في روح الكبرياء
القديس يوحنا كاسيان
الكبرياء أصل كل الشرور
مقال القديس يوحنا كاسيان “عن روح الكبرياء” له أهميته الخاصة، ليس للرهبان والمتوحدين فحسب، بل ولكل مؤمنٍ. فمع معالجته العملية لهذه الخطية أوضح جانبًا هامًا يمس حياة الكثيرين. فنحن نعلم أن كثيرين خاصة من الشباب يئنون بسبب سيطرة الشهوات الجسدية على أفكارهم، وأحيانًا على أحلامهم. وبالرغم من اهتمامهم الشديد بممارسة وسائط الخلاص من تقديم توبة واعتراف، وتأمل في الكتاب المقدس، وأصوام ومطانيات واشتراك في ليتورجيات كنسية، مع امتناعهم عن الجوانب السلبية المعثرة،
إلا أن سلطان الشهوات يحني كيانهم الداخلي. غالبًا ما يكون “روح الكبرياء” هو علة هذه العبودية المرة، خاصة في التعامل مع القريبين جدًا من الإنسان، مثل الوالدين أو الزوجة أو الزوج أو الأبناء… هكذا يقدم لنا القديس كاسيان مفتاحًا خطيرًا يسند المؤمن على الطهارة الداخلية ( راجع فصول 21-23).
إن كان القديس يوحنا كاسيان قد وضع الكبرياء في آخر قائمة الخطايا الرئيسية، لكنه يؤكد أنها أول الخطايا وأخطرها.
يميز القديس كاسيان بين نوعين من الكبرياء: نوع يهاجم القديسين والكاملين روحيُا، حيث يبث فيهم روح البرّ الذاتي، والآخر يهاجم المبتدئين الجسدانيين.
أما خطورة الكبرياء فتظهر في النقاط التالية:
– أحدرت الكبرياء كوكب الصبح (إبليس) إلى جهنم، وهي أول خطية واجهت الإنسان الأول في الجنة.
– كل خطية تحاول أن تحطم فضيلة أو أكثر في حياة الإنسان، أما الكبرياء فيشبه وحشًا مفترسًا يود أن يقضي على النفس كلها ويجردها من كل فضيلة.
– الله نفسه يعلن أنه يقاوم المستكبرين، الأمر الذي لم نسمع عنه بخصوص أية خطية أخرى، لأن الكبرياء موجه ضد الله نفسه.
– جاء السيد المسيح ليقاوم الكبرياء ويشفي المستكبرين باتضاعه… فما نطق به إبليس نطق ضده المخلص بروحٍ متضعٍ. هكذا نتعلم من سقوط إبليس كما من عمل المخلص ضرورة الهروب من الكبرياء والالتجاء إلى الاتضاع.
– يدفع الكبرياء النفس إلى التجديف، ويسلم الإنسان إلى الشيطان، خاصة شيطان الدنس والنجاسة. لهذا يليق بمن يُحارَب بالشهوات الجسدية أن يتأمل أعماقه لئلا يكون وراءها كبرياء خفي.
يقدم لنا القديس يوحنا كاسيان التداريب التالية:
1.الرجوع إلى خبرة آباء الكنيسة المتواضعين، لنقتدي بهم.
2.الصراخ لله كي يحمي النفس وينميها في الفضيلة.
3.عدم مقارنة الإنسان نفسه بالفاترين، فيظن أنه أفضل منهم، بل بالملتهبين بالروح، فيتمتع بالتطلع نحو السماويات ولا ينحرف عن هدفه.
4.مقاومة الكبرياء لا يعني التراخي في الجهاد، بل بالعكس نجاهد واثقين في غنى نعمة الله.
5.الشكر الدائم على عطايا الله الطبيعية والفائقة، مثل خلقتنا كبشرٍ عاقلين وتقديم الخلاص لنا، وقبولنا أبناء له بالمعمودية، هذا بجانب رعايته الدائمة وعنايته الإلهية اليومية، سواء في الأمور التي نتلمسها أو المستترة عنا.
يقول القديس أوغريس عن الكبرياء:
[أما “شيطان الكبرياء” فهو سبب سقوط النفس المحزن للغاية. إنه يشير على النفس ألا تنظر إلى الله كمعين لها، بل تنسب إلى ذاتها كل ما هو صالح، فتبتدئ تنتفخ أمام الاخوة، وتحسبهم جهلاء، لأنهم لا يعرفون منزلتها السامية.
الكبرياء يتبعه الغضب والتذمر. والشر الأخير يتبعه خروج الإنسان عن وعيه والغيظ ورؤية شياطين كثيرة في الهواء.]
القمص تادرس يعقوب ملطي
الفصل الأول
المعركة الثامنة عن الكبرياء، وسماتها
معركتنا الثامنة والأخيرة هي ضد روح الكبرياء الشريرة، وبالرغم من أنها الأخيرة في قتالنا ضد أخطائنا، وتحتل المكان الأخير في القائمة، إلا إنها تأتي بحسب الترتيب الزمني في المقدمة. وهي أكثر الخطايا السابقة افتراسًا وقسوة وتدميرًا. وبصورة رئيسية تهاجم الكاملين، وتخصص لدغاتها المميتة لأولئك الذين بلغوا حياة الفضيلة.
الفصل الثاني
نوعان من الكبرياء
بالنسبة للكبرياء يوجد نوعان، الأول يزعج الفضلاء والروحانيين، والآخر يهاجم المبتدئين الجسدانيين. ومع أن كلاً من النوعين يثير نشوة خطيرة تجاه الله والإنسان، إلا أن النوع الأول يثيرها بالأكثر تجاه الله (أو علاقة الإنسان بالله)، والثاني تجاه الإنسان. بخصوص علة هذا الجانب الأخير والعلاج منه فسنحاول بمعونة الله أن نعالجه قدر الإمكان في الجزء الأخير من هذا الكتاب.
الآن نقترح أن نتحدث قليلاً عن النوع السالف الذكر الذي كما ذكرت قبلاً أنه يُحارَب به الكاملون على وجه الخصوص.
الفصل الثالث
الكبرياء محطم كل الفضائل
لا يوجد خطأ ما يحطم كل الفضائل ويسلبها، ويعري الإنسان من كل برّ وقداسة، مثل شر الكبرياء، الذي يشبه وباءً خطيرًا يهاجم الإنسان بكليته، ولا يقتنع بإتلاف جزء منه أو عضوٍ واحدٍ، إنما يتلف الجسم كله بتأثيره المميت. يجتهد الكبرياء أن يطرح الإنسان بسقوط مهلك، ويحطم في الحال الذين وصلوا إلى قمة الفضائل.
بالنسبة لأي خطأ آخر يكتفي أن يسبب في الداخل جرحًا في حدودٍ معينة، فإن كان يقاوم بعض الفضائل، لكنه يتجه أساسًا ضد فضيلة واحدة فقط ويهاجمها بصفة خاصة.
