في روح الطمع
القديس يوحنا كاسيان
في منهجه العملي تحدث القديس يوحنا كاسيان عن خطية الطمع بعد حديثه عن النهم أو الشره ثم الشهوات. فإن لم يُغلب الإنسان من بطنه أو شهوات جسده يقدم له عدو الخير إلهًا خطيرًا هو محبة المال.
سبق لنا أثناء حديثنا عن كتابات القديس يوحنا كاسيان أن تحدثنا عن هذا الكتاب، ورأينا أنه يقدم لنا ثلاثة أمثلة خطيرة للطمع هم جيحزى تلميذ إليشع النبي، وحنانيا وسفيرة اللذين كذبا علي الروح القدس بسبب الطمع، ويهوذا الذي خان سيده من أجل ثلاثين من الفضة.
في هذا المقال يوضح المبادئ التالية:
1- بالرغم من خطورة خطية الطمع، فقد استعبدت كثيرين، إلا أنه يسهل علاجها، لأنها ليست كالنهم والشهوات تصدر من داخلنا خلال صرخات البطن وحركات الجسد، بل هي من الخارج خلال الإغراءات. هي أصل كل الشرور، لكنها تحارب من خارج النفس حتى يفتح الإنسان لها قلبه فتملك وتستعبد.
2- يبقي العلاج من الطمع سهلاً للغاية ما دامت الخطية تحاربنا من الخارج، لكن إن ملكت بإرادتنا يَصُعب الخلاص منها.
3- تبدأ الحرب بالقلق والخوف على المستقبل، فيفقد الإنسان ثقته في الله مدبر أموره ليحتل المال مركز الصدارة.
4- إذ يتسلل الطمع إلى القلب يحطم الكثير من الفضائل مثل الاتضاع والمحبة والطاعة والشكر، فيصير جاحدًا متذمرًا، جامدًا، أنانيًا، كما يُفقد النفس استقرارها الداخلي.
5- بالنسبة للراهب يدفعه الطمع إلى أخطاءٍ كثيرةٍ.
ا. الارتباط بصداقة مع الجنس الآخر، ربما للحفاظ علي ما يجمعه.
ب. الادخار.
ح. حب الامتلاك حتى للأمور التي سبق أن تخلي عنها.
د. فتور الذهن لارتباكه بالماديات، وفقدانه إيمانه بالله المهتم به.
ه. الانشغال بخدمات اجتماعية كثيرة تحت ستار “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ”، فيفقد الراهب تأملاته الإلهية.
6- يليق بنا الاقتداء بالرسل الذين كانوا يعملون بأيديهم ليعيشوا ولا يجمعوا شيئًا، كما كان الشعب يقدم كل ما لديه ليعيش الكل بروح الشركة، لا يجمع أحد لنفسه شيئًا.
7- يحذرنا القديس يوحنا كاسيان من نبذ العالم وكل ما فيه من الخارج مع بقاء القلب ملتهبًا بشهوة الامتلاك، فخطية الطمع هي رغبة داخلية وأنانية وحب امتلاك.
8- إن كان جيحزى تلميذ إليشع قد أُصيب بالبرص بسبب طمعه، فإن من يصاب قلبه بهذا المرض يعاني من برص داخلي، وتصير نفسه دنسة.
هكذا يكشف المقال إلى حاجة النفس إلى الاتضاع لكي يشفيها المخلص من برص الطمع، واهبًا إياها روح الحب الحقيقي الباذل.
القمص تادرس يعقوب ملطي
الفصل الأول
كيف أن قتالنا مع الطمع أمر غريب علينا، وأن هذه السقطة ليست فطرية في الإنسان، كغيرها من السقطات
أن ثالث معركة لنا هي التي نشنها ضد الطمع، الذي نستطيع أن نصفه على أنه “محبة المال”، وهي معركة غريبة عنا، وخارجة عن نطاق طبيعتنا. وهي بالنسبة لأي راهب لا تتولد إلا عن عقل فاسد متبلد، ومحاولة مزيفة لنبذ العالم، ومحبة لله فاترة من أساسها،
وذلك لأن باقي مغريات الخطية المغروسة في الفطرة البشرية تبدو كما لو كانت بدايتها كائنة منذ ولادتنا، وجذورها عميقة في جسدنا، وتكاد أن تكون معاصرة لمولدنا. إنها تدرك مسبقًا مدى قدراتنا على التمييز بين الخير والشر، وعلى الرغم من أنها تهاجم المرء مبكرًا جدًا، فهو يصرعها بعد جهاد طويل.
الفصل الثاني
مدى خطورة مرض الطمع
لا يصيبنا هذا المرض إلا في مرحلة متأخرة، ويفد على النفس البشرية من الخارج، ولذلك يسهل على المرء أن يأخذ منه حذره ويقاومه. أما إن أُهمل وسُمح له بالولوج داخل القلب، يصير أشد خطرًا ويتعذر انتزاعه جدًا، إذ يصبح “أصلاً لكل الشرور” (1 تي 10:6)، ومن ثم يعمل على الإكثار من مغريات الخطيئة.
الفصل الثالث
ما هو جدوى تلك الرذائل الفطرية لنا
ألسنا نشاهد مثلاً أن نوازع الجسد الطبيعية ليست فقط في الأولاد الذين تساعدهم بساطتهم على التمييز بين الخير والشر، بل حتى في الأطفال الصغار والرضع البعيدين تمامًا عن شهوة الجنس، ولكن نوازع الجسد موجودة فيهم وعرضة للإثارة الفطرية؟
ألا نرى أيضًا أن وخزات الغضب المميتة موجودة بكامل عنفوانها في الأطفال الصغار؟ وقبل أن يتعلموا فضيلة الصبر والاحتمال، نجد أن المظالم تثيرهم، ويشعرون بالمهانة ولو كانت على سبيل الدعابة، وقد يعمدون إلى الانتقام، على الرغم من ضعفهم، حين يستبد بهم الغضب؟!
لست أسوق هذا كي أوجه اللوم إلى حالتهم الفطرية، إنما لكي يظهر أن بعضًا من هذه النزعات التي تصدر عنا مغروسة فينا لقصد مفيد، بينما البعض الآخر قد أُقحم من الخارج، بسبب الإهمال أو التراخي، وشهوة الإرادة الشريرة.
