رسالة الفادي
Redemptoris missio
رسالة جامعة
للبابا يوحنا بولس الثاني
في الصلاحية الدائمة للدعوة الإرسالية
أيها الأخوة المحترمون والأبناء الأعزاء،
سلام وبركة رسولية!
المقدمة
1- ما زالت رسالة المسيح الفادي التي اؤتمنت الكنيسة عليها، بعيدة جدا عن اكتمالها. ومن خلال نظرة إجمالية إلى البشرية في نهاية الألف الثاني لمجيئه تظهر الرسالة وكأنها لا تزال في بدايتها، وأن علينا أن نلتزم بكل قوانا في خدمتها. الروح هو الذي يدفع إلى الإعلان عن أعمال الله العظيمة: “إذا بشّرت فليس في ذلك مفخرة لأنها فريضة لا بدّ لي منها. والويل لي أن لم أبشّر” (1 قور 9/ 16).
أشعر بشدّة بواجب تكرار نداء القديس بولس، باسم الكنيسة كلّها. منذ بداية حبريتي، اخترت السفر إلى أقاصي الأرض لأظهر هذه الغيرة الرسولية، وبالتحديد، بعد احتكاكي المباشر مع الشعوب التي تجهل المسيح، زادت لديّ القناعة بالحاجة الماسة إلى النشاط الرسولي الذي اخصّص له هذه الرسالة.
لقد أراد المجمع الفاتيكاني الثاني أن يجدّد حياة الكنيسة ونشاطها بحسب حاجات العالم المعاصر، وقد شدّد على طابعها الرسولي، إذ وضع أساسه بطريقة دينامية على الرسالة الثالوثية نفسها. إن الدفع الرسولي يتصل بطبيعة الحياة المسيحية الحميمة. كما أنه يلهم العمل المسكوني: “لكي يتّحدوا جميعا… ويؤمن العالم أنّك أنت ارسلتني” (يو 17/ 21).
2- إن ثمار المجمع في ما يختّص بالرسالة لوافرة. فقد تعدّدت الكنائس المحلية، مع أساقفها واكليروسها و
وجهازها الرسولي. ونلاحظ أن الجماعات المسيحية تندمج أكثر في حياة الشعوب، وإن الشركة بين الكنائس تؤدّي إلى تبادل كثيف لعطايا روحية ومواهب، والتزام العلمانيين في التبشير بالأنجيل في طريقه نحو تبديل حياة الكنيسة، والكنائس الخاصة في طريقها نحو الانفتاح على اللقاء والحوار والتعاون مع أعضاء من كنائس مسيحية أخرى ومن ديانات متعددة، سيما وأن عيا جديدا بات يتأكد، وهو أن الرسالة تعني المسيحيين جميعا والأبرشيات والرعايا والمؤسسات والمجمّعات الكنسية كلّها.
إلاّ أنه، في “الربيع الجديد” للمسيحية، لا يمكن السكوت عن ميل سلبي تودّ هذه الوثيقة أن تسهم في تجاوزه. يبدو أن الرسالة الخاصة “إلى الأمم” تضاءل نشاطها. ومما لا يتماشى بالتأكيد مع توجيهات المجمع ولا مع تعليم السلطة اللاحق. إن صعوبات داخلية وخارجية أضعفت دفع الكنيسة الرسولي نحو غير المسيحيين. وهو واقع يجب أن يقلق كلّ المؤمنين بالمسيح. في تاريخ الكنيسة، في الواقع، كانت الدينامية الرسولية دائما علامة حياة، كما أن ضعفها بات علامة أزمة إيمان (1).
بعد خمسة وعشرين عاما على اختتام المجمع وصدور قرار “إلى الأمم”، في النشاط الرسولي، وبعد خمس عشرة سنة مرت على صدور الإرشاد الرسولي في “واجب التبشير بالأنجيل” للبابا بولس السادس، أودّ أن أدعو الكنيسة إلى تجديد التزامها الرسولي، متابعا بذلك تعليم أسلافي في هذا الموضوع (2). إن لهذه الوثيقة هدفا ذا طابع داخلي: تجديد الإيمان والحياة المسيحية. فالرسالة، بالواقع، تجدّد الكنيسة، وتقّوي الإيمان والهوية المسيحية، وتعطي مزيدا من الحماس والدوافع الجديدة. يتقوّى الإيمان عندما نعطيه. فتبشير الشعوب بالإنجيل يجد الهاما ودعما في الإلتزام بالرسالة الشاملة.
بيد أن ما يحثّني، بالأكثر، على إعلان رسالة التبشير، فكونها تشكل الخدمة الأولى التي يمكن الكنيسة أن تؤدّيها لكلّ إنسان وللبشرية جمعاء في عالم اليوم، هذا العالم الذي يعرف اكتشافات عجيبة، ولكنه يبدو أنه قد فقد معنى الحقائق النهائية لوجوده. “ولهذا السبب أظهر المسيح الفادي تماما على ما أشرنا إليه في رسالتنا الأولى الإنسان للإنسان عينه…[ الإنسان الذي يتوق إلى معرفة أغوار نفسه…[ عليه أن يلوذ بالمسيح…[ الفداء الذي تم بالصليب أعاد إلى الإنسان وإلى الأبد كرامته ومعنى وجوده في العالم” (3).
لا تنقصنا دوافع أخرى ولا أهداف أخرى، مثل الاستجابة لمتطلبات عديدة تنطوي عليها مثل هذه الوثيقة. وإن لفي تبديد الشكوك والغموض، في ما يخص الرسالة “إلى الأمم”، بتثبيتنا أخوتنا وأخواتنا الذين يتكرسون للنشاط في الرسالات ومعهم الذين يساعدونهم في التزاماتهم بتنشيط الدعوات للرسالات، كما وفي تشجيع اللاهوتيين على التعمق في مختلف نواحي الرسالة كافة وعرضها عرضا منهجيا، إعادة دفع للرسالة بصورة مميزة، وذلك بالزام كلّ الكنائس الخاصة، وبخاصة الكنائس الفتية، على استقبال المرسلين وارسالهم، طمأنة غير المسيحيين، وبخاصة السلطات المدنية في البلدان التي يتوجّه إليها النشاط الرسولي، أن لهذا الأخير غاية وحيدة وهي خدمة الإنسان بإظهار محبة الله التي في يسوع المسيح.
3- فيا أيها الشعوب جميعا، افتحوا الأبواب للمسيح! فإنجيله لا ينتقص من حرية الإنسان شيئا، ولا من الاحترام الواجب للثقافات، ولا ممّا هو صالح في كل ديانة. بتقبّلكم المسيح، تنفتحون على كلمة الله النهائية، على الذي به عرّفنا الله بذاته بصورة كاملة، وبه أظهر لنا الطريق التي نسلكها إليه.
إن عدد الذين يجهلون المسيح ولا ينتمون إلى الكنيسة يزداد يوما بعد يوم، حتى أنه تضاعف منذ اختتام المجمع. وأمام هذا العدد الكبير من البشر الذين أحبّهم الآب ومن أجلهم أرسل ابنه، تبرز ضرورة الرسالة الملحة.
من جهة ثانية، إن عصرنا يقدّم إلى الكنيسة دوافع جديدة للعمل في هذا المضمار: سقوط ايديولوجيات وأنظمة سياسية تعسّفية، وفتح الحدود وبناء عالم أكثر وحدة بفضل تقدم وسائل التواصل واعتراف متنام عند الشعوب بالقيم الإنجيلية التي جسّدها يسوع في حياته (السلام والعدالة والأخوّة والاهتمام بالمستصغرين). إنه شكل من التطور الاقتصادي، والتقني الجاف. ولكنه يدعو إلى التفتيش عن الحقيقة حول الله، والإنسان، ومعنى الحياة.
إن الله يفتح أمام الكنيسة آفاقا بشرية أكثر استعدادا لتقبّل بذار الإنجيل. استطيع القول إن الوقت قد حان لأن تلتزم كلّ القوى الكنسية في التبشير الجديد بالإنجيل وفي الرسالة “إلى الأمم”. ما من أحد يؤمن بالمسيح، وما من مؤسس في الكنيسة، يمكنه أن يتنصّل من هذا الواجب الأسمى، واجب تبشير كلّ الأمم بالمسيح.
الفصل الأول
يسوع المسيح المخلّص الوحيد
4- “إن مهمّة الكنيسة الأساسية على ما أشرنا إليه في رسالتنا الأولى – في كل عصر وفي هذا العصر،
هي أن توجه عقل الإنسان وتهدي البشر أجمعين وخبرتهم نحو سر المسيح” (4).
إن رسالة الكنيسة العالمية تنبع من الإيمان بيسوع المسيح، كما يعلنه فعل الإيمان الثالوثي “أؤمن برب واحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كلّ الدهور… الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء. وبواسطة الروح القدس، تجسد من العذراء مريم، وصار إنسانا” (5). إن حدث الخلاص هو أساس خلاص الجميع. لأن سر الفداء شمل كلا من الناس، إذ أن المسيح، عبر سر الفداء، انضم إلى كل إنسان في كل زمان” (6).
ورغم ذلك، فبسبب متغيرات الزمن الحديث وانتشار عدد من المفاهيم اللاهوتية الجديدة، يتساءل البعض هل إن الرسالة إلى غير المسيحيين لا تزال قائمة؟ ألم تستبدل بالحوار بين الديانات؟ أليس الترقي هدفا كافيا؟ هل إن احترام الضمير والحرية لا ينفي كل عرض للأهتداء؟ ألا يستطيع المرء أن يحقق خلاصه في أية ديانة كانت؟ إذن لماذا الرسالة؟
“لا يأتي أحد إلى الآب إلاّ بي” (يو 14/ 6).
5- إذا عدنا إلى بدايات الكنيسة، نجد تأكيدا واضحاً وهو أن المسيح هو المخلّص الوحيد للجميع، وهو
الذي وحده يقدر أن يظهر الله وأن يقود إلى الله. تسأل السلطات الدينية اليهودية بطرس في موضوع شفاء الكسيح عمّا قام به، فيجيب بطرس: “باسم يسوع الناصري، الذي أنتم صلبتموه، والذي أقامه الله من بين الأموات، فيه وحده الخلاص، لأن ما من اسم آخر تحت السماء أعطي للبشر ننال به الخلاص، فباسمه لا باسم أي إنسان آخر يقف أمامكم هذا الرجل معافى” (رسل 4/ 10 ، 12). إن لهذا التأكيد الموجّه إلى المحفل بعداً شاملا. لأن الخلاص لا يأتي للجميع – يهود ووثنيين – إلاّ في يسوع المسيح.
إن شمولية هذا الخلاص بالمسيح ثابتة في العهد الجديد كلّه. في المسيح القائم، يرى القديس بولس “الرب”. لقد كتب قائلا: “وقد يكون في السماء أو في الأرض ما يزعم أنهم آلهة، بل هناك كثرة من الآلهة وكثير من الأّرباب، وأمّا عندنا نحن، فليس إلاّ إله واحد، وهو الآب، منه كلّ شيء وإليه نحن أيضا، وربّ واحد وهو يسوع المسيح، به كلّ شيء، وبه نحن أيضا” (1 قور 8/ 5 – 6). إن الله الأحد والرب الأحد معلنان، من باب نفي تعددية “الآلهة” و”الأرباب” التي كان يعرفها الشعب. ينتفض بولس ضدّ تعدّد الآلهة في المحيط الديني في عصره ويبرز خاصة الإيمان المسيحي المميز: الإيمان بإله واحد، وبربّ واحد مرسل من الله.
في إنجيل القديس يوحنا، تتضمّن شمولية الخلاص المسيحي نواحي من رسالته، رسالة النعمة، والحق والوحي: “كان النور الحق، الذي ينير كلّ إنسان” (يو 1/ 9)، وأيضا: “الله ما رآه أحد قط، الإبن الواحد، الكائن في حضن الآب، هو أخبر عنه” (يو 1/ 18، متى 11/ 27). إن وحي الله يصبح بإبنه الوحيد نهائيا ومكتملا: “إن الله بعد أن كلّم الآباء قديما بالأنبياء ومرات كثيرة وبوجوه كثيرة، كلّمنا في آخر الأيام هذه بابن جعله وارثا لكلّ شيء وبه أنشأ العالمين” (عب 1/1 – 2، يو 14/ 6). في كلمة الوحي النهائية هذه، عرّف الله عن نفسه بصورة كاملة: قال للبشرية من هو. وهذا الوحي النهائي الذي أوحى به الله عن ذاته هو السبب الأساسي الذي من أجله كانت الكنيسة رسولية بطبيعتها. لا يمكنها ألاّ أن تعلن الإنجيل، أي ملء الحقيقة التي بها عرّفنا الله عن نفسه.
إن المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والبشر، “لأن الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، الإنسان، المسيح يسوع الذي جاد بنفسه فدى لجميع الناس. تلك شهادة أدّيت في الأوقات المحددة لها، وأقمت أنا لها داعيا ورسولا – أقول الحق ولا أكذب – معلّما للوثنيين في الإيمان والحق” (1 طيم 2/ 5 – 7، راجع عب 4/ 14 – 16). لا يستطيع البشر إذا أن يدخلوا في شركة مع الله إلاّ بالمسيح بفعل الروح. إن وساطته الوحيدة الشاملة أبعد من أن تكون حاجزا على الطريق الذي يقود إلى الله، الطريق الذي رسمه الله بنفسه، والمسيح يعرفه تماما. ذلك لا ينفي اسهام وساطات أخرى من أشكال ونظم مختلفة. ولكن هذه لا تستمد معناها وقيمتها إلا بالمسيح، ولا يجوز اعتبارها متوازية أو متكاملة معها.
6- إنه لمن المناقض للإيمان المسيحي فصل الكلمة عن يسوع المسيح. يؤكّد القديس يوحنا بوضوح أنّ
الكلمة الذي “في البدء كان مع الله”، هو نفسه الذي “صار بشرا” (يو 1/ 2 – 14). يسوع هو الكلمة المتجسد، شخص واحد وغير منقسم، لا نستطيع أن نفصل يسوع عن المسيح، ولا أن نتكلّم عن يسوع تاريخي قد يكون مختلفا عن مسيح الإيمان. الكنيسة تعرف يسوع وتعترف به “إنه المسيح، ابن الله الحي” (متى 16/16). فما المسيح إلاّ يسوع الناصري، وهذا هو كلمة الله الذي صار إنسانا من أجل خلاص الجميع. بالمسيح “يحلّ جميع كمال الألوهة حلولا جسديا” (قول 2/ 9). و”من ملئه نلنا جميعا” (يو1/ 16). “الابن الوحيد الكائن في حضن الآب” (يو 1/ 18) هو “الابن الحبيب، الذي نجانا… فقد حسن لدى الله أن يحلّ فيه الكمال كله. وأن يصالح به ومن أجله كلّ موجود مما في الأرض ومما في السماوات وقد حقق السلام بدم صليبه” (قول 1/ 13 – 14، 19 – 20). وهذا الطابع الفريد هو الذي يؤتي المسيح هذا المدى المطلق والشامل الذي به، مع وجوده في التاريخ، يكون مركز التاريخ بالذات (7) وغايته. “أنا الألف والياء، والأول والآخر، والبداية والنهاية” (روء 22/ 13).
فإذا كان من الطبيعي إذن والمفيد أن نأخذ بعين الإعتبار مختلف مظاهر سرّ المسيح، يجب ألاّ نغفل أبدا وحدته. فبينما نكتشف شيئا فشيئا ونقيم المواهب المتنوعة، وبخاصة الغنى الروحي، ممّا يفيد بها الله الشعوب جميعا، يجب ألاّ نفصلها عن يسوع المسيح الذي هو محور تصميم الخلاص الإلهي. “فبتجسده اتحد ابن الله نوعا ما بكل إنسان” و” علينا إذا أن نتمسك بإن الروح القدس يقدّم للجميع، الإمكانية للإشتراك في سرّ الفصح، بطريقة يعرفها الله وحده” (8). إن تصميم الله هو “إن يجمع تحت رأس واحد، هو المسيح، كلّ شيء، ما في السماوات وما في الأرض” (اف 1/ 10).
– الإيمان بالمسيح معروض على حرية الإنسان
7- إن طابع النشاط الرسولي الملحّ ينتج عن جدّة الحياة الجذرية التي أتى بها المسيح وأحياها تلاميذه. هذه
الحياة الجديدة هي هبة من الله، ويطلب إلى الإنسان أن يتقبّلها ويطوّرها، إذا أراد أن يحقّق نفسه حسب دعوته الكاملة بمطابقة نفسه مع المسيح. إن العهد الجديد كلّه هو نشيد الحياة الجديدة لمن يؤمن بالمسيح ويحيا في كنيسته. إن الخلاص بالمسيح الذي تشهد له الكنيسة وتبشّر به، هو إعطاء الله ذاته “رباط الخلق أي رباط المحبة التي لم تخلق الخيور وحسب، بل تعمل أيضا على الإشتراك في حياة الله: الآب والابن والروح القدس. ومن أحبّ تاق إلى هبة ذاته” (9).
الله يقدّم للإنسان جدة الحياة هذه. “هل نستطيع أن نرفض المسيح وكلّ ما أتى به في تاريخ الإنسان؟ أجل نستطيع! إن الإنسان حرّ. يستطيع الإنسان أن يقول لله: لا! يستطيع أن يقول للمسيح لا! لكنّ السؤال الأساسي: هل أن هذا مسموح به، وباسم ماذا يسمح به”؟ (10)
8- إنّ في العالم الحديث ميلا إلى حصر الإنسان في المدى الأفقي وحده. لكن ماذا يصبح الإنسان بدون
انفتاحه على المطلق؟ إن الجواب في اختبار كلّ إنسان، وهو أيضا مسجل في تاريخ البشرية بالدم المسكوب باسم ايديولوجيات وأنظمة سياسية أرادت أن تؤسس بشرية جديدة من دون الله. (11)
هذا وإن المجمع الفاتيكاني الثاني يجيب الذين يهمهم أمر المحافظة على حرية الضمير “إن الحرية الدينية هي حق من حقوق الشخص البشري… وتقوم هذه الحرية على أن يصان الناس أجمعون من كل ضغط، سواء كان من قبل أفراد أم من قبل فئات إجتماعية أم من قبل أي سلطة بشرية، فلا يرغم إنسان على أن يتصرف ضد ضميره في الشؤون الدينية ولا يمنع من أن يعمل حسب ضميره ضمن الحدود المعقولة، سرا أو علانية، منفردا أو مشتركا مع آخرين” (12).
إن إعلان المسيح وشهادته، عندما يتمّان مع احترام الضمائر، لا يعطلان الحرية. إن الإيمان يوجب الإنتماء الحرّ من قبل الإنسان ولكن يجب أن يعرض عليه، لأن “للجماعات الحق في معرفة غنى سر المسيح الذي نؤمن بأن البشرية كلّها تستطيع إن تجد، على أكمل وجه غير منتظر، كلّ ما تبحث عنه بتعثر، في ما يخصّ الله والإنسان ومصيره، والحياة والموت، والحقيقة… لهذا السبب تحتفظ الكنيسة بإندفاعها للرسالة حيّا، كما تريد أن تكثفّه في الآونة التاريخية التي نعيش” (13). ومع ذلك، يجب القول، ودائما مع الجميع، إن “جميع الناس، بمقتضى كرامتهم، وبما أنهم أشخاص، أي متزيّنون بالعقل والإرادة الحرة، وبالتالي، بالمسؤولية الشخصية، مدفوعون، بطبيعتهم ذاتها، إلى البحث عن الحقيقة التي تتناول الديانة أولا، وملزمون بها أدبيا، فعليهم أن يعتنقوها حالما يعرفونها، وينظموا حياتهم كلها وفقا لمقتضياتها” (14).
– الكنيسة آية الخلاص وآداته
9- إن الكنيسة هي المستفيدة الأولى من الخلاص. المسيح امتلكها بدمه (راجع رسل 20 / 28)، للإسهام
معه في عمل الخلاص الشامل. يحيا فيها، وهو بوصفه عريسها، يؤمّن نموها ويتمّم رسالته بها. لقد
ركّز المجمع كثيرا على دور الكنيسة في خلاص البشرية. والكنيسة مع إعترافها بأن الله يحبّ البشر
جميعا ويمنحهم إمكانية خلاصهم (راجع. طيم 2 / 4) (15). تعلن أن الله أقام المسيح وسيطاً وحيداً،
وأنه جعل منها هي سر الخلاص الشامل (16). “أن جميع الناس مدعوون إلى الدخول في وحدة شعب
الله الجامعة، فمن ناحية وتحت أشكال شتّى ينتمي إلى هذه الوحدة المؤمنون الكاثوليك أو ينتظمون فيها،
ومن ناحية أخرى جميع الذين يؤمنون بالمسيح، وأخيرا وبدون استثناء جميع الذين تدعوهم نعمة الله إلى
الخلاص” (17).
لابد من التمسك بهاتين الحقيقتين، أي إمكانية الخلاص الحقة في المسيح للناس أجمعين، وضرورة
الكنيسة للخلاص. كلتاهما تساعداننا على فهم السر الخلاصي الوحيد هذا، وتسمحان لنا بأن نختبر رحمة
الله ونعي مسؤوليتنا. إن الخلاص الذي هو دوما هبة الروح، يقتضي اسهام الإنسان في خلاصه الخاص، مثله في خلاص الآخرين. تلك هي إرادة الله، ولأجل ذلك، أسس الكنيسة وادرجها في قصد الخلاص: هذا الشعب المسيحاني، يقول المجمع، “قد أقامه المسيح شركة حياة ومحبة وحق، وهو بين يديه أداة خلاص كل البشر، وأرسله نورا للعالم وملحاً للأرض” (18).
– الخلاص تقدمة للبشر جميعا
10- إن شمولية الخلاص لا تعني أنه لا يمنح إلاّ للذين يؤمنون بالمسيح إيمانا صريحا والذين دخلوا في الكنيسة. إذا كان الخلاص مقدّرا للجميع، فعليه أن يكون مقدّما فعليا للجميع. إنما من البيّن، اليوم كما في الأمس، أن العديد من البشر لا يملكون إمكانية معرفة وحي الإنجيل أو تقبّله، ولا حتى دخول الكنيسة. إنهم يعيشون في حالات اجتماعية وثقافية لا تسمح لهم بذلك، وقد تربّوا في تقاليد دينية أخرى: بالنسبة إليهم، خلاص المسيح يمكن إدراكه بفضل نعمة لها صلة سريّة بالكنيسة، ولكنها لا تدخلهم فيها شكليا، بل تنيرهم بطريقة ملائمة لحالتهم الروحية، لأطارهم الحياتي. إن هذه النعمة تأتي من المسيح، وهي ثمرة ذبيحته، ومعطاة بواسطة الروح القدس. تسمح لكل واحد أن يبلغ الخلاص بإسهامه الحر.
لهذا السبب، فإن المجمع، بعد أن يؤكد على طابع سر الفصح المركزي، يعلن: “ولا يصح ذلك فقط في الذين يؤمنون بالمسيح ولكن في كل الناس ذوي الإرادة الصالحة، الذين تعمل النعمة في قلوبهم بطريقة خفية. فإذا كان المسيح مات عن الجميع، وإذا كانت دعوة الإنسان الأخيرة هي حقا واحدة للجميع، أي أنها دعوة الهية، علينا إذا أن نتمسك بأن الروح القدس يقدم للجميع الإمكانية للإشتراك في سر الفصح بطريقة يعرفها الله وحده” (19).
“نحن لا يسعنا أن نسكت” (رسل 4 / 20)
11- فما القول في الاعتراضات المذكورة على الرسالة “إلى الأمم”؟ علينا قبل كلّ شيء مع احترام القناعات الدينية والحساسيات كلّها، أن نعلن ببساطة إيماننا بالمسيح مخلّص الإنسان الوحيد، الإيمان الذي قبلناه كهبة من العلاء لا نستحقها. ومع بولس نقول: “إني لا أستحي بالبشارة، فهي قدرة الله لخلاص كل مؤمن” (روم 1 / 16). إن الشهداء المسيحيين في كل الأزمنة – وفي زمننا هذا أيضا – قد بذلوا ولا يزالون يبذلون حياتهم لتأدية الشهادة لهذا الإيمان أمام الناس، اقتناعا منهم بأن كل إنسان يحتاج إلى يسوع المسيح، هذا الذي غلب الخطيئة والموت وصالح البشر مع الله.
لقد أعلن المسيح نفسه ابن الله المتحد اتحادا وثيقا بالآب، وهكذا اعترف به تلاميذه، إذ أثبت كلامه بالأعاجيب، وبقيامته من بين الأموات. إن الكنيسة تقدّم إلى البشر الإنجيل، الوثيقة النبوية التي تتجاوب ومتطلبات القلب البشري وطموحاته: إنها دائما البشرى السارة. ولا تستطيع الكنيسة أن تعفي نفسها من الإعلان أن يسوع جاء يظهر وجه الله ويستحق بالصليب والقيامة الخلاص للبشر أجمعين.
على السؤال لماذا الرسالة؟ نجيب، بفضل إيمان الكنيسة واختبارها، إن التحرر الحق هو الانفتاح على حبّ المسيح. فيه، وفيه وحده، نحن محررون من كل اغتراب وكل ضياع، ومن الخضوع لسلطان الخطيئة والموت.
المسيح “هو سلامنا حقا” (اف 12 / 14)، و”محبة المسيح تحثنا” (2 قو 5 / 14)، وهو يعطي حياتنا معناها وفرحها. الرسالة قضية إيمان، هي بالضبط مقياس إيماننا بيسوع المسيح وبمحبته لنا.
إن المسيحية تتعرض اليوم لتجربة تقليصها إلى مجرد حكمة بشرية، وبنوع ما إلى علم حياة الرفاهية. ففي عالم معلمن للغاية، ظهرت علمنة متطورة لمفهوم الخلاص، الأمر الذي نجاهد من أجله في سبيل الإنسان، لكنه إنسان مشوه، محجم في بعده الأفقي. في المقابل، نحن نعلم أن يسوع جاء حاملا الخلاص الكامل العجيب الذي يتناول الإنسان كله والبشر جميعا ويجعلهم ينفتحون على أفق البنوة الإلهية.
لماذا الرسالة؟ لأن، لنا كما للقديس بولس، “أعطيت هذه النعمة وهي أن نبشّر الوثنيين بما في المسيح من غنى” (ا ف 3 / 8). إن جدة الحياة فيه هي “البشرى السارة للإنسان في كل الأزمنة: إن البشر بأجمعهم مدعوون ومعدون لها. والجميع بالواقع يفتشون عنها، حتى لو كان أحيانا بطريقة مشوشة، وللجميع الحق في معرفة قيمة هذه الهبة والوصول إليها. الكنيسة، مع كل مسيحي فيها، لا تستطيع أن تخبئ ولا أن تحتفظ لنفسها بهذا الجديد وبهذا الغنى اللذين تنالهما من الجودة الإلهية لكي يتوزعا على الجميع.