لكي أوضح قصدي فإن الشراهة وشهوات البطن والأطباق الشهية (اللذيذة) تحطم فضيلة العفة (ضبط النفس). والجشع والطمع يشينا أو يعيبا الطهارة أو النقاوة. والغضب يقضي على الصبر. لذلك فالإنسان الذي يكون مستعبدًا لإحدى هذه الخطايا تنقصه بعض الفضائل…
فالشخص ببساطة يُحرم من واحدة من الفضائل عندما يذعن أو يخضع للرذيلة (أو الإثم) التي تقاومه بإغراءاتها، لكنه يستطيع الحفاظ على فضائله الأخرى. لكن عندما تملك هذه الرذيلة مرة على نفسٍ بائسة، فإنها تشبه بعض الوحوش المفترسة (الكاسرة) التي تهدم القلعة السامية للفضيلة، وتحطم المدينة بالكلية وتهدمها، فتقوم الرذائل على هدم حصون القداسة وإرباكها معًا.
إن نير العبودية للكبرياء قاسٍ ومؤلم، وبواسطة قساوته الممزِقة يجرد النفس ويقهر كل قوة للفضيلة.
الفصل الرابع
بسبب الكبرياء انقلب كوكب الصبح من رئيس ملائكة إلى إبليس بهذا تقدر أن تفهم قوته الشنيعة الطاغية
لكي ندرك قوة ذاك الطاغية المرعب لننظر كيف أن ذاك الملاك الذي لأجل عظمة جلاله وبهائه دُعي لوسيفر قد أُلقي خارج السماء بسبب هذه الخطية وحدها. وبسبب طعنه بشوكة الكبرياء طُرح من مركزه العظيم الفخم إلى أسفل كملاك لجهنم. كان كبرياء القلب بمفرده كافيًا لأن يطرحه من السماء إلى الأرض. عظمة سقوطه توضح لنا بأي اهتمام ينبغي أن نشعر بالضعف البشري لكي نكون في يقظة من الكبرياء؟
لكن كيف نستطيع أن نتفادى هذا الشر المميت؟ إذا تعقبنا إثر أسباب السقوط الرئيسية نُدرك أنه لا يمكن لهذا لضعف أن يُشفى، كما لا يُجدي العلاج بالنسبة للحالات الصحية السيئة ما لم تُستأصل الأسباب الرئيسية بحكمة وهدوء. بمعنى أن (لوسيفر) وُهب سموًا إلهيًا ونال حكمة، فظن أن هذا السمو وهذه الحكمة وهذا الجمال، الأمور التي حصل عليها كهبات من الخالق، يتمتع بها بقوته الشخصية وليس من نعم هذا الكريم.
بهذا انتفخ كما لو كان في غير حاجة لأية معونة إلهية لكي يستمر في هذه الحالة من النقاوة. وفكر في نفسه أن يكون مثل الله، لا يحتاج إلى أي أحدٍ، واثقًا في قوة إرادته الذاتية، متخيلاً إنه من خلالها يستطيع أن يمد نفسه بغنى بكل شيءٍ ضروري في التدرب على الفضيلة أو حفظ بركتها الكاملة. هذا الفكر بمفرده كان سبب سقطته الأولى،
وإذ يبحث الله عنه ظن (الشيطان) إنه غير محتاج إليه. أصبح فجأة مزعزعًا وغير ثابتٍ، وظهر ضعف طبيعته، وفقد التطويب الذي تمتع به كهبة إلهية، لأنه “أحب كلمات الدمار” التي بها تكلم، قائلاً: “أصعد إلى السماء”.
بسبب اللسان الخادع الذي به قال لنفسه: “أنا أصير شبيهًا بالعلي”، كآدم وحواء اللذين أرادا أن يصيرا شبيهين بالله، حطمه الله إلى الأبد، كما طرده وحرمه من محل سكناه، فأخذ طريقه إلى الأرض. حينئذ إذ يرى البشر الخراب الذي لحق به يخافون منه ويضحكون عليه، ويقولون: هكذا يكون الذين يظنون أنهم في إمكانهم الحصول على السمو الإلهي بدون الحماية أو المعونة الإلهية. هكذا يكون الإنسان الذي لا يكون الله عونه، ويثق في كثرة غناه ويملأه غروره.
الفصل الخامس
الكبرياء منبع كل الخطايا
هذا هو سبب السقطة الأولى، ونقطة البدء في الخطية الأصلية، التي أقحمت نفسها مرة ثانية على الرجل الأول (آدم) الذي دمرته، وأثمرت فيه الضعف وأدوات جميع الأخطاء. لأنه حينما اعتقد إنه بحرية إرادته، وبمجهوداته الذاتية يمكنه أن يكون في عظمة الله، فقد في الحقيقة ذاك المجد الذي كان يتمتع به كعطية الخالق المجانية.
الفصل السادس
خطية الكبرياء هي الأخيرة في ترتيب القتال لكنها الأولى وأصل الخطايا
يظهر بثبات واضح بالأمثلة والشهادات من الكتاب المقدس إن خطية الكبرياء، بالرغم من تأخر ترتيبها (بين الخطايا) هي أولى الخطايا والأخطاء، وهي لا تموت بالفضيلة المضادة لها (التواضع)، وفي نفس الوقت محطمة لكل الفضائل، ولا تُغري فقط الناس العاديين والبسطاء، لكن بالأكثر الذين يقفون على قمة الشجاعة.
لهذا يتكلم الرسول عن هذه الروح… وكذلك داود الطوباوي، بالرغم من أنه كان شديد الحرص على مخازن قلبه لدرجة أنه تجرأ أن يخاطب الله الذي لا يُخفي عنه أسرار ضمائره (أسراره الداخلية) كما في مز 130 (131): 1،2؛ مز 100 (101): 1،2.
مع هذا لكونه عرف صعوبة السهر حتى بالنسبة للكاملين لم يعتمد على مجهوداته الخاصة، بل صلى إلى الله وطلب معونته، حتى يمكنه أن يخرج منتصرًا من ضربات عدوه قائلاً: “خاصم يا رب مخاصميّ، امسك مجنًا وترسًا وانهض إلى معونتي” (مز 1:35، 2). ولأنه خاف وارتعب أن يسقط فيما قيل عن الكبرياء لذلك يقول: “يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعين فيعطيهم نعمًة” (يع6:4)، “مكرهة الرب كل متشامخ القلب، يدًا ليد لا يتبرّأُ” (أم 5:16).
الفصل السابع
خطية الكبرياء خطيرة، الله نفسه هو عدوها
يا لخطورة خطية الكبرياء، فإنه لا يوجد أي ملاك ولا طغمة تقف أمام الكبرياء، لكن الله نفسه هو عدوها. يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه لم يُقل قط عن هؤلاء الذين سقطوا في خطايا أخرى أن الله يقاومهم، أقصد إنه لم يُذكر أن الله مقاوم للنهمين والزناة والطماعين أو الشرهين، لكن فقط للمتكبرين، لأن في هذه الخطايا يتعامل الذين يرتبكونها أو من يبدو أنهم يرتكبونها ضد أناس آخرين، أما هذه الخطية فتتعامل ضد الله نفسه، لذلك استحقت بجدارة أن يقاومها الله (يع6:4).
الفصل الثامن
حطم الله كبرياء الشيطان بفضيلة التواضع
هكذا الله الخالق وشافي الكل، الذي يعرف أن الكبرياء هي السبب والمصدر الرئيسي لكل الشرور، أعطى اهتمامًا أن يشفي الضد بالضد، هذه الأمور التي تتحطم بواسطة الكبرياء يجب أن تُشفى بواسطة التواضع (إش13:14).
مقابل ذاك الذي قال: “أصعد إلى السماوات”، قال الآخر: “نفسي منحنية إلى التراب” (مز25:44).
