلى الطريق السليم، والذين يحاولون أن يتقدموا في حياتهم الروحية يصل بهم إلى حالة الكمال.
هو يشع على الذين نقّوا أنفسهم من كل دنس، ويجعلهم روحانيين بمرافقته لهم، تماما مثل الأشياء اللامعة والبراقة، التي عندما تسقط عليها أشعة الشمس، تظهر وكأنها أكثر لمعانا وبريقا، كذلك كل النفوس التي تحمل الروح القدس، تصبح مضيئة بالروح القدس، وهم أنفسهم يصبحوا روحانيين، ويشعوا على الآخرين بنعمتهم.
” الباراكليت “ هوالقدوس: لاء النبوة وفهم الأسرار، وإدراك الأشياء الخفية، والحصول على العطايا السماوية، ومواطنة السماء، هذا المكان الذي فيه جنود الملائكة، والسعادة التي لا تنتهي، الإتحاد بالله، ونصبح شبه الله، بل والأعلى من كل هذا هو أن نصبح آلهة، هذه فقط بعض من أفكارنا التي تتعلق بالروح القدس، التي تعلمنا أن نتمسك بها، فيما يخص عظمته وعزته وجلاله وأفعاله، التي ننطق بها بنعمة الروح القدس.
إنعامات روح الله القدوس :
من هم الذين لا تنتعش أنفسهم عندما يسمعون كلمة ” الروح القدس ” ؟!، ومن هم الذين لا يرتفع تفكيرهم إلى الكائن الأسمى؟!، لأنه يدعى ” روح الله “، ” روح الحق “، الذي ” ينبثق من الآب “،” روح الاستقامة “، ” الروح المرشد “.
إن كل هذه الصفات المقدسة هي مندمجة ومتحدة ولا تتجزأ، فإن المرأة السامرية التي كانت تعتقد أننا سنسجد لله في مكان معين، فإن مخلصنا الصالح – لهذا الاندماج الغامض – قال لها ” الله روح ” ( يو 4: 24 ).
عندما نسمع عن الروح القدس، فإننا من المستحيل أن نعتبره طبيعة محدودة، ويتعرض للتغيير والتبديل، مثل أي مخلوق، ولكننا لابد أن نعلوا بعقولنا إلى العلو التام، ونؤمن بكل قوة على اعتباره جوهر عاقل لقوة غير محدودة، وعظمة لا نهائية، لا تقاس بالأوقات ولا العصور.
إن الروح القدس هو كريم في عطاياه لكل المواهب الحسنة، إن لجأ إليه أحد يطلب منه المعونة التي يحتاجها للقداسة، أو يطلب منه أن يعيش في حياة الطهارة والفضيلة، فإنه يهبهم كلهم بعطاياه وهباته ومساعداته، حتى يصلوا إلى الطبيعة التي يريدونها، والنهاية الحسنة التي يرغبونها.
إن الروح القدس يكمل كل الأشياء، ولكنه هو بنفسه لا ينقص شيئا، لا يحتاج إلى إعادة حياة، وهو الذي يهب الحياة، لا ينمو بالتدريج، ولكنه كامل وثابت، ويوجد في كل مكان، هو منبع القداسة، وضوء العقل، ينير بذاته لكل عقل يطلبه بعد الإيمان به. يتعذر الوصول إليه بالطبيعة الجسدية، وصلاحه يشمل كل الخليقة، يحتوى كل الأشياء بقوته ويحل فقط في الذين هم مستحقين، لا يوزع هباته بمكيال واحد، ولكنه يوزعها بقدرته حسب درجة إيمان كل واحد.
هو روح بسيط، ولكنه يهب هبات مختلفة، كله موجود في كل واحد، وكله موجود في كل مكان.
هو يُقسّم بدون أن يشعر بألم، يوزع على الكل بدون أن ينتهي، ولكنه يبقى كاملا إلى الأبد، مثل أشعة الشمس التي تلقى بخيراتها على كل شخص فيتمتع بها، كما لو كانت الشمس قد وُجدت له وحده، وفى نفس الوقت هي تضيء على الأرض والبحار وتخترق الأجواء.
هكذا أيضا يكون الروح القدس لكل الذين يستقبلونه، كأنه قد أعطى لهم وحدهم، وبهذا يسكب قوة كافية ونعمة غير ناقصة على الكل، ويتمتع به كل الذين يشتركون فيه، ليس حسب قدرة الروح القدس، فهو قادر على كل شيء، ولكن بقدرة طبيعة هؤلاء الأشخاص واستعدادهم ونموهم.
الامتلاء بالروح القدس:
بالروح القدس يتم رجوعنا إلى الفردوس وصعودنا إلى الملكوت السمائى، وتعود بنوتنا الحقيقية كأولاد وبنات الله [2]، وتكون حريتنا كاملة لندعوا الله أبانا [3]، وتتم مشاركتنا في نعمة المسيح، ويطلق علينا مرة أخرى أولاد النور، لنشارك في المجد السماوي.
وباختصار امتلاؤنا بالنعمة في هذا الدهر، والدهر الآتي، ونحظى بالأشياء الجميلة المعدة لنا بالوعد، والتي ننظر نعمتها كما في مرآة، ونحن بشوق ننتظرها بالإيمان، كما لو كانت موجودة بالفعل.
إذا كان هذا هو العربون فما أعظم المكافأة النهائية؟! وإذا كانت هذه هي الثمار الأولى فما أعظم الامتلاء؟!
قوة الروح القدس:
ما هي أعمال الروح القدس التي لا توصف في عظمتها، ولا تحصى في عددها لكثرة تعددها؟
كيف نستطيع أن نكوّن فكرة على هذا الذي يمتد عبر الأزمان ؟ ما هو وظائفه قبل التي سيصنعها طعنا أن نتخيلها ؟ ما هي أعظم النعم التي سيصنعها ؟ ما هي مقدار القوة التي سيصنعها عبر الأزمان التي تأتي ؟ .
هو كائن، وقد كان، وسيكون فيما بعد، مع الآب والابن من قبل كل العصور.
لو استطعت أن تكوّن فكرة عما يمتد فيما وراء الزمان ؟! فأنك ستجد الروح القدس فيما وراء هذا !.
لو فكّرت في الخليقة فإن القوات السمائية قد أقسمت بالروح القدس، وإقامتهم في الحقيقة يكمن في أنهم لا يستطيعون أن يتركوا الصلاح.
لأنه بالروح القدس، هذه القوات ترافق الله على الدوام، وهي هناك لا تستطيع أبداً أن تتجه إلى الشر، بل تثبت في القداسة إلى الأبد.
حينما تجسد ربنا يسوع المسيح، حيث الروح القدس كان هو الفاعل، ومجيئه كان بالجسد، ولكن الروح القدس لم ينفصل عنه. أعمال المعجزات ومواهب الشفاء كانت تصنع بالروح القدس، الشياطين كانت تخرج بروح الله، الشيطان أنحدر إلى الجحيم في حضرة الروح القدس، الخطايا غفرت بنعمة الروح القدس، أنت أيضاً اغتسلت وتقدست وتبررت في اسم الرب يسوع المسيح، وفى الروح الذي لإلهنا، الروح القدس هو الذي يعطى التبعية لله، ” الله أرسل روح ابنه في قلوبكم صارخا يا أبا الآب ” ( غلا 4: 6 )، إقامة الموتى هي عملية الروح القدس ” عندما ترسل روحك تخلق، وتجدد وجه الأرض ” ( مز 104: 30 ).
لو فهمنا عملية الخلق بأنها تعنى أن ترجع الحياة للذين كانوا قد ماتوا، إذاً كم هو عظيم عمل الروح القدس، الذي يمنحنا الحياة في القيامة، ويجعل النفس تعيش في انسجام مع الحياة الروحية ( التي هي عتيدة في القيامة ).
إن نفوسنا ترتفع متعجبة بشدة من أن عملية الخلق هذه تعنى التغيير إلى الأفضل، لهؤلاء الذين سقطوا في الخطية، كما يقول معلمنا بولس الرسول: ” هكذا إذا كان أي أحد في المسيح فهو يكون خليقة جديدة ” ( 2كو 5: 17 )، التغيير في هذه الحالة يعنى التجديد في هذه الحياة، والتحول من الشهوات العالمية إلى الطريق السمائى الذي يحدث بفعل الروح القدس.
بالنظر إلى كل هذه الأشياء، بالحقيقة أخشى إن أكون قد تعديت الحدود في شرح الشرف العظيم الذي للروح القدس، أو أكون قد أنقصت منه، لأن أفكارنا البشرية هي قاصرة عن أن تفهم ذلك الذي هو أعظم الأسماء ( الروح القدس ).
الروح القدس يغيرنا:
ليتنا نعود للموضوع الأساسي، عندما ننقي العقل من كل الاهتمامات العالمية، ونترك وراءنا كل أشكال الحياة المحسوسة ونرتفع بأنفسنا مثل سمكة من الأعماق إلى السطح، الآن ومن خلال خليقة نقية، نستطيع أن نرى الروح القدس والآب والابن الذي في نفس الطبيعة والجوهر، يظهر نفس الخير والصلاح والقداسة والوجود. فقد قال داود النبي ” روحك صالح ” ( مز 143 : 10)، وقال أيضاً” روحك مستقيم ” ( مز 51: 10 ) وقال معلمنا بولس الرسول ” المعطى الحياة بفعل الروح ” ( رو 8: 11).