ولهذا السبب لا تنبع هذه الرسالة فقط من وصية الرب الصريحة، بل تفرضها حياة الله فينا وعلينا أيضاً في العمق فالذين هم جزء من الكنيسة الكاثوليكية عليهم أن يعتبروا أنفسهم من المنعم عليهم وبالتالي هم ملتزمون أكثر بإعطاء شهادة إيمان وحياة مسيحية تكون خدمة تجاه أخوتهم وجوابا واجباً لله، متذكرين أن “على أبناء الكنيسة كلهم أن يتذكروا أن وضعهم الممتاز يرجع، لا إلى استحقاقاتهم الشخصية بل إلى نعمة خاصة من المسيح، التي إذا لم يتجاوبوا معها فكرا وقولا وفعلا، استحق لهم لا الخلاص بل دينونة عظمى” (20).
الفصل الثاني
ملكوت الله
12- “هو الله الغني بالمراحم الذي كشف لنا يسوع أبا: هو ابنه عينه من أظهره لنا بذاته وبرهن عنه بنفسه” (21). هذا ما كتبته في مستهل الرسالة العامة “الغنى بالرحمة”، لأظهر أن رحمة الآب تجلّت وتجسدت في المسيح. يقتضي الخلاص الإيمان وقبول سرّ الآب ومحبته، الآب الذي يتجلى ويهب ذاته في يسوع بالروح. هكذا يتمّ ملك الله المعدّ منذ الميثاق العتيق، المحقّق بالمسيح وفي المسيح والذي تبشّر به الكنيسة الأمم كافة وهي تعمل وتصلّي من أجل تحقيقه الكامل والنهائي.
يشهد العهد العتيق أن الله اختار وأسّس شعبا لأظهار وتحقيق محبته. لكنّ الله في الوقت نفسه هو خالق وأب للبشر أجمعين، يعتني بالجميع ويبسط بركته على الجميع (راجع تك 12 / 3) وقد أقام مع الجميع ميثاقا (راجع تك 9 / 1 – 17). يقوم اسرائيل بإختبار إله شخصيّ ومخلّص (راجع تث 4 / 37، 7 / 6 – 8، اش 43 / 1 – 7) فيصبح شاهدا له وناطقا باسمه بين الأمم، ويدرك اسرائيل، في مجرى تاريخه، أنّ لأختباره بعدا شاملا (راجع، مثلا، اش 2/2 – 5، و 25 / 6 – 8، و 60 / 1 – 6، و ار 3 / 17، و 16 / 19).
– المسيح يجعل الملكوت حاضرا
13- إن يسوع الناصري ينجز تصميم الله. فبعد قبوله الروح القدس في المعمودية، يظهر دعوته المسيحانية. يطوف الجليل معلنا بشارة الله قائلا: “حان الوقت واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالبشارة” (مر 1 / 14 – 15، راجع متى 4 / 17، لو 4 / 43). إنّ إعلان ملكوت الله وبنيانه هما موضوع رسالته “إني لهذا أرسلت” (لو 4 / 43). بل ما هو أكثر من ذلك أن يسوع نفسه البشرى السارة كما يعلن في مجمع قريته منذ بدء رسالته، مطبّقا على نفسه كلام أشعيا عن المسيح الذي أرسله روح الرب (راجع لو 4 / 14 – 21). ولأن المسيح هو البشرى السارة، يتم فيه التطابق بين الرسالة والرسول، بين القول والفعل والكينونة. إن قوته وسرّ فاعلية عمله يكمنان في التطابق الكامل مع الرسالة التي يعلنها. إنه يعلن البشرى السارة ليس فقط بما يقوله أو يفعله بل أيضا بما هو عليه.
ترتسم خدمة يسوع في إطار رحلاته في بلده. يتركز أفق رسالته قبل الفصح يتركّز على إسرائيل. بيد أن في يسوع عاملا جديدا ذا أهمية أولية: إن زمن النهاية لم يعد مؤجلا إلى مدى بعيد، بل إنه أصبح قريبا وقد أخذ يتمّ. إن ملكوت الله لقريب جدا (راجع مر 1 / 15)، نصلّي ليأتي (راجع متى 6 / 10)، ويراه الإيمان في الآيات، كالمعجزات (راجع متى 11 / 4 – 5) وإخراج الشياطين (راجع متى 12 / 25 – 28) واختبار الاثني عشر (راجع مر 3 / 13 – 19) وإعلان البشرى السارة للفقراء (راجع لو 4 / 18). وفي أثناء لقاءات يسوع بالوثنيين، يظهر جليّا أنّ دخول الملكوت يتمّ بالإيمان والتوبة (راجع مر 1 / 15) لا بمجرد انتماء عرقي.
إنّ المُلك الذي يدّشنه يسوع هو ملك الله. يسوع نفسه يظهر من هو هذا الإله الذي يسميه بدالة “أبّا”، أيها الآب (مر 14 / 36). الله كما يظهر خاصة في الأمثال (راجع لو 15 / 3 – 32، متى 20 / 1 – 16) يشعر بحاجات كل إنسان وبآلامه. إنه أب مفعم بالحب والرأفة يسامح ويهب مجانا النعم المطلوبة.
يقول لنا القديس يوحنا: “الله محبة” (يو 4 / 8 – 16). كلّ إنسان مدعوّ إذا إلى أن “يتوب” و”يؤمن” بمحبة الله الراحمة فينمو الملكوت بقدر ما يتعلم الناس جميعا أن يتوجّهوا إلى الله توجّههم إلى أبٍ في حميم الصلاة (راجع لو 11 / 2، متى 23 / 9) ويحاولوا أن يعملوا بمشيئته (راجع متى 7 / 21).
– ميّزات الملكوت ومتطلباته
14- يكتشف يسوع تدريجيا ميّزات الملكوت ومتطلباته بأقواله وأعماله وبشخصه. إن ملكوت الله معدّ للناس كافة لأن الجميع مدعوّون لأن يكونوا أعضاء فيه. وللتركيز على هذه الناحية، تقرّب يسوع خاصة ممّن كانوا على هامش المجتمع وأولاهم الأفضلية في إعلانه البشرى السارة. ففي بدء رسالته، يعلن أنه أُرسل ليحمل البشرى السارة إلى الفقراء (راجع لو 4 / 18). ويعلن إلى كلّ المنبوذين وكل المحتقرين: “طوبى لكم أيها الفقراء” (لو 6 / 20). وهو إلى ذلك، يحمل هؤلاء الهامشيين على أن يعيشوا معه اختبار التحرير فيبقى معهم يؤاكلهم (راجع لو 5 / 30، 15 / 2) ويعاملهم معاملة الأنداد والأصدقاء (راجع لو 7 / 34) ويشعرهم بأن الله يحبهم، وبذلك يظهر حنان الله الذي لا حد له نحو الأكثر فقرا والخطأة (راجع لو 15 / 1 – 32).
إنّ التحرير والخلاص اللذين يأتي بهما ملكوت الله يتناولان الشخص البشري من الناحيتين الجسدية والروحية. عملان يميّزان رسالة يسوع: الشفاء والمغفرة. شفاءاته العديدة تظهر رأفته الكبيرة بالبؤس البشري، ولكنّها تعني أيضا أنه لن يكون من بعد، في الملكوت، لا أمراض ولا آلام، وأن الرسالة ترمي منذ البدء إلى تحرير الأشخاص من شرورهم. والشفاءات أيضا، بنظر يسوع هي علامات الخلاص الروحي، أي التحرّر من الخطيئة. فبقيامه بمبادرات الشفاء، يدعو يسوع إلى الإيمان، إلى التوبة، وإلى التوق للمغفرة (راجع لو 5 / 24). عندما تقبل هبة الإيمان، يقود الشفاء إلى أبعد من ذلك، إلى ولوج الخلاص (راجع لو 18 / 42 – 43). وإن مبادرات التحرير من سلطة الشيطان، الشرّ الأعظم ورمز الخطيئة والعصيان على الله، هي علامات على أن “ملكوت الله قد وافاكم” (متى 12 / 28).
15- على الملكوت أن يحوّل العلاقات بين البشر، فيتحقّق تدريجيا على قدر ما يتعلّمون أن يتحابّوا ويتساعدوا ويضعوا ذواتهم في خدمة بعضهم بعضا. يأخذ يسوع الناموس كله، فيركزه على وصية المحبة (راجع متى 22 / 34 – 40، لو 10 / 25 – 28). وإن يسوع قبل أن يترك خاصته، يعطيهم وصية جديدة “أحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم” (يو 13 / 34، راجع 15 / 12). محبة يسوع للعالم تجد تعبيرها الأسمى في بذل حياته لأجل البشر (راجع يو 15 / 13)، محبته التي تظهر محبة الآب للعالم (راجع يو 3 / 16). ولهذا فإن طبيعة الملكوت هي مشاركة الكائنات البشرية كافة فيما بينها ومع الله.
الملكوت يعني الأشخاص البشريين والمجتمع والعالم بأسره. والعمل من أجل الملكوت يعني الإعتراف بزخم الوجود الإلهي في التاريخ البشري الذي يحوّله ويعززه. كما أن بنيان الملكوت يعني العمل في سبيل التحرير من الشرّ بكافة أشكاله. وبكلمة، إن ملكوت الله هو إظهار وتحقيق تصميمه على الخلاص بكليته.
– ملكوت الله يتمّ ويعلن في شخص القائم من الموت
16- إن الله، بإقامته يسوع من بين الأموات، غلب الموت. وفي المسيح، باشر ملكه نهائيا. يسوع في أثناء حياته على الأرض كان هو نبيّ الملكوت. وبعد آلامه وقيامته وصعوده إلى السماء أصبح يشارك الله قوتّه وسلطانه على العالم (راجع متى 28 / 18، رسل 2 / 36، اف 1 / 18 – 21). وتعطي القيامة رسالة المسيح وعمله ورسالته بكاملها مدى شموليا، ويعي التلاميذ أن الملكوت هو الآن حاضر في شخص يسوع، وإنه ينشأ شيئا فشيئا في الإنسان وفي العالم، وهو مرتبط به ارتباطاً سرّياً.
فبعد القيامة، كانوا يبشرون بالملكوت، معلنين أن يسوع مات وقام. كان فيلبس في السامرة، “يبشّر بملكوت الله، وباسم يسوع المسيح” (رسل 8 / 12). وفي روما، كان بولس “ينادي بملكوت الله، ويعلّم ما يتعلّق بالربّ يسوع المسيح” (رسل 28 / 31). المسيحيون الأولون، هم أيضاً، كانوا يبشّرون “بملكوت المسيح والله” (اف 5 / 5، راجع روء 11 / 15، 12 / 10)، أو “بملكوت ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح الأبدي” (2 بط 1 / 11). إن تبشير الكنيسة الأولى بتركّز على البشارة بيسوع المسيح الذي هو الملكوت. ويجب اليوم، أيضا، التوحيد بين البشارة بملكوت الله (مضمون الكرازة بيسوع) وإعلان حدث يسوع المسيح (أي كرازة الرسل). فالبشارتان تكمّل وتوضح احداهما الأخرى.
– علاقة الملكوت بالمسيح والكنيسة
17- يجري الحديث اليوم بكثرة على الملكوت. ولكن الحديث لا يتفق دائما مع تفكير الكنيسة. فبعض مفاهيم الخلاص والرسالة تركّز على الإنسان وحده، وبالمعنى الضيّق للكلمة، بقدر ما تتمحور حول حاجات الإنسان الأرضية. “فوفقا لوجهة النظر هذهِ، يؤدي الأمر بالملكوت إلى أن يصبح مجرد حقيقة إنسانية ومعلمنة، حيث المهمّ هو البرامج والجهاد من أجل التحرّر الإجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي أيضا، إنما أمام أفق منغلق على كل ما يسمو فوق الأرضيات. إننا لا ننكر وجود قيم يجب تطويرها أيضا، على هذا المستوى. بيد أن هذا المفهوم يبقى في حدود ملكوت الإنسان المجرّد من أبعاده الأصلية والعميقة، ويعبّر عنه بسهولة بإحدى ايديولوجيات الترقي الدنيوي المحض. إنّ مكلوت الله، على العكس، “ليس من هذا العالم… ليس من ههنا” (يو 18 / 36).
هنالك مفاهيم أخرى تعتمد التشديد على الملكوت، ويحدّدها هذا التركيز على الملكوت، إذ أنها تبرز صورة كنيسة لا تفكّر بنفسها، بل إنما تهتم بأن تشهد للملكوت وتخدمه. يقال إنها “كنيسة للآخرين”، كما المسيح هو “الإنسان للآخرين”. وينظرون إلى مهمة الكنيسة كما لو كان عليها أن تقوم بواجبها في اتجاهين: فمن جهة تعزيز ما يسمّى بـ “قيم الملكوت”، كالسلام، والعدالة، والحرية، والأخوة. ومن جهة أخرى، تشجيع الحوار بين الشعوب والثقافات والديانات، لكي تساعد، بفضل اغتنائها المتبادل، على تجدّد العالم وتقدّمه المطرد نحو الملكوت.
إلى جانب وجوه إيجابية تتضمن هذه التصورات في الغالب وجوها سلبية. أولا، إنها لا تأتي على ذكر المسيح: فالملكوت الذي تتحدّث عنه يستند إلى “التركيز على الله”، إذ يقال أن المسيح لا يمكن أن يفهمه من ليس له الإيمان المسيحي. ف يحين أن الشعوب والثقافات ومختلف الديانات يمكنها أن تلتقي حول الحقيقة الإلهية الوحيدة أيّا كان اسمها. وهي، للسبب نفسه، تركّز على سرّ الخلق الذي ينعكس في مختلف الثقافات والقناعات. ولكنها لا تتطرّق إلى سرّ الفداء. بالإضافة إلى ذلك، فإن فهمها الملكوت على هذا الوجه يفضي إلى تهميش الكنيسة أو التقليل من اعتبارها، كردّة فعل على “التركيز المفرط على الكنيسة” الذي يعتبر من الماضي، ولأنها لا تعتبر الكنيسة بحد ذاتها إلاّ كآية لا تخلو، على كل حال، من كل التباس.
18- لكن هذا هو غير ملكوت الله، كما نعرفه من خلال الوحي، والذي لا يمكن فصله عن المسيح ولا عن الكنيسة. إن المسيح، كما قلنا، لم يبشّر بالملكوت فحسب، بل فيه تجسّد الملكوت نفسه وتحقّق. وليس في أقواله وأعماله فقط: “وقبل ذلك ظهر الملكوت في شخص المسيح بالذات، ابن الله وابن البشر الذي أتى ليخدم ويبذل نفسه فداء عن كثيرين” (مرقص 10 / 5 / 45)” (22). ليس ملكوت الله فكرة، أو تعليما، أو برنامجا يمكننا أن نتصرف به، وإنما هو قبل كل شيء شخص له وجه واسم يسوع الناصري، صورة الله غير المنظور (23). فإذا فصلنا الملكوت عن يسوع، لا نعود نراعي ملكوت الله الذي أعلنه، وينتهي بنا الأمر إلى تشويه معنى الملكوت الذي يُخشى أن يتحوّل إلى هدف إنساني أو ايديولوجي محض، وإلى تشويه هوية المسيح الذي لا يعود يظهر بمظهر ذلك الرب الذي يجب أن يخضع له كلّ شيء (راجع 1 قور 15 / 27).
كذلك، لا يمكننا فصل الملكوت عن الكنيسة. بالطبع، ليست الكنيسة غاية لنفسها، لأنها مهيأة إلى ملكوت الله. وهي زرعة وآية له وأداة. ولكن، مع أن الكنيسة تتميز عن المسيح وعن الملكوت، فهي متّحدة بكليهما بدون انفصام. لقد جهّز المسيح الكنيسة، جسده بملء خيرات الخلاص ووسائله. والروح القدس يسكن فيها، ويحييها بعطاياه ومواهبه. يقدّسها، ويوجّهها، ويجدّدها دوما (24). ينتج عن ذلك علاقة فريدة ووحيدة تمنح الكنيسة دورا مميزا وضروريا. وذلك دون استبعاد فعل المسيح والروح القدس خارج حدودها المنظورة. من هنا أيضا الرباط الخاص بين الكنيسة وملكوت الله والمسيح الذي هي مرسلة “للتبشير به وتأسيسه بين الشعوب جميعا” (25).
19- في هذه الرؤيا الشاملة، يجب فهم حقيقة الملكوت. لا شك أنه يفرض العمل على ترقية الشؤون والقيم التي يمكن تسميتها بـ “الإنجيلية”. لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبشرى السارة. لكن هذا العمل الذي تحرص الكنيسة عليه، يجب ألاّ تفصله عن واجباتها الأساسية الأخرى، ولا أن يعارضها، كالتبشير بالمسيح وبإنجيله، وتأسيس وتطوير جماعات تحقّق بين البشر الصورة الحيّة عن الملكوت. ولا نخافّن الوقوع في نوع من المغالاة في “التركيز على الكنيسة”. إن بولس السادس الذي أكّد وجود “رباط عميق بين المسيح والكنيسة والتبشير بالإنجيل” (26).
قال: “ليست الكنيسة غاية بذاتها، بل إنها تتوق توقا شديدا لأن تكون بأسرها من المسيح، بالمسيح وللمسيح، وبأسرها أيضا من البشر وبين البشر وللبشر” (27).
– الكنيسة في خدمة الملكوت
20- الكنيسة هي بالواقع وفعليا في خدمة الملكوت. إنها في خدمة الملكوت، قبل كلّ شيء، بالدعوة إلى التوبة: إنها الخدمة الأولى والأساسية التي تؤدي إلى مجيء الملكوت في الأشخاص والمجتمع البشري. يبدأ خلاص الآخرة منذ الآن بالحياة الجديدة في المسيح: “كلّ الذين قبلوه، أتاهم سلطانا يصيرون به أبناء الله، الذين آمنوا باسمه” (يو 1 / 12).
تكون الكنيسة في خدمة الملكوت عندما تؤسّس جماعات وتنشئ كنائس خاصة تقودها إلى نضج الإيمان والمحبة، في الانفتاح على الآخرين، وفي خدمة الإنسان والمجتمع، وفي تفهّم المؤسسات البشرية وتقديرها.
تكون الكنيسة أيضا في خدمة الملكوت عندما تنشر في العالم “القيم الإنجيلية” التي هي تعبير عن الملكوت وتساعد البشر على تقبّل تصميم الله. صحيح إذا أنّ حقيقة الملكوت التي ابتدأت يمكنها أن توجد أيضا خارج حدود الكنيسة، في البشرية كلّها بقدر ما تعيش هذه الأخيرة “القيم الإنجيلية”، وتنفتح على عمل الروح الذي يهبّ حيث يشاء وكيفما يشاء (راجع يو 3 / 8). إنما يجب أن نضيف على الفور أن مدى الملكوت الزمنيّ هذا يبقى ناقصا ما لم يلتحم بملك المسيح، الحاضر في الكنيسة، والمعدّ لبلوغ الملء في آخر الأزمنة (28).
إن وجهات ملكوت الله (29) المتعدّدة لا تضعف أساسات النشاط الارسالي وغاياته، بل إنها تقوّيها بالأحرى وتوسّعها. الكنيسة سرّ خلاص للبشرية كلّها ولا يقتصر عملها على الذين يقبلون رسالتها. إنها قوّة دينامية على طريق البشرية نحو ملك نهاية الأزمنة. إنها آية القيم الإنجيلية ومحرّكتها بين البشر (30). تسهم الكنيسة في مسيرة التوبة هذه إلى مشروع الله، بشهادتها ونشاطاتها، كالحوار وترقية الإنسانية، والالتزام من أجل العدالة والسلام والتربية والإعتناء بالمرضى، واسعاف الفقراء والصغار، وهي شديدة الحرص دائما على ما هو روحاني وما يفوق العقل ويبشر بخلاص نهاية الأزمنة.
والكنيسة أخيرا هي في خدمة الملكوت بشفاعتها، لأن الملكوت بحدّ ذاته هبة الله وعمله، كما تذكّر به الأمثال الإنجيلية والصلاة التي علّمنا إياها يسوع. علينا أن نطلبه، ونتقبّله، وننمّيه في أنفسنا، كما علينا أن نعمل أيضا ليتقبّله البشر فينمو بينهم، إلى اليوم الذي فيه “يسلّم المسيح الملك إلى الله الآب” وحيث “يكون الكل في الكل” (1 قور 15 / 24، 28).
الفص الثالث
الروح القدس، محرّك الرسالة الأولى
21- “وعندما بلغت رسالة المسيح الخلاصية ذروتها، كان الروح القدس حاضرا في سرّ الفصح بكل صفاته الإلهية الشخصية، لكي يواصل عمل الخلاص الذي تم بذبيحة الصليب. فمما لا شك فيه أن يسوع أوكل هذا العمل إلى بشر: الرسل والكنيسة. بيد أن الروح القدس يبقى في هؤلاء البشر وبواسطتهم هو الذي، بطريقة تفوق كل ادراك، يكمّل هذا العمل في روح الإنسان وتاريخ البشر” (31).
فللروح القدس دوره الأساسي في البشارة الكنسية إذ يبرز عمله بصورة مميّزة في الرسالة “إلى الأمم” كما نراه في الكنيسة الأولى في ارتداد كورنيليوس (رسل 10) والمقررات المتخذة بشأن المعضلات التي بدأت بالظهور (رسل 15) ومع اختيار الأقطار والشعوب (رسل 16 / 6 – 8). يعمل الروح بواسطة الرسل، لكنّه يعمل في الوقت ذاته، في المستمعين. “فإنما بعمله تدخل بشارة الفرح بين ضمائر البشر وقلوبهم وتذاع في التاريخ. وفي ذلك كله يعطي الروح القدس الحياة” (32).
– الإرسال “إلى أقاصي الأرض” (رسل 1 / 8)
22- يختم الإنجيليون كلهم رواية لقاء الرسل بالمسيح القائم من الموت بالإرسال للبشارة. “كل سلطان أعطي لي في السماء وعلى الأرض. اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وأنا دائما معكم حتى انقضاء العالم” (متى 28 / 18 20 مر 16 / 15 – 18، لو 24 / 46 – 49، يو 20 / 21 – 23).
هذا الإرسال هو إرسال بالروح كما يبدو جليّا في نص القديس يوحنا: المسيح يرسل خاصته في العالم كما أرسله الآب، ولهذا يمنحهم الروح. ولوقا بدوره يربط الشهادة التي كان لا بدّ للرسل أن يؤدوها للمسيح ربطا محكما بعمل الروح الذي سيجعلهم قادرين على تأدية الرسالة التي سلّمت إليهم.
23- إنّ تنوّع صيغ “الإرسال للتبشير” يتضمن نقاطا مشتركة، لكل منها خصائصها المميزة. لكننا نجد عنصرين اثنين في كلّ النصوص. البعد الشامل، أولا، للمهمة الموكلة إلى الرسل: (متى 28 / 19)؛ “في العالم كله…، إلى الخليقة كلّها” (مر 16 / 15)؛ “كل الأمم” (لو 24 / 47)، “حتى أقاصي الأرض” (رسل 1 / 8)، وبالتالي، الضمانة التي أعطاها الرب لهم أنهم لن يكونوا وحدهم لتأدية رسالتهم، بل سيتلّقون العون والوسائل الكفيلة بتأديتها. وهكذا يظهر بوضوح حضور الروح وقوته كما يبدو أيضا عون يسوع “فخرجوا يكرزون في كل مكان وكان الرب يعمل معهم” (مر 16 / 20).
أمّا في ما يتعلّق بالمفارقات في التعبير عن الوصية، فيعرّف مرقص الرسالة بالإعلان أو الكرازة. “أعلنوا الإنجيل” (مر 16 / 15). يتوخى مرقس حمل القراء على تكرار قانون إيمان بطرس: “أنت هو المسيح” (مر 8 /29) وعلى قول ما تفوّه به قائد المئة الروماني أمام المسيح المائت على الصليب: “حقا كان هذا الرجل ابن الله” (مر 15 / 39). وفي إنجيل متى تشديد على الصفة التبشيرية الملازمة لتأسيس الكنيسة ولتعليمها (متى 28 / 19 – 20، 16 / 18): في إنجيله، يظهر هذا الإرسال للتبشير بوضوح إنه لا بدّ من أن يكتمل إعلان الإنجيل بتعليم مسيحي ذي طابع كنسي وقدسي. أما في لوقا فالرسالة معروضة كشهادة (لو 24 / 48، رسل 1 / 8) تتركّز خصّيصا على القيامة (رسل 1 / 22). فالمرسل مدعوّ إلى الإيمان بقدرة الإنجيل المحوّلة وإلى الإعلان عما يوضحه لوقا جليّا، ألا وهو التوبة إلى محبة الله ورحمته، تجربة التحرر التام من كل شر حتى جذوره، أي الخطيئة.
وحده يوحنا يتكلّم، وبجلاء، عن الإرسال – كلمة تعادل كلمة “رسالة” – ويربط مباشرة الرسالة التي أوكلها يسوع إلى تلاميذه، بتلك التي تلقّاها من الآب: “كما أرسلني الآب هكذا أنا أيضا أرسلكم” (يو 20 / 21). وإذ التفت يسوع نحو أبيه قال: “كما أرسلتني إلى العالم، إلى العالم أنا أيضا أرسلتهم” (يو 17 / 18). كل الثقل الرسولي لإنجيل يوحنا تعبر عنه “الصلاة الكهنوتية”: “هذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحق الأحد ويعرفوا من أرسلته يسوع المسيح” (يو 17 / 3). هدف الرسالة النهائي هو الاشتراك في الاتحاد الكائن بين الآب والابن: على التلاميذ أن يعيشوا الاتحاد فيما بينهم ببقائهم في الآب والابن لكي يعرف العالم ويؤمن (يو 17 / 21 – 23). إنه لنصّ رسولي معبّر! يفهمنا بأن المُرسل هو مُرسل أصلا بما هو عليه، بصفته عضوا في الكنيسة التي تعيش بعمق الوحدة في المحبة، قبل أن يكون مرسلاً بما يقول وبما يعمل.
وهكذا تشهد الأناجيل الأربعة على تعدّدية ضمن الوحدة الأساسية للرسالة ذاتها التي تعكس تجارب وحالات مختلفة في المجتمعات المسيحية الأولى. إنها ثمرة الدينامية التي يوليها الروح نفسه. وذلك ما يدعو إلى التنبّه لمواهب التبشير المتعددة وللحالات البشرية المتنوعة والأوساط المختلفة. لكن كلّ الإنجيليين يلفتون إلى أن رسالة التلاميذ هي تعاون في رسالة المسيح. “وها أنا معكم كلّ الأيام إلى نهاية العالم” (متى 28 / 20). ولهذا لا ترتكز الرسالة على قدرات إنسانية، بل على قوة القائم من الموت.
– الروح يقود الرسالة
24- رسالة الكنيسة، كرسالة يسوع، هي عمل الله أو – كما يردّد لوقا غالبا – عمل الروح. فبعد قيامة يسوع وصعوده يعيش الرسل اختبارا قويا يحوّلهم: العنصرة. إن مجيء الروح القدس يجعل منهم شهودا وأنبياء (رسل 1 / 8، 2 / 17 – 18) ويمدّهم بجرأة واثقة تدفعهم إلى أن ينقلوا إلى الآخرين اختبارهم يسوع والرجاء الذي ينفحهم. الروح يعطيهم القدرة على الشهادة ليسوع بكل ثقة (33).