لأن هذه النزعات الجسدية التي تكلمنا عنها آنفًا، غرسها الخالق بعنايته الإلهية في جوفنا لغرض نافع، مثل بقاء النوع وتنشئة الأطفال، وليس لارتكاب ضروب الزنى والخلاعة، التي تقع تحت طائلة كل من الناموس والقانون. كذلك أعطيت لنا وخزات الغضب بحكمة بالغة، حتى إذا ما غضبنا على خطايانا وأخطائنا يتيسر لنا أن نمارس الفضائل والرياضات الروحية، مظهرين كل حب الله ومترفقين باخوتنا.
كذلك نعلم أن للحزن فائدة عظيمة، ومع ذلك فهو يُعد من الرذائل إذا استخدمناه بطريقة مضادة. فهو من ناحية، إذا جاء وفقًا لمخافة الرب، أصبحنا في مسيس الحاجة إليه، ومن ناحية أخرى، إذا جاء وفقًا لأباطيل العالم، أسفر عن شر مستطير، كما علمنا الرسول حين قال إن “الحزن الذي بحسب مشيئة الله ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة، وأما حزن العالم فينشئ موتًا” (2كو10:7).
الفصل الرابع
في أنه باستطاعتنا أن نقول أن فينا بعض عيوب فطرية دون الإساءة إلى الخالق
إن قلنا إذًا أن هذه النزعات قد غرسها الخالق فينا، فلا يعني هذا أن نوجه إليه اللوم، مادمنا قد أسأنا الاختيار بإساءة استخدامها، وانحرفنا بها لأغراض ضارة، ورحبنا بأحزان قايين المتمردة المهلكة وليس بالحزن الذي يقوِّم اعوجاجنا وينشئ توبة لخلاص بلا ندامة.
في حالات قليلةً عندما نغضب لا نوجه الغضب لأنفسنا (استهدافًا للفائدة) بل لاخوتنا، مخالفين بذلك وصية اللَّه. وما أشبهنا في ذلك باستخدامنا للحديد الذي أحرزناه للخير وللأغراض النافعة. فقد يستخدمه شخص منحرف في قتل الأبرياء، وهذا لا يدعونا أن نلوم صانع المعدن لأن شخصًا ما أُستخدم للإضرار بالآخرين ما أُعد للخير ولأغراض نافعة ولعيش سعيد.
الفصل الخامس
في العيوب التي تُقحم نفسها في داخلنا دون نزعات فطرية
لكننا نؤكد أن بعض العيوب تنمو بدون أن تتهيأ أية فرصة طبيعية لمولدها، إنما ببساطة تتم عن طريق الاختيار الحر لإرادة فاسدة شريرة، كالحسد، وبالذات خطية الطمع هذه. هاتان الخطيتان تفدان إلى القلب من الخارج، لعدم وجود أصل لهما في الغرائز الفطرية. ويتيسر للمرء أن يأخذ حذره منهما وأن يتجنبهما نسبيًا. إنهما يفسدان العقل الذي يتسلطان عليه ويستبدان به، ومن ثم يتعذر تهيئة الأدوية لشفائه منهما…
الفصل السادس
في تعذر استئصال آفة الطمع ما دامت دخلت القلب
لماذا لا تجعل هذه الآفة تصير كما لو كانت بلا وزن، أو تصير قليلة الأهمية، بالنسبة لأي إنسان؟ ذلك لأنه ما دام من السهل تحاشيها، فإنها بمجرد تسلطها عليه قلما تسمح له بتهيئة الأدوية لشفائه منها. فهي وكر دائم للخطايا، وهي “أصل لكل الشرور، وهي بالغة الإلحاح في إغوائها على الشر، كقول الرسول عن “الطمع”… أو بتعبير آخر محبة المال… “أصل لكل الشرور” (1تي 10:6).
الفصل السابع
في المصدر الذي ينبعث منه الطمع، والشرور التي تتولد منه
عندما تستولي هذه الرذيلة على نفس فاترة خاملة لأحد الرهبان، تبدأ تجربه في مبلغ صغير من المال، مقدمة له أعذارًا رائعة يكاد العقل أن يقبلها، لتبرير احتفاظه لنفسه ببعض المال. فيشكو بأن ما يمده به الدير غير كافٍ، وبالكاد يمكن أن يسد حاجيات جسم سليم قوي… ماذا يفعل إذا اعتلت صحته، وليس لديه مدخرات خاصة لإعالته في حالة ضعفه؟…
ويقول إن مرتبه من الدير ضئيل طفيف وأن المرضى بالدير لا يُعتنى بهم على الإطلاق، وأنه ما لم يقتنِ لنفسه شيئًا، حتى يتيسر له الاهتمام بجسده، فهو هالك لا محالة! والثوب الذي يُصرف له لا يكفي، اللهم إلا إذا كان قد أحرز شيئًا يحصل به على ثوب آخر… وأخيرًا يقول إنه من المحتمل ألا يستطيع البقاء طويلاً في نفس المكان أو الدير، وأنه ما لم يكن قد ادخر المال لرحلته وتكاليف انتقاله عبر البحر، فإنه لن يستطيع الانتقال حيث يشاء. وما دامت ستعطله الحاجة القاهرة عن هذا الانتقال، فستخيم على حياته التعاسة والملل، ويعجز عن إحراز أدنى تقدم، لشعوره بأنه لن يستطيع، دون إهدار لكرامته، أن يستمد العون من الآخرين،
كما لو كان متسولاً أو من المعوزين. وهكذا بعد أن يخدع نفسه بمثل هذه الأفكار، يُجهد ذهنه كي يهتدي إلى وسيلة يستطيع بها أن يحصل ولو على قرش واحد، ثم يبحث في تلهف عن أي عملٍ مربحٍ يقوم به دون أن يعلم رئيس الدير، ويبيع سرًا ما ينتجه. بذلك يحصل على قطعة النقد التي اشتهاها، والتي بعد حصوله عليها لا يفتأ يُعذب نفسه، ويبالغ في تعذيبها، في سبيل مضاعفة مدخراته، وفي التفكير في المكان الذي يودعها فيه أو الشخص الذي يأتمنه عليها.
