الثيئوفانيا
ميلاد المسيح
للقديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات
أنشودة الميلاد[1]:
1 ـ وُلد المسيح فمجدوه، أتى المسيح من السموات فاستقبلوه، أتى المسيح إلى الأرض فعظموه ” سبحي الرب يا كل الأرض” (مز1:96)
لتفرح السموات وتبتهج الأرض بالسماوى الذي صار على الأرض.
المسيح تجسد ابتهجوا بفرح وخوف.
الخوف بسبب الخطية، والفرح بسبب الرجاء.
جاء المسيح من عذراء، فعشن عذارى يا نساء لتصَّرن أمهات للمسيح.
مَنْ الذي لا يسجد للذي كان منذ البدء؟
مَنْ الذي لا يمجد ذاك الذي هو الآخِر؟
2 ـ مرة أخرى ينقشع الظلام[2]، مرة أخرى يُشرق النور.
مرة أخرى يحل الظلمة كعقاب على مصر[3]
مرة أخرى يستنير شعب الله بعمود من نار (انظر خر21:13)
الشعب الجالس في الظلمة أبصر نور معرفة الأسرار الإلهية،
” الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل صار جديدًا” (2كو17:5).
الحرف يتراجع، والروح يتقدم.
الظلال تهرب بينما الحق[4] يحل مكانها.
مثال ملكى صادق قد تحقق (مز4:110)،
الذي كان بلا أم صار الآن بلا أب.
النواميس الطبيعية انحلت. العالم السماوي ينبغي أن يكتمل[5].
المسيح يأمر أن لا نضع أنفسنا ضده
” هيا صفقوا بأيديكم يا كل الأمم” (مز1:47)،
لأنه وُلد لنا ولد وأُعطى لنا ابنًا،
تكون الرئاسة على كتفه (لأن كتفه رُفع بالصليب)،
يُدعى اسمه ملاك المشورة العظيم (انظر إش5:9س).
دعوا يوحنا يصرخ ” أعدوا طريق الرب ” (مت3:3)،
وأنا سوف أتحدث عن قوة هذا اليوم :
الذي بلا جسد تجسد الكلمة صار له جسم
غير المنظور صار منظورًا غير الملموس صار ملموسًا
غير الزمني صارت له بداية زمنية
ابن الله يصير ابن الإنسان
” يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد”
اليهود يعثرون، واليونانيون يسخرون، والهراطقة يثرثرون.
سوف يؤمنون به عندما يرونه صاعدًا إلى السماء،
وإن لم يؤمنوا وقتذاك، فسوف يرونه
آتيًا من السموات وجالسًا كديان.
هذه الأمور سوف تحدث فيما بعد.
اسمان للاحتفال: ثيئوفانيا والميلاد:
3 ـ أما اليوم، فالإحتفال هو بالظهور الإلهي أي الميلاد. هذا الإحتفال الواحد يطلق عليه اسمان لأن الله ظهر للبشر بواسطة الميلاد. الكلمة هو كائن أبدي من الكائن الأبدي فوق كل عِلة وكلمة (لأنه لا توجد كلمة قبل اللوغوس) صار جسدًا لأجلنا لكي ـ كما منحنا الوجود ـ يعطيينا أيضًا الوجود الأفضل الذي سقطنا منه بسبب شرورنا أو بالحرى لكي يعيدنا إليه بتجسده. هكذا أطلق اسم “ثيئوفانيا” إشارة إلى هذا الظهور، وكذلك أيضًا أُطلق اسم الميلاد إشارة إلى مولده.
لماذا نحتفل بهذا العيد؟:
4 ـ بالنسبة لنا هذا هو مفهوم الاحتفال، وهذا هو ما نحتفل به اليوم: نُعيد لسكنى الله بين البشر الذي يرفعنا لنسكن بجوار الله، أو بالحرى لنرجع إليه، لكي بخلعنا الإنسان العتيق، نلبس الإنسان الجديد. وكما متنا في آدم، هكذا يمكننا أن نحيا في المسيح، إذ نولد معه، ونُصلب معه ونُدفن معه لكي نقوم بقيامته. لأنه ينبغي أن نتغير التغيير الحسن الصالح. فكما أن الأمور الحسنة (الحالة الفردوسية الأولى) تبعتها الأمور التعسة (حالة السقوط)، هكذا ينبغي بالأحرى أن تأتي الأمور الحسنة من الأمور التعيسة. ” لأنه حيثما تكثر الخطية تزداد النعمة جدًا” (رو20:5).
وإذا كان تذوق الأكل[6] قد جلب الإدانة فكم بالأكثر تبررنا آلام المسيح. إذن فلنُعيد، ليس بطريقة الإحتفالات الوثنية الصاخبة، لكن بطريقة إلهية، ليس بطريقة العالم لكن بطريقة روحية. لا باعتباره عيدنا نحن بل باعتباره عيد ذاك الذي هو لنا (أي المسيح) أو بالأحرى عيد ربنا. نعيد ليس بما للمرض بل بما للشفاء. نُعيد ليس بما يخص الخلق، بل بما يخص إعادة الخلق.
كيف نحتفل بالعيد؟:
5 ـ وكيف يصير هذا التعييد؟ لا بأن نزين الأبواب، ولا نقيم حفلات رقص، ولا نزين الشوارع ولا نبهج عيوننا، ولا نُطرب أسماعنا بموسيقى صاخبة، ولا نلذذ أنوفنا بروائح أنثوية غير لائقة، دعونا لا نفسد حاسة التذوق، ولا نسمح لحاسة اللمس أن تتلذذ بلمس أشياء غير لائقة. هذه الحواس التي يمكن أن تكون مداخل سهلة للخطية؛ لنكن غير متخنثين بلبس الملابس الناعمة والكثيرة الثمن، والتي لا نفع لها. ولا نتزين بأحجار ثمينة وبذهب لامع، وبأصباغ تشوه الجمال الطبيعي الذي خُلِقَ على صورة الله، ولا للهزء والسكر الذي يصاحبه دائمًا الفسق والدعارة (انظر رو13:13)، لأن التعاليم الشريرة تأتي من المعلّمين الأشرار، أو بكلام أفضل، لأن البذرة الشريرة تنبت نباتًا شريرًا، فلا نفترش الفرش الناعم الذي يرضى لذّات البطن والشهوات العابرة.
ولا نُقبِل على شرب الخمور الممزوجة برائحة الزهور، ولا على الطعام الشهي الذي يتفنن الطهاه في طهيه. ولا نُدهن بطيب غالى الثمن. لا ندع الأرض والبحر يقدمان نفاياتهما الثمينة كهدية ـ لأني أسمى الرفاهية نفاية ـ دعونا لا ننافس أحدنا الآخر في إرتكاب المعاصي، فكل شئ زائد عن الحاجة الضرورية هو إفراط. بينما يوجد آخرون ـ من نفس طينتنا وطبيعتنا ـ يتضورون جوعًا، وهم في غاية العوز.
6 ـ فلنترك كل هذه الأمور للوثنيين ولإحتفالات الوثنيين، الذين تسر آلهتهم برائحة شواء الذبائح، ويقدمون لها العبادة بالطعام والشراب، فهم مخترعون للشر، وكهنة وخدام للشياطين. أما نحن الذين نقدم عبادتنا “للكلمة”، إن كان يجب أن نستمتع بشئ، فلنستمتع بالكلمة، بالناموس الإلهي وبالشواهد الكتابية خاصةً تلك التي تحدثنا عن موضوعات مثل موضوع إحتفال اليوم، حتى تكون متعتنا قريبة من ذاك الذي جمعنا معًا للإحتفال به (أي المسيح) وليست بعيدة عنه.
هل تريدون (لأني أنا اليوم سوف أقدم لكم المائدة يا ضيوفي) أن أضع أمامكم رواية هذه الأحداث (الميلادية) بأكثر غزارة وأجمل كلام أستطيعه لكي تعرفوا كيف يستطيع شخص غريب[7] أن يُغذى مواطني البلد، وساكن الريف أن يغذي سكان المدينة، والذي لا يهتم بالمتع أن يُغذى أولئك الذين يسرون بالمتعة، ومَن هو فقير وليس له بيت ولا يملك أي شئ أن يغذى أولئك المشهورون بسبب غناهم.