عندما يخرج المبشّرون بالإنجيل من أورشليم يضطلع الروح أكثر فأكثر بدور “القائد” في اختيار الأشخاص أو طرق الرسالة. يبدو عمله على الأخص في الدفع المعطى للرسالة التي تمتدّ فعليا من اورشليم إلى اليهودية كلّها وإلى السامرة حتى أقاصي الأرض، حسب كلمة يسوع.
تروي “أعمال الرسل” خلاصة “الخطب الرسولية” الست الموّجهة إلى اليهود في أوائل عهد الكنيسة (رسل 2 / 22 – 39، 3 / 12 – 26، 5 / 29 – 32، 10 / 34 -43، 13 / 16 – 41). هذه الخطب النموذجية التي ألقاها بطرس وبولس تبشّر بيسوع وتدعو إلى “التوبة” وقبول يسوع بالإيمان والتسليم للتحوّل فيه بواسطة الروح. بولس وبرنابا يدفعهما الروح إلى الوثنيين (رسل 13 / 46 – 48). ولا يحصل ذلك دون توتر وصعوبات: كيف يجب على الوثنيين المهتدين أن يعيشوا إيمانهم بيسوع؟ أيلزمون هم بتقليد اليهودية وبشريعة الختان؟ في المجمع الأول الذي جمع، حول الرسل في اورشليم، أعضاء شتى الكنائس، اتّخذ قرار أقرّ أنه اتخذ بالهام من الروح: ليس ضروريا أن يخضع الوثني للشريعة اليهودية ليصبح مسيحيا (رسل 15 / 5 – 11 و 28). ومذ ذاك تفتح الكنيسة أبوابها وتصبح البيت الذي يستطيع الجميع ولوجه والشعور بالارتياح فيه، مع احتفاظهم بثقافتهم وتقاليدهم، شرط ألاّ تتعارض والإنجيل.
25- عمل المرسلون في الاتجاه نفسه، آخذين بعين الاعتبار انتظار البشر ورجاءهم وقلقهم وآلامهم وثقافتهم ليزفّوا بشارة الخلاص بالمسيح. تعتبر خطب لسترة واثينا (رسل 14 / 15 – 17، 17 / 22 – 31) بمثابة نماذج لتبشير الوثنيين: يتحاور بولس فيها مع القيم الثقافية والدينية عند مختلف الشعوب. فيعيد إلى أذهان أهل ليقونيا، الذين كانوا يمارسون ديانة كونية، اختبارات دينية بالنسبة إلى الكون، ويناقش مع اليونانيين مواضيع فلسفية، ويستشهد بشعرائهم (رسل 17 / 18، 26 – 28). إن الإله الذي يريد أن يظهره لهم هو حاضر سلفا في حياتهم: إنه هو، فعلا، من خلقهم، وهو الذي يسيّر بطريقة خفيّة وسريّة الشعوب والتاريخ. غير أن عليهم، كي يقرّوا بالإله الحقيقي، أن يقلعوا عن الآلهة الكذبة التي هي من صنع أيديهم، وينفتحوا على من أرسله الله ليداوي جهلهم ويملأ انتظار قلبهم. تلك هي الخطب التي تعرض أمثلة عن زرع ثقافة الإنجيل.
بدفع من الروح، ينفتح الإيمان المسيحي بحرية على “الأمم”، وتمتدّ شهادة المسيح إلى المراكز الأكثر أهمية في المتوسّط الشرقي لتبلغ روما وتخوم الغرب. إنه الروح الذي دفع أبدا إلى تجاوز المسافات، ليس على الصعيد الجغرافي فحسب، بل عبر الحواجز الأثنية والدينية لتأدية رسالة هي بالفعل شمولية.
– الروح يجعل الكنيسة كلّها رسولية
26- يحث الروح جماعة المؤمنين على أن يؤلفوا “جماعة”، وكنيسة. بعد خطبة بطرس الأولى، يوم العنصرة، وما تلاها من اهتداءات، تشكّلت الجماعة الأولى (رسل 2 / 42 – 47، 4 / 32 – 35).
أحد الأسباب الرئيسية للرسالة هو، فعلا، جمع الشعب لسماع الإنجيل، للشركة الأخوية وللصلاة والافخارستيا. أن نعيش “الشركة الأخوية” (KOINONIA). ذلك يعني ألاّ يكون لها “إلاّ قلب واحد ونفس واحدة” (رسل 4 / 32)، مقيمة الشركة على كل الصعد: الإنساني والروحي والماديّ. وبالفعل، الجماعة المسيحية الحقيقية تتعهّد بتوزيع الخيرات الأرضية لئلا يكون هناك معوزون، ولكي يتمكن الجميع من الاستفادة منها “كل على قدر حاجنه” (رسل 2 / 45، 4 / 35). كانت الجماعات الأولى اليت كان يسودها “الفرح وبساطة القلب” (رسل 2 / 46) نشيطة، منفتحة، رسولية: “تلقى الخطوة لدى الشعب كله” (رسل 2 / 47). فالرسالة، قبل أن تكون عملا، هي شهادة وإشعاع (34).
27- تظهر أعمال الرسل أن الرسالة التي تتوجّه أولا إلى إسرائيل ومن ثم إلى الأمم، تتوسّع على مستويات مختلفة. جماعة الاثني عشر، وكأنها جسد واحد بتوجيه من بطرس، هي أول من يعلن البشرى السارة. ثم جماعة المؤمنين، بطريقة عيشها وتصرفها، تشهد للرب وتهدي الوثنيين (رسل 2 / 46 و 47). إلى ما هنالك من مرسلين خاصّين يبشّرون بالإنجيل. وهكذا جماعة انطاكية المسيحية ترسل أعضاءها للتبشير. فبعد أن صامت وصلّت واحتفلت بالأفخارستيا، أدركت أن الروح اصطفى بولس وبرنابا ليرسلا للتبشير (رسل 13 / 1 – 4). في أوائل عهدها إذا، تعتبر البشارة بمثابة واجب مشترك ومسؤولية الكنيسة المحلية التي تحتاج تماما إلى “مرسلين” لكي تتقدم نحو تخوم جديدة. وإلى جانب أولئك المرسلين كان آخرون يشهدون عفويا للجدّة التي حوّلت حياتهم فكانوا يوثّقون العرى بين الجماعات التي كانت تتألف في الكنيسة الرسولية.
ونعرف من مطالعة أعمال الرسل أن الرسالة “إلى الأمم”، في بدء الكنيسة، مع وجود مرسلين مكرسين حياتهم بمقتضى دعوة خاصة، كانت تعتبر، فعلا، بمثابة ثمرة طبيعية للحياة المسيحية والتزام من جانب كلّ مؤمن بالشهادة الشخصية والتبشير عندما يتسنّى ذلك.
– الروح حاضر وفاعل في كل زمان ومكان.
28- يظهر الروح في الكنيسة وفي أعضائها بطريقة خاصة. لكنّ حضوره وعمله شاملان لا يحدّهما مكان ولا زمان (35). فالمجمع الفاتيكاني الثاني يذكّر بعمل الروح في قلب كلّ إنسان “يزرع الكلمة” في الأعمال الدينية ذاتها وفي جهود النشاطات الإنسانية التي تسعى إلى الحقيقة، إلى الخير، إلى الله (36).
يسبغ الروح على الإنسان “نورا وقوى ليمكّنه من تلبية دعوته البالغة السموّ” وبواسطة الروح، “يتوصّل الإنسان، بالإيمان، إلى التأمل في سرّ الإرادة الإلهية وتذوقّه”، و”علينا إذا أن نتمسك بأن الروح القدس يقدم للجميع الإمكانية للإشتراك في سرّ الفصح بطريقة يعرفها الله وحده” (37). وفي كلّ الأحوال، تعرف الكنيسة أن “الإنسان الذي يحثّه روح الله باستمرار، لن يكون عديم الأكتراث تماما بالقضية الدينية”، وإنه يريد أن يعرف دائما، ولو بغموض، معنى حياته، ونشاطاته، وموته” (38). الروح هو إذا مصدر التساؤل الوجودي والديني بالذات للإنسان الذي ليس وليد ظروف عارضة وحسب، بل وليد بنيته الذاتية (39).
حضور الروح ونشاطه لا يعنيان الأفراد وحسب، بل المجتمع والتاريخ والشعوب والثقافات والديانات. فالروح فعلا مصدر المُثل النبيلة المبادرات الصالحة التي تأخذها الإنسانية الدائبة التطوّر: “إن روح الله يوجّه بعناية عجيبة سير الأزمنة ويجدّد وجه الأرض” (40). فالمسيح القائم من الموت “يعمل عندئذ بقوة روحه في قلوب البشر. فهو لا يخلق فيها الشوق إلى العالم فقط، بل يفتح ويطهر ويقوي ذلك التوقان السخي الذي يدفع العيلة البشرية إلى تحسين أوضاع حياتهم لكي تخضع الأرض كلها لهذه الغاية” (41). هو الروح أيضا الذي ينشر “زرع الكلمة” الحاضر في الطقوس والثقافات ويعدّها للنضج في المسيح (42).
29- وهكذا فالروح الذي “يهبّ حيث يشاء” (يو 3 / 8) والذي “كان يعمل قبل أن يتمجّد المسيح” (43) والذي يملأ الكون وهو ضابط الكل وعنده “علم كل كلمة” (حك 1 / 7) يدعونا إلى أن نتبصّر لنتأمل عمله الحاضر في كلّ زمان ومكان (44). أنا نفسي، طالما جدّدت هذه الدعوة وذلك ما سدّد خطاي خلال لقاءاتي مع أكثر الشعوب تنوّعا. إن الكنيسة تستلهم علاقاتها بالديانات الأخرى من احترام مزدوج: “احترام الإنسان الساعي وراء أجوبة على الأسئلة الأكثر عمقا في حياته، واحترام عمل الروح في الإنسان” (45). إنّ لقاء الأديان المختلفة الذي تمّ في اسيزي، إذا ما استبعد كلّ لبس في التأويل، أتاح لي أن أردد قناعتي، بأن “كل صلاة أصلية، يبعثها الروح القدس الحاضر سريّا في قلب كلّ إنسان” (46).
هذا الروح ذاته عمل في تجسّد يسوع وفي حياته وموته وقيامته، ولا يزال يعمل في الكنيسة. إنّه لا يحل إذا محل المسيح ولا يملأ نوعا من فراغ كذاك الفراغ الذي تدّعي أحيانا احدى الفرضيات أنه ممكن الوجود بين المسيح و”الكلمة”. إنّ ما يفعله الروح في قلوب البشر وفي تاريخ الشعوب، وفي الثقافات والديانات، يعتبر استعداداً إنجيليا (47). وذلك لا يمكن أن يتمّ دون صلة بالمسيح الكلمة الذي صار جسدا بفعل الروح، “حتى، هو الإنسان الكامل، يخلّص جميع الناس ويجدد كل شيء فيه” (48. لا مجال للفصل بين عمل الروح الشامل والعمل الخاص الذي يقوم به في جسد المسيح الذي هو الكنيسة. إنه أيضا بالفعل الروح الذي يعمل عندما يحيي الكنيسة ويدفع إلى التبشير بالمسيح، أو عندما يسبغ مواهبه على كل البشر والشعوب وينمّيها فيهم، بحمله الكنيسة على اكتشاف هذه المواهب وتنميتها وتقبّلها بالحوار. يجب تقبل كلّ أشكال حضور الروح بإحترام وامتنان، لكنّ التمييز يعود إلى الكنيسة التي منحها المسيح “روحه” ليقودها إلى الحقيقة الكاملة (يو 16 / 13).
– ليس النشاط الإرسالي إلاّ في بدايته
30- بينما البشرية تتحرّك وتفتش، يتطلّب عصرنا دفعا جديدا في النشاط الإرسالي. إنّ آفاق الرسالة وإمكانياتها تتسع، ونحن المسيحيين، مدعوّون إلى الشجاعة الرسولية، المؤسسة على الثقة بالورح. إنّه هو المحرّك للرسالة! تحولات عديدة وفاعلة، في تاريخ البشرية، حرّكت الينامية الإرسالية، والكنيسة، بقيادة الروح، لبّت دائما بسخاء وبعد نظر. ولم تعوز الثمار. لقد احتُفل مؤخراً بألفيّة التبشير بالإنجيل في روسيا والشعوب السلافية، بينما يتمّ التوجيه نحو الإحتفال بيوبيل الخمس مئة لتبشير أميركا. لقد احتُفل أيضا مؤخرا بمئوية الإرساليات الأولى في عدد من بلدان آسيا وأفريقيا وأوقيانيا. على الكنيسة أن تواجه اليوم تحدّيات أخرى، في مسيرتها نحو حدود جديدة إن بالنسبة إلى الإرساليات الأولى “إلى الأمم” أو بالنسبة إلى التبشير بالإنجيل شعوبا قد قبلت بشرى المسيح. المطلوب اليوم من جميع المسيحيين، ومن الكنائس الخاصة ومن الكنيسة الجامعة الشجاعة نفسها التي كانت تنعش رسل الماضي، وروح الاستعداد نفسه للإصغاء إلى صوت الروح.
الفصل الرابع
آفاق الرسالة “إلى الأمم” اللامحدودة
31- أرسل الرب يسوع رسله إلى جميع الناس وإلى كلّ الشعوب في كلّ بقاع الأرض. في الرسل، أخذت الكنيسة رسالة شاملة، لا تُعرف لها حدود وتتناول السلام في كلّ غناه، النابع من ملء الحياة التي حملها لنا المسيح (يو 10/10). “لقد أرسلت لتظهر وتمنح محبة الله كل الناس وكل شعوب الأرض” (49).
هذه الرسالة هي واحدة لأن لها أصلا واحدا وغاية واحدة. لكنّها تفرض مهمات ونشاطات مختلفة. وقبل كلّ شيء النشاط الإرسالي الذي نسمّيه الرسالة إلى الأمم، على حدّ ما جاء في القرار المجمعي. إنه نشاط الكنيسة الإرسالي الأساسي. نشاط جوهري لا يكتمل أبدا. إن الكنيسة “لا يمكن أن تتغاضى عن رسالتها الدائمة القاضية بحمل الإنجيل إلى جميع الذين لا يعرفون بعد المسيح فادي الإنسان – وهمن الملايين الكثيرة من الرجال والنساء. تلك هي مهمة الإرسالية الأخص التي وكلها يسوع إلى كنيسته، ولا يزال يكلها إليها في كل يوم” (50).
– وضع دينيّ معقد ومتحرّك
32- إننا اليوم أمام هذه الأوضاع الدينية المختلفة والمتبدّلة جدا: الشعوب تتحرّك، والأوضاع الإجتماعية والدينية، التي كانت في الأمس واضحة ومحدّدة تماما، تتطوّر حاليا وتتعقد. يكفي أن نستحضر هنا بعض الظواهر لتكاثف السكان في المدن والنزوح الكثيف، وتحركات اللاجئين، وتقلص المسيحية في بلدان كانت قديما مسيحية وتأثير الإنجيل المتنامي وقيمته في بلدان سكانها في أغلبية ساحقة ليسوا مسيحيين، دون أن ننسى غليان الحركات المسيحانية، والشيع الدينية. هنالك انقلاب في الأوضاع الدينية والاجتماعية بسبب صعوبة التطبيق الفعليّ لبعض الميزات والمفاهيم الكنسية المعتمدة إلى الآن بوجه العموم. قبل المجمع بالذات، كان يقال عن بعض المدن الكبرى أو الاصقاع المسيحية أنها باتت “بلدان رسالة”. والوضع لم يتحسّن بالتأكيد في السنوات اللاحقة.
من ناحية أخرى، لقد أنتج النشاط الإرسالي ثمارا وافرة في كل أجزاء العالم بحيث صار فيها كنائس متجذّرة إلى حدّ من الصلابة والنضج بما تستطيع معه في الوقت ذاته أن تسدّ حاجات جماعاتها الخاصة وترسل مبشرين إلى كنائس ومناطق أخرى. من هنا التباين مع مناطق مسيحية قديمة يجب إعادة تبشيرها. يتساءل البعض هل بالامكان التحدّث أيضا عن نشاط إرسالي مميّز أو عن أماكن محدّدة لهذا النشاط، أو هل يجب أن نسلّم بوجود وضع إرسالي فريد، تقابله رسالة فريدة، هي ذاتها في كلّ مكان. من الصعب تفسير هذا الواقع المتعدّد الوجوه والمتبدّل بالنسبة إلى وصية التبشير، كما نراه “في المعجم الرسولي”. فهنا مثلا بعض التردد في استعمال كلمتي “رسالات” و”مرسلون” اللتين تعبّران أن الزمن قد عفى عليهما وهما مثقلتان بذكريات تاريخية سلبية. يستحسن استعمال “رسالة” بالمفرد، والنعت “مرسل” للدلالة على كل نشاط للكنيسة.
هذا الارتباك هو علامة تغيير واقعيّ يعكس أوجها إيجابية. فما يدعى عودة أو “إعادة توطين” الإرساليات في رسالة الكنيسة، ودمج علم الرسالة بعلم الكينسة وادخال كليهما في قصد الثالوث للخلاص، كلّ هذا أعطى نفحة جديدة لهذا النشاط الإرسالي، الذي لم يعد معتبرا كفريضة هامشية في الكنيسة، بل يندمج في صميم حياتها، كالتزام أساسي لكلّ شعب الله. بيد أنه يجب تجنب خطر المساواة بين أوضاع مختلفة جداً، وتقليص، لا بل العمل على إلغاء، الإرسالية والمرسلين “إلى الأمم”. فالقول أن الكنيسة كلّها رسولية لا يمنع أبدا وجود رسالة خاصة إلى الأمم. وبالمثل، فإن القول بأنه يجب على جميع الكاثوليك أن يكونوا مبشّرين لا ينفي، بل بالعكس، يتطلب إيجاد “مرسلين إلى الأمم وعلى مدى الحياة” بدعوة خاصة.
– الرسالة “إلى الأمم” تحتفظ بقيمتها
33- إن التباين في النشاط، في صميم رسالة الكنيسة الفريدة، لا ينبع من طبيعة الرسالة نفسها، بل من الأوضاع المختلفة التي تمارس فيها (51). فبالنظر إلى عالم اليوم من ناحية التبشير، نستطيع التمييز بين ثلاثة أوضاع: قبل كلّ شيء، الوضع الذي نوجّه إليه نشاط الكنيسة الإرسالي: وضع الشعوب والجماعات البشرية، الأطر الاجتماعية – الثقافية حيث لا يعرف المسيح وإنجيله، أو حيث لا يوجد جماعات مسيحية ناضجة بما فيه الكفاية لتتمكّن من تجسيد الإيمان في محيطهم وإعلانه على تجمّعات أخرى. تلك هي، بحصر المعنى، الرسالة إلى الأمم (52).
هنالك أيضا جماعات مسيحية لها بنيات كنسية قوية ومتلائمة، لها حرارة الإيمان والحياة، تؤدي للإنجيل شهادة مشعّة في محيطها، وتعي واجب الرسالة الشاملة. فيها يمارس نشاط الكنيسة الراعوي.
هنالك أخيرا وضع وسط، خاصة في بلدان ذات التقليد المسيحيّ العريق، لكن أحيانا أيضا في الكنائس الأكثر حداثة، حيث تفقد مجموعات من المعمّدين بكاملها معنى الإيمان الحيّ، أو يُفضي بهم الأمر إلى عدم اعتبار ذواتهم أعضاء في الكنيسة، بعيشهم حياة بعيدة عن المسيح وإنجيله. في هذه الحالة، لا بدّ من “بشارة جديدة” أو “إعادة تبشير”.
34- إن النشاط الإرسالي المميّز، أو الرسالة إلى الأمم، يتوجّه “إلى الشعوب والجماعات البشرية الذين لم يؤمنوا بعد بالمسيح” وإلى “الذين هم بعيدون عن المسيح”، حيث “لم تمتدّ جذور الكنيسة بعد” (53)، والذين لم تنطبع ثقافتهم بعد بالإنجيل (54). ويتميّز عن نشاطات الكنيسة الأخرى بفعل توجّهه إلى تجمعّات وأوساط غير مسيحية، لأن البشارة بالإنجيل وحضور الكنيسة ليسا متوفّرين فيها أو غير كافيين. إنّ له ميزة خاصة وهي أنه فعل تبشير بالمسيح وإنجيله، وبنيان للكنيسة المحليّ ودفع لقيم الملكوت. إنّ خاصية هذه الرسالة إلى الأمم تتأتى من كونها تتوجّه إلى غير المسيحييّن، ويجب بالتالي تجنب تذويب هذه “المهمة الإرسالية ذات الطابع المميز التي أوكلها يسوع إلى كنيسته، ولا يزال يوكلها إليها في كل يوم” (55)، في الرسالة الشاملة لشعب الله كله، ومحاشاة لجعلها، بالتالي، مهملة أو منسية.
فضلا عن ذلك، إن الحدود بين مهمة المؤمنين الراعوية، والتبشير الجديد والنشاط الإرسالي المميز لا يمكن تعريفها بالتحديد ولا يسعنا أن نخلق بينها سدودا أو حواجز حادة. يجب، مع ذلك، أن نبقى مشدودين نحو إعلان الإنجيل وتأسيس كنائس جديدة، حيث لا وجود لها بعد، داخل الشعوب والجماعات البشرية. لأن هذه هي المهمة الأولى للكنيسة المرسلة إلى كلّ الشعوب، حتى أقاصي الأرض. فبدون الرسالة إلى الأمم، قد يصبح هذا المدى الإرسالي للكنيسة مجرداً من معناه الأساسي ومن تحقيقه المثالي.
كذلك تجدر الإشارة إلى أنه يوجد ترابط واقعّي ومتنام بين مختلف نشاطات الكنيسة الخلاصية: كلّ منها يُحدث تأثيرا على الآخر، ينشطه ويسانده. إنّ الدينامية الإرسالية تثير تبادلا بين الكنائس وتوجّهها نحو العالم الخارجي مع تأثيرات إيجابية في كلّ اتجاه. إنّ الكنائس ذات التقليد المسيحي العريق، مثلا، والملتزمة بواجب البشارة الجديدة الثقيل، تدرك ادراكاً أفضل أنها لا تستطيع أن تكون مرسلة تجاه غير المسيحيين في بلدان أخرى أو قارات أخرى إذا كانت لا تولي اهتماماً جدّياً لغير المسيحيين في بلدانها: إن الروح الإرسالي نحو الداخل هو آية جدّ أكيدة، وباعث في سبيل الروح الإرسالي إلى الخارج، والعكس بالعكس.
– إلى كل الشعوب، رغم الصعوبات
35- أمام الرسالة “إلى الأمم” مهمة واسعة لم تقرب بعد بالتأكيد من نهايتها. بل بالعكس، إن من الناحية العددية، مع النموّ الديموغرافي، وإن من الناحية الاجتماعية والثقافية، مع ظهور أنماط جديدة من علاقات جديدة، وكذلك مع تغيّرات الأوضاع فإنها تبدو معدة لآفاق أوسع. إنّ مهمة التبشير بيسوع المسيح إلى كلّ الشعوب تبدو واسعة وغير متناسبة مع القوى البشرية في الكنيسة.
تظهر الصعوبات وكأنها لا يمكن تخطّيها وقد كانت لتدفع إلى اليأس لو أن الأمر كان متعلقا بالعمل البشري وحده. إن بعض البلدان تمنع المرسلين من الدخول إليها، والبعض الآخر لا يحرّم التبشير فقط، بل الاهتداءات وحتى أعمال العبادة المسيحية. في أمكنة أخرى، تكون الحواجز على صعيد ثقافي: يظهر نقل الرسالة الإنجيلية عديم الفائدة أو غير مفهوم، ويعتبر اهتداء المرء تخليا عن شعبه وثقافته.
36- إنّ شعب الله يعاني من صعوبات داخلية وهي الأشد ألما. كان سلفي بولس السادس يلفت النظر قبل الكل “إلى أن فقدان التقوى الآتي من الداخل هو الأخطر وهو يظهر في التعب والإنزعاج، في الرتابة واللامبالاة، وبالأكثر في فقدان الفرح والرجاء” (56).
إن انقسامات المسيحيين، في الماضي والحاضر، تشكل عقبات كبيرة أمام روح الرسالة في الكنيسة (57). من هنا التقلّص المسيحيّ في عدة بلدان مسيحية، والنقص في الدعوات إلى الرسالة، والشهادات المعاكسة من قبل المؤمنين وجماعات مسيحية لا يتبعون مثال المسيح في حياتهم. لكنّ أحد العوامل الأشد خطرا لفقدان الاهتمام بالالتزام بالرسالة هو الذهنية المطبوعة باللامبالاة الكثيرة الانتشار، ويا للأسف، بين المسيحيين، والمبنية غالبا على مفاهيم لاهوتية غير صحيحة ومتأثرة بـ “كلّ الأديان متساوية”. يمكننا أن نضيف – كما كان يقول الحبر نفسه – أن ثمة أيضا “أعذار واهية يمكن أن تحوّلنا عن البشارة. والأكثر خداعا هي بالتأكيد تلك التي يتوهّم البعض اسنادها إلى هذه أو تلك من تعاليم المجمع (58).
بهذا الموضوع، أعهد بحرارة إلى اللاهوتيين، وإلى محترفي الصحافة المسيحية، أن يُسهموا دائما أكثر في الرسالة، لاستيعاب المعنى العميق لواجبهم الهام، باتّباع الطريق القويم في الشعور مع الكنيسة.
إن الصعوبات الداخلية والخارجية يجب ألاّ تجعلنا نتشاءم ونتقاعس. المهمّ – هنا كما في كل حقل من حقول الحياة المسيحية – هو الثقة التي تأتي من الإيمان، أيّ من التأكيد أننا لسنا نحن أنفسنا أبطال الرسالة، بل يسوع المسيح وروحه. ونحن لسنا إلاّ معاونين، وعندما نكون قد أنجزنا كلّ ما كان في مقدورنا، علينا أن نقول “نحن عبيد بطّالون، لقد أنجزنا ما كان علينا أن ننجزه” (لو 17 / 10).
– حقول الرسالة إلى الأمم
37- الرسالة “إلى الأمم” لا حدود لها، فأمر المسيح (بالرسالة) شامل. بيد أننا نستطيع أن نميّز حقولا مختلفة، تتم فيها بحيث ترسم لوحة واقعية عن الوضع.
أ- المناطق
تمّ تحديد النشاط الرسالي بشكل عام وفقا لحقول معينّة. ولقد أقرّ المجمع الفاتيكاني الثاني مجالات مناطق الرسالة إلى الأمم (59)، وهي اليوم مهمة أيضا لتحديد المسؤوليات والصلاحيات والحدود الجغرافية للعمل. ولا شك أن لكل رسالة شاملة نظرة شاملة: الكنيسة، بالواقع، لا تستطيع أن تقبل بتحديد مناطق وموانع سياسية تشكّل حاجزا لحضورها الرسولي. لكن صحيح أيضا أن نشاط الرسالة إلى الأمم، المميز عن مهمة المؤمنين الراعوية والتبشير الجديد لغير الممارسين، يمارس في حقول ولأجل تجمعات بشرية محدّدوة.
