عظات القديس مكاريوس الكبير
العظة الأولى : النفس عرش الله وهو قائدها
ترجمة القمص تادرس يعقوب ملطى
” تفسير مجازي للرؤيا الموصوفة في سفر حزقيال النبي”
1 ـ يقص حزقيال النبى المبارك، الرؤيا المجيدة الملهمة التي رآها، ووصفه لهذه الرؤيا يبيّن أنها مليئة بالأسرار التي لا يُنطق بها.
لقد رأى مركبة[1] الشاروبيم وهي عبارة عن أربعة كائنات روحانية حية، لكل منها أربعة أوجه، واحد منها وجه أسد، وآخر وجه نسر، وآخر وجه ثور، والرابع وجه إنسان. ولكل وجه أجنحة بحيث لا توجد أجزاء خلفية لأي واحد منهم، وظهورهم مملوءة عيونًا، وكذلك بطونهم مشحونة ومزدحمة بالعيون، وليس فيهم أي جزء لم يكن مملوءاً عيونًا. وكان أيضًا لكل وجه بكرات، بكرة في وسط بكرة وكان الروح في البكرات.
ورأى حزقيال منظر شبه إنسان قدميه كمنظر حجر العقيق (الياقوت) الأزرق. ومركبة الشاروبيم والكائنات الحيّة كانت تحمل الرب الذي جلس فوقهم. وحيثما شاء أن يسير فإنه يسير والوجه إلى الأمام. ورأى تحت الشاروبيم كمثل يد إنسان تسند وتحمل.
2 ـ وهذا الذي رآه النبى كان في جوهره حقيقيًا وأكيدًا، ولكنه يشير كظل مسبق إلى شيء آخر سرّى وإلهي ـ السر المكتوم بالحقيقة منذ الدهور ومنذ الأجيال (كو26:1)، ولكنه أُظهر في الأزمنة الأخيرة (1بط10:1) بظهور المسيح، فإن السر الذي رآه هو سر النفس التي كانت ستستقبل ربها وتصير هي ذاتها عرشًا لمجده (مت31:25). لأن النفس التي تتمتع بامتياز الاشتراك في روح ونور الله وتتشرب بأشعة جمال مجده غير الموصوف ـ وهو الذي هيأها لتكون كرسيًا ومسكنًا له ـ فإنها تصير كلها نورًا وكلها عينًا! ولا يكون فيها جزءً غير مملوء بعيون النور الروحانية. أي ليس فيها جزءً مظلمًا بل تصير بكليتها نورًا وروحًا، وتمتلئ كلها عيونًا، فلا يكون لها جزءً خلفي بل في كل اتجاه يكون وجهها إلى الأمام بواسطة الجمال الذي يفوق التعبير الذي لمجد نور المسيح الجالس والراكب عليها.
وكما أن الشمس هي بكليتها ذات شبه واحد، بدون أي جزء من الخلف أو من أسفل، بل هي مكسوة بالنور من كل ناحية، وهي بالحقيقة كلها نور، بدون اختلاف بين أجزائها، أو كما أن النار، أي نفس نور النار، هي متشابهة كلها، وليس فيها أول أو آخر، أو أكبر أو أصغر، هكذا أيضًا النفس التي تتشبع تمامًا بالجمال الذي لا يُوصف، جمال مجد نور وجه المسيح. وتكون في شركة تامة مع الروح القدس وتنال الامتياز بأن تكون محل سكن الله وعرشًا له، فإنها تصير كلها عينًا، وكلها نورًا، وكلها وجهًا، وكلها مجدًا، وكلها روحًا، والمسيح الذي يقودها، ويرشدها، ويحملها، ويسندها، هو الذي يصنعها ويجعلها هكذا وينعم عليها ويزّينها هكذا بالجمال الروحانى، لأن الكتاب يقول: ويد إنسان كانت تحت الشاروبيم[2] لأنه هو ذاك الذي يركب عليها ويوجهها.
الشاروبيم رمز لقوى النفس :
3 ـ والكائنات الحيّة الأربع التي حملت المركبة إنما كانت رمزًا للملكات (أي القوى) الحاكمة للنفس. فكما أن النسر هو ملك الطيور والأسد ملك الوحوش الضارية، والثور ملك الحيوانات والبهائم، والإنسان ملك المخلوقات عمومًا؛ هكذا النفس أيضًا لها ملكاتها الحاكمة. وهذه الملكات هي الإرادة، والضمير، والعقل، وملكة الحب. فهذه الملكات تضبط مركبة النفس، وعليها يستريح الله. وبحسب تفسير آخر فإن الرمز يشير إلى كنيسة القديسين في السماء. فكما يُقال هنا إن الكائنات الحيّة كانت مرتفعة جدًا، ومملوءة عيونًا وأنه لم يستطع أحد أن يدرك عدد العيون أو الارتفاع، لأننا لم نُعطَ معرفة، وكما أنه، قد أُعطى لجميع الناس، فيما يخص نجوم السماء، أن ينظروا النجوم ويتعجبوا منها، ولكن لم يُعطَ لهم أن يعرفوا ويدركوا عددها، وكذلك هو الحال مع نباتات الأرض، التمتع بها أُعطى للجميع، ولكن مستحيل أن يعرف أحد عددها، فهكذا أيضًا الحال فيما يخص كنيسة القديسين في السماء. فالدخول إليها والتمتع بها قد أُعطى لكل الذين يرغبون ويجاهدون في طلبها، أما كيفية رؤية وإدراك العدد الذي فيها، فهذا خاص بمعرفة الله وحده. فالراكب إذن تنقله وتحمله مركبة أو عرش الكائنات الحّية التي كلها عيونًا، أو بمعنى آخر تحمله النفس التي أصبحت عرشًا له وكرسيًا، وهي الآن عين ونور. إنه يصعد عليها ويحكمها بزمام الروح ويقودها بحسب فكره هو. وكما أن الكائنات الروحانية الحيّة لم تذهب إلى حيث شاءت بل إلى حيث يعرف ويشاء ذاك الذي يجلس عليها ويوجهها، هكذا الحال هنا، فإنه هو نفسه الذي يمسك الزمام ويقود قوى النفس بروحه، حينما تتجه للسير إلى السماء، فهي تسير حسب قيادته وليس بحسب مشيئتها الخاصة. فأحيانًا يطرح الجسد، ويقود النفس ويأخذها بالفكر إلى السماء، وأحيانًاـ حينما يشاء هو ـ يأتى بها للعمل في الجسد وشيءونه، وأحيانًا ـ متى شاء ـ يأتى بها إلى أقاصى الأرض ويكشف للنفس أسرارًا بلا حجاب. آه، يا لسموه وصلاحه، ذلك القائد الحقيقى الوحيد (للنفس)!. وبنفس الطريقة، فإن أجسادنا أيضًا ستنال الامتياز في القيامة، بعد أن تكون النفس قد سبقت وتمجّدت منذ الآن على الأرض وامتزجت مع الروح في الحياة الحاضرة.
أنتم نور العالم :
4 ـ وأما أن نفوس الأبرار تصير نورًا سماويًا، فهذا هو ما أعلنه الرب للرسل، عندما قال ” أنتم نور العالم” (مت14:5) لأنه صيّرهم نورًا أولاً، ثم بعد ذلك أمر بأن يستنير بهم العالم إذ يقول ” لا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضئ لكل من في البيت، فليضئ نوركم هكذا قدام الناس” (مت16،15:5).
وبمعنى آخر، لا تخفوا الموهبة التي قبلتموها منى، بل أعطوا لكل الذين يرغبون أن ينالوها. وقال أيضًا ” سراج الجسد هو العين فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا. فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون” (مت23،22:6 ، لو34:11)، فكما أن العينين هما نور الجسد ـ وطالما هما بحالة جيدة ـ فالجسد كله يكون نيرًا، ولكن إن حدث لهما حادث فأظلمتا، يصير الجسد كله في ظلمة، هكذا قد جعل الرسل ليكونوا عيونًا ونورًا للعالم كله. لذلك فإن الرب أمرهم بهذا القول: فأنتم الذين هم بمثابة نور الجسد، إن كنتم تثبتون ولا تنصرفون عنى، فحينئذ يستنير جسد العالم كله، وأما إن كنتم وأنتم النور تكونون مظلمين فما أعظم تلك الظلمة، التي هي ليست شيئًا سوى ظلمة العالم. وهكذا فإن الرسل، إذ كانوا هم أنفسهم نورًا، فقد أعطوا النور لأولئك الذين آمنوا، إذ أناروا قلوبهم بذلك النور السماوي ـ نور الروح الذي كانوا هم أنفسهم مستنيرين به.
المِلح والذبيحة والكاهن :
5 ـ وإذ كانوا هم أنفسهم ملحًا فإنهم حفظوا وملّحوا كل نفس مؤمنة بملح الروح القدس؛ لأن الرب قال لهم ” أنتم مِلح الأرض” (مت13:5)، ويقصد بالأرض قلوب الناس. إنهم أعطوا لنفوس الناس من الداخل الملح السماوي ـ ملح الروح ـ فيملّحونهم ويجعلونهم أحرارًا من الفساد والتعفن، بدلاً من تلك الحالة الكريهة التي كانوا فيها. إن اللحم، إن لم يُملّح، يفسد ويمتلئ برائحة كريهة، حتى أن الناس كلهم يبتعدون من الرائحة العفنة، ويدب الدود في اللحم الفاسد ويسكن فيه ويتغذى عليه ويختبئ فيه؛ ولكن حينما يلقى عليه الملح يموت الدود الساكن فيه وتنتهي الرائحة الكريهة لأن هذه هي خاصية الملح أن يقتل الدود ويزيل الرائحة الكريهة .
وبنفس الطريقة فإن كل نفس لا تُصلّح وتُملّح بالروح القدس ولا تشترك في الملح السماوي الذي هو قوة الله فإنها تفسد وتمتلئ برائحة الأفكار الرديئة الكريهة حتى أن وجه الله يتحول عن الرائحة المرعبة النتنة رائحة أفكار الظلمة الباطلة وعن الشهوات التي تسكن في مثل هذه النفس. والدود الشرير المرعب، الذي هو أرواح الشر وقوات الظلمة، تتمشى وتتجول فيها، وتسكن هناك، وتختبئ وتدب فيها وتأكلها وتأتى بها إلى التحلل والفساد. كما يقول المزمور ” قد أنتنت وقاحت جراحاتي” (مز5:38).
ولكن حينما تهرب النفس إلى الله لأجل الخلاص وتؤمن وتطلب ملح الحياة الذي هو الروح الصالح المحب للبشر، فحينئذ يأتى الملح السماوي ويقتل تلك الديدان المرعبة ويزيل الرائحة النتنة، ويطهّر النفس بعمل قوته الفعّال، وهكذا تصير النفس سليمة صحيحة وحرة من الاضمحلال بواسطة ذلك الملح الحقيقى وتُرد وتُعاد لتكون نافعة لخدمة السيد السماوي وهذا هو السبب الذي من أجله أمر الله، في الناموس مستعملاً الرمز أن كل ذبيحة ينبغي أن تُملّح بملح (لا13:2، انظر مرقس49:9).
6 ـ فالذبيحة ينبغي أولاً أن تُذبح بواسطة الكاهن، وتموت، ثم تُقطع قطعًا وتُملّح، وبعد ذلك توضع على النار. فإن لم يذبح الكاهن الخروف أولاً ويموت، فإنه لا يُملّح ولا يُقرّب كقربان محرقة للرب. هكذا نفسنا أيضًا ينبغي أن تأتى إلى المسيح رئيس الكهنة الحقيقى ليذبحها، وتموت عن هوى فكرها الخاص وعن حياة الخطية الشريرة التي كانت تعيشها قبلاً. يجب أن تخرج منها الحياة حياة الأهواء الشريرة. كما أن الجسد إذ خرجت منه النفس يموت، ولا يعود يعيش بالحياة التي سبق أن عاشها، فلا يسمع ولا يمشى، كذلك المسيح، رئيس كهنتنا السماوي ـ حينما يذبح نفسنا بنعمة قوته، ويميتها عن العالم، فإنها تموت عن حياة الشر التي كانت تعيشها، فلا تعود تسمع أو تتكلم أو يكون لها شركة وتوطّن في ظلمة الخطيئة لأن حياتها ـ التي هي الأهواء الشريرة قد خرجت منها بواسطة النعمة. والرسول يصرخ قائلاً: ” قد صُلب العالم لي وأنا صُلبت للعالم” (غلا14:6).
فالنفس التي لا تزال تحيا في العالم وفي ظلام الخطيئة ولم تُمات بواسطة المسيح ولا يزال روح الخبث في داخلها، أعني نشاط ظلمة أهواء الشر التي تتحكم فيها، فإن هذه النفس لا تنتمي إلى جسد المسيح، لا تنتمى إلى جسد النور، بل هي في الحقيقة جسد الظلمة ولا تزال جزءً لا ينفصل من الظلمة. أما الذين لهم حياة روح النور، أعني قوة الروح القدس، فإنهم جزء لا ينفصل من النور.
7 ـ ولكن قد يسألني أحدكم قائلاً: كيف تدعو النفس بلقب جسد الظلمة في حين أنها لم تخلق من الظلمة؟ أصغ لى، وأفهمنى جيدًا. كما أن ثوبك الذي تلبسه قد صنعه آخر غيرك، وأنت تلبسه، وكما أن بيتك قد بناه آخر وأنت تسكن فيه، هكذا حينما تعدى آدم وصية الله وأطاع الحيّة الخبيثة، صار مُباعًا أو باع نفسه للشيطان فاكتست النفس ـ تلك الخليقة الحسيّة التي صورّها الله على صورته الخاصة ـ اكتست بنفس الشرير مثل رداء. لذلك يقول الرسول: ” إذ جرّد الرياسات والسلاطين، ظفر بهم في الصليب” (كو15:2)، وهذا هو الغرض الذي من أجله جاء الرب (إلى العالم)، لكيما يطرحهم خارجًا ويسترجع بيته وهيكله، أي الإنسان. لهذا السبب تُسمى النفس “جسد ظلمة الخبث” طالما أن ظلمة الخطية موجودة فيها. لأنها تحيا لعالم الظلمة الشرير، وهي ممسوكة بشدة هناك. لذلك يسميها الرسول جسد الخطيئة أو جسد الموت، قائلاً: ” ليبطل جسد الخطية” (رو6:6). وأيضًا “من ينقذنى من جسد هذا الموت” (رو24:7)، ومن الجهة الأخرى فإن النفس التي قد آمنت بالرب وأُنقذت من الخطية وأميتت عن حياة الظلمة وقد نالت نور الروح القدس كحياة لها، وبهذه الطريقة قد انتقلت حقًا من الموت إلى الحياة، فإنها تصرف زمانها بعد ذلك في نفس هذه الحياة، لأنها تكون هناك ممسوكة بشدة بقوة نور اللاهوت. فإن النفس في ذاتها لا هي من طبيعة اللاهوت، ولا هي من طبيعة ظلمة الخبث، بل هي خليقة عاقلة، جميلة، عظيمة، وعجيبة، وحسنة كمثال وصورة الله. وإنما عن طريق التعدى دخل فيها خبث أهواء الظلمة.
ضرورة المجىء إلى المسيح لنموت ونحيا :
8 ـ إذن فما تختلط به النفس فإنها تكون متحدة معه في حركات إرادتها، فإما يكون لها نور الله في داخلها، وتعيش في النور، في كل الفضائل، وتنتسب إلى نور الراحة. وإما يكون لها ظلمة الخطيئة فتقابل الدينونة. فالنفس التي تشتهي أن تعيش مع الله في الراحة والنور الأبدى يجب أن تأتى ـ كما قلنا سابقًا ـ إلى المسيح رئيس الكهنة الحقيقى لتُذبح وتموت عن العالم وعن حياة ظلمة الخبث السابقة. وتنتقل إلى حياة أخرى وإلى سيرة إلهية. وكما يحدث عندما يموت إنسان في مدينة ما فإنه لا يسمع صوت الناس الساكنين فيها ولا أحاديثهم ولا الضوضاء التي يصنعونها، بل هو يصير ميتًا مرة واحدة، وينتقل إلى منطقة أخرى حيث لا يوجد أصوات ولا صرخات من تلك المدينة التي خرج منها، كذلك النفس أيضًا حينما تنذبح مرة وتموت عن مدينة الأهواء الشريرة التي تسكن وتعيش فيها فإنها لا تعود تسمع في داخلها صوت أفكار الظلمة، ولا يعود يُسمع فيها حديث وصراخ المنازعات الباطلة الشريرة أو ضجيج أرواح الظلمة بل تنتقل إلى مدينة مملوءة بالصلاح والسلام، إلى مدينة نور اللاهوت وتعيش هناك، وتسمع وتستوطن وتتكلم وتشارك، وهناك تعمل أعمالها الروحانية التي تليق بالله.
فلنصلِّ لكي ننذبح بقوته :
9 ـ لذلك فلنصلِّ لكى ننذبح بواسطة قوته ونموت عن عالم الظلمة الخبيث ولكى يموت فينا روح الخطية، ولكيما نلبس وننال حياة الروح السماوي، وننتقل من شر الظلمة إلى نور المسيح، لكى نستريح في الحياة إلى مدى الدهور. فكما أن المركبات تتسابق في الميدان والمركبة التي تسبق الأخرى تصير لها مانعًا وحاجزًا وعائقًا حتى أنها لا تستطيع أن تتقدم وتصل إلى النصرة، هكذا أيضًا سباق أفكار النفس والخطيئة في الإنسان. فإذا حدث أن سبق فكر الخطيئة فإنه يعوق النفس ويحجزها ويمنعها، حتى أنها لا تستطيع أن تقترب إلى الله وتنال النصرة منه. ولكن حيث يركب الرب ويمسك بزمام النفس بيديه فإنه دائمًا يغلب لأنه بمهارة يدير ويقود مركبة النفس إلى ذهن سماوي ملهَم إلى الأبد.
وهو ـ أي الرب ـ لا يحارب ضد الخبث إذ له دائمًا القوة الفائقة والسلطان في نفسه، بل هو يصنع النصرة بنفسه. فالكاروبيم إذن لا تسير حيث تشاء من نفسها أن تسير، بل إلى حيث يقودها ويوجهها الراكب عليها. وهي تسير حيث يريد هو، وهو يسندها لأن الكتاب يقول ” ويد إنسان كانت تحتها” (حز8:1).