كل هذا ليس مستحدثاً أو جاء في الوجود متأخراً، لأن الدفيء لا ينفصل عن النار، ولا التألق عن الضوء، وأيضا قوة التقديس وإعطاء الحياة، مع صفة الخير والصلاح لا يمكن أن تنفصل عن الروح، لأن هنا تسكن الروح في الكيان الإلهي، وبالتالي لا نستطيع أن نحصيها في صيغة الجمع ولكن تظهر فقط في وحدانية الثالوث، وبدون انقسام. فبما أن الآب واحد والابن واحد كذلك الروح القدس أيضا واحد.
الملائكة القديسين الذين يسهرون على خدمة الروح القدس يظهروا لنا بشكل خاص أنهم يفوقوا العدد، ولكننا لا يجب أن ننظر إلى الخليقة بهذه الطريقة، بما يحدث خارجها، ونحكم على القداسة بالذين يُقدّسون، لأن الروح يملأ الملائكة ورؤساء الملائكة وهو يقدس قوتهم ويعطى كل شيء الحياة. فالروح القدس ينتشر من خلال كل الخليقة، ويعطى من جوهره بدون أن ينقص بمضي الزمان، ويوزع نعمته لكل شيء ولكن هو بالذات لا يتشتت، ولكن باستمرار يعيد امتلاء كل الذي يزوره
( المؤمنين به ) بدون أن يفقد أي شيء من نفسه، بالضبط مثل الشمس يشع ضوءها على كل شيء، وتعطى من نفسها،، ولكن لا يمكن أن تنقص بمرور الوقت، فالروح يجود بعطاياه ويبقى كاملاً غير منقسم، هو يضيء طريق الله لكل الذين يطلبونه، يلهم الأنبياء يعطى الحكمة للمشرعين، وروح الإرشاد للكهنة، يعطى القوة للملوك والثقة للنبلاء والحكام، يشفى المرضى ويقيم الموتى، يعتق الذين في القيود، يعول الذين لا عائل لهم .
إذا وجد عشاراً يجعله تلميذاً، وإذا قابل صياد سمكٍ يجعله ناطقا بالألوهيات، وإذا وجد مضطهدا للكنيسة يصيّره رسولاً ينشر الإيمان ويكون أداته المختارة.
وهكذا يعمل الروح الضعيف يصير إلى القوة، والفقير يصبح غنيا ، والجاهل يتحول إلى حكيم.
رغم أن بولس كان ضعيفا، ولكن وجود الروح القدس بداخله أعطاه قوة، حتى ثيابه كانت تشفى الأمراض.
وعندما كان بطرس محاطاً بالمرضى، كان ظله إذا وقع على أي مريض شفى في الحال من أسقامه.
بطرس ويوحنا كانا رجلان فقيران لا يملكا ذهبا أو فضة، ولكنهما أعطيا عطية شفاء الأمراض التي تعتبر ذات قيمة أفضل من أكوام من قطع الذهب.
فقد كان هناك رجل مقعد، الذي أخذ مالاً من كثيرين، ولكنه استمر يعطى، ولكن بمجرد أن أخذ عطية بطرس قفز مثل الغزال يمجد الله ولم يعد يستعطى مرة أخرى. يوحنا الذي كان يجهل حكمة العالم كان قادرا وشاكرا على قوة الروح حتى أظهر الحكمة التي تفوق حكمة الحكماء.
الروح في السماء ولكنه يملأ الكون، وحاضر في كل مكان، ولا يمكن أن يكون مقيداً، هو كله موجود في كل شيء وكله أيضا موجود مع الله. يوزع العطايا ولكنه يختلف عن أي أحد آخر يعطى، لأنه يعطى بكامل سلطته، كما قال ربنا يسوع له المجد : ” لأن كل من له يعطى فيزداد ” (مت 25: 29).
فإنه يجعل توزيعه بإرادته وبرغبته الحرة، ليتنا نصلى أن يكون دوما فينا، ولا يتركنا إلى الأبد، بنعمة إلهنا يسوع المسيح له القوة والمجد إلى الأبد آمين…
إيماننا ثابت:
أصدقائي الأعزاء رغم أننا صغار وضعفاء، إلا أننا كلنا متساويين أمام نعمة الله، التي لا يمكن أن تتغير بالظروف أو الأحداث، لأنه لا يوجد إيمان في سيلوكيا، وآخر في القسطنطينية، واحد في زيلا، واحد في لامبساكيوس وواحد في روما، والذين في المناطق المحيطة لا يختلفوا عن ذلك، لأن كل الإيمان واحد وغير مختلف، كلنا تعمدنا كوصية الرب يسوع، ولدينا إيمان ثابت لأننا تعمدنا على اسم الثالوث ونعبد الله كما نؤمن به.نحن لا نفصل الروح القدس عن الآب أو الابن، ولا ندّعى أنه أكثر أهمية من الآب أو الابن كبعض الهراطقة، الذين يحاولون أن يدّعو ذلك، من يتجاسر أن يرفض قوانين الله أو يقدر أن يرتب أسماؤه بالأوليات ؟! وأيضا لا ندّعى أن الروح القدس وُجد بعد الآب والابن، ولا أن دوره في الإرشاد بطريقة أو بأخرى أقل أهمية.
أننا نتأكد بالكلمات التي قالها الله ” كل خطية وتجديف يغفر للناس، أما التجديف على الروح القدس فلن يغفر لا في هذا العالم ولا في الآتي ” ( مت 12: 31 ).
احترس من التجديف على الروح القدس. استمر ثابتا على إيمانك وعندما تنظر حول الكنيسة تأكد أن جزءاً فقط منها هو المريض، أما الباقين كلهم استقبلوا الأخبار الجيدة إلى أبعد مدى وقبلوا هذا الإيمان الجيد والصحيح الذي نعلمّه.
نحن نصلي ألا نلقى خارجاً معهم في يوم الدينونة، عندما يوزع إلهنا يسوع المسيح مصيرنا كلّ حسب أعماله.
المقالة الرابعة : لكي نستحق مدينة الله ” الفردوس “
ثياب العماد المقدس:
من رسالة إلى بالاديوس عند عماده:
أنا أشتاق أن أراك، خصوصاً بعدما سمعت أنك قد أخذت الشرف الأعلى، والغطاء الخالد الذي إذ غطانا بالكمال، فهو قادر أن يهذب أجسادنا الفانية، إذ أن الموت يمتص داخل الجزء الذي لا يموت [4]،
إنك قد أصبحت بنعمة الله واحداً من المقربين إذ تحررت من الخطية، وفتح الله لك باب القصر السمائى، وأراك الطريق الذي يؤدى إلى هذا القصر المقدس، وأنا أدعوك يا من تفوقت في الحكمة أن تفرح بهذه النعمة وتفكر فيها، وتنظر لها حتى تحرس هذا الكنز الملوكي، الذي اؤتمنت عليه بالعناية التي يستحقها، فإذا حافظت على هذا الختم سليما حتى النهاية ستقف عن يمين الله، فستبرق مضيئاً في وسط إشعاعات القديسين، بدون أي تشوه أو فساد على ثيابك الخالدة.
احفظ أعضائك التي تقدست كواحد لبس المسيح له المجد، لأنه قيل ” كلكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح ” ( غلا 3: 27 )، فياليت كل أعضائك تكون مقدسة حتى تستحق أن تتغطى بهذا الثوب المقدس النوراني.
التحرر من الغرائز:
خلق الجنس البشرى على صورة الله وشبهه، ولكن بسبب الخطية تحطم جمال هذه الصورة، وتدنت الروح إلى أسفل بالشهوات الأرضية، وبالتالي فقدت البشرية تشابهها لله، وفقدت توافقها مع الحياة المؤبدة السعيدة، لأنه لا يمكن أن تشعر البشرية بالطمأنينة وهي بعيدة عن الله.
ليتنا نعود إلى حالتنا الأولى التي للنعمة، والتي طردنا منها بسبب خطايانا، ونعود مرة أخرى إلى صورة الله وشبهه، وبذلك نكون كالخالق في تحررنا من الشهوات.
أولاً: ليتك تستطيع أن تجعل حياتك في هدوء ولا تميل قلبك مع الشهوات، فإنك بذلك تحولها إلى الطبيعة الإلهية بقدر الإمكان، وبذلك ستعود روحك إلى صورة الله.
وعندما تصل إلى هذا التشابه مع الله فإنك ستصل أيضا إلى صورة الحياة السمائية التي تدوم بغير نهاية في الأبدية السعيدة.
وإذا كنا بتحررنا من الشهوات نستطيع أن نسترجع صورة الله التي تعطينا الحياة المؤبدة السعيدة، دعونا إذا نتجاهل كل الأمور، ونركز على التفكير في هذا الموضوع بالذات، وبذا سوف تتحرر أرواحنا ولا يمكن أن تسود عليها الشهوات مرة أخرى، بل وسيبقى عقلنا ثابتاً وغير مقهور أمام أي من الإغراءات، حتى نستطيع أن نشارك في قدسية الله.
البتولية إذا فهمناها بالحق، بحسب الإحساس الروحي، نستطيع أن نصل إلى هذا الهدف. لأن رفض الزواج لا يمكن أن يكون بتولية حقيقية، بل لابد أن تكون بتولاً في أمور حياتك وطباعك، وتظهر نقاء البتولية في كل شيء تفعله، لأن شهوة الزنا من الممكن أن ترتكب بالكلام، وأيضا بالنظر، بل وأيضا بالسمع، ويصير القلب كله دنساً وملوثاً، بل وإذا تعدينا حدود الاعتدال في الأكل أو الشرب نتدنس أيضاً.
لو استطعت أن تحكم نفسك في قانون البتولية هذا، ستجد نعمة البتولية بكل أشكالها كاملة في داخلك.
