في روح الغضب
القديس يوحنا كاسيان
يفتتح القديس يوحنا كاسيان كتابه “في روح الغضب” بالكشف عن خطورة الغضب، إذ يصيب البصيرة الداخلية، فيفقدنا قدرتنا على رؤية الأمور كما ينبغي:
– لا نستطيع أن نحرز الحكمة، ولا يكون لنا الحكم السليم على الأمور، لأن “الغضب مستقر في حضن الجهال” (جا 10:7 ).
– لن نستطيع أن نكون شركاء في الحياة، أو داعين للبرّ، أو حتى يكون لنا قدرة على تلقي نور الروح الحقيقي، لأن أعيننا يربكها ظلام الغضب.
– لا نستطيع إدراك الحياة الأبدية، لأن “الغضب يهلك ذوي الحصافة” (أم 2:15).
– لن يتيسر لنا إحراز قوة البرّ، حتى إن كنا كاملين وطاهرين في نظر الجميع، لأن “غضب الإنسان لا يصنع برّ الله” (يع 20:1).
– لن نستطيع أن ننال التقدير والإجلال اللذين كثيرًا ما نشاهدهما حتى في أبناء العالم، ولو كنا بمولدنا من طبقة الأشراف والنبلاء، لأن “الإنسان الغاضب مُحتقر” (أم 23:11).
– لن نستطيع إحراز الفكر الناضج حتى إن توهم الناس أننا ذوو أهمية بالغة، لأن “السريع الغضب يعمل بالحمق” (أم 27:4).
– لا نستطيع التخلص من القلاقل الخطرة أو ننجو من الخطية حتى ولو لم تحل بنا أية قلاقل من الآخرين، لأن الرجل الغضوب يهيج الخصام والرجل السخوط كثير المعاصي” (أم 29:22).
يبرر البعض غضبهم بما ورد في الكتاب المقدس أن الله نفسه “يغضب”، وهم يخطئون إذ يفسرون مثل تلك العبارات حرفيًا، بينما لا يحمل الله انفعالات بشرية، إذ هو “حب”!
هل يجوز علاج أخطاء الغير بالغضب؟
يقول القديس يوحنا كاسيان: [ينبغي على من يريد أن يشفي جرح شخصٍ ما أن يكون سليمًا معافى لا يشكو من أي ضعف، لئلا توجه إليه عبارة الإنجيل: “أيها الطبيب اشف نفسك” (لو 23:6)، ولئلا وهو يرى القذى في عين أخيه لا يرى الخشبة التي في عينه. إذ كيف سيرى حتى يخرج القذى من عين أخيه، ذاك الذي في عينه خشبة الغضب؟ (مت 7: 3-5).]
تقديم القرابين والغضب
[إذ كنا كثيرًا ما نمتهن اخوتنا الذين نؤذيهم ونحزنهم ونستصغر شأنهم، ونقول إننا لم نضرهم بأي خطأ من جانبنا، فإن شافي النفوس، المطّلع على جميع أسرارنا، لرغبته الكاملة في أن يبدد من قلوبنا كل أثرٍ للغضب، لا يوصينا فقط بأن نغفر لمن يسيئون إلينا، ونصالح اخوتنا، وألا نحتفظ في ذاكرتنا بأية إساءة أو تعديات ارتكبوها ضدنا، إنما يكلفنا أيضًا بأننا إذا شعرنا بأن لهم أيّ شيء ضدنا، سواء كانوا على حق أو على غير حق، أن نترك قرباننا.
بمعنى أن نرجئ صلواتنا ونسارع أولاً لاسترضائهم ومصالحتهم، وعندما يتم علاج هذا الأخ نستطيع عندئذ أن نقدم قربان صلواتنا دون عيب، لأن الرب إله الجميع لا يعنيه كثيرًا قرابيننا قدر ما يعنيه فقده شخصٍ ما، بسبب تركنا للسخط يتحكم فينا. لأن خسارة أيّ إنسان يصيب الله، إذ هو يريد ويبحث عن خلاص جميع خدامه بخط واحد لا يتغير.]
اعتزال الناس ليس علاجًا للغضب
في معالجته للخطايا يوجه القديس يوحنا كاسيان أنظارنا، لا إلى التصرفات الظاهرة، بل إلى جذور الخطية الكامنة في أعماق القلب، حتى نهتم بملء الفراغ الداخلي خلال الحب الإلهي. يقول: [مادمنا نحَّمل الآخرين وزر خطأنا، لن نستطيع قط أن نبلغ بغيتنا في الكمال والقدرة على الاحتمال.]
[هكذا في حالة الذين يبتغون الكمال، لا يكفي ألا يغضبوا من الناس، فإننا نذكر أننا حين كنا نعيش في عزلة، كان يتسلل إلى نفوسنا شعور الغضب ضد القلم الذي نستعمله لزيادة طوله أو زيادة قصره، أو ضد المطواة لعدم حدتها، أو ضد حجر القداحة إذا طارت منه شراره تعطلنا عن المطالعة. فلا نتخلص من اضطراب ذهننا بسبب مادة جامدة أو الشيطان.