بعد ذلك تؤرقه مشاغل أثقل تتعلق بما يحسن أن يشتريه بمدخراته، أو بالطريقة التي يستثمرها بها حتى يضاعفها، فإذا ما تحقق كل شيء وِفق ما يهوى ازدادت لهفته لاكتناز الذهب. وكلما زاد رصيده منه، ازدادت لهفته وانفعالاته، إذ أنه بزيادة الثروة يتفاقم جنون الطمع وحب المال، بعد ذلك تساوره أفكار مزعجة يتوقع معها أن يطول عمره،
ويضعف بدنه كلما تقدم به السن، وتحل به الأمراض بكافة صنوفها، وبطول عهده بها حتى يعجز عن تحملها في شيخوخته ما لم يكن قد استعد لذلك بادخاره لمبلغ كبير في شبابه. وهكذا تتزعزع هذه النفس الشقية، ويلتف حولها تنين الطمع، فلا تستطيع فكاكًا، بينما تحاول جاهدة لمضاعفة كومة المال التي أحرزتها بطرق غير مشروعة واهتمام ممقوت، تصحبه كوارث لا تخفف من حدة طمع هذه النفس بل تزيده اشتعالاً، ويعميها عن كل شيء سوى الجري وراء الكسب والحصول على المال،
والفرار من الإذعان لأنظمة الدير بأسرع وقت ممكن، والتجرد من الإيمان، كلما وجد بصيصًا من الأمل في إحراز المال. ولهذا فهو لن يتورع عن أن يرتكب جريمة الكذب، أو شهادة الزور، أو السرقة، أو كسر الوعد، أو الاسترسال مع نوبات الهياج الجارحة. أيضًا إذا فقد الأمل في الحصول على الكسب، فإنه لن يتورع عن أن يتجاوز حدود اللياقة والتواضع، وفي كل هذا يصبح الذهب ومحبة الربح القبيح إلهًا له، شأنه في ذلك شأن الذين يعبدون بطونهم، ولهذا فإن الرسول المطوب، إذ نظر إلى سم هذه الآفة المميت لم يقل فقط أنه أصل لكل الشرور،
ولكن سمَّاه أيضًا “عبادة الأوثان”، قائلاً: “والطمع الذي هو عبادة الأوثان” (كو 5:3). فأنت ترى إذن قدر السقوط الذي يقود إليه هذا الجنون خطوة فخطوة، حتى أن الرسول يطلق الصيحة مدوية بأنه عبادة للأوثان المزيفة، ذلك لأنه بتخطيه صورة الله ومثاله (وهما اللذان يجب أن يحتفظ بهما كل من يعبد الله بالروح والحق في أعماق نفسه دون تزييف) قد آثر أن يحب ويتعلق بالصور المنقوشة على الذهب بدلاً من الله.
الفصل الثامن
كيف أن الطمع يعرقل جميع الفضائل
بمثل هذه الخطوات الكبيرة، منحدرًا إلى أسفل، ينساق من سيء إلى أسوأ، وأخيرًا لا يهتم بأن يحتفظ لنفسه، لا بفضائل التواضع والمحبة والطاعة بل ولا بظلها، إلى جانب أنه يصبح غير راضٍ عن أي شيء، ويتذمر ويشكو من كل عمل. عندئذ وقد ضرب بكل خشوع عرض الحائط فإنه، كحصان جامح، يندفع متهورًا مطلَق العنان، متأففًا من طعامه اليومي ولباسه المعتاد، معلنًا أنه قد ضاق بهما ذرعًا، وأن الله ليس في الدير فقط، وأن خلاصه غير قاصر على ذلك المكان الذي لابدّ من تركه سريعًا جدًا، وإلا حلّ الوقت الذي ينوح فيه على نفسه لأنها هالكة لا محالة.
الفصل التاسع
كيف أن الراهب الذي يحرز المال لا يستطيع البقاء في الدير
هكذا حين يقتنى المال الذي يهيئ له التجوال، متوهمًا أنه قد نبتت له أجنحة تساعده على التحليق، يصبح على تمام الأهبة للانتقال، ومن ثم يجيب على جميع الأوامر بطريقة جافة بعيدة عن الموضوع، ويسلك كما لو كان غريبًا أو زائرًا، ويتصرف إزاء كل ما يجده في حاجة إلى الإصلاح باستصغار واحتقار.
وعلى الرغم من وجود مدخراته التي يحتفظ بها سرًا في مكان خفي، فإنه يشكو حاجته إلى حذاء وثياب، ويغضب لأنها تعطى له بعد عناء ووقت طويل. وإذا حدث أن أعطيت، بأمر من الرئيس، بعض هذه الحاجات لمن هو في مسيس الحاجة إليها قبله، اشتعلت فيه نيران الغضب، معتقدًا أنه قد عومل باحتقار كأنه غريب. كما أنه لا يرضى أن يمد يده لأي عملٍ، بل يتلمس الأخطاء في كل شيء تستدعى الضرورة أن يتم إنجازه في الدير.
وأيضًا يتلمس، بناء على هدف مقصود، فرصًا للغضب على أنه أهين، لئلا يبدو أنه قد خرج على نظام الدير لسبب تافه، وإذ لا يقتنع بمفارقته للدير وحيدًا، حتى لا يُظن أنه قد خرج لخطأ ارتكبه، فإنه لا يكف عن تحريض وإفساد أكبر عدد ممكن من زملائه بمداولات في الخفاء… أما إذا عطلت رداءة الطقس رحلته وأسفاره، فأنه يظل طوال الوقت قلقًا مشغول البال، ولا يتوقف لحظة عن بذر الشقاق وإثارة التبرم والتذمر، متوهمًا أنه لن يجد السلوان عن عدم رحيله، والعذر عن تقلبه، ألا بأن يسند للدير النقص وسوء التدبير.
الفصل العاشر
في الأوجاع والتجارب التي يتعرض لها ناكث عهد الدير بسبب الطمع، مع أنه أعتاد من قبل على التذمر لأتفه الأسباب
هكذا ينساق الراهب ويزداد تعلقه الجامح بالمال، الذي لن يدعه قط، بعد اقتنائه، راضيًا بالبقاء في الدير أو بالمعيشة في ظل أي نظام أو تحت سلطان. وحين يُفصل كحيوان وحشي، عن باقي القطيع يتحول، لحاجته إلى أصحابه إلى حيوان عرضة للافتراس، بل وبسهولة.