افتتاحية تعليمية عن الله (الثيولوجيا):
سوف أبدأ بالآتى: نقوا عقولكم وآذانكم وأفكاركم أنتم الذين تبتهجون بهذه الأشياء، لأن حديثنا سيكون حديثًا مقدسًا عن الله؛ حتى حينما تغادرون المكان تكونون قد استمتعتم حقًا بسماع تلك الأمور المبهجة التي لن تنتهى ولا تخبو.
سوف يكون الحديث ملىء تمامًا وفي نفس الوقت سيكون موجزًا، حتى لا تتضايقوا بسبب غياب بعض الحقائق، كما أنه لن يكون مملاً بسبب الإطالة الزائدة.
7 ـ الله كان كائنًا دائمًا وهو كائن في الحاضر وسيكون دائمًا إلى الأبد، أو بالحرى، هو كائن دائمًا. لأن “كان” و “سيكون” هي أجزاء من الزمن ومن طبيعتنا المتغيرة. أما هو فهو “كائن” أبدي، وهذا هو الاسم الذي أعطاه لنفسه عندما ظهر لموسى ” أنا هو الكائن” (خر 14:3). لأنه يجمع ويحوي كل “الوجود”، وهو بلا بداية في الماضي، وبلا نهاية في المستقبل؛ مثل بحر عظيم لا حدود لوجوده، لا يُحد ولا يُحوى، وهو يتعالى كلية فوق أي مفهوم للزمان وللطبيعة، وبالكاد يمكن أن يُدرك فقط بالعقل ولكنه إدراك غامض جدًا وضعيف جدًا، ليس إدراك لجوهره، بل إدراك بما هو حوله[8]، أي إدراكه من تجميع بعض ظواهر خارجية متنوعة، لتقديم صورة للحقيقة سرعان ما تفلت منا قبل أن نتمكن من الإمساك بها، إذ تختفي قبل أن نُدركها.
هذه الصورة تبرق في عقولنا فقط عندما يكون العقل نقيًا كمثل البرق الذي يبرق بسرعة ويختفى. أعتقد أن هذا الإدراك يصير هكذا، لكي ننجذب إلى ما يمكن أن ندركه، (لأن غير المدرك تمامًا، يُحبط أى محاولة للإقتراب منه). ومن جهة أخرى فإن غير المدرك يثير إعجابنا ودهشتنا، وهذه الدهشة تخلق فينا شوقًا أكثر، وهذا الشوق ينقينا ويطهرنا، والتنقية تجعلنا مثل الله. وعندما نصير مثله، فإني أتجاسر أن أقول إنه يتحدث إلينا كأقرباء له باتحاده بنا، وذلك بقدر ما يعرف هو الذين هم معروفين عنده. إن الطبيعة الإلهية لا حد لها ويصعب إدراكها.
وكل ما يمكن أن نفهمه عنها هو عدم محدوديتها، وحتى لو ظن الواحد منا أن الله بسبب كونه من طبيعة بسيطة لذلك فهو إما غير ممكن فهمه بالمرة أو أنه يمكن أن يُفهم فهمًا كاملاً. ودعنا نسأل أيضًا، ما هو المقصود بعبارة “من طبيعة بسيطة”؟ لأنه أمر أكيد أن هذه البساطة لا تمثل طبيعته نفسها، مثلما أن التركيب ليس هو بذاته جوهر الموجودات المركبة.
8 ـ يمكن التفكير في اللانهائية من ناحيتين، أي من البداية ومن النهاية (لأن كل ما يتخطى البداية والنهاية ولا يُحصر داخلها فهو لانهائي). فعندما ينظر العقل إلى العمق العلوي، وإذ لا يكون لديه مكان يقف عليه، بل يتكئ على المظاهر الخارجية لكي يكوّن فكرة عن الله، فإنه يدعو اللانهائي الذي لا يُدنى منه باسم غير الزمني. وعندما ينظر العقل إلى الأعماق السفلي وإلى أعماق المستقبل فإنه يدعو اللانهائي باسم غير المائت وغير الفاني. وعندما يجمع خلاصته من الإتجاهات معًا فإنه يدعو اللانهائى باسم الأبدي لأن الأبدية ليست هي الزمان ولا هي جزء من الزمان لأنها غير قابلة للقياس. فكما أن الزمان بالنسبة لنا هو ما يُقاس بشروق الشمس وغروبها هكذا تكون الأبدية بالنسبة للدائم إلى الأبد.
نكتفي الآن بهذا الحديث الفلسفى عن الله، لأن الوقت الحاضر غير مناسب، إذ أن موضوع حديثنا الآن هو عن تدبير التجسد وليس عن طبيعة الله (ثيؤلوجيا). ولكن عندما أقول الله فأنا أعني الآب والابن والروح القدس. لأن الألوهية لا تمتد إلى ما يزيد عن الثالوث وإلاّ كان هناك حشد من الآلهة، كما أنها لا تحد بنطاق أصغر من الثالوث حتى لا نتهم بأن مفهومنا عن الألوهية فقير جدًا وهزيل، وحتى لا ينسب إلينا أننا نتهود بالحفاظ على الوحدانية، أو أننا نسقط في الوثنية بتعدد الآلهة.
إذ أن نفس الشر موجود في الاثنين اليهودية أو الوثنية، حتى إن كان موجودًا في إتجاهين متعارضين. هذا إذَا هو “قدس الأقداس”[9] المخفى عن السيرافيم وهو الذي يُسبّح بنشيد الثلاثة تقديسات، والثلاثة يُنسب إليها لقب واحد هو الرب والإله، كما تحدث عن ذلك أحد سابقينا[10] بطريقة جميلة وسامية جدًا.
خلق العالم العقلي:
9 ـ ولكن حيث إن حركة التأمل الذاتي لا تستطيع وحدها أن تشبع “الصلاح”[11]، بل كان يجب أن يُسكب الصلاح وينتشر خارج ذاته، لكي يكثر الذين ينالون من إحسانه (لأن هذا كان أساسيًا للصلاح الأسمى)، لذلك فإن الله فكر أولاً في خلقة الملائكة والقوات السمائية. وفكره هذا صار عملاً تحقق بواسطة كلمته واكتمل بواسطة روحه. وكذلك أيضًا خُلقت المخلوقات النورانية الثانية، كخُدام للنور الأول، الذين ندركهم كأرواح عقلية أو كنار غير مادية وغير فانية، أو كطبيعة أخرى تقترب بقدر الإمكان من كل الوصف السابق. وأريد أن أقول، إنهم لم يكن في إستطاعتهم أن يتحركوا نحو الشر، بل كانوا يستطيعون أن يتحركوا فقط نحو الخير لأنهم موجودون بالقرب من الله ويحصلون على الإنارة بالإشعاعات الأولى من الله، لأن الأرضيين يحصلون على الإنارة الثانية.
لكنى مضطر للتوقف عن إعتبارهم أنهم لم يكن في استطاعتهم بالمرة أن يتحركوا ناحية الشر بل أتكلم عنهم فقط على أنه كان من الصعب أن يتحركوا نحو الشر بسبب ذاك الذي بسبب بهائه سمى يوسيفوروس[12]، ولكنه صار ظلمة ودُعى ظلمة بسبب كبريائه، هو والقوات التي تحت رئاسته، وصاروا خالقين للشر بتمردهم على الله، وأيضًا صاروا محرضين لنا على الشر.
خلق العالم المادي:
10 ـ هكذا خُلق هذا العالم العقلى من فيض صلاح الله، بقدر ما أستطيع أن أتفكر في هذه الأمور وأتناول أمورًا عظيمة بلغتي الفقيرة. وبعد أن وجد خليقته الأولى في حالة حسنة، فكر في إبداع عالم ثاني، عالم مادي ومنظور، وهذا العالم هو منظومة مركّبة بين السماء والأرض وكل ما هو موجود بينهما، وهي خليقة جديرة بالإعجاب حينما ننظر إلى جمال كل شئ فيها، وهي أكثر جدارة بالإعجاب حينما نلاحظ التوافق والإنسجام بين المخلوقات وبعضها، إذ يتوافق الواحد مع الآخر والكل فيما بينهم في نظام جميل لكى يُكوّنوا كمنظومة كاملة متكاملة لعالم واحد. وهذا لكي يوضح أنه يستطيع أن يحضر إلى الوجود ليس فقط طبيعة شبيهة به بل وطبيعة مختلفة تمامًا عنه.
لأن الكائنات العقلية هي شبيهة بالألوهية، وتُدرك فقط بواسطة العقل؛ أما كل المخلوقات التي تُعرَف بالحواس الجسدية فهي مختلفة تمامًا عن الألوهية، وأكثر هذه المخلوقات ابتعادًا هي تلك التي بلا نفس وعديمة الحركة.