وهكذا باطلاً نظن بلوغ الكمال لعدم وجود من يثيرون غضبنا. فمادام لم يتم نوال الصبر فإن مشاعر السخط التي مازالت كامنة في قلوبنا يمكن إطلاق العنان لها ضد جماد أو شيء تافه، ولا تتيح لنا بلوغ حالة دائمة من السلام، أو التخلص من رواسب سقطاتنا، اللهم إلا إذا اعتقدنا أننا قد نحرز بعض النفع،
ونحقق لونًا من الشفاء من انفعالاتنا، إزاء الواقع من أن الأشياء العديمة النطق والحياة لا تستطيع الرد على سبنا لها وسخطنا عليها أو أن تدفع نوبات غضبنا المطلقة العنان لأن تنفجر في ثورة عارمة مخبولة أسوأ وأنكي.]
يقول القديس أوغريس:
[عندما يثار الجزء القابل للإثارة في النفس، لسبب أو آخر، تقدم لنا الشياطين “التوحد” كنصيحة نافعة، لكي به ننزع عنا أسباب الضيق، لكننا لا نكون قد تحررنا (داخليًا) من دافع الغضب.
وبالعكس عندما تلتهب الشهوة فينا، تحركنا الشياطين نحو حب الناس (حب الاختلاط بهم)، وتصوّر لنا الانعزال عنهم بربرية وقسوة، وذلك لكي نلتقي بأجساد أخرى فنشتهيها. فليتنا لا نصدق الشياطين في شىء، مجاهدين بكل طاقتنا ضد ما تمليه علينا[2].]
الغضب المقدس والغضب الشرير
يقول القديس يوحنا كاسيان:
[لابد من التسليم بأنه ثمة فائدة للغضب قد غرست ببراعة فينا، وهي وحدها التي تستطيع أن توفر لنا النفع والإفادة، ذلك مثلاً عندما نغضب ونسخط على نجاسات قلوبنا، وعندما نتضايق جدًا لأن الأشياء التي نخجل من فعلها أو ذكرها أمام الناس قد أخذت لها من حنايا قلوبنا بؤرة ووكرًا، إذ نرتعد عند حضور الملائكة وفي حضرة الله نفسه، الذي يخترق أستار كل شئ في كل مكان، ويشتد فزعه لعلمه أن أسرار قلوبنا لا يمكن أن تُخفى عليه.]
[“لا تغرب الشمس على غيظكم ولا تُعطوا إبليس مكانًا” (أف26:4). فإن كان من الخطر أن تغرب شمس البر على غيظنا، وإذا كنا حينما نغضب نُعطى مكانًا لإبليس في قلوبنا، فكيف إذن يطلب إلينا أن نغضب قائلاً: “اغضبوا ولا تخطئوا”؟
أليس من الواضح أنه يعني “اغضبوا على سقطاتكم وحدّة طباعكم”؟ لئلا إذا استسلمتم لها يشرع المسيح شمس البر في الغروب عن عقولكم المظلمة، وحين ينصرف عنكم تصبح قلوبكم مرتعًا لإبليس؟]
ويقول القديس أوغريس:
[عمل الغضب الطبيعي هو شن الحرب ضد الشياطين والصراع ضد كل نوع من أنواع اللذة الشريرة.
فالملائكة تحثنا نحو اللذة الروحية، وتجعلنا نتذوق بركاتها، وتوجّه غضبنا ضد الشياطين.
وأما الشياطين فتجذبنا نحو الشهوات الأرضية، حتى تجعلنا نستخدم الغضب ضد الناس، الأمر الذي يخالف الطبيعة، وهكذا إذ تختل الطبيعة يظلّم (القلب) ويصير مستهينًا خائنًا للفضائل[3].]
[الغضب أسرع كل أنواع الشهوات. فإن الإنسان يثور ويلتهب ضد من أساء إليه أو من يبدو كمن قد أساء إليه.
(أ) الغضب يقسي النفس شيئًا فشيئًا.
(ب) والغضب يأسر العقل أثناء الصلاة ويورد حالاً للذاكرة صورة المعتدى.
(ج) وفي بعض الأحيان يتباطأ الغضب في النفس فينشأ عنه عداوة في القلب.
(د) والغضب يسبب الأحلام (المقلقة)، فيصور له العذابات الجسيمة ومخاوف الموت وهجمات الحيات السامة والوحوش.
هذه المظاهر الأربعة تصاحب ميلاد العداء، وتجلب أفكارًا كثيرة كما يلاحظ كل إنسان واعٍ لنفسه[4].]
القمص تادرس يعقوب ملطي
الفصل الأول
كيف أن رابع صراع لنا موجه ضد خطية الغضب، وكيف أنها تلد شرورًا كثيرة
في رابع قتال لنا لابد من استئصال سم الغضب القاتل من أعماق نفوسنا. فإنه مادام له وجود في قلوبنا، طامسًا بظلامه المؤذي عيون نفوسنا، لا نستطيع أن نحرز الحكمة، ولا يكون لنا الحكم السليم على الأمور. ولا ننال البصيرة النفّاذة التي تنبعث من التفرس الأمين أو المشورة الصالحة المختبرة.
كما أننا لن نستطيع أن نكون شركاء في الحياة، أو داعين للبر، أو حتى يكون لنا قدرة على تلقي نور الروح الحقيقي، لأن أعيننا، على حد قول أحد الناس، يربكها ظلام الغضب.
كذلك لن نستطيع أن نكون شركاء في الحكمة، حتى إن أجمع الناس على اعتبارنا حكماء، لأن “الغضب مستقر في حضن الجهال” (جا : 10:7 ).