ولحرمانه من زملاء مقيمين، يضطر، وهو الذي كان يترفع عن القيام بأخف مهام الدير، للكدح ليلاً ونهارًا دون توقف سعيًا وراء الكسب. هذا من شأنه أن يجعله عاجزًا عن الحفاظ على طقوس العبادة، أو نظام الصوم، أو قواعد السهر، بل ويباعد بينه وبين قواعد الشفاعة اللائقة مادام في استطاعته تلبية نداء جنون الجشع، وسد حاجاته اليومية. هذا يزيد نار الطمع اشتعالاً، في حين أنه يتوهم أنه يخمدها عن طريق الاقتناء.
الفصل الحادي عشر
في الزعم بأنه للمحافظة على المال وتدبيره لابد من البحث عن النساء للإقامة معهن
ينساق كثيرون إلى الموت عن طريق منحدر وعر بسقطة لا قيامة منها. وإذ لا يكتفون بأن يمتلكوا المال الذي لم يسبق لهم قط أن حصلوا عليه، أو أنهم يحتجزوه ببداية رديئة، لكنهم يبحثون عن النساء ليقمن معهم، للمحافظة على ما جمعوه أو احتجزوه عن طريق غير مشروع، ويورطون أنفسهم في كثير من الأمور الخطرة الضارة، الأمر الذي يهوي بهم إلى أعماق الجحيم، بينما هم يرفضون الامتثال لقول الرسول:
“إن كان لهم قوت وكسوة فليكتفوا بهما”، وهما ما كان يمدهم بهما الدير في حدود طاقته، ولكن لرغبتهم أن يكونوا أغنياء، يسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك، لأن محبة المال – بتعبير آخر “الطمع” – أصل لكل الشرور “الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة” (1تي 6:8-10).
الفصل الثاني عشر
مثال لراهب فاتر سقط في شباك الطمع
أعرف شخصًا يظن في نفسه أنه راهب، والأسوأ من ذلك أنه يطري نفسه بالكمال، كان قد قُبل في دير. وحين وعظه رئيس الدير كي لا يعود بأفكاره صوب تلك الأشياء التي تخلى عنها ونبذها، بل يحرر نفسه من الطمع، أو محبة المال، التي هي أصل لكل الشرور، ومن الشراك الأرضية، وأنه إذا أراد أن يتطهر من نزعاته السالفة، التي وجد أنها كانت ترهقه وتكد نفسه من حين إلى آخر، فعليه أن يكف عن الاهتمام بتلك الأشياء،
التي لم تكن ملكًا له حتى من قبل، ولكنه إذ كان ما يزال مقيدًا بالأغلال التي لم يستطع قطعًا تحطيمها لعجزه عن أن يحرز أي نجاح لتطهير نفسه من سقطاته، لم يتردد عن الرد وهو ساخط قائلاً: “إذا كنت أنت قد اقتنيت ما تستطيع أن تعول به الآخرين، فلماذا تحرم عليَّ أن أقتنيه مثلك؟”
الفصل الثالث عشر
ماذا يروي الشيوخ للأحداث عن موضوع الخطايا العادية
لكن لا تدع هذا يبدو أمرًا سطحيًا أو موضع اعتراض لدى شخص آخر. ذلك لأنه ما لم تُكشف أولاً مختلف أنواع الخطايا، وتستقصي أصول وأسباب الأمراض، فإنه لا يتيسر وصف الأدوية الشافية الصحيحة للمرضى، ولا يتيسر أيضًا للأصحاء أن يحافظوا على كمال سلامتهم. لأن كلا هذين الأمرين، وأمور أخرى كثيرة تقدم بوجه عام لإرشاد الاخوة الأحداث من الشيوخ في اجتماعاتهم، لما أحرزوه من خبرة في سقطات لا حصر لها، وفيما أصاب جميع صفوف الناس من دمار.
غالبًا ما كنا نفطن إلى الكثير من هذه الأمور في أنفسنا، هذه التي يظهرها الشيوخ ويوضحونها لنا، كرجال عانوا هم أنفسهم من نفس النزعات. كنا نعالج ونبرأ دون خجل أو ارتباك من جانبنا، ذلك لأننا دون أن نصرِّح بأيّ شيء كنا نتعلم ضروب العلاج، ونقف على أسباب الخطايا التي كانت ترهقنا، والتي أغفلناها ولم نقل عنها شيئًا، لا خوفًا من الاخوة،
إنما خشية أن يقع هذا الكتاب في أيدي بعض ممن يعوزهم الإرشاد في هذا السبيل من الحياة. وقد يصرِّحون لغير المختبرين أنه ينبغي ألاّ يعلمه سوى أولئك الذين يجاهدون ويسعون للوصول إلى أعلى مراتب الكمال.
الفصل الرابع عشر
أمثلة تبين أن مرض الطمع مثلث المعالم
هذا المرض أو الحالة غير الصحية مثلثة المعالم، وقد نعته جميع الآباء بقدر مساوٍ من اللعنة والمقت.
لقد وصفنا فيما سبق الصورة الفاسدة لأحد هذه المعالم، وهي التي تخدع القطيع البائس وتحرضهم على الادخار، على الرغم من أنهم كانوا لا يمتلكون شيئًا حين كانوا في العالم.
والأخرى هي أن تدفعهم إلى اشتهاء وامتلاك تلك الأشياء التي تخلوا عنها في الأيام الأولى من تنسكهم وتركهم للعالم.
والصورة الثالثة تتم مع بداية ضارة خاطئة. اتسم أصحابها بفتور الذهن وتذبذب الرأي، ولذلك لم يستطيعوا أن ينبذوا جميع ممتلكاتهم الأرضية، خوفًا من الفقر ولعدم إيمانهم، وهؤلاء الذين يحتجزون الأموال والأملاك، التي كان ينبغي أن يتخلوا عنها ويهجروها، لا يمكن ان يبلغوا قط كمال الإنجيل.
وأننا لنجد في الأسفار المقدسة أمثلة لهذه الكوارث الثلاث، التي تقع عليها عقوبة غير هينة، فعندما أراد جيحزي – خادم اليشع النبي – أن يقتني ما لم يمتلك مثله قط من قبل، لم يفشل فقط في الحصول على عطية النبوة، التي كان من حقه أن يتسلمها من معلمه بالخلافة الوراثية، لكنه على العكس أصابته لعنة اليشع النبي ببرصٍ دائم.