لكن قد يقول أحد المندفعين، ما الذي يعنينا من كل هذا؟ وقد يتساءل أحد من المشاركين في الاحتفال من المؤمنين المتحمسين “أُنخس الحصان لكي تصل إلى الهدف”، “حدثنا عن العيد وعن الأمور التي من أجلها إجتمعنا اليوم “. هذا ما سوف أفعله. حالاً، رغم أنى قد ابتدأت بأمور عالية إضطرني إليها حبى لها بالإضافة إلى ما يحتاجه حديثنا عن العيد.
خلق الإنسان:
11 ـ إذًا، فالعقل والجسد (المادي) المتميزين الواحد عن الآخر، يظلان كل واحد ضمن حدود طبيعته، ويحملان في ذاتهما عظمة الكلمة الخالق، وهما مسبحان صامتان وشاهدان مثيران جدًا لعمله الكلى القدرة. لم يكن بعد يوجد كائن مكون من الاثنين (العقل والحس) معًا، ولا أي إتحاد من هذه الطبائع المتضادة، إنه مثال أسمى للحكمة والتنوع في خلق الطبائع، ولم يكن معروفًا بعد كل غنى الصلاح. ولأن الكلمة الخالق قرر أن يظهر غنى هذا الصلاح، ويخلق كائنًا حيًا واحدًا مكونًا من الاثنين معًا، ـ أي من الطبيعتين المنظورة وغير المنظورة ـ لذلك خلق الإنسان. ولقد خلق الجسد من المادة التي كانت موجودة، الجسد وبعد ذلك وضع فيه نفخة منه التي عُرفت بأنها نفس عاقلة وصورة لله، ثم أقامه على الأرض كعالم ثانٍ عظيم في صغره؛ ملاك آخر، عابد مركب[13].
له معرفة كاملة بأعماق الخليقة المنظورة، أما الخليقة غير المنظورة فيعرفها جزئيًا فقط؛ ملك على الموجودات التي على الأرض ولكنه تحت سلطان الملك الذي في الأعالي. أرضي وسماوي، زمني ومع ذلك غير مائت. منظور ولكنه عقلي. في وضع متوسط بين الوضاعة والعظمة. هو نفسه روح وجسد في شخص واحد. روح بسبب النعمة التي وُهبت له، وجسد لكى يسمو الإنسان بواسطته. الواحد لكي يحيا ويمجد الله المحسن إليه، والآخر لكي يتألم وبالألم يتذكر، ويتم إصلاحه إذا تكبر بسبب عظمته. كائن حى يتدرب على الأرض لكي ينتقل إلى عالم آخر، وكأن غاية السر هو أن يصير إلهًا[14] بميله إلى الله. فإني أرى أن نور الحق الذي نناله هنا ولكن بقدر معين يتجه بنا لكي نرى ونختبر بهاء الله. الذي هو بهاء ذاك الذي كوننا[15]، والذي سوف يحلنا ثم يعيد تكويننا بطريقة أكثر مجدًا[16].
الحالة الفردوسية للإنسان:
12 ـ هذا الكائن (أي الإنسان) وضعه الخالق في الفردوس (أيًا كان هذا الفردوس)، وقد كرمه بهبة حرية الإرادة، لكى يكون تمتعه بالله عن اختيار حر، بفضل عطية الله الذي غرس فيه هذه الحرية، ولكي يفلّح النباتات الخالدة التي تعني المفاهيم الإلهية، الأكثر بساطة والأكثر كمالاً معًا، عاريًا في بساطته وحياته غير المصطنعة، وبدون أي غطاء أو ستار، لأنه كان من الملائم لذاك الذي في البداية (أى الإنسان الأول) أن يكون هكذا.
وأيضًا أعطاه ناموسًا ليظهر به حرية اختياره. هذا الناموس كان وصية من جهة النباتات التي يمكن أن يأكلها، والنبات الذي يجب أن لا يلمسه. هذا النبات الأخير كان شجرة المعرفة، وذلك ليس بسبب أنها كانت شريرة حينما غُرست في البداية، ولا حُرمت على الإنسان عن حسدٍ (من ناحية الله، ولا ندع ألسنة أعداء الله تتحدت هكذا، كما لا نقلد الحية!).
السقوط:
وهذه الشجرة كانت يمكن أن تكون صالحة لو أن الإنسان أكل منها في الوقت المناسب (لأن الشجرة، بحسب رؤيتي، كانت هى رؤية الله التي هي مأمونة فقط بالنسبة لأولئك الذين تكملوا بالتمرن والنسك للإقتراب منها بدون مخاطرة)، لكنها ليست صالحة للذين لم يتدربوا بعد وللشرهين من جهة الشهوة، وذلك كالطعام القوي الذي ليس له فائدة للذين مازالوا ضعفاء ويحتاجون إلى اللبن (انظر عب12:5).
لكن بسبب حسد إبليس وإغوائه للمرأة التي استسلمت لكونها أكثر ضعفًا، وبدورها حرضت آدم لأنها كانت ذات تأثير عليه، وأسفاه على ضعفي! (لأن ضعف أبي الأول هو ضعفي)، إذ نسى الوصية التي أُعطيت له، واستسلم للأكل من الثمرة المهلكة، وهكذا طُرد في الحال من الفردوس ومن شجرة الحياة ومن حضرة الله بسبب خطيته، ولبس الأقمصة الجلدية ربما يعني أنه لبس الجسد الأكثر غلاظة، والقابل للموت والمناقض للأول)[17].
وكأول نتيجة، شعرا بالخزي وإختفيا من وجه الله. وهنا حصل الإنسان الأول على ربح له وهو الموت، وقطع الخطية، حتى لا يصير الشر خالدًا، وهكذا فإن العقاب تحول إلى رحمة[18]، لأنى أعتقد أن الله يفرض العقاب بدافع الرحمة.
تدبير الله للخلاص:
13 ـ وبعد أن عاقب الله الإنسان أولاً ـ بطرق كثيرة، لأن خطاياه كانت كثيرة (من التي نبتت من جذر الشر، والتي نشأت من أسباب مختلفة وفي أزمنة متفرقة)، أدبه بالكلمة، والناموس، والأنبياء، والإحسانات، والتهديدات، والفيضانات والنيران، والحروب، والانتصارات، والهزائم، والعلامات في السماء، وعلامات في الهواء وفي الأرض وفي البحر، وبتغييرات مفاجئة للأمم والمدن والشعوب ـ كل هذه الأمور كانت تهدف لإبادة الشر ـ وأخيرًا إحتاج الإنسان لدواء أكثر قوة لأن أمراضه كانت تزداد سوءً:
مثل قتل الأخ والزنى والقسم الكاذب، والجرائم الشاذة، وأول وآخر كل الشرور أي عبادة الأصنام وتحويل العبادة إلى المخلوقات بدلاً من الخالق (انظر رو18:1ـ32). وبما أن هذه كانت تحتاج إلى معونة أكبر، لذلك حصلت على مَن هو أعظم. ذلك هو كلمة الله ذاته ـ الأبدى الذي هو قبل كل الدهور، وهو غير المنظور، غير المفحوص وغير الجسدي، البدء الذي من البدء، النور الذي من النور، مصدر الحياة والخلود، صورة الجمال الأصلي الأول، الختم الذي لا يزول، الصورة التي لا تتغير، كلمة الآب وإعلانه[19]، هذا أتى إلى صورته[20]،
وأخذ جسدًا لأجل جسدنا، ووحد ذاته بنفس عاقلة لأجل نفسي لكي يطّهر الشبه بواسطة شبهه، وصار إنسانًا مثلنا في كل شئ ماعدا الخطية إذ وُلد من العذراء التي طُهّرت أولاً نفسًا وجسدًا، بالروح القدس (لأنه كان يجب أن تُكرم ولادة البنين وأيضًا أن تنال العذراوية كرامة أعظم)، وهكذا حتى بعد أن اتخذ جسدًا ظل إلهًا، إذ هو شخص واحد من الاثنين، ياله من اتحاد عجيب، الكائن بذاته يأتى إلى الوجود، غير المخلوق يُخلق[21]، غير المحوى يُحوى بواسطة نفس عاقلة تتوسط بين الألوهة والجسد المادى. ذاك الذي يمنح الغنى يصير فقيرًا، فقد أخذ على نفسه فقر جسدي، لكي آخذ غنى ألوهيته.