ولا نستطيع إدراك الحياة الخالدة على الرغم من اشتهارنا بالحصافة بين الناس، لأن “الغضب يهلك ذوي الحصافة” (أم 2:15).
أيضًا لن يتيسر لنا بعدالة القلب الصافية إحراز قوة البر الضابطة حتى ولو كنا كاملين طاهرين في نظر الجميع، لأن “غضب الإنسان لا يصنع برّ الله” (يع 20:1).
كذلك لن نستطيع على أي وجه أن ننال التقدير والإجلال اللذين نشاهدهما كثيرًا حتى في أبناء العالم، إن كنا بمولدنا من طبقة الأشراف والنبلاء، لأن “الإنسان الغاضب محتقر” (أم 23:11).
أيضًا لن نستطيع إحراز الفكر الناضج حتى لو توهم الناس أننا ذوو أهمية بالغة، لأن “السريع الغضب يعمل بالحمق” (أم 27:4). كما لا نستطيع التخلص من القلاقل الخطرة أو ننجو من الخطية حتى إن لم تحل بنا أية قلاقل من الآخرين، لأن الرجل الغضوب يهيج الخصام والرجل السخوط كثير المعاصي” (أم 29:22).
الفصل الثاني
فيمن يقولون أن الغضب غير مؤذٍ إذا غضبنا على المخطئين، مادام الغضب قد ينسب إلى الله ذاته
لقد سمعنا البعض يحاولون تبرير هذا المرض البالغ الضرر الذي يلحق بالنفس، ملتجئين إلى طريقة منفّرة في تفسير الكتاب المقدس لهذا التبرير، كقولهم بأنه ليس من الضرر في شيء أن نغضب على إخوتنا الذين يخطئون، مادام الله ذاته، على حد قولهم، قد ذُكر عنه أنه يسخط ويغضب على أولئك الذين لم يعرفوه أو عرفوه ثم رفضوه،
وفقًا للنص: “فحمي غضب الرب على شعبه، وكره ميراثه”، أو وفقًا لكلمات النبي وهو يصلي قائلاً: “يا رب لا توبخني بغضبك، ولا تؤدبني بغيظك” (مز 6: 1)، غير مدركين أنهم إذ يريدون تلمس الأعذار لارتكاب خطية بالغة الأذية، ينسبون إلى العزة الإلهية ومصدر كل نقاء إحدى وصمات الانفعال البشري.
الفصل الثالث
في تلك الأشياء التي نسبت إلى الله كتشبيه بالإنسان
لأن هذه الأشياء التي تُقال عن الله إذا فُسرت حرفيًا بصورة مادية يمكننا القول أيضًا أنه ينام وفقًا للنص: “استيقظ يارب لماذا تتغافى” (مز 23:44)، مع أنه قيل عنه في مكان آخر: “إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل” (مز 121: 4).
وأنه يقف ويجلس إذ يقول: “السموات كرسيَّ والأرض موطئ قدميّ” (إش 1:66)، مع أنه “كال بكفه المياه وقاس السموات بالشبر”. وهو “معيط من الخمر” حسب قوله “واستيقظ الرب كنائم، كجبار معيط من الخمر” (مز 65:78)، في حين أنه هو “الذي وحده له عدم الموت، ساكنُا في نور لا يُدنى منه” (1 تي 16:6).
ولا داعي لذكر “الجهل” و”النسيان” اللذين كثيرًا ما يرد ذكرهما في الكتاب المقدس. وأخيرًا وصف أعضاء الجسد التي نُسبت إليه كما لو كان إنسانًا، كالشعر والرأس والأنف والعينين والوجه واليدين والذراعين والأصابع والبطن والقدمين. إذا عمدنا إلى أخذها جميعًا وفق معناها الحرفي العادي، فيلزمنا أن نفكر في الله بما يتفق مع صورة الأعضاء وشكل الجسم، وهذا أمر بشع حقًا حتى مجرد الكلام عنه، ويتحتم أن نستبعده تمامًا عن أفكارنا.
الفصل الرابع
بأي معنى ينبغي أن ندرك العواطف والأعضاء البشرية المسندة إلى الله غير المتجسد ولا متغير
لا يمكن – دون تجديف – تفسير هذه الأشياء حرفيًا عنه، وهو الذي أعلن، بنص الكتاب المقدس، أنه غير مرئي، لا يُعبر عنه، غير مدرَك، غير مفحوص، بسيط، غير مركب. إذن لا يمكن إسناد نزعة الغضب والسخط إلى تلك الطبيعة غير المتغيرة دون تجديف فظيع، إذ علينا أن ندرك أن الأعضاء تعني قدرات الله وأعماله غير المحدودة، التي لا يمكن تمثيلها لنا إلا بالوصف المعتاد للأعضاء. فينبغي أن ندرك أن الفم معناه منطوقاته التي، من رحمته علينا، تنسكب دائمًا في حواس النفس الخفية، أو التي تكلم بها بفم الآباء والأنبياء.