يجب أن لا نخدع بتكاثر الكنائس الفتيّة في الآونة الأخيرة. فإن في الحقول المعهودة إلى تلك الكنائس، ولا سيّما في آسيا، وافريقيا وأميركا اللاتينية واوقيانيا، هناك مناطق واسعة لم تبشّر بعد: شعوب بكاملها ومساحات ثقافية كبيرة الأهمية، في عدد كبير من الأمم، لم تبلغها بعد بشارة الإنجيل وقيام كنيسة محليّة (60). كذلك إن في بلدان ذات تقليد مسيحي، مناطق قائمة تحت نظام مميّز للرسالة إلى الأمم، وتجمّعات بشرية ونواحي لم يمسّها الإنجيل. تلك البلدان لا تحتاج فقط إلى تبشير جديد بل في حالات خاصة إلى تبشير أوليّ (61).
بيد أن الأوضاع ليست متساوية في كل مكان. مع الإقرار بأن التأكيدات التي تتناول مسؤوليات الكنيسة الارسالية هي غير جديرة بالقبول ما لم يبرهن صحتها التزامٌّ جدّي في سبيل البشارة الجديدة في البلدان ذات التقليد المسيحيّ العريق. فليس من العدل أن نضع على نفس المستوى وضع شعب لم يعرف أبدا يسوع المسيح مع آخر قد عرفه وقبله ثم رفضه، مع متابعة العيش في ثقافة قد استوعبت القسم الأكبر من المبادئ والقيم الإنجيلية. وفي ما يتعلّق بالإيمان، هنالك وضعان مختلفان جوهريا.
وبالتالي، فالمقياس الجغرافي، وإن لم يكن محدّداً، وإن كان دائما ظرفياً، فهو ينفع أيضا لتعيين الحدود التي يجب أن يحمل إليها النشاط الرسولي. يوجد بلدان ومساحات جغرافية وثقافية بدون جماعة مسيحية بلدية. وتكون تلك الجماعات في مكان آخر صغيرة إلى حد أنها لا تشكّل علامة واضحة للحضور المسيحيّ. وقد ينقصها دينامية لتبشير مجتمعها أو أنها تنتمي إلى أقليات لم تندمج بالثقافة العالمية السائدة. على القارة الآسيوية بنوع خاص، حيث يجب أن تتجه بالدرجة الأولى الرسالة إلى الأمم، يشكّل المسيحيون أقليّة ضئيلة، على الرغم أحيانا من تسجيل حركات اهتداء ذات مغزى وأشكال ملحوظة من الحضور المسيحي.
ب-عوالم جديدة وظواهر اجتماعية جديدة
إنّ التحولات المتسارعة والعميقة التي يتّسم بها عالم اليوم، وتحديدا الجنوب، تؤثر تأثيرا قويا على اطار الرسالة: فحيث كانت تقوم سابقا أوضاع بشرية واجتماعية ثابتة، نجد اليوم كل شيء يتحرّك. لنفكر، مثلا، بالعمران، ونموّ المدن نموّاً كثيفاً ولا سيّما عندما يكون الضغط الديموغرافي قوياً. في الأمس كما اليوم، وفي عدد لا بأس به من البلدان، أكثر من نصف الناس يعيشون في مدن مكتظة بالسكان، حيث تتفاقم غالباً خطورة المشاكل الإنسانية بسبب حياة النكرة التي يغرق فيها الكثيرون.
في الأزمنة الحديثة، امتدّ النشاط الرسولي خاصة في مناطق منعزلة وبعيدة عن المراكز المتحضرة وصعبة المنال نتيجة لصعوبة المواصلات، واللغة، والمناخ. إنّ صورة الرسالة إلى الأمم هي اليوم، ربما، في طور التحول. مواقعها المفضلة كان يجب أن تكون في المدن الكبيرة حيث تظهر أخلاث جديدة واتصالات تؤثر فيما بعد، على مجمل الشعوب. صحيح أنّ “اختيار المستصغرين” يجب أن يقود إلى عدم تجاهل التجمعات البشرية الأكثر هامشية أو الأكثر انعزالا. لكن صحيح أيضا أنه لا يمكن أن يبشّر الأشخاص أو التجمعات الصغيرة وتهمل تلك الأوساط، التي تولد فيها – إذا صحّ القول – بشرية جديدة مع نماذج تنمية جديدة. إنّ مستقبل الأمم الفتية يتكوّن في المدن.
في الحديث عن المستقبل، لا يمكننا أن ننسى الشبيبة التي، في بلدان عدة، تؤلّف أكثر من نصف السكان. كيف يتمّ ايصال رسالة المسيح إلى الشبيبة غير المسيحية التي هي مستقبل قارات بكاملها؟ من الواضح أن وسائل العمل الراعوي العادي لم تعد تكفي: لا بد من تجمّعات ومؤسسات، وفرق ومراكز للشبيبة، ومبادرات ثقافية واجتماعية للشبيبة. هوذا حقل تجد فيه الحركات الكنسية المعاصرة مجالاً واسعا للعمل.
من خلال التغيرات الكبرى في العالم المعاصر أحدثت النزوحات ظاهرة جديدة – بحيث وفد غير المسيحيين إلى عدد كبير من البلدان ذات التقليد المسيحي العريق، واحدثوا فيها ظروفاً جديدة للاتصال والتبادل الثقافي، داعين الكنيسة للاستقبال والحوار والحضور، وبكلمة واحدة، للأخوّة. وبين النازحين، يشغل اللاجئون مكانا خاصا جدا، ويستحقون أكبر الاهتمام. وهم يعدّون الآن بالملايين في العالم. وعددهم إلى تزايد هرباً من أوضاع سياسية قاهرة وبؤس إنساني، وجوع وجفاف، اتخذت نسبا كوراثية. على الكنيسة أن تشملهم برعايتها واهتمامها الرسولي.
أخيرا، بامكاننا أن نذكّر بأوضاع فقر، بات لا يطاق غالباً، تحدث في بلدان عديدة وهي المتسببة غالبا بهجرات كثيفة. تلك الأوضاع اللا إنسانية تؤلّف تحدّيا لجماعة الذين يؤمنون بالمسيح: التبشير بالمسيح وبملك الله يجب أن يصبح وسيلة فداء بشريّ لتلك الشعوب.
ج- مساحات ثقافية أو اريوباغسات حديثة
بعد أن بشر بولس في أماكن عديدة، أدرك أثينا وتوجّه إلى “الأريوباغس” حيث بشّر بالإنجيل، مستعملا لغة ملائمة ومفهومة في ذلك الوسط (رسل 17 / 22 – 31). كان “الأريوباغس” يمثّل يومذاك مركزاً حضارياً للأثينيين المثقّفين، ويمكنه أن يكون اليوم رمزا لأوساط جديدة يجدر فيها إعلان الإنجيل.
“الأريوباغس” الأول في الأزمنة المعاصرة هو عالم وسائل الأعلام، الذي يعطي البشرية وحدتها، إذ يجعل منها، كما يقال، “قرية كبيرة”. لقد أخذت وسائل الإعلام أهمية كبيرة، حتى أنها أصبحت لكثير من الناس الوسيلة الأساسية للاستعلام والتنشئة. إنها تقود وتلهم التصرفات الفردية والعائلية والاجتماعية. إنّ الأجيال الجديدة خاصة هي التي تنمو في عالم متأثّر بوسائل الأعلام. قد أهملنا بعض الشيء هذا الاريوباغس. نركّز عامة على وسائل أخرى للتبشير بالإنجيل وللتنشئة. فيما نترك وسائل الإعلام لمبادرة الأفراد أو فرق صغيرة، ولا تدخل في البرمجة الراعوية إلاّ بشكل ثانوي. بيد أنّ الالتزام بوسائل الإعلام، ليس هدفه الوحيد مضاعفة عمل الرسالة. إنّ المقصود أمر أعمق، لأنّ التبشير بالثقافة المعاصرة بالذات يرتبط إلى حدّ كبير بتأثيرها. لا يكفي إذا أن نستعملها ليتأكد انتشار الرسالة المسيحية وتعليم الكنيسة، بل يجب دمج الرسالة في هذه “الثقافة الجديدة” التي خلقتها وسائل الاعلام. إنها لمشكلة معقدّة إذ أن هذه الثقافة تصرف النظر عن محتواها. تأتي بالتحديد من وجود أشكال جديدة للاتصال مع لغات جديدة وتقنيات جديدة وتصرفات جديدة. كان سلفي بولس السادس يقول أنّ “القطيعة بين الإنجيل والثقافة هي بدون شكّ مأساة عصرنا” (62)، أنّ حقل التواصل الراهن يثبت هذا الرأي تماما.
يوجد في العالم المعاصر كثير من “الاريوغسات” الأخرى. نحوها يجب توجيه نشاط الكنيسة الرسولي. مثل الالتزام بقضايا السلام وترقي الشعوب وتحريرها وحقوق الإنسان والشعوب، وبخاصة الأقليات وترقي المرأة والطفل وصيانة البيئة. وكلها حقول يجب إنارتها بنور الإنجيل.
وإلى ذلك يجب التذكير بـ “اريوباغس” الثقافة الواسع جدا، والبحث العلمي، والتقارير الدولية التي تسهل الحوار وتؤدي إلى مشاريع جديدة للحياة. يجب التنبّه لهذه الوقائع الحديثة وايلاؤها الأهمية اللازمة. عند البشر شعور أنهم مثل بحارة في خضم الحياة، مدعوّون إلى وحدة وتضامن دائما كبيرين. إنّ حلول المشاكل المطروحة في الوجود يجب أن تكون مدروسة، ومناقشة، ومختبرة باسهام الجميع. لهذا السبب إذا تأخذ المنظمات والتجمعات الدولية دائما مزيداً من الأهمية في قطاعات عديدة من الحياة البشرية، من الثقافة إلى السياسة، ومن الاقتصاد إلى التنقيب. فعلى المسيحيين الذين يعيشون ويعملون على هذا المستوى الدولي أن يتذكروا دائما أن عليهم أن يشهدوا للإنجيل.
38- إنّ عصرنا هو في الوقت ذاته مأسوي وفتّان. في حين يبدو، من جهة، أن البشر يبحثون بحرارة عن الازدهار المادي ويغوصون أكثر في مادية الاستهلاك، يبرز، من جهة أخرى، قلق التفتيش عن المعنى، والحاجة إلى حياة داخلية، والتوق لتعلّم أشكال وطرق جديدة للتأمل وللصلاة. في الثقافات المطبوعة بالتدين، ولكن أيضا في المجتمعات المعلمنة، يُبحث عن المدى الروحيّ للحياة كدواء ضدّ التقلّص الإنساني. الظاهرة التي نسمّيها “عودة الدين” لا تخلو من اللبس، لكنها تحمل دعوة. للكنيسة تراث روحيّ لا ينفذ، تقدّمه للإنسانية في المسيحي الذي أعلن أنه “الطريق، والحق والحياة” (يو 14 / 6). إنها الطريق المسيحية التي تقود إلى اللقاء بالله، وإلى الصلاة، وإلى الزهد، وإلى اكتشاف معنى الحياة. هذا أيضا “اريوباغس” يجب التبشير به.
– أمانة للمسيح وتعزيز للحرية المسيحية
39- في جميع أشكال النشاط الرسولي نعي أننا نعزز حرية الإنسان باعلانها بيسوع المسيح. على الكنيسة أن تبقى أمينة للمسيح. فهي جسده وتتابع رسالته. عليها أن تسير “كما سار المسيح نفسه على الطريق عينها، طريق الفقر والطاعة والخدمة وبذل الذات حتى الموت، الطريق التي خرج منها منتصرا بالقيامة” (63). إذا على الكنيسة أن تعمل كلّ شيء لنشر رسالتها في العالم حتى تبلغ كل الشعوب. لها أيضا الحقّ في ذلك، الحقّ الذي منحها اياه الله ليضع تصميمه الخلاصي في حيّز العمل. إنّ الحرية الدينية – المقيّدة والمكبوتة أحياناً – هي الشرط والضمانة لكل الحريات التي عليها يقوم الخير العام للأشخاص والشعوب. إننا لنتمنى أن تمنح الحرية الدينية الحقيقة للجميع وفي كلّ مكان، والكنيسة تسعى إلى ذلك في مختلف البلدان، وبخاصة في البلدان ذات الأكثرية الكاثوليكية حيث لها تأثيرا أكبر. بيد أن الأمر لا يتعلق بمسألة ديانة الأكثرية أو الأقلية، بل بحقّ لا ينتزع لكل شخص بشري. والكنيسة تتوجه من ناحية أخرى إلى الإنسان بالاحترام الكلّي لحريته (64). إنّ الرسالة لا تضيّق على الحرية، بل إنها تعززها. الكنيسة تعرض، ولا تفرض شيئا: تحترم الأشخاص والثقافات وتتوقّف أمام مذبح الضمير. إلى الذين يعارضون نشاطها الرسولي، تكرّر الكنيسة: افتحوا الأبواب للمسيح!
اتوجّه إلى جميع الكنائس الخاصة، الفتيّة والقديمة. إنّ العالم يسير بإطراد إلى المزيد من التوحد. وروح الإنجيل يجب أن يقود إلى اجتياز حواجز الثقافات والقوميات، متخطية كلّ انغلاق. كان للبابا بندكتوس الخامس عشر يوجه هذا التنبيه إلى المرسلين في عصره: “لا ينسى المرء أبدا كرامته الشخصية إلى حدّ التفكير بوطنه الأرضيّ أكثر من السماوي” (65). الوصية نفسها تصلح اليوم بالنسبة إلى الكنائس الخاصة: افتحوا الأبواب للمرسلين، لأن “كلّ كنيسة خاصة تنفصل بإرادتها عن الكنيسة الجامعة قد تفقد انتماءها إلى تصميم الله، وتفتقر في مداها الكنسي” (66).
– وجهوا الأنظار نحو الجنوب ونحو الشرق
40- إن النشاط الرسولي يمثّل اليوم أيضا أكبر التحديّات أمام الكنيسة. بالرغم من إننا نقترب من نهاية الألف الثاني للفداء، يظهر دائما بوضوح أكثر أنّ الأمم التي لم تتلقّ بعد بشارة المسيح الأولى تشكّل القسم الأكبر من البشرية. إن رصيد النشاط الرسولي في الأزمنة الحديثة هو بالطبع إيجابي: الكنيسة انشئت في جميع القارات وأكثرية المؤمنين والكنائس الخاصة اليوم لا توجد في أوروبا القديمة، بل في القارات التي فتحها المرسلون للإيمان.
يبقى دائما، أنّ “أقاصي الأرض” إلى حيث يتوجّب حمل الإنجيل تتراجع أكثر فأكثر، وكلمة ترتوليانوس التي بحسبها قد تمّ التبشير بالإنجيل في كلّ الأرض وإلى الشعوب كافة (67)، هي أيضا أبعد من أن تتحقّق في الواقع. إن الرسالة إلى الأمم ليست ألاّ في بداياتها. شعوب جديدة تدخل على المسرح العالميّ ولها الحق، هي أيضا، في أن تتلقى بشارة الخلاص. إنّ النموّ الديموغرافي في الجنوب والشرق وفي البلدان غير المسيحية يرفع باستمرار عدد الأشخاص الذين يجهلون الفداء الذي حققه المسيح.
يجب توجيه الأنتباه الرسولي نحو المساحات الجغرافية والأوساط الثقافية التي لا تزال بعيدة عن تأثير الإنجيل. على جميع الذين يؤمنون بالمسيح أن يختبروا، كجزء من صلب إيمانهم، الغيرة الرسولية في نقل فرح الإيمان ونوره إلى الآخرين. هذه الغيرة يجب أن تصبح – إذا صحّ القول – جوعا وعطشا إلى جعل الرب معروفا كلما صُوّب النظر نحو آفاق العالم غير المسيحي الواسعة.
الفصل الخامس
طرق الرسالة
41- “ليس النشاط الارسالي – على الأقل – سوى جلاء تصميم الله، أي ظهوره وتحقيقه في العالم وتاريخ هذا العالم الذي يتممّ الله فيه، وبالارساليات، تاريخ الخلاص بطريقة بينة” (68). فما هي الطريق التي تتبعها الكنيسة لبلوغ هذه النتيجة؟
الرسالة هي حقيقة إجمالية، لكنها متشعبة الوجوه، تتم بطرق مختلفة لبعضها أهمية خاصة في الوضع الحاضر للكنيسة وللعالم.
– الوجه الأول للتبشير بالإنجيل هو الشهادة
42- يؤمن الإنسان المعاصر بالشهود أكثر منه بالمعلّمين (69)، وبالاختبار أكثر منه بالعقيدة، وبالحياة والأعمال أكثر منه بالنظريات. الوجه الأول للرسالة، هو شهادة الحياة المسيحية التي لا غنى عنها. المسيح الذي نتابع رسالته، هو “الشاهد” المثاليّ (رؤ 1 / 5، 3 / 14) ونموذج الشهادة المسيحية. الروح القدس يرافق الكنيسة في سيرها ويشركها بالشهادة التي يشهدها للمسيح (يو 15 / 26 – 27).
إنّ الوجه الأول للشهادة هو حياة المرسل عينها، وحياة العائلة المسيحية والجماعة الكنسية والحياة التي تُظهر وجها جديدا للسلوك. فالمرسل الذي، بالرغم من كلّ حدوده وعدم كماله الإنسانيّ، يعيش ببساطة على مثال المسيح، هو علامة الله والحقائق السامية. لكنّ الجميع في الكنيسة، ببذلهم قصارى جهدهم للاقتداء بالمعلم الإلهي، يستطيعون ويتوجّب عليهم إعطاء هذه الشهادة (70)، ففي كثير من الحالات، هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة للمرء ليكون مرسلا.
إنّ الشهادة الإنجيلية التي يكون العالم أكثر تحسّسا لها، إنما هي شهادة الالتفات إلى الأشخاص وشهادة المحبة نحو الفقراء والصغار والمتألمين. فمجانية هذا الموقف وهذه الأفعال التي تتعارض والأنانية المتملّكة في الإنسان، تثير تساؤلات معينّة توجّه نحو الله ونحو الإنجيل.
وكذلك فإن الالتزام بقضايا السلام والعدالة وحقوق الإنسان ورقيّ الشخص البشري يكون شهادة إنجيلية بقدر ما يكون علامة التفات نحو الأشخاص وبقدر ما يهدف إلى تنمية الإنسان تنمية كاملة (71).
43- إنّ المسيحيين والجماعات المسيحية يندمجون في صميم حياة شعوبهم. وهم “آيات” إنجيلية بأمانتهم لوطنهم وشعبهم وثقافتهم الوطنية، مع الاحتفاظ بالحرية التي أكسبهم إياها المسيح. المسيحية منفتحة على الأخوّة الشاملة. فالبشر جميعا أبناء الآب عينه وأخوة في المسيح.
الكنيسة مدعوّة لتشهد للمسيح في اتخاذها مواقف شجاعة ونبوية في مواجهة فساد السلطة السياسية والاقتصادية، دون أن تفتّش عن المجد ولا عن المنافع المادية. وذلك باستعمالها ما تملك لخدمة المعوزين، وباقتدائها ببساطة حياة المسيح. على الكنيسة والمرسلين أن يعطوا أيضا شهادة التواضع بعضهم لبعض قبل كلّ شيء، بتمرّس ذواتهم على فحص الضمير على المستوى الفردي والجماعيّ، حتى يصحّحوا في سلوكهم ما يتعارض والإنجيل ويشوّه وجه المسيح.
– البشرى الأولى بالمسيح المخلّص
44- إن البشرى، دائما، الأولوية في الرسالة. والكنيسة لا تستطيع أن تتخلى عن تفويض المسيح الواضح لها. لا يمكنها أن تحرم البشر من البشرى السارة بأن الله يحبّهم ويخلّصهم. “إن التبشير بالإنجيل سيتضمن أيضا ودائما – كقاعدة ومركز وقمة معا لديناميته – اعلانا واضحا أن بيسوع المسيح (…)، يهب الله الخلاص لكلّ إنسان، عطية من نعمة الله ورحمته” (72). إنّ أنواع العمل الرسولي كلّها تهدف إلى هذا التبشير الذي يكشف ويدخل في السرّ الذي ظلّ مكتوما طوال الأجيال حتى كُشف في المسيح (اف 3 /3 – 9، كول 1 / 25 – 29)، السرّ الذي هو التبشير بالإنجيل.
إن للبشارة الأولى، في واقع الرسالة المتشعب، دورا رئيسيا لا بديل عنه، لأنها تدخل “في سرّ محبّة الله الذي يدعو الإنسان إلى علاقات شخصية معه في المسيح” (73)، وتمهد السبيل إلى التوبة. ينبع الإيمان من البشارة وتأخذ كل جماعة كنيسة بدايتها وحياتها من الجواب الشخصيّ الذي يعطيه كلّ مؤمن بهذه البشارة (74). فكما أنّ تدبير الخلاص مرتكز على المسيح، هكذا العمل الرسولي يرمي إلى اعلان سرّه. إنّ موضوع البشارة هو المسيح المصلوب، المائت والقائم: فيه التحرير الصادق والكامل من الشر ومن الخطيئة ومن الموت. فيه يعطي الله “الحياة الجديدة”، الإلهية والأبدية. تلك هي البشرى السارة التي تحوّل الإنسان وتاريخ البشرية والتي يحقّ للشعوب كلّها أن تعرفها. يجب أن تتمّ هذه البشارة في مسار حياة الإنسان والشعوب الذين تقبّلوها. كذلك يجب أن تتمّ في موقف حبّ واعتبار للذي يصغي، وفي لغة واقعية وملائمة للظروف. في هذه البشارة، يعمل الروح وينشئ شراكة بين المُرسل والمستمعين، وهذا ممكن على قدر الشركة القائمة بينهم في المسيح، مع الآب (75).
45- ليست البشارة أبدا عملا شخصيا، لأنها تتم بالاتحاد مع الجماعة الكنسية كلّها. والمرسَل يحضر ويعمل بقوة التوكيل الذي تقبّله، وحتى إذا كان وحده، فهو يتصل بروابط غير منظورة، ولكن عميقة، بالعمل التبشيري في الكنيسة كلّها (76). وعاجلاً أم آجلاً، يتبيّن المستمعون وراءه الجماعة التي أرسلته وتسنده.
تنتعش البشارة بالإيمان الذي يعطي المرسَل الحمية والحرارة. ولتحديد هذا الموقف تستخدم الأعمال عبارة “بريسيا” التي تعني الكلام بجرأة وشجاعة، هذه العبارة استعملها القديس بولس: “إننا جرؤنا، لثقتنا بإلهنا، أن نكلمكم ببشارة الله في جهاد كثير” (اتس 2/2). “أقيموا الصلاة لي أيضا ليوهب لي أن أتكلم وأبلغ بجرأة سرّ البشارة، وفي سبيلها أنا سفير مقيد بالسلاسل. عسى أن أجرؤ على التبشير به كما يجب أن أتكلم” (اف 6 / 19 – 20).
في التبشير بالمسيح لغير المسيحيين، يقتنع المرسَل أنّ لدى الكثيرين من الأفراد والشعوب، وبفضل فعل الروح، انتظارا، حتى في اللاوعي، لمعرفة حقيقة الله والإنسان والطريق التي تؤدي إلى التحرير من الخطيئة ومن الموت. إنّ الحماس في التبشير بالمسيح يتأتى من الاقتناع بتلبية هذا الانتظار. لذا لا ييأس المرسَل ولا يتخلّى عن شهادته، حتى ولو دعي لإعلان إيمانه في محيط عدائي أو لامبال. فهو يعلم أنّ روح الآب يتكلّم فيه (متى 10 / 17 – 20، لو 12 / 11 – 12) وباستطاعته أن يكرّر مع الرسل: “نحن شهود لتلك الأحداث، نحن والروح القدس” (رسل 5 / 32). إنه يعلم أنه لا يبشّر بحقيقة بشرية، لكن بـ “كلمة الله” التي لها قدرة داخلية وسريّة (روم 1 / 16).
إن أسمى برهان هو هبة الحياة حتى القبول بالموت شهادة للإيمان بالمسيح. كما كان الحال دائما في التاريخ المسيحي. “الشهداء”، أي الشهود، هم كثير ولا غنى عنهم في مسيرة الإنجيل. وفي عصرنا أيضا الكثيرون منهم: أساقفة، وكهنة، ورهبان وراهبات، وعلمانيون، وأحيانا أبطال مجهولون، يبذلون حياتهم شهادة للإيمان. إنّهم الرسل والشهداء الأماثل.
– توبة وعماد
46- إنّ إعلان كلمة الله يمهد السبيل للتوبة المسيحية، أيّ للولاء الكامل والمخلص بالإيمان للمسيح ولإنجيله. التوبة هبة من الله وفعل الثالوث: هو الروح يفتح أبواب القلوب ليتمكن البشر من الإيمان بالرب “والمجاهرة به” (1 قور 12 / 3). يقول يسوع لمن يقترب منه بالإيمان: “لا يسع أحدا أن يجيء إليّ ما لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” (يو 6 / 44).
التوبة يُعبّر عنها أولا بالإيمان الكلّي والجذري الذي لا يضع حدودا ولا مهلا لهبة الله. وهي في الوقت نفسه، تخلق في الإنسان دينامية دائمة، تقضي بالعبور دائما من “الحياة بحسب الجسد” إلى “الحياة بحسب الروح” (روم 8 / 3 – 13). التوبة تعني القبول بقرار شخصيّ، بسيادة المسيح الخلاصية والتتلمذ له.
تدعو الكنيسة العالم كلّه إلى هذه التوبة، على مثال يوحنا المعمدان الذي كان يعد الطريق للرب، “مناديا بعماد توبة لغفران الخطايا” (مر 1 / 4)، وعلى مثال المسيح نفسه الذي، “بعدما أسلم يوحنا، مضى إلى الجليل، ينادي ببشرى الله قائلا: تمّ الزمان، وأقبل ملكوت الله، فتوبوا، وبالبشرى آمنوا” (مر 1 /14 – 15).
إنّ الدعوة إلى التوبة التي يوجهها المرسَلون إلى غير المسيحيين هي اليوم موضوع تساؤل أو في طيّ النسيان. يُرى فيها فعل “أقتناص”، يقال أنه يكفي مساعدة الناس ليكونوا أكثر إنسانية أو أكثر أمانة لديانتهم، وأنه يكفي تأسيس جماعات قادرة على العمل لأجل العدالة والحرية والسلام والتضامن. ولكن يُنسى أنّ لكلّ شخص الحقّ في أن يسمع بشرى الله السارة، الله الذي عرّف عن ذاته ووهب ذاته في المسيح، لكي يحقق الإنسان ملء دعوته. إن عظمة هذا الحدث تظهر في قول يسوع للسامرية: “لو عرفت عطية الله”، وكذلك أيضا رغبة المرأة، اللاواعية: “أعطينه، سيدي، هذا الماء، لكي لا أعطش” (يو 4 / 10 – 15).
