رسالة الحبر الأعظم
البـابا يوحنّا بولِسْ الثّاني
الرسولية
إطلالة الألف الثالث
Tertio Millennio adveniente
إلى الأساقفة والإكليروس وسائر المؤمنين
لتهيئة يوبيل السَنة الألفين
إلى الأساقفة
والكهنة والشمامسة
والرهبان والراهبات
وسائر المؤمنين العلمانيين
1- إن إطلالة الألف الثالث من العهد الجديد تحملنا على التفكير تلقائياً بكلمات بولس الرسول: “ولما بلغ ملءُ الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة” (غلا 4 : 4). إن ملء الزمن يتفق مع سرّ تجسّد الكلمة، الابن المساوي للآب في الجوهر ومع سرّ فداء العالم. يشير القديس بولس في هذه الفقرة من رسالته إلى ابن الله الذي ولد من امرأة وكان تحت الناموس، وقد أتى إلى العالم ليفتدي الذين هم تحت الناموس، لينالوا منزلة البنين. ثم يضيف “ولأنكم أبناء أرسل الله إلى قلوبكم روح ابنه الذي يدعو: “أَبَّا، أيها الآب”. ويختم بهذه الكلمات المُشجّعة حقاً “فلست إذن عبداً بعد، بل ابن، وما دمت ابناً، فأنت وارث بالله” (غلا 4 : 6 – 7).
إن هذا العرض البولسيّ لسرّ التجسّد يلقي ضوءاً على سرّ الثالوث ومواصلة رسالة الابن برسالة الروح القدس.
وتجسّد ابن الله، والحبل به وولادته إنما هي بواكير إرسال الروح القدس. إن سرّ التجسّد الفادي يظهر مليّاً في نص القديس بولس.
أولاً
“يسوع المسيح هو هو أمِس واليوم…”
(عبر 13 : 8)
2- ينقل إلينا لوقا في إنجيله وصفاً مقتضياً عن الظروف التي تمت فيها ولادة يسوع: “وكان في تلك الأيام أن صدر أمرٌّ عن أغوسطس قيصر بأن يُكتَتَب جميع المسكونة… وكان كلّ واحد يذهب ليُكتَتَب في مدينته. فصعد يوسف أيضاً من الناصرة مدينة في الجليل، إلى اليهودية، إلى مدينة داود المدعوة بيت لحم – لأنه كان من بيت داود وعشيرته – ليُكتَتَب هناك مع مريم خطيبته وهي حبلى. وهما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر ولفّته بالقماطات ووضعته في مذود إذ لم يكن لهما موضع حيث نزلا” (2 : 1، 3 – 7).
وهكذا تمّ ما أنبأ به الملاك جبرائيل في البشارة لما قال لعذراء الناصرة: “افرحي يا ممتلئة نعمة الربّ معك” (1 : 28). كلمات اضطربت لها مريم، فما كان من المرسل الإلهي إلاّ أن أضاف: “لا تخافي يا مريم لأنك نلت نعمة أمام الله. فها أنك تقبلين حبلاً وتلدين ابناً تسمينه يسوع. وهو يكون عظيماً وابن الله يدعى… الروح القدس يأتي وقوة العلّي تظلّلك، لذلك فالمولود منك قدوس وابن الله يدعى” (1 : 38). وكان جواب مريم على رسالة الملاك صريحاً: “أنا أمة الرب فليكن لي حسب قولك” (1 : 38). لا يذكر التاريخ البشري أن مثل هذه الأمور كلها كانت يوماً منوطة بقبول مخلوق بشريّ، مثلها في تلك اللحظة (1).
3- يختصر يوحنا في مقدمة إنجيله سرّ التجسد بجملة واحدة تعبّر في العمق عن حقيقته. كتب يقول: “والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا ورأينا مجده، المجد الذي له من الآب كابن وحيد مملوء نعمة وحقاً” (1 : 14). ففي نظر يوحنا، بالحبل بيسوع وولادته يتم تجسد الكلمة الأزلي، المساوي للآب في الجوهر. ويعود الإنجيلي إلى الكلمة الذي كان في البدء لدى الله، به كان كل موجود، والكلمة كان الحياة والحياة نور الناس (انظر 1 : 1 – 15). وعن الابن الوحيد، الإله من إله، يقول بولس الرسول إنه “بكر كل خليقة” (كولوسي 1 : 15). فالله يخلق العالم بالكلمة. والكلمة هي الحكمة الأزلية، فكر الله وصورته الجوهرية، “ضياء مجده وصورة جوهره” (عبر 1 : 3). مولود في الأزل، وأزلياً محبوب من الآب، إله مولود من إله ونور من نور، فهو المبدأ والأنموذج المثالي لكل الأشياء التي خلقها الله في الزمن.
إن اعتناق الكلمة الأزلي، في ملء الزمن حالة المخلوق، يضفي على حدث بيت لحم الذي تمّ منذ ألفي سنة قيمة فريدة ذات طابع كوني. فبفضل الكلمة يأخذ عالم الخلائق شكل “كوسموس” أي شكل عالم منظم، وهو الكلمة من بتجسده يجدد نظام الخليقة الكوني. تتكلم الرسالة إلى أهل أفسس عن قصد الله الذي سبق فاعتمده “ليجري به تدبير ملء الأزمنة فيجدد في المسيح كلّ شيء مما في السماء وما على الأرض” (1 : 10).
4- المسيح الفادي العالم هو الوسيط الوحيد بين الله والناس وليس تحت السماء اسم آخر به نقدر أن نخلص (انظر أعمال 4 : 12). ونقرأ في الرسالة إلى أهل أفسس: “به لنا الفداء بدمه، غفران الخطايا بحسب غنى نعمته التي أفاضها علينا بكل حكمة وكل فهم الروح وعرفنا قصده الذي سبق فاعتمده حسب مشيئته ليجربه في ملء الأزمنة” (1 : 7 – 10). فالمسيح، الابن المساوي للآب في الجوهر هو إذن الذي أعلن قصد الله في الخليقة كلّها، وبخاصة في الإنسان، على حدِّ ما يؤكده المجمع الفاتيكاني الثاني بصيغة معبّرة للغاية، فيقول: “إنه يبيّن للإنسان حقيقة ذاته كلها ويكشف له عظمة دعوته” (2).
وإنما يبّين له هذه الدعوة في إظهاره سرّ الله ومحبته. فالمسيح “صورة الله الذي لا يرى” هو الإنسان الكامل الذي أعاد إلى أبناء آدم صورة الله التي شوّهتها الخطيئة. فبطبيعته البشرية المنزّهة عن كل خطيئة والتي أخذها الكلمة الإلهي في شخصه رُفِعَت طبيعة كل فرد البشرية إلى مرتبة لا تضاهى: “إن ابن الله بتجسده اتحد على وجه ما بكل إنسان. اشتغل بيدي إنسان، وفكرّ بعقل إنسان، وعمل بإرادة إنسان، وأحبّ بقلب إنسان. هو المولود من العذراء مريم صار حقاً واحداً منا، شبيهاً لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة” (3).
5- وقد تمت صيرورة ابن الله “واحداً منا” بمنتهى التواضع. فلا عجب أن لا يخصّه التاريخ، المهتم عادة بالأحداث المسرحية والشخصيات ذات المركز المرموق، إلاّ بتلميحات قصيرة في البدء، تلميحات لها مع ذلك أبعاد خاصة، فالمسيح يأتي على ذكره مثلاً كتاب “العاديَّات اليهوديّة” الذي وضعه في روما المؤرخ فلافيوس يوسف بين سنتي 93 و 94 (4)، وبخاصة “حوليات” تاسيتوس التي كتبها المؤرخ بين سنة 115 و 120 (للميلاد) وفيها يروي حادثة حريق روما سنة 64 التي اتهم بها نيرون المسيحيين زوراً، فهي تشير بوضوح إلى المسيح الذي “سلّمه إلى العذاب الوالي بيلاطس البنطي في عهد الإمبراطور طيباريوس” (5) وسويتونيوس أيضاً في سيرة الإمبراطور كلوديوس المكتوبة حوالي سنة 121 يخبر أن “اليهود طُردوا من روما لأنهم كانوا يثيرون شغباً متواتراً بتحريض من رجل اسمه كرستوس” (6). إن معظم الشراح يؤكدون أن هذا النصّ يتعلق بيسوع المسيح الذي كان أضحى موضوع خصام في ما بين اليهود الرومانيين. هذا وإنّ شهادة أخرى هامّة تثبت سرعة انتشار المسيحية، هي شهادة بلينوس الأصغر، والي بيتينيا الذي يفيد الإمبراطور ترايانوس، بين سنة 111 و 113، أن “جمعاً كبيراً من الناس كانوا يجتمعون في يوم معيَّن قبل الفجر لينشدوا مناوبة نشيداً للمسيح كما لإله” (7).
بيد أن هذا الحدث العظيم الذي يكتفي المؤرخون بالإشارة إليه يتجلى بكل الوضوح في كتابات العهد الجديد. فهي مع كونها وثائق وضعها مؤمنون ليست لأجل ذلك أقلّ أهلية من سواها للتصديق، كشهادات تاريخية في كل ما ينقله: إن المسيح الإله الحق والإنسان الحق وسيد الكون هو أيضاً سيّد التاريخ، “ألفه وياؤه” (رؤيا 1 : 8 و 21 : 6) “البداية والنهاية” (رؤيا 21 : 6). به قال الآب الكلمة الأخيرة على الإنسان والتاريخ. هذا ما تقول بإيجاز معبّر الرسالة إلى العبرانيين: “بأنواع كثيرة وأشياء شتى كلّم الله منذ القديم أباءنا بالأنبياء وفي هذه الأيام التي هي الأخيرة كلَّمنا بابنه” (1 : 1 – 2).
6- ولد يسوع في الشعب المختار تتميماً للوعد الذي أعطي لإبراهيم، وما انفكَّ الأنبياء يذكّرون به. وإنَّما يتكلم هؤلاء باسم الله ولسانه. فتدبير العهد القديم يهدف بالأساس إلى تهيئة مجيء المسيح فادي العالم وملكوته المسيحاني، والتبشير بهما. وقد وضعت كتب العهد القديم للشهادة الدائمة على “تربية” إلهية ساهرة (8). بلغت غايتها في المسيح. فإنه لا يكتفي بأن يتكلم “باسم الله” مثل الأنبياء، بل أن الله ذاته يتكلم في الكلمة الأزلي الذي صار جسداً. هنا نلمس النقطة الجوهرية التي تميز المسيحية عن سائر الأديان التي عبّر فيها الإنسان منذ البدء عن سعيه في طلب الله. نقطة الانطلاق في المسيحية تجسد الكلمة. هنا لم يعد الإنسان وحده يطلب الله، بل هو الله ياتي بذاته يتحدث للإنسان عن نفسه ويهديه سبيل البلوغ إليه. هذا ما يعلنه يوحنا في مقدمة إنجيله: “الله لم يرَه أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر عنه” (1 : 18). الكلمة المتجسد إذن هو من ينجز ما تصبو إليه أديان البشرية، إنجاز هو عمل الله الذي يفوق كل توقع البشر : إنه سرّ النعمة.
الدين في المسيح إذن لم يعد “السعي في طلب الله على غير هدى” (انظر أعمال 17 : 27)، إنما هو جواب الإيمان على الله الذي يعلن ذاته، جواب به يتكلم الإنسان مع الله كخالقه وأبيه. وجواب غدا ممكناً على يد هذا الإنسان الفريد الذي هو في آنٍ معاً الكلمة السماوي للآب في الجوهر، فيه كلَّم الله كل إنسانٍ، وبه غدا بوسع كل إنسان أن يتجاوب مع الله. بل أن الخليقة كلها في هذا الإنسان تتجاوب مع الله. فيسوع المسيح هو البداية الجديدة لكل شيء، فيه يلتقي كل شيء ويُحتضَن كل شيء ويُعاد كل شيء إلى الخالق الذي منه خرج كل شيء. وهكذا يحقق المسيح توق أديان العالم كلها، وهو لأجل ذلك مآلها الوحيد والنهائي. فإذا كان الله في المسيح يكلّم البشرية عن ذاته، ففي المسيح ذاته تتكلم البشرية والخليقة كلها مع الله عن ذاتها، بل تسلّم لله ذاتها، وهكذا يعود كل شيء إلى مبدئه. بالمسيح يسوع يتجدّد كل شيء (انظر أفسس 1 : 10) ويتمّ كل شيء في الله وتمجيداً لله. فالدين الذي أساسه المسيح يسوع هو دين المجد. به نقوم في جدّة الحياة لمجد الله وتعظيمه (أفسس 1 : 12) فالخليقة كلها تظهر بالواقع مجد الله وبالأخص الإنسان الحيّ الذي هو تجلّي مجد الله وهو مدعوّ لأن يحيا مليّاً الحياة في الله.
7- في يسوع المسيح الله لا يتكلم فقط مع الإنسان بل يسعى فيه طلبه، وتجسد ابن الله شاهد على ذلك: الله يسعى في طلب الإنسان. ويسوع يتحدث عن هذا السعي كما في سبيل نعجة ضالة ليجدها (انظر لو 15: 1 – 7) سعيٌّ يولد في قلب الله ذاته ويبلغ ذروته في الكلمة المتجسد. إذا كان الله يسعى في طلب الإنسان المخلوق على صورته وكمثاله فإنما يفعل ذلك لأنه يحبه حباً أبدياً في الكلمة ويريد أن يرفعه في المسيح إلى منزلة الابن المتبنَّى. الله إذن يسعى في طلب الإنسان لأنه يخصه بنوع مميّز عن سائر المخلوقات. الإنسان يخص الله لأنه أحبه فاختاره، وإنما بدافع من قلب الأب يسعى في طلب الإنسان.