فهذه النفوس المقدسة تنقاد وتسير بروح المسيح الذي يمسك بزمامها ويقودها إلى حيث يشاء ـ فأحيانًا يشاء أن تقيم في التأملات السماوية، وأحيانًا يشاء أن تلبث في الجسد، وهكذا حيثما يشاء هو فإنها تقوم بالخدمة.
وكما أن أجنحة الطائر هي له بمثابة الرجلين كذلك فإن النور السماوي أي نور الروح يمسك بأجنحة الأفكار التي للنفوس المستحقة، ويقودها ويدّبرها كما يعرف هو أنه الأحسن لها.
انظر إلى نفسك جيدًا :
10 ـ لذلك فحينما تسمع بهذه الأشياء أنظر إلى نفسك جيدًا، هل أنت حاصل على هذه الأشياء ومالك لها بالفعل والحق في داخل نفسك أم لا؟ فإنها ليست مجرد كلمات تُقال بل هي فعل الحق الذي يحدث في داخل نفسك، فإن لم تكن مالكًا لها بل أنت معدم من مثل هذه الخيرات الروحانية، ينبغي لك أن تكتئب وتحزن وتسعى بلهفة، كإنسان لا يزال ميتًا ومنفصلاً عن الملكوت. وكإنسان مجروح أصرخ دائمًا إلى الرب واطلب منه بإيمان أن يمنحك أنت شخصيًا هذه الحياة الحقيقية .
وحينما صنع الله جسدنا هذا فإنه لم يمنحه أن تكون له حياة، لا من طبيعة الله الخاصة ولا أن يحيا الجسد بذاته، وهكذا دبر له الطعام والشراب واللباس والأحذية، وهكذا عيّن الله له أن يأخذ كل حاجات الحياة من الخارج إذ أنه صنع الجسد نفسه عريانًا. ولا يمكن للجسد أن يعيش بدون الأشياء الخارجة عنه، أي بدون الطعام والشراب واللباس، فإن حاول أن يعتمد على طبيعته وحدها دون أن يأخذ شيئًا من الخارج فإنه يضمحل ويموت.
وهذا هو نفس الحال بالنسبة للنفس أيضًا فهي لا تملك النور الإلهي رغم أنها مخلوقة على صورة الله وهكذا نظّم الله أحوالها وقد أراد بألاّ تحصل على الحياة الأبدية من طبيعتها الخاصة، ولكن من لاهوته، أي من روحه، ومن نوره، تنال طعامًا وشرابًا روحانيًا، ولباسًا سماويًا وهذه هي حياة النفس، أي الحياة بالحقيقة.
11ـ وكما رأينا أن حياة الجسد ليست من ذاته، ولكن من خارجه، أي في الأرض، وبدون الأشياء التي من خارجه لا يمكنه أن يعيش هكذا أيضًا النفس إن لم تولد الآن في ” أرض الأحياء” (مز13:27) وتستمد غذاءً روحيًا منها وتنمو نموًا روحيًا أمام الرب وتكتسى من اللاهوت بحلل الجمال السماوي التي تفوق الوصف، فإنها بدون ذلك القوت لا يمكنها أن تعيش من نفسها في فرحة وراحة.
إن الطبيعة الإلهية فيها خبز الحياة الذي قال ” أنا هو خبز الحياة” (يو 35:6)، ” والماء الحىّ” (يو10:4)، ” والخمر التي تفرح قلب الإنسان” (مز15:104)، ” وزيت الابتهاج” (مز7:45)، وجميع أصناف طعام الروح السماوي ولباس النور، تلك التي تأتى من الله. وفي هذه الأشياء تكون حياة النفس الأبدية. ويل للجسد حينما يعتمد على طبيعته الخاصة لأنه حينئذ يضمحل ويموت، وأيضًا ويل للنفس إن استندت على طبيعتها الخاصة ولم تضع ثقتها في شيء سوى أعمالها الخاصة، ولم تنل شركة روح الله، فإنها تموت إذ أنها لم تحصل على حياة اللاهوت الأبدية الممنوحة لها.
ففي حالة المرض بالجسد، بمجرد أن يفقد الجسد القدرة على تقبل الغذاء، لا يعود هناك أمل في الشفاء، ويبدأ أصدقاء مثل هؤلاء المرضى وأقرباؤهم ومحبيهم في البكاء وذرف الدموع، وبنفس الطريقة فإن الله والملائكة يبكون على النفوس التي لا تتغذى بطعام الروح السماوي، ولم تأت إلى الحياة في عدم الفساد. ومرة أخرى أقول: إن هذه الأشياء ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي عمل الحياة الروحانية، عمل الحق الذي يتحقق في النفس الأمينة المستحقة.
ليكن لنا حسًا سريعًا :
12ـ فإن كنت قد صرت عرشًا لله، وجلس فوقك الراكب السماوي، ونفسك كلها قد صارت عينًا روحانية، وصارت نفسك كلها نورًا، وإذا كنت قد تغذيت بذلك الغذاء، غذاء الروح القدس، وإن كنت قد سُقيت من ماء الحياة، وإن كنت قد لبست ملابس النور الذي لا يُوصف، وثبت إنسانك الداخلى في اختبار هذه الأمور بملء الثقة واليقين، فإنك تكون حيًا، بمعنى أنك تحيا الحياة الأبدية الحقيقية، وأن نفسك هي في الراحة مع الرب منذ الآن فصاعدًا. أنظر فها أنت قد قبلت هذه الأشياء من الرب وامتلكتها بالحق، لكيما تحيا الحياة الحقيقية.
ولكن إذا وعيت نفسك ووجدت أنه ليس عندك شيء من هذه الأشياء (التي سبق ذكرها) فحينئذ يلزم أن تبكى وتنوح وتحزن لأنك حتى الآن لم تجد الغنى السماوي الأبدى. لذلك ينبغي أن تتوجع بسبب فقرك المدقع، وتتضرع إلى الرب ليلاً ونهارًا لأنك قد سقطت في فقر الخطيئة المرعب.
يا ليت كل إنسان يصير له إحساس سريع وتوجع بسبب فقره، ولا نسير في الحياة بلا مبالاة، مكتفين كأننا قد امتلأنا!، لأن الذي يحس بشدة فقره، ويأتي إلى الرب ويسأله بالصلاة باستمرار، فإنه يحصل على الفداء والكنوز السماوية، كما قال الرب في ختام حديثه عن القاضي الظالم والأرملة ” أفلا ينصف الله الذين يصرخون إليه ليلاً ونهارًا، نعم أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا” (لو7:18) الذي له المجد والقوة إلى الأبد آمين.
________________________________________
[1] حزقيال النبى لم يستعمل كلمة ” مركبة ” في الإصحاح الأول ولكن الكلمة استُعملت في النسخة السبعينية لسفر حزقيال إصحاح 3:43.
[2] حزقيال8:1 ، يفسر القديس مقاريوس “الإنسان” هنا بأنه المسيح ويد إنسان كانت تحت الشاروبيم لأنه هو الذي يركبها ويوجهها
العظة الثانية
الإنسان العتيق والإنسان الجديد
” عن ملكوت الظلمة ـ أى ملكوت الخطيئة ـ وأن الله هو القادر وحده أن ينزع منا الخطيئة ويخلصنا من عبودية رئيس الشر”
1 ـ إن ملكوت الظلمة، أى الرئيس الشرير، لمّا أسر الإنسان في البدء، قد غمر النفس وكساها بقوة الظلمة كما يكسو الإنسان إنسانًا غيره “لكيما يجعلوه ملكًا، ويلبسونه الملابس الملوكية من رأسه إلى قدمه”[1]. وبنفس هذه الطريقة قد كسا الرئيس الشرير، النفس وكل جوهرها بالخطيئة. ولوثها بكليتها، وأخذها بكليتها أسيرة إلى ملكوته، ولم يدع عضوًا واحدًا منها حرًا منه، لا الأفكار، ولا القلب، ولا الجسد، بل كساها كلها بأرجوان الظلمة.
لأنه كما أن الجسد لا يتألم منه جزء أو عضو بمفرده، بل الجسد كله يتألم معًا، هكذا النفس بكليتها تألمت بأوجاع الشقاء والخطيئة. فالشرير كسا النفس كلها التي هى الجزء أو العضو الأساسى في الإنسان، كساها بشقائه الخاص، الذي هو الخطيئة، ولذلك أصبح الجسد قابلاً للألم والفساد (الاضمحلال).
الإنسان العتيق :
2ـ لأنه عندما يقول الرسول: ” اخلعوا الإنسان العتيق” (كو9:3)، فهو يقصد إنسانًا بتمامه، فيه عيون مقابل عيون، وآذان مقابل آذان، وأيدي مقابل أيدي، وأرجل مقابل أرجل، لأن الشرير قد لوث الإنسان كله، نفسًا وجسدًا، وأحدره، وكساه “بإنسان عتيق” أى إنسان ملوث، نجس، في حالة عداوة مع الله، ” وليس خاضعًا لناموس الله” (رو 7:9)، بل هو بكلّيته خطيئة، حتى أن الإنسان لا يعود ينظر كما يشاء هو بل ينظر بعين شريرة، ويسمع بأذن شريرة، وله أرجل تسرع إلى فعل الشر، ويديه تصنع الإثم، وقلبه يخترع شرورًا. لذلك فلنتوسل إلى الله أن ينزع منا الإنسان العتيق، لأنه هو وحده القادر على نزع الخطيئة منا. لأن الذين قاموا بأسرنا ولا يزالون يستبقوننا في مملكتهم، هم أقوى منا.
ولكنه قد وعدنا بأن يحررنا من هذه العبودية المؤلمة. فعندما تكون هناك شمس ساخنة وتهب معها الريح فإن كلاً من الشمس والريح لها كيان وطبيعة خاصة بها، ولكن لا يستطيع أحد أن يفصل بين الشمس والريح إلاّ الله الذي يستطيع وحده أن يمنع الريح من الهبوب، وبنفس المثال، فإن الخطيئة ممتزجة بالنفس، على الرغم من أن لكل منهما طبيعته الخاصة.
3 ـ فمن المستحيل الفصل بين النفس والخطيئة، إن لم يوقف الله ويسكّت الريح الشرير، الذي يسكن في النفس وفي الجسد.
وكما أن الإنسان إذا رأى عصفورًا يطير، فإنه يشتاق أن يطير هو أيضًا، ولكنه لا يستطيع، لأنه لا يملك أجنحة يطير بها. كذلك أيضًا فإن إرادة الإنسان حاضرة (رو8:6) وقد يشتهى أن يكون نقيًا، وبلا لوم، وبلا عيب، وألاّ يكون فيه شيئًا من الشر، بل أن يكون دائمًا مع الله، ولكنه لا يملك القوة ليكون كذلك. وقد تكون شهوته هي أن يطير إلى الجو الإلهي، وإلى حرية الروح القدس، ولكن لا يمكنه ذلك إلاّ إذا أُعطيت له أجنحة (لتحقيق هذه الغاية).
فلنلتمس من الله أن ينعم علينا “بأجنحة” (مز6:55) ، ولكي يفصل الريح الشرير ويقطعه من نفوسنا وأجسادنا، ذلك الريح الذي هو الخطية الساكنة في أعضاء نفوسنا وأجسادنا. ليس أحد إلاّ هو (الروح القدس) الذي يستطيع أن يفعل هذا الأمر.
يقول الكتاب: ” هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو29:1)، إنه وحده الذي أظهر هذه الرحمة لأولئك الأشخاص الذين يؤمنون به، إذ أنه يخلّصهم من الخطيئة، وهو يحقق هذا الخلاص الذي لا يُنطق به لأولئك الذين ينتظرونه دائمًا ويضعون رجاءهم فيه ويطلبونه بلا انقطاع.
4 ـ وكما أنه يحدث في أحد الليالى المظلمة الكئيبة أن تهب ريح عاصفة وتحرّك وتفتش كل الزروع والنباتات وتهزها، وهكذا حينما يسقط الإنسان تحت سلطة ظلام ليل الشيطان، ويصير في الليل والظلمة، فإنه يتكدر بواسطة ذلك الريح المرعب ريح الخطيئة الذي يهب (عليه) فيهزه ويقلبه ويفتش أعماق طبيعته كلها: نفسه وأفكاره، وعقله، ويهز أيضًا كل أعضاء جسده، ولا ينجو عضو سواء من أعضاء النفس أو أعضاء الجسد ويبقى بمأمن من الخطيئة الساكنة فينا. وبالمثل فهناك نهار النور والريح الإلهي، ريح الروح القدس، الذي يهب وينعش النفوس التي تكون في نهار النور الإلهي.
والروح القدس ينفذ في جوهر النفس كلها وفي أفكارها وكل كيانها، وكذلك ينعش ويريح كل أعضاء الجسد براحة إلهية تفوق الوصف. وهذا هو ما أعلن عنه الرسول عندما قال: ” لسنا أبناء ليل أو ظلمة، بل جميعنا أبناء نور وأبناء نهار” (1تس5:5).
الإنسان الجديد:
وكما أنه هناك في الحالة الأولى ـ حالة الخطيئة والسقوط ـ فإن الإنسان القديم قد لبس إنسان الفساد بكليته، أى لبس ثوب مملكة الظلمة، ورداء التجديف وعدم الإيمان، وعدم المبالاة والمجد الباطل والكبرياء والجشع والشهوة، وكل الفخاخ الأخرى الوسخة غير الطاهرة البغيضة التي لمملكة الظلمة، هكذا يحدث الآن، فإن كل الذين خلعوا الإنسان العتيق، الذي هو من تحت ـ من الأرض ـ كل الذين خلع عنهم يسوع رداء مملكة الظلمة ـ قد لبسوا الإنسان الجديد السماوى ـ أى يسوع المسيح ـ بكل عضو مقابل (العتيق): عيون مقابل عيون، آذان مقابل آذان، رأس مقابل رأس، ليكون الإنسان كله نقيًا بارتدائه الصورة السماوية.
5 ـ هؤلاء قد ألبسهم الرب لباس ملكوت النور الذي لا يُنطق به، لباس الإيمان والرجاء والمحبة والفرح والسلام والصلاح واللطف وكل الملابس الأخرى الإلهية الحيّة التي لنور الحياة، ملابس الراحة التي لا يُعبّر عنها، حتى كما أن الله نفسه هو محبة وفرح وسلام ولطف وصلاح، فكذلك يكون الإنسان الجديد بالنعمة.
وكما أن مملكة الظلمة والخطيئة تبقى خفيّة في النفس إلى يوم القيامة، الذي فيه سوف تُغمر أجساد الخطاة أيضًا بالظلمة المختفية الآن في النفس، هكذا مملكة النور، والصورة السماوية ـ يسوع المسيح ـ يضئ الآن سرًا داخل النفس، ويملك في نفوس القديسين ولكنه مخفي عن عيون الناس، وعيون النفس فقط هي التي ترى المسيح حقًا حتى يأتي يوم القيامة، الذي فيه سيُغمر الجسد أيضًا بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفي الآن في نفس الإنسان، ليملك الجسد أيضًا مع النفس التي تنال منذ الآن ملكوت المسيح وتستريح مستنيرة بالنور الأبدي. فالمجد لمراحمه وحنانه وشفقته، لأنه هكذا يعطف على عبيده وينيرهم، وينقذهم من مملكة الظلمة ويمنحهم نوره الخاص وملكوته الخاص. له المجد والقدرة إلى الأبد آمين.
________________________________________
[1] الاقتباس ـ لم يذكر مصدره ـ وهو ليس اقتباسًا من الكتاب المقدس، والقصد منه، على أية حال، هو إعطاء فكرة التغطية الكلّية بالملاب
العظة الثالثة
الشركة الأخوّية ومقاومة أفكار الشر والخلاص بيسوع وحده
” إن الأخوة ينبغي أن يعيشوا في إخلاص وبساطة ومحبة وسلام بعضهم مع البعض، وأن يصارعوا أفكارهم الداخلية ويحاربوها “.
الشركة الأخوّية :
1 ـ ينبغي أن يسكن الاخوة معًا في محبة كثيرة، وسواء كانوا يصلّون أو يطالعون الكتب المقدسة، أو يمارسون أى نوع من العمل، يتأسسون على أساس المحبة المتبادلة. وبهذه الطريقة، فإن الميول المتنوعة تكون مقبولة، فالذين يصلّون والذين يقرأون، والذين يعملون يستطيعون أن يعيشوا جميعًا في إخلاص وبساطة بعضهم مع بعض لأجل منفعتهم.
فما هو المكتوب؟ ” لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” (مت10:6)، لأنه كما أن الملائكة في السماء يسكنون معًا باتفاق عظيم، وسلام ومحبة، ولا يكون بينهم كبرياء ولا حسد بل يعيشون معًا في محبة وإخلاص، هكذا ينبغي أيضًا أن يسكن الاخوة معًا. وقد يوجد ثلاثون شخصًا تحت تدبير واحد ولا يمكنهم أن يستمروا نهارًا وليلاً في عمل شيئًا واحدًا. لذلك فالبعض يعطون أنفسهم للصلاة لمدة ست ساعات ثم بعد ذلك يميلون إلى القراءة، والبعض عندهم استعداد لخدمة الغير، بينما البعض الآخر يمارسون أى نوع من العمل.
2 ـ فمهما كان انشغال الاخوة، فينبغي أن يؤدوا عملهم في محبة وبشاشة بعضهم نحو البعض. فالذي يشتغل منهم فليقل عن الذي يصلّى ” إن الكنز الذي يجده أخي هو كنز مشترك ولذلك فهو كنزى”، والذي يصلّى يقول عن الذي يقرأ ” إن كل ما استفاده أخي من القراءة هو لمنفعتى”، والذي يعمل فليقل ” إن ما أعمله من الخدمة هو لمنفعة الجميع”. كما أن أعضاء الجسد كثيرة لكنها جسد واحد (1كو12:12) وتساعد بعضها البعض، وكل عضو يؤدى وظيفته الخاصة،
ولكن العين تنظر لحساب الجسد كله، واليد تعمل لأجل الأعضاء كلها، والقدم تمشى وتحمل كل الأعضاء، وعضو يتألم مع كل الأعضاء بالمثل، هكذا فليكن الاخوة بعضهم مع بعض، فلا يدين المصلى ذلك الذي يعمل بسبب قلّة صلاته، ولا يدين الذي يعمل ذلك الذي يصلى قائلاً: ” إنه يستريح بينما أنا أعمل”. ولا يدين الذي يخدم ويعمل أخًا آخر بل فليفعل كل واحد ما يفعله لمجد الله. فالذي يقرأ فليقبل الذي يصلى بمحبة ولطف وهو يقول في نفسه ” إنه يذكرني في صلاته”، والمصلّى فليفكر في الذي يعمل قائلاً في نفسه: ” إن ما يعمله إنما هو لخيرنا ومنفعتنا جميعًا”.