الطهارة ليست قاصرة على الجسد:
إذا أردنا بالحقيقة أن تكون أرواحنا شبيهه بالله، ومتحررة من الغرائز، حتى نستطيع أن نصل إلى الحياة الأبدية، دعونا إذا ننظر إلى حياتنا بالحقيقة ولا نخالف وعودنا، ويُحكم علينا مثل حنانيا ( أع 5: 1 – 11 )، لأن حنانيا كان قد وعد الله أن يعطيه كل أمواله، آملاً في أن يحوز مجداً من الناس، ولكنه بحجزه جزءاً من ثمن بيعه لممتلكاته، لم يجنى إلا غضب الله من خلال كذبه على معلمنا بطرس الرسول، ولم يكن له في قلبه مكاناً للتوبة.
فلهذا يا من أردت البتولية، الأفضل لك أن تتبع طريق الزواج الطبيعي مع الاهتمام بحياتك الروحية وتنفذ الوصايا الإلهية إذا لم تكن تستطيع أن تحفظ ما أردت.
أما من نذر البتولية لابد أن يحفظ نفسه وجسده طاهراً فلا يفعل كما يفعل البعض إذ يهتمون بطهارة أجسادهم فقط، بل يلزمك أن تعتبر أن كل نوع من التصرفات في سلوكك محسوباً عليك، فلابد أن تكون نقيا من أي رذيلة من رذائل هذا العالم: الغضب، الغيرة، الحقد، إهمال الصلاة، إهمال الوصايا، محبة الأشياء الفانية، ارتداء ملابس غالية الثمن، استعمال أدوات التجميل، المقابلات والمناقشات الغير ضرورية والغير مقبولة.
كل هذا تحتاجه بنفس الدرجة من اليقظة، لأن الوقوع في أي من هذه يعتبر خطراً على حياتك الروحية، لأنه في حالة وقوعك في أي من هذه التصرفات المرذولة ستتحطم نقاوة روحك، وتبتعد عن الطريق السمائي.
الذين زهدوا العالم [5] لابد أن يكونوا يقظين، ويحترسوا من أن يدنسوا ذواتهم التي هي أنية لله، لأنك لو أردت أن تكون كالملائكة، فإنك لابد أن تمر أولاً بحالة نقاوة الجسد، ثم تعبر بعد ذلك إلى مرحلة غير الجسدانيين ( الروحانيين ). لأن الطبيعة الملائكية ليست متحررة من قيود الزواج فقط، بل حائزة في داخلها على جمال الطبيعة الملائكية في أنها تنظر إلى وجه الله بصفة دائمة. لأنه لا يوجد أعظم من هذا، أن تنظر إلى وجه الله باستمرار، لأنك لو نذرت أن تعيش عيشة الملائكة ثم سمحت لنفسك أن ترتكب أي رذيلة من هذه السابق بيانها، فإنك في هذه الحالة تشبه من يلبس جلد النمر الذي شعره ليس أبيضا ولا أسوداً، بل أنه خليط من البقع السوداء والبيضاء، ولذلك لا تستطيع أن تصفه بأنه أبيضاً أو أسوادا، هذه هي حالة الذين يمزجون في أنفسهم بين حياة العالم والحياة المقدسة.
المُرشد في حياة الشركة:
كل الذين يريدون أن يعيشوا في حياة مشتركة لابد أن يكون لهم مرشد روحي، واحد يدبر الجماعة، ويختار بشروط معينة.
لابد أن يكون المرشد مثالاً أعلى في حياته وطباعه وطريقة أحاديثه، ولابد أن يكون سنه مناسباً، لأنه من الطبيعي للبشر أن يعطوا احتراماً أكثر للذين هم متقدمين في العمر.
فإذا اختير المرشد بحسب هذه الشروط، لابد أن تعطى له سلطة تامة، ويأمر بالطاعة الفورية له من كل الذين هم في نظام الشركة، مادامت هذه الطاعة تؤدى إلى حياة هادئة جيدة، وحياة تلمذة حقيقية، مثلما قال معلمنا بولس الرسول ” إننا لا نقاوم السلطات التي تفرض علينا من الله ” ( رو 13: 1 )، لأنه إذا فعل أحد ضد هذا، فلابد أن يعاقب من الله، فلابد أن يعلم الجميع أن هذه السلطة قد أعطيت له من الله حتى نضمن أن التقدم دون عائق طالما يعطى نصائح مفيدة ونافعة.
من أجل كل هذا لابد أن يكون القائد مثالاً صالحاً لكل الذين ينظرون إليه، وحاوياً في داخله لجميع الفضائل الروحية، ويكون مثل ما قال به معلمنا بولس الرسول: ” بلا لوم كوكيل الله، غير معجب بنفسه، ولا غضوب…….متعقلاً، باراً، ورعاً، ضابط لنفسه، ملازماً للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم، لكى يكون قادراً أن يعظ بالتعليم الصحيح ” ( تيطس 1: 7 – 9 )، وأعتقد أنه من المهم أن تفحص كل حياته، ولا ينظر فقط إلى عمره، لأنه ربما وجدنا تصرفات غير ناضجة لشخص ذو شعر أبيض ووجهه ملئ بالتجاعيد، وأيضا لابد أن تكون تصرفاته وأخلاقه ناضجة ومقبولة، حتى يكون لكل تصرفاته وأقواله قوة القانون، وله التقدم في هذه الحياة المشتركة.
أما من جهة العائشين في هذه الحياة المشتركة فأنه يتعين عليهم أن يتبعوا أسلوب معلمنا بولس الرسول، ويعملون بأيديهم حتى يأكلوا خبزهم اليومي، وهذا العمل أيضاً لابد أن يكون تحت إرشاد رئيس الدير، الذي ينظم أعمالهم حسب الحاجة، حتى لا نحتاج إلى الخروج خارج الدير لسداد احتياجاتنا اليومية.
لابد أيضا أن نتبع قانون الاعتدال في كل أمور حياتنا، فلا تغالي في النسك حتى الجوع، أو الإفراط حتى السمنة، لأن الإفراط في كلا الحالتين سيؤدى إلى أضرار متساوية، وبذلك نتجنب السير بالتهاون في حياة متساهلة أو نؤذى أجسادنا ونضعفها ونجعلها متكاسلة، لأن أرواحنا في كلتا الحالتين ستحرم من جهادها الذي تسعى بواسطته لتحصل على المواهب الروحية، لأنها ستكون محطمة ويتسلط عليها إحساس الألم، وتهبط إلى أوجاع الجسد الضعيف المريض.
لابد أن تكون حياتنا كلها وقت صلاة، حتى نصل إلى حالة الصلاة الدائمة.
مداخل الأديرة لابد أن تغلق أمام النساء، وتفتح فقط للرجال الأتقياء، لأن الزيارات المتكررة تعطي فرصة للمناقشات الغير ملائمة والغبية، التي تؤدي بالتالي إلى أفكار غبية وغير نافعة.
وبهذا لابد أن تكون القاعدة العامة إنه لو كانت هناك أية محادثة ضرورة يجب على رئيس الدير فقط أن يجاوب، أما الآخرين فلا يجاوبون على أية أسئلة توجه لهم من قبل الزوار لئلا يتحطموا من الكلام الغير مفيد.
لابد أن يكون هناك مخزن مشترك ولا يضع أحد فيه أي شيء خاص له مثل ملابس أو أحذية أو أي شيء آخر من المتطلبات الجسدية، مسؤولية رئيس الدير أن يقرر ماذا يفعل بهذه الأشياء ويعطي كل واحد حسب احتياجاته من المخزن المشترك.
المحبة داخل الجماعة:
قانون الحب لا يسح بالصداقات الشخصية داخل الجماعة، لأن المحبة أو المودة الشخصية ستؤثر بخطورة على الانسجام الكلى، يجب على كل واحد أن يعطى حباً متساوياً لكل أحد، ويحافظ على مستوى واحد من المحبة لكل فرد في الجماعة، ولو شعر أحد بإحساس محبة زائد لراهب زميله وقد يكون أخيه أو قريبه، أو حتى لا تربطه به علاقة، فأي عذر يقدمه يعتبر مرفوضاً ولابد أن يؤدب لأنه حطم كل المجتمع. لأنك لا تستطيع أن تحب إنساناً هكذا بدون أن يحدث نقص من محبتك للآخرين.
التأديب داخل الجماعة:
عقاب أي أحد يرتكب خطأ لابد أن يكون متناسباً مع مقدار هذا الخطأ، فيمكن أن يأدب بأبعاده عن التسبحة أو عدم مشاركته في الصلاة الجماعية أو إبعاده عن أن يشترك في الغذاء.
الأب الراهب المخصص لرعاية التلاميذ يقرر التأديب المناسب لهذا الجرم الذي أرتُكب.
الخدمة في الدير:
لابد أن تؤخذ بالدور، اثنين من الرهبان في تتابع كل أسبوع ليعملوا الأعمال الضرورية، وبالتالي الكل يشترك في أعمال الاحتياجات البشرية، ولا يسمح لأحد أن يتفوق على الآخرين في القيام بالأعمال الجيدة، وكل واحد يسمح له بالراحة لأن عند تعاقب العمل والراحة لا نشعر بالتعب والإرهاق.
الخدمة خارج الدير:
رئيس الرهبان لابد أن تكون له القدرة على اختيار من يعتبرهم مناسبين للخروج في رحلات إذا احتاجوا، ويبقى في داخل الدير الذين أفضل لهم عدم الخروج.
لأنه لابد أن تتذكر أنه عندما يكون الرجل صغير السن حتى لو أخذ كل الاحتياطيات ليضمن تحكّمه في نفسه، لابد أن يبعد عن أن يراه أحد حتى لا يعثر أحداً أو يُعثر بأحد.