47- كان الرسل، بدافع من الروح القدس، يدعون الناس جميعا إلى تغيير حياتهم، وإلى التوبة، وقبول العماد. في الحال وبعدما حدثت العنصرة، توجّه بطرس إلى الجمع بكلام مقنع: “سمع اليهود ذلك، فنفذ منهم في القلوب، وقالوا لبطرس، وللرسل الآخرين: “ما نعمل، أيها الأخوة”؟ قال لهم بطرس: “توبوا، وليعتمد كل منكم باسم يسوع المسيح، لمغفرة خطاياكم، فتعطوا الروح القدس” (رسل 2 / 37 – 38). وعمّد في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس. بعد شفاء الكسيح، خاطب بطرس أيضا الشعب مردّدا: “توبوا، وعودوا إلى الله، تُمح خطاياكم” (رسل 3 / 19).
التوبة إلى المسيح ترتبط بالعماد، ليس فقط في ممارسة الكنيسة، ولكن لأن هذه هي إرادة المسيح، الذي طلب بأن يتلمذ جميع الأمم ويعمّدوا (راجع متى 28 / 19)، وكذلك أيضا بسبب الحاجة لقبول ملء الحياة الداخلية فيه: “الحقّ، الحق أقول لك – قال يسوع لنيقوديم – لا يسع أحدا أن يدخل ملكوت الله، ما لم يولد من الماء والروح” (يو 3 / 5). إنّ العماد، في الواقع، يجعلنا نولد لحياة أبناء الله. يجعلنا نتحد بيسوع المسيح. يمنحنا المسحة في الروح القدس. ليس العماد ختم التوبة فقط وعلامة خارجية تجعلها منظورة وتشهد له، إنه السرّ الذي يعني ويحقّق هذه الولادة الجديدة في الروح، ويخلق روابط حقيقية لا تنحل مع الثالوث، ويدخل في عضوية جسد المسيح الذي هو الكنيسة.
يجب التذكير بهذا كلّه، لأن البعض وبالتحديد حيث تمارس الرسالة إلى الأمم يحملون على التفريق بين التوبة إلى المسيح والعماد، معتبرين هذا الأخير غير ضروري. يُقيّد العماد، بالواقع، في بعض الأوساط، بكيفيات اجتماعية تعتّم فيه معنى الإيمان الحقيقي، وتتسبب في ذلك عوامل تاريخية وثقافية مختلفة يجب العمل على إزالتها حيث لا تزال قائمة، لكي يتجلّى سرّ الولادة الروحية الجديدة في كل قدرة. وعلى الجماعات الكنسية المحلية أن تسعى جهدها في هذا السبيل. وهنالك أيضا عدد من الأشخاص يصرّحون أنهم آمنوا بالمسيح وبرسالته في الداخل، دون إرادة الالتزام بالأسرار، لأنهم، بسبب أحكام مسبقة، وأخطاء المسيحيين، لا يتوصّلون إلى رؤية طبيعة الكنيسة الحقيقية، سرّ الإيمان والمحبة (77). أود أن أشجع هؤلاء الأشخاص على الانفتاح الكامل على المسيح، بتذكيرهم أنهم إذا كانوا يشعرون أنهم منجذبون بالمسيح، فإنه هو الذي أراد الكنيسة “المكان” الذي فيه يستطيعون فعلا لقاءه في الوقت نفسه، أدعو المؤمنين والجماعات المسيحية إلى أن يشهدوا شهادة صادقة للمسيح بحياتهم الجديدة.
إن كل مهتد، هو بالطبع، هبة للكنيسة ويمثّل مسؤولية جسيمة، ليس فقط لأنه يجب تحضيره للعماد في مرحلة الموعوظية ليتابع بعدها تثقيفه الديني بل لأنه، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بشخص راشد، يحمل نوعا من الطاقة الجديدة، وحماس الإيمان والرغبة في أن يجد في الكنيسة نفسها الإنجيل المعاش. فقد يخيّب أمله إذا ما دخل مرة إلى الجماعة الكنسية، ووجد فيها حياة خالية من التقوى ومن علامات التجديد. فلا يمكننا أن نحثّ على الإهتداء دون أن نهتدي نحن أنفسنا كلّ يوم.
– تأسيس الكنائس المحلية
48- إن الاهتداء والعماد يُدخلان في الكنيسة، حيث هي قائمة، جماعات جديدة تعلن أن يسوع هو مخلّص وربّ أو يحملان على تأسيسها. يشكّل ذلك جزءا من تصميم الله الذي شاء “أن يدعو الناس ليشاركوه في الحياة، لا أفراد لا يربطهم أي رباط متبادل، بل شاء أن يؤلفوا شعبا يتجمع فيه ويتوحّد أبناؤه الذين كانوا مشتتين” (78).
إنّ هدف الرسالة إلى الأمم هو تأسيس جماعات مسيحية، والبلوغ بالكنائس إلى ملء نضجها. هذا هو الهدف الأول والخاص للنشاط الرسولي ولا يمكن القول أنه قد أُدرك ما دمنا لم ننجح في تشييد كنيسة خاصة جديدة تحيا حياة عادية في اطارها الطبيعي. إنّ القرار “إلى الأمم” يُسهب في الكلام عن ذلك (79). وبعد المجمع، شهدنا تنامي تيار لاهوتيّ يذكرّ بأن سرّ الكنيسة كلّه موجود في كل كنيسة خاصة على ألاّ تنعزل هذه الأخيرة، بل تبقى في اتحاد مع الكنيسة الجامعة فتصبح بدورها، رسولية. إننا هنا بصدد عمل هام يتطلب نفساً طويلا يصعب تحديد مراحله من حيث أين ينتهي العمل الارسالي بالحصر ليبدأ النشاط الراعوي. لكنّ يجب أن تبقى بعض النقاط واضحة.
49- من الضروري، قبل كلّ شيء، السعي لإنشاء جماعات مسيحية في كلّ مكان. فتكون “علامة حضور الله في العالم” (80)، وتنمو حتى تصبح كنائس. فعلى الرغم من ارتفاع عدد الأبرشيات، يوجد أيضا مناطق شاسعة، تغيب عنها الكنائس المحلية كلّياً أو تكون غير كافية نظراً لاتساع الأراضي والكثافة السكانية. يبقى علينا عمل هام لزرع الكنيسة وتطويرها. هذه المرحلة من التاريخ الكنسي، التي نسمّيها زرع الكنيسة، لم تنته، بالعكس، بل يزال من الواجب انشاؤها في كثير من التجمعات البشرية. تقع مسؤولية هذه المهمة على عاتق الكنيسة الجامعة، وعلى الكنائس الخاصة وعلى كل شعب الله وعلى القوى الارسالية كافة. إنّ كلّ كنيسة، حتى وإن لم تكن مؤلّفة إلاّ من مهتدين جدد، هي رسولية بطبيعتها. فهي مُبشِّرة ومُبَشَّرة. يجب أن ينادى بالإيمان دائما كهبة من الله وأن يعاش في جماعة (عائلات، رعايا، تجمعات). ويجب أنّ يشعّ إلى الخارج بشهادة الحياة والكلمة. إنّ عمل الجماعة المسيحية التبشيري، يتمّ على أرضها أولا، ومن ثم في مكان آخر، مشاركةً في الرسالة الشاملة. وهو العلامة الأكثر وضوحا لنضج الإيمان. على المرء أولا أن يهتدي روحيا، ليصبح مرسلا، وذلك يصح على الأشخاص مثله على الجماعات. يدعو الرب الإنسان دائما إلى الخروج من ذاته وإلى تقاسم الخيرات التي نمتلكها مع الآخرين، بدءا بالأهمّ الذي هو الإيمان. في ضوء هذا المبدأ الرسولي يجب تقييم المنظمات والحركات والرعايا وأعمال الرسالة في الكنيسة. لا تستطيع المسيحية أن تتخطى انقساماتها وتوتراتها الداخلية وتستعيد وحدتها وقوة إيمانها، إلاّ بقدر ما تصير مرسلة.
على القوى الرسولية الآتية من كنائس وبلدان أخرى، أن تعمل بالاتحاد مع العناصر المحلية، على نمو الجماعة المسيحية. ويعود إليهم خاصة – ودائما تبعا لتوجيهات الأساقفة وبالتعاون مع المسؤولين المحليين – تشجيع نشر الإيمان وانتشار الكنيسة في أوساط ومجموعات غير مسيحية، وبثّ الروح الرسولي في الكنائس المحليّة، بحيث يكون فيها الاهتمام الراعوي متصّلا دائما باهتمام الرسالة إلى الأمم. هكذا، تأخذ كل كنيسة على عاتقها اهتمام المسيح الراعي الصالح، الذي يتفانى في سبيل قطيعه، ولكنه يفكّر في الوقت نفسه بنعاجه الأخرى الغريبة عن هذه الحظيرة” (يو 10 / 16).
50- إنّ هذا الاهتمام يدفع ويحثّ على الالتزام المسكوني المتجدّد. وإن الروابط القائمة بين النشاط المسكوني والنشاط الارسالي توجب الأخذ بعين الاعتبار عاملين في آن معا. فمن ناحية، يجب الإقرار بأن “انقسام المسيحيين يُلحق الأذى بأقدس قضية، ألا وهي التبشير بالإنجيل لكل خليقة، كما أنه يحول دون بلوغ الآخرين إلى الإيمان” (81). إنّ انقسام المسيحيين فيما بينهم يضعف شهادة بشرى المصالحة السارة التي بها ينادون، فمن الملحّ إذا العمل على وحدة المسيحيين حتى يتسنّى للنشاط الرسولي أن يكون أكثر اقناعا. وفي الوقت نفسه، علينا ألاّ ننسى أنّ الجهود المبذولة لأجل الوحدة تشكّل في حدّ ذاتها علامة لعمل المصالحة الذي يتمّمه الله فيما بيننا.
من جهة أخرى لا شك في أن كلّ الذين قبلوا العماد في المسيح تقوم بينهم شركة ما، وإن غير كاملة. على هذا يرتكز التوجيه الذي أعطاه المجمع:
“وبعد استبعاد أية صورة للامبالاة والتشوّش أو للمنافسة المستهجنة، بحيث يتعاون الكاثوليك تعاونا أخويا مع أخوتهم المنفصلين عنهم، وفقا لقواعد المرسوم عن الحركة المسكونية، وذلك بالمجاهرة، قدر المستطاع، بالإيمان بالله وبيسوع المسيح أمام الأمم، وبالتعاون في الشؤون الاجتماعية والتقنية كما في الشؤون الثقافية والدينية” (82).
إن النشاط المسكوني والشهادة المتوافقة التي يؤديها إلى يسوع المسيح المسيحيون الذين ينتمون إلى كنائس مختلفة وجماعات كنسية، أعطيا ثمارا كثيرة. ولكنهم أشدّ ما يكونون بحاجة متواصلة إلى أن يتعاونوا ويشهدوا معا، في وقت تزرع شيع يكوّن تهديدا للكنيسة الكاثوليكية ولكلّ الجماعات الكنسية التي تواصل الحوار معها. فحيث يكون ذلك ممكنا، وتبعا للظروف المحلية، يكمن أن يكون جواب المسيحيين أيضا مسكونيا.
– “الجماعات الكنسية الأساسية”
قوّة تبشير بالإنجيل
51- إن الجماعات الكنسية الأساسية (والمعروفة أيضا تحت أسماء أخرى) تؤلّف ظاهرة ذات نمو سريع في الكنائس الفتية. فالأساقفة ومؤتمراتهم يشجّعونها وتقع عليها أحيانا أولوية اختيارهم في الرعائيات. أنهم بصدد أن تبرهن على أنها مراكز تنشئة مسيحية تجتمع، على المستوى العائلي أو في اطار محدود، للصلاة، وقراءة الكتاب المقدس، والتعليم الديني، مثلها لتناول القضايا الإنسانية والكنسية معا في سبيل الالتزام المشترك. إنها علامة حيوية الكنيسة، ووسيلة تنشئة وتبشير بالإنجيل، ونقطة انطلاق جيدة تؤدي إلى مجتمع جديد يرتكز على “حضارة المحبة”.
إن هذه الجماعات تنشئ اللامركزية وتشدّ أواصر الجماعة الرعوية التي تبقى دائما متحدة بها، تتحدّر في الأوساط الشعبية والريفية، متحوّلة إلى خميرة حياة مسيحية، واهتمام بالمستصغرين، والتزام بتحويل المجتمع. في هذه المجموعات، يقوم المسيحي باختبار جماعي، به يشعر أنه عضو مؤثّر، ويتشجع لتأدية المساهمة في ما يلتزم به الجميع. وهكذا تكون الجماعات الكنسية الأساسية، أداة تبشير بالإنجيل وبشارة أولى، وكذلك مصدر خدمات جديدة، فيما تظهر بمحبة المسيح التي تنعشها، كيف يمكن تخطي الانقسامات، والقبائليات، والعنصريات.
فإن على كلّ جماعة، كي تكون مسيحية، أن ترتكز على المسيح وتحيا منه، في سماع كلمة الله، وفي الصلاة المرتكزة على الافخارستيا، وفي الشركة التي يعبّر عنها بوحدة القلب والروح، وفي المشاركة بحاجة كل أعضائها (رسل 2 / 42 – 47). كان بولس السادس يذكر بأن على كلّ جماعة أن تعيش في الوحدة مع الكنيسة الخاصة والكنيسة الجامعة، في شراكة صادقة مع الرعاة والسلطة التعليمية وفي الالتزام بالرسالة، مع تجنب كل انطواء وكل استغلال ايديولوجي (83). ولقد أعلم مجمع الأساقفة: “بما أن الكنيسة هي شركة”، “فالجماعات الكنسية الأساسية” الجديدة، إذا عاشت حقيقة في وحدة الكنيسة، تكون تعبيراً صادقاً للشركة ووسيلة لإنشاء شركة أعمق. ومثاراً لرجاء كبير في حياة الكنيسة” (84).
– تجسيد الإنجيل في ثقافات الشعوب
52- إن الكنيسة بممارسة نشاطها الرسولي بين الشعوب، تدخل في اتصال مع مختلفة الثقافات، وتجد نفسها داخلة في عملية الاندماج الثقافي.
إنها فريضة طبعت كلّ مسارها طوال التاريخ وتظهر اليوم دقيقة وملحّة بشكل خاص. إنّ مسار ادخال الكنيسة في ثقافات الشعوب يتطلّب الكثير من الوقت: فليس المطلوب مجرّد ملائمة خارجية، فالاندماج الثقافي يعني تحويلا من الداخل للقيم الثقافية الحقيقية بدمجها في المسيحية، وتجذير المسيحية في مختلف الثقافات البشرية” (85). إنه مسار عميق وشامل يلزم الرسالة المسيحية وكذلك تفكير الكنيسة وممارستها. ولكنه مسار صعب أيضا، لأن عليه ألاّ يعطّل بأي شكل من الأشكال فرادة الإيمان المسيحي وسلامته.
بالاندماج الثقافي، تجسّد الكنيسة الإنجيل في مختللف الثقافات، وفي الوقت نفسه، تُدخل الشعوب مع ثقافاتها في جماعتها الخاصة (86). وتنقل إليها قيمها، آخذة الجيد من ثقافات مجدّدة أياه من الداخل (87). وبواسطة الاندماج الثقافي، تصبح الكنيسة، من ناحيتها، آية مفهومة أكثر ممّا هي عليه وأداة أكثر ملاءمة لرسالتها.
إنّ الكنيسة الجامعة نفسها، بفضل هذا العمل في الكنائس المحلية، تغتني بتعابير وقيم جديدة في مختلف قطاعات الحياة المسيحية، مثل التبشير بالإنجيل، والعبادة، واللاهوت، وأعمال المحبة، فتعرف سرّ المسيح وتعبّر عنه بطريقة أفضل، وتندفع هي نفسها إلى التجدّد باستمرار. هذه الموضوعات، الحاضرة في المجتمع، أو بالتالي، في تعاليم السلطة، عالجتها دون انقطاع في أثناء زياراتي الراعوية إلى الكنائس الفتية (88).
والاندماج الثقافي مسار بطيء، يطول مدى الحياة الرسولية ويوجب على العاملين في الرسالة إلى الأمم، وعلى الجماعات المسيحية بقدر ما تأخذ في التطور، وعلى الرعاة أصحاب مسؤولية التمييز والتشجيع أن يضعوه حيّز العمل (89).
53- على المرسَلين الذين ينتسبون إلى كنائس أخرى وبلدان أخرى أن يندمجوا في العالم الاجتماعي والثقافي للذين أرسلوا إليهم، بتخطيهم ظروف محيطهم الأصليّ. وبالتالي عليهم أن يتعلموا لغة المنطقة حيث يعملون، وأن يعرفوا العبارات الأكثر تعبيرا عن ثقافة السكان، باكتشافهم قيما بالاختبار المباشر. وهكذا بفضل تلك المعرفة فقط، سيتمكّنون من تسليم الشعوب، بطريقة قابلة للتصديق ومثمرة، معرفة السرّ المكتوم. (راجع 16 / 25 – 27، اف 3 / 5). بالتأكيد، لا يطلب إليهم أن يتخلوا عن هويتهم الثقافية، بل أن يتفهمّوا ثقافة المحيط حيث يعملون، ويقدّروها، ويرقّوها، ويبشروها بالإنجيل، فيكونوا عندئذ قادرين على المشاركة في ذلك المحيط، بتبنيهم نمط حياة يكون علامة شهادتهم الإنجيلية وتضامنهم مع الناس.
إن الجماعات الكنسية الناشئة، التي تستلهم الإنجيل، ستتمكنّ تدريجيا من التعبير عن اختبارها المسيحي بطريقة مبتكرة، في خطّ تقاليدها الثقافية، شرط أن تبقى في تآلف مع المتطلبات الموضوعية للإيمان الحق. لبلوغ هذا الهدف، خاصة في ما يتعلق بحقول الاندماج الثقافي الأدق، على الكنائس الخاصة في المنطقة نفسها أن تعمل بالاشتراك مع غيرها (90)، ومع الكنيسة كلها، مقتنعة بأن وحده الانتباه إلى الكنيسة الجامعة وإلى الكنائس الخاصة سيجعلها قادرة على ترجمة كنز الإيمان في التنوع المشروع للتعبير عنه (91). لهذا فإن المجموعات المبشّرة بالإنجيل ستوفر العناصر لـ “ترجمة” الرسالة الإنجيلية (92)، مع الأخذ بالاعتبار العناصر الإيجابية المنتقلة عبر الأجيال بفضل اتصال المسيحية بمختلف الثقافات، لكن دون نسيان أخطار التحريف التي ظهرت (93) في بعض الأحيان.
54- ولا بدّ في هذا الصدد، من بعض التوضيحات الأساسية. فالاندماج الثقافي إذا ما وجه بشكل سليم يجب أن يسير على مبدأين: “استساغة الإنجيل مختلف الثقافات التي يُقبل عليها، وبالاشتراك مع الكنيسة الجامعة” (94). والاساقفة بصفتهم أمناء على “ذخيرة الإيمان”، يسهرون على الأمانة، وبخاصة على واجب التمييز (95)، وهذا ما يتطلّب اتّزانا عميقا. لأننا، بدون تحليل نقدي، نتعرض لخطر الانتقال من نوع من الاغتراب بالنسبة إلى الثقافة، إلى المغالاة في تقييم الثقافة، التي هي من انتاج الإنسان، وهي مطبوعة بالخطيئة. تحتاج الثقافة، هي أيضا، إلى أن “تُنقّى وتُرفع وتكمّل” (96).
مثل هذا المسار يجب أن يتمّ تدريجيا، بحيث يكون بالحق تعبيرا عن اختبار الجماعة المسيحية: كان بولس السادس يقول في كمبالا: “يجب احتضان السرّ المسيحيّ في عبقرية شعبكم، حتى يرتفع في ما بعد صوته المبتكر والأصفى والأصرح، بانسجام، في جوقة أصوات الكنيسة الجامعة الأخرى” (97). في النهاية، يجب أن يكون الاندماج الثقافي عمل شعب الله. عمل يعكس معنى الإيمان الصادق الذي يجب ألاّ يتوارى عن الأنظار. بالتأكيد، يجب أن نقوده ونشجّعه، ولكن دون تعسّف، لئلا نسبّب ردّات فعل سلبية بين المسيحيين: يجب أن يكون الاندماج التعبير عن الحياة المشتركة، أي أن ينضج في حضن الجماعة، لا أن يكون ثمرة خاصة لأبحاث تاريخية. المحافظة على القيم التقليدية هي نتيجة إيمان ناضج.
– الحوار مع الأخوة من ديانات أخرى
55- إن الحوار بين الديانات يشكّل جزءا من رسالة الكنيسة التبشيرية. فهو، باعتباره طريقة ووسيلة لمعرفة وإغناء متبادلين، لا يتعارض مع الرسالة إلى الأمم. إنه، بالعكس، مرتبط بها، بنوع خاص، وهو تعبير عنها. لأن هذه الرسالة موجهة إلى أناس لا يعرفون المسيح ولا إنجيله. وهم، في أكثريتهم الساحقة، ينتمون إلى ديانات أخرى. إن الله يدعو إليه كل الشعوب، وفي المسيح، يريد أن يشركهم في ملء وحيه ومحبته. ولا يفوته أبدا اظهار حضوره بطرق كثيرة، ليس للأفراد فقط، بل للشعوب أيضا، من خلال غناهم الروحي الذي تعبّر عنه الديانات تعبيرا أساسيا وجوهريا، مع أنها تحتوي “ثغرات وشوائب وأخطاء” (98). لقد نوّه المجمع وتعاليم السلطة اللاّحقة باسهاب عن كلّ ذلك مؤكدة دائما بثبات على أن الخلاص يأتي من المسيح وأن الحوار لا يعفي من التبشير بالإنجيل (99).
في ضوء التدبير الخلاصيّ، تعتبر الكنيسة أن ليس ثمة من تناقض بين البشارة بالمسيح والحوار بين الديانات. ولكنها تشعر بضرورة تنسيقها في إطار رسالتها إلى الأمم، وهما متمايزان. ولهذا يجب عدم مزجهما، ولا استغلالهما، ولا اعتبارهما مرادفين، كما لو كان يمكن ابدالهما الواحد بالآخر.
لقد كتبت مؤخرا إلى أساقفة آسيا: “مع أن الكنيسة تعترف بطيبة خاطر بكلّ ما هو حقّ ومقدّس في التقاليد الدينية عند البوذية، والهندوسية والإسلام، كانعكاس للحقيقة التي تنير البشر جميعا، بيد أن ذلك لا يخفف من واجبها وعزمها على الاعلان بدون تردّد أنّ يسوع المسيح هو “الطريق، والحق والحياة” (…). فإذا كان أتباع ديانات أخرى يتمكنون من تقبل نعمة الله وأن يخلصوا بالمسيح خارجا عن الوسائل العادية التي أسسها، فإن ذلك لا يلغي الدعوة إلى الإيمان وإلى العماد اللذين يريدهما الله للشعوب كافة” (100). فالمسيح نفسه “إذ شدّد بصريح العبارة على ضرورة الإيمان والعماد (…)، وقد أكدّ لنا في الوقت نفسه ضرورة الكنيسة التي يدخلها الناس بالعماد الذي هو الباب” (101)، فعلى الحوار أن يوجّه وينمّى ضمن الاقتناع بأن الكنيسة هي الطريق العادية للخلاص وأنها وحدها تملك ملء وسائل الخلاص (102).
56- ليس الحوار نتيجة استراتيجية أو منفعة، بل إنه نشاط له دوافعه، ومتطلباته وكرامته الخاصة: يتطلّبه الاحترام العميق الواجب نحو كلّ ما يعمله في الإنسان الروح الذي “يهبّ حيث يشاء” (103). تريد الكنيسة، من خلال الحوار أن تكتشف “بذور الكلمة” (104) وأشعة الحقيقة التي تنير الناس أجمعين” (105). وهي بذور واسعة موجودة في الأشخاص وفي تقاليد البشرية الدينية. الحوار مؤسس على الرجاء والمحبة، ويحمل الثمار في الروح. إن الديانات الأخرى تطرح تحديا إيجابيا بوجه الكنيسة اليوم، فهي بالواقع تدفعها إلى اكتشاف آيات حضور المسيح وعمل الروح والاعتراف بها. كما تدفعها أيضا إلى التعمق في هويتها والشهادة لسلامة الوحي الذي تسلّمته لخير الجميع.
من هنا نرى أيّ روح يجب أن يحرك هذا الحوار في إطار الرسالة. على المحاور أن يكون منسجما مع تقاليده وقناعاته الدينية، ومنفتحا على تقاليد الآخر وقناعاته لكي يتفهّمها، بدون مراوغة ولا انغلاق. بل في الحقيقة، والتواضع، والصدق، مع العلم بأن الحوار يمكن أن يكون مصدر غنى لكلّ أحد. يجب ألاّ يكون هنالك استسلام، ولا تساهل، بل شهادة متبادلة، بغية تقدم هؤلاء وأولئك في طريق البحث والاختبار الدينيين، وبغية تجاوز الأفكار المسبقة، وعدم التسامح وسوء التفاهم. يرمي الحوار إلى التطهير والاهتداء الداخليين اللذين، إذا ما تمّا في الخضوع للروح، يُثمران روحياً.
57- ينفتح حقل واسع أمام الحوار الذي يمكنه أن يأخذ أشكالا وتعابير عديدة: بدءا بالتبادل بين اختصاصيين في التقاليد الدينية، أو بين ممثلين رسميين لها، حتى التعاون في ترقّي القيم الدينية الكامل والمحافظة عليها، وعلى مشاركة الاختبارات الروحية الخاصة، إلى ما اتفق على تسميته بـ “حوار الحياة” الذي من خلاله يشهد المؤمنون المنتمون إلى مختلف الديانات الواحد أمام الآخر، في الحياة اليومية، عن قيمهم البشرية والروحية، ويتعاونون بها على الحياة ليؤسّسوا جماعة أكثر عدلا وأكثر أخوّة.
المؤمنون جميعهم والجماعات المسيحية كلّها مدعوون إلى ممارسة الحوار، حتى إنْ لم يكن على المستوى نفسه وتحت أشكال متماثلة. وإنّ اسهام العلمانيين في هذا الحوار لضروري: “يستطيع المؤمنون، من خلال مثال حياتهم وعملهم، أن يُحسّنوا العلاقات بين أتباع الديانات المختلفة” (106). فضلا عن أن بعض منهم يكون بوسعه الاسهام في البحث والدرس (107).
لمّا كنت أعرف بأن درب الحوار صعب وغير مفهوم في الغالب ويكوّن بالتالي، بالنسبة للكثيرين من المرسلين ومن الجماعات المسيحية، الطريقة الوحيدة لتأدية شهادة حقة للمسيح وخدمة سخيّة للإنسان، أرغب في أن أشجعهم ليثابروا، بإيمان ومحبة، حتى عندما لا تلقى جهودهم الاهتمام ولا التجاوب. إنّ الحوار هو الطريق إلى الملكوت، وهو بالتأكيد، يعطي ثماره، حتى وإنْ كانت الأزمنة والأوقات محفوظة للآب (راجع رسل 1 / 7).
– تنشيط التقدم بتربية الضمائر
58- إنّ الرسالة إلى الأمم يجري معظمها اليوم، في مناطق نصف الكرة الأرضية الجنوبية، حيث العمل من أجل التطور الكامل والتحرير من كل ضغط، هو الأمر الأكثر إلحاحا.