مقابل الذي قال: “أصير شبيهًا بالعلي”، قيل عن الآخر: “إذ كان في صورة الله لم يُحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب” (في6:2-8).
مقابل الذي قال: “أرفع كرسيّ فوق كواكب الله”، قال الآخر: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت29:11).
مقابل الذي قال: “من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل” (خر20:5)، قال الآخر: “وإن قلت إني لست أعرفه أكون مثلكم كاذبًا، لكني أعرفه وأسمع قوله” (يو55:8).
مقابل الذي قال: “نهري لي وأنا عملته لنفسي” (حز3:29)، قال الآخر: “أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا …لكن الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال” (يو30:5، يو10:14).
مقابل الذي قال: “جميع ممالك المسكونة ومجدهن هي لي وأعطيها لمن أريد” (لو6:4)، قيل عن الآخر: “وهو غني افتقر لكي نغتني نحن بفقره” (2 كو 9:8).
لأجل الذي قال: “وكما يُجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض، ولم يكن مرفرف جناح، ولا فاتح فم، ولا مصفصف” (إش 14:10)، قال الآخر: “صرت مثل بومة الخرب، سهدت وصرت كعصفور منفرد على السطح” (مز 7:102، 8).
من أجل الذي قال: “أنشف ببطن قدمي خلجان مصر”، قال الآخر: “ألا أستطيع الآن أن اطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة” (مت53:26).
إذا تأملنا في سبب سقطتنا الأولى وأسس خلاصنا وتأملنا بواسطة من وبأي طريقة وُضع أساس الخلاص، وكيف بدأ السقوط، نتعلم سواء من سقطة الشيطان أو من مثال المسيح كيف نتجنب موت الكبرياء المرعب.
الفصل التاسع
كيف نتغلب على الكبرياء
يمكننا أن نهرب من فخ هذا الرمح الأكثر شرًا، إذا كنا عندما نشعر بأننا أحرزنا نجاحًا أو تقدمًا في أية فضيلة نقول كلمات بولس الرسول: “لست أنا بل نعمة الله التي معي” “ولكن بنعمة الله أنا ما أنا” (1 كو 10:15)، و”أن الله هو العامل فينا أن نريد وأن نعمل من أجل مسرته” (في 13:2). يقول ينبوع خلاصنا نفسه: “الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 5:15)، “وإن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً تعِبَ البناءون، وإن لم يحرس الرب المدينة، فباطلاً يسهر الحارس، وباطل هو لكم أن تبكروا إلى القيام” (مز 1:127، 2)، “إذن ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل الله الذي يرحم” (رو 16:9).
الفصل العاشر
لا يُمكن لأحد أن يصل إلى كمال الفضيلة ويأخذ وعد البركة بقوته الذاتية بمفردها
لا يمكن بإرادة أي إنسان أو رغبته مهما كانت غيرته واشتياقه للفضيلة أن يصل إلى مكافأة الكمال وشرف الطهارة المستقيمة، وإن تكون هذه الإرادة كافية، طالما هو مُحاط بالجسد الذي يحارب الروح، ما لم تسنده مراحم الله.
ولكي يدرك رغبته العظيمة التي يسعى إليها عليه أن يدرك “أن كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبي الأنوار” (يع17:1)، “لأنه من يميزك وأي شئ لك لم تأخذه، وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!” (1كو7:4)
الفصل الحادي عشر
توضيح نعمة الله في حالة اللص وحالة داود وفي دعوتنا نحن
إذا تذكرنا أن اللص الذي بواسطة اعترافٍ وحيدٍ دخل إلى الفردوس (لو40:23)، نشعر أنه لم ينل مثل هذه البركة بواسطة استحقاقات حياته، بل حصل عليها بعطية رأفة الله.
وإذا وضعنا نصب أعيننا خطيتا الملك داود الفظيعتين الشنيعتين اللتين مُحِيتا بكلمة انسحاق واحدة (2صم13:12)، نرى أنه لم تكن استحقاقات أعمالهما كافية لحصولهما على غفران خطاياهما العظيمة، لكن نعمة الله ازدادت عندما أظهرا الانسحاق الحقيقي وانتقل ثقل الخطية الكامل خلال اعترافهما الكامل في عبارة واحدة.
إذا وضعنا في الاعتبار أيضًا بداية دعوة البشرية وخلاصها كما يقول الرسول نرى أننا لم نخلص بواسطة أنفسنا ولا بأعمالنا، بل بواسطة عطية الله ودعوته، ونستطيع أن نرى بوضوح كيف أن إتمام الكمال ليس “لمن يشاء ولا لمن يسعى بل لله الذي يرحم”، الذي يجعلنا منتصرين على أخطائنا بدون أي استحقاق لأعمالنا أو حياتنا التي نعطيها أهمية أكثر مما يجب من جانبنا، أو أي مجهود لإرادتنا يساعد في التغلب على صعوبات الفضيلة الشديدة أو في قمع الجسد الذي نستخدمه.
ليست أتعاب الجسد ولا ندامة القلب في ذاتها كافيتين للحصول على طهارة الإنسان الداخلي حتى يمكننا أن نحصل على فضيلة النقاوة العظيمة (الموجودة فطريًا في الملائكة كسكان السماء، لا بواسطة المجهود البشري وحده بدون معونة الله.) لأن إتمام كل شيء حسنًا يفيض من نعمته. منْ منا بكثرة فضله يخوّل مثل هذه البركة الأخيرة وهذا المجد العظيم بإرادتنا الضعيفة وسبيل حياتنا القصيرة الزهيدة؟!
الفصل الثاني عشر
أي عناء نحتمله لا يُقابل بوعد البركة
عناء كل السنين الطويلة لهذه الحياة الحاضرة يختفي عندما ننظر إلى أبدية المجد العتيد، وكل أحزاننا ستتلاشى بالتفكير في البركة العظيمة، وتصير كالبخار الذي يضمحل وكأنها لم تكن؛ تشبه البرق الذي حالما يختفي.
الفصل الثالث عشر
تعليم الآباء في طريقه اكتساب الطهارة
إنه وقت لإبراز الكلمات المُحققة التي اختبرها الآباء، هؤلاء الذين لم يتركوا طريق الكمال.
يلزمنا الطاعة لوصيتهم بكلماتهم المسموعة، التي بنوع ما اقتنوها فعلاً، وتمتعوا بالفضيلة التي لأرواحهم التي مروا بها بتجاربهم الخاصة وأمثلتهم المؤكدة، لذلك قالوا: لا يستطيع أحد أن يكون نقيًا بالجملة من الخطايا الجسدية ما لم يفهم أن كل عمله ومجهوداته غير كافية لأجل نهاية عظمة الفضيلة.
الفصل الرابع عشر
تُعطى معونة الله للذين يجاهدون
لا أقول هذا لكي نقلل من شأن المجهود البشري، أو نحبط سعي أي إنسان للوصول إلى غرضه وبذل مجهوده، ولكن لنوضح بأكثر اجتهاد، ونبسط دون إبداء رأيي الخاص بل رأي الآباء أن الكمال ليس من الممكن الوصول إليه بسهولة بغير إرادتهم، ولكن بواسطتها وحدها لا يستطيع أحد الوصول إليه.