لابد أن لا توجد أي علامة من علامات الحقد، الغضب، عدم التسامح بين الرهبان، ولا يسمح بأي حركة، لفتة، كلمة، نظرة، تعيير، أو أي شيء من هذا القبيل، فأي شيء من هذا يعتبر مزعجاً للجماعة.
لو وجد أي أحد مذنباً في هذه الأخطاء لا يسمح له بأن يدافع عن نفسه ليعتذر عن هذا الخطأ، لأن الخطأ هو خطأ بدون أي اعتبارات لأي ظروف دفعته لارتكاب مثل هذا الجرم.
عندما ينتهي اليوم، وكل الأعمال الجسمانية والروحية تنتهي أيضاً، كل أحد لابد أن يفحص ضميره قبل أن ينام، وإن كان قد ارتكب أي فعل خطأ، أو فكّر تفكيراً مرفوضاً، أو تكلم كثيراً أو أهمل في الصلاة أو أهمل حضور التسبحة، أو فكّر بحنين للعالم الخارجي، فلابد أن يعترف بهذه الخطية أمام كل الجماعة وبالتالي ستغفر له خطيته بصلواتهم جميعاً عنه.
الآن وقت التوبة:
نحن الذين تجمعنا هنا بنعمة الله، وهدفنا الواحد هو التعبد لله فقد تجمعنا في مكان واحد باسم إلهنا يسوع المسيح. لذا شعرت أنه لابد أن أتكلم: فلنتذكر باستمرار قول معلمنا الرسول بولس: ” ثلاث سنوات لم أكف ليلاً ونهاراً أن أحذر كل واحد منكم بدموعي “، والآن هو وقت مناسب، لأن هذا المكان يعطينا سلام وحرية كاملة من متاعب العالم الخارجي، ليتنا نصلى جميعاً أن يعطينا الخبز
( الحقيقي ) اليومي وتصلك نصيحتي، حتى تشبه الأرض المخصبة التي تنتج ثماراً ناضجة، وبكميات وفيرة كما هو مكتوب.
أنا أسألك بنعمة الله الآب وإلهنا يسوع المسيح الذي مات لأجل خطايانا، أن تظهر كل خبايا روحك وتتوب عن تفاهات حياتك السابقة، وتبذل قصارى جهدك حتى تفعل الأشياء التي تظهر عظمة الله الآب والمسيح والروح القدس.
ليتنا نترك حياة الفساد، حياة التهاون والاسترخاء، التي تجعلنا نفقد الفرصة إذا ظهرت، سواء الآن أو غداً أو في المستقبل البعيد، لئلا يأتي بغتة ويأخذ أرواحنا، ويلقى بنا خارج مكان العرس، حيث تذرف الدموع الغير مجدية، وبدون فائدة، ونرثى لحياتنا المريضة، ففي هذا الوقت تكون التوبة قد تأخرت جداً. قال معلمنا الرسول بولس : ” هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص ” ( 2كو 6 : 2 )، الآن هو وقت لنا للتوبة والعمل وليظهر صبرنا، أما في المستقبل فسنجد لنا للتوبة والعمل وليظهر صبرنا، أما في المستقبل فسنجد المكافأة والتعويض والراحة، لأنه في الوقت الحاضر يساعدنا الله لنقف ضد أفكار الشيطان، أما في المستقبل فسيصبح صارماً، وسيكشف بإصرار كل الأفعال والكلمات والأفكار.
الآن يمكن أن نتمتع برحمته المترفقة ولكن بعد ذلك سيظهر لنا عدله، عندما تقوم القيامة الثانية، فالبعض يقوموا إلى قيامة الدينونة والآخر إلى قيامة الحياة الأبدية، كل يحاسب كأعماله.
إلى متى سنستمر في تركنا للمسيح الذي دعانا لمملكته السمائية؟ أيمكننا أن نتناول الثمار الجيدة التي أعدت لنا بتركنا عاداتنا القديمة، حتى نعيش حياة كاملة كما نجدها في الإنجيل ؟
ليتنا نضع أمام أعيننا باستمرار هذا اليوم الرهيب المحدد لإلهنا، الذي فيه يأتي الذين عاشوا حياتهم، وهم يمارسون أعمال لائقة عن يمين الله، ويدخلوا إلى المملكة السمائية، أما الذين لم يفعلوا فيلقوا في نار جهنم حيث الظلام الدائم، وهناك يكون الصراخ وصرير الأسنان.
الجهاد القانوني:
كلنا نبتغي الوصول إلى المملكة السمائية، ولكننا نهمل الأشياء التي تضمن لنا الدخول إلى هناك. وبالرغم من أننا لا نعمل أي مجهود لتنفيذ وصايا إلهنا، مازلنا نتصور بجهلنا أننا سنكسب تلك الأمجاد، كالذين حاربوا ضد الخطية باستمرار حتى الموت.
كيف يملئون أيديهم بحزم القمح الذين في وقت الحصاد جلسوا في البيت لا يفعلون شيئا؟ كيف جمع العنب من الكرمة الذي لم يزرع ولم يبذل أي جهد؟ الذين يعملون يجنون الثمار والذين ينتصرون يتوجون في النهاية.
كيف ينال أحدٌ إكليلاً دون أن يستعد ليقابل خصمه أولاً؟ أيكفى أن نكون متنصرين ( أي مسيحيين )، لكن لابد أن نكون مجاهدين في ضوء الوصايا، ولكن نتمسك بكل الأوامر، لأنه له المجد لم يقل طوبى للعبد الذي يجده سيده يعمل هواه بل ” يعمل ما أُمر به “. لأنك لو عملت بحسب عقلك فقط ولكنك لم تسلك بالطريقة القانونية فيعتبر ذلك خطية عليك.
إذا شعر أحدكم أنه مقصر في شيء في وصايا إلهنا له المجد فلابد أن يجلس مع نفسه ويحاسبها، والرب له المجد وعدنا بأن يعطينا روحه القدوس ليعلمنا كل شيء.
قال الرب له المجد: ” الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير ” ( يو 12: 48 )، يقول ربنا له المجد أيضاً: ” وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد، ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيراً، ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلاً ” ( لوقا 12: 47 ).
ليتنا نصلي حتى أستطيع أن أعلمكم الكلمة بدون لوم وحتى تكون مثمرة داخلكم، وأننا نعلم أن كلمات الكتاب المقدس ستسبقنا إلى مكان العدل الإلهي للمسيح له المجد.
ليتنا نلتفت باهتمام لكل الكلمات التي قيلت لأجلنا ونسعى لتنفيذ وصايا الله، لأننا لا نعلم في أي يوم أو في أي ساعة يأتي الرب.
أنفصل عن الكل وأهتم فيما لله:
أي إنسان يريد بالحقيقة أن يتبع الله لابد أن يكون متحرراً من القيود التي تربطه بهذه الحياة، وحتى يحدث هذا لابد أن نغير تماماً طريقة حياتنا الماضية.
بالحقيقة لو لم نتحاشى دائماً الأفكار التي تستحوذ على عقولنا، ونتباعد عن متعلقات هذا العالم، لا يمكن أن ننجح في أن نفرح قلب الله، لابد أن نفكر بطريقة أخرى كأننا لعالم آخر، كما قال معلمنا بولس الرسول ” يبتغون وطناً أفضل أي سماوياً ” ( عب 11: 16 )، وربنا يسوع المسيح قال بكل وضوح” من لا يترك كل شيء ويتبعني لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً ” ( لو 14: 26 )، فلكي نصل إلى هذه الدرجة، لابد أن نكون يقظين على الدوام حتى لا تتشتت أذهاننا، بل لنتحفظ جيداً بالتفكير النقي في الله، حتى ينطبع في أرواحنا كختم لا يمحى.
فإذا حافظنا على هذا التدريب، فإننا نحظى بحب الله لنا، وهو أيضاً سيساعدنا لنحفظ وصاياه، وهى بالتالي تحفظنا بأمان حتى النهاية.
قال الرب يسوع المسيح له المجد ” الذي يحبني يحفظ وصاياي “، وقال أيضاً ” إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي”، وقال أيضاً ” كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته ” ( يو 15: 9).
ليتنا نضع الله في تفكيرنا:
الله يعلمنا أن نعمل وفقاً لإرادته، لأنه هو الذي أعطانا الوصايا، فلابد أن نحوّل كل إشتياقاتنا إليه، كما قال له المجد: ” نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني” ( يو 6: 38 ).
إن كل النشاطات اليومية المختلفة لهذه الحياة لها هدفها وطرقها الخاصة، كذلك الحياة الأبدية لها قوانينها وتداريبها التي نعمل في ضوئها كل أعمالنا، حتى ننفذ كل وصايا الله بحسب مشيئته. يستحيل لأعمالنا أن تكمل بالطريقة السليمة ما لم تنفذ تحت طاعته وبكل دقة، ولكي نكون حذرين ونعمل أعمالنا حسب إرادة الله، لابد أن نضع الله في تفكيرنا، كمثل الفنان الذي يعمل تمثالاً منحوتاً لشخص معين، لابد أن يضعه كل الوقت في ذاكرته، حتى يستطيع أن يعمل الشكل والحجم السليم، لأنه لو لم يضع هذا في عقله فأنه سيصنع شيئاً آخر يختلف عن المطلوب منه عمله.