لقد عرفت الكنيسة دائما أن توقظ، في ما بين الشعوب التي بشّرتها بالإنجيل، اندفاعا نحو الرّقي. واليوم، أكثر منها في الماضي، تعترف الحكومات ويقرّ الخبراء الدوليون بأن المرسلين هم أيضا من رواد التطور، وجميعهم ينظرون بإعجاب إلى النتائج المذهلة التي حقّقها المرسَلون بقليل من الوسائل.
في الرسالة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، أعلنت أنّ “عندما تقوم الكنيسة بذلك تقوم برسالتها التبشيرية، لأنها عندما تعلن الحقيقة عن المسيح وعن ذاتها وعن الإنسان، يكون ذلك أول اسهام في حل معضلة النموّ الملحّة، بتطبيقها هذه الحقيقة على وضع معيّن” (108). لقد أكّد مؤتمر أساقفة أميركا اللاتينية في بويبلا “أن أفضل خدمة تُؤّدى للإنسان هي تبشيره بالإنجيل، التبشير الذي يجعله ينتشي كأبن لله، ويحرّره من المظالم ويشجع تطوّره الشامل (109). إن رسالة الكنيسة لا تقوم بالعمل مباشرة على الصعيد الاقتصادي، والتقنيّ، والسياسيّ، أو بالاسهام ماديا في التطور، بل تقوم جوهريا بأن تقدم إلى الشعوب لا أن “يملكوا أكثر”، بل أن “يكونوا أكثر”، بإيقاظها الضمائر بالإنجيل. “إنّ التطوّر البشري الصادق يجب أن يؤسّس على التعمّق المستمر في بشارة الإنجيل” (110).
إنّ الكنيسة والمرسَلين هم روّاد الترقي بفضل مدارسهم، ومستشفياتهم، ومطابعهم، وجامعاتهم، واستثماراتهم الزراعية الاختبارية. بيد أنّ ترقي شعب ما لا يتأتّى أولا من المال، ولا من المساعدات المادية، ولا من البنى التقنية، بل بالأحرى من تنشئة الضمائر، ومن نضج الذهنيات والتصرفات. فالإنسان هو رائد الرقيّ، لا المال ولا التقنية. تربّي الكنيسة الضمائر بإظهارها الله الشعوب وبإظهارها مساواة البشر جميعا بصفتهم أبناء الله، وسلطانهم على الخليقة الموضوعة لخدمتهم، وواجبهم بالالتزام من أجل ترقيّ الإنسان كلّه وكل إنسان.
59- إنّ الكنيسة بواسطة الرسالة الإنجيلية، تأتي بقوة تحرّر وتفعل لصالح الترقّي، وبصورة خاصة لأن الرسالة الإنجيلية تؤول إلى توبة القلب والروح، وتفترض الاعتراف بكرامة كلّ أحد، وتعدّ للتضامن والالتزام وخدمة الآخر، وتدخل الإنسان في مشروع الله الذي يقتضي بنيان ملكوت سلام وعدالة، ابتداء من هذه الحياة. “إن الرؤيا الكتابية في “السموات الجديدة والأرض الجديدة” (راجع اش 65 / 17، 2 بط 3 / 13، رؤ 21 / 1)، هي التي كانت في التاريخ الدافع والهدف لمسار البشرية وتقدمها. إن ترقيّ الإنسان يأتي من الله ومن المثال الذي هو يسوع الإنسان – الإله. ويجب أن يقود إلى الله (111). هذا هو السبب الذي لأجله يوجد رباط وثيق بين التبشير بالإنجيل وترقّي الإنسان.
إنّ اسهام الكنيسة والتبشير بالإنجيل في ترقّي الشعوب لا يعني فقط نصف الكرة الأرضية الجنوبي ليكافح فيه البؤس المادي والتخلف، بل أيضا نصف الكرة الشمالي المعرّض للفقر الخلقي والروحي الذي يتأتّى من “النمو المفرط” (112). إن العصرنة اللادينية السائدة في مناطق مختلفة من العالم، تبنى على فكرة أن الإنسان، لكي يصير إنسانا، يكفيه أن يغتني، وأن يسعى في أثر النموّ التقني والاقتصادي. ولكّن تطورا بدون روح لا يمكنه أن يكفي الإنسان، والافراط في الغنى يضرّه تماما كالإفراط في الفقر. هذا هو “مثال التطوّر” الذي بناه نصف الكرة الأرضية الشمالي ونشره في الجنوب، حيث المعنى الديني والقيم الإنسانية القائمة معرّضة لخطر الزوال بطغيان الاستهلاك.
“تغيير الحياة للصراع ضدّ الجوع، هذا هو الشعار الذي ظهر في الأوساط الكنسية والذي يكشف للشعوب الغنية الطريق لتصبح أخوة للشعوب الفقيرة. يجب العودة إلى حياة أكثر قساوة لتسهّل شكلا جديدا لتطوّر يصهر القيم الأدبية والدينية. إنّ النشاط الارساليّ يجلب للفقراء نورا وتشجيعا لتطورهم الحق. والتبشير الجديد بالإنجيل يجب أن يجعل الأغنياء يعون أنّ الساعة أتت ليظهروا أنفسهم حقا أخوة الفقراء، بفضل توبة مشتركة إلى “الترقي الشامل” المنفتح على المطلق (113).
– المحبة مصدر الرسالة ومقياسها
60- “إنّ الكنيسة في العالم كلّه – كما أعلنت خلال زيارتي للبرازيل – تريد أن تكون كنيسة الفقراء (…). تريد أن تسلّط النور على كلّ الحقيقة المتضمّنة في تطويبات المسيح، وبخاصة في الأولى: “طوبى للمساكين بالروح”. تريد أن تعلّم هذه الحقيقة وتمارسها، كما جاء يسوع ليعمل ويعلّم” (114).
إنّ الكنائس الفتية التي تعيش غالب الأحيان ما بين شعوب تشكو من الفقر الكبير، تعبّر عن هذا الاهتمام كجزء لا يتجزأ من رسالتها. والمؤتمر العام لأساقفة أميركا اللاتينية في بوبيلا، بعد أن ذكّر بمثل يسوع، كتب أن “الفقراء يستحقّون انتباها أفضل من سواهم أيا كان وضعهم الخلقيّ والشخصيّ. إنهم على صورة الله ومثاله، (…) ليكونوا أبناءه، ولكن هذه الصورة شوّهت وقد انتهكت. فالله يدافع عنهم ويحبهم. (…). ينتج عن هذا أنّ الذين توجّه إليهم الرسالة مثل سواهم هم الفقراء (…)، وإن تبشيرهم بالإنجيل هو الآية المميزة والبرهان عن رسالة يسوع (115).
الكنيسة مدعوة، أمانة منها لروح التطويبات، إلى مشاركة الفقراء والمقهورين على اختلاف أجناسهم. لهذا أحث تلاميذ المسيح والجماعات المسيحية كلّها، من العائلات إلى الأبرشيات، ومن الرعايا إلى المؤسسات الرهبانية، على إعادة نظر صريحة في حياتهم، في خطّ التضامن مع الفقراء. وفي الوقت نفسه، أشكر المرسلين الذين، بحضورهم المحبّ وخدمتهم المتواضعة، يعملون من أجل تطوّر كامل للشخص والجماعة، بفضل المدارس والمراكز الصحيّة ومستشفيات البرص وبيوت الاستقبال للأشخاص المعاقين وللعجزة، وكذلك بفضل المبادرات من أجل ترقي المرأة وغيرها أيضا. أشكر الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين على اخلاصهم، وأوجّه تشجيعي للمتطوّعين في المنظمات غير الحكومية، وهم كل يوم أكثر يتكرّسون لأعمال المحبة وترقية الإنسان.
إنّ هذه الأعمال هي الشهادة لروح الرسالة، أي للحبّ الذي هو ويبقى مولّد الرسالة، والذي هو أيضا المقياس الوحيد الذي عليه يجب أن يقاس كل ما يُعمل أو ما لا يعمل، وما يبدّل أو ما لا يبدّل. هذه هو المبدأ الذي يجب أن يوجّه كلّ عمل، والغاية التي يجب أن يوجه إليها كل شيء. عندما يتصرّف المرء حسب المحبة أو عندما تحرّكه المحبة، ما من أمر يؤديه عديم الفائدة بل كل شيء يكون صالحاً (116).
الفصل السادس
المسؤولون والعاملون
في الرعاية الارسالية
61- ليس من شهادة دون شهود. كما أنه ليس من رسالة دون مرسَلين. إن يسوع يختار، للاشتراك في رسالته ومتابعة عمله الخلاصي، أشخاصاً يرسلهم ليكونوا له شهوداً ورسلا: “يكونون شهودا في أورشليم، وفي كل اليهودية والسامرة، حتى أقاصي الأرض” (رسل 1 / 8).
الأثنا عشر هم من أوائل العاملين في الرسالة الجامعة: إنهم يؤلفّّون “شخصا جماعيا” للرسالة. هم الذين اختارهم يسوع ليكونوا معه، وأرسلهم “إلى النعاج الضائعة من بين إسرائيل” (متى 3 / 6). هذا الطابع الجماعي لا يمنع أن تتميّز، داخل الفريق، وجوه خاصة، أمثال يعقوب ويوحنا، وفوق الكل بطرس الذي يبرر بروز شخصه العبارة الواردة عنه “بطرس وسائر الرسل” (رسل 2 / 14 – 37). فبفضله، تفتح آفاق الرسالة الشاملة، حيث سيمتاز لاحقا بولس الذي، بإرادة الله، دُعي وأرسل إلى الوثنيين (راجع غل 1 / 15 – 16).
في العصور الأولى للانتشار الرسولي، نجد، إلى جانب الرسل، عاملين آخرين أقلّ ظهورا يجب ألاّ ننساهم: أشخاص وفرق وجماعات. فجماعة انطاكية هي مثال الكنيسة المحلية التي تحوّلت من مبشَّرة إلى مبشِّرة. وترسل مرسليها إلى الوثنيين (رسل 13 / 2 – 3). لقد اعتبرت الكنيسة الأولى الرسالة واجباً جماعياً، مع اعترافها بأنّ في داخلها “مرسلَين أخصّاء” أو “مرسَلين مكرّسين للوثنيين”، مثل بولس وبرنابا.
62- إن ما حصل في بدء المسيحية لأجل الرسالة الجامعة يحتفظ اليوم بكل قيمته وضرورته. فالكنيسة رسولية بالطبيعة. ووصية المسيح ليست أمرا عارضا أو خارجيا، بل هي في قلب الكنيسة. ينتج عن ذلك أنّ الكنيسة كلّها، وكلّ كنيسة، هي مرسَلة إلى الوثنيين. وعلى الكنائس الفتية نفسها، “ولكي تزدهر هذه الغيرة الارسالية عند المواطنين”، “أن تُسهم قدر المستطاع، إسهاما فعّالا، في رسالة الكنيسة الشاملة. وذلك بأن ترسل هي نفسها مرسَلين يبشّرون بالإنجيل في كلّ مكان، حتى وإن كانت تشكو من نقص في عدد الاكليروس” (117). كثيرون يقومون بذلك وأنا أشجعهم كثيرا.
إنّ الطابع الارسالي الصريح والكامل تعبّر عنه علاقة الشراكة الجوهرية بين الكنيسة الجامعة والكنائس الخاصة: “إننا اليوم في عالم ألغيت فيه المسافات، وصغر حجمه، ويتحتم على الجماعات الكنسية أن تتحد فيما بينها، وأن تتبادل طاقاتها ووسائل نشاطها، وأن تلتزم معا برسالة التبشير بالإنجيل وعيشه. وإن الكنائس الناشئة تحتاج إلى طاقة الكنائس القديمة، كما تحتاج الأخيرة إلى شهادة الكنائس الناشئة وانطلاقتها ولكل كنيسة أن تغترف من ثروات الأخرى” (118).
– المسؤولون الأولون عن النشاط الارسالي
63- كما أن الرب القائم من الموت استودع جماعة الرسل وصية الرسالة الجامعة، وعلى رأسهم بطرس، كذلك فإن هذه المسؤولية تقع قبل كلّ شيء على عاتق الأساقفة، برئاسة خليفة بطرس (119). وإن وعي هذه المسؤولية يجعلني، عند لقاءاتي بالأساقفة، أشعر بواجب التحدث معهم في رؤيا التبشير الجديد أو الرسالة الجامعة. لقد رحت أجدّ السير على طرقات العالم “لأبلغ الإنجيل، وأثبّت أخوتي في الإيمان، وأعزّي الكنيسة، والتقي الإنسان. إنها رحلات إيمان (…) إنها مناسبات لتعليم مسيحيّ متجوّل، وانتشار إنجيلي، على كلّ الخطوط، امتداد للإنجيل والسلطة الرسولية بلوغا إلى المجالات الكونية في عالم اليوم” (120).
إخوتي الأساقفة هم، معي، مسؤولون مباشرة عن تبشير العالم. لأنهم أعضاء في الأسقفية ورعاة الكنائس الخاصة. في هذا الخصوص، يصرّح المجمع: إلى “جسم الرعاة” يعود الاهتمام بالتبشير بالإنجيل في الأرض كلّها: هؤلاء الرعاة، كلّفهم المسيح بواجب مشترك…” (121). ويؤكّد أيضا أنّ الأساقفة “لم يتكرّسوا لأبرشية واحدة وحسب، بل لخلاص العالم بأسره” (122). لهذه المسؤولية الجامعة نتائج عملية. وبالتالي، “على سينودس الأساقفة… أن يُعنى بنوع خاص، من بين ما يُعنى به من قضايا ذات أهمية عامة، بالنشاط الرسولي، إذ هو أعظم مهمة وأقدسها في الكنيسة” (123). هذه المسؤولية عينها تتناول بدرجات مختلفة، المجالس الأسقفية ولجانها على المستوى الأقليمي، التي عليها أن تسهم اسهاما خاصا في الجهد الارسالي (124). وإنّ الدور الارسالي لكلّ أسقف، بصفته راعيا لكنيسة خاصة، هو واسع أيضا. فله يعود، “بوصفه رئيسا ونقطة ارتكاز الوحدة في الرسالة الأبرشية أن يعزّز النشاط الارسالي ويوجهه وينسقه علاوة على ذلك فليحرص على ألاّ ينحصر النشاط الارسالي بالمرتدين وحدهم لكن فلتوجّه فئة متساوية من الفعلة وجزء من المساعدات لتبشير غير المسيحيين” (125).
64- على كلّ كنيسة خاصة أن تنفتح بسخاء على حاجات الكنائس الأخرى. فالتعاون بين الكنائس، في التبادل الملموس وفي العطاء والأخذ، هو أيضا ينبوع غنى للجميع وهو يشمل شتّى قطاعات الحياة الكنسية. يبقى بيان الأساقفة في بويبلا، في هذا الشأن، نموذجاً يحتذى: “أخيرا، قد أتت الساعة، لأميركا اللاتينية…[ لأن تذهب أبعد من حدودها إلى الأمم. من المؤكد أننا نحتاج نحن أنفسنا أيضا إلى مرسَلين، ولكن علينا أن نعطي من فقرنا” (126).
بهذه الروح، أدعو الأساقفة والمجالس الأسقفية ليتقيّدوا عمليا وبسخاء بما هو ملحوظ في التوجيهات التي نشرها مجمع الأكليروس لأجل التعاون بين الكنائس الخاصة، وبخاصة من أجل توزيع أفضل للاكليروس في العالم (127).
إنّ رسالة الكنيسة هي أشمل من “الشراكة بين الكنائس”: يجب أن تؤمّن ليس فقط المساعدة على إعادة التبشير فقط، ولكن أيضا وبخاصة أن تتجه نحو النشاط الارسالي بالتحديد. إني أوجّه النداء إلى الكنائس كلّها، الحديثة والقديمة، لتشاركني هذا الاهتمام، وذلك بالعمل على تنمية الدعوات للرسالة وتذليل الصعاب.
– مرسَلون ومؤسسات “إلى الأمم”
65- من بين العاملين في الراعوية الارسالية، يشغل الأشخاص والمؤسسات الذين خصّص لهم القرار إلى الأمم فصلا خاصا بعنوان “المرسَلون” (128). وهم يشغلون دائما، كما في السابق، مكانة ذات أهمية أساسية. هنا يجب على المرسَلين أن يمنعوا التفكير، لأنهم بسبب التعديلات التي طرأت على مفهوم الرسالة، لم يعودوا – لربما – يفهمون معنى دعوتهم، ولا يعرفون بدقة ما تنتظره الكنيسة منهم اليوم.
الفكرة الأساسية واردة في إعلان المجمع:
“بالرغم من أن عبء نشر الإيمان يقع على كل تلميذ للمسيح حسب حصته فالمسيح الرب يدعو دائما من بين تلاميذه من يريد ليكونوا معه ويرسلهم لتبشير الأمم…[ ولهذا السبب فإنه، بواسطة الروح القدس الذي يوزع المواهب للمنفعة كما يشاء …[ يلهم أفرادا، في داخلهم على الدعوة الارسالية، وبالوقت نفسه ينشئ في الكنيسة المؤسسات التي تتخذ مهمة التبشير المنوطة بالكنيسة كلها كواجب خاص بها” (129).
إنها إذن “لدعوة خاصة”، على غرار دعوة الرسل. تظهر في الطابع المطلق للالتزام في خدمة التبشير، التزاما يأخذ المرسَل بكليته وحياته كلّها، وتطلب منه بذل قواه ووقته بدون حدود. أمّا بالنسبة للذين عندهم هذه الدعوة، والذين “ترسلهم السلطة الشرعية، فيذهبون بالإيمان والطاعة نحو البعيدين عن المسيح. ولقد أفرزوا للعمل الذي من أجله أختيروا…[ كخدّام للإنجيل” (130). فعلى المرسَلين أن يتأملوا دون انقطاع في الجواب الذي تتطلّبه الهبة التي نالوها وأن يحافظوا على تنشئتهم العقائدية والرسولية.
66- أمّا المؤسسات الارسالية، فإنها، ستعمد من جهتها إلى كل الوسائل اللازمة، وتستغلّ خبرتها وطاقتها الخلاقة، أمانة منها لموهبتها الأصلية، من أجل أن تهيّئ المرشّحين التهيئة اللازمة وتؤمّن تجديد طاقة أعضائها الروحية والخلقية والجسدية (131) فيعتبرون أنفسهم أعضاء كاملين في الجماعة الكنسية ويعملون بالاتحاد معها. من واجب كل جمعية تنشأ من أجل الكنيسة، أن تَتحف الكنيسة بما عندها من خصائص، وفقا لما تتفرّد به من روح وتختصّ به من رسالة”، والأساقفة أنفسهم هم حرّاس الأمانة لموهبة المؤسسة الأساسية (132).
إن المؤسسات الرسولية ولدت بصورة عامة في الكنائس المسيحية العريقة. وتاريخيا، كانت تلك وسائل “مجمع نشر الإيمان”، بهدف نشر الإيمان وتأسيس كنائس جديدة. تستقطب اليوم هذه المؤسسات أكثر فأكثر من المرشّحين الوافدين من كنائس فتية أسّستها، فيما هناك مؤسسات جديدة نشأت خصوصا في البلدان التي كانت سابقا تستقبل المرسَلين فقط، والتي باتت اليوم ترسِل مرسَلين.
يجب أن نثني على هذا المنحى المزدوج الذي يظهر قيمة حالة الدعوة للرسالة الخاصة بتلك المؤسسات التي “لا تزال ضرورية ضرورة مطلقة” (133)، ليس لنشاط الرسالة إلى الأمم، تبعا لتقاليدها فحسب، بل أيضا لتنشيط الرسالة سواء في الكنائس المسيحية العريقة، أم في الكنائس الفتية.
تحتفظ دعوة المرسَلين مدى الحياة الخاصة بقيمتها كلّها. أنها مثال التزام الكنيسة الرسولي، في ما تحتاج دائما إلى أشخاص يعطون ذواتهم جذريا وكليّا، وإلى انطلاقات جديدة وجريئة. فعلى المرسَلين، رجالا ونساء، ممن كرّسوا حياتهم كلّها ليشهدوا للقائم من بين الأموات بين الأمم، ألاّ يدَعوا مجالاً – للخوف من الشكوك، وسوء الفهم، والرفض، والاضطهادات. فليوقظوا نعمة موهبتهم الخاصة ويسيروا مجدّدا في طريقهم بشجاعة، مفضّلين – بروح الإيمان، والطاعة والشراكة مع رعاتهم – المراكز الأكثر تواضعا والأكثر صعوبة!
– كهنة أبرشيّون لأجل الرسالة الشاملة
67- إن الكهنة، مساعدي الأسقف، يُدعون بحكم سر الدرجة، إلى مشاركة الاهتمام بالرسالة: “إن العطية الروحية التي يتقبّلها الكهنة برسامتهم تهيئهم لا لرسالة محدودة وضيّقة ولكن لرسالة الخلاص الشاملة الواسعة إلى أقصى الأرض…[ إذ أن كل خدمة كهنوتية تشترك في سعة وشمول الرسالة التي كلّف بها المسيح الرسل” (134). لهذا السبب، يجب أن تهدف إلى تنشئة المرشّحين للكهنوت نفسها “وليرتووا من ذلك الروح الكاثوليكي الحق الذي يتمرسون به على أن يتجاوزوا حدود أبرشيتهم ووطنهم وطقسهم الخاص، ليسدوا حاجات الكنيسة كلها مستعدين من أعماق القلب ليبشروا بالإنجيل في كل مكان” (135).
على الكهنة جميعا أن يتحلوا بقلب رسولي وعقلية رسولية، وأن يكونوا منفتحين على حاجات الكنيسة والعالم، مهتمّين بالأبعدين، وبخاصة بالمجموعات غير المسيحية المقيمة في محيطهم. في الصلاة، وبشكل خاص في الذبيحة الافخارستية، سيحملون اهتمام الكنيسة كلّها لأجل الإنسانية جمعاء.
بشكل خاص، على الكهنة المقيمين في مناطق ذات أقلية مسيحية، أن يتحلّوا بنوع خاص بغيرة وإرادة ارساليتين، فالربّ لا يعهد إليهم بالاهتمام الراعوي بالجماعة المسيحية فقط، بل خاصة بتبشير مواطنيهم الذين لا ينتمون إلى قطيعه. “لن يتوانوا عن أن يكونوا عمليا بتصرف الروح القدس والأسقف، لأن يرسَلوا للتبشير بالإنجيل خارج حدود بلادهم. وهذا لا يتطلّب منهم النضج في الدعوة فقط، بل القدرة العادية على الانسلاخ عن وطنهم، عن عرقهم، عن عائلتهم، وبالمقابل أيضا أهلية مميّزة للإنخراط في ثقافات أخرى بذكاء واحترام” (136).
68- في رسالة “هبة الإيمان”، وبحدس نبوي، يشجّع بيوس الثاني عشر الأساقفة ليرسلوا بعضا من كهنتهم في خدمة مؤقتة لكنائس أفريقيا، مثبتا في الوقت نفسه المبادرات المتّخذة سابقا في هذا المجال. بعد خمس وعشرين سنة، أردت أن أؤكد على تلك الوثيقة كم أنها جديدة. “جعلتنا نتجاوز المدى الأرضيّ للخدمة الكهنوتية: لنفتحها على الكنيسة بأجمعها” (137). لقد ثبتت اليوم قيمة هذا الاختبار وخصبه. فإنّ الذين يدعون “كهنة هبة الإيمان” يبرزون بطريقة فريدة روابط الشراكة بين الكنائس ويجنون جنياً ثمينا في نمو جماعات كنسية تعيش في العوز، ويتقبّلون منها بدورهم نضارة إيمانها وحيويته.
يجب، بالتأكيد، أن تتوافق خدمة الكاهن الأبرشي في الرسالة وبعض المقاييس والشروط. يجب ارسال كهنة يتم اختيارهم من بين النخبة الأكفاء والمهيئين تهيئة تامة للمهمة الخاصة التي تنتظرهم (138). عليهم أن ينخرطوا في الوسط الكنسي الجديد الذي يستقبلهم بروح منفتح وأخوي، ويؤلّفوا مع الكهنة المحليّين جماعة كهنوتية واحدة متماسكة، تحت سلطة الأسقف (139).
آمل أن تزداد روح الخدمة عند أولئك الكهنة في وسط الجماعة الكهنوتية في الكنائس العريقة، وأن تنمو في جماعة الكنائس الفتية.
– خصب التكريس الرسولي
69- في غنى الروح الذي لا ينضب والمتعدّد الأشكال، تأخذ الدعوات مكانها في المؤسسات الخاصة بالحياة المكرسة التي يجد أعضاؤها أنفسهم من خلالها، من حيث أنهم “يتكرّسون لخدمة الكنيسة بقوة تكريسهم بالذات، مضطرين للعمل بطريقة معيّنة في حقل الرسالة، حسب نمط المؤسسة الخاص” (140). إنّ التاريخ يثبت فضل العائلات الرهبانية الكبرى في انتشار الإيمان وإنشاء كنائس جديدة، بدءا بالمؤسسات الرهبانية القديمة ورهبانيات القرون الوسطى إلى الجمعيات الحديثة.
أ- إني مع المجمع أدعو مؤسسات الحياة التأملية إلى أن تنشئ جماعات في الكنائس الفتية، كي “تؤدي، شهادة رائعة بين غير المسيحيين لجلال الله ومحبته، وللاتحاد بالمسيح” (141). إنّ في هذا الحضور، حيثما كان، خيرا كبيرا للعالم غير المسيحي، وبخاصة في المناطق حيث للحياة التأملية اعتبار كبير في الديانات، بفضل الزهد والسعي في طلب “المطلق”.
ب- أذكّر المؤسسات التي تعتنق الحياة العملية بأن أمامها مساحات واسعة للمحبة والبشارة بالإنجيل والتربية المسيحية والثقافية والتضامن مع الفقراء وضحايا التمييز العنصري والهامشيين والمقهورين. على هذه المؤسسات سواء أكان هدفها الأساسي رسولياً بالحصر أم لا، أن تسائل تفسها عمّا إذا كانت تستطيع وتريد أن توسّع نشاطها بغية نشر ملك الله. هذا الطلب، تقبّلته بالإيجاب، في هذه الأزمنة الأخيرة، مؤسسات عدة. ولكني أودّ أن يصبح هذا الطلب مدروسا أكثر ومطبّقا، في سبيل خدمة أصيلة. على الكنيسة أن تعلّم القيم الإنجيلية الكبرى التي تحملها، وليس من يشهد لهذه القيم بطريقة أكثر اقناها من الذين يُنذرون الحياة المكرّسة في العفة والفقر والطاعة، بعطاء كلّي لله، واستعداد كامل لمحبة الإنسان والمجتمع على مثال المسيح (142).
ت-
70- أوجّه كلمة تقدير خاصة للراهبات المرسَلات اللواتي يترجمن عفّتهنّ من أجل الملكوت ثمار أمومة روحية كثيرة: إنّ الرسالة إلى الأمم تفتح أمامهنّ حقلاً واسعا يحقّقن فيه “بذل الذات، من أجل الحبّ حبا كاملا وكليا” (143). إنّ مَثَل ونشاط المرأة العذراء المكرّسة لحب الله والقريب، وبخاصة الأفقر، هما ضروريان وعلامة إنجيلية أمام الشعوب والثقافات، حيث على المرأة أيضا أن تقطع طريقا طويلا في سبيل رقيّها الإنساني وتحريرها.