وأن العينين يعنيان الطبيعة غير المحدودة لبصره الذي يرى ويخترق به أستار كل شيء، ولهذا لا يُخفي عليه شيء صنعناه أو يمكن أن نصنعه أو حتى ما يُساورنا من أفكار. وأن اليدين ترمزان لعنايته وعمله اللذين بهما خلق جميع الأشياء وأبدعها. وأن الذراعين يرمزان لقدرته وسلطته، بهما يرفع ويحكم ويضبط جميع الأشياء. ناهيك بأشياء أخرى، كشعر رأسه الأشيب مثلاً، الذي لا يعني سوى خلود الله ودوامه، فهو أزلي لا بداية لوجوده، إذ هو قبل كل الأزمان، وهو يعلو جميع المخلوقات.
حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعال أو شائبة. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأشياء الظالمة التي ترتكب في هذا العالم.
وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المجازي المخوف عن أعمالنا، وإن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.
فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم. بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون تمام الإنصاف في أحكامهم، ولكن بينما هم في غمرة من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحق وإنصاف.
سيكون مبعثا للملل وخارجًا عن نطاق عملنا الحاضر، لو أننا شرحنا جميع الأشياء التي قيلت مجازًا عن الله في الكتاب المقدس بصورٍ بشرية، لهذا نكتفي لتحقيق غرضنا الحاضر الموجَّه ضد خطية الغضب بما قلناه من أنه ما من أحدٍ، بسبب الجهل، ينتزع لنفسه سببًا لهذا الشر والموت الأبدي من تلك الأسفار المقدسة، التي ينبغي أن يُبحث فيها عن القداسة والخلود كأدوية شافية لنوال الحياة والخلاص.
الفصل الخامس
كيف ينبغي أن يكون الراهب هادئًا
يجب على كل راهب ينشد الكمال ويرغب في أن يجاهد قانونيًا في قتاله الروحي، أن يتخلص من خطية الغضب والسخط بأكملها، وأن ينصت للتحذير الذي يُوجهه إليه “الإناء المختار”، قائلاً: “ليُرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث” (أف 31:4). وحين يقول:
“ليُرفع من بينكم كل غضب” لا يستثني أحدًا مهما كان، لما تقتضيه الضرورة أو لما هو نافع لنا، وإذا احتاج الأمر، فينبغي فورًا أن يُعالج أي أخ مخطئ بطريقة لا يكون من شأنها أن تجعله شبيهًا بشخصٍ راح يعالج مريضًا بحمى خفيفة فورط نفسه بغضبه وسخطه فيما أدى به إلى فقد بصره وبصيرته.
ذلك لأنه ينبغي على من يريد أن يشفي جرح شخصٍ ما أن يكون سليمًا مُعافى لا يشكو من أي ضعف، لئلا توجه إليه عبارة الإنجيل: “أيها الطبيب اشف نفسك” (لو 23:6)، ولئلا وهو يرى القذى في عين أخيه لا يرى الخشبة التي في عينه. إذ كيف سيرى حتى يخرج القذى من عين أخيه، ذاك الذي في عينه خشبة الغضب؟ (مت 7: 3-5).
الفصل السادس
في نزَعتي الغضب البارة والأثيمة
تنبعث عاطفة الغضب هائجة من كل سبب تقريبًا، فتطمس عينيْ النفس، وإذ تصيب بصرنا بخشبة مميتة لمرض أشد سوءً، تمنعنا من رؤية شمس البرّ. ليس ثمة فارق في أن يكون لوح من رصاص أو ذهب أو أي معدن تشاء هو الموضوع فوق جفوننا، لأن قيمة المعدن لا تختلف في تأثيرها على ما يصيبنا من عمى.
الفصل السابع
في الحالة الوحيدة التي يكون فيها الغضب نافعًا لنا
لابد من التسليم بأنه ثمة فائدة للغضب قد غرست ببراعة فينا، وهي وحدها التي تستطيع أن توفر لنا النفع والإفادة، ذلك مثلاً عندما نغضب ونسخط على نجاسات قلوبنا، وعندما نتضايق جدًا لأن الأشياء التي نخجل من فعلها أو ذكرها أمام الناس قد أخذت لها من حنايا قلوبنا بؤرة ووكرًا، إذ نرتعد عند حضور الملائكة وفي حضرة الله نفسه، الذي يخترق أستار كل شئ في كل مكان، ويشتد فزعه لعلمه أن أسرار قلوبنا لا يمكن أن تُخفى عليه.
الفصل الثامن
أمثلة من حياة داود الطوباوي كان فيها شعور الغضب مبررًا
على أي وجه (هذا هو الحال) حين ننفعل ضد هذا الغضب ذاته، لأنه تسلل إلينا ضد أحد اخوتنا، وحين ننتزع ضروب إثارته المميتة ونحن ساخطون، ولا نسمح له أن يتخذ من حنايا قلوبنا وكرًا له. يعلمنا ذاك النبي أن يكون غضبنا على هذا النمط، ولذلك أبعده تمامًا عن قلبه، ومن ثم لم يرد أن يثأر من أعدائه الذين أوقعهم الرب في يده، حيث يقول: “اغضبوا ولا تخطئوا” (مز5:4).