أما يهوذا فإذ أراد أن يسترد امتلاكه للثروة التي سبق أن ألقي بها حين تبع المسيح، لم يسقط فقط في جريمة خيانة سيده، ويفقد رتبته الرسولية، لكنه أيضًا لم يتح له أن يختتم حياته بصورة عادية، بل أنهاها بميتة عنيفة.
أما حنانيا وسفيرة إذ احتجزا جزءً مما كان ملكهما من قبل، عوقبا بالموت وفقًا لكلمة الرسول.
الفصل الخامس عشر
في الفرق بين إنسان ينبذ العالم بطريقه رديئة وآخر لا ينبذه على الإطلاق
إن ثمة اتهامًا موجهُا بطريقة خفية، في سفر التثنية، إلى أولئك الذين يقولون انهم قد نبذوا هذا العالم، وبعد ذلك ينهزمون بنقص الإيمان، إذ يخشون ضياع ممتلكاتهم الأرضية، ونصه كما يلي: “من هو الرجل الخائف والضعيف القلب، ليذهب ويرجع إلى بيته، لئلا تذوب قلوب اخوته مثل قلبه” (تث 8:20)…
أية شهادة يحتاج إليها المرء أكثر وضوحًا من هذه؟… أليس من الواضح أن الكتاب المقدس يؤثر ألا يقدموا على هذا العهد، حتى في أول مراحله، أو أن يحملوا اسمه، لئلا يصبحوا قدوة سيئة تغري غيرهم على الانحراف عن كمال الإنجيل المقدس، ويضعفوهم بفزعهم الذي يعوزه الإيمان.
لهذا فالأمر موجه إليهم في صراحة بالانسحاب من القتال والعودة إلى منازلهم، لأنه ما من أحد يستطيع أن يشترك في معركة الرب وله رأيان، ذلك لأن “رجل ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه” (يع 8:1).
يلزم التفكير في المثل الذي ورد في الإنجيل (لو 30:14، 31). عن ذاك الذي يذهب بعشرة آلاف رجل ضد ملك يأتي بعشرين ألفًا، قد لا يستطيع مقاتلته، عليه – مادام ذلك بعيدًا أن يسأل ما هو للصالح. بمعنى انه من الأفضل لهم ألا يأخذوا حتى الخطوة الأولى في طريق ترك العالم، أفضل من أن يورطوا أنفسهم في أخطار أشد، بعد خروجهم إلى هذا الطريق متراخين غير متحمسين،
لأنه “لا تنذر خير من أن تنذر ولا تفي” (جا 4:5 ). أدق نص هو الذي يصف من يأتي بعشرة آلاف لملاقاة آخر بعشرين ألفًا، لأن عدد الخطايا التي تهاجمنا أكثر من الفضائل التي تقاتل عنا. والواقع انه “لا يستطيع إنسان أن يخدم اللَّه والمال” (مت 24:6)، وكذلك “ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت اللَّه” (لو 62:9).
الفصل السادس عشر
في السلطة التي تحمي تحتها أولئك الذين يعترضون على التخلي عن ممتلكاتهم
هؤلاء إذن يحاولون أن يفتعلوا قضية لجشعهم الأصيل، مستخدمين بعض نصوص الكتاب المقدس، التي يفسرونها ببراعة خبيثة. ولتحقيق رغباتهم الخاصة أن يطوِّعوا ويحرِّفوا قولاً للرسول أو آخر للرب نفسه، ولا يشكلون حياتهم وفهمهم للكتاب المقدس بل يجعلون معنى الكتاب يتشكل حسب رغبات شهواتهم، وموافقًا لوجهة نظرهم.
يقولون بأنه مكتوب: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع35:20)، وبتفسير بالغ الخطأ لهذا النص يظنون أن في مقدورهم أن يضعفوا من قوة قول الرب: “إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني” (مت20:19).
يظنون أنهم تحت هذا الظل لا يحتاجون أن يحرموا أنفسهم من غناهم، مصرحين بأنهم سيكونوا أكثر غبطة دون شك، إذ يعطون من فضلاتهم، مما هو أصلاً ملك لهم، متعالين على أن يقتنوا عملاً يدويًا، وأن يتناولوا طعام الدير المتواضع. مثل هؤلاء يجب ان يعلموا أنهم يخدعون أنفسهم. إنهم لم ينبذوا العالم حقًا، ماداموا لا يزالون متعلقين بغناهم.
أما إذا كانوا يريدون حقًا وصدقًا أن يقوموا بممارسة الحياة الرهبانية، فعليهم أن يتخلوا ويهجروا جميع هذه الأشياء ولا يحتجزوا لأنفسهم أي شيء مما نبذوه فيتمجدون مع الرسول “في جوع وعطش وفي برد وعرى” (2 كو27:11).
الفصل السابع عشر
في ترك الرسل والكنيسة الاولى لأباطيل العالم
يبدو ذاك (الذي بتأكيده أنه حاصل على امتيازات مواطن روماني منذ مولده، يشهد بأنه لم يكن شخصًا وضيعًا وفقًا لأوضاع هذا العالم) أنه لم يكن قادرًا على أن يتزود من الأملاك التي كانت له من قبل!… وكان أولئك الذين كانوا مُلاكًا لأراضٍ وبيوت في أورشليم وباعوا كل شيء دون أن يستبقوا لأنفسهم شيئًا على الإطلاق، واحضروا الثمن ووضعوه عند أقدام الرسل لم يكن بمقدورهم أن يسدوا مطالب أجسادهم من أملاكهم!…
لكن الواقع أن الرسل اعتبروا أن هذه هي الخطة المثلى للحياة، وآثروها على كل شيء عداها، وقد تخلوا عن جميع ممتلكاتهم في الحال، وآثروا أن يعولوا أنفسهم من ثمار عملهم، ومن إعانات الأمميين، الذين تكلم الرسول القديس عن جمعهم لها، في رسالته إلى أهل رومية، مفصحًا لهم عن موقفه من هذا الأمر. فقد حثهم على القيام بهذا الجمع، قائلاً: “ولكن الآن أنا ذاهب إلى أورشليم لأخدم القديسين، لأن أهل مقدونية واخائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعا لفقراء القديسين الذين في أورشليم، استحسنوا ذلك وأنهم مدينون لهم لأنه إن كان الأمم قد اشتركوا (مع مؤمني أورشليم) في روحياتهم، فيجب عليهم أن يخدموهم في الجسديات” (رو 25:15-27).