3 ـ وهكذا يكون اتفاق عظيم وسلام ووحدانية في رباط السلام تربطهم جميعًا، ويستطيعون أن يعيشوا معًا في إخلاص وبساطة وفي نعمة الله. ولكن لا شك أن الأمر الرئيسي هو المداومة على الصلاة. وهناك أمر واحد لازم للجميع، وهو أن يحصل الإنسان في داخل نفسه على كنز، وعلى الحياة في عقله، هذه الحياة التي هي الرب نفسه ـ حتى أنه سواء كان يشتغل أو يصلى أو يقرأ فلا يزال حاصلاً على ذلك النصيب الذي لا يزول، الذي هو الروح القدس.
محاربة الأفكار واستئصال الخطية :
ولكن البعض يفكرون هكذا ـ إن الرب لا يطلب من الإنسان سوى الثمار المنظورة وأما الخفيّات فإن الله هو الذي يصلّحها. ولكن الحقيقة ليست هكذا. بل كما أن الإنسان يدافع عن نفسه فيما يخص شخصه الخارجى، كذلك يجب عليه أن يداوم الصراع والحرب في أفكاره الداخلية. فالرب يطلب منك أن تغضب على نفسك وتتعارك مع عقلك، ولا ترضى بأفكار الشر أو تتصالح معها.
4 ـ ومع ذلك فإن استئصال الخطية والشر الساكن فينا فهذا لا يمكن تحقيقه إلاّ بواسطة القوة الإلهية. فإنه ليس مستطاعًا للإنسان ولا هو في إمكانه وطاقته أن يستأصل الخطية بقوته الخاصة، وإنما في قوتك أن تصارع ضدها وتحاربها، وأما استئصالها فهذا عمل الله.
الانتصار والخلاص بيسوع :
لأنه لو كان مستطاعًا للإنسان أن يستأصلها في حاجة كانت تدعو إذن لمجىء الرب إلى العالم؟ فكما أن العين لا تستطيع أن تنظر بدون نور، وكما أن الإنسان لا يستطيع أن يتكلم بدون لسان، أو يسمع بدون آذان أو يمشى بدون قدمين، أو يعمل بدون يدين، هكذا لا يستطيع الإنسان أن يخلص بدون يسوع وبدونه لا يستطيع الدخول إلى ملكوت السموات.
وأما إذا قلت: “إنى في سلوكى الخارجى أنا لا أرتكب الزنا والفسق، ولا أنا حسود ولذلك فأنا مستقيم” فأنت تخطئ في هذا لأنك تظن أنك تمّمت كل شيء. فالخطية ليست هي ثلاثة أنواع فقط يجب على الإنسان أن يحفظ نفسه منها، بل هي عشرة آلاف. فأين الغطرسة والوقاحة وعدم الإيمان والكراهية والغيرة والخداع والرياء؟ ألاّ ينبغي أن تصارع وتحارب ضد هذه في أفكارك الخفيّة؟ فإذا دخل لص إلى المنزل فإنك تضطرب في الحال، ولا يدعك في راحة، إنما تبدأ في المضاربة والمقاومة معه. هكذا ينبغي على النفس أن تضارب وتقاوم وتواجه القوة بقوة.
5 ـ وما نتيجة ذلك؟.. إنه بالمقاومة وتحمل الآلام تنال الإرادة معونة وارتفاعًا وحتى إذا سقطت تقوم ثانية. وقد تلقيها الخطية في عشرة أو عشرين معركة، وقد تُغلب النفس فيها، ولكن النفس بعد وقت تغلبها في معركة واحدة، فإن صبرت النفس ولم تفزع فإنها تبتدئ تنال القوة وتتعقب العدو وتحمل غنائم الظفر بالخطية. ولكن إن تفحصّنا هنا بدقة وجدنا أن الخطية قاسية وشديدة على الإنسان ” إلى أن يصل إلى إنسان كامل إلى قياس قامته” (أف13:4)، فيغلب الموت تمامًا، لأنه مكتوب ” آخر عدو يبطل هو الموت” (1كو26:15)، وهكذا سيسودون على الشيطان وينتصرون.
ولكن، كما ذكرنا سابقًا إن قال أحد ” أنا لا أرتكب الزنا والفسق، ولا أنا طامع في المال وهذا يكفي، فهذا قد وضع في حسابه أنه حارب ضد ثلاث قوات ولكنى أقول له أن هناك عشرين آخرين تحارب بها الخطية ضد النفس وهو لم يحاربها ولذلك فهو ينغلب. فينبغي عليه أن يحارب ضدها جميعًا وأن يجاهد، لأن العقل كما قلت مرارًا كثيرة، يعتبر منافسًا معادلاً للخطية، ويملك قوة معادلة ضدها ليقف ويرفض إيحاءاتها.
6 ـ فإذا قلت أن القوة المضادة هي قوية جدًا وأن الشر له سيادة كاملة على الإنسان، فإنك بذلك تنسب الظلم لله حينما يدين البشر بسبب خضوعهم للشيطان لأن الشيطان قوى جدًا ويُخضع البشرية بقوة لا تقاوم. ” إنك تجعل الشيطان أعظم وأقوى من النفس، ثم تقول لى لا تخضع للشيطان. فهذا مثل معاركة شاب مع طفل صغير، والطفل حينما يُغلب يدان بسبب انغلابه. فهذا ظلم عظيم” .
ولكنى أقول لك حينئذ إن العقل البشرى هو معادل صالح للعدو وموازن ضده مساويًا له، فكل نفس بهذا الشكل حينما تطلب فإنها تجد المعونة والحماية، ويُمنح لها الفداء. فالحرب والصراع متكافئان.
فلنمجد الآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين
العظة الرابعة
السعي للملكوت الأبدي “محبة الله الشديدة للإنسان
” ينبغي على المسيحيين أن يتمموا سعيهم في هذا العالم بحرص وحذر، لكى يربحوا المديح السماوي من الله والملائكة “.
1ـ نحن الذين نرغب أن نحيا الحياة المسيحية بكل إخلاص وأصالة، ينبغي قبل كل شيء آخر أن نجتهد بكل قوتنا في تربية الملكة المميّزة والمفرزة في النفس (ملكة التمييز والإفراز)، حتى إذا حصلنا على إحساس دقيق وإدراك للفرق بين الخير والشر وصرنا دائمًا مميّزين الأشياء الغريبة التي اختلطت بالطبيعة النقية بشكل غير طبيعي، فإنه يمكننا أن نسلك باستقامة، وبلا عثرة وباستعمال قوة التميّيز هذه كأنها عين، يمكننا أن نحفظ أنفسنا أحرارًا من أى ارتباط أو اتحاد، مع إيحاءات الخطية، وهكذا يمكن أن تُمنح لنا الموهبة السماوية التي نصير بها أهلاً للرب.
ولنأخذ مثلاً لإيضاح ذلك من العالم المنظور، فإنه يوجد تشابه بين الجسم والنفس، بين أمور الجسد وأمور النفس، وبين الأشياء المنظورة والأشياء المستترة.
تشبيه عين الجسد والسير في الغابات :
2 ـ فالجسد له عين لترشده وتقوده. والعين بواسطة الإبصار، تقود الجسد كله باستقامة. فتخيّل إنسانًا يسير في مناطق غابات، مملوءة بالأشواك والأوحال، وحيث تكون هناك نار مشتعلة، وفي الأرض تكون الحشيءش اليابسة سيوف منتصبة، وهناك أيضًا مهاوي ومياه كثيرة، فإن كان مسافرًا مُجدًا، حريصًا وذكيًا، فإن عينيه تقوده ليعبر تلك الأماكن الصعبة بانتباه شديد، ويرفع ملابسه من كل ناحية بيديه لئلا تتمزق من الأدغال والأشواك، أو تتلوث بالوحل أو تُقطع بأحد تلك السيوف.
فعينه تقود الجسم كله. فعينه هي بمثابة نور له، تخلصه من الوقوع في المهاوي والمنحدرات، أو من الغرق في المياه وتحفظه من أى ضرر آخر. فالإنسان النشط والحذر بهذا القدر، يسير بكل حرص، إذ يلف عباءته على جسمه لتلتصق به، وكل هذا تحت قيادة عينه، فيحفظ نفسه من الأذى ويحفظ عباءته التي يلبسها من الاحتراق والتمزق. ولكن إذا كان المسافر في مثل هذه الأمكان كسولاً متوانيًا ومتفائلاً وثقيلاً غير مبالٍ،
فإن ثوبه يتهدل حوله من هنا ومن هناك، فيتمزق بواسطة الأدغال والأشواك أو يحترق بالنار لأنه لم يلفه بإحكام حول جسمه ليحفظه، أو ربما يتقطع الثوب إلى قطع بواسطة تلك السيوف المنصوبة في الطريق، أو يتلوث بالوحل ـ وبطريقة أو بأخرى فإنه سرعان ما يتلف ثوبه الجميل الجديد، وذلك لقلة حرصه وإهماله وتكاسله، وإذا لم ينتبه الانتباه الجيد المناسب لما تخبره به عينه، فإنه هو نفسه يسقط في حفرة أو ربما يغرق في المياه.
3 ـ وبنفس الطريقة، فإن النفس التي تلبس رداء الجسد الحسن ككساء لها، تملك ملكة وقوة التمييز لتوجيه وقيادة الحياة كلها مع الجسد، بينما هي تعبر وسط أدغال وأشواك الحياة، والوحل والنار والمهاوي التي هي الشهوات واللذات وغيرها من أشياء هذا العالم الخاطئة، ينبغي لها أن تتحزم وتصون نفسها ولباسها الذي هو الجسد بحرص وتحفّظ من كل ناحية، وبحزم وغيرة وعناية، وتحفظ نفسها من أن تتمزق بأدغال وأشواك العالم ـ أى الهموم والانشغالات والمعوقات الأرضية ومن أن تحترق بنار الشهوة.
وإذ هي لابسة هكذا، فإنها تحول نظرها عن رؤية المناظر الشريرة وتحول إذنها عن الإنصات للمذمة، ولسانها عن التكلم بالكلام الباطل، ويديها وقدميها عن المسالك الشريرة. فالنفس لها إرادة، يمكن أن تحول بها وتحجز أعضاء الجسم عن المناظر القبيحة، وعن الأصوات الشريرة المخزية وعن الكلام البذىء وعن المساعي العالمية الشريرة.
4 ـ وهى تتحول أيضًا بعيدًا عن الخيالات الشريرة وتحفظ القلب كى لا يدع أعضاء فكره تتجول في العالم. وهكذا إذ تسعى بجد واجتهاد وبحرص عظيم فإنها تضبط أعضاء الجسد من كل جهة عن كل ما هو ردئ فإنها تحفظ ذلك الثوب الحسن أى الجسد، غير ممزق، غير محترق، غير ملوث، وهى ذاتها تُحفظ بواسطة إرادة مبصرة عارفة ومميزة، وكل هذا يتم بقوة الرب، فبينما هي تجمع ذاتها بكل قوتها وتتحول عن كل الشهوات العالمية فإنها تنال المعونة من الرب لتُحفظ حقيقةً من الكوارث التي تكلمنا عنها.
لأنه حينما ينظر الرب أى إنسان يعطى ظهره بشجاعة للذات ولمعوقات الحياة الأرضية، والاهتمامات المادية والعلاقات الأرضية، ولخيالات الأفكار الباطلة، فإنه يعطيه معونة نعمته الخاصة ويحفظ تلك النفس بلا سقوط، بينما هي تعبر بسمو ونبل خلال هذا ” العالم الحاضر الشرير” (غل4:1). وهكذا تربح النفس المديح السماوي من الله والملائكة لأنها حفظت ثوب جسدها وذاتها أيضًا حسنًا، معرضة بكل ما تملك من قوة عن كل شهوات العالم، وبمعونة الله تكون قد نجحت بسمو في شوط سباق هذا العالم.
5 ـ ولكن إن كان الإنسان يسير في طريقه في هذه الحياة بتراخى وإهمال، وبدون حرص، ولا يتحول عن كل شهوة العالم، ولا يطلب الرب ـ والرب وحده ـ بكل شوقه، فإن أشواك وأدغال العالم تنغرس فيه وثوب الجسد يحترق هنا وهناك بنار الشهوة، ويتلوث بوحل اللذات، وبذلك فإن النفس تُحرم من الدالة (الثقة) في يوم الدينونة (1يو17:4)، إذ أنها لم تنجح في حفظ ثوبها بلا عيب، بل أفسدته بأمور هذا العالم الخادعة، ولهذا السبب فإنها تُطرح خارج الملكوت. فما الذي يستطيع أن يفعله الله مع الإنسان الذي يسلّم نفسه بإرادته واختياره للعالم وينخدع بلذاته وينجذب بالمتاهات المادية؟ فالله يعطى المعونة للإنسان الذي يتحول عن اللذات المادية وعن سيرته السابقة التي تُعوّد عليها ويوجّه عقله باجتهاد كل حين نحو الرب، وينكر نفسه ويطلب الرب وحده.
هذا هو الإنسان الذي يعتنى به الرب ويحفظه تحت عنايته الخاصة ويحرس نفسه من كل جهة، من فخاخ وشباك هذا العالم المادى، إنه هو ذلك الإنسان الذي تمّم خلاصه بخوف ورعدة (فى12:2)، إنه هو الذي يسير بكل حرص وسط فخاخ وشباك وشهوات هذا العالم، ويطلب نعمة الرب وعونه، ويترجى برحمته أن يخلص بالنعمة.
مَثل العذارى :
6 ـ أنظر وفكر في الخمس عذارى الحكيمات اللواتى كن ساهرات مستيقظات وقد أخذن في أوعية قلوبهم ذلك الذي لم يكن من طبيعتهن الخاصة ـ وهو الزيت، الذي يعنى نعمة الروح المنكسب من فوق، أولئك العذارى تمكنَّ من الدخول مع العريس إلى العرس السماوي، ولكن الأُخر الخمس الجاهلات اللواتى اكتفين بطبيعتهن الخاصة فلم يتيقظن ولم يشغلن أنفسهن بنوال ” زيت البهجة” (مز7:45) في آنيتهن أثناء وجودهن في الجسد، بل غرقن كما في نوم الإهمال والتغافل والكسل والجهل، أو لادعائهن البر، ولذلك أُغلق أمامهن عرس الملكوت إذ لم يتمكنَّ من إرضاء العريس السماوي. فإذا قد رُبطن برباط العالم وبمحبة أرضية، لم يوجهن كل حبهنَّ ولم يقدمنَّ عواطفهنَّ الحارة للعريس السماوي، فلم يُزودن بالزيت.
فالنفوس التي تطلب تقديس الروح الذي هو من خارج طبيعتها تعلق حبها كله بالرب وتسير في الرب، وفي الرب تصلى، وبه تنشغل أفكارها، تاركين كل ما هو سواه، ولهذا السبب تُحسب أهلاً لنوال زيت النعمة السماوية، وتنجح في عبور هذه الحياة بلا سقوط مقدمين إرضاءً وإشباعًا كاملاً للعريس السماوي. وأما النفوس التي تكتفي بما لطبيعتها الخاصة فقط فإنها تهبط بفكرها على الأرض. وتنشغل أفكارها بالأرض، ويكون عقلها كله في الأرض. وهى تظن في ذاتها أنها تطلب العريس وتتزين بكمالات بر الجسد، ولكنها غير مولودة من الروح القدس من فوق، ولم تنل زيت البهجة.
7 ـ فحواس النفس الخمس العاقلة، إن هي حصلت من فوق على النعمة وتقديس الروح كانت حقًا عذارى حكيمات حاصلات على حكمة النعمة من فوق. ولكن إن بقينَّ في راحة مكتفيات بطبيعتهن فإنهن يكن جاهلات وينكشف أنهن من أبناء العالم. إذ لم يكنّ قد خلعن روح العالم، رغم أنه في ظنهن أنهن عرائس العريس بسبب بعض المظاهر الخاصة والشكل الخارجى. فكما أن النفوس التي تلتصق بكليتها بالرب. تكون فيه بفكرها، تصلى فيه وتسير فيه وتشتاق لمحبة الرب، هكذا من الجهة الأخرى، تلك النفوس المُقيدة والمربوطة بحب العالم، تريد أن تصرف وجودها على الأرض وتسعى وتفكر فيها وهناك يسكن ويوجد عقلها. ولهذا السبب فإنهم لا يقدرون أن يتحولوا إلى حكمة الروح الصالحة التي هي غريبة عن طبيعتهن ـ أعنى النعمة السماوية ـ التي يلزم أن تلتحم بطبيعتنا وتمتزج بها، لكى نستطيع الدخول مع الرب إلى عرس الملكوت السماوي ولننال الخلاص الأبدى.
8 ـ لأنه بمعصية الإنسان الأول دخل فينا شيء غريب عن طبيعتنا، الذي هو كارثة الفساد والأهواء وقد اتخذ هذا الفساد مكانه كأنه جزء من طبيعتنا بطول العادة والميل، وهذا الشىء الغريب يجب أن يُطرد ثانية بواسطة الضيف الآخر، ضيف طبيعتنا أي موهبة الروح القدس السماوية، لكيما نستعيد النقاوة الأصلية، وإن لم نحصل الآن على محبة الروح من السماء بالتضرع الكثير، والتوسل، والإيمان، والصلاة، والتحول عن العالم، وإن لم تلتصق طبيعتنا ـ التي كانت قد تلوثت بالشر ـ إن لم تلتصق بالمحبة، التي هي الرب، وتتقدس بمحبة الروح، وإن لم نثبت إلى النهاية غير عاثرين، سالكين بجد وتدقيق في كل وصاياه، فلا يمكننا الحصول على الملكوت السماوي.