أتمنى أن تشعر الكثيرات من النساء المسيحيات الشابات بانجذابهنّ لعطاء الذات هذا السخي للمسيح، وأن ينهلن من تكريسهنّ القوة والفرح ليشهدنَ له بين الشعوب التي تجهله.
– جميع العلمانيين مرسلون بحكم عمادهم
71- لقد شدّد كثيرا باباوات هذه الأزمنة الأخيرة على أهمية دور العلمانيين في النشاط الارسالي (144). “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، تكلّمت أنا أيضا، بوضوح، في هذا الارشاد على الرسالة الدائمة، القاضية بحمل الإنجيل إلى جميع الذين لا يعرفون بعد المسيح فادي الإنسان. وهم الملايين الكثيرة من الرجال والنساء” (145). وبالمقابل على التزام المؤمنين العلمانيين. أنّ الرسالة تعني شعب الله كلّه: حتى إن كان تأسيس كنيسة جديدة يتطلّب الافخارستيا، وبالتالي الخدمة الكهنوتية، فالرسالة التي تتحقّق تحت أشكال متنوعة، هي واجب المؤمنين جميعا.
إنّ إشراك العلمانيين في نشر الإيمان يظهر بوضوح منذ الأزمنة الأولى للمسيحية، بفضل عمل الأفراد المؤمنين والعائلات، وكذلك بفضل عمل الجماعة كلّها. كان البابا بيوس الثاني عشر يذكّر بهذا، وهو يتناول في رسالته العامة الأولى موضوع تاريخ الإرساليات العلمانية (146). وإنّ اشتراك الرسل العلمانيين الفعّال، رجالا ونساء، لم ينقص في العصور الحديثة. كيف لا نذكّر بالدور المهمّ الذي قامت به المرسَلات العلمانيات، وبعملِهنّ داخل العائلات، والمدارس والحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة تأمينهنّ تعليم العقيدة المسيحية؟ يجب أن نعترف أيضا – وهذا كله ممّا يشرّف – أن بعض الكنائس ولدت بفضل نشاط المرسَلين العلمانيين، رجالا ونساء.
لقد ثبّت المجمع الفاتيكاني الثاني هذا التقليد، مسلّطا الضوء على الطابع الرسولي كلّه، وبخاصة على رسالة العلمانيين (147(، مشدّدا على الإسهام المميّز الذي يُدعى هؤلاء إلى أن يوفروه للنشاط الارسالي (148). إنّ ضرورة اشتراك المؤمنين جميعا في مثل هذه المسؤولية ليست فعالية رسولية فقط، بل إنها واجب وحقّ قائمان على الرتبة التي تحولها المعمودية والتي بموجبها “يشارك المؤمنون العلمانيون، من جهتهم، في وظيفة يسوع المسيح المثلّثة: الكهنوتية والنبوية والملوكية” (149). من أجل ذلك فإن “عليهم الواجب العام وهم يتمتّعون بحقّهم، أفرادا وجماعات، أن يعملوا لكي يعرف ويقتبل الناس جميعا والأرض كلّها رسالة الخلاص الإلهية. تكون هذه الفريضة أشدّ الحاحا عندما لا يستطيع البشر سماع الإنجيل ومعرفة المسيح إلاّ بواسطتهم” (150).
بالإضافة إلى ذلك، ونظرا إلى صفتهم الخاصة كعلمانيين، فدعوتهم الذاتية، “أن يطلبوا ملكوت الله، في تعاطيهم الشؤون الزمنية التي يوجّهونها وفقا لإرادة الله” (151).
72- واسعة هي الحقول حيث للعلمانيين حضور يمارسون من خلاله عملاً ارسالياً. أول هذه الحقول، “هو عالم السياسة الواسع والمتشعّب، عالم الحياة الاجتماعية، وعالم الاقتصاد…” (152)، على الصعيد المحلي، والوطني والعالمي. وفي داخل الكنيسة نجد عدة أنواع من الخدمات والوظائف والخدم وأشكال تنشيط الحياة المسيحية. وثمة مبادرة جديدة شهد نشأتها، في هذه الأيام الأخيرة، عدد من الكنائس. أذكّر بـ “الحركات الكنسية” المتمتعة بحركة ارسالية ناشطة عندما تندمج الحركات بتواضع في حياة الكنائس المحلية ويقبلها بطيبة خاطر الأساقفة والكهنة في بنى الأبرشيات والرعايا. فإنها تمثّل عطية حقة من الله لأجل بشارة جديدة بالإنجيل ولأجل نشاط رسولي بكلّ معنى الكلمة. فأوصي إذا بتطويرها وبالاستعانة بها لنفح الحياة المسيحية والتبشير بالإنجيل خاصة عند الشبيبة بحيوية جديدة مع مراعاة لتعددية أشكال التجمع والتعبير.
في النشاط الارسالي، يجب تقدير الوجوه المختلفة التي تظهر بها الحركة العلمانية، مع احترام طبيعة كلّ منها وغايتها: تجمعات العمل العلماني الارسالي، والمنظمات المسيحية للتطوع العالميّ والحركات الكنسية والمجموعات والفرق على أنواعها. عليها أن تلتزم بالرسالة إلى الأمم، وبالإسهام مع الكنائس المحلية بما يسهّل نموّ حركة علمانية ناضجة ومسؤولة، …[ تأخذ مكانها في الكنائس الناشئة، كعامل أساسيّ لا غنى عنه، في ترسيخ الوجود الكنسيّ” (153).
– نشاط معلّمي التعليم المسيحيّ وتنوّع الخدم
73- في عداد العلمانيين الذين يتحولون إلى مبشرين بالإنجيل يندرج في المرتبة الأولى معلمو التعليم المسيحيّ. القرار “حول الارساليات” يصفهم بـ “ذلك الجيش الذي له أكبر فضل على عمل الارساليات إلى الأمم، أعني معلمي التعليم المسيحي من الرجال والنساء الذين يؤدون بأعمالهم الجليلة وقد ارتووا من الروح الرسولي، مساعدة فريدة وبالغة الضرورة، لنشر الإيمان والكنيسة” (154). لذلك، فالكنائس المؤسسة قديما، في التزامها بتبشير جديد بالإنجيل، ضاعفت عدد معلّمي التعليم المسيحيّ وكثّفت هذا التعليم. “ويدعى، بنوع خاص وبحصر المعنى، “معلمي التعليم المسيحي” أولئك الذين يُقيمون ويعلّمون في مناطق الرسالات…[ وما من شكّ في أنّ الكنائس المزدهرة اليوم، ما كانت لتنشأ لولاهم” (155).
بالرغم من تعدد الخدمات الكنسية وخارج الكنيسة، فإن خدمة معلمي التعليم المسيحي تبقى دائما ضرورة لها ميزاتها الخاصة: إن معلّمي التعليم المسيحي عناصر متخصصة وشهود مباشرون ومبشّرون بالإنجيل لا غنى عنهم، يمثّلون القوة الأساسية للجماعات المسيحية وبخاصة للكنائس الفتية، كما أعلنته غالبا ولاحظتُه في أثناء رحلاتي الرسولية. إنّ الحقّ القانونيّ الجديد يقرّ بعملهم، وبمزاياهم، وبمتطلبات وظيفتهم (156).
ولكن لا يسعنا أن ننسى أن عمل معلمي التعليم المسيحيّ يتعثّر بأعياء جديدة متزايدة بسبب التغيّرات الحاصلة في الحقلين الكنسيّ والثقافي. وما كان سبق للمجمع أن نوه به، يحافظ اليوم على أهميته: أعداد عقائدي وتربوي معمّق، وتجديد روحيّ ورسوليّ مستمر وضرورة “وضع معيشي لائق وضمان اجتماعي” لمعلمي التعليم المسيحي (157). ومن المهم أيضا المساعدة على إنشاء وتطوير مدارس لأعداد معلمي التعليم المسيحي، بحيث، تُمنح، شهادات معترف بها رسمياً من قبل مجامع الأساقفة وبموافقتها (158).
74- إلى جانب معلمي التعليم المسيحيّ، يجدر التذكير بالوجوه الأخرى لخدمة الكنيسة والرسالة وسائر الوظائف: كمنشطي الصلاة، والتراتيل والليتورجيا، ورؤساء تجمعات كنسية أساسية وفرق درس الكتاب المقدس ومسؤولين عن أعمال المحبة ومديري مقتنيات الكنيسة، وموجّهي مختلف مجموعات الرسالة ومعلمي الدين في المدارس. على جميع المؤمنين العلمانيين أن يكرّسوا قسما من وقتهم للكنيسة في حياة تنسجم مع إيمانهم.
– مجمع تبشير الشعوب بالإنجيل وسائر بنى النشاط الرسولي
75- على مسؤولي وعناصر الراعوية الارسالية أن يشعروا باتحادهم في الشركة التي تميّز الجسد السرّي. لقد صلّى المسيح على هذه النية في العشاء الأخير “كما أنك فيّ، يا أبت، وأنا فيك، فليكونوا هم أيضا فينا، ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني” (يو 17 / 21). ولكنّ الكنيسة هي أيضا شركة منظورة ومنظمة، ولذلك تتطلّب الرسالة اتحادا خارجيا ومنتظما بين المسؤوليات والوظائف كافة، بحيث يبذل الأعضاء جميعا قواهم بقلب واحد لبنيان الكنيسة” (159).
يعود إلى مجمع انتشار الإيمان “أن يوجّه وينسّق في الأرض كلّها عمل تبشير الشعوب بالإنجيل وتعاون الرسالات، مع المحافظة على صلاحية مجمع الكنائس الشرقية” (160). إلى هذا المجمع يعود إذاً أن “يستنبط المرسلين ويوزعهم حسب احتياجات المناطق الأشد الحاحا. وأن يضع خطة منظمة للعمل، ويجب أن تنبع منه القواعد التوجيهية والمبادئ لأجل تبشير مناسب. كما أن عليه أن يعطي الزخم” (161). لا يسعني إلاّ أن أؤكّد هذه الترتيبات الحكيمة: ففي سبيل انطلاقة جديدة للرسالة إلى الأمم، لا بدّ من مركز للتحريك والإدارة والتنسيق، وهذا المركز يتمثّل في مجمع التبشير بالإنجيل. إني أدعو مجامع الأساقفة وأجهزتها، والرؤساء العامين للرهبانيات والجمعيات والمؤسسات وأجهزة العلمانيين الملتزمين في النشاط الارسالي، إلى أن يسهموا بأمانة مع هذا المجمع المتمتّع بالسلطة اللازمة لتنظيم وتوجيه النشاط والتعاون في الرسالة على الصعيد الشامل.
إنّ هذا المجمع بالذات، الذي يحمل خبرة طويلة ومجيدة، مدعوّ إلى أن يقوم بدور رائد، على صعيد التفكير وبرامج العمل التي تحتاجها الكنيسة، لتتّجه بشكل أثبت نحو الرسالة بمختلف أشكالها. لهذه الغاية، على المجمع أن يعقد علاقات وثيقة مع سائر مجامع الكرسيّ الرسوليّ، ومع الكنائس الخاصة ومع القوى الارسالية. فبحسب علم الكنيسة وبوصفها شركة فالكنيسة كلّها رسولية. لكن من المؤكد أيضا أنّ دعوات ومؤسسات متخصصة للعمل لدى الأمم هي دائما لا غنى عنها، لذلك يبقى دور هذا المجمع الرسولي في التوجيه والتنسيق مهمّا جدا لكي يندفع الجميع معا إلى معالجة القضايا الكبرى ذات المنفعة العامة، مع المحافظة على الصلاحيات الخاصة بكل سلطة وكل بنية.
76- إنّ المجالس الأسقفية وتجمّعاتها المختلفة تتخذ، على المستوى الوطنيّ والأقليمي، أهمية كبرى لتوجيه وتنسيق النشاط الرسولي. يطلب إليها المجمع أن “تعالج بإنفاق تام المسائل الأكثر خطورة والقضايا الأشّد الحاحا، دون أن تهمل، إلى ذلك، الفروقات المحلية” (162)، كما يطلب معالجة مسألة الإندماج بالثقافة، واقعيا، ثمة نشاط واسع ومنتظم في هذا المجال، وليست ثماره خافية على أحد. يجب أن يكثف هذا النشاط ويضمّ بشكل أفضل إلى نشاط سائر المنظمات التابعة للمجالس الأسقفية نفسها، حتى لا يترك الاهتمام بالرسالة لقطاع أو جهاز معيّن، بل يتقاسمه الجميع.
هذه المنظمات والمؤسسات التي تتولى النشاط الارسالي، تُعنى بتنسيق الجهود والمبادرات. فمؤتمرات الرؤساء الأعلين تقوم بذلك في ما يخصّها، بالارتباط مع المجالس الأسقفية، وفقا للتوجيهات والمعايير المرسومة (163)، كما في اللجوء إلى لجان مختلة (164). أخيرا، من المستحبّ أن تتمّ لقاءات ووجوه من التعاون بين المؤسسات الارسالية المختلفة، سواء من أجل التنشئة والدروس (165)، أم من أجل تولّي قيادة العمل في الرسالة.
الفصل السابع
التعاون في النشاط الأرساليّ
77- المسيحيون جميعهم شركاء في مسؤولية النشاط الارسالي، لأنهم بفضل معموديتهم، أعضاء في الكنيسة. مشاركة الجماعات والمؤمنين بهذا الحق وهذا الواجب تسمّى “تعاونا ارساليا”.
هذا التعاون يتجذّر ويعاش قبل كلّ شيء في الاتحاد الشخصيّ بالمسيح: إنّ اتحادنا به كما الأغصان بالحفنة (راجع يو 15 / 5)، وحده يتيح لنا حمل ثمار طيبة. قداسة الحياة تتيح لكلّ مسيحيّ أن يكون معطاء في رسالة الكنيسة: فالمجمع المقدس يدعو “الجميع إلى تجديد باطني عميق، لكي يتحملوا نصيبهم في العمل الارسالي لدى الأمم إذا ما وعوا مسؤوليتهم الذاتية في نشر الإنجيل وعيا حيّا” (166).
إنّ المشاركة في الرسالة الشاملة لا تقتصر إذا على بعض نشاطات خاصة، إنما هي علامة نضوج الإيمان وحياة مسيحية تؤتي ثمرا. وهكذا، يوسّع المؤمن أبعاد محبته، معلنا اهتمامه بالبعيدين مثله بالقريبين: يصليّ من أجل الرسالات ومن أجل الدعوات الرسولية ويعاون المرسَلين ويتابع باهتمام نشاطهم ويستقبلهم، لدى عودتهم، بالفرح ذاته الذي به كانت الجماعات المسيحية الأولى تصغي إلى الرسل وهم يصفون العجائب المذهلة التي كان يجريها الله ببشارتهم (راجع رسل 14 / 27).
– صلاة وتضحيات من أجل المرسَلين
78- بين وجوه المشاركة، يحتل التعاون الروحي المكان الأول: صلاة، تضحية، شهادة حياة مسيحية. ينبغي أن ترافق الصلاة المرسَلين في مسيرتهم حتى تجعل النعمة الإلهية إعلان الكلمة فعّالا. وما أكثر ما كان يطلب القديس بولس في رسائله من المؤمنين أن يصلوا من أجله حتى يؤدي بشارة الإنجيل بثقة وجرأة.
من الضروري أن نقرن التضحية بالصلاة. إنّ القيمة الخلاصية لكلّ ألم نتقبله ونقدمه لله، تنبع من تضحية المسيح الذي يدعو أعضاء جسده السريّ ليشاركوا بآلامه بالذات ويكمّلوها في جسدهم (راجع قول 1 / 24). يجب أن نشرك تضحية المؤمنين بتضحية المرسِل وندعمها. لذلك أشير على الذين يمارسون خدمتهم الراعوية بين المرضى بأن يعلموهم قيمة الألم ويحثّوهم على تقديمه لله من أجل المرسَلين بهذه التقدمة، يصبح المرضى، هم أيضا، مرسَلين، كما تشير إلى ذلك بعض حركات نشأت بينهم ومن أجلهم. احتفال العنصرة – ذلك اليوم الذي انطلقت منه رسالة الكنيسة – يقام في بعض الجماعات “يوم الألم من أجل الرسالات”.
– “هاءنذا، يا رب، أنا مستعدّ. أرسلني” (راجع اش 6 / 8)
79- ويبرز التعاون أيضا في تشجيع الدعوات للرسالة. لا بدّ في هذا الصدد من الاعتراف بقيمة وجوه الالتزام الارسالي المختلفة، إنما يجب في الوقت نفسه، أن نعود فنؤكد على أولوية بذل الذات الكلّي والدائم لعمل الرسالات، ولا سييما في المؤسسات والجمعيات الارسالية للرجال وللنساء. تشجيع هذه الدعوات هو في صلب التعاون: إذاعة الإنجيل تقتضي مبشّرين، الحصاد يعوزه فعلة، القيام بالرسالة يحصل خصوصا على أيدي رجال ونساء، كرّسوا حياتهم لعمل الإنجيل، وأعدّوا أنفسهم للذهاب في العالم أجمع ينقلون إليه الخلاص.
أرغب إذا في أن أذكّر وأوصي بهذا الاهتمام من أجل الدعوات للرسالة. لأننا نعي مسؤولية المسيحيين الشاملة في أن يسهموا في العمل الرسولي وفي تطوير الشعوب الفقيرة. علينا جميعا أن نتساءل لماذا، في عدد من البلدان، حيث تزداد الهبات المادية، تكاد الدعوات للرسالة أن تضمحل. إنها هي التي تعتبر المقياس الحقيقيّ لعطاء الذات للآخرين. فالدعوات إلى الكهنوت وإلى الحياة المكرّسة هي علامة أكيدة لحيويّة الكنيسة.
80- انطلاقا من تفكيري في هذه المسألة الخطيرة. أوجّه ندائي، بثقة ومحبة خاصة، إلى العائلات والشبان. فلتدرك العائلات، ولا سيما الأهل، أن عليهم أن يسهموا إسهاما خاصا بالقضية الارسالية في الكنيسة، في تقوية الدعوات للرسالة بين أبنائهم وبناتهم” (167).
حياة صلاة مكثّفة واحساس واقعيّ بخدمة القريب ومشاركة سخية بالنشاطات الكنسية، كلّ هذا ما يخلق في العائلات الشروط الملائمة لدعوة الشباب – عندما يكون الوالدين مستعدين للسماح لأحد أولادهما بأن ينطلق للرسالة، عندما يلتمسان هذه النعمة من الرب، فإنه يكافئهما في الفرح يوم يسمع ابن وابنة نداءه.
أسأل الشبان أنفسهم أن يصغوا إلى كلام المسيح الذي يقول لهم، كما لسمعان – بطرس واندراوس على ضفة البحيرة: اتبعاني أجعلكما صيادي بشر” (متى 4 / 19). لتكن لهم الجرأة أن يجيبوا كما أجاب إشعيا في الماضي: “ها أنذا، يا رب، إني مستعدّ. أرسلني” (راجع 6 / 8)! إن حياة رائعة تنتظرهم وسيعرفون السعادة الحقيقية في إذاعة البشرى السارة على أخوة وأخوات يقودونهم على درب الخلاص.
– “في العطاء ما ليس في الأخذ من سعادة” (رسل 20 / 35)
81- إنّ الحاجات المادية والاقتصادية للرسالات عديدة، ليس فقط لتأسيس الكنيسة بأقل ما يمكن من الهيكليات (كنائس ومدارس لتنشئة معلمي الدين والاكليريكيين ومساكن) إنما أيضا من أجل دعم أعمال المحبة والتربية والتقدم الإنسانيّ، ما يكوّن حقل عمل رحبا جدا، ولا سيما في البلدان الفقيرة. إنّ كنيسة الرسالة تعطي ما تتقبل، وتوزّع على الفقراء ما وضعه بسخاء في تصرفها أبناؤها الذين أنعم عليهم أكثر من سواهم بالخيرات الماديّة. أودّ هنا أن أشكر كلّ الذين يعطون باذلين أنفسهم من أجل عمل الرسالة: أن ما يحرمون منه أنفسهم ويجودون به ضروري لبناء الكنيسة والشهادة للمحبة.
من المهم بصدد العون المادي، أن نرى بأي روح نعطي. لأجل ذلك علينا أن نفكّر في نهجنا الحياتيّ الخاصّ: لا تستلزم الرسالة مساعدة فحسب، بل مشاركة للاعلان والمحبة تجاه الفقراء. كلّ ما اقتبلناه من الله – الحياة كما الخيرات المادية – ليس ملكا لنا: إنه في تصرّفنا. يجب أن ينير الإيمان ويلهم دائما الكرم الذي به نعطي، إذ ذلك، نجد، حقا، سعادة في العطاء أكثر منا في القبول.
إنّ يوم الرسالات العالميّ المكرّس لتوعية المؤمنين على المسألة الارسالية، مثله لجمع أموال، إنما هو موعد هامّ في حياة الكنيسة، لأنه يعلّمنا كيف نعطي: في الاحتفال الافخارستي، أعني التقدمة لله، ومن أجل رسالات العالم كافة.
– أشكال جديدة من التعاون الارساليّ
82- يتوسّع التعاون، اليوم، متّخذا أشكالا جديدة. وهو يتضمّن لا المعونة الاقتصادية فحسب، بل أيضا المشاركة المباشرة. إن أوضاعا جديدة مرتبطة بظاهرة الحركة تتطلّب من المسيحيين روحا رسوليا حقا.
السياحة ذات الطابع الدولي هي من الآن وصاعدا واقع جماعي. ويكون إيجابيا إذا مارسناها ضمن الاحترام، بغية تبادل ثقافي متبادل يُغني، متفادين التباهي والتبذير، مبتغين أتصالات إنسانية. لكن يطلب من المسيحيين على الأخص أن يعوا بأن عليهم أن يكونوا دوما شهود الإيمان ومحبة المسيح. أنّ المعرفة المباشرة للحياة في بلاد الرسالة وللجماعات المسيحية الناشئة، بوسعها، هي أيضا، أن تغني وتوطّد الإيمان. فالزيارات التي نقوم بها لبلاد الرسالة هي أمر حسن جدا، ولا سيما من قبل الشبان الذين يذهبون إليها من أجل الخدمة واختبار الحياة المسيحية اختبارا قويا.
إنّ متطلبات العمل تقود، اليوم العديد من المسيحيين من جماعات الشبيبة، إلى المناطق حيث المسيحية فيها مجهولة، وفي الغالب منبوذة أو مضطهدة. والأمر نفسه بالنسبة إلى مؤمني البلدان ذات التقليد المسيحيّ العريق الذين يعملون مؤقتا في بلدان غير مسيحية. لا شكّ في أنّ هذه الظروف توفّر مناسبة لعيش إيماننا والشهادة له. لقد انتشرت المسيحية على الأخصّ في القرون الأولى، لأن المسيحيين الذين كانوا يسافرون أو ينطلقون للإقامة في مناطق لم يبشر فيها بالمسيح، كانوا يشهدون لإيمانهم بشجاعة وينشئون الجماعات الأولى.
وأكثر منهم مواطنو بلدان الرسالة ومؤمنو الديانات اللامسيحية، الذين يقصدون بلدانا أخرى ويقيمون فيها، إمّا بدافع الدروس والعمل، وإمّا مكرهين من جراء وضع سياسيّ أو اقتصاديّ في بلد منشئهم. إنّ حضور هؤلاء الأخوة، في بلدان المسيحية العريقة، هو للجماعات المسيحية تحدّ يحفزهم إلى اللقاء والحوار والخدمة والمشاركة والشهادة والتبشير المباشر. وبالواقع، حتى في البلدان المسيحية، تتألف مجموعات بشرية وثقافية تحتاج إلى الرسالة إلى الأمم. فعلى الكنائس المحلية، وبالتعاون – عند الحاجة – مع أشخاص قادمين من بلدان النازحين، ومع المرسلين العائدين إلى بلدانهم، أن يحدبوا بسخاء على هذه الأوضاع.
ويمكن أن يلزم بالتعاون أيضا مسؤولو السياسة والاقتصاد والثقافة والصحافة دون أن ننسى أيضا خبراء المنظمات الدولية. إن وضع خطوط جغرافية أو ثقافية فاصلة يبدو عسيرا في عالم اليوم أكثر فأكثر. ثمة ترابط متزايد بين الشعوب، وهذا يشكّل حافزا للشهادة المسيحية والتبشير بالإنجيل.
– تنشيط وتنشئة الرسالة لشعب الله
83- التنشئة للرسالة هي عمل الكنيسة المحلية بمساعدة المرسَلين ومؤسساتهم والعاملين في الكنائس الفتية. يجب ألاّ يعتبر هذا العمل هامشيا، بل رئيسي، في الحياة المسيحية. إنّ موضوع الرسالة يمكنه أن يؤدي مساعدة كبيرة، حتى في مجال التبشير الجديد بالإنجيل للشعوب المسيحية: تحتفظ شهادة المرسَلين، حقا بجاذبيتها حتى للبعيدين واللامؤمنين، لأنها تحمل قيما مسيحية. فلتستعمل الكنائس المحلية إذا هذا التحرك الرسولي كعنصر مفتاح، للخدمة الرعائية المألوفة في الرعايا والجمعيات، وعلى الأخصّ في فئات الشبان!
وفي سبيل هذه الغاية تؤدي الصحافة الرسولية والوسائل السمعية – البصرية خدمة حسنة. إنّ دور هذه الوسائل هام جدا، إذ من شأنها أن تعرّف بحياة الكنيسة الشاملة، كما بصوت واختبارات المرسَلين والكنائس المحلية، حيث يعمل المرسَلون. يقتضي أن تكرّس المؤسسات الارسالية العاملين فيها والوسائل المطلوبة لهذه المبادرات، في الكنائس الأحداث، والتي ليست قادرة بعد أن تجهّز نفسها بصحافة أو بوسائل أخرى.
المدعوّون إلى توفير هذا التأهيل هم الكهنة ومعاونوهم والمربّون والمعلمون واللاهوتيون ولا سيما الذين يعلّمون في الاكليريكيات وفي المراكز المخصّصة للعلمانيين. لا يمكن التعليم اللاهوتيّ أن يجهل، ويجب ألاّ يجهل، رسالة الكنيسة الشاملة والمسكونية ودراسة الديانات الكبرى وعلم الرسالة. إنني أوصي، على الأخصّ، الاكليريكيات وبيوت التنشئة المعدّة للرهبان والراهبات بالانكباب على مثل هذه الدراسة، مع الحرص على أن يتخصّص بعض الكهنة أو بعض الطلاب والطالبات في شتى قطاعات علم الدراسة. يجب أن يوجه عمل المنشطين دوما صوب الاهداف المحددة: تعليم وتنشئة شعب الله في ما يتعلّق برسالة الكنيسة الشاملة، وارسال دعوات إلى الأمم، وبعث تعاون للتبشير بالإنجيل. يجب ألاّ نعطي صورة ناقصة عن عمل الرسالة، كما لو كان يرتكز أساساً على مساعدة الفقراء، والاسهام بتحرير المضطهدين، وتشجيع التطوّر والدفاع عن حقوق الإنسان. أن الكنيسة الرسولية ملتزمة على هذه الجبهات ولكنّ واجبها الأساسيّ غير ذلك: فالفقراء، ينتابهم جوع إلى الله، لا إلى خبز وحرية فحسب. وعلى العمل الرسولي أن يشهد، قبل أيّ شيء للخلاص في يسوع المسيح وأن يبشر بهذا الخلاص، منشئا كنائس محليّة من شأنها أن تكون في ما بعد أدوات تحرّر بكل ما لهذه الكلمة من معان.