عندما نقول أن المجهود البشري لا يستطيع بمفرده أن يحمينا بدون مساعدة الله، نُصر على أن مراحم الله ونعمته هي التي تخول هؤلاء الذين يجاهدون ويكافحون استعمال تعبير الرسول لهم “نريد ونسعى… “
إذن نقول هذا بالنظر إلى كلمات مخلصنا التي تعطي الذين يسألون، وتفتح للذين يطرقون، وتوجِد للذين يسألون (مت 7:7). لكن السؤال والطلب والقرع من جانبنا لا يكفي ما لم تعطنا رحمة الله ما ينبغي أن نسأله، وتفتح الباب الذي نقرعه، وتؤهلنا أن نأخذ ما نطلبه.
من جانبه يمنح كل الأشياء فقط إذا أُعطيت له الفرصة برغبتنا الخاصة، لأنه يرغب ويبحث عن كمالنا وخلاصنا أكثر وأبعد مما نريد نحن أنفسنا.
يعرف الطوباوي داود جيدًا أنه بمجهوده الخاص لا يستطيع أن يسند نموه في العمل والجهد، إذ يترجى باستمرار بصلواته لكي يستطيع الحصول على إرشادات من الرب…
الفصل الخامس عشر
مِمن نقدر أن نتعلم طريق الكمال
إذا كنا نرغب حقًا وبصورة جدية في الوصول إلى قمة الفضائل يجب أن نستمع إلى هؤلاء المعلمين والمرشدين الذين لم يكونوا واهمين ومفتخرين بممارستهم، لكنهم علموا بالفعل والخبرة، لكي يعلموننا جيدًا ومباشرة بالقدوة، ويوضحوا لنا الطريق الذي بواسطته نستطيع أن نصل إليه بطريقة مؤكدة، وأظهروا أنهم هم أنفسهم وصلوا إليه بالإيمان أكثر منه باستحقاق جهودهم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن طهارة القلب التي اكتسبوها تعلمهم هذا فوق كل شيء. كمثال لكي نتعرف على هذا أكثر فأكثر علينا أن ندرك أنهم شعروا بثقل الخطية حتى يمارسوا التأنيب على خطاياهم المتزايدة يومًا بعد يوم، وما يصيب تقدمهم في طهارة نفوسهم،
وتنهدهم باستمرار من أعماق قلوبهم، لأنهم رأوا أنه من غير الممكن تجنب وصمات وشوائب هذه الأخطاء التي تلطخوا بها خلال أفكارهم الحقيرة التي لا تُحصي. هكذا أعلنوا أنهم ينتظرون مكافأة الحياة الأبدية لا عن استحقاقات أعمالهم، ولكن من قبل مراحم الله.
إنهم لا يمجدون أنفسهم على حساب الظروف المحيطة بهم، مقارنين أنفسهم بالآخرين، إذ لا ينسبون ذلك إلى اجتهادهم الذاتي بل إلى النعمة الإلهية، دون مدح أنفسهم على حساب تهاون من هم باردون وأردأ منهم. لكنهم بالأحرى يركزون أنظارهم على من يهدفون إلى الاستمرار في التواضع،
بتثبيت نظرهم على الذين هم بالحق أحرار من الخطية ويتمتعون فعلاً بالبركة ويتجنبون السقوط في الكبرياء وفي نفس الوقت يتطلعون دومًا نحو ما يهدفون إليه وما يجب أن يحزنوا عليه، إذ يعرفون أنهم لا يستطيعون أن ينالوا نقاوة القلب التي يبتغونها وهم مازالوا منحنين تحت ثقل الجسد.
الفصل السادس عشر
لا نستطيع أن نبذل مجهودنا لكي نحصل على الكمال بدون رحمة الله
يجب علينا توافقًا مع تعليم الآباء وثقافتهم أن نجتهد في الأصوام والصلوات والسهر وانسحاق القلب والجسد، خوفًا من أن نقلل من أهمية كل هذه الأشياء، وأن تفقد فائدتها عن طريق هجوم هذا المرض. لذلك يجب علينا أن نؤمن أننا ليس فقط لا نستطيع حماية الكمال العملي بواسطة مجهوداتنا الذاتية والتنفيذ العملي،
لكننا أيضًا لا نستطيع أن ننجز هذه الأشياء التي نمارسها من أجل ذاتها، فلا نمارس جهادنا وعملنا ورغباتنا بغير معونة الحماية الإلهية ونعمة عمله فينا وتأديباته ونصائحه، هذه التي يظلل بها عادة في قلوبنا، سواء عن طريق آخرين أو بشخصه حين يفتقدنا.
الفصل السابع عشر
نصوص مختلفة توضح أننا لا نستطيع عمل أي شئ يختص بخلاصنا بدون معونة الله
أخيرًا فإن مصدر خلاصنا يعلمنا ليس فقط ما ينبغي علينا أن نفكر فيه لكن أيضًا أن نعرف في كل شئ ما ينبغي أن نعمله. إنه يقول: “لا أستطيع من ذاتي أن أعمل شيئًا ولكن أبي الحال فيّ هو يعمل الأعمال” (يو30:5؛ يو10:14). يقول بحسب الطبيعة البشرية التي أخذها أنه لا يستطيع عمل أي شيء من نفسه، بينما نحن التراب والرماد نظن أننا لسنا في حاجة إلى معونة الله في ما يتعلق بخلاصنا.
هكذا لنتعلم في كل شئ أن نشعر بضعفنا الطبيعي، وفي نفس الوقت ندرك معونته، فنقول مع القديسين: “دحرتني دحورًا لأسقط، أما الرب فعضدني. قوتي وتسبحتي الرب، وقد صار لي خلاصًا” (مز 13:118، 14)، “لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت، إذ قلت قد زلّت قدماي فرحمتك يا رب تعضدني” (مز17:94-19). ناظرين أيضًا أن قلوبنا تتقوى في مخافة الرب وفي الصبر، فنقول: “وكان الرب سندي، أخرجني إلى الرحب” (مز 18:18، 19).
وإذ نعلم أن المعرفة تنمو بالتقدم في العمل، نقول: “لأنك تضيء مصباحي أيها الرب، يا إلهي أنر ظلمتي، لأنه بك أخلص من التجربة وبك أتحصن”.
حينئذ نشعر نحن أنفسنا بالانتماء إلى الشجاعة والصبر ونسير في طريق الفضيلة مباشرة وبسهولة عظيمة وبغير جهد، فنقول: “إنه الله الذي يمنطقني بالقوة ويجعل طرقي كاملة، الذي يجعل قدميّ كقدميّ الأيل، ويجلسني في الأعالي، ويعلم يديّ الحرب”.
نملك أيضًا روح التمييز، فنتقوى بذاك الذي به نستطيع أن نقهر أعداءنا، ونصرخ إلى الله: “تأديبك جاء عليَّ إلي النهاية، وسوف يعلمني تأديبك، توسع خطواتي تحتي فلم تتقلقل عقباي، ولأني أنا هكذا أتقوي بمعونتك وقوتك”. بجسارة أقول هذه الكلمات: “أتبع أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى أفنيهم. أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجلي” (مز 37:18،38 ).
مرة ثانية نراعي ضعفنا الخاص وندرك هذه الحقيقة أنه بينما نظل مثقلين بالضعف الجسدي لا نستطيع بدون معونته أن نغلب مثل هؤلاء الأعداء (خطايانا)، فنقول: “بك سوف نشتت أعدائنا”، “باسمك ندوس القائمين علينا، لأني علي قوسي لا أتكل، وسيفي لا يخلصني، لأنك أنت خلصتنا من مضايقينا، أخزيت مبغضينا” (مز6:44-8)، لكن فضلاً عن ذلك “تمنطقني بقوة للقتال، تصرع تحتي القائمين عليَّ، وتعطني أقفية أعدائي ومبغضي أفنيهم” (مز39:18-40).