حنان الله ومحبته الشديدة للإنسان :
9 ـ وأريد أن أتكلم بعمق ودقة في هذا الموضوع بأقصى قدراتى، فاسمعوا لى إذن بانتباه وذكاء: إن الله غير المحدود، الذي لا يُدنى منه، غير المخلوق قد صار جسدًا، بصلاحه وحنانه الذي يفوق العقل، أى انه أخلى نفسه من مجده الذي لا يُدنى منه، ليتمكن من الاتحاد بخلائقه المنظورة، مثل نفوس القديسين، والملائكة، وذلك حتى يستطيعوا هم أن يشتركوا في حياة اللاهوت. فإن كل واحد من هذه (الخلائق)، بحسب نوعه، هو جسم، سواء كان ملاكًا أو نفسًا أو شيطانًا.
وبرغم لطافة طبيعة كل منهم بحسب نوعها، فإنهم في جوهرهم وصفاتهم وصورتهم، لا يزالون أجسامًا لطيفة، كما أن جسدنا هذا هو في جوهره جسم كثيف. وأكثر من ذلك فإن النفس، التي هي لطيفة جدًا، قد استعانت بالعين لتنظر بها، والأذن لتسمع بها، واللسان لتتكلم به، واليد، بل وكل الجسد وأعضاءه قد استعانت بها النفس واتحدت بها، وعن طريقها تقوم بكل واجبات الحياة.
10ـ وبنفس الطريقة، فإن الله غير المحدود، الذي يفوق الإدراك، في صلاحه ورحمته، أنقص نفسه (أخلى نفسه)، ولبس أعضاء هذا الجسد، متخليًا عن المجد الذي لا يُدنى منه، وبرأفته ومحبته للإنسان يصير هو بنفسه جسدًا، ويأخذ إليه النفوس المقدسة المرضيّة الأمينة، ويختلط معها، بل ويصير معها روحًا واحدًا كما قال الرسول بولس (1كو10:6) ونفسًا في نفس، وإن أمكن أن أقول هكذا:
وجوهرًا في جوهر، حتى أن النفس تستطيع أن تعيش في اتحاد، وتتذوق الحياة غير المائتة وتصير شريكة في المجد الذي لا يفسد ـ أعنى إذا كانت النفس مؤهلة ومرضيّة عنده.
فإن كان الله، مما لم يكن، قد خلق الخليقة المنظورة، بمثل هذا التنوع والاختلاف، وقبل أن تُخلق لم يكن لها وجود ـ وهكذا شاء فصنع بسهولة، من العدم، جواهر كثيفة وجامدة، مثل الأرض والجبال والأشجار ـ وهاأنت ترى مدى الصلابة التي في الطبيعة ـ وأيضًا خلق المياه المتوسطة، وأمر بأن تخرج منها الطيور ـ وصنع أيضًا مخلوقات ذات طبيعة ألطف، كالنار والرياح وأشياء أخرى تصل في لطفاتها إلى حد عدم إمكان رؤيتها بعين الجسد.
11 ـ فإن كانت المهارة غير المحدودة التي لا يعبّر عنها ـ مهارة ” حكمة الله المتنوعة” (أف10:3) تستطيع أن تخلق من العدم أجسامًا كثيفة وأخرى لطيفة وأخرى ألطف جدًا، كلٍ بحسب نوع جوهره، وذلك بحسب مشيئته، فهل لا يستطيع بالأحرى جدًا، ذلك الذي يفعل كما يشاء وما يشاء، وبرحمته التي لا توصف وصلاحه الذي يفوق العقل، أن يغيّر ويكيف النفوس المستحقة والأمينة، ويجعلها مشابهة له بواسطة الجسد الذي اتخذه، حتى أنه وهو غير المنظور، يمكن أن ينظروه، وغير الملموس يحسوه على حسب لطافة طبيعة النفس ـ ولكيما يشعروا بحلاوته ويختبروه اختبارًا حقيقيًا إذ يتمتعون بجمال وبهاء نوره الذي يفوق الوصف؟ وحينما يريد يصير نارًا محرقة لكل هوى خبيث دخل إلى النفس، ” لأن إلهنا نار آكلة” (عب29:12). وحينما يريد يصير راحة لا يُنطق بها ولا يُعبّر عنها، لكى تستريح النفس في راحة اللاهوت الخاصة. وحينما يريد يصير فرحًا وسلامًا للنفس، ومُدللاً ومُعانقًا لها.
12 ـ وبالحقيقة، إذا سُرّ الله أن يتشبه بإحدى خلائقه ـ لأجل بهجة وفرح خلائقه العاقلة ـ مثلاً كأورشليم مدينة النور، أو صهيون[1] الجبل السماوي، فإنه يستطيع أن يفعل كل ما يريد، بحسب المكتوب ” قد أتيتم إلى جبل صهيون، إلى مدينة الله الحى أورشليم السماوية” (عب22:12)، فكل الأشياء سهلة ويسيرة عنده، وقد يتشكل بأى شكل يختاره لأجل منفعة النفوس الأمينة التي تستحقه.
فليسعَ الإنسان فقط، أن يكون صديقًا له ومرضيَّا إياه، فيرى في اختبار وشعور حقيقى، الخيرات السماوية، ومباهج اللاهوت التي لا يُعبر عنها وغناه غير المحدود، ” الذي لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر” (1كو9:2)، أعنى روح الرب، الذي يجعل نفسه راحة وفرحًا وبهجة وحياة أبدية للنفوس المستحقة. لأن الرب يجسّم نفسه حتى في الطعام والشراب كما هو مكتوب في الإنجيل ” من يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (يو58:6)، لكى يُعطى النفس راحة لا يُنطق بها، ويملأها بهجة روحانية، لأنه هو يقول ” أنا هو خبز الحياة” (يو25:6). وهو يجسّم نفسه في شراب الينبوع السماوي، كما يقول ” كل من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” (يو14:4)، وأيضًا يقول الرسول ” وجميعنا سُقينا شرابًا واحدًا” (1كو13:12مع 1كو4:10).
ظهورات الله المتنوعة للنفوس :
13 ـ لقد ظهر الله لكل واحد من الآباء القديسين بالطريقة التي أرادها واستحسنها لهم ـ فظهر لإبراهيم بطريقة ولإسحق بأخرى وليعقوب بطريقة غيرها، وبغيرها لنوح، ولدانيال، ولداود، ولسليمان، ولإشعياء، ولكل واحد من الأنبياء القديسين، وبطريقة لإيليا، وبأخرى لموسى. وفي اعتقادي أن موسى ـ في كل ساعة على الجبل طوال صوم الأربعين يومًا ـ كان يقترب إلى تلك المائدة الروحانية ويتلذذ بها متمتعًا ببهجتها. وظهر الله، بحسب ما شاء هو، لكل واحد من القديسين ليعطيهم راحة وخلاصًا، وليقودهم إلى معرفته. وأي شيء يشاءه هو سهل عنده. فكما يريد، فهو ينقص نفسه ببعض التجسيم، ويجعل ذاته منظورًا لعيوم أولئك الذين يحبونه، مظهرًا ذاته لأولئك الذين يستحقون، في مجد نور لا يُدنى منه، وذلك بحسب محبته العظيمة والتي لا يُنطق بها، وبواسطة قوته الخاصة.
والنفس التي حُسبت أهلاً، باشتياق شديد وانتظار لله، وإيمان ومحبة، لأن تنال تلك القوة من الأعالى، أى محبة الروح السماوية، وقد نالت النار السماوية، نار الحياة غير المائتة، فإنها تنفك حقًا من كل محبة عالمية وتنطلق حرة من كل رباط الشر.
تغيير النفس بنار المحبة الإلهية :
14 ـ فكما أن الحديد، والرصاص والذهب، أو الفضة، حينما تُلقى في النار تنصهر وتتغير من صلابتها الطبيعية إلى قوام لين، وطوال بقائها في النار تستمر منصهرة ومتغيرة عن تلك الطبيعة الصلبة، بواسطة شدة حرارة النار، كذلك النفس التي أنكرت العالم وثبتّت شوقها نحو الرب وحده، بتفتيش كثير وآلام وصراع النفس، وتداوم على انتظار الرب انتظارًا غير منقطع بالرجاء والإيمان، والتي قد نالت تلك النار السماوية، نار اللاهوت ونار محبة الروح، فهذه نفس تنفك حينئذ بالحقيقة من كل محبة العالم وتنطلق حرة من كل فساد الأهواء وتطرح عنها كل شيء وتتغير من عادتها الطبيعية وصلابة الخطية، وتعتبر كل الأشياء بلا قيمة بالمقارنة مع العريس السماوي الذي قبلته، مستريحة بذلك في حبه الشديد الذي يفوق الوصف.
15 ـ وأقول لكم بالحقيقة إنه حتى الاخوة المحبوبين جدًا الذين تبصرهم هذه النفس بعينها ، إذا أعاقوها عن تلك المحبة فإنها تتحول عنهم. لأن حياة النفس وراحتها هي في تلك العشرة الخفيّة الفائقة الوصف مع الملك السماوي. لأنه إن كانت شركة المحبة الأرضية (بالزواج) تتسبب في مفارقة الإنسان لأبيه وأمه واخوته بل وكل الأشياء تبتدئ تصير في نظر الزوجين خارجة عنهما، ورغم أنهما يظلان يحبونهم فإنهما يحبونهم محبة أكثر سطحية، بينما يكون انشغال الإنسان كله موجهًا نحو علاقته بعروسه ـ لذلك يقول الكتاب ” من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدًا واحدًا” (تك24:2).
فأقول إن كانت المحبة الجسدية تجعل الإنسان ينفك من كل محبة أخرى فكم بالأحرى جدًا أولئك الذين حُسبوا أهلاً للدخول حقًا في شركة الروح، ذلك الروح السماوي المحبوب، ينفكون من كل محبة عالمية ويصبح كل شيء آخر عديم القيمة بالنسبة لهم لأنهم غُمروا بشهوة سماوية وصاروا بكليتهم في ألفة وانسجام معها.
16 ـ حسنًا يا اخوتى الأحباء، فحينما توضع مثل هذه الخيرات أمامنا وقد وعدنا الرب بمثل هذه المواعيد العظيمة، فلنطرح عنا كل العوائق ونهجر كل محبة العالم، ونعطى أنفسنا بسعى واشتياق لذلك الذي هو وحده صالح، لكى نصل إلى ذلك الحب الذي لا يُنطق به، أى محبة الروح التي أوصانا بخصوصها القديس بولس حاثًا إيانا أن نجّد في طلبها قائلاً: ” اتبعوا المحبة” (1كو1:14) لكيما نتغير من قساوتنا بواسطة يمين العلّى، ونأتى إلى الحلاوة والراحة الروحانية، بعد أن ننجرح بالمحبة القوية، محبة الروح الإلهي.
إن الرب محب جدًا للإنسان وبرحمته يبقى في انتظار أن نتحول تحولاً كاملاً إليه ونتحرر من كل الأشياء المضادة. وبالرغم من أننا في جهلنا العظيم، وحماقتنا وميلنا إلى الشر، نبتعد عن الحياة ونضع عوائق كثيرة في طريقنا، غير راغبين أن نتوب حقيقة، لكنه هو مع ذلك مملوء بالحب والشفقة علينا، ويطيل أناته إلى أن نتوب ونأتي إليه، ونستنير في إنساننا الباطن لكى لا تخزى وجوهنا في يوم الدينونة.
محبة الله الشديدة لنا ومواعيده العظيمة :
17 ـ فإن كان الأمر يبدو لنا صعبًا بسبب مشقة ممارسة الفضيلة، ويبدو أكثر صعوبة بسبب مشورات العدو الغادرة، فانظروا أحشاء رحمة الله وطول أناته من نحونا وهو منتظر رجوعنا، وحينما نخطئ فهو يمد يده، في انتظار توبتنا. حينما نسقط، لا يستحى أو يخجل من قبولنا واحتضاننا ثانية، كما يقول النبي ” هل يسقطون ولا يقومون أو يرتد أحد ولا يرجع” (إر4:8). فلنكن فقط صاحين متيقظين، ولنا نيّة صالحة أكيدة، ولنتحول حالاً باستقامة ونطلب منه المعونة وهو مستعد أن يخلّصنا.
وهو يتطلع وينظر إلى إرادتنا ورغبتنا في الرجوع إليه برغبة حارة بأقصى طاقة عندنا، ويتطلع إلى الإيمان والغيرة النابعة من القصد الصالح، أما نجاح المسعى كله فهذا هو عمله الخاص. لذلك فلنسع، أيها الأحباء أولاد الله، تاركين جانبًا كل انشغال، وإهمال وتكاسل، ونتشجع ونكون مستعدين لاتباعه. ولا نتأخر من يوم إلى يوم، غير ملاحظين إلى أى مدى تجرحنا الخطية. إننا لا نعرف متى يأتى وقت انتقالنا من الجسد. إن المواعيد المعطاة والمقدمة للمسيحيين هي مواعيد عظيمة ولا يُنطق بها، عظيمة جدًا حتى أن كل مجد وبهاء السماء والأرض وكل زينة أخرى بكل نوع وكل كنوز وجمال الأشياء المنظورة لا تساوى شيئًا بالمرة بالنسبة للإيمان والكنز الذي لنفسٍ واحدةٍ.
محبته وطول أناته وانتظاره لحظة توبتنا ورجوعنا:
18 ـ فكيف نستطيع إذن أن نرفض بقلوبنا قبول مثل هذه الدعوات والمواعيد من الرب ونأبى المجىء إليه وتخصيص نفوسنا له، منكرين كل شيء ” حتى نفوسنا أيضًا” (لو26:14) كما يقول الإنجيل، وأن نحبه وحده وليس شيء آخر معه، ولكن بالرغم من كل هذه الأشياء، والمجد العظيم الذي قد أُعطىّ، وبالرغم من كل تدبيرات الرب منذ أزمنة البطاركة والأنبياء ـ كم من مواعيد عظيمة قد أُعطيت، وما أكثر النصائح التي قُدمت، وما أعظم الشفقة التي أظهرها لنا السيد منذ البداية! وأخيرًا، في مجيئه الخاص بيننا هنا، برّهن على محبته التي لا يُعبر عنها من نحونا، بصلبه من أجلنا،
ليحولنا وينقلنا إلى الحياة ـ وأما نحن فلا نزال غير راغبين في ترك مشيئتنا وترك محبة العالم وترك ميولنا وعاداتنا الرديئة. وبهذا نبرهن على أننا قليلى الإيمان، أو عديمى الإيمان، وبالرغم من هذا كله فإنه لا يزال محبًا رحيمًا حافظًا إيانا في الخفاء ومحتضنًا لنا، ولا يسلّمنا بحسب آثامنا ـ إلى سلطان الخطية إلى الأبد، ولا يدعنا نهلك بغرور العالم، بل في رحمته العظيمة وطول أناته يجعل نظره مثبتًا علينا في انتظار اللحظة التي نرجع فيها ونتحول إليه.
19 ـ أخاف أنه في يوم من الأيام بينما نحن متعلّقون بأفكارنا المخزية وسائرون وراء أهواءنا، تصدق فينا كلمات الرسول ” أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة” (رو4:2)؟
خطورة الاستهانة بلطفه وطول أناته:
ولكن إن كنا نقابل طول الأناة هذا واللطف والإمهال بعدم الرجوع بل بزيادة الخطايا، وبإهمالنا واحتقارنا نشترى لأنفسنا دينونة أعظم فيتحقق حينئذ بقية قول الرسول ” ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة” (رو5:2). إن الله قد استعمل صلاحًا عظيمًا يفوق الوصف في علاقته مع جنس البشر بل وطول أناة يفوق التعبير، ويبقى فقط أن نكون راغبين في استعادة ورجوع أنفسنا، ونسعى أن نتحول إليه تمامًا، لكيما نجد الخلاص.
أمثلة من معاملات الله في الكتاب المقدس:
20 ـ وإن أردت أن تعرف طول أناة الله ولطفه العظيم فلنتعلمها من الكتب الموحى بها. أنظر إلى إسرائيل، الذي منه جاء الآباء، الذين لهم أُعطيت المواعيد، ومنهم جاء المسيح حسب الجسد والذين بهم اختصت خدمات ” العبادة والعهد” (رو5،4:9)، كيف أخطأوا خطيئة عظيمة، وكم من مرة حادوا عن الطريق، ومع ذلك فلم يطرحهم إلى الأبد بل من وقت إلى وقت كان يسلّمهم للتأديبات إلى حين لأجل منفعتهم مريدًا أن يليّن قساوة قلوبهم بالضيقات والأحزان، وكان يعود إليهم ويشجعهم، ويرسل لهم الأنبياء. وكم من مرة أخطأوا وأغاظوه، ولكنه كان يطيل أناته عليهم وحينما يرجعون إليه يقبلهم بفرح، وحينما يرتدون ثانية عن طريقة لم يتخلَ عنهم، بل كان يدعوهم من جديد بواسطة الأنبياء أن يرجعوا إليه،
وكم من المرات الكثيرة تحولوا عنه ثم رجعوا فكان يحتملهم بلطف ويقبلهم إليه برأفة، إلى أن سقطوا في النهاية في التعدى الذي فاق الكل وذلك حينما ألقوا أيديهم على سيّدهم الذي تعلّموا بواسطة تقاليد الآباء والأنبياء القديسين أن ينتظروه كمنقذ لهم ومخلّص وملك ونبى. وحينما جاء لم يقبلوه بل بالعكس، فبعد أن وجهوا له الإهانة تلو الإهانة عاقبوه أخيرًا بالموت صلبًا على الصليب، وبهذا الإثم العظيم والتعدى الذي فاق كل التعديات تزايدت خطاياهم أكثر من الحد وامتلأت كأسهم. ولذلك تُركوا إلى النهاية، وهجرهم الروح القدس منذ أن انشق حجاب الهيكل.
ولذلك أعطى هيكلهم للأمم وهُدم، وصار خرابًا حسب إنذار الرب ” إنه لا يُترك هنا حجر على حجرٍ لا يُنقض” (مت2:24). هكذا سُلموا أخيرًا للأمم وتشتتوا في الأرض كلها بواسطة الملوك الذين أسروهم ومُنعوا من الرجوع إلى أماكنهم الأصلية.