ولماذا يسعى في طلبه؟ لأن الإنسان ابتعد عنه: اختبأ مثل آدم بين الأشجار في الفردوس الأرضيّ (انظر تكوين 3 : 8 – 10) . الإنسان ترك العدوَّ يضلّله (انظر تك 3 : 13). إبليس خدعه، جعله يتوهم أنه هو نفسه إلهٌ وأن بوسعه مثل الله أن يعرف الخير والشر ويسوس العالم على هواه دون أن يحسب لإرادة الله حساباً (انظر تك 3 : 5). والله بسعيه في طلب الإنسان بواسطة ابنه يريد أن يحمله على الارتداد عن دروب الشرّ التي ينزع دوماً إلى التوغل فيها. “ولأن يجعله يرتد” عن هذه الدروب يعني أن يُفهمه أنه يضل الطريق: يعني أن يغلب الشر الحاضر في تاريخ العالم. ولأن يغلب الشر، إنما هذا هو الفداء، فداء تمّ بذبيحة المسيح التي بها يفي الإنسان دين الخطيئة ويتصالح مع الله. وإنما صار ابن الله إنساناً، أخذ جسداً ونفساً في حشا العذراء ليقدم ذاته ذبيحة فداء كاملة. دِينُ التجسد هو دين فداء العالم بذبيحة المسيح، فيها الانتصار على الشر وعلى الخطيئة والموت ذاته. وأن المسيح بارتضائه الموت على الصليب يظهر ويعطي في آن معاً الحياة، لأنه قام، وليس للموت عليه سلطان.
8- إن الدين الذي يمدّ جذوره في سرّ التجسد الفادي هو الدين الذي به “نسكن في قلب الله”، ونشارك في حياة الله الحميمة. هذا ما يقوله القديس بولس في النص الوارد سابقاً: “لقد أرسل الله في قلوبنا روح ابنه يهتف: آبّا، “أيها الآب” (غلا 4 : 6). ويرفع الإنسان صوته كما فعل المسيح “بهتافٍ شديد ودموع” (عبر 5 : 7) نحو الله، خاصة في الجسمانية وعلى الصليب. الإنسان يصرخ إلى الله كما صرخ المسيح وبذلك يدلّ على أنه يشترك في بنوَّته بالروح القدس، والروح القدس، الذي أرسله الآب باسم ابنه يجعل الإنسان يشترك في حياة الله الحميمة، يؤهل الإنسان لأن يصير أيضاً ابناً، على شبه المسيح ووارث الخيرات التي للابن (انظر غلا 4 : 7). وبهذا يقوم دين “الحياة في قلب الله” التي يلدها ابن الله بتجسده. إن الروح القدس الذي يفحص أعماق الله (1 قور 2 : 10) يجعلنا نحن البشر نلج هذه الأعماق بفعل ذبيحة المسيح.
ثانياً
يوبيل السنة الألفين
9- إن القديس بولس في معرض كلامه عن ولادة ابن الله يحلُّها “في ملء الأزمنة” (انظر غلا 4 : 4). وإن الزمان بالواقع تمَّ بدخول الله عبر التجسد في تاريخ الإنسان. الأبدية دخلت في الزمن: فهل من “إتمام” أعظم من هذا؟ بل هل من “إتمام” ممكن غير هذا؟ فكرّ بعضهم في دورات كونية سرّية يعيد فيها تاريخ العالم وبخاصة الإنسان، ذاته باستمرار. فالإنسان يولد من الأرض ويعود إلى الأرض (انظر تك 3 : 19) وهذا من المعطيات البديهية. بيد أن في الإنسان توقاً إلى الخلود لا يقاوم. فأي فكرة يمكن أن تُقدم له عن الحياة بعد الحياة؟ لقد تصور بعضهم أشكالاً مختلفة من “التقمص” (التجسد من جديد): فعلى ما كانت حياة الإنسان السابقة، يعرف حياة جديدة متفاوتة في الشرف أو العفة إلى أن يبلغ التنقية الكاملة. هذه العقيدة المتأصلة في بعض الديانات الشرقية ترمي في ما ترمي، إلى الدلالة على أن الإنسان يرفض التسليم بطابع الموت النهائي. هو مقتنع بأن له طبيعة روحيّة في جوهرها وغير مائتة.
الوحي المسيحي ينبذ “التقمص” ويتحدث عن كمالٍ، الإنسان مدعوٌ لأن يبلغه في أثناء وجوده لمرةٍ واحدة على الأرض. كمال في مصير يبلغه الإنسان بعطاء ذاته عطاءً مجرداً ولا يمكن أن يتمّ إلاّ في لقائه بالله. ففي الله وحده يبلغ الكمال في تحقيق ذاته: تلك هي الحقيقة التي كشفها لنا المسيح. الإنسان يبلغ كماله في الله الذي جاء إلى لقائه في ابنه الأزلي. فبمجيء الله إلى الأرض بلغ الزمن البشري الذي بدأ بالخليقة مِلأه. لأن “ملء الزمن إنما هي الأزلية، بل هو الأزلي وحده أي الله. فالدخول في ملء الزمن يعني إذن بلوغ غاية الزمن وخروج (الإنسان) من كيانه المحدود ليجد ملء كماله في أزلية الله.
10- للزمن في المسيحية شأن أساسي. فإنما في إطاره يتمّ خلق العالم، وفيه يجري تاريخ الخلاص الذي يبلغ ذروته “في ملء زمن” التجسد، ويبلغ الغاية الأخيرة في رجوع ابن الله ممجداً في نهاية الأزمنة. في يسوع المسيح الكلمة المتجسد يغدو الزمن بُعد الله الذي هو أزلي في ذاته. ومع مجيء المسيح تبدأ “الأيام الأخيرة” (انظر عب 1 : 2) “الساعة الأخيرة” (انظر 1 يو 2 : 18)، ومعه يبدأ زمن الكنيسة الذي سيستمرّ حتى المجيء الأخير.
من علاقة الله هذه مع الزمن ينشأ واجب تقديس الزمن. وهذا ما يتمّ مثلاً عندما تكرَّس لله أزمنة، أياماً وأسابيع كما كان يتمّ في دين العهد القديم وكما يتمّ أيضاً، ولو بشكل مختلف، في المسيحية. في ليتورجيا عشيّة الفصح يعلن المحتفل وهو يبارك الشمعة التي ترمز إلى المسيح القائم من الموت: “المسيح أمس واليوم، بداية ونهاية كل شيء، الألف والياء، له الزمن وله الأبد وله المجد والقدرة مدى الدهور”. وهو يتلفظ بهذه الكلمات يحفر على الشمعة أرقام القرن الذي تقع فيه السنة الجارية. ومعنى هذا الاحتفال واضح: إنه يظهر للعيان أن المسيح هو سيد الزمن، بدايته ونهايته. وكل سنة وكل يوم، كل لحظة يشملها تجسده وقيامته، فتدخل هكذا في “ملء الزمن” لذلك الكنيسة أيضاً تعيش الليتورجيا وتحتفل بها على مدار السنة. وهكذا تنطبع السنة الشمسيّة بالسنة الليتورجية التي تستعيد على وجهٍ ما سرَّ التجسد والفداء كله، بدءاً بالأحد الأول من زمن المجيء انتهاء بالاحتفال بالمسيح الملك ربّ الكون والتاريخ. وكل أحد يستعيد ذكر يوم قيامة الرب.
11- وفي هذا الإطار يسهال فهم الاحتفال بسنوات اليوبيل المتأصلة في العهد القديم والمتواصلة في تاريخ الكنيسة. أتى يسوع الناصري ذات يوم مجمع مدينته وقام ليقرأ (لوقا 4: 16 – 30) فدفع إليه سفر أشعيا النبي فتلا المقطع المذكور فيه: “روح الرب عليّ ولهذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأجبر منكسري القلوب وأنادي بعتق للمسبيّين وبتخليه للمأسورين وأنادي بسنة الرب المقبولة” (61 : 1 – 2).
النبيّ كان يتكلم عن المسيح. فاردف يسوع قوله: “اليوم تمتّ هذه الكتابة التي تليت على مسامعكم” (لو 4 : 21)، ليفهمهم أنه هو المسيح المبشر به وأن به بدأ “الزمن” المنتظر وأتى يوم الخلاص، “ملء الزمن”. كل يوبيل يرتبط بهذا “الزمن ويتَّصل برسالة المسيح الآتي “كمكرَّس” بمسحة الروح القدس و”كمرسل من الآب”. هو الذي يعلن البشارة السارّة للمساكين. هو الذي يأتي بالحرية للمحرومين منها، ويحرّر المظلومين، ويردّ البصر للعميان (انظر 11 : 4 – 5 ولوقا 7 : 22). وهكذا يحقق “سنة مقبولة للرب” يعلنها لا بالأقوال فقط بل أيضاً بالأعمال. فاليوبيل، أي “سنة الرب المقبولة” ليس مجرد ذكرى تستعاد في الزمن بل إنه هو ما يميّز عمل يسوع.
12- إن أقوال يسوع وأعماله تشكل هكذا تتميماً للتقليد اليوبيلي في العهد القديم. فمن المعلوم أن اليوبيل كان زمنا مكرساً تكريساً خاصاً لله. وكان يقع مرة كل سبع سنوات، حسب شريعة موسى، ويسمى “السنة السبتيّة”، فيها كانت تُسبَّت الأرض ويعتق العبيد. إن واجب عتق العبيد كان منظماً بأحكام دقيقة واردة في أسفار الخروج (23 : 10 – 11) والأحبار (25 : 1 – 28) وتثنية الاشتراع (15 : 1 – 6)، أي عملياً في أسفار الاشتراع كلها فيكون له من ثمَّ شأن خاص. وعدا عتق العبيد كانت الشريعة في السنة السبتية تلحظ ترك الديون وفقاً لأحكام دقيقة. وكان ذلك كله يتمّ إكراماً لله. وما كان من شأن السنة السبتية كان أيضاً ينطبق على سنة اليوبيل التي كانت تعود كل خمسين سنة مرة. بيد أن ما كان مرعياً في السنة السبتية كان يتمّ على شكل أوسع ويحتفل به احتفالاً أكبر. نقرأ في سفر الأحبار ما يلي: “قدسوا سنة الخمسين ونادوا بعتق في الأرض لجميع أهلها فتكون لكم يوبيلاً وترجعوا كل امرئٍ إلى ملكه وتعودوا بكل واحد إلى عشيرته” (أحبار 21 : 10). فمن أهم النتائج التي تميّز سنة اليوبيل كانت “العتق” الشامل لجميع السكان الذين يعوزهم عتق. وكان في هذه المناسبة كل إسرائيلي يعود إلى ملك أرض أجداده إذا كان باعها أو خسرها بصيرورته عبداً. ولم يكن من الممكن أن يخسر الإنسان أرضه نهائياً لأن الأرض لله، وما كان ممكناً أن يظل الإسرائيليون عبيداً إلى ما لا نهاية، لأن الله كان “اشتراهم” فصاروا له دون سواه، لمّا عتقهم من عبوديّة مصر.
13- حتى إذا كانت أحكام سنة اليوبيل ظلت بمعظمها في نطاق المثل العليا – كان ذلك رجاءً أكثر منه إنجازاً عملياً، رجاء تحوّل فيما بعد نبؤةً على المستقبل تبشر بالعتق الحق الذي سيحققه المسيح الآتي – ففي الإطار القانوني الناتج عنه يرتسم شيئاً فشيئاً تعليم اجتماعي تطور فيما بعد بوضوح أكثر، انطلاقاً من العهد الجديد. سنة اليوبيل كان من شأنها أن تعيد المساواة بين جميع بني إسرائيل، فاتحةً إمكانيات جديدة أمام العيال التي تكون فقدت أملاكها أو حتى الحرية الشخصية. أما الأغنياء فسنة اليوبيل كانت على العكس تذكرهم أنه سيأتي يوم يعود فيه العبيد الإسرائيليون ليصيروا معهم على قدم المساواة فيطالبونهم بحقوقهم. كان من الواجب أن تعلن سنة اليوبيل في الوقت الذي تعيّنه الشريعة، لمدِّ يد المساعدة للذين هم في حال العوز، الأمر الذي يتطلب حكماً عادلاً. والعدل في شريعة إسرائيل كان يقوم خاصة في حماية الضعفاء وأن على الملك أن يتميَّز في هذا المجال على حد ما يؤكده المرتل: “لأنه ينقذ المسكين المستغيث والبائس الذي لا ناصر له. يرثي للكسير والمسكين ويخلص نفوس المساكين” (مز 71 : 12 – 13). مثل هذا التقليد كان ينبع من مصدر لاهوتي محض مرتبط بلاهوت الخلق والعناية الإلهية، فالاعتقاد السائد كان أن لله وحده، الله الخالق، السيادة العليا المطلقة، أي السيادة على كل الخليقة، وبالأخص على الأرض (أحبار 25 : 23). وإذا كان الله بعنايته أعطى الأرض للناس فذلك يعني أنه أعطاها للجميع. لذلك ينبغي أن تُعتبر خيرات الخليقة ملكاً عاماً للبشرية بأسرها. فمن كانت هذه الخيرات ملكاً له، لم يكن بالواقع إلاّ مدبراً لها أي وكيلاً عليه أن يتعاطاها باسم الله المالك الأوحد بالمعنى الكامل لأن إرادة الله كانت في أن تكون الخيرات المخلوقة لمنفعة الكل على وجه عادل. فكان لا بدّ بالتحديد لسنة اليوبيل من أن تعيد أيضاً هذه العدالة الاجتماعية إلى نصابها. فيكون من ثمَّ لتعليم الكنيسة، الاجتماعي – الذي كان دائماً يشغل مكاناً في تعليم الكنيسة وقد تطور خاصة في القرن الماضي وبالأخص بعد رسالة البابا لاوون الثالث عشر “الشؤون الحديثة” – أحد أصوله في تقليد سنة اليوبيل.