وهو يبدي نفس الاهتمام مع أهل كورنثوس، ويحثهم بأكثر اجتهاد كي يعدوا قبل وصوله ما يجمعونه وهو ما كان ينوى إرساله لسد حاجاتهم قائلاً: “أما من جهة الجمع لأجل القديسين فكما أوصيت كنائس غلاطية هكذا افعلوا أنتم أيضًا، في كل أول أسبوع ليضع كل واحد منكم عنده خازنًا ما تيسر حتى إذا جئت لا يكون جمع حينئذ، ومتى حضرت فالذين تستحسنونهم أرسلهم برسائل ليحملوا إحسانكم إلى أورشليم” (1 كو1:16-4).
ولكي يشجعهم على زيادة الجمع يضيف قائلاً: “وإن كان يستحق أن أذهب أنا أيضًا فسيذهبون معي”، يقصد القول بأنه مستعد للاشتراك في حمل تقدمتهم والسفر بها مع الوفد المرافق إذا كانت من الوفرة بحيث تستدعى ذلك.
وكذلك يشهد للغلاطيين بأنه عندما راح يقتسم خدمة الكرازة مع الرسل، رتب الأمر مع يعقوب وبطرس ويوحنا على أن يقوم بالكرازة بين الأمم، ولكن ينبغي ألا يغفل العناية بالفقراء بأورشليم وتدبير أمورهم، أولئك الذين تخلوا عن جميع ممتلكاتهم واختاروا الفقر الاختياري من أجل المسيح.
وقد قال في رسالته إلى أهل غلاطية بهذا الصدد: “فإذ علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب وصفا ويوحنا المعتبرون انهم أعمدة أعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم، وأما هم فللختان، غير أن نذكر الفقراء، وهذا أيضًا كنت اعتنيت أن أفعله” (غل2:9-10)…
من هم إذن أكثر استحقاقًا للنعمة، أولئك الذين لم يجمعوا من بين الوثنيين إلا متأخرا ولعجزهم عن الارتقاء إلى مراتب كمال الإنجيل، فتشبثوا بممتلكاتهم واكتفي الرسول بنهيهم عن عبادة الأوثان والامتناع عن الزنى والدم والمخنوق (أع20:15). واعتنقوا الإيمان بالمسيح مع احتفاظهم بكافة ممتلكاتهم، أم أولئك الذين يعيشون وفقًا لوصايا الإنجيل، ويحملون صليب الرب كل يوم، ولا يريدون أن يستبقوا أيضًا شيء من ممتلكاتهم لنفعهم الخاص؟…
إذا كان الرسول الطوباوي مقيدًا بالسلاسل والأصفاد، أو عاقته مشاق السفر، ولهذه الأسباب لم يتيسر له أن يعول نفسه بيديه، كما كان يصنع دائمًا، فصرّح أنه تسلم ما يسد احتياجاته من الاخوة الذين قدموا من مقدونية. قائلاً: “لأن احتياجي سدّه الاخوة الذين قدِموا من مقدونية” (2كو9:11).
كما يقول لأهل فيلبي: “وأنتم أيضًا تعلمون أيها الفيليبيون أنه في بداءة الإنجيل لما خرجت من مقدونية لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلا أنتم وحدكم، فإنكم في تسالونيكي أيضًا أرسلتم إليَّ مرة ومرتين لحاجتي” (في15:4-16). (وما دام الأمر كذلك) فإذن وفقًا لفكرة هؤلاء الرجال، التي كوّنوها في برودة قلوبهم، يصبح أولئك القوم أكثر استحقاقًا للنعمة من الرسول العظيم، لأنه قد اتضح أنهم خدموه بمالهم! ما من أحد يتجاسر على هذا القول ولو كان مفرطًا في حماقته!
الفصل الثامن عشر
في أننا لو رغبنا في أن نحاكي الرسل ينبغي علينا ألا نحيا وفقًا لمواهبنا الخاصة بل نحذو حذوهم
لو أردنا أن نطيع وصايا الإنجيل، وأن نظهر أنفسنا كأتباع للرسول والكنيسة الأولى بأكملها، أو للآباء الذين في أيامنا قد وصلوا إلى فضائلهم وكمالهم، علينا ألا نستسلم لتصوراتنا، واعدين أنفسنا بالكمال من هذه الحالة الفاترة الشقية التي لنا، بل إذ نقتفي آثارهم، ينبغي علينا ألا نستهدف الاهتمام بفكرنا بأية حال من الأحوال، إنما نتمسك بأنظمة الدير وأوامره، كي يتيسر لنا حقًا نبذ أباطيل هذا العالم، غير محتفظين بأي شيء من تلك الأشياء التي احتقرناها، غير مستسلمين في ذلك لتجرية نقص الإيمان، بل نسعى في الحصول على طعامنا اليومي، لا من مالنا المكتنز، بل من كد أيدينا.
الفصل التاسع عشر
قول القديس الأسقف باسيليوس موجه ضد سنكليتوس
يوجد قول مأثور ورد على لسان القديس باسيليوس أسقف قيصارية ضد شخص يدعى سنكليتوس، كان آخذًا في عدم المبالاة مع ضرب من الفتور، الذي تكلمنا عنه. على الرغم من تأكيده أنه نبذ أباطيل هذا العالم فقد استبقى لنفسه بعض ممتلكاته، غير راغبٍ في أن يعول نفسه من عمل يديه، وأن يحوز التواضع الحقيقي بتجرده وجهاده الشاق وخضوعه للدير. ومن ثم قال له القديس: “لقد فسدت يا سنكليتوس، ولم تصبح راهبًا.