21ـ وهذا هو نفس ما يعمله الله مع كل واحد منا حتى الآن، فإنه كملك وإله صالح يطيل أناته علينا وهو يرى كم يخطئ كل واحد منا، فيمسك يده ويسكت وينتظر أن يعود الإنسان إلى نفسه ويرجع عن الخطية تائبًا فيرحب بالخاطئ الراجع بمحبة عظيمة وفرح كثير. فهذا هو ما يقوله ” يكون فرح بخاطئ واحد يتوب” (لو10:15). وأيضًا يقول ” هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السموات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار” (مت4:18). ولكن إن كان أحد، تحت هذه الرحمة العظيمة وطول أناة الله الذي لا يسرع بالانتقام لكل خطيئة خفيّة أو ظاهرة بمجرد ارتكابها، بل ينظر ويسكت منتظرًا توبة الخاطئ، أقول إن كان الإنسان يزدرى هكذا بالرحمة ويضيف خطيئة على خطيئة ويجمع كسلاً على كسلٍ ويكوّم إثمًا فوق إثمٍ، فإنه يملأ مكيال خطاياه، ويأتى في النهاية إلى إثم عظيم جدًا لا يمكنه القيام منه أبدًا، بل يتهشم تهشمًا ويُسلّم للشرير للهلاك الأبدى.
22ـ وهذا هو الذي حدث مع سدوم. فإنهم مرات كثيرة أخطأوا استمروا يخطئون وبدون رجوع حتى وصلوا إلى قصدهم الشرير نحو الملائكة طالبين أن يرتكبوا الإثم معهم على أنهم رجال، حتى أنهم لم يستطيعوا أن يتوبوا بعد ذلك بل رفضوا نهائيًا، لأنهم ملأوا مكيال خطاياهم بل تعدوه ولذا أُحرقوا بنار النقمة الإلهية. وهكذا حدث أيضًا في أيام نوح، فإنهم كانوا يخطئون ولا يتوبون ووصلت كثرة خطاياهم لدرجة أن الأرض كلها فسدت تمامًا وهلكت.
وهكذا حدث مع المصريين أنهم أخطأوا كثيرًا وتعدّوا على شعب الله، وكان الله لطيفًا ولم يرسل عليهم ضربات كالأوبئة لكى تفنيهم كلّية، بل لأجل تأديبهم ورجوعهم وتوبتهم أرسل عليهم جلدات أسواطه الصغيرة صابرًا عليهم ومنتظرًا توبتهم. ولكنهم كانوا يخطئون ضد شعب الله ثم يندمون، ولكنهم يعودون مرة أخرى ويثبتون في عدم الإيمان القديم، الناتج عن قصد شرير، ويضيّقون على شعب الله من جديد، وأخيرًا حين أخرج الله الشعب من مصر بعجائب كثيرة بواسطة موسى فإنهم (المصريون) ارتكبوا الإثم العظيم بسعيهم وراء شعب الله، الذي بسببه أهلكتهم النقمة الإلهية وأفنتهم، واكتسحتهم بواسطة المياه إذ حسبتهم غير مستحقين حتى لهذه الحياة المنظورة.
23 ـ وبنفس الطريقة كما قلنا سابقًا فإن إسرائيل كثيرًا ما ارتكبوا آثامًا وخطايا، وقتلوا أنبياء الله وفعلوا أشياء أخرى شريرة كثيرة. وبينما كان الله محتملاً وساكنًا، منتظرًا بصبر توبتهم، انتهوا بارتكاب إثم عظيم بسببه سحقوا حتى أنهم لم يستطيعوا أن يقوموا ثانية. ولهذا السبب تخلى عنهم الرب تمامًا ورفضهم ونُزعت منهم النبوة والكهنوت والعبادة وأُعطيت للأمم الذين آمنوا كما قال الرب : ” إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعطى أثماره” (مت43:21) فقد ظلّ الله إلى ذلك الحين مطيلاً أناته عليهم محتملاً إياهم ولم يتخلى عنهم وذلك بكثرة شفقته عليهم، ولكن حينما ملأوا مكيال آثامهم وزادوا عن حدودها جدًا، وبإلقاء أيديهم على سيّدهم الكريم صاروا مهجورين تمامًا من الله.
لنرجع ونتوب بسرعة ولا نيأس من الخلاص:
24 ـ أيها الأحباء لقد تناولنا هذه الأمور بنوع من التفصيل مبرهنين من أفكار الكتب المقدسة أنه يجب علينا أن نرجع ونتحول بسرعة، ونبادر إلى الرب، الذي بسبب لطفه يتأنى علينا متوقعًا أن ننفك تمامًا من كل شر وميل خبيث، وهو الذي يرحب بفرح عظيم بتوبتنا ولا يريد أن يزداد احتقارنا من يوم إلى يوم ولا أن تتجمذع خطايانا وتزداد علينا فتسبب غضب الله علينا.
فلنسعَ إذن بحماس وغيرة أن نأتى إليه بقلب تائب حقًا، غير يائسين من الخلاص لأن اليأس هو نفسه خطيئة وإثم وذلك حينما يتملك علينا تذكر الخطايا السالفة فيقود الإنسان إلى اليأس وقطع الرجاء وإلى التراخي والإهمال والكسل، لكي لا يعود ويرجع إلى الرب لينال الخلاص، حيث إن إحسان الرب العظيم ولطفه هو ممتد لكل جنس البشر.
هو الذي يغيّر ويحوّل ويجدّد النفس:
25ـ وإن كان يظهر لنا أن الرجوع من الخطايا الكثيرة أمر عسير ومستحيل وذلك بسبب أننا صرنا مستعبدين لها فإن هذا الفكر ـ كما قلت ـ هو خدعة من الشرير وتعويقًا لحصولنا على الخلاص. فلنتذكر ونعتبر كيف أن ربنا حينما جاء بصلاحه بيننا على الأرض، أعطى البصر للعميان وشفي المشلولين، وشفي كل أنواع المرض وأقام الأموات بعد أن فسدت واضمحلت أجسادهم، وجعل الصم يسمعون وأخرج جيشًا من الشياطين من إنسان واحد وأعاده إلى عقله بعد أن كان في غاية الجنون. فكيف لا يغيّر ولا يحوّل ـ بالأحرى جدًا، النفس التي ترجع إليه طالبة رحمته وهى محتاجة إلى حمايته، ويحضرها إلى حالة سعيدة، حالة التحرر من الشهوات وحالة الثبات المستمر في كل فضيلة بتجديد الذهن، ويغيرها إلى الصحة والإبصار العقلى وأفكار السلام، بدلاً من العمى والصمم وموات عدم الإيمان والجهالة وعدم المبالاة،
ويأتى بها إلى اتزان الفضيلة ونقاوة القلب. فالذى خلق الجسد هو الذي خلق النفس أيضًا، وكما أنه في سعيه على الأرض حينما كان يجىء الناس إليه طالبين منه المعونة والشفاء فإنه بلطف كان يمنحهم ولا يضن عليهم بحسب ما تكون احتياجاتهم كمثل طبيب صالح، بل الطبيب الحقيقى الوحيد، فهكذا يكون الأمر في الاحتياجات الروحية.
26 ـ فإن كان قد تحرّك بمثل هذه الشفقة على الأجساد التي تضمحل وتموت، وبلطف شديد أعطى لكل واحد حاجته التي كان يطلبها، فكم بالأحرى جدًا يصنع للنفس غير المائتة التي لا تفسد ولا تضمحل، وهى تئن تحت وطأة مرض الجهل والشر وعدم الإيمان واللامبالاة وكل أمراض الخطيئة الأخرى. فحينما تأتى إلى الرب وتلتمس معونته وتثبت أنظارها على رحمته، وترغب أن تنال منه نعمة الروح لأجل إنقاذها وخلاصها وتحررها من كل شر ومن كل شهوة، أفلا يمنحها بأكثر استعداد خلاصه الشافى،
بحسب كلمته هو ” أفلا ينصف الآب السماوي مختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلاً”؟ (لو 7:18) ويضيف قائلاً ” نعم أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا” (لو8:18).
وفي موضع آخر يحثنا ” اسألوا تعطوا لأن كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يُفتح له” (لو10،9:11)، ويختم هذا الحديث بقوله ” كم بالحرى أبوكم السماوي يعطى الروح القدس للذين يسألونه… الحق أقول لكم وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج” (لو8:11 ـ13).
التماس عطية النعمة بلجاجة:
27ـ فباللجاجة إذن، وبدون انقطاع، وبلا كلل يستحثنا في كل هذه الكلمات أن نلتمس منه عطية النعمة. فإنه جاء إلى العالم لأجل الخطاة، لكى يحوّلهم ويرّجعهم إلى نفسه ويشفي ويخلّص الذين يؤمنون به، لذلك فلنتجنب الوساوس الشريرة، على قدر طاقتنا، ونبغض المقاصد الرديئة وخداع العالم، ونعطى ظهورنا للأفكار الشريرة الباطلة، ونلتصق بالرب بأقصى طاقتنا، وهو على استعداد أن يسرع بإعطائنا معونته. فمن أجل هذه الغاية هو رحيم ومحيى وشفي للأمراض التي لا شفاء لها.
وهو يصنع الخلاص لأولئك الذين يدعونه ويرجعون إليه، مبتعدين بأقصى طاقتهم ـ بالإرادة والقصد ـ عن كل تعلق عالمى، ويبعدون عقولهم بعيدًا عن الأرض ويثبتونها فيه بتوسل واشتياق. فعلى مثل هذه النفس يسبغ الله نعمته، تلك النفس التي تحسب كل شيء آخر بلا أهمية أو ضرورة، ولا تستريح على شيء في العالم، بل تتطلع لتجد الراحة والفرح في حضن لطفه ومحبته، وهكذا بعد أن تنال الموهبة السماوية بمثل هذا الإيمان، تحصل على إشباع رغبتها بيقين تام بواسطة النعمة.
ومنذ ذلك الحين فصاعدًا تخدم الروح القدس باتفاق ولياقة، وتتقدم نامية كل يوم في كل مكان في كل ما هو صالح وتثبت في طريق البر، وإذ تلبث غير متزعزعة أو مساومة مع الشر، ولا تحزن النعمة في شيء، فإنها تمنح الخلاص الأبدى مع كل القديسين لأنها قد عاشت في العالم كشريكة ورفيقة لهم متمثلة بهم آمين.
________________________________________
[1] يبدو أن القديس مقاريوس يقصد أن (أورشليم) و(صهيون) ، في مثل هذه الحالات هي تعبير عن الله نفسه، فالله يجعل نفسه مسكن النفس وحصنها
العظة الخامسة
الخليقة الجديدة وبيت الروح الأبدي
“الخليقة الجديدة التي للمسيحيين والفرق العظيم بينها وبين أهل هذا العالم. فأولئك الذين لهم العالم، هم مربوطون بقلوبهم وعقولهم بالرباطات الأرضية..
أما الذين لهم روح المسيح، فإنهم يشتاقون لمحبة الآب السماوي، واضعينه أمام عيونهم بمحبة كثيرة”
1ـ إن عالم المسيحيين من جهة طريقة حياتهم، وعقلهم، وكلامهم وعملهم هو شيء مختلف تمامًا عن طريقة حياة أهل هذا العالم وعقلهم وكلامهم وعملهم. فأولئك شيء وهؤلاء شيء آخر والفرق بين هؤلاء وأولئك فرق عظيم.
حالة أهل هذا العالم:
فسكان الأرض أى أبناء هذا الدهر، هم مثل القمح الذي يُلقى في غربال هذه الأرض، فيغرّبلون بالأفكار القلقة التي لهذا العالم، وتتقاذفهم ـ بلا انقطاع ـ أمواج الأمور الأرضية والشهوات والتصورات المادية المتشابكة، بينما يحرّك الشيطان نفوسهم، إذ أنه يغرّبل في هذا الغربال ـ أى غربال الهموم الأرضية ـ كل الجنس البشرى الخاطئ، وذلك منذ أن سقط آدم بتعدى الوصية وصار تحت سلطان رئيس الشر.
ومنذ ذلك الوقت الذي حصل فيه الشيطان على هذا السلطان إلى الآن، فإنه لا يفعل شيئًا سوى أن يغرّبل أبناء هذا الدهر بأفكار الخداع والتهيّج ويقذف بهم بعنف على غربال هذه الأرض.
2ـ فكما أن القمح في الغربال يقلبه المغربل ويرتج دائمًا من جهة إلى أخرى متحركًا ومتصادمًا في داخل الغربال، كذلك فإن رئيس الشر يمسك كل الناس بواسطة الأمور الأرضية، وعن طريقها يرجّهم ويقلّبهم ويهيّجهم، ويضربهم بأفكار التخيلات الباطلة والرغبات الدنيئة، ورباطات العالم الأرضية، وهو يقوم دائمًا بأسر كل جنس آدم الخاطئ عن طريق إثارتهم وإغرائهم، كما سبق الرب وحذّر الرسل كيف أن الشرير سيقوم ضدهم:
” هوذا الشيطان قد طلبكم لكى يغربلكم كالحنطة ولكني طلبت من أجلكم لكى لا يفنى إيمانكم” (لو32،31:22). فالكلمة التي قيلت لقايين من خالقه، وذلك القصاص الذي نطق به الله له ” تائهًا وهاربًا تكون في الأرض”، بالإضافة إلى معناه الظاهر فهو نموذج ومثال لما يحدث لكل الخطاة في السر في باطنهم (أي أنين وارتعاد واضطراب). فإن جنس آدم بعد أن سقط من الوصية ودخل في الحالة الخاطئة، أصبحت له تلك الصورة في الإنسان الخفي، فتتقاذفه أفكار متقلبة من الخوف والرعب وكل أنواع الاضطراب إذ أن رئيس هذا العالم يقلب كل نفس على أمواج من كل نوع وصنف من أنواع اللذّة والشهوة، إلاّ إذا كانت مولودة من الله، وكما أن القمح يتحرك بلا انقطاع في الغربال،
هكذا فإن الشرير يحرّك أفكار الناس ويقلّبهم في اتجاهات مختلفة ويرجهم ويغويهم جميعًا بواسطة الشهوات العالمية ولذات الجسد والمخاوف والاضطرابات.
3 ـ لقد أظهر الرب أن أولئك الذين يتبعون خداعات ورغبات الشرير، يحملون صورة شر قايين، وذلك حين وبخّهم وقال “وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. وذاك كان قتالاً للناس منذ البدء ولم يثبت في الحق” (يو44:8)، حتى إن كان جنس آدم الخاطئ قد حصلوا على هذا الحكم في باطنهم، وهو الأنين والرعب والتقليب في غرّبال هذه الأرض بيد الشيطان. فكما أنه من آدم انتشر كل جنس البشر على الأرض، هكذا فإن نوع واحد من الأهواء الشريرة سرى وتعمق في جنس البشر الخاطئ حتى أن رئيس الشر يمكنه أن يغرّبلهم جميعًا بغرّبلة التصورات المادية المقلقة. فكما أن ريحًا واحدًا تكفي لتحريك وهز كل النباتات والزروع، أو كما أن ظلام الليل الواحد يعم على كل الأرض المسكونة، هكذا فإن رئيس الشر هو نفسه الظلام الروحى ـ ظلام الخطية والموت ـ وهو ريح عاصف، وأن كان خفيًا، فإنه يهز كل جنس البشر على الأرض ويقودهم بالأفكار القلقة الطائشة ويغوى قلوب الناس بشهوات العالم، ويملأ كل نفس بظلام الجهل والعمى والنسيان، إلاّ أولئك الذين قد وُلدوا من فوق وانتقلوا بقلوبهم وعقولهم إلى عالم آخر كما هو مكتوب ” إن مدينتنا هي في السموات” (في20:3).
الخليقة الجديدة التي تميّز المسيحيين الحقيقيين:
4 ـ فهذا هو ما يشكّل الفرق بين المسيحيين الحقيقيين وبين بقية البشر، والفرق بين الاثنين فرق عظيم كما قلنا سابقًا. فقلب المسيحى وعقله وطريقة تفكيره هي دائمًا في المجال السماوي، فالمسيحيون الحقيقيون ينظرون الخيرات الأبدية كما في مرآة، وذلك بسبب حصولهم على الروح القدس وشركته، لسبب كونهم مولودين من الله من فوق ولأنهم نالوا الامتياز أن يصيروا أولاد الله بالحق وبالفعل، إذ يصلون ـ بعد حروب وأتعاب لفترة طويلة ـ إلى حالة ثابتة مستقرة من الحرية والتحرر من الاضطراب، حالة الراحة، فلا يعودون يُغرّبلون ويموجون بالأفكار القلقة الباطلة.
بهذا هم أعظم وأفضل من العالم لأن عقلهم واهتمام نفسهم هو في سلام المسيح ومحبة الروح فعن مثل هذا تكلم الرب حينما قال ” إنهم قد انتقلوا من الموت إلى الحياة” (يو24:5) فالعلامة المميزة للمسيحيين ليست هي في الأساليب والأشكال الخارجية فكثيرون يظنون أن الفرق الذي يميّزهم عن العالم إنما هو في الشكل أو الأساليب الظاهرة،
ويا للأسف فإنهم في عقولهم وتفكيرهم هم مثل العالم إذ أنهم يُقلبون ويهتزون بقلق الأفكار غير الثابتة مثل أهل العالم وهم مثلهم أيضًا في عدم الإيمان والحيرة والاختلاط والخوف مثل كل الناس الآخرين. وقد يختلفون عن العالم في الشكل الخارجى والمظهر، ويختلفون عن العالم أيضًا إلى حد ما في الممارسات الدينية، ولكن في القلب والعقل هم مربوطون بالرباطات الأرضية إذ لم يحصلوا أبدًا على الراحة في الله وسلام الروح السماوي في قلبهم، لأنهم لم يطلبوها من الله ولم يؤمنوا أنه سيمنح لهم هذه الأشياء.