إذ نتأمل أننا بأسلحتنا الخاصة لا نستطيع أن نغلب، نقول: “امسك مجنًا وترسًا وانهض إلى معونتي، وأشرع رمحًا وصد تلقاء مطاردي. قل لنفسي: خلاصكِ أنا” (مز2:35،3).و“وتجعل يدي كسهمٍ من نحاس، وتجعل لي ترس خلاصك ويمينك تعضدني” (مز35:18). “آباؤنا ليس بسيفهم امتلكوا الأرض، ولا ذراعهم خلصتهم، لكن يمينك وذراعك ونور وجهك، لأنك رضيت عنهم” (مز4:44،5).
أخيرًا بعقل مملوء غيرة نتأمل في كل بركاته بالشكر، فنصرخ إليه بمشاعر قلبية عميقة لأجل كل هذه الأمور، لأننا قاتلنا وأخذنا منه نور المعرفة وضبط النفس والتمييز(الفطنة)،
ولأنه زودنا بأسلحته الخاصة، ومنطقنا بالفضيلة وجعل أعداءنا يهربون من أمامنا، وأعطانا القوة أن نحطمهم ونجعلهم كالرماد أمام الريح. “أحبك يا رب يا قوتي، الرب صخرتي ومنقذي، إلهي صخرتي به أحتمي، ترسي وقرن خلاصي وملجأي، أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي” (مز2:18-4).
الفصل الثامن عشر
كيف أصبحنا في حماية بواسطة نعمة الله، ليس فقط بعطاياه الطبيعية، لكن أيضًا بعنايته الإلهية اليومية
إننا ليس فقط نسعى إليه شاكرين لأنه أوجدنا مخلوقات عاقلة، ومنحنا قوة حرية الإرادة، وأنعم علينا ببركة نعمة المعمودية، ووهبنا المعرفة والناموس، بل وأيضًا لأجل كل ما يمنحنا إياه بحمايته اليومية، إذ ينجينا من دهاء أعدائنا، ويعمل معنا فينقذنا من خطايا الجسد، وبدون معرفتنا لها يعطينا درع حمايته لنا من المخاطر، ويحمينا من السقوط في الخطية، ويساعدنا وينيرنا. بهذا نستطيع أن نفهم ونتعرف علي مساعدته اليومية التي يعطينا إياها (والتي بعضًا منها معروف بواسطة الناموس)، وأيضًا خلال سلطانه السرّي ننعم بتأنيب ضميرنا لارتكابنا الخطايا والإهمال. إنه يفتقدنا باهتمامه بنا وتأديبنا من أجل سلامة نفوسنا حتى أننا أحيانًا بغير إرادتنا نجد أنفسنا مرارًا منجذبين بواسطته نحو خلاصنا.
أخيرًا فإن إرادتنا الحرة هذه التي تنحرف إلى الخطية كثيرًا ما تتحول بواسطته إلى غرضٍ نبيلٍ، وبواسطة تأهبه واقتراحه، يجعلنا نميل في اتجاه طريق الفضيلة.
الفصل التاسع عشر
تسلمنا الإيمان المرتبط بنعمة الله من قبل آبائنا القدماء
هذا هو التواضع أمام الله. هذا هو الإيمان الحقيقي لآبائنا القدماء الذي ظل مستمرًا مع خلفائهم.
من أجل هذا الإيمان، فإن الفضائل الرسولية، التي كثيرًا ما كانت تظهر، تحمل شهادة غير مشكوك فيها، ليس فقط وسطنا نحن، لكن أيضًا وسط الكافرين وغير المؤمنين، لكي يحفظوا في بساطة قلوبهم الإيمان البسيط الذي للصيادين.
لم يتسلموه بروح العالم خلال المنطق أو فصاحة شيشرون، لكن تعلموه بخبرة السيرة نقية، والسلوك بلا دنس وبتصحيح أخطائهم و(نقول بالحقيقة بالأكثر أنه) بالبراهين الملموسة، ألا وهي سمة الكمال العملي للإيمان، والذي بدونه لا وجود للتقوى أو الطاعة نحو الله، ولا أي تطهير لخطايانا، ولا تقويم للحياة، ولا كمال للفضيلة المؤكدة.
الفصل العشرون
شخص غلبه روح شرير بسبب التجديف
أعرف شخصًا من بين الأخوة الذي كنت بكل قلبي أرغب أن لا أعرفه مطلقًا، سمح لنفسه أن يصير مرهقًا بمسئوليات (الكهنوت)، اعترف لأعظم شيخ أنه حُورب بخطية جسدية مرعبة. لقد اشتعل برذيلة الشهوة غير المحتملة، برغبة غير طبيعية للهوى… لكن الآخر كطبيبٍ روحيٍ حقيقيٍ في الحال أدرك السبب (الداخلي) وأصل هذا الشر، تنهد بعمق قائلاً: “ما كان الله يسمح لك البتة أن تنهزم بهذه الروح الشريرة لو لم تجدف عليه”.
عندما كشف هذا في الحال سقط عند قدميه علي الأرض، وصُعق في دهشة عظيمة كما لو كان الشيخ قد رأي أسرار قلبه عارية بعمل الله. اعترف أنه جدف بأفكار شريرة ضد ابن الله. فإنه من الواضح أنه إذا سكن أحد روح الكبرياء أو ارتكب تجديفًا ضد الله كإنسان يخطئ في حق من كان يجب أن يُنتظر منه هبة الطهارة، مثل هذا الشخص يُحرم من القيام والكمال ولا يستحق نعمة الطهارة المقدِّسة.
الفصل الحادي والعشرون
مثال يوآش ملك يهوذا يوضح لنا ثمار الكبرياء
نقرأ عن أمرٍ كهذا في سفر الأخبار عن يوآش ملك يهوذا. عندما كان في السابعة من عمره استدعاه يهوياداع الكاهن ليصير ملكًا، وبشهادة الكتاب المقدس مُدح من أجل كل أعماله أثناء حياة الكاهن سالف الذكر، لكننا نسمع عنه بعد موت يهوياداع كيف انتفخ بالكبرياء وسُلم إلى حالة أكثر خزيًا. “وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا وسجدوا للملك، حينئذ سمع الملك لهم، وتركوا بيت الربّ إله آبائهم، وعبدوا السواري والأصنام، فكان غضب على يهوذا وأورشليم لأجل إثمهم هذا” (2أي17:24،18).
قيل بعد قليل: “وفي مدار السنة صعد عليه جيش أرام، وأتوا إلى يهوذا وأورشليم وأهلكوا كل رؤساء الشعب من الشعب وجميع غنيمتهم أرسلوها إلى ملك دمشق، لأن جيش أرام جاء بشرذمة قليلة، ودفع الربّ ليدهم جيشًا كبيرًا جدًا، لأنهم تركوا الرب إله آبائهم. فأجروا قضاءً علي يوآش، وعند ذهابهم عنه، لأنهم تركوه بأمراض كثيرة” (2أي23:24-25).