ذاك الذي هو ملئ يخلي نفسه، لأنه أخلى نفسه من مجده لفترة قصيرة، ليكون لي نصيب في ملئه. أى صلاح هذا؟! وأي سر يحيط بي؟! إشتركت في الصورة؛ ولم أصنها، فاشترك في جسدى لكي يخلّص الصورة ولكي يجعل الجسد عديم الموت.
هو يدخل في شركة ثانية معي أعجب كثيرًا من الأولى، وبقدر ما أعطى حينئذ الطبيعة الأفضل، فهو الآن يشترك في الأسوأ[22]. هذا العمل الأخير (التجسد) يليق بالله أكثر من الأول (الخلق)، وهو سامي جدًا في نظر الفاهمين.
اتضع لأجلك فلا تحتقر تواضعه:
14 ـ ما الذي سوف يقوله المعترضون والمجدفون على الألوهية، أولئك المشتكون ضد كل الأمور الجديرة بالمديح، أولئك الذين يجعلون النور مظلمًا، والذين لم يتهذبوا بالحكمة، أولئك الذين مات المسيح لأجلهم باطلاً، أولئك المخلوقات غير الشاكرة الذين هم من صنع الشرير؟ هل تحوّل هذا الإحسان إلى شكوى ضد الله؟ هل تنظر إليه على أنه صغير بسبب أنه اتضع لأجلك؟
وهل تعتبره صغيرًا لأنه هو الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو11:10)، والذي أتى ليطلب الخروف الذي ضلّ فوق التلال والجبال والتي كانت تقدم فيها ذبائح لآلهة غريبة، وعندما وجده، حمله على منكبيه ـ اللتين حمل عليهما خشبة الصليب، وأعاده إلى الحياة الأسمى، وعندما أعاده حسبه مع أولئك الذين لم يضلوا أبدًا؟ هل تحتقره لأنه أضاء سراجًا الذي هو جسده، وكنس البيت، مطهرًا العالم من الخطية، وفتش عن الدرهم، أي الصورة الملكية التي دُفنت وغطتها الشهوات.
وجمّع الملائكة أصدقاءه؛ عندما وجد الدرهم جعلهم شركاء في فرحه والذين جعلهم أيضًا مشاركين في سر التجسد؟ فبعد سراج السابق الذي أعّد الطريق، يأتي النور الذي يفوقه في البريق، وبعد “الصوت” أتى “الكلمة” وبعد صديق العريس جاء العريس، صديق العريس الذي أعد الطريق للرب شعبًا مختارًا، مطهرًا إياهم بالماء ليجهزهم للروح القدس؟ هل تلوم الله على كل هذا؟ هل على هذا الأساس تعتبره وضيعًا لأنه شد الحزام على وسطه وغسل أرجل تلاميذه (يو4:13)، وأظهر أن التواضع هو أفضل طريق للرفعة؟ لقد اتضع لأجل النفس التي إنحنت إلى الحضيض لكى يرفعها معه، تلك النفس التي كانت تترنح لتسقط تحت ثقل الخطية؟ كيف لا تتهمه أيضًا بجرم الأكل مع العشارين وعلى موائد العشارين (انظر لو27:5)، وأنه يتخذ تلاميذًا من العشارين، لكى يربح… وماذا يربح؟ خلاص الخطاة.
وإن كان الأمر هكذا، فيجب أن نلوم الطبيب بسبب أنه ينحنى على الجروح ويحتمل الرائحة النتنة لكي يعطي الصحة للمرضى، أو هل نلوم ذاك الذي من رحمته ينحني لكي ينقذ حيوانًا سقط في حفرة كما يقول الناموس (انظر تث40:22، لو5:14).
15 ـ المسيح أُرسل، لكنه أُرسل كإنسان لأنه من طبيعة مزدوجة[23]. لأنه شعر بالتعب وجاع وعطش وتألم وبكى حسب طبيعة كائن له جسد. وإذا استعمل تعبير “أُرسل” عنه، فمعناه أن مسرة الآب الصالحة يجب أن تعتبر إرسالاً، فهو يرجع كل ما يختص بنفسه إلى هذه الإرسالية، وذلك لكي يكرم المبدأ الأزلى وأيضًا لأنه لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه مضاد لله. فقد كتب عنه أنه سُلم بخيانة وأيضًا سلّم ذاته،
وأيضًا كتب عنه أنه أُقيم بواسطة الآب وأنه أُصعد، ومن جهة أخرى أنه أيضًا أقام ذاته وصعد. فما ذكر أولاً في كل عبارة فهو من إرادة الآب (أنه سُلِّم وأنه أُقيم)، أما الجزء الثاني من كل عبارة فيشير إلى قوته هو. فهل تفكر في الأمور الأولى التي تجعله يبدو وضيعًا، أما الثانية التي ترّفعه فأنت تتغافل عنها. وتضع في حسابك أنه تألم، ولا تحسب أن هذا الألم تم بإرادته. انظر فحتى الآن لا يزال الكلمة يتألم.
فالبعض يكرمونه كإله ولكن يخلطون بينه وبين الآب، والبعض الآخر يحقرونه كمجرد جسد ويفصلونه عن اللاهوت. فعلى مَن يصب جام[24] غضبه بالأكثر؟ أو بالأحرى مَن هم الذين يغفر لهم؟ هل الذين يخلطونه بطريقة جارحة أم أولئك الذين يقسمونه؟ فالأولون كان يجب أن يميزوا (بين الأقانيم) والآخرون كان يجب أن يوحدوه[25] (مع الآب). الأولون من جهة عدد الأقانيم والآخرون من جهة الألوهية. هل تتعثر من جسده؟ هذا ما فعله اليهود.
ربما تريد أن تدعوه سامريًا؟ ولن أذكر ما قالوه عن المسيح بعد ذلك (انظر يو48:8) هل تنكر ألوهيته؟ هذا لم يفعله حتى الشياطين. للأسف كم أنت أقل إيمانًا من الشياطين! وأكثر جهلاً من اليهود! فهؤلاء اليهود قد فهموا أن اسم ابن يدل على أنه مساوي في الرتبة (أي مساوى لله)، أما أولئك الشياطين فعرفوا أن الذي طردهم هو إله، لأنهم إقتنعوا بذلك بسبب ما حدث لهم. أما أنت فلا تعترف بالمساواة ولا تقر بلاهوته. كان من الأفضل أن تكون إما يهوديًا أو شيطانًا (لو عبّرت عن ذلك بطريقة مضحكة)، عن أن يتسلط على ذهنك الشر والكفر وأنت أغلف وبصحة جيدة.
كل هذا لأجلي:
16 ـ بعد قليل سوف ترى يسوع ينزل ليتطهر في الأردن (مت17:3) لأجل تطهيري أنا، أو بالحرى ليقدس المياه بطهارته (لأنه لم يكن في إحتياج إلى التطهير ذاك الذي يرفع خطية العالم). وإنشقت السماوات، وشهد له الروح الذي من نفس الطبيعة الواحدة معه؛ وسنراه يُجرب وينتصر على التجارب ويُخدم من الملائكة (انظر مت 1:4ـ11)، ويشفى كل مرض وكل ضعف (مت23:4)، ويمنح الحياة للأموات (وليته يهبك الحياة أنت الذي مت بسبب هرطقتك)، ويطرد الشياطين (مت33:9) أحيانًا بنفسه وأحيانًا أخرى بواسطة تلاميذه.
ويُطعم بخبزات قليلة آلاف من البشر (مت14:14)، ويمشى على البحر كأرض جافة (مت25:14)، ويُسلّم ويُصلب صالبًا خطيتى معه، وقُدم ذبيحة كحمل، وأيضًا قدم ذاته ككاهن يقدم ذبيحة، ودُفن كإنسان وقام ثانية كإله، ثم صعد إلى السموات لكي يعود ثانية في مجده. كم من الأعياد توجد لأجلى في كل سر من أسرار المسيح! وغاية كل هذه الأسرار تجديدي وتكميلي أنا لكى أرجع إلى حالة آدم الأولى.
17 ـ إذًا، أرجوكم إقبلوا حمله في داخلكم (كما حملته العذراء في بطنها)، وإقفزوا فرحًا أمامه إن لم يكن مثل يوحنا المعمدان وهو في بطن أمه (لو1:1)، فعلى الأقل مثل داود أمام تابوت العهد (2صم 14:6). وعليك أن تحترم الإكتتاب الذي بسببه كُتبت أنت في السموات. واسجد للميلاد (لو1:2ـ5) الذي بواسطته فُككت من ولادتك الجسدية. وأكرم بيت لحم الصغرى التي أرجعتك مرة أخرى إلى الفردوس.