وبنفس الطريقة وجب على كل المؤمنين أن يكرسوا كل أفكارهم وكل طاقاتهم، حتى يحققوا مشيئة الله، بكل حرص ونشاط حتى يفوزوا بقصده الإلهي وينالوا إكليل الحياة الأبدية، يقول داود النبي ” جعلت الرب أمامي في كل حين لأنه عن يميني لكى لا أتزعزع ” (مز 16: 8)، ويقول معلمنا بولس الرسول: ” فإذا كنت تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شيء لمجد الله ” (1كو 10: 31) ” هكذا يضئ نوركم أمام الناس ” ( مت 5: 16 )
رسالة إلى شعب ” ببريه “:
لقد وصلتنا أخباراً مفرحة عنكم أيها الأعزاء، وعرفنا جهاداتكم وصولاتكم العميقة، وكيف أن الرب قد كافأكم بثباتكم في إيمانكم بالمسيح له المجد. ربما تتعجبون كيف وصلتنا هذه الأخبار، ولكن الرب قد أكّد أن الذين يظهرون مثل هذا الإيمان الرائع، لابد أن يوضعوا في مكان بارز مثل المنارة، التي يشع ضوئها على كل العالم.
إن مكسب الانتصار يفوز به الغالب في النضال، ومهارة العامل هي التي تظهر فهمه للعمل، كذلك مثل هذه الأعمال لا يمكن أن تنسى أو تختبئ، فقد قال الله له المجد: ” فإني أكرم الذين يكرمونني ” ( 1صم 2: 30 )، هو سوف يكرم هؤلاء الذين يظهرون ثباتاً تاماً في إيمانهم بالمسيح له المجد، وسوف يمجدهم أمام الجميع مثل بريق أشعة الشمس.
نحن نبتهج ونصلى معكم ونطلب من إلهنا كلنا الذي نعمل لأجله وحده، ويده تساعدنا في جهادنا في هذه الحياة، أن يرسل لكم التشجيع، ويوقى نفوسكم، ويحضر أعمالكم أمامه حيث تجدون نعمة في عينيه، له المجد إلى الأبد.
لو كان المسيح في حياتنا – من خطاب إلى إيوباترياس:
أنا سررت عندما استلمت رسالتك الرقيقة، لأنك استطعت أن تعطى صورة كاملة عن نفسك فيما كتبت عن ” الذين يرغبون في الاختلاط مع الناس الذين يحبون الله، ويستفيدون بهذه العلاقة “، إن وصول مثل هذا الخطاب يوضح فهمك الكثير عن الله، وهذا وحده سبب سروري العظيم. إذ لو كان المسيح في حياتنا ، لكان كل كلامنا عنه، وكل شيء نفعله، وكل فكر يكون في إطار تعاليمه، وبذلك تكون أرواحنا على صورته.
لقد ثبتنا قانون الإيمان الذي تقرر من آبائنا في ” نيقيا ” لكل المؤمنين، وهو إن الابن متحد مع الآب ومن نفس الطبيعة، مساوٍ له في الجوهر نور من نور، إله من إله، صلاح من صلاح، وكل هذه الصفات التي وافق عليها الآباء القديسون، نشهد نحن عليها الآن ويشهد معنا كل الذين يتبعون خطواتهم.
المقالة الخامسة: تعاليم روحية نسكية
كيف يهيئ الراهب نفسه
الأساس الأول للذين يرغبون ويبتغون حياة الرهبنة هو أنهم لا يمتلكون شيئاً، وبعد ذلك لابد أن يبحثوا عن حياة العزلة، مرتدين لباساً بسيطاً، محافظين دائماً على أن تكون أصواتهم ونبراتهم في حدود الوقار، وهدوئهم يكون في تواضع، لابد أن يكونوا محافظين على السكوت التام في وجود من هم أكبر منهم، ويسمعون لمن هم أحكم منهم ويظهرون محبتهم لهم بتوقير واحترام، ويعطوا النصائح للذين هم أقل منهم بروح المحبة والوداعة.
لابد أن يتحاشوا الناس الذين يسببون لهم المتاعب، وعلى النقيض من ذلك يجلسون ويفكرون بتعمق ولا يتكلمون إلا قليلاً.
أثناء محادثتهم لابد أن يتحاشوا الغطرسة والثرثرة التافهة، والهزأ والضحك بل على الدوام يشعرون بإحساس الخجل، وأعينهم دائماً تكون ناظرة إلى الأرض، أما أرواحهم فتكون محلقة لأعلى، رافضين الجدال مع الذين يتشككون في طريقنا هذا. لابد أن يظهروا الطاعة لمدبريهم، وينشغلوا بأعمال يدوية ولا ينسوا أبداً هدف حياتهم الأساسي، متهللين بالرجاء، مظهرين طول الأناة في كل حين.
لابد أن يصلوا في كل حين معطين الشكر الدائم لله على كل شيء، متواضعين للكل ومتحاشين الكبرياء. لابد أن يكونوا جادين في كل شيء، محررين أنفسهم من الشرور، يبتغون كنزهم السمائى بحفظهم الوصايا، ويفحصون بدقة دائماً أفكارهم وأفعالهم، لابد إن يبتعدوا عن شهوات العالم والارتباطات الغير مفيدة لهذا العالم، ويمتنعوا عن الحياة المتهاونة، ويسعوا أن يقلدوا حياة الآباء القديسين. ويغبطون حياة الصديقين الذين يعيشون حياة الفضيلة ولا يحسدوهم على هذا، وعلى النقيض إذا قابلوا من هم في تجارب فليشاركوهم دموعهم وأحزانهم ولا يحاولوا أن يلوموهم على تقصيراتهم، ولا يعنفون أي أحد تراجع عن حياة الخطية ويريد أن يتوب، ولا يحاولوا أن يبرروا أنفسهم، ولكن يعترفوا دائماً أمام الله والناس أنهم أول الخطاة.
لا يلوموا المهمل بل يشجعون ضعاف النفوس والقلوب ويشددوا الضعفاء. لابد أن يغسلوا أقدام القديسين ويظهروا لهم حسن الضيافة والمحبة، ويوجدوا السلام في الجماعة الذين يشاركونهم الإيمان، ويتجنبوا الهرطقات، يقرأوا في كتب القوانين الكنسية، ولا يفتحوا أبداً الكتب الدينية المشكوك في صحتها، يتحاشوا المجادلة حول موضوع الآب والابن والروح القدس، ولكن يتكلموا دائماً ويفكروا بثقة وإيمان في الثالوث الغير مخلوق، إنه جوهر واحد، ولو سئلوا في هذا الموضوع لابد أن يجيبوا الإجابات المهمة فقط للعماد وتثبيت العقيدة، حتى يؤمنوا كما نحن أيضا تعمدنا، ويعبدوا الله كما نحن نؤمن به أيضاً.
لابد أن يكون وقتهم كله مشغول بالأعمال والكلام الجيد، ولا يحلفوا البتة ولا يقرضوا المال بالربا، ولا يحاولوا أن يأخذوا مكسباً أو ربحاً على القمح والنبيذ والزيت.
لابد أن يبتعدوا عن الأكل الكثير أو الشرب الكثير، وبعيدين عن التجارة، لا يكذبوا أو يشوهوا سمعة أحد، لا يسعوا أن يقللوا من شأن أحد، ولا يسروا بأي أحد يسمعون عنه أنه يفعل هذا، ولا يصدقوا الإشاعات. لا يسمحوا أن يصابوا باليأس أو السخط أو الكآبة، ولا يغضبوا سريعاً بل يهدأوا بسرعة. لا يردوا الشر بالشر، بل يكونوا مستعدين دائماً أن يقبلوا بسرور من يفترى عليهم أفضل من أن يفتروا هم على أحد ويقبلوا برضاء من يعتدي عليهم ولا يعتدوا على أحد، وكذلك من يخدعهم أما هم فلا يخدعوا أحداً.
فوق كل هذا يجب على كل راهب أن يبتعد عن أي علاقات مع النساء لأنهم يمكن أن يجعلوا الحكيم شارد الذهن.
يجب أن يتبعوا الوصايا بكل قدراتهم، ولا يستسلموا للفتور لكى ينتظروا مكافئتهم ومدحهم من الله، ويتشوقوا إلى تمتعهم بالحياة الأبدية، ولا ينسوا كلمات داود النبي ” جعلت الرب أمامي في كل حين لأنه عن يميني كي لا أتزعزع ” ( مز 16 )، لابد أن يحبوا الله من كل قلبهم وقدرتهم وفكرهم ونفسهم مثل الطفل، ومثل عبيد لابد أن يحترموا ويخافوا ويطيعوا الله، ويعملوا لخلاصهم بخوف ورعدة. لابد أن يظهروا قوة الروح، بنموهم دائماً بالروح القدس، متقدمين في الإيمان، ومحاربين لهدف واحد هو أن يقهروا عدوهم بإضعاف جسدهم ومسكنة روحهم، حاملين وصايا الله معترفين أمامه أنهم لا شيء. لابد أن يقدموا الشكر لله القدوس المرهوب، ولا يفعلوا شيئاً يؤدى إلى خلق نزاع أو مجد ذاتي، بل كل ما يفعلونه يؤدى إلى إرضاء الله.
لا يفتخرون ولا يتباهون بأنفسهم، أو يسرون عندما يسمعون مديحهم من أفواه الآخرين. لابد أن يتمموا كل شيء بسرية وبدون تباهى منتظرين فقط المديح من الله متذكرين مجيئه المهوب والمجيد، عندما يتركون هذا المكان ويتمتعون بالأشياء الجميلة المعدة لهم من قبل الله، أو يعاقبون في النار المعدة للشيطان وملائكته. لابد أن يتذكروا القول الرسولي: ” فأني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا ” ( رو 8: 18 )، لابد أن ينظروا للمستقبل ويقولون مع داود النبي ” طوبى للذين يحفظون وصاياه لأن لهم مكافأة عظيمة “: الجزاء العظيم، أكاليل الاستقامة، مسكن الأبدية، الحياة التي لا تنتهي، الفرح الغير موصوف، الحياة مع الآب والابن والروح القدس، الله الحقيقي في السماء سيظهر لك مباشرة مع مجموعة المرتلين، بمشاركة الملائكة والآباء والشيوخ والأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين والذين أرضوا الرب منذ البدء.