ها أنت ترى كيف أن شهوة الكبرياء سلمته لشهوات دنس مخجلة من أجل أنه انتفخ بالكبرياء وسمح لنفسه أن يُعبد كإله، كما يقول الرسول: “لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان وإلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق” (رو 26:1، 28)، ولأن الكتاب المقدس يقول: “مكرهة الرب كل متشامخ القلب” (أم 5:16). ذاك الذي انتفخ بكبرياء القلب المتزايد يسلم لعارٍ وخزي عظيمين ليُغوي بها.
هكذا عندما يتواضع يجب أن يعرف أنه اتسخ بدنس الجسد ومعرفة الشهوات الدنسة، الشيء الذي رفض أن يعرفه عندما كان في كبرياء قلبه. أيضًا هذا الفساد المخزي الذي للجسد يمكن أن يفضح دنس القلب المختفي الذي ارتبط به من خلال خطية الكبرياء، وكأن فساد جسده الواضح يمكنه أن يبرهن علي تلوثه الذي لم يكن يراه فيما مضي، فيعرف أنه أصبح دنسًا من خلال كبرياء روحه.
الفصل الثاني والعشرون
سقوط كل نفس متكبرة تحت خداع روح شريرة
ظاهر بوضوح أن كل نفس يبتلعها الكبرياء المتزايد تُسلم إلى روح آرامية[2]، أي إلى روح شريرة، وهذا يوقعها في شباك شهوات الجسد. أخيرًا تصبح النفس مذلولة بأخطاء أرضية ونجاسات دنسة، فتعرف قذارتها. ورغمًا من أنها تقف منتصبة، لكن في برودة قلبها لا تستطيع أن تفهم أنه خلال الكبرياء قلبها صارت دنسة في نظر الله، بهذا تصير ذليلة.
يجب على الإنسان أن يتخلص من فتوره السابق، ويصير منسحق النفس، ويعترف بخزي شهواته الجسدية حتى يستطيع من ذلك الوقت فصاعدًا وبسرعة أن يصير أكثر غيرة على حرارة روحه.
الفصل الثالث والعشرون
لا يُمكن الحصول على الكمال إلا من خلال فضيلة التواضع
يظهر بوضوح أنه لا يستطيع أحد الوصول إلى حد الكمال والطهارة إلا بواسطة الاتضاع الحقيقي الذي ظهر في المثال الأول للاخوة، ويعلن لله بعمق قلب الاعتقاد أنه بدون حمايته ومساعدته العظيمة له في كل لحظة لا يستطيع بسهولة أن يصل إلى الكمال الذي يريده ويبادر إليه بحماسٍ كثيرٍ.
الفصل الرابع والعشرون
من الذي يُهاجم بالكبرياء الروحي ومن الذي يهاجم بالكبرياء الجسداني
يكفينا ما تحدثنا به قدر طاقتنا بمعونة الله عن الكبرياء الروحي؛ نقول إنه يهاجم المسيحيين المتقدمين. هذا النوع من الكبرياء غير مألوف ولم يختبره معظم الناس، لأن الأغلبية لا يهدفون إلي الحصول علي نقاوة القلب الكاملة لكي يصلوا إلى مرحلة الصراعات،
ولا بلغوا أية نقاوة من الأخطاء السابقة التي تم شرح سماتها والعلاج منها في كتب منفصلة. إنها بصفة عامة تهاجم الذين هزموا الأخطاء السابقة وبلغوا فعلاً إلى قمة شجرة الفضائل. ولأن عدونا المحتال الماكر لم يكن قادرًا علي تحطيمهم بالأخطاء الجسدية يسعى أن يطرحهم ويقهرهم بكارثة روحية، محاولاً بهذا أن يسلبهم جعالة مكافأتهم القديمة المضمونة عندما كانوا يجاهدون بعملٍ عظيمٍ.
أما بالنسبة لنا نحن الذين مازلنا ساقطين في شباك شهوات أرضية، فإن الشيطان لا يخطط لكي يجربنا بهذه الطريقة، لكنه يقهرنا بواسطة الكبرياء الجسداني. لذلك أظن أنه حسن بي أن أقول القليل عن هذا النوع من الكبرياء كما وعدت، هذا الذي عادة نتأثر به نحن ومن على شاكلتنا، خاصة الشبان والمبتدئين المعرضين للخطر.
الفصل الخامس والعشرون
وصف للكبرياء الجسداني، والشرور التي تنشا عنه في نفس الراهب.
يجد هذا الكبرياء الجسداني الذي تحدثنا عنه له مدخلاً إلى قلب الراهب المُصاب بفتورٍ روحيٍ والذي لم ينبذ العالم كما يجب منذ البداية. هذا النوع من الكبرياء لا يُلزمه على التخلي عن حالته الأولى من التكبر العالمي إلى التواضع الحقيقي في المسيح.
فأول ذي بدء يجعله عنيدًا وجافًا، ثم يحرمه من أن يكون لطيفًا ورؤوفًا، ولا يسمح له أيضًا أن يكون مشابهًا اخوته أو مثلهم يتجرد من ممتلكاته الأرضية كما أوصانا إلهنا ومخلصنا.
زهد العالم ما هو إلا علامة الإماتة والصلب. لا يمكن للراهب أن يبدأ بأية نقطة أخرى غير هذه، فهذا هو الأساس الوحيد الذي يقوم عليه. يجب عليه أن يدرك أنه لا يموت روحيًا عن أعمال هذا العالم فحسب، بل ومن واجبه أن يموت بالجسد كل يوم.
هذا يجعله لا يتمنى أن تطول حياته، وإن كان أمامه صراع طويل مع ضعفاته ونقائصه عليه أن يخوضه، إذ أن هذا الثقل يجعله يُصاب بالشعور بالعار والارتباك.
فعندما يتجرد (الراهب الساقط تحت الكبرياء الجسداني) من كل شيء يبدأ يحتاج إلى مساندة من أموال الآخرين وليس من عندياته، مع أنه كان خير له أن يعتمد على عمل يديه ليقتات خبزه ويجد كسوته دون الالتجاء إلى الآخرين، كما جاء في النص الذي ذكرناه سابقًا، وهو أن الذين أصيبوا بالغباء بسبب هذه البلادة وبرودة القلب لا يستطيعوا أن يفهموا الكلمات: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع 25:20).
الفصل السادس والعشرون
الرجل الذي يبني على أساس سيئ ينحدر يوميًا من سيئ إلى أسوأ
يوجد من يملك عليهم مثل هذا الارتياب الذهني ويستميلهم الشيطان بعيدًا عن شرارة الإيمان التي كانت مشتعلة بداخلهم حين آمنوا في الأيام الأولي، فيتحول مثل هؤلاء إلى محبة المال بشغفٍ شديد، وقد كانوا قبلاً متجردين منه. بل ويكنزونه بجشعٍ عظيمٍ كأناس لا يعرفون كيف يسترجعون ما قد دفعوه عنهم سابقًا.
يبقي نوع ثالث أيضًا يثير الاشمئزاز بالأكثر ألا وهو أن يجمع الإنسان ما لم يكن قط ملكًا له.
أصحاب هذه النوعية الأخيرة يُتهمون بأنهم لم يجنوا من ترك العالم أكثر من لقب الرهبنة وشكلها. بهذه البداية إذًا وعلى هذا الأساس السيئ للغاية والفاسد يكون البناء المشيد فوقه من الطبيعي مجموعة من الأخطاء. ومن المؤكد أن كل ما يشيد على هذا الأساس الخسيس سوف يحدر الروح البائسة إلى الحضيض في انهيار ميئوس منه.