واسجد لطفل المزود الذي به تغذيت باللوغوس (الكلمة) بعدما كنت ضالاً. اعرف قانيك كما يعرف الثور قانيه، والحمار معلف صاحبه، حسب قول إشعياء (3:1)، ذلك إن كنت من الطاهرين الذين يكرمون الناموس وينشغلون بترديد أقواله باجترار، واللائقين للذبائح. أما إن كنت من أولئك الذين لا يزالون نجسين ولم يكن يحق لهم أن يأكلوا من المقدسات، وغير لائقين لتقديم الذبائح، وهم من الأمم الوثنيين، فإسرع مع النجم وقدم هدايا مع المجوس ذهبًا ولبانًا ومرًا كما لملك وإله ولواحد قد مات لأجلك.
مجّده مع الرعاة، وسبحه مع خورس الملائكة، ورتل تسابيحك مع رؤساء الملائكة. فليكن هذا الإحتفال مشتركًا بين القوات السماوية والقوات الأرضية. لأنني أؤمن أن الأجناد السماوية يشتركون في التمجيد معنا، ويحتفلون بالعيد العظيم معنا اليوم، لأنهم يحبون البشر ويحبون الله، كما كتب داود عن أمثال هؤلاء الذين صعدوا مع المسيح بعد آلامه لكي يستقبلوه وهم ينادون أحدهم الآخر أن يرفعوا الأبواب الدهرية (مز7:24ـ9).
بيت لحم والصليب والقيامة:
18 ـ هناك أمر واحد فقط مرتبط بمناسبة ميلاد المسيح، أريدكم أن تبغضوه، ألا وهو قتل الأطفال على يد هيرودس، أو بالحرى يجب أن تكرموا أيضًا، هؤلاء الذين ذُبحوا وهم من نفس عمر المسيح، هؤلاء صاروا ذبيحة قُدمت قبل الذبيحة الجديدة (أي الصليب).
كن ملازمًا للمسيح:
عندما يهرب إلى مصر اهرب أنت معه؛ ورافقه فرحًا في المنفى. إنه عمل عظيم أن تشترك مع المسيح المضطهد. وإن أبطأ كثيرًا في مصر فادعوه من هناك بتقديم عبادة خاشعة له هناك. إتبع المسيح بلا لوم في كل مراحل حياته وكل صفاته. تطهر واختتن؛ إنزع البرقع الذي كان يغطيك منذ ولادتك. بعد ذلك علّم في الهيكل واطرد التجار من هيكل الله، اسمح لهم أن يرجموك لو لزم الأمر، فإني أعرف جيدًا أنك سوف تفلت من بين هؤلاء الذين يرجموك مثل الله (انظر يو59:8).
لأن الكلمة لا يُرجم. إن جاءوا بك إلى هيرودس لا تعطيه إجابة عن أغلب أسئلته؛ فسوف يحترم صمتك أكثر من احترامه لأحاديث الشعب الكثيرة. إذا جلدوك اطلب منهم أن يتمموا كل الجلدات. ذُق المر واشرب الخل؛ واطلب أن يبصقوا على وجهك؛ اقبل منهم اللطمات والشتائم، وتوج رأسك بإكليل الشوك، أي بأشواك حياة التقوى.
إلبس ثوب الأرجوان وأمسك القصبة في يدك، واقبل السجود بسخرية من أولئك الذين يسخرون من الحق؛ أخيرًا فلتُصلب مع المسيح واشترك في موته ودفنه بفرح لكى تقوم معه وتتمجد معه وتملك معه. انظر إلى الله العظيم الذي يُسجد له ويمجد في ثالوث، ودعه ينظر إليك وليته يظهر الآن بوضوح أمامك، بقدر ما تسمح قيود الجسد، بيسوع المسيح ربنا الذي له المجد من الآن وإلى الأبد آمين.
المـركز الأرثـوذكـسي للدراسات الآبائية بالقاهرة
نصوص آبائية ـ 70
ثيئوفانيا
ميلاد المسيح
للقديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات ( النازينزى)
مع سيرة حياته
ترجم العظة وأعد المقدمة
دكتور جورج عوض إبراهيم , دكتور نصحى عبد الشهيد
يناير 2004
تُرجمت هذه العظة عن النص اليونانى فى مجموعة آباء الكنيسة
ΕΠΕ, Vol. V, Orat. 38, p. 36-71, Tessaloniki, Greece 1977.
وعن الترجمة الإنجليزية بالمجلد رقم 7 من المجموعة الثانية من سلسلة آباء نيقية وما بعدها
Nicene & Post Nicene Fathers, 2nd Series, Vol. 7, Orat. 38, p. 345-351
اسم الكتاب : ثيئوفانيا ـ ميلاد المسيح
اسم المؤلف : القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات
المترجمان: د. جورج عوض إبراهيم ـ د. نصحى عبد الشهيد
إعداد المقدمة: د. جورج عوض إبراهيم ـ د. نصحى عبد الشهيد
اسم الناشر: مؤسسة القديس أنطونيوس ـ المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة : 8 (ب) ش إسماعيل الفلكى محطة المحكمة مصر الجديدة ت: 2414023
E-mail: santonio@link.net
اسم المطبعة: دار يوسف كمال للطباعة
2ش المدارس حدائق القبة 4827074 – 4865378
رقم الإيداع:الترقيم الدولى
قداسة البابا شنودة الثالث
بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية
مقدمة
يحدثنا القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات فى هذه العظة: “ثيئوفانيا” ـ “الميلاد”، التي ألقاها فى القسطنطينية سنة 379م عن اسمين للاحتفال بالتجسد. الاسم الأول: “ثيئوفانيا” باليونانية ومعناها “ظهور الله” لأن المسيح هو الله الذي ظهر في الجسد. والثاني “الميلاد” بسبب ميلاد المسيح من العذراء بالجسد. فحتى ذلك الوقت كانت الكنيسة الشرقية تحتفل بميلاد المسيح معتبرة إياه أنه الظهور الإلهي “ثيئوفانيا” وهو الاسم الذي صار فيما بعد يُطلق على عيد عماد المسيح أي الظهور الإلهي.
ونقدم الآن سيرة حياة القديس غريغوريوس قبل نص عظته.
حياة القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات
(النازينزى 330 ـ 390م)
مقدمة
القديس غريغوريوس هو أحد آباء الكنيسة الكبار، معلمو العقيدة الذين تعتمدهم الكنيسة الأرثوذكسية في كل العالم كشهود أمناء للإيمان المستقيم.
وتظهر قيمة القديس غريغوريوس فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من أمرين أساسيين على الأقل. الأمر الأول: أن القديس غريغوريوس هو صاحب القداس الغريغورى المعروف باسمه في الكنيسة القبطية، والذي يجد في نفوس المُصلين محبة خاصة لأنه يُناجى المسيح ابن الله الوحيد مناجاة طويلة فى قداسه تأسر قلوبهم وترتفع بهم إلى مشاركة السمائيين. والأمر الثاني: أن القديس غريغوريوس هو أحد الآباء القليلين الذين تأخذ الكنيسة فى تحليل الخدام منهم الحِل، مع الرسل القديسين والقديس مارمرقس. والقديس غريغوريوس هو الوحيد الذى أطلقت عليه الكنيسة الأرثوذكسية لقب “الناطق بالإلهيات” بعد القديس يوحنا الإنجيلى الرسول، وذلك بسبب عظاته وخطبه اللاهوتية الشهيرة عن ألوهية المسيح وعن الثالوث القدوس، التي ألقاها فى القسطنطينية في السنوات القليلة التى قضاها هناك. وهو أحد ثلاثي آباء كبادوكية بآسيا الصغرى مع القديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية والقديس غريغوريوس أسقف نيصص. وقد حمل معهما شعلة إيمان مجمع نيقية ومواصلة الدفاع عنها بعد نياحة القديس أثناسيوس.