14- بيد أنه لا بدّ من إشارة خاصة إلى ما يعبر عنه أشعيا في قوله: “لننادي بسنة الرب المقبولة”. فاليوبيل هو بالواقع عند الكنيسة هذه السنة المقبولة، سنة غفران الخطايا، سنة المصالحة بين المتخاصمين، سنة الارتدادات الكثيرة والتوبة في سر التوبة وخارج السر. ويرتبط تقليد السنوات اليوبيلية بمنح الغفرانات على نحو أوسع منه في أي زمن آخر. وإلى جانب اليوبيلات التي تحيي ذكرى التجسد في خلال السنوات المئة منها والخمسين والخمس والعشرين، اليوبيلات التي تذكر بحدث الفداء، بصلب المسيح وموته على الجلجلة وقيامته. ففي هذه المناسبات تعلن الكنيسة “سنة الرب المقبولة” وتعمل على أن يتمتع المؤمنون بالمزيد من الانتفاع بهذه النعمة. لذلك لا يحتفل باليوبيل “في المدينة” (روما) فقط بل خارج المدينة أيضاً، الأمر الذي يتم عادة في السنة التي تلي الاحتفال “في المدينة”.
15- في حياة الأفراد يرتبط اليوبيل عادة بتاريخ الولادة، ويحتفل أيضاً به في ذكرى العماد والتثبيت، والمناولة الأولى والرسامة الكهنوتية أو الأسقفيّة، والزواج. ويحتفل بمثل هذه الذكريات في المجتمع المدني، بيد أن المؤمنين يضفون عليها دائماً الطابع الدينيّ. فمن وجهة النظر المسيحية كل يوبيل – ويوبيل السنة الخامسة والعشرين للزواج أو الرسامة المسمى “الفضي” أو الخمسين المسمى “الذهبي” أو الستين المسمى “الماسي” – يشكل سنة نعمة خاصة للإنسان الذي قبل أحد الأسرار المذكورة أعلاه. وما نقوله على يوبيلات الأفراد يمكن قوله على الجماعات والمؤسسات. فيحتفل هكذا بمرور مئة أو ألف عام على تأسيس مدينة أو بلدية. وفي النطاق الكنسي يحتفل بيوبيل الرعية أو الأبرشية. ولجميع هذه اليوبيلات الفردية منها أو الجماعية دور هام ذو معنى كبير في حياة الأفراد والجماعات.
في هذا السياق تشكل سنة الألفين لولادة المسيح (بغض النظر عن دقة الحساب التاريخية) يوبيلاً بالغ الأهمية ليس فقط عند المسيحيين بل على وجه غير مباشر لدى البشرية كلها نظراً للدور الطبيعي الذي قامت به المسيحية طوال الألفي سنة المضرمة. إن العدّ الحسابي للسنين يتمّ إينما كان تقريباً انطلاقاً من مجيء المسيح إلى العالم، وهو أمرّ ذو مغزى و يعني أن هذا المجيء صار محور الروزنامة الأكثر استعمالاً اليوم. أليس في ذلك دليل على ما كان لولادة يسوع الناصري من شأن لا يضاهى في تاريخ البشرية العام؟
16- كلمة يوبيل تعني “الفرح” لا الفرح الداخلي فقط، بل الفرح الذي يظهر في الخارج أيضاً، لأن مجيء ابن الله تمّ أيضاً في الظاهر، هو يُرى، ويُسمع ويُلمس على حد ما يذكّر به يوحنا في رسالته انظر ( 1 يو 1 : 1). فيجدر إذن أن تظهر في الخارج كلّ علامة فرح يُنشئها هذا المجيء. وهذا دليل على أن الكنيسة تفرح بالخلاص، وتدعو الجميع إلى الفرح وتسعى جهدها لاستنباط الظروف المؤاتية لكي تمكن كل أحدٍ من المشاركة في قوة الخلاص. فسنة الألفين إذن هي سنة اليوبيل الكبير.
هذا اليوبيل الكبير سيكون من حيث المحتوى شبيهاً بسواه، وبالوقت نفسه مختلفاً وأوسع من سواه. فالكنيسة تحترم مقاييس الزمن، ساعاته، وأيامه وأعوامه وقرونه. ومن هذا القبيل تسير خطوة خطوة مع كل إنسان، وتجعل كل أحد يعي أن كلاًّ من هذه المراحل هو منطبع بحضور الله وعمله الخلاصي.
وبهذه الروح تفرح الكنيسة، وتؤدي الشكر، وتسأل الغفران، وترفع الابتهالات إلى سيد التاريخ والضمائر البشرية.
ومن الصلوات الأكثر حرارة في هذه الآونة الاستثنائية المشرفة على الألف الجديد، هي تلك التي بها تسأل الكنيسة الرب نموَّ الوحدة بين المسيحيين من مختلف المذاهب حتى بلوغ الاتحاد الكامل. إنني أتمنىَّ أن يكون هذا اليوبيل فرصة طيبة للتعاون الفعَّال والمشاركة في كل ما يجمعنا وما يجمعنا هو أهمّ مما يفّرقنا، فما أطيب أن نتوصل، مع مراعاة نهج كل من الكنائس والجماعات، إلى القيام بمشاريع مسكونية لتهيئة اليوبيل وتحقيقه. إنه ليكتسب بذلك من القوة ما يجعل منه أمام العالم شهادة لتصميم جميع تلاميذ المسيح على إنجاز الوحدة الكاملة في أقرب وقت، ثقةً منا بأن “لا شيء مستحيل على الله”.
ثالثاً
في تهيئة اليوبيل الكبير
17- كل يوبيل في تاريخ الكنيسة، العناية الإلهية هي التي تهيئه. وهذا يصحّ في يوبيل سنة الألفين الكبير. وإننا بهذا الاقتناع نلقي نظرة بالشكر وروح المسؤولية على ما جرى في تاريخ البشرية منذ ولادة المسيح وبخاصة الأحداث التي وقعت بين سنة الألف وسنة الألفين. ونلقي بالأخصّ نظرة إيمان على عصرنا متقصّين منه كل ما يفيد، ليس فقط عن تاريخ الإنسان بل أيضاً عن تدخل الله، في الأحداث البشرية.
18- ومن وجهة النظر هذه يمكننا التأكيد أن المجمع الفاتيكاني الثاني يشكل حدثاً دبّرته العناية، به بدأت الكنيسة تهيء يوبيل سنة الألفين. فهو بالواقع مجمع شبيه بسواه من المجامع ومختلف عنها: إنه مجمع يركز على المسيح وكنيسته وهو بالوقت ذاته منفتح على العالم. وقد كان هذا الانفتاح جواب الإنجيل على تطور العالم الحديث، مع الانقلابات التي عرفها القرن العشرون الذي قاسى من حربين عالميتين، وعانى الكثير من معسكرات الاعتقال والمجازر الرهيبة. فكل ما جرى يثبت اليوم أكثر من أي وقت آخر أن العالم يحتاج إلى تطهير النفوس ويحتاج إلى التوبة.
قيل كثيراً أن المجمع الفاتيكاني الثاني يطبع بطابعه عهداً جديداً في حياة الكنيسة. هذا صحيح، لكن لا يمكننا في الوقت ذاته إلاّ أن نلاحظ أن الجمعية المجمعية توسعت كثيراً في اللجوء إلى خُبُرات وأفكار العهد السابق، وبخاصة إلى تراث بيوس الثاني عشر الفكري. دائماً في تاريخ الكنيسة يتداخل “العتيق” و”الجديد” تداخلاً وثيقاً. فينبت “الجديد” على “العتيق” ويجد “العتيق” في “الجديد” تعبيراً أكمل.
هذا ما كان من أمر المجمع الفاتيكاني الثاني ونشاط البابوات المرتبط بالجمعية المجمعية، بدءاً بيوحنا الثالث والعشرين، مروراً ببولس السادس ويوحنا بولس الأول حتى البابا الحالي.
إن ما قاموا به في أثناء المجمع وبعده، ما علّموه مثل ما أخذوا من تدابير، أسهم ولا ريب إسهاماً بارزاً في تهيئة ربيع جديد للحياة المسيحية ينبغي أن يظهر في اليوبيل الكبير، هذا إذا عرف المسيحيون أن يجاروا عمل الروح القدس.
19- إن المجمع، دون أن يبلغ قساوة لهجة يوحنا وهو يدعو على الأردن إلى التوبة والارتداد إلى الله (انظر لو 3 : 1 – 17)، أظهر بعض ما في النبي القديم، وذلك بالصورة الجديدة القوية التي بها يقدم المسيح للبشر في أيامنا “كحمل الله” الذي يرفع خطيئة العالم” (يو 1 : 29)، وكفادي الإنسان وسيّد التاريخ. إن الكنيسة في المجمع، رغبةً منها في الأمانة التامة لمعلّمها، تساءلت في موضوع هويتها، واكتشفت من جديد عمق سرّها كجسد المسيح وعروسه، وفي تركيزها على سماع كلمة الله، عادت فأكدت دعوة الجميع إلى القداسة، وباشرت إصلاح الليتورجيا “ينبوع حياتها وذروتها”. ونشَّطت تجديد الكثير من وجوه حضورها في المجتمع العام، وفي الكنائس المحلية. والتزمت تشجيع الدعوات المسيحية على تنوعها، من دعوة العلمانيين إلى دعوة الرهبان، ومن دعوة الخدمة الشماسية إلى دعوة الخدمة الكهنوتية والأسقفية، وعادت بنوع خاص فاكتشفت “المجمعية” الأسقفية التي تعبر تعبيراً مميزاً عن الخدمة التي يمارسها الأساقفة بالاتحاد مع خليفة بطرس. وفي إطار هذا التجدّد العميق انفتح المجمع على مسيحيي المذاهب الأخرى، وأتباع الديانات الأخرى، وعلى جميع الناس في زماننا. لم يجرِ في أي مجمع آخر الحديث بمثل هذا الوضوح على وحدة المسيحيين، وعلى الحوار مع الأديان غير المسيحية وعلى معنى العهد القديم وإسرائيل المميز، وعلى كرامة الضمير البشري، وعلى مبدأ الحرية الدينية، وعلى مختلف التقاليد الثقافية التي تقوم ضمنها الكنيسة بمهمتها الرسولية، وعلى وسائل الاتصال الاجتماعية.
20- كان عرض المجمع لهذه المسائل على قسط كبير من الغنى في المحتوى وبلهجة جديدة غير معروفة من ذي قبل، فجاء مثل تبشير بالأزمنة الجديدة. تكلم آباء المجمع لغة الإنجيل، لغة الخطبة على الجبل والتطويبات. فالله في رسالة المجمع حاضر بسلطانه المطلق على كل شيء، لكن أيضاً كضمانة لأصالة استقلالية الشؤون الزمنية.
ومن ثمّ إن أفضل تهيئة لحلول سنة الألفين لا يمكن أن تكون إلاّ في التزام متجدد بتطبيق تعليم الفاتيكاني الثاني، وبما أمكن من أمانة، على حياة كل فرد وحياة الكنيسة جمعاء. فمع المجمع تمّ ما يمكن اعتباره تدشيناً لتهيئة مباشرة ليوبيل سنة الألفين الكبير. وإذا فتشنا عن شيء مثيل في الليتورجيا يمكننا القول بأن ليتورجيا زمن المجيء، التي تعود كل سنة هي الأقرب من روح المجمع، فإن زمن المجيء يهيئنا لملاقاة ذلك الذي كان وهو الآن والذي يأتي دائماً (رؤيا 4 : 8).
21- على طريق التهيئة لموعد سنة الألفين تأتي سلسلة المجامع التي انطلقت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني: مجامع عامة ومجامع على مستوى القارات والمناطق والأوطان والأبرشيات. موضوعها الأساسي إعلان بشارة الإنجيل، بل البشارة الجديدة التي وضع أسسها بولس السادس في الإرشاد الرسولي “واجب إعلان الإنجيل” الذي نشر سنة 1975 بعد الجمعية العامة الثالثة لمجمع الأساقفة. وتؤلف هذه المجامع قسماً من البشارة الجديدة فهي تنبع من نظرة المجمع الفاتيكاني الثاني للكنيسة فتفسح المجال واسعاً أمام مشاركة العلمانيين مثبتةً مسؤوليتهم المميزة في الكنيسة، ففيهم تظهر القوة التي جعلها المسيح في شعب الله كله بإشراكهم في رسالته المسيحانية، الرسالة النبوية، والكهنوتية والملوكية. إن في الفصل الثاني من الدستور العقائدي “نور الأمم” تأكيدات صريحة في هذا الصدد. وهكذا تتمّ تهيئة يوبيل سنة الألفين على المستوى العام والمحليّ في الكنيسة كلها، يحركها وعي متجدّد للرسالة الخلاصية التي تسلمتها من المسيح. ويظهر هذا الوعي بوضوح خاص في الإرشادات الصادرة بعد المجمع المكرسة لرسالة العلمانيين وتنشئة الكهنة، والتعليم المسيحي، والعيلة، وللتوبة والمصالحة وفي ما لها من شأن في حياة الكنيسة والبشرية كلها، وفي المستقبل القريب للحياة المكرسة.