الفصل السابع والعشرون
وصف الأخطاء التي تنشأ في خطية الكبرياء
الذهن الذي يتحجر بهذه المشاعر ويحمل في مستهل حياته مثل هذه البرودة البائسة لابد أن ينحدر يوميًا من سيئ إلى أسوأ وتكون نهاية حياته شنعاء. وبينما يجد لذة في شهواته الأولي، ويُغلب كما من جشع شرير، إذ يقول الرسول عنها: “الطمع الذي هو عبادة الأوثان” (كو 5:3) ويقول ثانية:
“محبة المال هي أصل لكل الشرور” (1تي 10:6)، لا يستطيع أن يقتنى قلبيًا الاتضاع الصادق والحق الذي للمسيح. هكذا نجد مثل هذا الشخص يفتخر بنُبل مولده، أو ينتفخ بمركزه السامي في العالم (الذي هجره بالجسد لكنه مازال يتملك على ذهنه)، أو يفتخر بثرائه الذي يحتفظ به لتدميره. نتيجة هذا لا يروق له بعد أن يحمل نير الدير أو يتلقى إرشادات وتعاليم من أي أبٍ من الآباء. وليس فقط يعترض على تنفيذ أي قانون في خضوعٍ وطاعةٍ، بل ويرفض الإنصات لأي تعاليم عن الكمال.
ينمو مثل هذا النفور داخل قلبه حتى إن أثير مثل هذا الحديث لا يستطيع أن يركز نظره على نقطة واحدة، بل يجول بعينيه هنا وهناك بلا تعبير، وهذه هي عادة مثل هؤلاء. وأيضًا نجده يفتعل السعال، ويفرقع أصابعه، ويعبث بهم ويخربش مثل إنسان يكتب، ويتململ في جلسته، ويحرك ساقيه بحركات عصبية، فتظنه في جلوسه وسط هذا المجال في الأحاديث الروحية وكأنه جالس على أشواك، بل وعلى أشواك حادة جدًا، أو وسط كمٍ من الديدان.
وإذا أُدير الحديث ببساطة عن شيءٍ ما ذي نفع للسامعين يتوهم أن هذا قد جاء ذكره في الحديث عمدًا من أجل نصحه هو وإرشاده. وكلما استرسل الحديث من أجل اختبار الحياة الروحية يظل مأخوذًا بأفكار الشك والريبة ولا يهتم بأن ينتفع بالحديث لبنائه الروحي.
وللأسف كل ما يهمه هو البحث عن السبب وراء ما قيل، أو يدور في ذهنه كيف يثير اعتراضات على ما يقال، فلا يخرج بشيء من كل ما يُقال للمنفعة. فتكون النتيجة عكسية، إذ يصيبه الضرر عوضًا عن النفع، وتصير له فرصة لخطية أعظم.
وبينما يُنخس ضميره ويتوهم أنه هو المُستهدف في كل ما قيل يزداد بالأكثر عناد قلبه، وتشتد استجابته لوخزات الغضب، فيعلو صياحه، ويصير حديثه خشنًا، وإجاباته مرة ومزعجة، ويمشي بخيلاء وبحسب هواه. وتصير الكلمات حاضرة على لسانه ويتقدم في الحديث، إذ لا يكون الصمت صديقه إلا عندما يرعى في قلبه شيئًا من المرارة تجاه أخٍ ما. وهذا الصمت حينئذ لا يُنبئ بالندم أو الاتضاع، بل بالكبرياء والغضب. فمن الصعب أن تحكم أي الأمرين فيه هو الكريه بالأكثر، هل هو القصف الصاخب بلا ضابط، أم رزانته المميتة المرعبة.
ففي الأولي نرى ثرثرة في غير محلها وضحكًا عابثًا وداعرًا ومرحًا غير منضبط وبلا نظام، وفي الأخيرة نجد صمتًا مملوء غضبًا ومُرعبًا، ناشئًا ببساطة عن الرغبة في الاستمرار في مشاعر الحقد إلى أطوال أمد. هذه المشاعر التي تترعرع في صمت ضد بعض الأخوة وليس عن رغبة في اقتناء فضيلة الاتضاع والصبر.
الإنسان الذي يصير فريسة للغضب الشديد يثير في نفوس الآخرين البؤس والقنوط. إنه ليس فقط يستحي أن يعتذر لأخيه الذي أساء إليه، بل وحين يتقدم الأخر للاعتذار له يرفض ذلك وينتهره. فإن مبادرة الاخوة لا تليِّن قلبه ولا تمسه، بل بالأحرى تثير غضبه بالأكثر، إذ يسبقه أخوه ويفوقه في فضيلة التواضع. وفي العادة يصير هذا التواضع الكامل للغير والاعتذار الذي يُقدم لكي يضع حدًا للتجربة الشيطانية بالنسبة له فرصة لانفجار الغضب.
الفصل الثامن والعشرون
عن كبرياء أحد الأخوة، إذ أطاع إلى وقتٍ ما
سمعت عن أمرٍ ما أثناء إقامتي في هذه المنطقة روعني، أخجل من تذكره. انتهر أحد الآباء راهبًا مبتدئًا بدت عليه علامات نبذ فضيلة التواضع، وقد جاز حرب الكبرياء لمدة محدودة أثناء الفترة الأولي لتركه العالم وصارع فيها ضد الشياطين.
فجاءت إجابته وقحة للغاية إذ قال: “هل أذللت نفسي لوقتٍ ما عن قصد حتى أصير في خضوع مستمر؟!” ذُهل الآب من هذا الجواب الجائر والكريه، وإذ كان مندهشًا فلم ينطق بكلمة، كأنما قد تلقي هذه الإجابة من لوسيفر القديم نفسه وليس من إنسانٍ. ولم يسعه أن يرد بكلمة عن هذه الوقاحة إلا بتنهدات قلبه وأناته وقد دار في ذهنه بصمت ما قيل عن مخلصنا: “وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع”، ليس كما قال الرجل الذي كان في قبضة روح شيطانية “لوقت ما”، بل “حتى الموت” (في 6:11، 8).
الفصل التاسع والعشرون
العلامات التي بها تُدرك أن الكبرياء الجسداني متمكن في الروح
دعنا نجمع معًا وباختصار ما قيل عن هذا النوع من الكبرياء، فنجمع على قدر الإمكان بعض علاماته حتى يمكننا أن نقدم إلى العطشى نحو الإرشاد في طريق الكمال فكرة عن خصائصه مستقاة من حركات الإنسان الخارجي.
أظن أنه من الأفضل أن نكشف عنه في كلمات قليلة حتى يسهل لنا أن نميز العلامات التي بها نتبينه. لأنه إذ تتعرى جذور هذا الألم، وتطفو على السطح، وتصير ظاهرة للعين، حينئذ يسهل اقتلاعها ويمكن تجنبها. بهذه الطريقة وحدها يهرب هذا الشر الأكثر خطورة.
فإذا قمنا بمقاومة هذا اللهيب الخطر بسطوته الهدامة قبل أن يتمكن منا وقبل أن يكون الوقت قد تأخر، أي ندرك أعراضه مبكرًا، حينئذ نحتاط منه بتروٍ وحكمةٍ. وكما قلنا أن طريقة سير الإنسان الخارجية تنبئ عن حالته الداخلية. هكذا وبهذه العلامات نرى ما هو على الساقط تحت هذا الكبرياء الجسداني الذي تحدثنا عنه قبلاً.