نشأته ودراسته:
وُلد القديس غريغوريوس حوالى سنة 330 فى بلدة نازينز بمقاطعة كبادوكية بآسيا الصغرى التى كان والده غريغوريوس أسقفًا لها. وكانت أمه “نونة” امرأة مسيحية حقيقية من أنبل النساء المسيحيات فى القرون الأولى للمسيحية. كان لـ”نونة” تأثير قوى جدًا فى نشأة غريغوريوس على الإيمان ومحبة الله ومحبة القداسة. هذه المرأة استطاعت بصلواتها وقداستها أن تحوّل زوجها غريغوريوس الأب من اعتناقه لبدعة خارج الكنيسة إلى الإيمان المستقيم. هذه الأم القديسة كرّست ابنها وهو فى بطنها لخدمة الله.
ويقول عنها القديس غريغوريوس ابنها ” كانت زوجة بحسب فكر سليمان، خاضعة لزوجها بحسب ناموس الزواج. وفي نفس الوقت كانت معلّمة لزوجها وقائدة له إلى الإيمان الحقيقي… فعندما تنشغل بالله وعبادته، كانت تبدو كانها لا تعرف شيئًا بالمرة عن أي مهام أرضية أو منزلية. وعندما تكون عاملة فى بيتها كانت تبدو كأنها لا تعرف شيئًا عن الممارسات الدينية: كانت كاملة في كل شئ.
لقد غرست الاختبارات في قلبها ثقة لا حدود لها في فاعلية الصلاة المؤمنة؛ وبالصلاة انتصرت على أحزانها وأحزان الآخرين، بالشكر لله”[26]. وقال عنها ابنها غريغوريوس فى أحد أشعاره: ” ولولوا أيها الأموات، أيها الجنس المائت؛ ولكن حينما يموت شخص مثل “نونة” وهى تصلى فأنا لا أبكي”[27].
ومنذ نعومة أظافره ربته أمه بتعاليم الكتاب المقدس وتسابيح الكنيسة وصلواتها. درس أولاً في نازينزا، وعندما بدأ يشب قرر بتشجيع أمه وبتأثير حلم رآه أن يكرّس حياته متبتلاً للمسيح. ثم أكمل تعليمه في قيصرية كبادوكية حيث تعرّف هناك على باسيليوس في صباهما. ثم ذهب إلى قيصرية فلسطين ومنها إلى الأسكندرية حيث كان القديس أثناسيوس أسقفًا دون أن تتاح له فرصة لقائه. لم يمكث غريغوريوس كثيرًا هناك بل سافر بحرًا قاصدًا أثينا ليكمل درساته.
أثناء سفره حاصرت السفينة عاصفة رهيبة وكاد ركابها بمن فيهم غريغوريوس يغرقون. ولأن غريغوريوس لم يكن قد اعتمد بعد، فقد انزعج بشدة خوفًا من الموت بدون معمودية، وفي صلاة حارة جدد عهد تكريسه ناذرًا نفسه من جديد لخدمة الله إذا أعطاه الله الفرصة للنجاة من الغرق. وفى أثينا توثقت علاقته بباسيليوس الذي كان يدرس أيضًا هناك. ووصف غريغوريوس عمق المحبة والصداقة التي جمعت بينه وبين باسيليوس بقوله كنا روحًا واحدة فى جسدين. ورغم محاولة كثيرين إقناعه بالإقامة الدائمة معهم في أثينا ليعمل مدرسًا للبلاغة، فإنها غادرها وهو فى الثلاثين من عمره تقريبًا ورجع إلى نازينز، حيث كان لا يزال والده غريغويورس أسقفًا. وبعد عودته نال سر المعمودية وله من العمر ثلاثون سنة تقريبًا.
غريغوريوس الناسك:
بعد ذلك ألقى غريغوريوس نفسه بكل قواه ليحيا الحياة النُسكية بأشد صرامة، ولكنه في نفس الوقت استمر يعيش فى نازينز ممارسًا الحياة النُسكية فى المدينة ومساعدًا لوالده فى أعمال الأسقفية. ولشدة شوقه لحياة التأمل والخلوة لم يبق فى المدينة كثيرًا، بل انطلق إلى جبال البنطس حيث قضى فترة في العبادة والتأمل مع صديقه باسيليوس. وهناك تفرغا تمامًا لدراسة الكتب المقدسة والصلوات والتسابيح. وفي دراستهما للكتاب المقدس كان المبدأ الأساسي عندهما أن يفسرا الكتب المقدسة ليس حسب آراءهما الشخصية بل على أساس الخطوط التى وضعها الآباء والمعلمون السابقون عليهما في التفسير.
وقرأ كلاهما تفاسير أوريجينوس للكتاب وانتفعا بها مع تحاشى أي أفكار قد تكون غريبة عن المألوف. ومن تفسيرات أوريجينوس للكتاب والاقتباسات التي أخذاها منها وضعا الناسكان الصديقان غريغوريوس وباسيليوس كتابًا مكونًا من سبعة وعشرين جزءً أعطوه اسم “فيلوكاليا” Philocalia أي “محبة الصلاح”. وهذا الكتاب لا يزال موجودًا إلى الآن بلغات عديدة بالإضافة إلى الأصل اليونانى. وقال عنه القديس غريغوريوس في إهدائه الكتاب لأحد أصدقائه أن الكتاب قُصد به ليكون عونًا للدارسين في تأملاتهم الروحية.
ولكن غريغوريوس لم يبق لفترة طويلة في المرة الأولى التى ذهب فيها للخلوة مع باسيليوس، فبعد حوالى ثلاث سنوات عاد إلى نازينز، ربما بسبب مشاكل في إيبارشية والده استدعت رجوعه.
غريغوريوس الكاهن:
بعد عودته وبقاءه لبعض الوقت يعاون والده الأسقف في خدمة الإيبارشية الذي كان قد بلغ حوالي تسعون عامًا، وبإلحاح من شعب نازينز قام والده الأسقف بسيامته كاهنًا رغمًا عنه في احتفال كبير فى عيد الميلاد عام 361م. ولم يكن غريغوريوس مستريحًا أو راضيًا بالمرة عن السيامة، إذ قال عن الطريقة القهرية التي تمت بها، بعد سنوات طويلة، إنها “عمل استبدادي” وأنه يلتمس الغفران من الروح القدس عن قوله هذا (انظر Carm, de vita, I, 345).
وبعد سيامته مباشرة هرب إلى بنطس ليستأنف الحياة التأملية مع صديقه باسيليوس ولكنه لم يبق هناك سوى ثلاثة أشهر تقريبًا عاد بعدها إلى نازينز لشعوره باحتياج والديه المسنين واحتياجات كنيسة نازينز. وألقى عظة عيد الفصح فى كنيسة نازينز في عام 362م، وفي هذه العظة دافع عن هروبه قائلاً إنه من النافع أن يخاف الإنسان في البداية من دعوة الله العظيمة كما فعل موسى وإرميا، كما أن استجابة الإنسان لصوت الله حينما يدعوه مثلما حدث مع هارون وإشعياء لها فائدة، وفي الحالتين ينبغي أن يكون الهروب أو الموافقة بروح خاشعة: بسبب ضعف الإنسان فى حالة الهروب أو بسبب اعتماده على قوة الله في حالة قبول الدعوة.
وانتهز غريغوريوس الفرصة ليكتب رسالة طويلة عن هروبه يوضح فيها باستفاضة فهمه لطبيعة ومسئوليات الخدمة الكهنوتية وأسباب هروبه بعد السيامة ورجوعه السريع، صارت مرجعًا لكل الآباء الذين كتبوا عن الكهنوت بعده.
وعندما صار يوليانوس إمبراطورًا سنة 361، حاول عن طريق حاكم المنطقة أن يرسل فرقة مسلحة للاستيلاء على كنيسة نازينز. ولكن الأسقف المُسن بمساعدة ابنه غريغوريوس وشعب الكنيسة رفضوا بجرأة تنفيذ أوامر الإمبراطور، ولما شعر الوالى بوجود مقاومة شديدة أُضطر لسحب القوة المُسلحة. ولم تتكرر هذه المحاولة من الدولة بعد ذلك. وكان لموقف غريغوريوس الأب وغريغوريوس الابن فى مقاومة يوليانوس الجاحد دفاعًا عن الإيمان المستقيم دور كبير لتحويل نظر الإمبراطور عن مهاجمة الإيمان وممتلكات الكنيسة فى مقاطعة كبادوكية كلها. وبعد أن تولى الإمبراطور فالنس الآريوسى عرش الإمبراطورية كان يوسابيوس أسقف قيصرية هو رئيس أساقفة كبادوكية؛
فأرسل إلى غريغوريوس يدعوه إلى قيصرية لمساعدته فى مقاومة الآريوسية فاعتذر غريغوريوس لأنه كان يعلم بوجود خلاف بين المطران يوسابيوس والكاهن باسيليوس. وكتب غريغوريوس خطابات إلى يوسابيوس وباسيليوس واستطاع أن يصالح بينهما سنة 365م، فذهب باسيليوس إلى قيصرية لمساعدة يوسابيوس.