22- يضطلع أسقف روما في تأدية خدمته بمهمات ومسؤوليات خاصة تجاه يوبيل سنة الألفين الكبير. جميع بابوات هذا القرن المشرف على نهايته عملوا على نحو ما في هذا الاتجاه. القديس بيوس العاشر، رغبة منه في تجديد كل شيء بالمسيح، سعى إلى تدارك التطورات المأسويّة التي كان يتمخّض بها الوضع الدولي في بدء هذا القرن. وكانت الكنيسة تدرك أن عليها أن تعمل بحزم على توفير ما يؤاتي نعماً أساسية مثل السلام والعدالة، وتدافع عنها في وجه نزعات معاكسة متأصلة في عالم اليوم. وفي هذا السبيل بذل كلّ من بابوات فترة ما قبل المجمع جهوده وبكل تصميم، كل في معالجة مشاكله الخاصة. فكان على بندكتوس الخامس عشر أن يواجه مأساة الحرب العالمية الأولى. وكان على بيوس الحادي عشر أن يجابه مخاطر الأنظمة التوتاليتارية أو تلك التي لا تحترم الحرية البشرية، في ألمانيا وروسيا وإيطاليا وإسبانيا وقبلها المكسيك. وناهض بيوس الثاني عشر الظلم الفادح المتمادي بامتهان الكرامة البشرة الذي كان سائداً طوال الحرب العالمية الثانية، بل إنه أعطى توجيهات واضحة جداً لنشوء نظام عالميّ جديد بعد سقوط الأنظمة السياسيّة السابقة.
وعلاوة على ذلك عاد البابوات في غضون هذا القرن وفي خطى لاوون الثالث عشر، فعالجوا بطريقة منظمة مواضيع التعليم الاجتماعي الكاثوليكي، عارضين ميزات نظام عادل في العلاقات بين العمل ورأس المال، تكفي العودة بالفكر إلى الرسالة العامة “السنة الأربعين” لبيوس الحادي عشر، وإرشادات بيوس الثاني عشر، والرسالة العامة “أم ومعلمة” و“السلام في الأرض” ليوحنا الثالث والعشرين و“ترقي الشعوب” لبولس السادس. ولقد عالجت أنا هذا الموضوع أكثر من مرة، فكرست، الرسالة العامة “في العمل البشري” بنوع خاص لأهمية العمل البشري، بينما أردت في الرسالة “السنة المئة” أن أؤكد على أهمية وقيمة الرسالة العامَّة “الشؤون الحديثة” بعد مضي مئة سنة على صدورها. وكنت في الرسالة العالمة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” قد عرضت مجدداً وبطريقة منظمة كل تعليم الكنيسة الاجتماعي في إطار التناقض القائم بين الكتلتين الشرقية والغربية وخطر حرب نووية. إن عنصري تعليم الكنيسة الاجتماعي – الحفاظ على كرامة الشخص البشري وحقوقه في إطار علاقة صحيحة بين العمل ورأس المال والعمل على تنمية السلام – حاضران في هذا النص متداخلين معاً. وإنما لخدمة قضية السلام تهدف رسالات البابوات السنوية في أول كانون الثاني التي أخذت تصدر منذ سنة 1968 في عهد حبرية بولس السادس.
23- إن العهد الحبري القائم يتحدث منذ أول وثيقة صدرت عنه في اليوبيل الكبير بصراحة، ويدعونا إلى أن نعيش فترة الانتظار “كزمن مجيء جديد” (9). وعاد إلى معالجة هذا الموضوع أكثر من مرة، متوسعاً فيه، بالرسالة العامة “الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم” (10). وقد صارت بالواقع تهيئة سنة الألفين فيه كمفتاح لتحليل الأوضاع. ليس المطلوب ولاشك الانسياق في عقيدة الفيّة جديدة، (Nouveau millénarisme) كما فعل بعضهم في نهاية الألف الأول، إنما المقصود بالعكس هو تركيز الإصغاء بنوع خاص إلى ما يقوله الروح للكنيسة وللكنائس (انظر رؤيا 2 : 7…) وما يقوله أصحاب المواهب القائمون على خدمة الجماعة كلها. والمقصود الأخذ بعين الاعتبار ما يلهمه الروح للجماعات المختلفة، من أصغرها، العيلة، إلى أكبرها كالأمَّة والمؤسسات الدولية، دون إغفال الثقافات والحضارات والتقاليد السليمة. فالبشرية لا تزال رغم الظواهر تنتظر تجلي أبناء الله وتعيش هذا الرجاء مثل مخاض، كما يصورها لنا القديس بولس بمنتهى البلاغة في الرسالة إلى الرومانيين (انظر 8 : 19 – 22).
24- ولقد أصبحت رحلات البابا عنصراً هاماً في العمل على تطبيق تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني. دشّنها يوحنا الثالث والعشرون بالزيارة الهادفة التي قام بها عشية البدء بالمجمع إلى لوريتا وأسيزي (1962)، وتواترت في عهد بولس السادس الذي بعد أن بدأ بزيارة الأرض المقدسة (1964) قام برحلات رسولية كبيرة أخرى قيضت له الاتصال المباشر بسكان مختلف القارات.
وتوسع العهد الحالي كثيراً في برنامج الرحلات هذا، بدءاً بالمكسيك بمناسبة المؤتمر العام الثالث لأساقفة أميركا اللاتينية في بويبلا سنة 1979. وكانت في السنة ذاتها الزيارة لبولونيا في يوبيل السنة التسعمئة لوفاة القديس ستانيسلاس، الأسقف والشهيد.
والمحطات التالية لهذه الرحلات باتت معروفة. وقد أخذت هذه الزيارات طابعاً منظماً ووفرت الاتصال بكنائس خاصة في جميع القارات، مع التركيز بنوع خاص على تنمية العلاقات المسكونية مع المسيحيين من مختلف المذاهب. ومن هذا القبيل أخذت شأناً خاصاً الزيارات لتركيا (1979) وألمانيا (1980) وإنجيلترا مع بلاد الغال واسكتلندا (1982) وسويسرا (1984)، والبلدان السكندينافية (1989) ومؤخراً لبلدان البلطيق (1993).
ومن الأهداف المنشودة جداً للزيارات حالياً، يأتي، عدا سيراييغو في البوسنة – هيرتز غوفين، الشرق الأدنى: لبنان وأورشليم والأرض المقدسة. سيكون لزيارة هذه الأمكنة إذا توفرت لنا معنى كبير لأنها تقوم على طريق شعب الله في العهد القديم: من الأراضي التي جابها إبراهيم وموسى عبر مصر وجبل سيناء إلى دمشق المدينة التي شهدت اهتداء القديس بولس.
25- إن لمختلف الكنائس دوراً تقوم به في تهيئة السنة الألفين: فهي في يوبيلاتها تحتفل بمحطات لها مغزاها في تاريخ خلاص الشعوب المختلفة. في هذه اليوبيلات المحلية أو الإقليمية أحداث لها أهمية قصوى: يوبيل سنة الألف لعماد الروس الذي احتفل به سنة 1988 (11)، ويوبيل السنة الخمسمئة لبدء الكرازة بالإنجيل في القارة الأميركية (1492). وإلى جانب أحداث بمثل هذه الشمولية، لا بدّ من التنويه بأخرى مثلها، وأن لم يكن لها مثل هذه الشمولية فهي لا تقل عنها في مغزاها، مثل يوبيل سنة الألف لعماد بولونيا الذي احتفل به سنة 1966 وعماد المجر (سنة 1968)، ويوبيل سنة الستمئة لعماد ليتوانيا (سنة 1987) وعلاوة على ذلك سيحتفل قريباً بمرور ألف وخمسمئة سنة على عماد كلوفيس ملك الفرنجة (496)، ثم الذكرى السنوية الألف والأربعمئة لوصول القديس أغوسطينوس إلى كنتربوري (597) وتبشير العالم الانكلوسكسوني بالإنجيل.
وفي ما يتعلق بآسيا سيثير اليوبيل ذكرى توما الرسول الذي، حسب التقليد، نادى بالإنجيل منذ عهد المسيحية الأول في الهند، حيث لم يأتِ بعده المرسلون البرتغاليون إلاّ حوالي سنة 1500. وفي هذه السنة يحتفل بالقرن السابع لانتشار الإنجيل في الصين (1294) ونستعد لإحياء ذكرى انتشار العمل الرسولي في الفيليبين بتأسيس الكرسي المتروبوليتاني في مانيلا (1595) والاحتفال بالذكرى المئوية الرابعة للشهداء اليابان الأول (1597).
وفي أفريقيا حيث ترقى البشارة الأولى إلى زمن الرسل، مع الألف وستمئة وخمسين سنة التي مرت على رسامة أسقف الحبشة الأول القديس فرومانس (حوالي 340) والخمسمئة سنة منذ بدء تبشير الإنجيل في انغولا، في مملكة الكونغو القديمة (1491)، إن بلداناً أخرى مثل الكاميرون والشاطئ العاجي، وجمهورية أفريقيا الوسطى والبوروندي، والبوركينو فاسو هي آخذة بالاحتفال بالذكرى السنوية المئة لوصول المرسلين الأولين إلى أراضيها. وبعض البلدان الأفريقية الأخرى احتفلت بهذه الذكرى.
وكيف يمكننا أن لا نأتي على ذكر كنائس الشرق التي ترتبط بطريركياتها العريقة ارتباطاً وثيقاً بالتراث الرسولي وتشكل تقاليدها اللاهوتية و الليتورجية والروحية كنزاً وافر الغنى في أرث المسيحية العام كلها؛ إن الاحتفالات اليوبيلية المتعدّدة في هذه الكنائس وفي الجماعات التي تتعرف فيها على أصلها الرسولي، تذكر بمسيرة المسيح عبر الأجيال، وتنتهي هي أيضاً إلى اليوبيل الكبير في نهاية الألف الثاني.
فعلى ضوء ما تقدم يبدو لنا التاريخ المسيحي كله مثل نهر واحد تصب روافد كثيرة فيه مياهها. إن سنة الألفين تدعونا لأن نلتقي بأمانة متجدّدة وباتحاد أعمق على ضفاف هذا النهر الكبير، نهر الوحي والمسيحية والكنيسة الذي يجتاز تاريخ البشرية انطلاقاً من الحدث الذي جرى في الناصرة ثم في بيت لحم منذ ألفي سنة. إنه حقاً “النهر” الذي “مجاريه تفرح مدينة الله”، على حدّ ما جاء في المزمور (45 : 5).
26- وفي خطّ التهيئة للسنة الألفين تقع أيضاً السنوات المقدسة في هذا القسم الأخير من القرن. إننا لا نزال نذكر السنة المقدسة التي أعلنها البابا بولس السادس سنة 1975، ثم وفي الخط ذاته، احتفل بسنة 1983 بسنة الفداء. وكان للسنة المريمية 1987 – 1988 وقع لربما أقوى أيضاً. كانت منتظرة للغاية وقد عاشتها بحرارة الكنائس المحلية وبخاصة المعابد المريمية في العالم أجمع. وقد أبرزت الرسالة العامة “أم الفادي” التي نشرت بهذه المناسبة التعليم المجمعي عن حضور مريم أم الله في سرّ المسيح والكنيسة. فمن مضي ألفي سنة صار ابن الله إنساناً بقوة الروح القدس مولوداً من العذراء مريم النقيّة. وأتت السنة المريمية مثل احتفال مسبّق باليوبيل: لقد طرقت الكثير من المواضيع التي سيعبر عنها تعبيراً وافياً سنة الألفين.
27- لا يمكننا إلاّ أن لا نلاحظ أن السنة المريمية سبقت بقليل أحداث سنة 1989، أحداث لا يمكن إلاّ أن تثير الدهشة لضخامتها وخاصة للسرعة التي تمَّت فيها. كانت سنوات الثمانين تحمل معها خطراً تنامى بسبب “الحرب الباردة”… سنة 1989 أتت بحلٍّ سلمي ارتدى شكل تطور “عضوي”. وعلى ضوء هذا الحلّ يشعر الإنسان بما يدفعه إلى أن يعترف بالمنحى النبوي، حقاً الذي أخذته الرسالة العامة “الشؤون الحديثة”: فما كتب البابا لاوون الثالث عشر فيها عن الشيوعية تحقق بحذافيره كما أشرت إلى ذلك في الرسالة العامة “السنة المئة” (12). هذا، وقد كان في وسعنا أن نستشعر في ما جرى يد العناية الخفية تعمل باهتمام أمّ: “أتنسى المرأة رضعيها؟” (أشعيا 49 : 15).
لكن ظهرت بعد سنة 1989 مخاطر جديدة وتهديدات جديدة. ففي بلدان الكتلة الشرقية السابقة ظهر، بعد سقوط الشيوعية، خطر القوميات الكبير، كما تُشعر ويا للأسف بذلك أحداث البلقان وغيرها من المناطق المجاورة. الأمر الذي يضطر البلدان الأوروبية إلى فحص ضمير جاد، فتعترف بوقوع أخطاء وأغلاط تاريخية، على الصعيد الاقتصادي والسياسي، بحق أممٍ أغتصبت حقوقها بشكل متواصل أكان على يد إمبرياليات القرن الماضي أم في عصرنا.
28- بعد السنة المريمية نعيش حالياً وفي الاتجاه عينه سنة العيلة. فهي في محتواها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بسر التجسد وبتاريخ الإنسان ذاته. فيمكننا إذن أن نعقد الرجاء على سنة العيلة التي بدأت في الناصرة إنها ستكون، مثل السنة المريمية، محطة جديدة، ذات مغزى في تهيئة اليوبيل الكبير.
وبهذا المعنى وجهت “رسالة إلى الأسَر” عرضت فيها مجدّداً أهمّ ما في تعليم الكنيسة عن العيلة لكي أدخله، إذا جاز القول، في عقر كل دار. ففي المجمع الفاتيكاني الثاني اعترفت الكنيسة بأن إحدى مهماتها أن تبرز ما للزواج والعيلة من كرامة واعتبار (13). وسنة العيلة معنيّة في الإسهام بتحقيق ما ورد في المجمع بهذا الصدد. فمن الواجب إذن أن تمرّ تهيئة اليوبيل الكبير في كل عيلة. أليس إنه بواسطة عيلة شاء ابن الله أن يدخل في تاريخ البشرية؟
رابعاً
التهيئة المباشرة
29- في إطار هذه الرؤيا الشاملة يطرح السؤال الآتي: أمِنَ الممكن التفكير بوضع برنامج معيّن من المبادرات لتهيئة اليوبيل الكبير المباشر؟ إن ما قيل في ما سبق يوفر بالواقع بعض عناصر لبرنامج.