5 ـ فإن ما يميّز الخليقة الجديدة التي للمسيحيين عن كل أهل العالم هو: تجديد القلب، وسلام الأفكار، والمحبة والشهوة السماوية للرب. وهذا هو الغرض الذي لأجله جاء الرب إلى العالم، أن يهب هذه البركات لأولئك الذين يؤمنون به حقًا. فإن المسيحيين لهم مجد وجمال وغنى سمائي يفوق الوصف والتعبير، وهذه تُكتسب بالآلام والعرق والتجارب ومحاربات كثيرة ولكن الكل يتحقق بنعمة الله.
فإن كان منظر ملك أرضى يصير موضوع اشتهاء كل الناس، حتى أن كل من يسكن في مدينة الملك يرغب في الحصول على نظرة خاطفة لجماله، وبهاء ملابسه ومجد أرجوانه، وجمال لآلئه، ولمعان تاجه البهي وكرامة حاشيته الجذّابة ـ فيما عدا الناس الروحانيين، فإنهم لا يعتبرون كل هذه الأشياء، بسبب حصولهم على اختبار مجد آخر هو مجد سماوي وخارج عن الجسد ولأنهم جُرحوا بجمال آخر لا يُنطق به، وصار لهم اهتمام وانشغال بغنى آخر وقد شعروا في الإنسان الباطن بروح آخر وصاروا شركاء له ـ فإن كان أهل هذا العالم الذين لهم روح العالم يرغبون بشدة أن يلقوا ولو نظرة على الملك الأرضي بكل جماله ومجده ـ بسبب أن نصيبه من الخيرات المنظورة أكبر من غيره من الناس،
وهكذا فإن رؤيته هي امتياز وموضوع اشتهاء للجميع، وكل إنسان يقول في نفسه سرًا “ليت أحدًا يعطينى ذلك المجد والجمال والعظمة”، وينسب السعادة لذلك الإنسان ـ أى الملك، رغم أنه مثله من الأرض وله شهوات مثله ومائت أيضًا، ولكنه موضوع اشتهاء بسبب الجمال والمجد واللذان يتزين بهما لفترة محدودة من الزمن.
6 ـ وأقول أيضًا إن كان الناس الجسديين يشتهون مجد ملك أرضى، فكم بالأكثر أولئك الذين تساقط عليهم ندى روح الحياة، أى ندى اللاهوت، وجرح قلوبهم بحب إلهي للمسيح الملك السماوي، وارتبطوا بذلك الجمال وبذلك المجد الفائق الوصف والحسن غير المائت، والغنى الذي يفوق التصور، غنى المسيح الملك الحقيقى الأبدي، وبرغبة يشتاقون نحو ذلك الذي أسرهم بحبه واستعبدهم، وبكل كيانهم يميلون إليه، ويشتهون نوال تلك الخيرات التي تفوق الوصف، التي يرونها بالروح كما في مرآة، ومن أجله يعتبرون كل بهاء الملوك والرؤساء على الأرض ومحاسنهم وأمجادهم وكرامتهم وغناهم، كلها كلا شيء بالمرة، لأنهم مجروحون بالجمال الإلهي وقد تساقطت قطرات حياة الخلود السماوية على نفوسهم. لذلك فإن شهوتهم موجهة نحو محبة الملك السماوي، ويضعونه أمام عيونهم بحب عظيم، ومن أجله يتخلون عن كل محبة عالمية، ويبتعدون عن كل رباط أرضي حتى تكون لهم الحرية دائمًا في أن يحفظوا في قلوبهم تلك الشهوة وحدها، ولا يخلطون بها شيئًا آخر.
بيت الروح الأبدي:
7 ـ ويخبرنا الرسول المبارك بولس بما ينبغي لكل واحد منا أن يسعى للحصول عليه في هذه الحياة إذ يقول ” إننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا بناء من الله، بيت غير مصنوع بالأيدي، بل هو أبدي في السموات” (1كو1:5) لذلك يجب علينا جميعًا أن نجتهد ونسعى بكل نوع من الفضيلة، وأن نؤمن أننا سنقتنى ذلك البيت ونمتلكه منذ الآن. لأنه إن كان بيت جسدنا ينقض فليس لنا بيت آخر للنفس لكى تدخل فيه. يقول الرسول ” وإن كنا لا بسين لا نوجد عراة” (2كو3:5) أي عراة من شركة الروح القدس والاندماج فيه، هذا الروح الذي فيه وحده تستطيع النفس المؤمنة أن تجد راحة.
لهذا السبب فإن المسيحيين الذين هم مسيحيون بالحق وبالفاعلية يكون لهم ثقة ويفرحون عند خروجهم من الجسد لأن لهم ذلك البيت غير المصنوع بالأيدي، ذلك البيت الذي هو قوة الروح الساكن فيهم. لذلك فحتى إن نقض بيت الجسد فلا يخافون لأن لهم البيت السماوي بيت الروح والمجد الذي لا يفسد، ذلك المجد الذي سوف يبنى بيت الجسد أيضًا ويمجّده في يوم القيامة كما يخبرنا الرسول ” فالذي أقام المسيح من الأموات سيحي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم” (رو11:8)، وقال أيضًا ” لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت” (2كو11:4)، وأيضًا ” لكي يُبتلع المائت من الحياة” (2كو4:5).
8 ـ فلنسعَ إذن بالإيمان والحياة الفاضلة لكى نقتنى ذلك اللباس هنا، حتى حينما نخلع الجسد لا نوجد عراة، إذ لا يكون هناك شيء في ذلك اليوم يجعل جسدنا ممجد. لأن كل واحد بقدر ما يُحسب أهلاً ـ بواسطة الإيمان والاجتهاد ليصير شريكًا للروح القدس بقدر ذلك يتمجد جسده في ذلك اليوم. فكل ما خزنته النفس في داخلها في هذه الحياة الحاضرة، سوف يعلن حينئذ وينكشف من الخارج ظاهرًا في الجسد.
وكما أن الأشجار التي تجوز موسم الشتاء، حينما تدفئها الحرارة غير المنظورة التي للشمس والرياح، ينمو من باطنها كساء من الأوراق ويغطيها، وكما أنه في ذلك الموسم تخرج زهور العشب من باطن الأرض وتتغطى الأرض وتكتسي بها، ويكون العشب مثل تلك الزنابق التي قال عنها الرب ” إنها ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها” (مت29:6) وكل هذه أمثال ونماذج ورموز عن المسيحيين في القيامة. كذلك كل النفوس التي تحب الله أعنى المسيحيون الحقيقيون فإنه يأتيهم أول الشهور الذي يسمى نيسان:
الذي هو يوم القيامة. وبقوة شمس البر يخرج مجد الروح القدس من الداخل فيكسو ويغطى أجساد القديسين ـ ذلك المجد الذي كان لهم سابقًا، ولكنه كان مخفيًا في داخل نفوسهم. فإن ما يكون للإنسان الآن، سوف يظهر بعينه خارجًا من الداخل وينكشف في جسده.
9 ـ يقول الرب ” هذا الشهر سيكون أول شهور السنة” (خر 2:12)، وهو يجلب الفرح للخليقة كلها فإنه يكسو الأشجار العالية ويفتح الأرض وهو يبهج جميع الكائنات الحيّة ويعطى المرح للكل، هذا بالنسبة للمسيحيين هو نيسان أول الشهور الذي هو موسم القيامة، الذي فيه ستتمجّد أجسادهم بواسطة النور الفائق الوصف الذي هو فيهم منذ الآن ـ وأعنى به قوة الروح القدس ـ والذي سوف يصير لهم فيما بعد كساءً وطعامًا وشرابًا وبهجة وفرحًا وسلامًا، ورداءً وحياة أبدية، لأن كل جمال البهاء والبريق السماوي سوف يصير لهم من روح اللاهوت ذلك الذي حُسبوا أهلاً لقبوله في هذه الحياة الحاضرة.
10 ـ فكم ينبغي إذن لكل واحد منا أن يؤمن ويجتهد وأن يجد في كل سيرة فاضلة، وبرجاء كثير وصبر نطلب أن نحسب أهلاً ونحن في هذا العالم، لنوال تلك القوة من السماء ومجد الروح القدس في نفوسنا في الداخل، حتى حينما تنحل أجسادنا يكون عندنا حينئذٍ ما سوف يكسونا ويحيينا . كما يقول الرسول ” وإن كنا لا بسين لا نوجد عراة” (2كو3:5)، وأيضًا إنه ” سيحيى أجسادنا المائتة أيضًا بروحه الساكن فينا” (رو11:8).
لأن موسى النبى المبارك أرانا في مثال ـ بواسطة مجد الروح الذي سطع على وجهه الذي لم يستطع أحد أن يتفرس فيه ـ كيف أنه في قيامة الأبرار ستتمجّد أجساد أولئك المستحقين، بمجد تحصل عليه منذ الآن النفوس المقدسة الأمينة إذ تُحسب أهلاً لاقتناء هذا المجد في داخلها، في الإنسان الباطن. لأن الرسول يقول: ” ونحن ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف ـ أى في الإنسان الباطن ـ كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد” (2كو18:3).
وكذلك كُتب عن موسى أنه لمدة أربعين يومًا وأربعين ليلة ” لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماءً” (خر 78:24) ولم يكن ممكنًا بطبيعة جسده أن يعيش طوال هذه المدة بدون طعام إن لم يكن قد اشترك في نوع آخر من الطعام الروحانى، هذا الطعام هو الذي تشترك فيه نفوس القديسين منذ الآن بموهبة الروح بطريقة غير منظورة.
11 ـ لذلك فإن موسى المبارك بيَّن بطريقتين ما هو مجد النور وما هي أطعمة الروح اللذيذة غير المادية التي سيحصل عليها المسيحيون الحقيقيون في القيامة، والتي تُمنح لهم منذ الآن بطريقة خفيّة، ولذلك فسوف تظهر حينئذٍ وتنكشف أيضًا على أجسادهم، لأن المجد الذي يحصل عليه القديسون الآن في نفوسهم ـ أى في الحياة الحاضرة ـ هو بعينه، كما قلنا سابقًا سوف يغطى ويكسو أجسادهم العارية ويختطفهم إلى السماء، فنستريح هناك مع الرب في ملكوته جسدًا ونفسًا إلى الأبد.
فإنه حينما خلق الله آدم لم يزوده بأجنحة جسدية مثل الطيور ولكن قصد له في الأصل أن تكون له أجنحة الروح القدس، تلك الأجنحة التي قصد أن يعطيها له في القيامة لترفعه وتختطفه إلى حيث يشاء الروح ـ هذه هي الأجنحة التي تنال النفوس المقدسة امتياز الحصول عليها منذ الآن، وتطير في عقولها إلى المجال السماوي.
فالمسيحيون لهم عالم مختلف خاص بهم، ومائدة أخرى وثوب آخر ونوع آخر من التمتع والتنعم، وشركة أخرى وطريقة أخرى للتفكير والعقل، ولهذا السبب فإنهم يتميزون عن باقى البشر. إذ أن لهم الامتياز أن ينالوا قوة هذه الأمور في داخل نفوسهم منذ الآن بواسطة الروح القدس. لذلك فإن أجسادهم تُحسب أهلاً في القيامة للاشتراك في خيرات الروح الأبدية هذه، وسوف تختلط بذلك المجد الذي قد عرفته نفوسهم بالاختبار في هذه الحياة.
12 ـ لذلك يجب على كل واحد منا أن يجتهد ويسعى ويجد في كل فضيلة، وان يؤمن ويطلب من الرب لكى يجعل الإنسان الباطن شريكًا في ذلك المجد هنا منذ الآن وأن تصير للنفس شركة في قداسة الروح، لكى ما نتطهر من أدناس الشر وليكون لنا في القيامة ما نكسو به عرى أجسادنا عند قيامتها وما نغطى به عيوبها، وما يحييها وينعشها إلى الأبد في ملكوت السموات لأن المسيح سوف ينزل من السماء،
ويقيم نسل آدم كله الذين رقدوا من بدء العالم، حسب الكتب المقدسة وسيقسمهم جميعًا إلى قسمين، فأولئك الذين يحملون علامته أى ختم الروح سيدعوهم إليه باعتبارهم خاصته وسيقيمهم عن يمينه، كما يقول ” لأن خرفي تسمع صوتي ـ وأنا أعرف خاصتي وخاصتي تعرفني” (يو27،14:10) وحينئذ تلتحف أجساد هؤلاء بالمجد الإلهي من أعمالهم الصالحة، ويمتلئون من مجد الروح، وهكذا إذ نتمجد في النور الإلهي ونختطف إلى السماء لنلاقى الرب في الهواء حسب المكتوب (انظر 1تس17:4)، فإننا نكون كل حين مع الرب مبتهجين معه إلى دهر الدهور بلا نهاية
العظة السادسة
الصلاة بهدوء ـ معنى العروش والأكاليل
الذين يريدون أن يرضوا الله ينبغي أن يقدموا صلواتهم بهدوء وسلام وبوداعة وحكمة، ولا يسببوا عثرة للآخرين بصياحهم بأصوات عالية. هذه العظة تحتوى أيضا على سؤالين، الأول هو هل العروش والأكاليل هي خلائق حقيقية أم لا؟ والثاني عن كراسي إسرائيل الاثني عشر.
الصلاة بهدوء وسلام:
1ـ أولئك الذين يقتربون إلى الرب ينبغي أن يقدموا صلواتهم بهدوء وسلام وثبات عظيم، ويثبتوا نظر عقولهم نحو الرب، ليس بصرخات غير ملائمة ومضطربة، بل باجتهاد قلب حار وأفكار يقظة. كما يحدث في حالة بعض الأمراض، أن علاج المريض يستلزم إجراء كي له أو عملية جراحية، فالبعض يحتملون ألم الكي أو الجراحة بشجاعة وصبر وضبط نفس بدون صراخ أو اضطراب، بينما آخرون عندما تجرى لهم نفس عملية الكي أو الجراحة فانهم لا يحتملون نار الكي أو مشرط الجراح ويضجون بصرخات عالية مزعجة غير ملائمة.
ومع ذلك فإن ألم الإنسان الذي يصرخ عاليا هو نفس ألم ذلك الإنسان الذي لا يصنع اضطرابا .هكذا أيضا فهناك بعض الناس يحتملون شدائد وأحزان تأتى على نفوسهم بصبر ويتقبلونها بخضوع ولا يصنعون اضطرابا وانزعاجا بل يضبطون أنفسهم بالتأمل العقلي في الرب (في داخل قلوبهم)، بينما آخرون حينما تحل بهم نفس الشدائد والأحزان، يفقدون قوة احتمالهم ويقدّمون صلواتهم بأصوات مضطربة مزعجة تضايق وتعثر أولئك الذين يسمعونهم.
وهناك آخرون أيضا رغم أنهم في الحقيقة لا يعانون من شدائد أو أحزان ولكنهم لأجل التفاخر والرغبة في التميّز يصلون بصراخ وبدون انضباط ظانين أنهم بواسطة هذه الأصوات العالية – يستطيعون أن يرضوا الله .
2ـ ولا ينبغي لأي واحد من خدام الله أن يفقد ضبط نفسه، بل ينبغي أن يكون في كل وداعة وحكمة، كما يقول الرب ” إلى من انظر ـ ألاّ إلى الوديع والمتواضع الروح والمرتعد من كلامي” (أش2:66 السبعينية). وفي حالة كل من موسى وإيليا نجد في الظهورات التي مُنحت لهم، أنه رغم وجود خدمة أبواق عظيمة وقوات أمام عظمة الرب، إلاّ أن حضور الرب كان يتميّز بين الكل وعن الكل، وكان يظهر في هدوء وسلام وراحة لأن الكتاب يقول: “وإذ صوت منخفض خفيف” (1مل19: 2) وكان الرب في هذا الصوت.
وهذا يبين أن راحة الرب هي في الهدوء والسلام والسكون. وبحسب الأساس الذي يضعه الإنسان، وبحسب الطريقة التي يبدأ بها فانه يستمر في نفس الخط إلى النهاية. فان ابتدأ يصلى بصوت عالي وصراخ مزعج، فانه يستمر في هذه العادة إلى النهاية، ولكن لأن الرب محب البشر، فانه يهب عونه ورعايته حتى لمثل هؤلاء الأشخاص ولذلك فانهم بواسطة تشجيع النعمة يستمرون بنفس هذه الطريقة إلى النهاية.
ومع ذلك يتضح أن هذا هو حال الذين لم يتهذبوا بعد (بالروح)، لأنهم يسببون عثرة للآخرين وفي نفس الوقت يكونون هم أنفسهم في اضطراب وتشويش في صلواتهم.
3ـ إن أساس الخدمة الحقيقي هو هذا: أن نركز انتباهنا، ونصلى بهدوء عظيم وسلام، حتى لا نسبب عثرة لأولئك الذين في الخارج. والإنسان الذي يصلى هكذا، إذا حصل على نعمة الله ورضاه على صلاته واستمر إلى النهاية في هدوء فانه سيبنى كثيرين غيره ” لأن الله ليس إله تشويش بل إله سلام” (1كو33:14). وأولئك الذين يصلون بضجيج وصراخ فإنهم يشبهون الإنسان الذي يصيح عاليا ليضبط إيقاع المجدفين في السفينة. هؤلاء لا يستطيعون أن يصلّوا هكذا في كل مكان لا في الكنائس، ولا في القرى، ربما يستطيعون فقط أن يصلّوا في الصحارى كما يريدون. أما أولئك الذين يصلون بهدوء فإنهم يبنون كل إنسان في كل مكان.
وينبغي أن يكون حرص الإنسان وجهده كله موجها ومسلطا على أفكاره، فينبغي أن يقطع الشجرة الكثيفة المتشابكة ـ شجرة الأفكار الشريرة التي تقلقه وتهاجمه ويلقى بنفسه على الله، ولا يدع أفكاره تحمله حيث تشاء، بل يجمع أفكاره حينما تجول في كل اتجاه ويميّز بين الأفكار الطبيعية والأفكار الشريرة. والنفس لأنها تحت الخطية فإنها تكاد تشبه غابة كبيرة قائمة على جبل، أو مثل عيدان الغاب في النهر أو مثل غابة أشواك وأدغال.
فالذين يريدون أن يعبروا خلال هذا المكان يلزمهم أن يرفعوا أيديهم ويجتهدوا بكل قوة أن يدفعوا جانبا الأدغال والأشواك التي تزعجهم. وبالمثل فان الأفكار التي تأتى من القوة المعادية يزعج النفس مثل الأدغال والأشواك لذلك يلزمنا سهر وانتباه كثير وعقل يقظ، لكي نميّز ونعرف الأفكار التي ليست منا بل هي من إيحاء القوة المعادية لنا.