ليتنا نجاهد حتى نوجد مشتركين معهم بنعمة إلهنا يسوع المسيح له المجد والعزة إلى الأبد آمين.
السكون – رسالة من القديس باسيليوس الكبير إلي صديقه القديس إغريغوريوس:
إن البعد عن العالم قدم لنا فرصة ممتازة لنهدئ نفوسنا، ونأخذ وقتاً كافياً لنطرد انفعالاتنا الرديئة من نفوسنا، لأنه كما يروض الحيوان المفترس بالعصا، كذلك أيضا يمكن بالبعد عن العالم، أن نهدّأ غضبنا، وخوفنا، وضغوطنا العصبية التي تسمم أجسادنا وتحطم نفوسنا، وبذلك نستطيع أن نعيش في جو من السلام الذي فيه نتحرر من الإضطرابات المستمرة، ونضمن لنفوسنا أن تخضع بسهولة للطريق السليم.
لابد أن نبحث عن مكان منفرد، نجعله بعيداً بعداً تاماً عن الاتصال بالآخرين، ولعلنا بذلك نستطيع أن نتقدم في خبراتنا الروحية، في طريق بلا عثرات، وتتغذى نفوسنا بفكر الله.
لا يوجد في هذا العالم أفضل من أن نتشبه بالملائكة المرتلين، فعند ابتداء اليوم نقدم الصلوات والتراتيل لكرامة الخالق، وبعد أن تظهر أشعة الشمس، نخرج إلى العمل ونمزجه بالصلاة والتراتيل، حتى يخفف أعبائنا، لأن ألحان التراتيل تجلب السرور، وترفع آلام نفوسنا.
الهدوء هو الخطوة الأولى لتنقية أرواحنا، فعندما لا تتكلم عن أمور البشر، توقف فوراً عن أن تنظر حولك، بحثاً وراء تقييم البشر. لا تبدد هدوء نفسك، بأن تنشغل بالأصوات العذبة، أو الألفاظ المنمقة، فكل هذه تسبب ضرراً عظيماً للنفس.
إن النفس التي هي ثابتة وغير مشتتة الفكر في العالميات، تستطيع بسهولة أن ترجع إلى ذاتها، وتبدو مسرعة في رحلة بعيدة، لتكون واحدة مع الله، ثم تنمو وتلمع وتتألق مع الجمال السمائى، وتبدأ في أن تنسى طبيعتها، فلا تفكر في الطعام أو الملبس الجسدان الذي يشغل النفس، ولكنها تترك جميع الأشياء الدنيوية، ومتطلبات الحياة الفانية، وتركز بكل قوتها، حتى تصل إلى الصلاح الأبدي.
بالتأكيد لا توجد طريقة أخرى أفضل من هذه التي تحدثنا عنها، حتى تصل بشجاعة إلى العدل والاعتدال في جميع أمورك، وتدرك كل الفضائل الأخرى بمختلف صفاتها، هذه التي حرص المتضعون لاقتنائها، فسلكوا سلوكاً حسناً في كل أيام حياتهم.
نصيحة إلى شاب يعيش حياة الوحدة
حيث إنك تعيش حياة انفرادية مليئة بالإيمان والتقوى، لابد أن تتعلم كيف تعيش كما يحق لإنجيل يسوع المسيح.
درب نفسك بالتحكم في جسدك، واخضع أهوائك، و أسعى إلى نقاوة فكرك، وكيف تتحكم في غضبك.
إذا تجندت للمسيح له المجد، فضع أمامك هذه الأمور لخدمة الله:
لو سُرقت فلا تلجأ لمحاكم العالم.
اظهر محبتك تجاه الذين يكرهونك، وتحمل الذين يضطهدونك.
وإن افترى عليك أحد فتعامل معه برفق.
كن كميت للخطية، وأصلب نفسك لله.
ركّز كل طلباتك تجاه الله وأنت تصلي، حتى يمكنك أن تجد مكاناً وسط الأعداد التي لا تحصى للقديسين، وفى أماكن الأنبياء وبين عظمة الآباء، وأكاليل الشهداء، ومدح المستحقين، أنت أيضاً لابد أن تظهر كل اشتياق، وتتأكد من أنك ستصبح معدوداً مع المستحقين في المسيح يسوع إلهنا، له المجد إلى الأبد آمين.
” الكتاب المقدس ” هو المرشد الحقيقي:
إن أفضل مرشد إلى الطريق الصحيح، تستطيع أن تجده هو دراسة الكتاب المقدس بجدية، وفيه نجد الأساس الذي يبنى حياتنا، ففيه حياة الشخصيات العظيمة التي عاشت مع الله، وهى تشجعنا للإقتداء بها.
إن كل إنسان يمكنه أن يركز على الجزء الذي يشعر أنه ينقصه فيجده كمصحة، لنعالج فيها كل مشاكلنا الخاصة.
عندما تريد أن تهذب نفسك وتروضها، اقرأ وأعد قراءة قصة يوسف الصديق، ومنها تتعلم كيف تمارس ضبط نفسك، وتتعلم كيف كان يوسف قوياً وثابتاً أمام الشهوة، وكيف كان ثابتاً في الفضيلة.
كذلك انظر إلى أيوب البار وكيف كان شجاعاً أمام المحن، فقد عانى من انقلاب حياته، فبعدما كان رجلا غنياً وأباً لأولاد كثيرين، تحطم في ساعة واحدة إلى الفقر وفقد كل أولاده، ولكنه رغم كل هذا فقد استمر ثابتاً ولم يتغير أبداً، ولم يتحول عن ثباته، حتى إنه أظهر غضبه نحو أصدقائه الذين أتوا ليعيروه فأهانوه وزادوا من أحزانه.
إذا أراد أحد أن يكون عطوفاً على الآخرين، وفى ذات الوقت حازماً تجاه الخطية، لابد له أن يتأمل مثال داود النبي، الذي كان قوياً في وسط الحروب، ولكنه كان رحيماً شفوقاً في رد فعله تجاه أعدائه.
موسى النبي أيضاً أظهر نفس المثل، عندما أعلن غضبه العظيم نحو الذين أخطأوا نحو الله، ولكنه كان يحتمل الذين افتروا عليه.
كن كمثل الرسام الذي يريد أن يرسم صورة لشيء ما، فأنه ينظر إليه ثم ينقل نظره إلى عمله الذي يعمله، محاولاً أن ينقل نفس الصفات إلى رسمه، كذلك كل الذين يريدون أن يكملوا نفوسهم في أي فضيلة، لابد أن ينظروا إلى حياة القديسين، ويقلدوا فضائلهم، ويحاولوا تطبيقها في كل نواحي حياتهم.
كيف نصلي
عندما نعود للصلاة بعد قضاء وقت القراءة، نجد نفوسنا متجددة ومنتعشة بالروح القدس، وتتحرك بشوق إلى الله، لذلك فإن أفضل طريقة للصلاة هي أن نحاول أن نغرس في أذهاننا فكرة واضحة عن الله ( من خلال القراءة في أقواله المقدسة )، وبذلك نصنع مكاناً لوجود الله داخلنا، أننا نصبح هياكل لله عندما نتأمل فيه باستمرار، ولا نجعل الهموم الأرضية تعوق تأملنا، ولا ننزعج بالانفعالات الواردة إلينا.
وهكذا يلزم الهروب من هذه كلها، فإن النفوس التي تحب الله تستطيع أن تصل إلى الله، إلى هو قادر إن يقصى عنها كل الأمور التي تجذبها إلى الشر، ويقرب لها بثبات كل الأمور التي تقودها إلى الفضيلة.
آداب الحديث
ينبغي أن نبذل قصارى جهدنا في اختيار طريقة أحاديثنا وألفاظنا، فلا نحتد عندما لا يروق لنا محدثنا، أو نجاوب بغرور أو اعتقاد في ذواتنا، أو نستعرض جهاداتنا، ولا نقاطع أي أحد عندما تكون لديه أشياء مفيدة يقولها، ونتلهف لنقاطعه لنشترك في الحديث، لنظهر حكمتنا ومعرفتنا، بل ينبغي أن نلاحظ متى نتدخل في الحديث ومتى ننصت.
يجب أن لا نكون مغرورين بعلومنا، ولا أيضاً نبخل في أن نشترك بالمعلومات التي لدينا.
لو تعلمنا شيئاً من شخصا ما، فلا نحاول إخفاء مصدره الحقيقي، ونكون مثل الذين يحاولون بالكذب أن يسجلوا الأولاد كأولادهم الشرعيين وهم ليسوا كذلك.
يجب أن نتأكد من المعلومات التي تقال لنا بدون محاباة، نبرات أصواتنا يجب أن تكون متوسطة، فلا تكون خافتة جداً حتى لا تسمع، ولا تكون قوية جداً حتى تزعج الأسماع.
لنفكر جيداً، ونتأنى بدراسة دقيقة، عندما نجاوب أو نتكلم، ولابد أن نبذل قصارى جهدنا حتى لا نثير المتاعب لمن يتحدث إلينا، ونكون لطفاء في وسط الجماعة.
لا نحاول أن نمتع نفوسنا، بأن نكون أصحاب نكتة، ولكن لنصنع مشاركة وجدانية مقدسة بتشجيع طيب ودود.