إن النظر بالتفصيل مسبقاً في مبادرات معيّنة، إذا كان لا بدَّ له من أن لا يكون مصطنعاً ولا صعب التحقيق في الكنائس المختلفة، التي تعيش في أحوال مختلفة، يجب أن يكون حصيلة استشارة موسّعة. إنني أعي ذلك جيداً ولذلك أردت أن أسأل في هذا الموضوع رؤساء المؤتمرات الأسقفية وبخاصة الكرادلة.
أنا مدين لأعضاء مجمع الكرادلة إنهم بحثوا في اجتماع لهم فوق العادة في 13 و 14 حزيران 1994، في اقتراحات عديدة حول هذا الموضوع وقدموا توجيهات مفيدة. وأشكر أيضاً إخوتي في الأسقفية الذين لم يَفُتْهم أن يوصلوا إليَّ بطرق مختلفة اقتراحات قدرتها وكانت تجول في خاطري وأنا أكتب الرسالة الحاضرة.
30- ملاحظة أولى تبرز بوضوح من خلال الاستشارة هذه وهي تتعلق بزمن التهيئة. إن بضع سنوات فقط تفصلنا عن السنة الألفين، فحسن في نظرنا أن تنظم هذه الفترة على مرحلتين، على أن يحتفظ بمرحلة التهيئة المباشرة للسنوات الثلاث الأخيرة. فقد ارتؤي أن من شأن مدة أطول كان أن تتراكم فيها مواد العمل وينقص الاهتمام الروحي.
فارتؤي بالتالي أنه من الموافق السير نحو الموعد التاريخي عبر مرحلة أولى يُحسَّس فيها المؤمنون بمواضيع عامة ويرتكز بعدها على التهيئة المباشرة في مرحلة ثانية على مدى ثلاث سنوات مكرسة كلها للاحتفال بسر السميح المخلص.
1) المرحلة الأولى
31- سيكون إذن للمرحلة الأولى طابع التهيئة السابقة فتستخدم لكي تحيي في الشعب المسيحي وعي ما ليوبيل السنة الألفين من قيمة ومعنى في التاريخ البشري، لما يحمل من ذكرى ميلاد المسيح، وما يتضمّن من طابع مسيحاني. فعملاً بترابط الكلمة والسر في الإيمان المسيحي يبدو من الأهمية بِمكان أن نجمع هنا أيضاً في هذه الذكرى الخاصة بين الذكر والاحتفال فلا نكتفي بالتذكير بالحدث على المستوى الفكري فقط، بل نجعل الطابع الخلاصي الذي يرتديه حاضراً بفعل السرّ. فلا بدّ للاحتفال اليوبيلي من أن يعزّز في مسيحيّي اليوم إيمانهم بالله الذي أظهر ذاته في المسيح، ويثبت رجاءَهم الذي يوجّههم نحو انتظار الحياة الأبدية، ويذكي محبتهم التي تحملهم على التفاني في خدمة إخوتهم.
في غضون المرحلة الأولى (من 1994 إلى 1996) سيحرص الكرسي الرسولي، بالتعاون مع لجنة يقيمها لهذا الغرض، على اقتراح بعض المبادئ للتفكير والعمل على المستوى الجامع، فيما تقوم لجان مماثلة في الكنائس المحلية بعمل التحسيس على نحو أدق. فالمطلوب متابعة ما أنجز في أثناء التهيئة البعيدة وبالوقت ذاته التبحُّر في ما يميّز الحدث اليوبيلي تمييزاً خاصاً.
32- اليوبيل هو دائماً زمن نعمة خاصة، “يوم مبارك من الرب”، وبذلك يرتدي، كما سبق وقلنا، طابع الفرح. ولابدّ ليوبيل سنة الألفين من أن يكون صلاة تسبيح وشكر عظيمة خاصة من أجل عطية تجسد ابن الله والفداء الذي تممَّه. وسيتأمل المسيحيون بإعجاب وإيمان متجدّد، طوال سنة اليوبيل، حبّ الآب الذي “بذل ابنه كي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3 : 16). وفضلاً عن ذلك سيرفعون بكل قناعة فعل شكرهم من أجل عطية الكنيسة التي أقامها المسيح “سراً أي علامة ووسيلة معاً للاتحاد الحميم بالله ولوحدة الجنس البشري” (14) وسيشمل فعل شكرهم أخيراً ثمار القداسة الناضجة في حياة عدد عظيم من الرجال والنساء الذين، في كل جيل وكل عصر في التاريخ عرفوا كيف يتقبلون بلا قيد ولا شرط عطية الفداء.
بيد أن فرح كل يوبيل هو بنوع خاص فرح غفران الخطايا، فرح التوبة. لذلك يحسن أن نضع من جديد في المقدمة ما ألّف موضوع مجمع الأساقفة سنة 1984 أي التوبة والمصالحة (15). كان هذا المجمع حدثاً بالغ الأهمية في تاريخ الكنيسة ما بعد المجمع. لقد تناول من جديد المسألة القائمة أبداً، مسألة التوبة، الشرط المسبق للمصالحة مع الله، للأفراد والجماعات على حدٍّ سواء.
33- إنه لحق إذن، والألف المسيحي الثاني مشرف على نهايته، إن تحمل الكنيسة بضمير حيّ خطيئة أبنائها فيما تذكر الظروف التي مرّت بتاريخها، وفيها ابتعدوا عن روح المسيح وعن إنجيله، فقدموا للعالم لا شهادة حياة ملهمة بقيم الإيمان، بل مشهد أساليب للتفكير والعمل كانت بالواقع نماذج شهادة عكسية وعثار.
إن الكنيسة، وإن تكن مقدسة باتحادها بالمسيح، لا تملّ من التوبة لأنها تحمل، أمام الله والناس، مسؤولية أبنائها الخطأة. جاء في الدستور “نور الأمم” في هذا الصدد: “إن الكنيسة التي تحتضن خطأة هي في آنٍ معاً مقدسة ومدعوة إلى أن تتطهر، ولأن تتابع بلا هوادة سعيها في التوبة والتجدّد” (16).
لا بدَّ لبوّابة يوبيل سنة الألفين المقدسة من أن تكون رمزياً أوسع من سابقاتها، فالبشرية، ببلوغها هذا الأجل، تخلّف وراءها لا قرناً واحداً بل عشرة قرون. فيحسن بالكنيسة أن تعبر هذا المجاز وهي واعية وعياً صريحاً ما عاشته على مرّ هذه القرون العشرة الأخيرة. ولا يسعها أن تطأ عتبة الألف الجديد دون أن تحضّ أبناءها على أن يتنقوا بالتوبة من الأخطاء وعدم الأمانة ومن المخالفات ومظاهر التقصير. إن الاعتراف بعثرات الأمس فعل شجاعة وإخلاص يساعدنا على تعزيز إيماننا، الذي يجعلنا نتبيّن تجارب العصر وصعوباته ويؤهبّنا لمواجهتها.
34- وفي عداد الخطايا التي تتطلب القيام بفعل ندامة وتوبة كبير يجب، ولا شك، إدراج تلك التي تنال من الوحدة التي يريدها الله لشعبه. لقد عانى اتحاد الكنائس في الالف سنة الأخيرة أكثر منه في الألف السابق، “وفي بعض الأحيان بسبب كلا الطرفين” (17) من تمزّقات تناقض مناقضة صريحة إرادة المسيح وتشكّل سبب شكّ للعالم (18). إن هذه الخطايا الماضية لا تزال، ويا للأسف، ترهقنا بثقلها وتظل قائمة حتى الوقت الحاضر كتجارب، ومن الضروري أن نكفّر عنها مُلتمِسين غفران المسيح بكل قوانا.
على الكنيسة، في هذا القسم الأخير من الألف سنة أن تتجه بمزيد من الحرارة إلى الروح القدس لتسأله نعمة وحدة المسيحيين. إنها مشكلة موجعة تواجهها الشهادة للإنجيل في العالم. إن مبادرات كثيرة اتخذت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني بكل سخاء وتصميم ويمكن القول أن الروح المسكونية كانت تُلهم كل أعمال الكنائس المحلية والكرسي الرسولي في هذه السنوات الأخيرة. وقد أصبح المجلس الحبري لإنماء وحدة المسيحيين أحد المراكز الرئيسيّة التي ينشط فيها التقدم نحو الوحدة الناجزة.
لكننا نعرف جميعاً أن تحقيق هذا الغرض لا يمكن أن يكون ثمرة الجهود البشرية وحدها مهما كانت الحاجة إليها ملحة. فالوحدة هي في النهاية عطية الروح القدس، ومطلوب منا أن نمهد السبيل لننال هذه العطية، دون الإنسياق وراء التصرفات الطائشة والتلكوء عن الشهادة للحقيقة، بل بالإقبال على ممارسة التوجيهات التي يرسمها المجمع ووثائق الكرسي الرسولي التي تبعته، توجيهات يقدرها حتى الكثيرون من المسيحيين الذين لا يعيشون بالاتحاد الكامل مع الكنيسة الكاثوليكية.
تلك إذن هي إحدى مهمات المسيحيين في مسيرتهم نحو السنة الألفين. إن نهاية القرن العشرين تدعونا جميعاً إلى فحص ضمير ومبادرات مسكونية مجدية، لكي يمكننا أن نظهر في يوم اليوبيل الكبير، وأن غير متحدين اتحاداً كاملاً، فأقلّه أقرب بكثير من التغلب على انقسامات الألف الثاني، الأمر الذي، كما يتضح لكل أحد، يفرض علينا جهداً كبيراً. فلا بدَّ من متابعة الحوار العقائدي، وبالأولى المزيد من الالتزام بالصلاة المسكونية. لقد نشطت هذه الصلاة كثيراً بعد المجمع، لكن لا بدَّ لها من أن تنمو بعد أكثر ويشترك فيها المسيحيون دائماً أكثر بروح الابتهال الكبير الذي صعّده المسيح قبيل آلامه: “… أيها الآب… فليكونوا هم أيضاً فينا واحداً” (يو 17 – 21).
35- ومن الفصول المؤلمة التي لا يسع أبناء الكنيسة إلاّ أن يعودوا إليها بروح الندامة: القبول، خاصة في بعض العصور، بأساليب من عدم التسامح، بل العنف، أيضاً في العمل على خدمة الحقيقة.
صحيح أننا لا نقدر، إذا شئنا أن نحكم في التاريخ حكماً صائباً، أن نعفي أنفسنا من الأخذ بعين الاعتبار تأثير معطيات العصر الثقافية التي جعلت الكثيرين يعتبرون بكل سلامة نية أن الشهادة الصادقة للحقيقة تقتضي إكراه الغير على الصمت أو تهميش رأيهم. وكانت أسباب عديدة تسهم غالباً في خلق أرضيّة مؤاتية لعدم التسامح وتشحن المناخ بعصبيّة. وحدهم بعض أهل فكرٍ عظام متحررين حقاً وممتلئين من الله كانوا ينجحون نوعاً ما بالتخلص منها. بيد أن اعتبار الظروف المخففة لا يعفي الكنيسة من واجب ابداء الأسف العميق لما اعترى مسلك العديد من أبنائها من عورات شوّهت وجهها ومنعته من أن يعكس ملياً وجه ربّها المصلوب، الشاهد الذي لا يضاهى للحبّ الصبور والوداعة المتضعة. من هذه المواقف الأليمة في الماضي نستخلص للمستقبل درساً من شأنه أن يدفع كل مسيحي لأن يتشبّث بالقاعدة الذهبية المحدّدة في المجمع: “الحقيقة لا تفرض نفسها إلاّ بقوة الحقيقة ذاتها، التي تلج الفكر بلطف وقوة معاً” (19).
36- كرادلة وأساقفة كثيرون تمنّوا على كنيسة اليوم خاصة أن تقوم بفحص ضمير جادّ. وأن على المسيحيين، وهم على عتبة ألف جديد، أن يقوموا بتواضع أمام الربّ يسألون أنفسهم في ما تحملوا من مسؤوليات هم أيضاً عما في زمننا من شرور. فإلى جانب الأنوار الكثيرة يعكس العصر الحالي ظلالاً كثيرة.
كيف يمكن السكوت، مثلاً، عن اللامبالاة الدينية التي تؤدي بالعديد من الناس اليوم إلى أن يعيشوا كما لو كان الله غير موجود أو أن يكتفوا من الدين بعاطفة غامضة لا تمكنهم من مواجهة قضايا الحقيقة ولا واجب الالتزام بها. وينبغي أن نضيف أن الناس أضاعوا معنى تفوّق الوجود البشري وأصيبوا بضياع في المجال الخلقي حتى في ما يتعلق بالقيم الأساسية المتصلة باحترام الحياة والعيلة. إن اختباراً يفرض ذاته على أبناء الكنيسة وهو أن يتبَّينوا إلى مدى تأثروا هم أيضاً بجوّ العلمنة والنسبّية الأخلاقية؟ وأي نصيب لهم عليهم أن يعترفوا به هم أيضاً في تنامي اللا دينية لأنهم لم يعكسوا وجه الله الحق “بسبب تعثّر حياتهم الدينية والأخلاقية والاجتماعية” (20).