لأنه حين اشتاق إلى الماء من بئر بيت لحم، واستحضره له رجاله الأشداء والذين أتوا به مخترقين ربوات جيش العدو، سكبه فورًا على الأرض، وهكذا في غضبه أخمد شعور شهوته للذة، وأراقها من أجل الرب، دون أن يشبع لهفته، التي كان قد أفصح عنها قائلاً: “حاشا لي يا رب أن أفعل ذلك، هذا دم الرجال الذين خاطروا بأنفسهم” (2صم17:23)…
وحين رشق شمعي بالحجارة داود، وسبَّه على مسمع منه أمام الجميع. وأراد أبيشاي بن صروية قائد الجيش أن يقطع رأسه ويثأر عن سبِّه للملك، ثار داود الطوباوي في سخط ورع ضد هذا الاقتراح البشع، وفي تواضعٍ جمٍ وصبرٍ حازمٍ قال وهو هادئ رابط الجأش:
“مالي ولكم يا بني صروية، دعوه يسب، لأن الرب قال له سب داود، ومن يقول لا تفعل هكذا؟! هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني؟ دعوه يسب لأن الرب قال له. لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيرًا عوض سبته بهذا اليوم” (2صم 10:16-12).
الفصل التاسع
في الغضب الذي ينبغي أن يوجه ضد أنفسنا
الوصية موجهة للبعض بأن “يغضبوا” على نمط سليم، بمعنى أن يوجهوا الغضب إلى أنفسهم وإلى أفكارهم الشريرة التي تبرز، “وألا يخطئوا”، بأن يوجهوها مثلاً وجهة رديئة. وأخيرًا فالآية التالية تفسر هذا المعنى بكل وضوح “الذي تقولونه في قلوبكم اندموا عليه في مضاجعكم” (مز5:4)، أي أن كل ما تفكرون فيه بقلوبكم، عندما تداهمكم الانفعالات المتوترة المفاجئة أصلحوها بالحزن النافع، ثم ارقدوا على فراش الراحة، وطاردوا بتأثير المشورة الصالحة كل صخب السخط وعجيجه.
وأخيرًا فإن الرسول المبارك حين استشهد بهذه الآية قائلاً: “اغضبوا ولا تخطئوا” أضاف إليها: “لا تغرب الشمس على غيظكم ولا تُعطوا إبليس مكانًا” (أف26:4). فإن كان من الخطر أن تغرب شمس البر على غيظنا، وإذا كنا حينما نغضب نُعطى مكانًا لإبليس في قلوبنا، فكيف إذن يطلب إلينا أن نغضب قائلاً:
“اغضبوا ولا تخطئوا”؟ أليس من الواضح أنه يعني “اغضبوا على سقطاتكم وحدّة طباعكم”؟ لئلا إذا استسلمتم لها يشرع المسيح شمس البر في الغروب عن عقولكم المظلمة، وحين ينصرف عنكم تصبح قلوبكم مرتعًا لإبليس؟
الفصل العاشر
في الشمس التي قيل أنه ينبغي ألا تغرب على غيظكم
عن هذه الشمس نطق الوحيّ الإلهي على لسان النبي قائلاً: “ولكن أيها المتّقون اسمي، تشرق شمس البرّ والشفاء في أجنحتها” (مل 2:4). أيضًا يُقال أنها “تضرب” في منتصف النهار على الخطاة والأنبياء الكذبة وأولئك الذين يغضبون حين يقول النبي: “إني أغيب شمسهم في الظهر” (عا 9:8).
على أية حال فإن العقل أو القوة العاقلة، التي تسمى بحق الشمس، لأنها تشرق على جميع الأفكار وإشراقات القلب، يجب عدم إطفائها بخطية الغضب، لئلا عند “غروبها” تتسلل ظلال الانزعاج في صحبة إبليس منشئها، إلى قلوبنا وتملأ حناياها، وإذ تطمسها ظلال الغضب كأنها ظلام الليل الحالك لا نعلم ماذا ينبغي أن نفعل.
هذا المعنى هو الذي دعانا أن نقدم هذه الفقرة من أقوال الرسول، التي تسلمناها من تعاليم الآباء، لأن الحاجة كانت تدعو، ولو بالتعرض لبحث مطول، لبيان مدى شعورهم فيما يتعلق بالغضب، لأنهم لا يصرحون، ولو إلى لحظة واحدة أن نجعله يلج إلى قلوبنا، ملتزمين بعناية بالغة قول الإنجيل المقدس: “كل من يغضب على أخيه يكون مستوجب الحكم” (مت22:5). أما إذا كان الغضب حتى الغروب مباحًا، فإن فيض سخطنا وانتقام غضبنا سيتمكنان من إطلاق عنان انفعال عارمٍ خطر قبل أن تميل تلك الشمس نحو الغروب.
الفصل الحادي عشر
فيمن لا يضع غروب الشمس ذاته حدًا لسخطهم
ماذا أقول عن الذين لا يضع غروب الشمس ذاته حدًا لحقدهم، بل يطيلونه بضعة أيام، ويغذون شعور الغل والكراهية في أنفسهم ضد الذين أثاروهم، وعلى الرغم من ذلك يقولون أنهم غير غاضبين، لكنهم في الواقع وبالفعل مضطربون إلى حد الإسراف؟ (لا أستطيع ذكر ذلك دون أن أشعر بالعار من جانبي)… لأنهم لا يتكلمون معهم بلطفٍ ولا يلتزمون بأبسط قواعد المجاملة عند مخاطبتهم لهم، ويظنون أنهم لا يخطئون بهذا التصرف. لأنهم لا ينشدون الأخذ بالثأر عن مضايقتهم.