غريغوريوس الأسقف:
بسبب وجود صراع بين أنثيموس أسقف “تايانا” الذى اعطاه الإمبراطور فالنس فرصة أن يسيطر على مقاطعة كبادوكية كلها بجعل تايانا مقر رئاسة الأساقفة بدلاً من قيصرية ـ فلكي يقوّي القديس باسيليوس الذي كان أسقفًا لقيصرية مركزه في مواجهة الخطة الإمبراطورية قام بإقامة أسقفيات عديدة فى المنطقة المتنازع عليها بينه وبين أنثيموس. ومن بين هذه الأسقفيات “سازيما”، قرية فقيرة وصغيرة جدًا وجميع سكانها من الأجانب واللصوص، قام بسيامة صديقه غريغوريوس أسقفًا لها بعد ضغط شديد من باسيليوس ووالد غريغوريوس المُسن سنة 372م.
ولكنه لم يذهب لاستلام هذه الإيبارشية تحاشيًا للصدام واستعمال العنف مع الأسقف أنثيموس. وتسبب هذا الموقف مع باسيليوس في تأزم العلاقات بينهما لدرجة كادت تؤثر على الصداقة العميقة التي كانت تجمعهما.
عاد غريغوريوس إلى خلوته مفضلاً حياة الهدوء والتأمل. وبعد ذلك استجاب غريغوريوس مرة أخرى لتوسلات أبيه أن يظل في نازينز ويخدم فيها كأسقف معاون له، فاستمر فترة في نازينز يعظ ويرعى الشعب. وألقى عظة سنة 372م في حضور والده حدّث فيها الشعب بكل صراحة عن مشدود بين الحياة التأملية وبين الاستجابة لداعى العمل الرعوى بدعوة الروح القدس. وهكذا وقف مساعدًا أمينًا بجوار والده الوقور الذي كان قد وصل إلى سن المائة وكان له في الأسقفية 45 عامًا.
وفي سنة 374م انتقل والده فألقى عظة مؤثرة جدًا في جنازة والده التى حضرها القديس باسيليوس (Orat. XVIII). قال فيها موجهًا الحديث لوالدته التى كانت ما تزال تعيش: ” هناك حياة واحدة فقط هي أن نرى الله، ويوجد موت واحد فقط ـ الخطية؛ لأن هذه هي هلاك النفس. وكل ما هو غير ذلك الذى لأجله يجهد الكثيرون أنفسهم، هو حلم يحجب عنا الحق، إنه وهم خادع للنفس. فحينما نفكر هكذا، يا أمي، فلن نفتخر بالحياة ولن نخاف الموت” وفي نفس السنة انتقلت أمه.
وبعد أن ظل حوالى سنة يرعى كنيسة نازينز، اعتزل مرة أخرى فى خلوته المحببة سنة 375م حيث ذهب إلى “سلوكية” في “إشوريا” وقضى هناك حوالى أربع سنوات بالقرب من كنيسة القديسة “تِكلا”. وبينما هو هناك فى خلوته وصله خبر وفاة القديس باسيليوس سنة 379م فأرسل رسالة إلى غريغوريوس أسقف نيصصا شقيق القديس باسيليوس يعبّر فيها عن حزنه الشديد وفقدانه وخسارته العظيمة بانتقال باسيليوس.
غريغوريوس رئيس أساقفة القسطنطينية:
في عام 379م دُعى القديس غريغوريوس ليذهب لإنقاذ كنيسة القسطنطينية من الحالة المزرية التي وصلت إليها طوال أربعين عامًا تحت رئاسة أساقفة آريوسيين. لذلك لجأ إليه أرثوذكس العاصمة المتبقين لكي يأتي لمساعدتهم بعد أن صاروا عددًا قليلاً وأيدهم فى إلحاحهم عدد من الأساقفة الأرثوذكس يحثونه على قبول الدعوة. وأيدهم الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير وبعد أن قاوم الدعوة لمدة من الوقت فإنه أخيرًا شعر أن إرادة الله أن يذهب إلى القسطنطينية لكى يملأ الفراغ الإيمانى إلى أن يتمكن أرثوذكس العاصمة من اختيار رئيس أساقفة لهم. ورغم أن المرض كان قد أحناه، وثيابه البسيطة وببساطة حياته كناسك إلاّ أنه لم يعجب شعب العاصمة المحبون للمظاهر، بل أن البعض هزءوا به واحتقروه.
ولكنه رغم كل هذا نجح بقوة وعظه ومقدرته اللاهوتية وجهاده المخلص هناك أن يجعل من القطيع الصغير المتبقى هناك كنيسة مزدهرة وقوية في الإيمان والحياة المسيحية، وحقق انتصار إيمان نيقية مرة أخرى. ولكي يخلد ذكرى نصرة الإيمان هذه فإنه أعطى للكنيسة الصغيرة ـ التي كانت جزءً من منزل أحد أقربائه في المدينة ـ اسم “أناستاسيا” التي تعني القيامة، وفيها قدم عظاته مع خدماته الليتورجية للشعب. وتجمعت حوله كل جماهير القسطنطينية لتسمع عظاته التي تركزت معظمها حول ألوهية المسيح وعقيدة الثالوث القدوس مع الدعوة إلى حياة تقوية تليق بالإيمان المستقيم. وبسبب نجاحه الباهر في الانتصار على البدعة الآريوسية فى المدينة حاول الآريوسيون أن يستأجروا قاتلاً لاغتياله.
وهذا دليل ساطع على انتصاره عليهم فى ضمائر شعب المدينة. ويخبرنا القديس جيروم أنه جاء من سوريا إلى القسطنطينية ليستمع إلى خطب غريغوريوس اللاهوتية. وأنه تعلّم شخصيًا من غريغوريوس في تفسيره للكتاب المقدس. وقد توّج الإمبراطور ثيؤدوسيوس انتصار إيمان نيقية الذي حققه غريغوريوس فى نفوس الشعب حينما دخل القسطنطينية في عام 380م، وأسقط الأسقف الآريوسي ديموفيلوس وكهنته وسلّم “كاتدرائية الرسل” للقديس غريغوريوس قائلاً:
“نسلّم هيكل الله هذا لك بأيدينا كمكافأة لأتعابك”. وعندئذٍ طلب الشعب أن يصير غريغوريوس رئيسًا لأساقفة القسطنطينية، فرفض بإصرار. وعندما اجتمع المجمع المسكونى فى القسطنطينية سنة 381م اُختير غريغوريوس من آباء المجمع بطريركًا. ورأس اجتماع المجمع لفترة كبطريرك للقسطنطينية. ولكن حينما اعترض أساقفة مصر ومقدونية الذين وصلوا متأخرين على قانونية انتخابه لأنه أسقفًا لـ”سازيما” فلايجوز نقله إلى أسقفية أخرى بحسب قرارات مجمع نيقية. فإنه قَبِل هذا الاعتراض رغم أن مجمع القسطنطينية كان بقراره قد ألغى ارتباطه بسازميا التي لم يستلمها أصلاً، ولكنه كان زاهدًا فى المناصب.
سنواته الأخيرة:
رجع إلى نازينز واستمر يقوم بأعمال الكنيسة هناك لفترة إلى أن تمكن من ترتيب اختيار أسقفًا للمدينة، ثم اعتزل هو في ضيعة أسرته في أريانز حيث قضى السنوات الأخيرة من حياته فى خلوة وهدوء دون أن يقطع اتصالاته مع قادة الكنيسة فى ذلك الوقت بواسطة الرسائل فكان يهتم اهتمامًا شديدًا برعاية الفقراء والأسر التي في منطقة إقامته، صارفًا وقته بين الصلاة والتأمل وقراءة الكتب المقدسة إلى أن انطلق لرؤية الإله الذي كان يهيم بحبه سنة 390م. وتعيد له الكنيسة يوم 25 يناير.
(مراجع السيرة : N.P.N. Fathers, Vol. 7, p. 187-200 Philip Schaff, History of The Church, Vol. 3, p908-920).
فليبارك المسيح إلهنا هذا الكتيب لبنيان كنيسته بشفاعة والدة الإله وصلوات الرسل والشهداء والقديسين والقديس غريغوريوس، وصلوات قداسة البابا شنودة الثالث، والمجد والسجود للآب والابن والروح القدس.