لا يمكننا بالواقع أن ننفي أن الحياة الروحية تجتاز عند مسيحيين كثيرين مرحلة من الاهتزاز تتأثر بها، ليس فقط حياتهم الأخلاقية، بل صلاتهم أيضاً واستقامة عقيدتهم اللاهوتية التي، إلى جانب الامتحان الذي تتعرض له في مواجهة عصرنا، تُمنى أحياناً بالضياع، تلقيها فيه آراء لاهوتية خاطئة، من أسبابها أزمة الطاعة لسلطة الكنيسة التعليميّة.
وفي ما يتعلق بشهادة الكنيسة في عصرنا، كيف لا نشعر بالألم إزاء ما عند مسيحيين كثيرين من نقص في البصيرة يتحول أحياناً إلى موافقة حقيقية على انتهاك حقوق الإنسان الأساسية من قبل أنظمة استبداديّة؟ ثم أليس علينا أن نأسف، وسط ما يكتنف حاضرنا من ضلال، لمشاركة العديد من المسيحيين بالمسؤولية في مظاهر خطيرة من الظلم والتهميش الاجتماعي؟ بحيث يمكننا التساؤل عن مدى اطلاعهم في العمق على توجيهات تعليم الكنيسة الاجتماعية واستقامة تعاطيهم معها.
ولا يسع فحص الضمير أن يغفل مسألة تقبُّل المجمع، هبة الروح القدس العظيمة للكنيسة في نهاية الألف الثاني. فبأي قدر أصبحت كلمة الله على وجه أكمل روح علم اللاهوت وملهمة الوجود المسيحي كما يطلب الدستور في الوحي الإلهي؟ وهل تعاش الليتورجيا “كينبوع الحياة الكنسيّة وقمّتها” حسب تعليم الدستور في الليتورجيا المقدسة؟ هل نرى تعليم الكنيسة في الاتحاد حسب الدستور “نور الأمم” يتعزز في الكنيسة الجامعة وفي الكنائس الخاصة. بإعطاء المكان الموافق للمواهب والخدم وسائر أشكال مشاركة شعب الله دون الانزلاق مع ذلك في نوع من الديمقراطية والاشتراكية التي لا تراعي رؤيا الكنيسة الكاثوليكية ولا روح الفاتيكاني الثاني الأصيل؟ وثمة أيضاً مسألة حيويّة هي نمط العلاقات بين الكنيسة والعالم: إن التوجيهات المجمعية، الواردة في الدستور “فرح ورجاء” وسواها من الوثائق الداعية إلى حوار منفتح يقوم على الاحترام والمودّة، مع ما يقتضيه من الفطنة والشهادة الجريئة للحقيقة، تبقى قائمة تحثنا على بذل المزيد من الجهد.
37- كنيسة الألف الأولى ولدت من دم الشهداء: “دم الشهداء زرع المسيحيين” (21). وما كانت الأحداث التاريخية المتصلة بشخص قسطنطين الكبير لتؤمّن للكنيسة نموّاً مثل الذي تحقق في الألف الأول لولا بذور الشهادة وتراث القداسة التي تميزت بها الأجيال المسيحية الأولى. وفي نهاية الألف الثاني صارت الكنيسة مجدداً كنيسة الشهداء. فقد أدت الاضطهادات المثارة على المؤمنين، كهنة ورهباناً وعلمانيين، إلى زرع وفير من الشهداء في شتى أنحاء العالم. وأصبحت الشهادة المؤداة للمسيح حتى الدم تراثاً مشتركاً بين الكاثوليك والارثوذكس والإنجليكان والبروتستان، كما سبق فأشار إليه بولس السادس في عظته بمناسبة إعلان قداسة الشهداء الاوغنديين (22).
إنها شهادة يجب ألاّ تُنسى. لقد عملت كنيسة القرون الأولى، رغم ما كان يعترضها من صعوبات في تنظيم أحوالها، على تدوين شهادات الشهداء في كتب سير الشهداء، سير كانت تخضع لعمليات ضبط على مرّ العصور، وفي قائمة القديسين والطوباويين في الكنيسة أدرجت أسماء، لا الذين أراقوا دمهم في سبيل المسيح وحدهم، بل أيضاً أسماء معلمي الإيمان ومرسلين ومعترفين وأساقفة وكهنة وعذارى ومتزوجين وأرامل وأولاد.
إن عصرنا سجَّل عودة الشهداء، وهم في الغالب مجهولون “كالجنود المجهولين” في قضية الله. فيجب على قدر الإمكان تجنب ضياع شهادتهم في الكنيسة. وكما أشار بذلك مجمع الكرادلة الأخير، يجب أن تبذل الكنائس المحليّة كل جهد لئلا تترك ذكر الذين أدّوا شهادة الدم يضيع، وتجمع في هذا السبيل كل الوثائق اللازمة، الأمر الذي لا يمكن إلاّ أن يأخذ طابعاً مسكونياً بليغاًَ. مسكونية القديسين الشهداء هي لربما الأكثر اقناعاً. فصوت اتحاد القديسين أقوى من صوت دعاة الشقاق، وسيرة الشهداء الأولين كانت الأساس في تكريم القديسين. فالكنيسة في إعلان وتكريم قداسة أبنائها وبناتها كانت تؤدي التكريم السامي إلى الله نفسه، وفي الشهداء كانت تكرم المسيح منبع شهادتهم وقداستهم. وجرت فيما بعد عادة إعلان قداسة القديسين القائمة حتى اليوم في الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الارثوذكسية، وقد تكاثرت إعلانات القداسة والتطويبات في هذه السنوات الأخيرة، وهي تعبّر عن حيوية الكنائس المحلية التي هي اليوم أكثر منها بكثير في الأجيال الأولى والألف الأول. إن أعظم تكريم تؤديه الكنائس كلها للمسيح على عتبة الألف الثالث يقوم بإظهار حضور الفادي الكلي القدرة عبر ثمار الإيمان والرجاء والمحبّة في رجال ونساء من مختلف اللغات والأجناس تبعوا المسيح في شتى أشكال الدعوة المسيحية.
سيعود لأمر الكرسي الرسولي، في إطلالة الألف الثالث، أن تُلقى الأضواء على سِيَر الشهداء للكنيسة الجامعة مولياً عظيم الانتباه لمن، في عصرنا، عاشوا ملء حقيقة المسيح. وبنوع خاص جداً ينبغي التركيز على الاعتراف ببطولة فضائل رجال ونساء حققوا دعوتهم المسيحية في الزواج: فإننا في اقتناعنا بأن ثمار القداسة لا تنقص هذه الحالة، نشعر بالحاجة لأن نجد الوسائل الأوفق للتنويه بهم وتقديمهم للكنيسة كلها كأمثلة وحوافز لغيرهم من الأزواج المسيحيين.
38- وأشار الكرادلة والأساقفة إلى حاجة أخرى: الحاجة إلى مجامع على صعيد القارات، بعد تلك التي عقدت لأوروبا ولإفريقيا. لقد وافق مؤتمر الأساقفة الأخير الأميركي اللاتيني على اقتراح عقد مجمع أساقفة للأميركين حول مشكلة الكرازة الجديدة بالإنجيل في جزئي القارة المختلفة جداً بالمنشأ والتاريخ، لمعالجة قضايا العدالة والعلاقات الاقتصادية الدوليّة، مع الأخذ بعين الاعتبار الفرق الكبير بين الشمال والجنوب.
ويبدو أن مؤتمراً على مستوى القارة الآسيوية يكون مناسباً لاسيّما حيث تبرز أكثر منها في أي مكان مسألة لقاء المسيحية مع الثقافات والأديان المحلية القديمة العهد. هناك تحدٍّ كبير لكرازة الإنجيل، فإنّ أنظمة دينية كالبوذية والهندوسية ترتدي بصراحة طابعاً خلاصياً. لذلك فإنَّ من الملّح عقد مؤتمر بمناسبة اليوبيل الكبير لتوضيح التعليم في المسيح الوسيط الأوحد بين الله والناس وفادي العالم الأوحد، والتعمق في هذا التعليم للتمييز بينه وبين مؤسسي الأديان الأخرى الكبيرة التي تجد فيها الكنيسة مع ذلك عناصر من الحقيقة تنظر إليها باحترام صادق إذ تجد فيها قبساً من الحقيقة التي تنير كل الناس (23). في سنة الألفين يجب أن يدوّي بقوة متجدّدة إعلان الحقيقة: “اليوم ولد لنا مخلص العالم”.
وأوقيانيا أيضاً يمكن أن تفيد من مجمع إقليمي. ففي هذه القارة يقيم، إلى جانب سكان آخرين، الشعوب الأصليون الذين يذكّرون بصفة فريدة، ببعض ملامح بشر ما قبل التاريخ. ففي هذا المجمع، علاوةً على سائر مشاكل القارة، يجب أن لا تهمل قضية لقاء المسيحية مع هذه الأشكال من التدّين القديمة جداً التي تأخذ، وهذا ما يلفت النظر، منحىً توحيدياً.
2) المرحلة الثانية
39- انطلاقاً من حملة التوعية هذه الواسعة سيكون بالإمكان حينئذٍ مواجهة المرحلة الثانية، مرحلة التهيئة بالمعنى الخاص، وستمتد على ثلاث سنوات، من سنة 1997 إلى 1999، سنوات ثلاث لا يمكن بنية البحث فيها، المرّكز على المسيح ابن الله المتأنس، إلاّ أن تكون لاهوتية، أعني ثالوثية.
السنة الأولى: يسوع المسيح
40- السنة الأولى (1997) ستكون إذن مكرسة للتفكير في المسيح، كلمة الله الذي صار إنساناً بفعل الروح القدس. ينبغي إبراز طابع اليوبيل المسيحاني الصريح، ففيه يحتفل بتجسد ابن الله، سر خلاص الجنس البشري “يسوع المسيح المخلّص العالم الأوحد أمس واليوم وإلى الأبد” (انظر عبر 13 : 8).
ومن بين مبادئ الخريستولوجيا (التعليم في المسيح) المثارة في مجمع الكرادلة تبرز الآتية: اكتشاف المسيح المخلص والمبشّر بالعودة من جديد وبنوع خاص إلى الفصل الرابع من إنجيل لوقا، حيث يلتقي موضوع المسيح المرسل ليعلن البشارة مع موضوع اليوبيل: التعمق في سرّ تجسده وولادته من حشا مريم البتولي، وضرورة الإيمان به لأجل الخلاص. ومن أجل معرفة هوية المسيح الحقيقية يجدر بالمسيحيين، خاصة في هذه السنة، أن يعودوا إلى الكتاب المقدس باهتمام متجدّد، “سواء من خلال الليتورجيا المقدسة المرتوية بكلمة الله، أم من قراءة تقوية، أم دروس متخصّصة أم أيّ وسائل أخرى” (24). ففي النص الموحى هو الآب السماوي من يأتي بحبٍّ إلى لقائنا ويتحدث معنا ويكشف لنا طبيعة ابنه الوحيد وقصده الخلاصي في البشرية (25).
41- في غضون هذه السنة يمكن أن يستند العمل على إحياء الأسرار الذي تكلمنا عنه سابقاً، إلى اكتشاف العماد من جديد كأساس للوجود المسيحي، على حد قول الرسول: “أنتم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غلا 3 : 27). تعليم الكنيسة الكاثوليكية المسيحي يذكر من ناحية بأن “العماد هو أساس الاتحاد بين المسيحيين” جميعاً بمن فيهم أيضاً الذين ليسوا بعد في ملء الاتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية” (26). لذلك ستكون لنا من الوجهة المسكونية سنة مهمة جداً لكي نوجّه معاًَ نظرنا نحو المسيح، الذي هو الرب وحده، ونعمل على أن نصير واحداً فيه حسب صلاته إلى الآب. وإذا ركّزنا على المسيح وكلمة الله والإيمان، فلن نفشل في إثارة اهتمام مسيحيي المذاهب الأخرى وموقفهم الإيجابي.
42- ويجب أن نوجّه كل ذلك نحو هدف اليوبيل الأول وهو تعزيز إيمان المسيحيين وشهادتهم. فمن الضروري إذن أن نثير عند جميع المؤمنين توقاً حقيقياً إلى القداسة، والتضامن في احتضان القريب وبخاصة الأكثر عوزاً.
وتكون السنة الأولى إذن زمناً مؤاتياً لاكتشاف الكرازة من جديد بمعناها الأصيل وقيمتها الأولى “كتعليم الرسل” (أعمال 2 : 42)، حول شخص يسوع المسيح وسر خلاصه. وفي هذا السبيل سيكون مفيداً للغاية التعمق بتعليم الكنيسة الكاثوليكية المسيحي الذي يعرض “بأمانة وأصالة تعليم الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة الحي وتعليم السلطة الكنسية الصحيح، مع تراث آباء وقديسي وقديسات الكنيسة الروحي، بغية إدراك السر المسيحي إدراكاً أفضل وإنعاش إيمان شعب الله” (27). ويقضي الاهتمام بالواقع أن لا يُغفل عن تنوير ضمير المؤمنين في ما يتعلق بالأضاليل المحاكة حول شخص المسيح. فَيُوَّضح بدقة ما يثار عليه وعلى الكنيسة من اعتراضات.
43- إن البتول القديسة التي ستكون حاضرة طوال هذه المرحلة الإعدادية بطريقة، إذا جاز القول، جانبية، ستكون موضوع تأمل وصلاة في سرّ أمومتها الإلهية. ففي حشاها صار الكلمة جسداً. لذلك فالتأكيد على مركز المسيح الأساسي (من سرّ خلاصنا) لا يمكن أن نفضله عن الاعتراف بالدور الذي لأمّه القديسة. والتعبد لها، إذا صحّ فهمه، لا يمكن بأي شكل أن ينال من “كرامة المسيح الوسيط الأوحد ومن فعل وساطته” (28)، فمريم بالفعل تقدّم دائماً ابنها الإلهي للمؤمنين وتقدم لهم ذاتها مثالاً للإيمان الحيّ. “إن الكنيسة بتأملها في مريم بكل تقوى على نور الكلمة المتجسد، تلج في صميم سر التجسد وتصير كل يوم أكثر مشابهة لعروسها” (الإلهي) (29).