في البداية نجده في أحاديثه يصيح وتعلو نبرات صوته، وفي صمته تُوجد مرارة.
في مرحه يكون مزعجًا ومبالغُا في ضحكاته، وفي جديته يكون مٌكْمدّ الوجه بلا داعي.
تأتي إجاباته مٌفعمة بروح الحقد، ولسانه طليق بلا ضابط، وكلماته تتدفق كيفما اتفق بلا وزن.
يفتقر تمامًا لطول الأناة، بلا رحمة.
يقذف الآخرين بشتائم وقحة يجبن أن يحتملها هو نفسه.
مثير للمتاعب عندما تُطلب منه الطاعة، إلا إذا جاء ما يُطلب منه متفقًا مع رغباته ويحلو له.
لا يسمح لأحدٍ أن ينصحه، ولا يستطيع أن يتخلى عن تنفيذ رغباته.
شديد العناد لا يلين للآخرين، ويحاول أن يضع خططًا للآخرين بنفسه، ولا يرضخ هو للغير.
يفضل رأيه الخاص عن أخذ مشورة الشيوخ حتى وإن كان غير قادرٍ على تقديم نصيحةٍ صائبةٍ.
الفصل الثلاثون
رغبة المُصاب بحالة فتور بسبب الكبرياء في أن يقود آخرين
عندما يتمكن الكبرياء من شخص ما ينحدر هكذا كما ذكرنا على مراحل. إنه يرتعد من تدريب مجموعة الرهبان، وكأنما صحبة الأخوة هي التي أعاقته في طريق الكمال، وأن خطايا الآخرين شوشت على تقدمه في الصبر والاتضاع. يتوق مثل هذا الشخص إلى التوحد في قلايته،
أو يكون شغوفًا نحو بناء دير يجمع فيه آخرين ليرشدهم ويعلمهم، وكأنما سيكون ذا نفع لمجموعة أكبر من الناس. بذلك يجعل من نفسه قائدًا أكثر سوءً بدلاً من كونه تلميذًا سيئُا.
عندما يسقط الإنسان في هذا الفتور الشديد الخطورة والضار بسبب كبرياء القلب لا يستطيع أن يبقى راهبًا حقيقيًا أو إنسانًا عاديًا في العالم، والأسوأ من ذلك أنه يُمني نفسه بإدراك الكمال وهو في هذه الحالة البائسة وأسلوب حياته هذا.
الفصل الحادي والثلاثون
كيف نتغلب على الكبرياء، ونبلغ إلى الكمال؟
إذا ما رغبنا أن يعلو بناؤنا ليكون كاملاً حتى القمة ومٌرضيًا أمام الله علينا أن نسعى لنضع أساسًا ليس بحسب رغباتنا وإرضاء لشهواتنا بل تبعًا للقوانين الإنجيلية بتدقيق. هذه ما هي إلا مخافة الرب والاتضاع النابع عن بساطة القلب ولطفه، لكن لا يمكن اكتساب فضيلة الاتضاع إن لم نتخلَ عن كل شيء. وطالما الإنسان غريب عن هذه النية لا يستطيع أن يدرك فضيلة الطاعة مطلقًا ولا قوة الصبر ولا صفاء اللطف ولا كمال الحب.
وإن افتقرنا إلى كل هذا لا يمكن للقلب أن يكون مسكنًا للروح القدس. كما يقول السيد بالنبي: “وإلى هذا انظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي”، وبحسب الترجمات الأكثر دقة في التعبير عن العبري: “من أٌحابي ومن الذي يلتصق بي إلا الفقير والمزدري ومنسحق الروح والمرتعد من كلامي؟” (إش2:66).
الفصل الثاني والثلاثون
الكبرياء المحطم لكل الفضائل يتحطم بالتواضع الحقيقي
المناضل المسيحي الذي يجاهد قانونيًا في الحرب الروحية ويريد أن يكلله الرب، عليه أن يسعى بكل جهده لتحطيم هذا الوحش الشديد الضراوة والمحطم لكل الفضائل، علمًا بأنه طالما هذا الوحش مستقر في الصدر ليس فقط لن يتحرر الإنسان من كل أنواع الشرور، بل حتى وإن بدى ذو خصال حميدة فسيفقدها بسطوته الخبيثة.
لا يمكن أن يشيَّد بناء الفضيلة (إن جاز القول) في أرواحنا إلا عندما يوضع في قلوبنا أولاً أساس الاتضاع الحقيقي. إن استقر هذا بداخلنا يمكن أن يرتكز عليه الحب والكمال بكل ثقلهما، وكما قلنا إن هذا يحدث عندما نُظهر من نحو اخوتنا تواضعًا حقيقيًا من أعماق قلوبنا، ولا نقبل أبدًا أن نحزنهم أو نضرهم بشيء.
هذا لابد أن يسبقه غرس إنكار الذات الحقيقي داخل نفوسنا من قِبل محبة المسيح، ثم نقبل حمل نير الطاعة والخضوع في بساطة قلب بغير رياء، فلا نرعى بداخلنا أية إرادة ذاتية، بل نعيش في طاعة لأبينا. هذا لا نأمن حدوثه إلا في حالة من يعتبر نفسه ليس فقط أنه قد مات عن العالم، بل وأنه جاهل أحمق ينفذ بلا جدال ما يسنده إليه رؤساؤه، مؤمنًا أن أمرًا مقدسًا قد صدر إليه من السماء.
الفصل الثالث الثلاثون
علاج خطية الكبرياء
عندما يستمر الإنسان في اتباع ذلك يثبت في هذه الحالة، يتبعها بلاشك حالة من الهدوء والأمان. فحين نعتبر أنفسنا أقل من أي إنسان آخر نحتمل ما يأتي علينا، حتى وإن جلب علينا أذى أو حزنًا أو خسارة، بكل صبر كما لو كان قد صدر من القائمين علينا.
ولا نشعر إننا نتحمل هذه الأمور بمشقةٍ كبيرةٍ، بل نعتبرها أمرًا تافهًا وكلا شيء إذ لازمنا تذكر آلام السيد وقديسيه. فنحسب الأضرار التي تلحق بنا في تجاربنا أقل بكثير منهم، لأننا لم نبلغ مرتبتهم أو استحقاقاتهم. وعلينا أن نتذكر أيضًا أن رحيلنا عن هذا العالم ليس ببعيد وسوف نشاركهم نصيبهم بنهاية حياتنا سريعًا.
بأخذ مثل هذه الأمور في اعتبارنا نقضي على الكبرياء بداخلنا، ليس الكبرياء فقط هو الذي ينتهي بل كل أنواع الخطايا. من ثمَّ علينا أن نتمسك جيدًا بمثل هذا الاتضاع نحو الله، فنتيقن أننا لا نستطيع أن نتقدم في طريق اكتساب الفضائل الكاملة إلا بمساندة المسيح ونعمته، وفوق ذلك نؤمن بالحقيقة إن هذا الواقع عينه أي فهمنا لهذه الأمور هو عطية من الله.
تعريب: اجتماع الشباب الجامعي، كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج.
________________________________________
[2] يقصد أنها تسقط مثل يوآش بواسطة جيش أرام.
No Result
View All Result
Discussion about this post