إن كانوا لا يتجاسرون على ذلك، أو على أي وجهٍ لا يقدرون على الإفصاح عن غضبهم، وإطلاقه من محبسه، فإنهم يمتصون سم الغضب ويرعونه سرًا داخل قلوبهم، مسيئين إلى أنفسهم أبلغ إساءة، دون محاولة لتنقية عقولهم من هذه النزعة العابسة المتبرمة، لكنهم بمرور الأيام يهضمونها في أحشائهم، وبعد حين تتلطف حدتها نوعًا ما.
الفصل الثاني عشر
كيف أن خاتمة المطاف فيما يتعلق بنوبات الغضب هي أن تستبد بالمرء فيطلق لها العنان
يبدو أن هذا ليس هو خاتمة المطاف لكل إنسانٍ، لكن البعض يستطيعون فقط إشباع سخطهم واستيائهم إذا هم أفصحوا عن ثورة الغضب ما استطاعوا. وهذه كما نعلم هي حالة الذين يكبتون مشاعرهم، لا بغية تهدئتها، إنما لعدم سنوح فرصة الانتقام، ذلك لأنهم غير قادرين أن يفعلوا شيئًا للساخطين عليهم سوي إغفال قواعد المجاملة المعتادة عندما يخاطبونهم،
أو يبدو أن الغضب لا يتيسر تلطيفه إلا بالفعل فحسب، دون استئصاله من مكمنه الخفي في صدورنا. هكذا في قتام ظلاله السوداء نعجز ليس فقط عن تقبل النصيحة الرشيدة والمعرفة الصحيحة، بل نخفق أيضًا عن أن نكون هيكلاً للروح القدس، مادام روح الغضب ساكنًا فينا، ولكن السخط الذي يتربع ويتغذى داخل القلب، مع أنه قد لا يؤذي الواقفين عن كثب، فإنه يطمس بهاء تألق الروح القدس، كالسخط الذي يطلق له العنان سواء بسواء.
الفصل الثالث عشر
في أنه من واجبنا ألا نستبقي غضبنا حتى ولو لحظة واحدة
كيف يمكننا الاعتقاد أن الرب قد يسمح باستبقائه ولو إلى لحظة واحدة، في حين أنه لا يأذن لنا أن نقدم قرابين صلواتنا الروحية إذا تذكرنا أن ثمة أحدًا يشعر بمرارة من نحونا قائلاً: “فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح، واذهب أولاً: اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك” (مت23:5،24).
كيف إذن نظل مخاصمين أخًا لنا؟ لن أقول لبضعة أيام، بل حتى إلى غروب الشمس، مادم غير مصرح لنا برفع صلواتنا إلى الله بينما يوجد من له شيء علينا؟ ومع ذلك فالرسول يوصينا قائلاً: “صلوا بلا انقطاع” (1تس17:5). وأيضًا: “في كل مكان رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال” (1تي8:2).
إذن إما أننا لا نصلي على الإطلاق، محتفظين بهذا السم في قلوبنا، ونصبح مذنبين فيما يتعلق بهذه الوصية الرسولية أو الإنجيلية التي أُمرنا بها أن نصلي في كل مكان ودون انقطاع، وإلا إن تجاسرنا على تقديم صلواتنا، خادعين أنفسنا، وغير آبهين بوصيته، فلزامًا علينا إدراك أننا لا نقدم أية صلوات لله، إنما نقدم سلوكًا عنيدًا بروح متمردة.
الفصل الرابع عشر
في مصالحة إخوتنا
إذ كنا كثيرًا ما نمتهن اخوتنا الذين نؤذيهم ونحزنهم ونستصغر شأنهم، ونقول إننا لم نضرهم بأي خطأ من جانبنا، فإن شافي النفوس، المطّلع على جميع أسرارنا، لرغبته الكاملة في أن يبدد من قلوبنا كل أثرٍ للغضب، لا يوصينا فقط بأن نغفر لمن يسيئون إلينا، ونصالح اخوتنا، وألا نحتفظ في ذاكرتنا بأية إساءة أو تعديات ارتكبوها ضدنا، إنما يكلفنا أيضًا بأننا إذا شعرنا بأن لهم أيّ شيء ضدنا، سواء كانوا على حق أو على غير حق، أن نترك قرباننا.
بمعنى أن نرجئ صلواتنا ونسارع أولاً لاسترضائهم ومصالحتهم، وعندما يتم علاج هذا الأخ نستطيع عندئذ أن نقدم قربان صلواتنا دون عيب، لأن الرب إله الجميع لا يعنيه كثيرًا قرابيننا قدر ما يعنيه فقده شخصٍ ما، بسبب تركنا للسخط يتحكم فينا. لأن خسارة أيّ إنسان يصيب الله، إذ هو يريد ويبحث عن خلاص جميع خدامه بخط واحد لا يتغير. ومن ثمَّ فإن صلاتنا ستفقد أثرها إذا كان لأخينا أيّ شيء علينا.
بالضبط كما لو رحنا نغذي مشاعر المرارة ضده بروح ساخطة متعالية.