السنة الثانية: الروح القدس
44- السنة 1998، الثانية من المرحلة الإعداديّة، ستكون مكرسة للروح القدس وحضوره المقدَّس في داخل جماعة تلاميذ المسيح. “إن اليوبيل الكبير الذي سيختم الألف الثاني – كما كتبت في الرسالة العامّة “الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم” – […] له وجه يحمل طابع الروح، بما أنّ سرّ التجسد تمّ “بالروح القدس”. كان لذلك فعل الروح المساوي للآب والابن بالجوهر، الكائن في سرّ الله المطلق الواحد والمثلث، أقنوم الحبّ، العطية غير المخلوقة، الينبوع الأبدي لكل عطية تأتي من الله على صعيد الخلق، والمبدأ المباشر للشركة التي يقيمها الله مع البشر على صعيد النعمة، وهو هو هذه الشركة، بالذات. وهذه العطية وهذه الشركة التي يقيمها الله تبلغ في سر التجسد ذروتها” (30).
لا يسع الكنيسة أن تستعد ليوم الألف الثاني “إلاّ في الروح القدس”. وما “في ملء الأزمنة” تمَّ بالروح القدس لا يمكن الآن أن يعيش في ذاكرة الكنيسة إلا بواسطته” (31).
فالروح هو الذي يحيي في كنيسة كل الأزمنة والأمكنة الوحي الذي هو وحده أتى به الناس، ويجعله حياً وفاعلاً في نفس كل إنسان: “البارقليط، الروح القدس الذي يرسله أبي باسمى هو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو 14 : 26).
45- في أولى مهمات التهيئة لليوبيل إذن تندرج مهمة اكتشاف حضور الروح وفعله من جديد. هو في الكنيسة يعمل بواسطة الأسرار وبخاصة سر التثبيت أو بواسطة المواهب المختلفة والأدوار والخدمات الخاصة التي يوجدها لخير الكنيسة: “واحد هو الروح الذي يوزع عطاياه المتنوعة لخير الكنيسة حسب غنى خيراته وعلى قدر ما تتطلب الخدمات” (انظر 1 قور 12 : 1 – 11) وفي ما بين هذه العطايا تحتل النعمة المعطاة للرسل المكان الأول. فالروح نفسه يخضع لسلطتهم أصحاب هذه المواهب (انظر 1 قور 14). والروح ذاته، مبدأ الوحدة في الجسد (السري) حيث تعمل قدرته ويحقق الترابط الداخلي بين الأعضاء، هو الذي ينشئ وينعش المحبة بين المؤمنين” (32).
والكرازة الإنجيلية في عصرنا هي عمل الروح قبل كل شيء. فمن المهمّ إذن أن نعود فنكتشف في الروح ذلك الذي يبني ملكوت الله عبر التاريخ، ويهيء تجليه الكامل في يسوع المسيح، منعشاً الناس في الباطن، ومنمياً في حياة البشر بذور الخلاص النهائي الآتي في نهاية الزمن.
46- ومن وجهة النظر المَعَاديّة (eschatologique) هذه، سيدعى المؤمنون إلى أن يكتشفوا من جديد فضيلة الرجاء الإلهية، هذا الرجاء ” الذي سمعوا به من قبل بكلمة الحق بالبشارة” (كولوسي 1 : 5). إن فضيلة الرجاء الأساسية تدفع بالمسيحي من جهة إلى أن لا تغيب عن بصره الغاية الأخيرة التي تعطي وجوده كل معناه وقيمته، وتعطيه من جهة أخرى دوافع ثابتة وعميقة للإلتزام يومياً بتحويل واقع الحياة فيجعله مطابقاً لقصد الله.
“فإننا نعلم، كما يذكر بولس الرسول، أن الخليقة كلها مازالت إلى اليوم تئن بأوجاع المخاض، لا هي وحدها فقط، بل نحن أيضاً الذين لنا باكورة الروح نئن في داخلنا منتظرين نعمة التبنيّ فداء أجسادنا، لأننا بالرجاء مخلصون” (روم 8 : 22 – 24).
المسيحيون مدعوون للاستعداد ليوبيل بدء الألف الثالث الكبير بإحياء رجائهم في مجيء ملكوت الله النهائي، يهيئونه يوماً يوماً في حياتهم الداخلية، وفي الجماعة المسيحية التي إليها ينتمون، وفي المجتمع الذي ينتمون إليه وفي تاريخ العالم.
ويجدر بنا عدا ذلك أن نقيّم علامات الرجاء القائمة في نهاية هذا القرن ونتعمّق فيها، برغم الإظلال التي في الغالب تحجبها عن عيوننا: ما تحقق في الحقل الاجتماعي من تقدم بواسطة العلم والتقنية، وبخاصة الطب، لخدمة الحياة البشرية، تزايد الشعور بالمسؤولية تجاه البيئة، الجهود المبذولة لإحلال السلام والعدالة حيثما انتهكا، إرادة المصالحة والتضامن بين مختلف الشعوب وبخاصة العلاقات المعقدة بين الشمال والجنوب… وفي الحقل الكنسي الإصغاء بحسٍّ مرهف لصوت الروح بقبول المواهب وتشجيع العلمانيين، التفاني في العمل من أجل قضية وحدة جميع المسيحيين، الأهميّة المخوَّلة، للحوار مع الأديان والثقافة المعاصرة (33).
47- يجب أن يركز المؤمنون تفكيرهم طوال سنة التهيئة الثانية وبانتباه خاص، على ما للوحدة من شأن في داخل الكنيسة، وهذا ما تهدف إليه العطايا والمواهب المختلفة التي ينعشها الروح فيها. ويجدر في هذا الصدد التعمق في تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني في الكنيسة كما ورد خاصة في الدستور العقائدي “نور الأمم”. تلحَّ هذه الوثيقة بصراحة على أن وحدة جسد المسيح ترتكز على عمل الروح، تضمنها الخدمة الرسولية ويسندها الحب المتبادل (انظر 1 قور 13 : 1 – 8) مثل هذا التعمق في تعليم الإيمان لا يمكنه إلاّ أن يؤدي بأبناء شعب الله إلى المزيد من النضج في وعي مسؤولياتهم، وإلى شعور أرهف بقيمة الطاعة الكنسيّة (34).
48- ستكون مريم، التي حبلت بالكلمة المتجسد بالروح القدس وانقادت لإلهاماته طوال حياتها، موضوع تأمل وقدوة لنا في هذه السنة بنوع خاص، مريم المرأة الأمينة، امرأة الصمت والإصغاء، امرأة الرجاء التي عرفت مثل إبراهيم أن تقبل إرادة الله “راجية خلاف كل رجاء” (روم 4 : 18). وقد بلغت بتوق المساكين للرب إلى ملئه، مثالاً مشعّاً للذين من كلّ قلبهم يضعون ثقتهم بمواعيد الله.
السنة الثالثة: الله الآب
49- السنة 1999، السنة الإعدادية الثالثة والأخيرة، ستكون لتوسيع آفاق المؤمنين، وفق نظرة المسيح بالذات: نظرته إلى “الآب الذي في السماوات” (انظر متى 5 : 45) الذي منه أتى وإليه يعود (انظر يوحنا 16 : 28).
“الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق والذي أرسلته يسوع المسيح” (يوحنا 17 : 3). الحياة المسيحية كلها هي مسيرة حجّ كبيرة نحو بيت الآب، الذي نتبين كل يوم حبَّه المطلق لجميع خلائقه البشرية، وبنوع خاص “للابن الضال” (انظر لوقا 15 : 11 – 32) مسيرة حجّ تعني كل إنسان في حياته الباطنية، وتنتظم فيها الجماعة المؤمنة وتشمل البشرية بأسرها.
وهكذا يغدو اليوبيل بتركيزه على شخص المسيح، فعل تسبيح عظيم للآب: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا في المسيح بكل بركات الروح في السماء واختارنا منه قبل إنشاء العالم لنكون أمامه قديسين لا عيب فينا في المحبة” (1: 3 – 4).
50- وفي هذه السنة الثالثة لا بدّ لاتجاه “مسيرتنا نحو الآب” من أن يدفعنا جميعاً إلى أن نسلك، بالاتحاد مع المسيح فادي الإنسان، خط سير إلى توبة صادقة، لها وجه “سلبي”، التحرر من الخطيئة، ووجه “إيجابي”، طلب الخير الذي تعبر عنه القيم الأخلاقية التي تتضمنها الشريعة الطبيعية ويثبتها الإنجيل. إنما في هذا الإطار يجدر بنا أن نعود فنكتشف سر التوبة ونحتفل به بحرارة في أعمق معانيه. إن المناداة بالتوبة كضرورة يفرضها الحب المسيحي لها شأن خاص في المجتمع الحاليّ حيث الأسس ذاتها لمفهوم أخلاقي في الوجود البشري تبدو وكأنها في الغالب غائبة عن الأبصار.
فينبغي لنا إذن بنوع خاص هذه السنة أن نبرز فضيلة المحبة الإلهية ذاكرين تأكيد يوحنا الجامع الرائع في رسالته الأولى على “أن الله محبة” (4 : 8 – 16) أن المحبّة بوجهها المزدوج: حب الله وحب الإخوة، تختصر سيرة المؤمن الأخلاقية، ففي الله منبعها وإليه مآلها.
51- من وجهة النظر هذه وفيما نذكر أن يسوع أتى “ليبشر المساكين” (متى 11 : 5 ولوقا 7 : 22)، كيف يمكن ألاّ ننوّه بخيار الكنيسة المفضّل للفقراء والمنبوذين؛ بل نذهب إلى القول أن الالتزام بالعدالة والسلام، في عالم مثل عالمنا الموصوم بمثل كل هذه النزاعات وبفوارق اجتماعية واقتصادية لا تطاق، هو مظهر مميّز لتهيئة اليوبيل والاحتفال به. على المسيحيين، انسجاماً منهم مع روح سفر الأحبار (25 ك 8 – 28)، أن يكونوا صوت جميع فقراء العالم، فيقترحوا أن يكون اليوبيل وقتاً مناسباً للتفكير مثلاً بتخفيض هام، أن لم يكن اسقاط عام، للديون الدولية التي تضغط بثقلها على مصير أمم كثيرة. ويمكن لليوبيل أيضاً أن يوفر فرصة للتأمل في غير ذلك من تحدّيات هذا العصر، كالصعوبات التي يصطدم بها الحوار بين الثقافات المختلفة والمشاكل المتصلة باحترام حقوق المرأة وتعزيز شأن العيلة والزواج.
52- هذا، وفيما نذكر أن “المسيح عندما يكشف لنا سر الآب وحبه يبيّن للإنسان من هو حقاً ويكشف له دعوته السامية”، يتحتم علينا خاصة في سنة التهيئة الثالثة العمل في حقلين هما: مواجهة تيار العلمنة Sécularisme والحوار مع الأديان الكبرى.
في ما يختص بالنقطة الأولى يجدر بنا أن نتناول بالبحث موضوع أزمة الحضارة كما ظهرت خاصة في الغرب المتطور كثيراً على الصعيد التكنولوجي (التقني)، والمتخلّف داخلياً لنسيانه الله أو تهميشه. ويجب أن نردّ على أزمة الحضارة هذه بحضارة المحبة القائمة على القيم الشاملة: السلام والتضامن والعدالة والحرية التي تجد في المسيح كمالها.
53- أمّا في ما يتعلق بالمسألة الدينية فسيكون لنا من عشية السنة الألفين ظرف مناسب أيضاً على ضوء أحداث الحقبات الأخيرة للحوار بين الأديان طبقاً للتعليمات الواضحة الصادرة عن المجمع الفاتيكاني الثاني في البيان عن علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية.
يجب أن يكون لليهود والمسلمين في هذا الحوار مكان مميّز. قدَّرنا الله على تثبيت استقامة نياتنا بعقد لقاءات مشتركة في أماكن لها، لدى الأديان الكبيرة الموحدّة، شأنها الخاص.
وسيُنظر من أجل ذلك في إمكانية تهيئة لقاءات تاريخية في بيت لحم وأورشليم وجبل سينا، وهي أمكنة لها مدلول رمزي رفيع، في سبيل تنشيط الحوار مع اليهود والمسلمين، ولقاءات أيضاً مع ممثلي الأديان العالمية الكبيرة في مدن أخرى. لكن يجب أن نكون دائماً على حذر لئلا نتسبّب في سوء تفاهم خطر، ساهرين على تجنّب “التوفيقية” syncrétisme و”الايرينية” irénisme السهلة والخداعة.
54- في وسط هذه المجموعة من الاهتمامات تبدو العذراء القديسة مريم في نظر المؤمنين المثال الكامل لحب الله والقريب. كما تعلن هي نفسها في نشيد “تعظم نفسي” الرب: “القدير صنع بي العظائم واسمه قدوس”، فالآب اختار مريم لرسالة فريدة في تاريخ الخلاص: أن تكون أم المخلّص المنتظر. وقد تجاوبت العذراء مع دعوة الله بطواعية تامة: “أنا أمة الرب” (لوقا 1 : 38). أمومتها التي بدأتها في الناصرة وعاشتها بأسمى معانيها في أورشليم عند الصليب، سيرى فيها هذه السنة كل أبناء الله “دعوة محبّة” وحارة للعودة إلى بيت الآب لدى سماع صوتها صوت الأم تقول لهم: “افعلوا ما يقوله المسيح لكم” (انظر يوحنا 2 : 5).