4 ـ فهناك إنسان يثق في قدراته الخاصة فيظن أنه يمكنه أن يجتاز الجبال المحيطة به بقدرته، وإنسان آخر يضبط عقله بهدوء وتبصّر وتميّيز فينهي عمله ويتممه أفضل من الشخص الأول وبدون أن يتعب نفسه كثيرًا. وهكذا الأمر فيما يختص بالصلاة ، فان البعض يصيحون في الصلاة صيحات عالية غير ملائمة، كما لو كانوا يعتمدون على قوة عضلاتهم، وهم لا يعرفون كيف تخدعهم أفكارهم وتوهمهم أنهم يستطيعون أن يحققوا نجاحا كاملا بقوتهم الخاصة
بينما يوجد آخرون ينتبهون لأفكارهم ويتمّمون كل العمل والجهاد في الداخل. فهؤلاء عن طريق فهمهم وتمييزهم يستطيعون أن يصلوا إلى النجاح وأن يتخلصوا من عصيان الأفكار المتمردة، وأن يسيروا بحسب مشيئة الرب.
ونجد في كلام الرسول بولس أنه يقول: إن الذي يبنى الآخرين أعظم من الذي لا يبنيهم إذ يقول: ” إن الذي يتكلم بلسان يبنى نفسه أما الذي يتنبأ فيبنى الكنيسة.. لأن من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة” (1كو5،4:14) لذلك فليختار كل واحد أن يبنى غيره وهكذا يُمنح له ميراث ملكوت السموات .
العروش والأكاليل :
5 ـ “سؤال” إن بعض الناس يخبروننا أن العروش والأكاليل هي خلائق حقيقية وليست أشياء روحانية، فكيف ينبغي أن نفهم ذلك ؟
“جواب” إن عرش اللاهوت هو عقلنا وأيضًا عرش العقل هو اللاهوت والروح. وبنفس الطريقة فإن الشيطان وقوات الظلمة ورؤسائها ـ منذ تعدى الوصية ـ قد جلسوا في قلب وعقل وجسد آدم كأنه كرسي الشيطان وعرش لهم، ولهذا جاء الرب وأخذ جسدًا من العذراء. لأنه لو كان قد شاء أن ينزل إلينا بلاهوته المكشوف بدون جسد فمن كان يستطيع أن يتحمل رؤيته؟ لذلك فقد تكلّم إلى الناس بواسطة الجسد كأداة. وبهذه الطريقة فقد قضى على أرواح الشر التي كانت قد اتخذت لها مسكنًا ومجلسًا في الجسد أى كرسى العقل والفكر التي سكنت فيه، فجاء الرب وطهّر الضمير وجعل الأفكار كرسيًا له.
6 ـ “سؤال” إذن ما هو معنى الآية ” إنكم تجلسون على اثني عشر كرسيًا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر” (مت28:19).
الجواب: إننا نجد أن هذا قد حدث فعلاً على الأرض بعد أن أُصعد الرب إلى السماء. لأنه أرسل الروح المعزى على الاثني عشر رسولاً فجاءت القوة المقدسة من الأعالي ونصبت خيمتها وجلست على كراسي عقولهم. وحين قال الواقفون ” إنهم قد امتلاؤا سلافة” (أع 13:2) بدأ بطرس في الحال أن يحكم عليهم متكلمًا عن يسوع قائلاً: ” يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قِبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده..” (أع22:2ـ4، أع30:5) إن هؤلاء ليسوا بسكارى لأنه مكتوب ” ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم” (أع 17:2) فجاء كثيرون إلى التوبة بتأثير تعليم بطرس وهكذا بدأ عالم جديد في الوجود، عالم مختار من الله .
7 ـ ألاً ترون كيف ظهرت بداية الدينونة؟ فقد ظهر هناك عالم جديد، وهكذا أُعطى لهم سلطان أن يجلسوا ويجروا الدينونة حتى في هذا العالم. ولكنهم سوف يجلسون ثانية ويدينون عند مجيء الرب في قيامة الأموات. ولكن قد بدأت هذه الدينونة هنا على الأرض حينما جلس الروح القدس على كراسي عقولهم. إن الأكاليل (التيجان) التي سينالها المسيحيون في الدهر التي هي غير مخلوقة.
والذين يقولون إنها مخلوقة هم مخطئون. والروح يستخدم هذه الأوصاف كرموز وإشارات للحقيقة. فماذا يقول الرسول عن أورشليم السماوية؟ يقول “هذه هي أمنا جميعًا” (غلا26:4) وهذا هو اعترافنا نحن أيضًا. وأما عن اللباس الذي يلبسه المسيحيون فواضح أن الروح نفسه هو الذي يكسوهم، باسم الآب والابن والروح القدس إلى الأبد. آمين
العظة السابعة
محبة المسيح للإنسان
” في محبة المسيح وإحسانه نحو الإنسان. وتحتوى العظة بعض أسئلة وأجوبة”
محبة المسيح المذهلة :
1 ـ إذا تصورنا إنسانًا يدخل قصرًا ملوكيًا ليرى الصور وأعمال الفن الموجودة فيه، وما فيه من كنوز وأثاث، موضوعة في مكان من القصر، وأشياء أخرى ثمينة موضوعة في مكان آخر منه، وتصوّر ذلك الإنسان وقد جلس مع الملك على المائدة، وقد وضعت أمامه المأكولات والمشروبات اللذيذة، ويمتلئ انشراحا من كل ناحية، بتأمله في كل الأشياء الجميلة هناك، ثم بعد كل ذلك يُطرد ذلك الإنسان من هناك ويُلقى في أماكن قذرة.
أو تصوروا عذراء جميلة تفوق بنات جنسها في جمالها وحكمتها وغناها، إلا أنها تتزوج برجل فقير دنئ قبيح الشكل، يلبس الخرق، فتنزع عنه ثيابه الرثة وتلبسه ثيابًا ملوكيًا وتضع تاجًا على رأسه وتتزوجه متحدة به، فيأخذ ذلك المسكين في التعجب والانذهال قائلاً: “هل لي أنا البائس المسكين الوضيع الدنيء أن أحوز مثل هذه الزوجة؟” وهذا هو ما صنعه الله مع الإنسان المسكين الشقي. فقد أعطى الإنسان أن يذوق عالمًا آخر ويذوق طعامًا لذيذًا، إذ قد أظهر له الأمجاد والجمال الملوكي الفائق الوصف أى الجمال السماوي، وعندما يقارن الإنسان هذه الأمجاد الروحانية بأمور هذا العالم فانه يترك هذه الأخيرة.
وسواء كان ما يقع نظره عليه في هذا العالم، هو ملك أو أمير أو حكيم فإنه يحوّل نظره ويثبّته في الكنز السماوي. ولأن الله محبة، فقد أعطى للإنسان أن ينال نار المسيح الإلهية، التي بها يصير في راحة، ويفرح متهللاً، ويثبت هناك دائمًا.
2ـ سؤال: هل الشيطان حاضر مع الله سواء في الهواء أو بين الناس؟
الجواب: إن الشمس المنظورة هي إحدى المخلوقات، ومع ذلك، فهي تشرق على الأماكن القذرة دون أن تصاب بأي ضرر، فكم بالأحرى يستطيع الله الحيّ أن يكون حاضرًا في نفس المكان الذي فيه الشيطان دون أن يتدنس أو يتلوث. ولكن الشرير مصاب بالظلمة والعمى ولا يستطيع أن يرى نقاوة وجمال الله. وإما إن قال أحد أن الشيطان له مكانه الخاص والله له مكان آخر فانه بذلك يجعل الله محدودًا خارج المكان الذي يسكن فيه الشرير. فكيف نستطيع عندئذ أن نقول أن الصلاح والخير غير محصور، ويفوق الإدراك، وأن كل الأشياء موجودة فيه، ومع ذلك فإن الصلاح لا يتلوث بالشر، فماذا إذًا؟ هل لأن السماء والشمس والجبال هي في الله وهي قائمة به، فهل معنى ذلك أنها هي الله حاشا. بل إن الأشياء المخلوقة لها قوامها بحسب نظام خلقتها الخاص، ولكن الخالق وحده ـ الحاضر مع خلائقه ـ هو الله.
3 ـ سؤال: حيث إن الخطية يمكن أن تتخذ شكل ملاك نور لتبدو في صورة النعمة، فكيف يميّز الإنسان ويكشف خداعات الشرير وكيف يميّز أعمال النعمة ليرحب بها. ويقبلها ؟
الجواب: إن أمور النعمة يصاحبها فرح وسلام ومحبة وحق. والحق ذاته يحث الإنسان على طلب الحق، أما أشكال الخطية فيصاحبها اضطراب وليس محبة أو فرح نحو الله. كما أن نبات الهندباء يشبه الخس، ولكن أحدهما وهو الخس حلو وإنما الآخر ـ رغم كل مشابهته للخس إلاّ أنه مر ـ هكذا الحال في مجال النعمة نفسها، فانه يوجد ما هو شبيه بالحق، كما أن هناك جوهر الحق نفسه. فشعاع الشمس هو شيء وقرص الشمس نفسه هو شيء آخر. ودرجة الإضاءة التي يعطيها الشعاع تختلف عن درجة إضاءة النور داخل قرص الشمس.
فالمصباح الذي يضاء في المنزل يسطع شعاعه في كل البيت ولكن النور داخل المصباح نفسه أشد لمعانًا وبريقًا. وبنفس الطريقة في أمور النعمة، فحينما يلمح الإنسان النعمة من على بعد، فإنه يفرح بالنظر إليها، ولكنه يتغير ويصير شيئًا آخر تمامًا، حين تدخل فيه قوة الله وتملأ قلبه وكل أعضائه وتستأسر عقله لمحبة الله.
فحينما أمسكوا بطرس ووضعوه في السجن جاء ملاك الرب وكسر السلاسل وأخرجه، وهو مثل شخص في حالة ذهول، ظن أنه ينظر رؤيا.
4ـ سؤال: كيف يحدث أن يسقط الناس الذين تفعل فيهم نعمة الله؟
الجواب: حتى الكائنات العقلية تماما في طبيعتها هي معرّضة للزلل والسقوط. فالإنسان الذي يبتدئ أن يتشامخ، ويرتفع، يوبخ غيره قائلاً له: “أنت خاطئ”، بينما يعتبر نفسه بارًا. ألا تعلم ما يقوله القديس بولس: “ولئلا ارتفع بفرط الإعلانات أُعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتفع” (2كو7:12) لأنه حتى الطبيعة النقيّة معرّضة للميل إلى التشامخ والارتفاع.
5 ـ سؤال: هل يستطيع الإنسان أن يرى نفسه بواسطة النور؟
فإن بعض الناس يرفضون الإعلان الإلهي ويؤكدون أن الرؤى إنما تأتى بواسطة المعرفة والحواس؟
الجواب: إن العقل يختلف عن الرؤية، والرؤية غير الاستنارة والإنسان الذي عنده استنارة هو أعظم من الذي له عقل ومعرفة. لأن الإنسان المستنير قد نال عقله استنارة أكثر من الإنسان الذي له معرفة فقط. كما يظهر من رؤيته لرؤى داخل نفسه، لا يمكن أن تكون موضع شك. ولكن الإعلان هو شيء أعلى من الرؤى. فإن أمور الله العظيمة وأسراره إنما تعلن للنفس بواسطة الإعلان والوحي.
6ـ سؤال: هل يرى الإنسان النفس بواسطة الوحي (الإعلان) والنور الإلهي؟
الجواب: كما تنظر عيوننا الشمس، كذلك ينظر المستنيرون صورة النفس ولكن قليل من المسيحيين يبلغون إلى هذه الاستنارة.
7 ـ سؤال: هل النفس لها شكل ما؟
الجواب: إن النفس لها صورة وشكل كما أن الملاك له صورة وشكل، وكما أن الملائكة لهم صورة وشكل، وأيضا كما أن الإنسان الخارجي له صورته الخاصة هكذا الإنسان الداخلي له صورة مثل الملاك، وله شكل يقابل الشكل الخارجي.
8 ـ سؤال : هل العقل شيء والنفس شيء آخر ؟
الجواب: كما أن أعضاء الجسد وهي كثيرة تدعى إنسانًا واحدًا هكذا النفس لها أعضاء كثيرة وهي: العقل، والضمير، والإرادة، والأفكار ” المشتكية والمحتجة” (رو15:2) وكل هذه مرتبطة معًا في نفس واحدة، إذ توجد أعضاء كثيرة أما النفس فهي واحدة، أى الإنسان الباطن. ولكن كما أن العيون الخارجية تكشف قدامها، من على بعد، الأشواك والمهاوى والحفر، وتعطى إنذارًا مقدمًا، هكذا العقل حينما يكون في يقظة وانتباه، فإنه يكشف حيل وخداعات القوة المعادية ويسبق فيحصّن النفس مقدمًا، إنه بالحقيقة هو عين النفس. فلنعطِ المجد للآب والابن والروح القدس إلى الأبد امين
العظة الثامنة
حالات الصلاة ـ ودرجة الكمال
” في الأشياء التي تحدث للمسيحيين وقت الصلاة، وعن درجات الكمال . وهل من الممكن للمسيحيين أن يصلوا إلى حالة الكمال “.
1 ـ قد يدخل الإنسان (إلى المخدع) ويركع، ويمتلئ قلبه بالحرارة الإلهية، وتفرح نفسه مع الرب كما تفرح العروس مع عريسها حسب كلمة إشعياء النبى الذي يقول “وكفرح العريس مع العروس يفرح بك إلهك” (إش5:62) وقد يحدث أن هذا الشخص الذي يكون مشغولا النهار كله يعطى نفسه للصلاة لمدة ساعة، ويخطف الإنسان الباطن في الصلاة إلى العمق الذي ليس له قرار، عمق ذلك العالم الآخر، وهو في حالة عظيمة حتى أن عقله كله يتغرّب، إذ يرفع وينقل وينفصل مبتعدًا عن الأشياء الأرضية.
وفي أثناء هذه الفترة تحصل له حالة نسيان للاهتمامات والتفكير الأرضى. لأن أفكاره تكون مملوءة ومأسورة بالأمور الإلهية السماوية، والأشياء التي لا نهاية لها والتي تفوق الإدراك، الأشياء العجيبة الأكيدة التي لا يستطيع لسان بشرّى أن يُعبّر عنها، حتى أنه يصلّى ويقول في تلك الساعة ” يا ليت نفسى تخرج مع صلاتي!”.
النعمة بين الاشتعال والتراجع :
2ـ سؤال: هل يستطيع كل واحد أن يدخل إلى هذه الأشياء في كل وقت؟
الجواب: إن النعمة حاضرة بلا انقطاع ـ وهي متأصلة فينا وممتزجة بنا مثل الخميرة منذ أول عمرنا إلى أن تصير ثابتة في الإنسان كطاقة طبيعية فيه وكأنها قد صارت جوهرًا واحدًا معه. ولكنها ترشد الإنسان بطرق متنوعة لأجل خيره وخلاصه بحسب تدبير النعمة. فأحيانًا تشتعل النار وتضطرم بشدة زائدة، وفي أحيان أخرى تكون خفيفة ولطيفة في اشتعالها، وكذلك النور الذي تعطيه يشتعل أحيانا بلهيب وبريق زائد، وفي أوقات أخرى تخف شدة البريق وتضعف. فالمصباح (أى قنديل النعمة) هو مشتعل ومضيء دائمًا، ولكن حينما يتألق ويتوهج، فإنه يشتعل كأنه سكران بمحبة الله، ثم يخفت أيضا بتدبير الله، ورغم أن النور يكون موجودًا حتى عندما يخفت، إلا أنه بالمقارنة بأوقات التوهج فإنه يُعتبر مظلمًا بعض الشيء.
3 ـ والبعض (أثناء الصلاة) ظهرت لهم علامة الصليب مضيئة بنور والتصقت بالإنسان الباطن. وفي مرة أخرى حصل لإنسان ذهول في وسط الصلاة، فوجد نفسه واقفا عند المذبح في الكنيسة، وقد قُدّمت له ثلاثة أرغفة مخمّرة بزيت، وكان كلما أكل منها، ازدادت وكثرت. وفي مرة أخرى أُحضر له مثل ثوب لامع مضيء، لا مثيل له على الأرض في هذا العالم، ولا تستطيع أيدي بشرّية أن تصنع مثله، فكما حدث حينما صعد الرب إلى الجبل مع بطرس ويوحنا، تغيّرت هيئة لباسه، وصار يلمع بالنور، هكذا الحال أيضًا مع هذا الثوب، وكان الإنسان الذي يلبسه، متعجبًا ومنذهلاً منه.
وفي مرة أخرى، فإن النور المضيء في القلب كشف عن النور الداخلي العميق المختفي، حتى أنه لما ابتلع من حلاوة التأمل، لم يعد يضبط نفسه، بل كان كأحمق أو جاهل بالنسبة لهذا العالم، وذلك بسبب المحبة والحلاوة الفائقة الحد، وبسبب الأسرار المخفية، حتى أن الإنسان في هذا الوقت، يصير في حرية ويصل إلى درجة من درجات الكمال، ويكون نقيًا وحرًا من الخطية، ولكن بعد هذا كله تتراجع النعمة في تدفقها، ويقابله حجاب القوة المعادية، ولكن بالرغم من ذلك تظهر النعمة ذاتها جزئيًا، ويقف هو على الدرجة الأولى والسفلى من درجات الكمال.
4 ـ ويمكن أن نقول، إنه توجد اثنتي عشرة درجة، يعبر بها الإنسان قبل أن يصل إلى الكمال: وقد يصل الإنسان إلى هذا المقياس ويدخل في حالة الكمال ويكون فيها لفترة ما، وبعد ذلك ترتخى النعمة عنه فينزل درجة واحدة إلى أسفل ويقف على الدرجة الحادية عشر.. وأما الإنسان الغنى في النعمة فيظل دائمًا، ليلا ونهارًا في حالة الكمال، في حرية ونقاوة، مأسورا دائما ومأخوذا إلى فوق في السمو.