الفصل العشرون
مدى حقارة من يغلبه الطمع
لو أردنا أن نجاهد بطريقة قانونية في صراعنا الروحي، علينا أن نطرد أيضًا هذا العدو الخطر من قلوبنا، ذلك لأن انتصارنا عليه ليس فيه من الفضيلة قدر ما في انتصاره علينا من عار ومهانة. لأنه إذا انتصر عليك شخص قوي فإنه على الرغم مما يسفر عن الهزيمة من أسى، وما يسببه ضياع النصرة من ألم، فثمة بعض عزاء قد تجده في شعورك بأن من غلبك قوي. أما إذا كان العدو هزيلاً، والصراع تافهًا ضئيلاً، فبجانب الأسى الذي تخلقه الهزيمة، فهناك خزي أشد مهانة، وعار أسوأ من الخسارة.
الفصل الحادي والعشرون
كيف يمكن قهر الطمع
تتم أعظم نصرة وأخلد ظفر إذا لم يتدنس ضمير الراهب، كما يقال، بامتلاك أصغر قطعة نقد. ذلك لأن من تقهره أقل ملكية يسمح لجذور شهوة شريرة أن تخترق قلبه. ويستحيل على مثل هذا الشخص ألا يشتعل بعد ذلك بنيران شهوة أشد. فجندي المسيح ينتصر وينعم بالأمن والطمأنينة، والتحرر من كل هجمات الاشتهاء، ما دامت هذه الروح الممعنة في الشر لا تغرس في قلبه بذرة هذه الشهوة. هكذا بينما نحن مطالبون عادة في كل الخطايا، أن نراقب رأس التنين (تك15:3)،
فكل ما يلزمنا فعله إزاء هذه الخطية هو أن نكون أكثر حذرًا وأشد حيطة، لأننا إذا قبلناها نمت إذ تغذي نفسها، وتوقد لذاتها نارًا أشد خطرًا. من ثمة ينبغي علينا ليس فقط أن نأخذ حذرنا من حيازة المال، بل ننتزع أيضًا من نفوسنا تلهفنا عليه، إذ من واجبنا، لا أن نتحاشى نتائج الطمع، إنما بالأكثر أن نستأصل جذور كل نزوع إليه، إذ أن عدم امتلاكنا للمال لا يفيدنا ما دامت فينا شهوة الحصول عليه.
الفصل الثاني والعشرون
في أنه قد يوصم بالطمع من لا مال عنده
من المحتمل أن إنسانًا لا يملك شيئًا يكون مستعبدًا لعلة الطمع، ولا تنفعه نعمة الفقر المدقع، لأنه لم يستطع أن يستأصل من نفسه جذور خطية الشراهة، متقبلاً مزايا الفقر لا لحسن فضائله، وراضيًا بثقل الحاجة إنما في فتور القلب. ذلك لأنه كما أن كلمة الإنجيل تعلن أن الذين لا يتدنسون بالجسد قد يزنون في القلب، وأن من المحتمل أن أولئك الذين لا يثقل كاهلهم عبء المال تلحقهم لعنة نزعة الطمع وقصده لأن ما كان يعوزهم هي “فرصة” الامتلاك وليست “إرادته”،
لأن الثانية هي التي يُتوجها اللَّه دون الجبر، لهذا يلزمنا أن نستخدم كل حصانة، لئلا تتبدد ثمار جهادنا في غير ما يجدي. لأنه من المحزن أن يتحمل المرء أثار الفقر أو العوز، ولكنه يفقد ثماره، بسبب سقوط الإرادة المزعزعة.
الفصل الثالث والعشرون
مثل مأخوذ من حالة يهوذا
أتريد أن تعلم مدى خطورة هذه الغواية وأضرارها، ما لم تُقتلع بحذر، على صاحبها والدمار الذي تلحقه به، وما يتشعب منها من فروع شتى الخطايا؟ انظر إلى يهوذا، المعدود من بين التلاميذ، وتأمل كيف بسبب إقدامه على سحق رأس هذا التنين القاتل، قُضي عليه بِسمُه، وكيف أنه لما وقع في شباك هذه الشهوة ألقت به في الخطية وفي سقطة عاجلة،
حتى أنها أغوته على بيع فادي الأنام، ومنشئ خلاص الإنسان بثلاثين من الفضة، وأنه لم يكن من المستطاع دفعه إلى هذه الخطية المنكرة، خطية خيانة سيده، ما لم يكن قد لطخته خطية الطمع. كذلك ما كان لينساق إلى الإجرام في حق سيده بهذه الصورة البشعة، ما لم يكن قد عوّد نفسه على السرقة من الكيس المودع لديه.
الفصل الرابع والعشرون
في أنه لا يمكن قهر الطمع إلا إذًا جرد المرء نفسه من كل شيء
هذا مثل واضح فظيع لهذا الطغيان الذي إذا وقع العقل في أسره خرج عن كل قواعد الأمانة، ولا يقنع بأي مزيد من الأرباح. ذلك لأنه لزام علينا أن نحسم هذا الجنون، ليس بالثراء إنما بتجريد أنفسنا منه. أخيرًا فإن يهوذا عندما تسلم الكيس المخصص للتوزيع على الفقراء، والمودع في ذمته لهذا الغرض، كي يتيسر له على الأقل أن يرضي نفسه بالمال الكثير، ويضع حدًا لجشعه، دفعه هذا الكثير الذي تحت يده إلى مزيد من الطمع والجشع، حتى أنه لم يعد يقتصر على السرقة سرًا من الكيس، بل باع سيده بالفعل، لأن جنون هذا الجشع لا يقنع بأي قدر من الثراء.
الفصل الخامس والعشرون
في الميتات التي حلّت بحنانيا وسفيرة ويهوذا بسبب شهوة الطمع
وأخيرًا فإن العظيم في الرسل، إذ تعلم من هذه الأمثلة، ولعلمه أن المصاب بأي قدر من الطمع لا يستطيع كبح جماحه، وأنه غير ميسور وضع حد له بمبلغ من المال كبيرًا كان أو صغيرًا، إنما بفضيلة نبذ كل شيء، عاقب حنانيا وسفيرة بالموت، لأنهما استبقيا جزءً من ثمنه لملكهما، حتى أن الموت الذي لاقاه يهوذا طائعًا لارتكابه خطية خيانة سيده، لابد أن يلحقهما لوقوعهما في خطية الكذب بسبب طمعهما، فما أقوى الصلة القائمة بين الخطية والعقوبة في كل من الحالتين!