رسالة إلى راهب سقط ويريد الرجوع
إذا كان مازال لديك أمل في الخلاص، وإذا كنت لا تزال تحتفظ ولو بقدر ضئيل من ذكر الله، إذا كان لديك بعض الاشتياق لسعادة المستقبل، أو إذا كان لديك قليل من الإحساس بالرهبة من العذاب المؤبد الذي أعد لغير التائبين، فارجع إلى عقلك فوراً، وارفع نظرك إلى السماء، اترك هذا السلوك الشاذ، وتغلب على هذا الجنون الذي أحاط بك، واظهر رفضك لهذه القوة التي تجذبك إلى أسفل، ارفع ذاتك من الأرض، وتذكر الراعي الصالح الذي جاء ليبحث عنك ويعيدك، إذا كنت تملك قدمين فعد سريعاً، وإذا كنت تملك أذنين للسمع فاترك ما سبق، وتذكر مراحم الله، ولا تفقد الأمل في خلاصك، وتذكر ما كتب: ” الذين سقطوا سيقومون، الذين انصرفوا بعيداً سيرجعون، والذين هُزموا سيعتني بهم “.
الذين أحاطت بهم الحيوانات المفترسة سينقذون، والذين يعترفون ( بخطاياهم ) فلا يمكن أن يتخلى عنهم.
الله لا يريد موت الخطاة ولكن يريد أن يتوبوا ويعيشوا [6]
لا تشعر بصغر النفس واليأس، لأنك وقعت في أعماق الخطية، لأن هذا الوقت هو فرصة لأن تفكر بعمق، وتعود إلى نقاوتك وتسترجع صحتك.
إذ سقطت فقوم، وإذ أخطأت فتب، ولا تستمر في طريق الخطية ولكن ابتعد عنها.
عندما تؤدب وتئن من الألم، فإنك قد أنقذت، لأنك بالجهد وبالعرق سترجع إلى نقاوتك الأولى، وتجد الخلاص.
إذا كنت متحمساً لتحترم بعض العهود التي تصنعها مع الآخرين، فلا تهمل شرف العهد الذي صنعته مع الله في وجود شهود.
لا تتردد في أن ترسل الىّ خطابات مهما كانت العوائق، ولا تجعل نفسك تيأس، بل تذكر الأيام الأولى، فإن باب الخلاص والتوبة مازالا مفتوحين أمامك تشجع ولا تيأس، فلا يوجد قانون يسلمك إلى الموت بدون رحمة، ولكن هناك نهمة لتنقذك من العقاب وتعطيك الفرصة لتعود.
الباب مازال مفتوحاً ولم يغلق بعد، وإن العذراء القديسة مريم مازالت تسمع وتتشفع من أجلك.
ليست الخطية سيطرة عليك. إبدأ في الجهاد مرة أخرى، وأشفق على ذاتك، وعلينا جميعاً نحن الذين في المسيح يسوع إلهنا، الذي له القوة والمجد الآن وإلى الأبد آمين.
الثقة في مراحم الله – من خطاب إلى أوربيكاس الراهب:
علمت أنك تود زيارتنا حتى تخفف عنا أتعابنا قليلا، ولكن خطايانا وقفت حائلا أمامك، ومنعتك من الوصول إلينا، ولذلك جاهدنا وتعبنا وحدنا ولم نحظى بمعونتك التي كنا في احتياج لها، وإني أشبّه ما حدث بأمواج البحر، التي ما تلبث واحدة أن تتكسّر لتعقبها الأخرى، وتهددنا بأن تبتلعنا في ظلامها، هذا أيضاً ما يحدث في تجاربنا، فإن اللحظة التي ظلامها، هذا أيضاً ما يحدث في تجاربنا، فإن اللحظة التي تنتهي فيها واحدة تلوح واحدة أخرى أمامنا، ومعظم الوقت لا نجد إلا إجابة واحدة وهي: ( دع الماضي يذهب، واهرب من تهديدات المستقبل ).
في بعض الأحيان يظهر لنا أنه لا شيء يعطينا العزاء أو النصيحة، أو يقدر أن يريحنا أو يشترك في مساعدتنا، فلا تيأس بل نضع أمام أعيننا أهم شيء وهو أن نصلى باستمرار، حتى لا نُقهر بأمواج الاضطراب العظيمة التي تهاجمنا.
ولكن نتذكر أيضاً نعمة الله ومراحمه، فإذا فعلنا هذا فسوف لا نُعد ضمن الخدام المتقلبين، الذين يؤمنون فقط عندما تسير الأمور الحسنة، ولكنهم يتمردون عندما يجربون بالمحن والتجارب.
ليتنا نستغل الصعوبات الحالية لأجل نفعنا، ونظهر إيماناً أعظم في الله، لأننا في حاجة شديدة إليه، له المجد إلى الأبد آمين.
رسالة عن مفهوم حياة الشركة
أدعوكم يا أحبائي جميعاً أن تعيشوا حياة الشركة، كما عاشها الرسل القديسون، أنتم الذين تعيشونها بالحق، وينبغي أن تقدموا عليها الشكر لله، أما النصيحة التي أعطيها لكم فهي ليس لمنفعتكم فقط، بل لأجل سلامنا جميعا، لنمجد ونشكر الرب يسوع المسيح الذي باسمه دعينا.
لهذا الغرض أرسلت أخينا العزيز الذي سيشجع القائمين، ويساعد الذين تأخروا للوراء، وسيخبرنا إن كان أحدكم لا يفرح قلبنا، لأننا لدينا شوقاً عظيم أن نراكم متحدين، ونسمع عنكم إنكم تعيشوا حياة الشهادة الحقيقية، ونضمن أنكم دائماً ساهرين، وعاملين بثبات في هذه الحياة التي ستؤدى حتماً إلى الشهادة للفضيلة.
واحد منكم يفرح وينال المكافأة لأجل صبره، وآخر ينال أجره الحسن لأجل مساعدة أخيه من أجل أن يعيش حياة الاستقامة، ومن أجل هذا سنعمل معاً من أجل منفعتنا كلنا، ملاحظين أقوالنا وأعمالنا، وفقاً لتعاليمنا التي نرسلها إليكم.
قبل كل شيء أريد أن أذكركم بإيمان آبائنا، حتى لا تظهر الانشقاقات بدلاً من الهدوء، اتبعوا الإرشادات التي وردت في هذا الخطاب، ولكنها لن تفيد ما لم تكن مؤيدة بالإيمان الصحيح بالله، تماما لأن الإيمان بدون أعمال لا يقدر أن يضعك في حضرة الله، ولابد أن يتحد الاثنان معاً ” العمل الحسن والإيمان ” ويكونا واحداً، حتى لا تتلف حياتنا بالانقسام.
الإيمان الصحيح سيخلصنا، ولكن بشرط أن يكون كما قال معلمنا بولس الرسول: ” الإيمان العامل بالمحبة ” ( غلا 5: 6 ).
رسالة على كبح الشهوات – من رسالة القديس باسليوس الكبير إلى أوربيكيوس الراهب:
أنت على حق في تفكيرك، إننا لابد أن نعرف الحقيقة التي لا تتضمن فقط قمع الجسد، ولكن أيضاً التقدم نحو أثماره، لأن الثمار هي الشركة مع الله.
إن كبح النفس هو رفض ما هو للجسد، واقتناء ما هو لله، وهو أيضاً الابتعاد عن كل ما يؤدى إلى موتها، لأن الجسد هو هيكل الله، وهو الذي يستطيع أن يقربنا لله، بأن ننزع عنا كل حسد وكل غيرة ضارة، كل الذين يحبون أهواء أجسادهم إنما يرغبون في أشياء ليست لنفعهم، ولكنهم إذا استطاعوا أن ينزعوا فساد هذا المرض من قلوبهم، فإنهم سيجدوا أنفسهم أقوياء ضد كل أنزاع الأهواء التي تسبب موت أجسادهم وأرواحهم.
لو فهمت هذا الموضوع بطريقة صحيحة، فإننا نستطيع أن نقول إن من يعرف الله هو منضبط ( قامع لذاته ) لأنه لا يرغب في شيء، لأنه كامل في كل شيء، ولديه الاكتفاء الكلى في ذاته، فلا يرغب في ما يراه أو ما يسمعه، لأنه لا ينقصه شيئاً بل هو ممتلئ بكل شيء.
إكمال الشهوات يعنى أن النفس مريضة، ولكن قمع الأهواء يعنى أن النفس صحيحة، لا تعنى قمع النفس من جهة واحدة فقط أي الشهوات الجنسية، ولكننا نقصد كل الطرق التي تأتي منها الشهوات التي تحطم النفس وتجعلها في شدة الظمأ، فتوجد محبة المال، وغيرها من الشهوات التي تبعد النفس عن الاتحاد بالله، أيضاً لعلك تستطيع قمع نفسك بأن لا تعطيها ما تشتهيه من الشرب أو تناول بعض الأطعمة، فكل هذا يؤدي إلى تنقية نياتنا، والتحرر من العبودية.
تمرض نفوسنا إذا أخضعت للشهوات الفاسدة، والأفكار الرديئة التي تجعل قلوبنا منقسمة، أما قمع النفس فهو يعطينا حرية حقيقية في كل الطرق، ويحفظنا ويعطينا قوة.
إن قمع النفس لا يعني العفة، ولكن العفة تنتج منه، وهي نعمة الله.
المقالة السادسة: اشتياقات إلى وحدة الكنيسة
من خطاب إلى إيفاجرياس القس:
خطابك العظيم الطويل لم يشعرني بالملل، بل بالحقيقة تمتعت به حتى بدى لي أنه قصير، لأنه لا توجد أخبار تدعو للسعادة لأي مسيحي، مثل أخبار السلام، ولا شيء يفرح الله أكثر من هذا.