3) في سبيل الاحتفال
55- إن الاحتفال بالليوبيل الكبير يشكل فصلاً قائماً بذاته: سيتمّ في الأرض المقدسة وروما والكنائس المحلية بالعالم كله في آنٍ معاً. في هذه المرحلة خاصة، مرحلة الاحتفال، يكون الهدف تمجيد الثالوث الذي منه يأتي وإليه يتجه كل شيء في العالم والتاريخ. إن سنوات التهيئة المباشرة الأولى تصبّ في اتجاه هذه السر: من المسيح وبالمسيح في الروح القدس نحو الآب. وفي هذا المعنى يحقق الاحتفال اليوبيلي ويستبق معاً الغاية من حياة المسيحي والكنيسة في الله وتتميمها.
لكن لما كان المسيح هو وحده السبيل المؤدي إلى الآب، ولإبراز حضوره الحيّ والمخلّص في الكنيسة والعالم، سينعقد في روما، بمناسبة اليوبيل الكبير، المؤتمر القرباني العالمي. ستكون السنة الألفين سنة إفخارستيا مكثّفة: إن المخلص المتجسد في حشا مريم منذ عشرين قرناً يظل في الإفخارستيا يقدم ذاته للبشرية كينبوع للحياة الإلهية.
إن لقاءً مسيحياً شاملاً يمكن أن يكون مؤاتياً لإبراز ما لليوبيل المقدس من بعد مسكوني وشامل. تلك مبادرة ذات شأن عظيم. لذلك، وتجنباً للالتباسات الممكنة، يجب أن يتم عرض اللقاء بشكل سليم وبعد إعداد دقيق، بروح التعاون الأخوي مع مسيحيي المذاهب و التقاليد الأخرى، وبروح الانفتاح والعرفان نحو الأديان الأخرى التي يريد ممثلوها أن يظهروا اهتمامهم بطرح جميع تلاميذ المسيح.
ما هو مؤكد أن كل إنسان مدعوّ لأن يبذل ما في وسعه لئلاّ نتخلّف عن تحدي السنة الألفين الحاملة بلا ريب نعمة خاصة من الربّ للكنيسة والبشرية.
خامساً
“يسوع المسيح هو هو… إلى الأبد”
(عبر 13 : 8)
56- الكنيسة قائمة منذ ألفي سنة كحبة الخردل الإنجيلية، فتنمو وتصير شجرة كبيرى قادرة على أن تظلل بأغصانها البشرية كلها (أنظر متى 13 : 31 – 32) إن المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائدي في الكنيسة ينطلق من نظرته في مسألة الإنتماء للكنيسة والدعوة إلى شعب الله ليصرح بما يلي: “إلى وحدة شعب الله الجامعة هذه […] جميع البشر هم مدعوون. إلى هذه الوحدة ينتمي أو يدعى، بأنواع مختلفة، المؤمنون الكاثوليك وجميع المؤمنين بالمسيح على حد سواء، ثم أخيراً وبشكل عام، جميع البشر الذين هم بنعمة الله مدعوون إلى الخلاص” (35). ويوضح بولس السادس من جهته في الرسالة العامة في الكنيسة أن البشر جميعاً داخلون في تصميم الله، مشيراً إلى وجود حقول مختلفة للتخاطب في قضية الخلاص (36).
استناداً إلى هذه النظرة يمكننا أن نفهم فهماً أفضل مثل الخمير (متى 13 : 33). فالمسيح، الخمير الإلهي، يخمّر دائماً وعلى نحو أعمق حاضر الحياة البشرية، معمّماً عمل الخلاص الذي تمّ في السر الفصحي، جامعاً في ملكوت خلاصه أيضاً كل ماضي الجنس البشري، ابتداءً من آدم الأول (37). فالمستقبل له: “يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عبر 13 : 8). والكنيسة من جهتها “لا تنشد إلاّ غاية واحدة: أن تتابع بقيادة الروح القدس عمل المسيح نفسه الذي أتى إلى العالم ليشهد للحق، ليخلص لا ليدين، ليَخدم لا ليُخدم” (38).
57- لذلك ومنذ أيام الرسل، تتواصل رسالة الكنيسة بلا انقطاع في داخل العائلة البشرية جمعاء. الكرازة الأولى طالت بنوع خاص بلدان البحر المتوسط. وفي الألف الأول انطلقت رسالات من روما والقسطنطينية ناشرة المسيحية في القارة الأوروبية بأسرها، وتوجهت في الوقت ذاته إلى قلب آسيا، حتى الهند والصين. وباكتشاف أميركا في نهاية القرن الخامس عشر كان بدء تبشير هذه القارة الكبيرة من الجنوب إلى الشمال. وفي والوقت ذاته أيضاً، وفيما كانت سواحل صحراء أفريقيا تستقبل نور المسيح، كان القديس فرنسيس كسفاريوس، شفيع الرسالات، يمضي برسالته حتى اليابان. وما بين القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر حمل علماني اسمه اندريه كيم، المسيحية إلى كوريا، وفي ذلك الزمن بلغت كرازة الإنجيل شبه جزيرة الهند الصينية، ومثلها أوستراليا وجزر المحيط الهادي.
وعرف القرن التاسع عشر نشاطاً رسالياً كبيراً بين شعوب أفريقيا وقد حملت جميع هذه الأعمال ثماراً تدوم حتى يومنا، والمجمع الفاتيكاني ينوّه بها في القرار المجمعي “إلى الأمم” في النشاط الرسالي. وبعد المجمع عولجت مسألة الرسالة في الرسالة العامة “رسالة الفادي”، التي تناولت مشاكل الرسالات في الحقبة الأخيرة من هذا القرن. وستواصل الكنيسة الرسالة في المستقبل أيضاً، فالطابع الرسالي هو من خواص طبيعتها. وبعد سقوط الأنظمة الكبيرة المناهضة للمسيحية في القارة الأوروبية، النازية ومن بعدها الشيوعية، يتحتم السعي الملحاح لإبلاغ رجال أوروبا ونسائها رسالة الإنجيل المحرّرة (39). لاسيّما وأننا نواجه اليوم في العالم، كما تؤكد الرسالة “رسالة الفادي”، حالة تشبه تلك التي كانت في ساحة أثينا (الآريوباغوس) حيث تناول القديس بولس الكلام (40). عندنا اليوم ساحات “آريوباغوس”، عديدة: هي حقول الحضارة المعاصرة والثقافة والسياسة والاقتصاد الرحبة. فكلما انقطع الغرب عن جذوره المسيحية صار حقل رسالة، على شكل ساحة “الآريوباغوس”.
58- إن مستقبل الكنيسة والعالم هو بيد الأجيال الطالعة المولودين في هذا القرن وسيبلغون النضج في غضون القرن الأول الآتي في الألف الجديد. المسيح ينتظر الشبيبة كما كان ينتظر الشاب الذي طرح عليه السؤال: “ماذا ينبغي لي أن أفعل لأنال الحياة الأبدية (متى 19 : 16). وقد عدت إلى الجواب الرائع الذي ردّ به عليه يسوع، في الرسالة العامَّة الأخيرة “تألق الحقيقة” وفي الرسالة إلى شبيبة العالم كلها لسنة 1985. لا تنفك الشبيبة في كل الأحوال وفي كل جهات الأرض تسأل المسيح: إنهم يلاقونه ويطلبونه ليظلوا يسألونه. فإذا عرفوا أن يسلكوا الطريق الذي يدلهم عليه يكون لهم فرح المساهمة بحضوره في الجيل الآتي وسائر الأجيال حتى انقضاء الدهر. “يسوع هو هو أمس واليوم وإلى الأبد”.
59- الخلاصة: إنه ليجدر بنا أن نستعيد هذا الكلام الوارد في الدستور الرعوي “فرح ورجاء”: “الكنيسة تؤمن بأنّ المسيح المائت والقائم من أجل الجميع، ينفح الإنسان، بواسطة روحه، نوراً وقوةً لكي يتمكن من تلبية دعوته السامية. وتؤمن بأن ليس تحت السماء اسم آخر أعطي للبشر به يخلصون. وتؤمن أيضاً بأن مفتاح كل تاريخ بشري ومحوره وغايته في ربها ومعلمها. وتؤكد عدا ذلك، أن في غمرة التقلبات أموراً ثابتة جذورها متأصّلة في المسيح، الذي هو أمس واليوم وإلى الأبد. لذلك وعلى نور المسيح صورة الله غير المنظور وبكر كل خليقة، يعتمد المجمع التوجه إلى جميع البشر لكي يخرج سر الإنسان إلى النور، ويدلي بمساهمته في السعي إلى إيجاد حلّ لمشاكل عصرنا الرئيسية (41).
وفيما أدعو المؤمنين لأن يرفعوا إلى الرب الصلوات الحارة لكي ينالوا منه النور والعون اللازمين لتهيئة اليوبيل الذي أصبح وشيكاً وللاحتفال به، أحث إخوتي المحترمين بالأسقفية والجماعات الكنسية الموكولة إليهم على أن يفتحوا قلوبهم لإلهامات الروح. والروح لن يتوانى عن الهام النفوس لتتهيأ للاحتفال بالحدث اليوبيلي الكبير بكل سخاء وغيرة متجددة.
إنني أعهد بمهمة الكنيسة كلها هذه إلى شفاعة مريم أم الفادي، و”أم المحبة الجميلة”، إنها ستكون للمسيحيين في مسيرتهم نحو الألف الثالث النجمة التي تقود خطاهم بثبات إلى لقاء الربّ. فلتوجّه عذراء الناصرة الوديعة، التي منذ ألفي سنة أعطت العالم كله الكلمة المتجسد، بشرية الألف الجديد نحو من هو “النور الحق الذي ينير كل إنسان” (يوحنا 1 : 9).
وبهذه المشاعر أمنح الجميع بركتي.
عن الفاتيكان في 10 تشرين الثاني 1994 السنة السابعة عشرة لحبريتي.
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) العظة الرابعة للقديس برناردس في مديح السيدة العذراء S.Bernard, In Laudibus Virginis Matris, Homilia IV, 8, Opera omnia, edit. Cisterc. (1966), 53.
2) دستور راعوي، فرح ورجاء، وثيقة مجمعية، 22.
3) المرجع نفسه.
4) العاديَّات اليهوديّة، للمؤرخ فلافيوس يوسيفوس Ant. Iud. 20, 200, et aussi 18, 63 – 64, passage bien connu et si discuté.
5) حوليات المؤرخ تاسيتوس Annales, 15, 44, 3
6) سيرة الإمبراطور كلوديوس Vita Claudii, 25, 4
7) رسائل المؤرخ بلينوس الأصغر Epist. 10, 96
8) دستور عقائدي في الوحي الإلهي، كلمة الله، وثيقة مجمعية، 15.
9) رسالة الفادي، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، 4 / 3 / 1979، أعمال الكرسي الرسولي 71 AAS 71 (1979), p. 258
10) الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم Dominum et vivificantem ، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، 49، وما يليه، أعمال الكرسي الرسولي AAS 78 (1986), pp. 868 et suivantes.
11) “اذهبوا إلى العالم”، رسالة رسولية Euntes in mundum (25 / 1 / 1988): أعمال الكرسي الرسولي AAS 80 (1988), pp. 935 – 956.
12) السنة المئة، 1 / 5 / 1991، أعمال الكرسي الرسولي، AAS 83 (1991), pp. 807 – 809.
13) دستور راعوي، فرح ورجاء، وثيقة مجمعية، 47 – 52.
14) دستور عقائدي، نور الأمم، وثيقة مجمعية، 1.
15) إرشاد رسولي، التوبة والمصالحة، (2 / 12 / 1984): أعمال الكرسي الرسولي AAS 77 (1985), pp. 185 – 275
16) دستور عقائدي، نور الأمم، وثيقة مجمعية، 8.
17) استعادة الوحدة، وثيقة مجمعية، 3.
18) المرجع نفسه، 1.
19) الكرامة البشرية، في الحرية الدينية، وثيقة مجمعية، 1.
20) دستور راعوي، فرح ورجاء، وثيقة مجمعية، 19.
21) ترتوليان، مجموعة الآباء اللاتين Tertullien, Apol., 50, 13: CCL I, 171.
22) أعمال الكرسي الرسولي AAS, 56 (1964), p. 906
23) في عصرنا، وثيقة مجمعية، في العلاقة بين الكنيسة والأديان غير المسيحية Nostra aetate ، 2.
24) دستور عقائدي، في الوحي الإلهي، كلمة الله، 25.
25) المرجع نفسه.
26) كتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 1271.
27) دستور رسولي، وديعة الإيمان Fidei depositum (11 / 10 / 1992): أعمال الكرسي الرسولي AAS 86 (1994), p. 116.
28) دستور عقائدي، نور الأمم، وثيقة مجمعية، 62.
29) المرجع نفسه، 65.
30) الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم، 18 / 5 / 1986، 50: أعمال الكرسي الرسولي، AAS 78 (1986), pp. 869 – 870
31) المرجع نفسه، 51: AAS 78 (1986), p. 871
32) دستور عقائدي، نور الأمم، وثيقة مجمعية، 7.
33) المرجع نفسه، 37.
34) دستور راعوي، فرح ورجاء، وثيقة مجمعية، 22.
35) دستور عقائدي، نور الأمم، وثيقة مجمعية، 13.
36) كنيسته، Ecclesiam suam رسالة عامة للبابا بولس السادس، (6 / 8 / 1964)، الفصل الثالث: أعمال الكرسي الرسولي: AAS 56 (1964), pp. 650 – 657
37) المرجع نفسه، 2.
38) دستور راعوي، فرح ورجاء، وثيقة مجمعية، 3.
39) بيان مجمع الأساقفة، الجمعية الخاصة لأجل أوروبا، 3.
40) رسالة الفادي، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، 7 / 12 / 1990، 37، ج: AAS 83 (1991), pp. 284 – 286
41) دستور راعوي، فرح ورجاء، وثيقة مجمعية، 10.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post