وهكذا كانت نتيجة الطمع في الحالة الأولى هي الخيانة، وفي الحالة الثانية الكذب؛ في الحالة الأولى أُهدر الحق وتمت خيانة، وفي الحالة الثانية ارتكبت خطية الكذب، فمع أن نتائج أعمالهما قد تبدو مختلفة، إلا أنهما يتفقان في وحدة الهدف وتماثله.
فواحد إذ أراد الفرار من الفقر رغب في أن يسترد ما سبق أن تخلى عنه، بينما الآخران إذ خشيا أن يصبحا فقيرين حاولا استبقاء جزءٍ من ثمن مِلكهما الذي باعاه، والذي كان من واجبهما إما أن يسلماه للرسول في إيمان ثابت ونيّة صافية، أو أن يهباه للاخوة بأكمله. هكذا في كل من الحالين جاءت عقوبة الموت في الأعقاب، لأن كل خطية منهما نبتت من جذور الطمع. وإذا كانت مثل هذه العقوبة الشديدة قد وقعت على أولئك الذين لم يطمعوا في ممتلكات الآخرين إنما الذين حاولوا فقط الحرص على ما يملكون، والذين لم يستهدفوا الحيازة والاقتناء بل مجرد الاحتجاز والاستبقاء،
فماذا نظن في مصير أولئك الذين يرغبون في جمع الثروة واكتنازها، دون أن يكون لهم فيها درهم أو دينار، والذين يتظاهرون بالفقر أمام الناس، ولكنهم أمام اللَّه مدانون بالغنى الزائف بسبب شهوة الطمع؟
الفصل السادس والعشرون
في أن الطمع يصيب النفس ببرصٍ روحي
والذين يتراءون مجزومين في الروح والقلب، مثل جيحزي الذي إذ اشتهى غنى هذا العالم غير اليقيني، دهمه مرض البرص البغيض، وبهذا ترك لنا مثلاً واضحًا في أن كل نفس مدنسة بوصمة الشراهة يصيبها برص الخطية الروحي وتعتبر أمام اللَّه مدنسة بصفة دائمة.
الفصل السابع والعشرون
إن كنت بدافع من رغبتك في الكمال قد هجرت جميع الأشياء وتبعت المسيح الذي يقول لك: “اذهب وبع أملاكك أعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني” (مت 21:19)… لماذا بعد أن وضعت يدك على المحراث تنظر إلى الوراء، حتى يعلن الرب نفسه عنك أنك غير صالح لملكوت السموات؟ (لو 62:9)… ولماذا بعد أن كنت آمنًا على قمة سقف الإنجيل، نزلت إلى البيت لتحمل بعض ما فيه من تلك الأشياء التي سبق أن احتقرتها؟…
ولماذا بعد أن خرجت إلى الحقل ورحت تشتغل بالفضائل عُدت مسرعًا وحاولت أن تلبس ثانية ثياب هذا العالم التي خلعتها عنك حين نبذته؟ (لو31:17)… ولكن إذ قد عاقك الفقر عن امتلاك شيء تتخلى عنه، فبالأحرى ينبغي ألا تكتنز ما لم يكن لك قط من قبل، لأنك بنعمة الرب كنت معدًا لهذا الغرض كي ما تُسارع إليه وأنت أكثر استعدادًا مادامت لا تعوقك ِشباك الغنى. ليته لا يغتم إنسان ويفشل لأنه يعوزه شِئ يتخلى عنه، لأنه ما من أحد إلا ولديه شيء يتخلى عنه.
لقد نبذ جميع مقتنيات هذا العالم، أي إنسان استأصل تمامًا من قلبه الرغبة في حيازتها وامتلاكها.
الفصل الثامن والعشرون
في أن الانتصار على الطمع لا يمكن تحقيقه إلا إذا جرد الإنسان نفسه من كل شيء
هذا إذن هو الانتصار التام على الطمع، لا نسمح لومضة من أصغر فضلاته أن تبقى في قلوبنا، إذ نعلم أنه لن يكون لدينا أية قدرة على إخماده إن احتفظنا في أعماقنا بأصغر شرارة منه.
الفصل التاسع والعشرون
كيف يستطيع راهب أن يحتفظ بفقره
نستطيع أن نحافظ على هذه الفضيلة دون مساس إذا مكثنا مقيمين في دير، وكما يقول الرسول: “فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما” (1تي8:6).
الفصل الثلاثون
طرق الوقاية من مرض الطمع
إذ نذكر دائمًا مصير حنانيا وسفيرة، لابد أن نجزع ونتحاشى استبقاء أيضًا شيء مما تخلينا عنه ونذرنا أن نهجره. فلنتعظ من مثال جيحزي السيئ، فبسبب خطية الطمع عوقب بالبرص الدائم جزاءً وفاقًا. لهذا فلنحترس من اقتناء ثروة لم نمتلكها قط من قبل. أضف إلى هذا علينا أن نرهب سقطة يهوذا وموته، ومن ثمة نتجنب بكل قوانا استرداد أي جزء من تلك الثروة التي سبق أن تخلصنا منها، وفوق كل هذا، علينا ونحن نرقب طبيعتنا الضعيفة المتغيرة فنتحرر لئلا يأتي يوم الرب علينا كلص في الليل (1تس4:5).
ويجد ضميرنا مدنسًا ولو بقرش واحد، لان ذلك يحرمنا من كل ثمار نبذنا للعالم، ويوجه إلينا كلمات الرب للغني، التي جاءت في الإنجيل:“يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟!” (لو20:12) وإذ لا نهتم بالغد علينا ألا نسمح قط لأنفسنا بإغوائنا عن قواعد التجرد والنسك.
الفصل الحادي والثلاثون
في أنه ما من أحد يستطيع أن يغلب الطمع إلا إذا أقام في خلوة الدير، وكيف يستطيع الإقامة هناك
لكن من المؤكد انه لن يُسمح لنا بهذا، أو حتى بالبقاء تحت سلطة نظام، إلا إذا تأسست فينا أولاً وتدعمت فضيلة الصبر والاحتمال، التي لا يمكن انبعاثها إلا من التواضع كمصدر لها، لأن الواحدة تعلمنا ألا نزعج أي شخص آخر، والأخرى تعلمنا ان نحتمل في سماحة واتساع صدر إهانات الآخرين لنا.
ترجمة: الراهب باسيليوس السرياني (السابق).
No Result
View All Result
Discussion about this post