يكافئك الله على مجهوداتك الشاقة الدقيقة التي فعلها في هذا العمل الرائع لصنع السلام.
تذكر يا صديقي العزيز أننا لا نكف عن الصلاة، حتى نرى اليوم الذي نكون فيه جميعاً واحداً غير منقسمين في الفكر وفى المجمع الواحد حقاً سنكون أناس غرباء عن الله إذا كنا نفرح في الانشقاقات والانقسامات التي تهدد الكنيسة، وإذا لم نعتبره إنجازاً عظيماً أن نرى أطراف المسيح المتشتتة تتجمع مرة أخرى.
إنسان حكيم مثل حكمتك العظيمة من المؤكد أنه يعلم جيداً أن الصعوبات التي ازدادت سوءاً بمرور الوقت، تحتاج أيضاً لوقت لإصلاحها، وإنها تحتاج إلى مثابرة عظيمة وعزم، حتى ننزع جذور الشر بالكمال، وبهذا نرجع المرضى إلى الصحة، وأنا واثق أنك تفهم تماماً ما أقصد.
تجنبوا الانقسامات – من خطاب إلى قساوسة ” ساموساتا “:
الله يوزع كل شيء علينا بمكاييل مناسبة، حتى لا يحمّلنا ألماً فوق ما نحتمل، ولكنه يختبر قوة إيماننا بامتحانات صعبة ولكنه لا يجعلها تتعدى طاقات تحملنا، وهو أيضا يكيل بمكيال دموع الذين قد استطاعوا أن يحتفظوا بإيمانهم في الرب وسط الضيقة، ويظهر محبته لنا، فلا يسمح لأعدائنا بأن يضطهدونا، إلى الحد الذي فيه تقدر الآلام التي نعانيها أن تزعزعنا عن الإيمان في المسيح له المجد.
هذا من جهة مواجهتنا مع الأعداء الظاهرين الذين يسهل أن ينهزموا أمامنا، حتى يهيأ لنا مكسب النصرة، ويعطينا مكافأة تحملنا.
ولكن العدو المشترك لحياتنا جميعاً هو واحد وهو يعمل بطرقه الخاصة ضد صلاح الله، ذلك هو الشيطان فعندما يرى أنك تصد أي هجوم عنيف ومفاجئ يأتي عليك من الخارج، فإنه يلجأ لوسيلة أخرى بالدسائس التي يغرسها في وسط الحبوب النافعة، التي هي الاحتقار للآخرين والانقسامات، هذان في البداية يبدوان كأنهما غير ضارين وسهل التعامل معهما، ولكن بمرور الوقت وبعد تكاثر هذه الحبوب الضارة تظهر الانشقاقات وتصبح آلامها لا تعالج.
هذا هو سبب إرسالي هذا الخطاب لك، راجياً أن تأخذ بنصيحتي هذه وتضعها في قلبك، وتنتصر على منازعتك مع الآخرين، وضع في قلبك أنك ستصبح ذو قامة عالية أمام الله، إذا أظهرت بعض الاتضاع أمامه، وتقبل – بدون خجل – التهمة الموجهة إليك، حتى ولو كانوا غير صادقين لأجل السلام، إن هذا سيكون عملاً عظيماً، وستفرح كنيسة الله، وإذا وجدت بعد ذلك بعض الخصومات، فعليك أن تزيلها بطرق حسنة وبمجهودك، لتوجد السلام، جاهد حتى تكون مستحقاً لتدعى ابناً لله.
أرجوك أن تضع في محاربتك لأجل كرامتك جانباً، لأنها تساعد أعدائنا وتفرحهم، وتدمر سمعة الكنيسة، لابد أن تتعاملوا مع بعضكم كأنكم نفساً واحدة وقلباً واحداً تعيشون في داخل جسد واحد. كل شعب الله، كل الكهنة والخدام الذين تحتضنهم في تقواك، نطلب أن يكونوا واحداً مع بعضهم البعض.
لا تفضل شيئاً أكثر من هذا، لأن المؤمنون في الماضي كانوا دائماً يظهرون أعلى درجة في الاستعداد، وقدموا مثالاً عظيماً في كل أعمالهم.
المشاركة في آلام الكنيسة – من رسالة إلى إيوسيبيوس أسقف ساموساتا:
أرجو المعذرة، فإني لست أريد أن أزيد متاعبك، إذ أرسل إلى محبتكم، شكوانا في رسائل، لأني أجد بعض التعزية في مخاطبتي إياكم، لأنه بمجرد أن أعبر عن حزننا العميق، يبدو وكأن الألم قد خف وأصبح من الممكن أن نتحمله بالأكثر، وأردت أيضاً أن أشجع غيرتك، لتصلي بالأكثر من أجل الكنيسة فإن موسى النبي صلى من أجل شعبه بدون توقف عندما كانوا في المعركة ضد عماليق، وأبقى هذا القديس يديه مرفوعتين في صلاته، من الفجر إلى انتهاء النهار، حتى انتصروا في نهاية المعركة.
رسالة تعزية لأم فقدت ابنها – من رسالة القديس باسليوس الكبير إلى زوجة نيكتاريوس:
إن أي نوع من الأدوية إذا وضعت على عين ملتهبة، حتى إذا كانت هذه الأدوية خفيفة فسوف تصيبها بالألم، وبالمثل إن النفوس المتألمة حتى كلمات العزاء تكون غير مرغوب فيها، لو قيلت في هذا الوقت الصعب، ولكني أعرف إنني أتكلم مع إنسانة مسيحية، وتعرف الله، وتعرف فناء هذا العالم بالحقيقة، ومن أجل هذا لن أفشل في مهمتي، أيتها المرأة الوقورة.
أول كلام أقوله لكي، حافظي على وقارك، وأنا عارف بالآلام التي تختبرها الأمهات، وأعرف مقدار حبك الشديد، وأعرف جيداً كم أنت تعاني في هذا الوقت الحاضر، لأنك فقدت ابناً محبوباً.
اعلمي أن التدبير الإلهي يعمل في حياتنا، لأن ربنا يسوع المسيح له المجد قال: ” أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحد منها لا يسقط على الأرض بدون إذن أبيكم ” ( مت 10: 29 ).
لأجل هذا فكل شيء يحدث تبعاً لإرادة الله خالقنا، ومن يستطيع أن يقف ضد إرادة الله ؟، ليتنا نتقبل ما يحدث، حتى نستطيع أن نتعامل مع ما حدث، لأنه بدون هذا فأن نفوسنا ستتحطم، ويا ليتنا لا نطلب تصحيح حكم الله، لأننا ليس لنا قوة لنفهم حكمة قراراته الغامضة.
لعل الله يختبر حبك له، والآن جاء الوقت لتظهري صبرك مثل الشهداء. أم المكابيين رأت موت سبعة من أولادها وهى لم تتأوه أو تبكى، ولكنها كانت تشكر الله الذي نجاهم من النيران وعذابات آلام الجسد، لذلك هي مكرمة من الله ومن كل المؤمنين ( سفر المكابيين ).
أنا أعرف أن التجربة هي عظيمة، ولكني مؤمن أن الله سيعطي المكافأة للذين يتألمون بصبر.
عندما أصبحت أماً، ونظرت إلى طفلك وشكرت الله، عرفت أيضاً أنك سوف تموتي، وإنك ولدت إنساناً لابد أيضاً أن يموت، فما هو الغريب الآن أن يموت من هو لابد أيضاً أن يموت؟ لعل الحزن من أجل من مات قبل الوقت؟ لأننا لا نعرف الوقت المضبوط لولادة إنساناً، ولا نستطيع أن نعرف النهاية المحتمة لحياة هذا الإنسان.
أنظري للعالم من حولك، وسوف ترين إن كل شيء فيه مؤقت، أنظري إلى السماء فهي سوف تتحطم، والشمس التي سوف تسقط، كل النجوم، والحيوانات على الأرض، والأسماك في البحار، وكل شيء جميل، وحتى الأرض نفسها سوف يحدث في لحظة أن تصبح لا شيء.
هذه المعلومة لعلها تعطيك العزاء، لا تفكري في ألمك وأنه غير محتمل، ولكن قارنيه بحالة البشرية جمعاء، فستجدي تعزية عندئذ، وأرجوا أن تضعي زوجك في اعتبارك، وأطلب أن تعزوا بعضكم بعضاً، وساندوا بعضكم بعضاً.
لا أعتقد أن الكلمات وحدها تستطيع أن تقدم العزاء الكافي، ولكن أطلب منكم أن تهتموا بالصلاة في هذه الظروف الحالية، وأنا بدوري سوف أصلي من أجلكم، حتى يلمس الله قلوبكم بنعمته التي تفوق كل وصف، ويضئ قلوبكم بنوره، حتى تعرفوا السبب في موته المبكر فتجدوا تعزية في داخل نفوسكم.
تم بنعمة الله فى يوم 13 بابة 1720 للشهداء
تذكار نياحة القديس زكريا الراهب
[1] ” الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم ” ( يعقوب 1: 27 )
[2] ” لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله ” ( رو 8: 14 ).
[3] ” أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب ” ( رو 8: 15 )
[4] ” لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت ” ( 1كو 15: 53 ).
[5] يقول معلمنا يوحنا البشير الرسول: جميعا ” لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم ” ( 1يو 2: 15 ). كما يقول أيضا معلمنا بطرس الرسول : ” هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة ” ( 2بط 1 : 4).
[6] ” حي أنا يقول الرب إني لا أسر بموت الشرير بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا ” ( حزقيال 33: 11 ).
لإلهنا كل “مجد † كرامة †عزة † سجود” إلى الأبد آمين
No Result
View All Result
Discussion about this post