فالآن إن هذا الإنسان الذي تُكشف له تلك الأشياء العجيبة ويختبرها اختبارا حقيقيا، لو أنها كانت حاضرة معه كل حين بلا انقطاع فانه لن يستطيع أن يقوم بتدبير الكلام ولا أن يحمل مسئولية أى عمل، ولا يستطيع أن يسمع أو أن يهتم بأي شيء عادى يختص بنفسه، أو بالغير، بل إنما يجلس في زاوية في حالة علو وسكر روحانى ولهذا السبب لم تعطَ درجة الكمال بصورة مستمرة للإنسان، حتى يستطيع الإنسان أن يهتم باخوته، ويهتم بخدمة الكلمة، ومع ذلك فإن “حائط السياج المتوسط قد نقض” (أف 14:2) والموت قد انغلب.
5 ـ وتشبه هذه الحالة سحابة معتمة حول مصباح، تحجبه بخفة كالهواء الكثيف، رغم أن المصباح مشتعل ومضيء طول الوقت، مع وجود الحجاب المحيط بنور المصباح.
هكذا هذا الإنسان، فإنه يعترف ويقول أنه ليس كاملاً وليس حرًا تمامًا من الخطية. وهو يقول إن حائط السياج المتوسط قد نقض وهدم، ومع ذلك يقول إن بعض أجزاء منه لم تهدم تمامًا أو لم تهدم في كل الأوقات. ففي بعض اللحظات تشتعل النعمة وتعزى وتريح وتنعش بدرجة عالية، وفي لحظات أخرى ترتخى ويخفت نورها ويصير معتما (بعض الشيء). وذلك بحسب تدبير النعمة نفسها، لما فيه منفعة الإنسان. ولكن من هو الإنسان الذي وصل إلى الدرجة الكاملة في أزمنة النعمة الخاصة، وقد تذوق ذلك العالم (العلوى) واختبره اختبارًا مباشرًا؟ إني لم أبصر حتى الآن إنسانًا مسيحيًا كاملاً، إنسانًا يحيا في حرية كاملة تمامًا.
طبعًا يوجد هنا وهناك (مسيحيون) يقيمون براحة في النعمة، ويدخلون إلى الأسرار والإعلانات وإلى الحلاوة العظيمة التي للنعمة، ولا تزال الخطية حاضرة في الداخل. والناس يعتبرون أنفسهم أحرارًا وكاملين بسبب النعمة الكثيرة والنور الذي فيهم، ولكنهم ينخدعون بسبب قلّة الخبرة. هم تحت تأثير النعمة، ولكنى لم أرَ واحدا قط، حرًا تمامًا. وأنا نفسي وصلت جزئيا إلى هذه الدرجة في بعض الأحيان، وقد تعلّمت وعرفت أن ما وصلت إليه ليس هو حالة الكمال.
عمل النعمة في الإنسان :
6 ـ سؤال: أخبرنا ـ إن شئت ـ ما هي الدرجات التي أنت فيها ؟
جواب: بعد (رشم) علامة الصليب. تفعل النعمة هكذا: إنها تهدئ كل الأعضاء وتهدئ القلب، حتى أن النفس من كثرة الفرح، تظهر كأنها طفل برئ، ولا يعود الإنسان يدين الوثني ولا اليهودي، ولا الخاطئ ولا الإنسان العالمي. بل أن الإنسان الباطن ينظر كل الناس بعين نقية، ويفرح الإنسان بالعالم كله، ويود أن الجميع يصيرون محبين ويعبدون الله معًا يهود وأمم. وفي لحظة أخرى يكون مثل ابن ملك، إذ يثق بابن الله كأب له، وتفتح له الأبواب فيدخل إلى منازل كثيرة (يو2:14) في الداخل، وبقدر ما يتعمق إلى الداخل، تفتح له أبواب أكثر فأكثر ـ مئات منازل تقود إلى مئات منازل بعدها، ويصير غنيًا، وعلى قدر ما يزداد غنى، تكشف له عجائب كثيرة أخرى، ويؤتمن كابن ووارث على أشياء لا يستطيع لسان أو فم بشرى أن يعبّر عنها أو ينطق بها.
المجد لله. آمين.
العظة التاسعة
النعمة والتجارب ـ الالتصاق بالرب وحده
“إن مواعيد ونبوات الله تتحقق بواسطة محن وتجارب متنوعة، وأن الذين يلتصقون بالله وحده، ينقذون من تجربة الشرير”
قانون عمل النعمة:
1 ـ إن الفاعلية الروحانية التي لنعمة الله في داخل النفس، تعمل عملها بصبر عظيم، وحكمة وتدبير سرّى للعقل، وفي أثناء ذلك يناضل الإنسان لأوقات وفترات طويلة باحتمال كثير، ثم ينكشف له أن عمل النعمة فيه، هو عمل كامل، وذلك عندما تمتحن إرادته بتجارب كثيرة ويتبرهن أنها (إرادته) مرضّية للروح، ويكون قد أظهر ثباتًا وصبرًا لفترة غير قصيرة. وسنبيّن أن هذا هو قانون عمل النعمة بأمثلة واضحة في الكتاب المقدس.
أمثلة من الكتاب المقدس:
2ـ إن ما أقصده يظهر بوضوح في حالة يوسف، فقد اقتضى الأمر فترات طويلة من الزمن لكى تتحقق مشيئة الله وقصده السابق من جهة يوسف، وتتم الرؤيا التي رآها. وقد أمتحن بآلام وشدائد وأحزان وقد احتملها جميعًا، وقد وُجد في جميعها خادمًا كاملاً أمينًا لله، وبعد ذلك صار ملكًا على مصر وهو الذي عال أسرته وتحققت المناظر النبوية التي كان قد رآها قبل حدوثها بفترة طويلة ووصلت مشيئة الله إلى غايتها المحتومة من نحوه بعد زمن طويل وتدابير كثيرة.
3 ـ كذلك الحال مع داود، فقد مسحه الله ملكا بواسطة صموئيل النبى، وبعد أن مُسح، هرب من شاول الذي كان يطارده لكى يقتله، فما معنى مسح الله له إذًا؟ وأين الوعد الذي وُعد به أن يصير ملكًا بعدما مُسح؟ فإنه بعد أن مُسح حلّت به شدائد كثيرة وكان يتجول في الصحارى، محرومًا حتى من الخبز ولجأ إلى الوثنيين بسبب مؤامرات شاول ضده. كل هذه المصائب الشديدة أحاطت بذلك الإنسان الذي مسحه الله ملكًا، وبعد أن تجرّب طويلاً وأُمتحن، وبعد آلام وصبر، إذ قد وضع كل ثقته وإيمانه مرة واحدة في الله، وكأنه يقول لنفسه أن ما فعله الله بي بواسطة مسحة صموئيل النبى وما أمر الله به، لابد أن يحدث لي ولابد وأن يتحقق بدون أدنى شك، حتى وإن استلزم الأمر صبرًا كثيرًا، وبعد فترة من الوقت تمت مشيئة الله وتملّك داود بعد كل تجاربه. وحينئذ أشهرت كلمة الله، وتبرّهن أن المسحة التي مَسَحه بها على يديّ صموئيل النبى، إنما هي أكيدة وحقيقية.
4 ـ وهكذا الحال مع موسى فقد سبق الله فعرفه، وسبق فعيّنه ليكون حاكمًا ومنقذًا للشعب، وجعله يصير ابنًا لابنة فرعون، وتربّى في غنى وبهاء ومجد الملوك، وتعلّم ” بكل حكمة المصريين” (أع 12:7) ولما بلغ سن الرجولة وصار عظيمًا، رفض كل تلك الأشياء مُفضِلاً بالأحرى شدائد المسيح وعاره، كما يقول الرسول “على أن يكون لي تمتع وقتي بالخطية” (عب25:11).
وهرب من مصر وصرف وقتًا طويلاً يعمل كراعٍ للغنم، وهو الذي تربى كابن ملك وعاش في لذات القصر ونعيمه، وأخيرًا إذ وُجد مقبولاً لدى الله وأمينًا من خلال الصبر الكثير ـ إذ أنه احتمل تجارب عديدة ـ أصبح بعد ذلك منقذًا وقائدًا وملكًا لإسرائيل، وقال الله له قد جعلتك ” إلهًا لفرعون” (خر1:7) وبواسطته ضرب الله مصر بضربات كثيرة وأظهر بواسطته عجائب عظيمة على فرعون، وأخيرًا أغرق المصريين في البحر، فانظر بعد كم من الوقت ظهرت وأعلنت مشيئة الله وقصده، وبعد كم من التجارب والشدائد تحققت هذه المشيئة.
5 ـ وهكذا أيضًا مع إبراهيم فإن الله كان قد وعده منذ زمن طويل أن يعطيه ابنًا، ولكنه لم يعطه له في الحال، بل خلال سنوات طويلة حلّت به تجارب وضيقات! ولكن إبراهيم احتمل بصبر كل ما يأتي عليه وتقوى تمامًا بالإيمان موقنًا أن الذي وعد هو صادق ولا يمكن أن يكذب، بل سيتمم كلمته، وهكذا إذ آمن نال الموعد.
6 ـ ونوح أيضاً، لما أمره الله وله من العمر خمسمائة سنة، أن يبنى الفلك، وأخبره أنه سيجلب طوفانا على العالم، ولم يأت الطوفان إلا عندما كان نوح ابن ستمائة سنة، فظل منتظرًا بصبر مائة سنة ولم يشك في قول الله له بل تقوى بالإيمان موقنًا بأن ما تكلم الله به لابد أن يحدث، وإذ وجد مقبولاً بسبب نية قلبه وإيمانه وصبره، خَلُّص هو وأهل بيته فقط، لأنه حفظ الوصية بنقاوة.
امتحان الإرادة وطاعة الوصايا:
7 ـ لقد استخرجنا هذه البراهين من الكتب المقدسة لكى نبيّن أن نعمة الله في الإنسان، وموهبة الروح القدس المعطاة للنفس المؤمنة، تعمل مع جهاد كثير، وصبر عظيم وطول أناة، وتجارب وامتحانات، إذ تمتحن إرادة الإنسان الحرة بكل أنواع الشدائد. فإذا لم تحزن الروح في أى شيء، بل وجدت موافقة للنعمة بطاعتها لجميع الوصايا، فإنها تحسب حينئذ أهلا للحصول على الحرية من الشهوات وتنال ملء التبني بالروح ـ المتكلم عنه في سر ـ وتنال الغنى الروحي، والمعرفة والحكمة التي ليست من هذا العالم، هذه النعم التي قد أُعطى للمسيحيين الحقيقيين أن يصيروا شركاء فيها. ولأجل هذا فإنهم أعلى من كل ذوى الفطنة والمعرفة والحكمة من أهل العالم الذين لهم روح العالم.
8 ـ فإن الشخص الروحي ” يحكم في كل شيء” (1كو15:2) كما هو مكتوب. إنه يعرف كل إنسان، ومن أين يأتي بافكاره وكلامه وما هو موقفه والدرجات والمقاييس التي هو فيها، ولكن ليس أحد من أولئك الذين لهم روح العالم يستطيع أن يعرف الشخص الروحي أو يحكم فيه، إنما يستطيع أن يعرفه ذلك الذي له الروح السماوي ـ روح اللاهوت ـ مثله، وبذلك فإنه يكون له نفس معرفته كما يقول الرسول ” قارنين الروحيات بالروحيات، ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل الأشياء الخاصة بروح الله لأنها في نظره جهالة، أما الروحي فيحكم في كل شيء، وهو نفسه لا يحكم فيه من أحد” (1كو13:2ـ15) فمثل هذا الإنسان ينظر إلى كل الأشياء التي يفخر بها العالم، ينظر إلى كل غنى العالم ولذاته وتمتعاته ـ بل وحتى معرفته ذاتها ـ وإلى كل الأشياء المختصة بهذا الدهر كأشياء مرفوضة وكريهة عنده .
نار حب المسيح:
9 ـ وكما أن الإنسان الذي تتملكه الحمى الشديدة، يكره ويرفض أحلى الأطعمة والأشربة التي تقدم له بسبب اشتعال الحمى فيه، وشدة تأثيرها عليه، وهكذا الذين يشتعلون بالشهوة المقدسة، شهوة الروح، واشتياقه، وتجرح نفوسهم بالمحبة، محبة الله، وتشتعل فيهم نار المحبة السماوية بشدة تلك النار التي ” جاء الرب ليلقيها على الأرض وهو لا يريد إلا اضطرامها” (لو49:12) ويلتهبون بالشهوة السماوية للمسيح،
هؤلاء كما قلنا سابقًا، يعتبرون كل الأشياء المجيدة والثمينة الخاصة بهذا العالم كأنها أشياء حقيرة وكريهة بسبب نار حب المسيح التي تحصرهم وتشعلهم وتضرمهم ليميلوا بكل قلوبهم إلى الله وإلى الخيرات السماوية ـ خيرات الحب الإلهي. ذلك الحب الذي لا تستطيع كل الأشياء سواء في السماء أو على الأرض أو تحت الأرض ـ أن تفصلهم عنه، كما يشهد الرسول قائلاً: ” من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عرى أم خطر أم سيف الخ.. لا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (رو8 :35ـ39).
الانشغال بالهدف الواحد:
10ـ ولكن من غير الممكن لأي إنسان أن يقتنى نفسه (لو 19:21) وأن يقتنى المحبة السماوية ـ محبة الروح، بدون أن يجعل نفسه غريبا عن كل الأشياء المختصة بهذا العالم، ويبذل نفسه في طلب حب المسيح، ويتجرد عقله من كل الاهتمامات المادية والارتباكات الأرضية لكى يكون مشغولاً انشغالاً كليا بالهدف الواحد، ويتصرف في كل هذه الأشياء بواسطة الوصايا كلها، حتى أن كل اهتمامه وسعيه وكل انهماك وانشغال نفسه، يكون منحصرًا في اكتشاف الجوهر العقلي غير المادى، وفي كيفية تزيّين النفس بالوصايا والفضائل، وبالزينة السماوية ـ زينة الروح، وبالشركة في نقاوة المسيح وقداسته ـ حتى إذا تخلى عن كل شيء، وتحرّر من كل العوائق الأرضية والمادية، وانطلق حرًا من المحبة الجسدية،
سواء كانت تعلقًا بالوالدين أو الأقرباء، فإنه لا يدع عقله أيضًا ينشغل أو يرتبك بأي أمر آخر مثل السلطان، أو المجد العالمي، أو الكرامات، وصداقات العالم الجسدية، أو أى أفكار أرضية أخرى بل يصير كل اهتمام عقله وانشغاله وتلهفه منحصرًا في طلب جوهر النفس العقلي، وبكل قلبه ينتظر بتوقع ورجاء مجيء الروح عليه، كما يقول الرب: “بصبركم اقتنوا أنفسكم” (لو19:21) ” وأيضا اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم” (مت33:6).
11 ـ فالإنسان الذي يسعى هكذا ويجتهد، ويكون محترسا دائمًا، سواء بالصلاة أو بالطاعة، أو بكل نوع من الأعمال الإلهية، هذا الإنسان يستطيع أن ينجو من ظلمة الشياطين الأشرار.
الالتصاق بالرب وحده:
فالعقل الذي لا يهمل تفتيش ذاته ولا يهمل طلب الرب، يستطيع أن يقتنى نفسه ـ النفس التي كانت في هلاك الشهوات ـ يقتنيها بتقديم نفسه كأسير لمحبة الرب بكل غِيرة وقوة، وبالالتصاق به وحده، كما هو مكتوب: ” مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2كو5:10)، لكي بواسطة مثل هذا السعى والاشتياق والطلب يمكن أن يصير العقل ” روحا واحدا مع الرب” (1كو17:6) وهذه هي عطية المسيح ونعمته التي تحل في إناء النفس المستعدة لكل عمل صالح، و” التي لا تزدرى بروح الرب” (عب29:10) باختيارها وإرادتها الذاتية أو بانحرافات هذا العالم، وأمجاده، ورئاساته، ولذاته الجسدية، وألفة الأشرار ومعاشراتهم.
12 ـ فحينما تخصص النفس ذاتها كلها للرب، وتلتصق به وحده وتسير حسب وصاياه، وتعطى روح المسيح حقه من الإكرام ـ الروح الذي قد أتى عليها وظللها ـ فإنها تحسب حينئذ أهلا لأن تصير روحًا واحدًا وكيانًا واحدًا معه، كما يقول الرسول: ” وأما من التصق بالرب فهو روح واحد” (1كو17:6) أما إذا سلّم الإنسان نفسه للهموم أو لطلب المجد أو العظمة أو الكرامات البشرية، وسعى وراء هذه الأشياء واختلطت نفسه وامتزجت بالأفكار الأرضية، أو ارتبطت وتقيّدت بأى شىء من أمور هذا العالم، فإن مثل هذه النفس إذا اشتاقت أن تنطلق وتنجو وتهرب من ظلمة الشهوات التي قيّدتها بها قوات الشر، فإنها لا تستطيع أن تهرب، وذلك بسبب محبتها لأعمال الظلمة، ولأنها لا تبغض أعمال الشر بغضًا كاملاً .
13 ـ لذلك فلنعد أنفسنا للمجيء إلى الرب بكل عزم القلب وبإرادة غير منقسمة، ونصير تابعين للمسيح، لنتمّم كل ما يريده، و” لنذكر وصاياه لنعملها” (مز18:103).
ولنفصل أنفسنا تمامًا عن محبة العالم، ونربط نفوسنا بالرب وحده، ويكون هو وحده شاغل عقولنا ويكون هو همّنا وهو مطلبنا وحده. وإذا كان يلزمنا أن ننشغل بعض الشيء أيضا بالجسد، وبالأشغال الموضوعة علينا، ومن أجل الطاعة لله، فحتى في هذه الحالات، لا ندع عقلنا يبتعد عن محبة الرب وطلبه والشوق إليه،
وهكذا إذ نسعى ونجتهد بقلب يقظ، سائرين في طريق البر بقصد مستقيم، ونحترس دائمًا لأنفسنا، فإننا ننال موعد روحه، ونخلص بالنعمة من هلاك ظلمة الشهوات التي تحارب النفس، فنصير حينئذ أهلاً للملكوت الأبدي ويوهب لنا أن نتنعم كل الأبدية مع المسيح، ممجدين الآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين
Discussion about this post