الفصل الخامس عشر
تنص الشريعة القديمة على استئصال الغضب ليس من الأفعال فقط بل ومن الأفكار أيضًا
لماذا نصرف مزيدًا من الوقت في الاستشهاد بالوصايا الرسولية والإنجيلية، في حين أن الناموس القديم الذي يُظن أنه متساهل بعض الشيء يحذر من نفس الشيء، حين يقول: “لا تبغض أخاك في قلبك”، وأيضًا: “لا تحتد على أبناء شعبك” (لا 17: ، 18 19).
وكذلك يقول: “طرق الذين يحتدون تؤدي إلى الموت” (أم 28:12). هكذا ترى أن الشر منهي عنه ليس بالفعل فقط، بل ومن خفايا الفكر أيضًا، وفقًا للوصية التي تنص على استئصال الشر من القلب، لا الانتقام عن الإساءة إلينا فحسب، بل ومجرد التفكير فيها.
الفصل السادس عشر
لا جدوى من خلوة أولئك الذي لا يتخلون عن سلوكهم الرديء
في بعض الأحيان عندما نقع فريسة للكبرياء ونفاذ الصبر، ونريد إصلاح سلوكنا الجاف البغيض، نشكو بأننا في حاجة إلى العزلة، كما لو كنا سنجد فضيلة الصبر والاحتمال هناك حيث لا يثيرنا أحد. ونعتذر عن إهمالنا قائلين أن علة اضطرابنا لا تصدر من نفاذ صبرنا ولكن من خطأ اخوتنا. مادمنا نحّمل الآخرين وزر خطأنا، لن نستطيع قط أن نبلغ بغيتنا في الكمال والقدرة على الاحتمال.
الفصل السابع عشر
لا يعتمد سلام قلوبنا على إرادة الآخرين، بل في ضبطنا لعواطفنا
لزامًا علينا ألا نغلق الجزء الأكبر من إصلاح تفكيرنا وهدوء أنفسنا على إرادة أيّ شخص آخر، الأمر الذي لا يمكن بحال أن يكون خاضعًا لسلطاننا. إذ هو يكمن بالأحرى في ضبطنا لعواطفنا. وهكذا ينبغي ألا يكون عدم غضبنا نتيجة لكمال الآخرين، بل بسبب فضيلتنا الخاصة التي نحرزها لا عن طريق احتمال أيّ إنسان آخر لنا، ولكن لطول أناتنا وقدرتنا على الاحتمال.
الفصل الثامن عشر
في الحماسة التي ينبغي أن ننشد بها الصحراء والأشياء التي نحرز فيها تقدمنا هناك
إن الكاملين والمتطهِّرين من جميع الأخطاء هم الذين ينبغي أن ينشدوا الصحراء. عندما يستأصلون تمامًا كل هفواتهم وهم وسط اخوتهم، عليهم أن يدخلوها ليس بدافع من الفرار والجبن، إنما بغية التأمل المقدس.
ورغبة في إحراز بصيرة أكثر عمقًا للتغلغل بها في الأمور الإلهية، التي لا يتيسر إلا للكاملين أن يحصلوا عليها في العزلة والانفراد بأنفسهم. ذلك لأن أية سقطات نأتي بها إلى الصحراء قبل شفائنا منها نجد أنها باقية خفية فينا وليس بوسعنا التخلص منها. فعندما تصلح طباعنا، عندئذ فقط تفتح لنا العزلة أبوابًا أنقى لضروب التأمل على مصراعيها، وتلهم معرفة الأسرار الروحية لدى النظرة الصافية.
العزلة لا تستبقى فقط، بل وتقوي أخطاء أولئك الذين لم يصلحوا أنفسهم من قبل. فالواقع أن المرء يبدو لنفسه صبورًا متواضعًا مادام بعيدًا عن الاحتكاك بأي شخص آخر، لكن سرعان ما يرتد إلى طبيعته الأولى كلما وقع ما يستدعي الإثارة من أي نوع، أعني أن تلك الأخطاء تطفو إلى السطح فورًا بعد أن ظلت مختفية. وكخيل مطلقة العنان، معنيٌ بإطعامها خلال فترة طويلة جدًا من البطالة، تنطلق متخطية الحواجز بمزيد من اللهفة والشراسة لتحطم سائق المركبة التي تجرها.
عندما تزول فرصة ممارسة أخطائنا بين الناس، تتزايد في أعماقنا أكثر فأكثر، ما لم نكن قد تطهرنا منها قبل ذلك. إن مجرد ظلال الصبر الذي يبدو حين نختلط باخوتنا كأننا نمتلكه، في القليل بدافع من الاحترام لهم وحسن السمعة، نفقده بالكامل بسبب الكسل والإهمال اللذين كانا علة ترك العالم.
الفصل التاسع عشر
مثال يساعد على تكوين فكرة عن الذين يصبرون فقط إذا لم يُثرهم أحد
هذا يشبه كل أنواع الأفاعي السامة والوحوش الضارية التي لا تؤذي مادامت وحيدة داخل أوجرتها. ذلك لأنه لا يمكن في الواقع الزعم بأنها غير مؤذية لأنها لا تؤذي بالفعل أحدًا. لأن هذا ناتج لا عن أيّ شعور بالخير، إنما بسبب ما تفرضه العزلة. وحين تتهيأ لها الفرصة لإيقاع الضرر بأي أحد، سرعان ما تنفث السم المختزن فيها، وتكشف عن شراسة طبعها.