9 ديسمبر 2003م
29 هاتور1720ش
شهادة البابا بطرس خاتم الشهداء
المركز الأرثوذكسي
للدراسات الآبائية بالقاهرة
بالقاهرة
نصوص آبائية ـ 70
—————————————————————
[1] هذا العنوان وكل العناوين الجانبية من وضع المُترجم.
[2] الظلمة تنقشع بولادة الرب مثلما حدث أثناء خلق العالم بخلق النور الذي جعل الظلمة التي كانت تغطى الأرض تنقشع (انظر تك2:1 وفيما بعده).
[3] انظر خر21:10. يقصد بمصر العالم الذي يعيش في ظلمة.
[4] يشير كل من “الحرف” و “الظلال” إلى “الناموس” الموسوى، بينما كل من “الروح” و “الحق” إلى الحياة الجديدة التي ظهرت في العالم بميلاد المخلّص.
[5] العالم السماوي يكتمل بعودة الجنس البشري إلى الموطن السماوي.
[6] يشير هنا القديس غريغوريوس إلى “الأكل من الثمرة المحرمة ” الذي تسبب في سقوط الأبوين الأولين (تك3).
[7] يشير هنا إلى أنه غريب وليس من أهل القسطنطينية، وهو يلقى خطابه بعد وصوله إليها بفترة قصيرة بعد أن كان يعيش في كبادوكية البعيدة عن القسطنطينية ويخدم في مواضع صغيرة وغير مشهورة مثل نازينز التي جاء منها.
[8] أي من خلال أفعاله الإلهية.
[9] قدس الأقداس هنا يعنى الثالوث القدوس.
[10] على الأغلب يشير القديس غريغوريوس إلى القديس أثناسيوس الرسولى الذي انشغل بمهارة فائقة بالتعليم عن الله في كتابه ضد الآريوسيين.
[11] يدعو القديس غريغوريوس الله بالصلاح، وكان هذا معتادًا عند الآباء أن يستخدموا صفات الله كأسماء لله.
[12] يوسيفوروس يعنى حامل الفجر أى النور. أول إشارة إليه كانت في سفر إشعياء 12:14، لكن ظل يُدعى شيطان Satanaوهى كلمة من الفعل العبرى Satan بمعنى المقاوم.
[13] أي من المادة والروح.
[14] طبعًا لا يقصد القديس غريغوريوس أن الإنسان يصير إلهًا مثل الله: يوجد في كل مكان وقادر على كل شئ، وأبدى … الخ، لكن يشير هنا إلى اكتساب الفضائل الإلهية.
[15] أي من المادة والروح.
[16] يشير القديس غريغوريوس إلى الخلق بواسطة إتحاد الجسد والنفس، والموت هو إنحلال هذا الإتحاد ثم يأتى بعد ذلك إعادة هذا الإتحاد في الدهر الآتى بأكثر مجدًا.
[17] هنا يشرح القديس غريغوريوس مفهوم الأقمصة الجلدية.
[18] هنا نتذكر قول القداس الغريغورى: ” حوّلت لى العقوبة خلاصًا “.
[19] انظر القداس الغريغوري الذي يخاطب المسيح الكلمة بقوله “الذي لا ينطق به، غير المرئي، غير المحوى، غير المبتدئ، الأبدي، غير الزمني، الذي لا يُحد، غير المفحوص، غير المستحيل (أي غير المتغير)”. وهذا يوضح أن القداس هو من وضع القديس غريغوريوس نفسه الذي تفوه بهذه العظة وغيرها من الخطب والعظات المعروفة باسمه.
[20] أي إلى الإنسان الذي خلق على صورته.
[21] بناسوت خلقه هو في أحشاء العذراء.
[22] في الخلق خلق الله الإنسان “على صورة الله”، بينما في التجسد أخذ الجسد: “أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له”.
[23] طبعًا من جهة طبيعته التي فيها اللاهوت متحد بالناسوت.
[24] يقصد أصحاب بدعة سابيليوس الذي قال إن الآب هو نفسه صار المسيح وصلب وبعد صعود المسيح جاء باسم الروح القدس أى الثالوث أقنوم واحد وليس ثلاثة أقانيم للاهوت واحد.
[25] يقصد الآريوسيين.
[26] Philip Schaff, History of the Christian Church, Vol. III, p. 910, 911.
[27] المرجع السابق.
[28] الظلمة تنقشع بولادة الرب مثلما حدث أثناء خلق العالم بخلق النور الذي جعل الظلمة التي كانت تغطى الأرض تنقشع (انظر تك2:1 وفيما بعده).
[29] انظر خر21:10. يقصد بمصر العالم الذي يعيش في ظلمة.
[30] يشير كل من “الحرف” و “الظلال” إلى “الناموس” الموسوى، بينما كل من “الروح” و “الحق” إلى الحياة الجديدة التي ظهرت في العالم بميلاد المخلّص.
[31] العالم السماوى يكتمل بعودة الجنس البشرى إلى الموطن السماوى.
[32] يشير هنا القديس غريغوريوس إلى “الأكل من الثمرة المحرمة ” الذي تسبب في سقوط الآباء الأولين (تك
[33] يشير هنا إلى أنه غريب وليس من أهل القسطنطينية، وهو يلقى خطابه بعد وصوله إليها بفترة قصيرة بعد أن كان يعيش في كبادوكية البعيدة عن القسطنطينية ويخدم في مواضع صغيرة وغير مشهورة مثل نازينز التي جاء منها.
[34] أى من خلال أفعاله الإلهية.
[35] قدس الأقداس هنا يعنى الثالوث القدوس.
[36] على الأغلب يشير القديس غريغوريوس إلى القديس أثناسيوس الرسولى الذي انشغل بمهارة فائقة بالتعليم عن الله في كتابه ضد الآريوسيين.
[37] يدعو القديس غريغوريوس الله بالصلاح، وكان هذا معتادًا عند الآباء أن يستخدموا صفات الله كأسماء لله.
[38] يوسيفوروس يعنى حامل الفجر أى النور. أول إشارة إليه كانت في سفر إشعياء 12:14، لكن ظل يُدعى شيطان Satanaوهى كلمة من الفعل العبرى Satan بمعنى المقاوم.
[39] أي من المادة والروح.
[40] طبعًا لا يقصد القديس غريغوريوس أن الإنسان يصير إلهًا مثل الله: يوجد في كل مكان وقادر على كل شئ، وأبدى … الخ، لكن يشير هنا إلى اكتساب الفضائل الإلهية.
[41] أي من المادة والروح.
[42] يشير القديس غريغوريوس إلى الخلق بواسطة إتحاد الجسد والنفس، والموت هو إنحلال هذا الإتحاد ثم يأتى بعد ذلك إعادة هذا الإتحاد في الدهر الآتى بأكثر مجدًا.
[43] هنا يشرح القديس غريغوريوس مفهوم الأقمصة الجلدية.
[44] هنا نتذكر قول القداس الغريغورى: ” حوّلت لى العقوبة خلاصًا “.
[45] انظر القداس الغريغورى الذي يخاطب المسيح الكلمة بقوله ” الذي لا ينطق به، غير المرئى، غير المحوى، غير المبتدئ، الأبدى، غير الزمنى، الذي لا يحد، غير المفحوص، غير المستحيل (أى غير المتغير). وهذا يوضح أن القداس هو من وضع القديس غريغوريوس نفسه الذي تفوه بهذه العظة وغيرها من الخطب والعظات المعروفة باسمه.
[46] أى إلى الإنسان الذي خلق على صورته.
[47] بناسوت خلقه هو فى أحشاء العذراء.
[48] أعطى الله في الخلق نعمة الخلق “على صورة الله” بينما في التجسد يأخذ الجسد: “أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له”.
[49] طبعًا من جهة طبيعته التي فيها اللاهوت متحد بالناسوت.
[50] يقصد أصحاب بدعة سابيليوس الذي قال إن الآب هو نفسه صار المسيح وصلب وبعد صعود المسيح جاء باسم الروح القدس أى الثالوث أقنوم واحد وليس ثلاثة أقانيم للاهوت واحد.
[51] يقصد الآريوسيين.
[52] Philip Schaff, History of the Christian Church, Vol. III, p. 910, 911.
[53] المرجع السابق.
لإلهنا كل “مجد † كرامة †عزة † سجود” إلى الأبد آمين
No Result
View All Result
Discussion about this post