هكذا في حالة الذين يبتغون الكمال، لا يكفي ألا يغضبوا من الناس، فإننا نذكر أننا حين كنا نعيش في عزلة، كان يتسلل إلى نفوسنا شعور الغضب ضد القلم الذي نستعمله لزيادة طوله أو زيادة قصره، أو ضد المطواة لعدم حدتها، أو ضد حجر القداحة إذا طارت منه شراره تعطلنا عن المطالعة.
فلا نتخلص من اضطراب ذهننا بسبب مادة جامدة أو الشيطان. وهكذا باطلاً نظن بلوغ الكمال لعدم وجود من يثيرون غضبنا. فمادام لم يتم نوال الصبر فإن مشاعر السخط التي مازالت كامنة في قلوبنا يمكن إطلاق العنان لها ضد جماد أو شيء تافه، ولا تتيح لنا بلوغ حالة دائمة من السلام، أو التخلص من رواسب سقطاتنا، اللهم إلا إذا اعتقدنا أننا قد نحرز بعض النفع، ونحقق لونًا من الشفاء من انفعالاتنا، إزاء الواقع من أن الأشياء العديمة النطق والحياة لا تستطيع الرد على سبنا لها وسخطنا عليها أو أن تدفع نوبات غضبنا المطلقة العنان لأن تنفجر في ثورة عارمة مخبولة أسوأ وأنكي.
الفصل العشرون
الطريقة التي ينبغي أن نسبعد بها الغضب وفقًا للكتاب المقدس
لو رغبنا في إحراز جوهر الجائزة الإلهية التي قيل بصددها: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت8:5)، علينا ليس فقط أن نستبعد الغضب عن أفعالنا، بل وأن نقتلعه تمامًا من أعماق نفوسنا.
ذلك لأنه لن يجدي فتيلاً أن نكبت الغضب في ألفاظنا ولا نظهره في أفعالنا، مادام الله الذي لا تُخفى عنه أسرار القلوب يرى أنه مازال باقيًا في خفايا صدورنا. إذ أن كلمة الإنجيل تأمرنا ان نستأصل جذور سقطاتنا وليس ثمارها. لأن هذه عند إزالة جميع الجذور لن تنبت من جديد دون شك. ومن ثم فإن العقل يستطيع الاستمرار في الصبر والقداسة عند إزالة هذا الغضب، ليس من سطح الأفعال والأعمال،
إنما من أعماق الأفكار. فلتجنُب ارتكاب جريمة القتل يُنزع الغضب والكراهية اللذين بدونهما لا يمكن أن تُرتكب جريمة القتل، لأن “من يغضب على أخيه يكون مستوجب الحكم، وكل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس” (1يو15:3). لأنه في قلبه يود أن يقتل ذاك الذي نعلم تمامًا أنه لم يسفك دمه بين الناس بيديه أو بسلاحٍ ما. ومع ذلك فبحكم انفجار غضبه يُعلن الله أنه قاتل. فالله يحاسب كل إنسان، ليس فقط وفق نتيجة أعماله، ولكن وفق قصده ورغباته وأمنياته، إما ثوابًا أو عقابًا. حسب قوله على لسان النبي: “أنا أجازي أعمالهم وأفكارهم” (إش18:66). وأيضًا قوله: “وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة، في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس” (رو15:2،16)…
الفصل الثاني والعشرون
ضروب العلاج التي نستطيع أن نستأصل بها الغضب من قلوبنا
ينبغي على المجاهد من أجل المسيح قانونيًا أن يستأصل شعور السخط. والعلاج الناجح لهذا المرض هو أن نعتزم بالدرجة الأولى على ألا نغضب إطلاقًا، لا باطلاً ولا على غير باطل، لعلمنا أننا سرعان ما نفقد نور البصيرة وحسن التمييز، وأمن المشورة الحكيمة، مع استقامة الرأي، وسلامة التقدير عندما تحجب ظلال الغضب وهج الضوء الأساسي في قلوبنا.
وثانيَا لأن نقاء نفوسنا سرعان ما يتبدد ويختفي، ومن ثم لا تستطيع هذه النفوس أن تظل هيكلاً للروح القدس، مادام روح الغضب كامنة فيها. وأخيرًا فإننا سنشعر أنه لا ينبغي أن نصلي قط، ولا أن نسكب ابتهالاتنا أمام الله مادمنا غاضبين. وفوق كل هذا، إذ أمام أنظارنا حالة الجنس البشري المتقلبة.
ينبغي ألا نغفل أننا في أيّ يوم لابد سنفارق الجسد سريعًا، وأن عفافنا وكبح شهواتنا، وتخلينا عن جميع أملاكنا واحتقارنا للثروة، وجهودنا في الأصوام والأسهار، لن ينفعنا بشيء على الإطلاق، مادام قاضي الأنام سيجازينا بالعقاب الأبدي جزاء وفاقًا على ما يستبد بنفوسنا من سخط وحقد.
ترجمة: الراهب باسيليوس السرياني (السابق).
________________________________________
[2] القديس أوغريس: توجيهات إلى أنالوتيس عن الحياة العاملة، 13.
[3] القديس أوغريس: توجيهات إلى أنالوتيس عن الحياة العاملة، 15.
[4] القديس أوغريس: إلى أنالوتيس عن الأفكار الثمانية، 15
No Result
View All Result
Discussion about this post