– مسؤولية الأعمال الحبرية والارسالية الأولى
84- في عمل التنشيط هذا، يعود الدور الأول إلى الأعمال الحبرية الرسولية، كما أكّدت ذلك غالبا في الرسائل الخاصة باليوم العالمي للرسالات. إنّ الأعمال الأربعة – نشر الإيمان، القديس بطرس الرسول، الطفولة الرسولية والاتحاد الارسالي – لها هدف مشترك: تشجيع الروح الرسولي الشامل في شعب الله. يتخذ اتحاد الرسالات هدفاً مباشراً ومعيّناً وهو توعية وتنشئة الكهنة والرهبان والراهبات على الرسالة، ويطلب منهم بدورهم أن يؤمنّوا هذه التنشئة في الجماعات المسيحية. هذا ويهدف الاتحاد إلى تشجيع الأعمال الأخرى التي هو روحها (168). “ويجب أن تكون هذه الكلمة الأمر: “الكنائس جميعها من أجل ارتداد العالم أجمع” (169).
أعمال البابا ومجمع الأساقفة، حتى على مستوى الكنائس الخاصة، “تشغل بحقّ…[ الأفضلية لأن لديها الوسائل لتنفح الكاثوليك منذ حداثتهم بالشعور الرسولي الشامل حقا وتحث بصورة فعّالة على جمع المساعدات لصالح كل الارساليات ووفقا لحاجة كل منها” (170).
ولأعمال الرسالة هدف آخر هو بعث دعوات لرسالة الأمم، على مدى الحياة، في الكنائس العريقة، كما في الكنائس الناشئة. أوصي باصرار بأن تُوجّه دوما، وأكثر فأكثر، نشاط خدمتها إلى هذا الهدف.
في ممارسة نشاطها، ترتبط هذه الأعمال، على مستوى العالميّ، بمجمع التبشير بالإنجيل، وعلى المستوى المحلّي، بالمجلس الأسقفي، وبأساقفة الكنائس الخاصة، بالتعاون مع مراكز التنشيط القائمة: إنّها تحمل إلى العالم الكاثوليكي روح الشمولية وخدمة الرسالة الذي بدونه لا تعاون صادق.
– لا العطاء للرسالة فحسب، بل القبول أيضا،
85- التعاون في الرسالة لا يعني أن نعطي فحسب، بل أن نعرف أن نقبل أيضا. فالكنائس الخاصة جميعها، فتيّة وقديمة، مدعوّة إلى العطاء وإلى التقبّل من أجل الرسالة الشاملة. ويجب ألاّ تنغلق أيّة منها على ذاتها. يقول المجمع: “وبقوة هذه الكثلكة يحمل كل جزء للآخرين وللكنيسة عطاياه الخاصة، بنوع أن الكل والأجزاء منفردة تنمو بمقايضة شاملة متبادلة وبجهد مشترك نحو ملء الوحدة…[ وينتج أخيرا بين أجزاء الكنيسة المختلفة رباطات الشركة الحميمة في الخيور الروحية وفي اقتسام العمال الرسوليين والخيرات المادية” (171).
أحث الكنائس جميعها والرعاة والكهنة والرهبان والمؤمنين على الانفتاح على شمولية الكنيسة، وأن يطرحوا جانبا كلّ أنواع المصلحة الخاصة والتشبث بالرأي أو الشعور بالاكتفاء الذاتيّ. على الكنائس المحلية، مع بقائها متجذّرة في شعبها وفي ثقافتها، أن تصون بشكل ملموس هذا الحسّ بشمولية الإيمان، مقدّمة للكنائس الأخرى ومتقبّلة منها هبات روحية واختبارات راعوية في التبشير الأولي والكرازة بالإنجيل، وعمالا رسوليين ووسائل مادية.
في الحقيقة، يمكن أن يكون الميل إلى الانكماش قويا. فالكنائس العريقة، في التزامها بالتبشير الإنجيلي الجديد، تعتقد أن عليها الآن أن ترعى هي الرسالة عندها، وتوشك أن تضعف الاندفاع صوب العالم اللامسيحي، راضية على مضض بالدعوات، مراعاة لمؤسسات الرسالة أو للجمعيات الدينية أو للكنائس الأخرى. بخلاف ذلك، لا نأخذ إلاّ إذا أعطينا بسخاء ممّا لنا. إنّ الكنائس الفتية اليوم، التي يشهد عدد وافر منها ازدهار عجيبا في الدعوات، هي قادرة أن ترسل إلى الكنائس الأقدم منها كهنة ورهبانا وراهبات. من ناحية أخرى، تعاني الكنائس الفتيّة من معضلة هويّتها والاندماج في الثقافة المحلية، وحرية النموّ بعيداً عن كلّ نفوذ خارجي، مع احتمال أقفال الباب أمام المرسَلين نتيجة لذلك. أقول لهذه الكنائس: بدلا من أن تنكمشي على ذاتك، استقبلي طوعا المرسلين ومعونة الكنائس الأخرى، وارسلي من عندك إلى العالم! وذاك من أجل المعضلات التي تشغلك، فأنت بحاجة إلى الاستمرار في علاقات ثابتة مع أخوتك وأخواتك في الإيمان، بكلّ وسيلة مشروعة، طالبي بالحريات التي هي حقّ لك، متذكّرة أن من واجب تلاميذ المسيح “طاعة الله قبل طاعة البشر” (رسل 5 / 29).
– الله يعد للإنجيل ربيعا جديدا
86- إذا نظرنا نظرة سطحية إلى عالمنا، انصدمنا بكثير من السلبيات التي من شأنها أن تحمل على التشاؤم. لكن لا مبرّر لهذا الشعور: لنا إيمان بالله، الآب والرب، بجودته وبرحمته. نحن على أبواب الألف الثالث للفداء. والله يعد للمسيحية ربيعا عظيما نرى تباشيره منذ الآن. سواء في العالم اللامسيحي أو في عالم المسيحية العريقة، تميل الشعوب إلى التقرب تدريجيا من المثل والقيم الإنجيلية. والكنيسة تعمل على تعزيز هذا الميل. ويظهر اليوم بين هذه الشعوب توافق جديد على هذه القيم ومنها: رفض العنف والحرب، واحترام الشخص البشري وحقوقه، والتعطش للحرية والعدالة والأخوة، والميل إلى التغلّب على العنصريات والنزعات القومية، وتأكيد كرامة المرأة وإعلاء شأنها.
الرجاء المسيحي يدعمنا لكي نلتزم كليا بالتبشير الجديد بالإنجيل والرسالة الشاملة، ويدفعنا إلى الصلاة كما علّمناها يسوع: ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك في الأرض كما في السماء” (متى 6 / 10).
الناس الذين ينتظرون المسيح لا يزالون في أعداد لا تحصى: فالأوساط البشرية والثقافية التي لم تصل إليها بعد بشارة الإنجيل أو تلك التي يندر فيها حضور الكنيسة، هي واسعة جدا، بحيث تستلزم توحيد كلّ القوى. إنّ الكنيسة كلّها، في تأهبّها للاحتفال بيوبيل السنة الألفين، هي اليوم أيضا أكثر التزاما بانتظار ميلاد ارساليّ جديد. علينا أن نغذي فينا الشوق الرسولي لننقل إلى الآخرين نور الإيمان وفرحه، وعلينا أن ننشّئ على هذا المثال، شعب الله بأجمعه.
لا يمكن أن يرتاح بالنا ونحن نفكر في الملايين من أخوتنا وأخواتنا الذين، هم أيضا، افتداهم المسيح بدمه، وهم يعيشون جاهلين حبّ الله. قضية الرسالة، بالنسبة إلى الفرد المسيحي، كما بالنسبة إلى الكنيسة جمعاء، يجب أن تحتلّ المكان الأول، لأنها تتعلّق بمصير البشر الأبديّ وتتجاوب مع قصد الله الخفيّ الرحيم.
الفصل الثامن
روحانية الرسالة
87- يتطلّب العمل الرسولي روحانية مميزة تعني، بشكل خاص، أولئك الذين دعاهم الله لتأدية الرسالة.
– لندع الروح يقودنا
تتجلى هذه الروحانية، قبل كلّ شيء، بالعيش في الانقياد التام للروح، انقيادا يلزمنا بأن ندع الروح يتولى تنشئتنا في الداخل كي نصبح دائما أكثر تشبها بالمسيح. لا يمكننا أن نشهد للمسيح دون أن نعكس صورته، هذه الصورة تحييها فينا نعمة الروح وقوته. وإن الانقياد للروح أيضا يدفعنا إلى تقبّل موهبتي الشجاعة والتمييز، وهما العلامتان الجوهريتان في روحانية الرسالة.
وإن لنا في حال الرسل عبرة. وهم الذين، طوال حياة معلّمهم العلنية، ورغم حبّهم له وتلبيتهم نداءه بسخاء، بدوا عاجزين عن فهم كلماته ومتردّدين في السير وراءه على طريق الألم والعار. إنه الروح الذي سيحوّلهم إلى شهود بواسل للمسيح، وإلى مبشّرين مستنيرين بكلمته. إنه الروح الذي سيقودهم في طرق الرسالة الجديدة والوعرة.
واليوم كما بالأمس، تبقى الرسالة شاقّة ومتشعبة. اليوم كما بالأمس، تقتضي الشجاعة ونور الروح. إننا غالبا ما نعيش مأساة الجماعة المسيحية الأولى التي كانت ترى الجماهير الكافرة والمعادية “تقوم كلّها على الربّ وعلى مسيحه” (رسل 4 / 26). وكما بالأمس لنصلّ فيعطينا الله الجرأة لاعلان الإنجيل، ولنتبين طرق الروح الخفيّة، وندعه يقودنا إلى الحقّ كلّه (راجع يو 16 / 13).
– نعيش سرّ المسيح “المرسَل”
88- إنّ الاتحاد الحميم بالمسيح هو عنصر جوهري في روحانية الرسالة لا يمكننا أن ندرك ولا أن نعيش الرسالة، ومن الرجوع إلى المسيح. من أُرسِلَ لإعلان البشارة. إنه مسلك يضعه بولس إذ يقول: “فليكن فيكم الشعور الذي هو أيضاً في المسيح يسوع فمع أنه في صورة الله لم يَعُدَّ مساواته لله غنيمة، بل تجرّد من ذاته متخذا صورة العبد، وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان. فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب” (فيل 2 / 5 – 8).
تصور لنا هذه الآية سرّ التجسّد والفداء، تخلياً كاملاً عن الذات، يحدو المسيح أن يعيش الحالة البشرية “كليا”، وأن يلتزم للنهاية بتصميم الآب. إنه تفان مشبع بالحب ومعبِّر عنه. هذه الطريق عينها تسلكها الرسالة فتؤدي بها إلى قدم الصليب.
يُطلب إلى المرسَل أن “يفكر بنفسه وبكلّ ما يملك حتى الآن ليكون كلا للكلّ” (172)، في الفقر الذي يحرّره ليتفرغ للإنجيل. وفي التجرّد عن أشخاص وخيرات في محيطه ليكون أخاً لمن أرسل إليهم المسيح المخلّص. هذا ما تنزع إليه روحانية المرسَل: “صرت للضعفاء ضعيفا لأربح الضعفاء، وصرت كلي للكلّ لأخلصّ البعض منهم مهما يكن الثمن. وافعل هذا كلّه في سبيل البشارة…” (1 قو 9 / 22 -23).
ويختبر المرسَل، لأنه “مرسل”، حضور المسيح الذي يواكبه بتعزياته في كلّ لحظة من حياته: “لا تخف… فأنا معك” (رسل 18 / 9 – 10)، وهو ينتظر أن يلتقيه في قلب كلّ إنسان وكلّ شعب.
تتميّز روحانية الرسالة أيضا بالمحبة الرسولية، محبة المسيح الذي أتى “ليجمع شمل أبناء الله المشتتين” (يو 11 / 52)، الراعي الصالح الذي يعرف خرافه، ويبحث عنها، ويبذل نفسه في سبيلها (يو 10). من كان له روح الرسالة يختبر حبّ المسيح للنفوس ويحبّ الكنيسة مثل المسيح.
يندفع المرسَل “بالغيرة على النفوس” التي تستلهم محبة المسيح بالذات، باليقظة والحنوّ والرأفة والقبول والاستعداد للخدمة والاهتمام بقضايا الآخرين. إنّ حبّ يسوع يسبر الأعماق: هو الذي “كان يعرف ما في الإنسان” (يو 2 / 25)، وكان يحبّ البشر جميعا مقدما لهم الفداء، وكان يتألم عندما كانوا يرفضون الخلاص.
والمرسَل هو رجل المحبة: فلكي يتمكن من إعلان محبة الله بكلّ من أخوته، وإنه باستطاعته أيضا أن يحبّ، عليه أن يبرهن عن محبته للجميع، باذلا حياته في ذاته روح الكنيسة وانفتاحها واهتمامها بالشعوب والبشر جميعا، وبخاصة الصغار منهم والمعوزين. بذلك يتخطّى الحدود والانقسامات العرقية والطقسية والايديولوجية: إنه، في العالم، آية لحبّ الله، الحبّ الذي لا ينبذ أحدا ولا يحابي أحدا.
وأخيرا، وعلى مثال المسيح، عليه أن يحبّ الكنيسة: “أحبّ المسيح كنيسته، وجاد بنفسه من أجلها” (اف 5 / 25). هذا الحبّ الذي يصل حتى بذل الذات، هو بالنسبة إليه مَعْلَمُ هداية، وحده حبّ الكنيسة العميق يمكنه أن يسند غيرة الرسل. أنّ همّه اليوميّ هو – كما يقول بولس – “الاهتمام بجميع الكنائس” (2 قور 11 / 28). وبالنسبة إلى كلّ مرسل: “الأمانة للمسيح لا يمكن فصلها عن الأمانة لكنيسته” (173).
– القديس هو المرسل الحقيقي
89- تتحدّر الدعوة إلى الرسالة بطبيعتها من الدعوة إلى القداسة. ولا يكون المرسَل مرسلا حقيقيا ما لم يلتزم السير في طريق القداسة: لا بدّ من الاعتراف بأنّ “القداسة قاعدة أساسية، وشرط لا بديل عنه قطعا، لتحقيق رسالة الكنيسة الخلاصية” (174).
إنّ الدعوة الشاملة إلى القداسة ترتبط ارتباطا وثيقا بالدعوة الشاملة إلى الرسالة: كل مؤمن مدعوّ إلى القداسة، مثله إلى الرسالة. وهكذا، يرغب المجمع رغبة حارة “في أن ينشر على كل البشر ضياء المسيح المتلألئ على وجه الكنيسة، وذلك بتبشيره كل خليقة ببشارة الإنجيل” (175). فروحانية الكنيسة الرسولية هي طريق نحو القداسة.
إن الاندفاع المتجدّد نحو الرسالة إلى الأمم يقتضي مرسَلين قديسين. فلا يكفي أن نجدّد الاساليب الراعوية أو أن نحسن ترتيب وتنظيم طاقات الكنيسة، أو أن ندقّق في استكشاف أسس الإيمان في الكتاب المقدس واللاهوت: يجب أن نحرّك وثبة جديدة إلى “القداسة” لدى المرسَلين والجماعة المسيحية كلّها، وبخاصة لدى الذين يعاونون المرسَلين عن كثب (176).
لنتذكّر، أيها الأخوة والأخوات الأعزاء اندفاع الجماعات المسيحية الأولى إلى الرسالة. فبالرغم من ضعف وسائل النقل والتواصل آنذاك، بلغ التبشير بالإنجيل، وبوقت قصير، مشارف العالم، مع العلم أنها كانت ديانة رجل مات على الصليب “عثارا لليهود وجهالة للأمم” (1 قور 1 / 23)! كان في أساس هذا الزخم الرسولي، قداسة المسيحيين الأولّين والجماعات الأولى.
90- لذلك، أتوجّه إلى المعمّدين في الجماعات والكنائس الفتية: أنكم أنتم اليوم أمل كنيستنا التي مضى على تأسيسها ألفا سنة. عليكم، بكونكم حديثي الإيمان، أن تكونوا كالمسيحيين الأوّلين، وأن تنشروا الحماس والجرأة، بتفانيكم في عطاء ذواتكم لله وللقريب. وبكلمة، عليكم أن تسلكوا درب القداسة. بهذا فقط يمكنكم أن تكونوا آيات الله في العالم، وأن تعيشوا مجددا في بلدانكم ملحمة الكنيسة الأولى الرسولية. كما أنكم تصبحون أيضا ضمير الروح الرسولي للكنائس القديمة.
ليفكّر المرسَلون، من جهتهم، بواجب القداسة التي تتطلّبها عطية دعوتهم، بتجديد ذواتهم يوما بعد يوم بالتحوّل الروحي، وبمتابعة تنشئتهم اللاهوتية والراعوية دون توقّف. على المرسَل أن يكون “رجل تأمل بالفعل”. ففي ضوء الكلمة الإلهية وفي الصلاة الشخصية والجماعية، يستطيع معالجة ما يعترضه من معضلات. أن اتصالاتي مع ممثلي التقاليد الروحية غير المسيحية، بخاصة في آسيا، جعلتني أتأكّد من أن ّ مستقبل الرسالة منوط بالتأمل إلى درجة كبيرة. فإذا ما انتفت صفة التأمل عن المرسَل، كيف يمكنه أن يعلن المسيح بطريقة قابلة للتصديق؟ أنه شاهد لأختيار الله، وعليه أن يقول على مثال الرسل: “إن ذاك الذي تأملناه… من كلمة الحياة… به نبشّركم” (1 يو 1 / 1 – 3).
المرسل هو رجل التطويبات. فيسوع، وقبل أن يرسل الأثني عشر للكرازة، علّمهم وبيّن لهم طرق الرسالة: الفقر، الوداعة، قبول الآلام والاضطهادات، الرغبة في العدالة والسلام والمحبة. ويعني هذا تحديدا التطويبات التي حقّقتتها الحياة الرسولية. (راجع متى 5 / 1 – 12). وفي عيشه التطوييات، يختبر المرسَل ويبرهن عمليا أن ملكوت الله قد أتى وقد تقبّله. أن ميزة كل حياة رسولية أصلية هي الفرح الداخلي النابع من الإيمان. ففي عالم تقلقه وتضغط عليه معضلات كثيرة إلى حدّ التشاؤم، ينبغي لمذيع البشرى السارة أن يكون ذلك الرجل الذي وجد في المسيح الرجاء الحقيقي.
الخاتمة
لم تحظ الكنيسة، بمناسبة، كما تحظى به اليوم، لأبلاغ الإنجيل بالشهادة والكلمة إلى البشر كافة والشعوب قاطبة. وإنني أرى انبلاج فجر لعصر رسالة جديد، سوف يصبح يوما مشعا وغنيا بالثمار، إذا ما لبّى المسيحيون جميعا وخاصة المرسَلون والكنائس الفتية، بسخاء وقداسة نداءات عصرنا وتحدّياته.
وعلى مثال الرسل بعد صعود المسيح، على الكنيسة أن تجتمع في العلّية “بمريم أمّ يسوع” (رسل 1 / 14) بغية التماس الروح ونيل القوّة والشجاعة لطاعة وصية الرسالة. ونحن أيضا، وأكثر من الرسل بكثير، نحتاج إلى أن يحوّلنا الروح ويقودنا.
وفي عشية الألف الثالث، الكنيسة كلّها مدعوّة إلى أن تعزز عيشها سرّ المسيح، بإسهامها بفعل النعمة في عمل الخلاص. تحقّق ذلك مع مريم وعلى غرار مريم أم الكنيسة ومثالها. إن مريم هي مثال الحب الوالدي الذي ينبغي أن ينعش كلّ الذين، بانضوائهم في عمل الكنيسة الرسوليّ، يعملون على تجديد البشر، لذلك “تسير الكنيسة على مرّ الزمن، صوب انقضاء الدهر، لملاقاة الرب الذي يأتي، يسندها حضور المسيح…[ أنها تتقدم في مسيرتها على هذه الطريق تستهدي الخط الذي سلكته العذراء مريم” (177).
إنني، إلى “وساطة مريم التي تتّجه كليّا إلى المسيح وتسعى إلى ابراز قدرته الخلاصية” (178)، استودع الكنيسة وخاصة الذين يتكرسون لتحقيق وصية الرسالة في عالم اليوم. ومثلما ارسل المسيح رسله باسم الآب والابن والروح القدس، هكذا أجدّد الوصيّة عينها، وأمنحكم بركتي الرسولية باسم الثالوث الأقدس. آمين.
أعطي في رما، قرب القديس بطرس، في 7 كانون الأول 1990، بمناسبة اليوبيل الفضي للقرار المجمعي إلى الأمم، في السنة الثالثة عشر لحبريتي.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) رسالة البابا بولس السادس في مناسبة اليوم العالمي للرسالات لعام 1972. “كم من المشاحنات الداخلية التي تضعف وتمزق الكنائس والمؤسسات المحلية تزول أمام القناعة الأكيدة بأن خلاص الجماعات المحلية إنما يكتسب عن طريق التعاون في مجال النشاط الارسالي، لكي يمتد هذا النشاط إلى أقاصي الأرض!”.
2) رسالة البابا بندكتوس الخامس عشر “ذلك العظيم” (Illud Maximum) في 30 / 11 / 1919، أعمال الكرسي الرسولي، 11، (1919) ص 440 – 445. والرسالة العامة للبابا بيوس الحادي عشر، “شؤون الكنيسة” (Rerum Ecclesiae) في 28 / 2 / 1926، أعمال الكرسي الرسولي 18 (1926) ص 65 – 83 – والرسالتان العامتان للبابا بيوس الثاني عشر: “دعاة الإنجيل” (Evangelii Praecones) في 2 / 6 / 1951 – أعمال الكرسي الرسولي 43 (1951) ص 497 – 528 – و”هبة الإيمان” (Fidei donum) في 21 / 4 / 1957 – أعمال الكرسي الرسولي 49 (1957) ص 225 – 248 والرسالة العامة للبابا يوحنا الثالث والعشرين “رأس الرعاة” (Princeps pastorum) في 28 / 11 / 1959 – أعمال الكرسي الرسولي 51 (1959) ص 833 – 864.
3) الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني “فادي الإنسان” 4 / 3 / 1979، عدد 10، أعمال الكرسي الرسولي، 71 (1979) ص 274 – 275.
4) المرجع نفسه ص 275.
5) قانون إيمان نيقيا – القسطنطينية.
6) الرسالة العامة “فادي الإنسان” عدد 13، المرجع نفسه ص 283.
7) “فرح ورجاء”، دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم عدد 2 المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
8) المرجع نفسه عدد 22.
9) الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني “الرحمة الإلهية” في 30 / 11 / 1980 عدد 7 أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 1202.
10) عظة في الاحتفال الافخارستي في كراكوفيا في 10 / 6 / 1979 أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979) ص 873.
11) الرسالة العامة للبابا يوحنا الثالث والعشرين “أم ومعلمة” في 15 / 5 / 1961، 4، أعمال الكرسي الرسولي 53(1961) ص 451 – 453.
12) “الكرامة الإنسانية”، بيان في الحرية الدينية، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني عدد 2.
13) “واجب التبشير بالإنجيل” إرشاد رسولي للبابا بولس السادس، في 8 / 11 / 1975، عدد 53، أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976) ص 42.
14) “الكرامة الإنسانية” بيان في الحرية الدينية، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
15) “نور الأمم” دستور عقائدي في الكنيسة عدد 14 – 17 “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 3، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
16) “نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة عدد 48، و”فرح ورجاء” دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم، عدد 43، و”إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي عدد 7 و 21 المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
17) “نور الأمم” دستور عقائدي في الكنيسة، عدد 13، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
18) المرجع نفسه عدد 9.
19) “فرح ورجاء” دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم، عدد 22 المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
20) “نور الأمم” دستور عقائدي في الكنيسة عدد 14، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
21) الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني، “الرحمة الإلهية” عدد 1 المرجع نفسه ص 1177.
22) “نور الأمم” دستور عقائدي في الكنيسة عدد 5، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
23) “فرح ورجاء”، دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم عدد 22 المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
24) “نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة عدد 4، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
25) المرجع نفسه عدد 5.
26) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي عدد 16 للبابا بولس السادس، المرجع نفسه ص 15.
27) الكلمة الافتتاحية في الدورة الثالثة للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، 14 / 9 / 1964، أعمال الكرسي الرسولي 56 (1964) ص 810.
28) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي عدد 34، للبابا بولس السادس، المرجع نفسه ص 28.
29) اللجنة اللاهوتية العالمية، مواضيع كنسية مختارة، في الذكرى العشرين لاختتام المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، 7 / 10 / 1985، عدد 10 “الطبيعة الاسكاتولوجية للكنيسة: ملكوت الله والكنيسة”.
30) “فرح ورجاء” دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم، عدد 39 المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
31) الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني في “الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم” عدد 42، أعمال الكرسي الرسولي 78(1986) ص 857.
32) المرجع نفسه عدد 64 ص 892.
33) “Parrhesia” ، تعني أيضا الحماس والقوة. راجع أعمال الرسل 2 / 29، 4 / 13، 29، 31 9 / 27، 28 – 13 / 46 – 18 / 26 – 19 / 8 – 26 / 26 – 28 / 31.
34) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي عدد 41 – 42، للبابا بولس السادس، المرجع نفسه ص 31 – 33.
35) الرسالة العامة في “الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم” عدد 53، للبابا يوحنا بولس الثاني، المرجع نفسه ص 874 – 875.
36) “إلى الأمم” قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 3 – 11 – 15 – و”فرح ورجاء”، دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم، عدد 10 و 11 و 22 و 26 و 38 و 41 و 92 و 93، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
37) “فرح ورجاء” المذكور أعلاه عدد 10 و 15 و 22.
38) المرجع نفسه عدد 41.
39) الرسالة العامة في “الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم” عدد 54 للبابا يوحنا بولس الثاني، المرجع نفسه ص 875 – 876.
40) “فرح ورجاء”، عدد 26، المذكور أعلاه.
41) المرجع نفسه عدد 38، وعدد 93.
42) “نور الأمم” دستور عقائدي في الكنيسة عدد 17 و “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 3 و 15 المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
43) “إلى الأمم”، المرجع المذكور أعلاه رقم 4.
44) الرسالة العامة في “الروح القدس في الحياة الكنيسة والعالم”، عدد 53، للبابا يوحنا بولس الثاني، المرجع نفسه ص 874.
45) الخطاب الموجه إلى أعضاء الأديان غير المسيحية، مدارس – الهند في 5 / 2 / 1986 عدد 2 – أعمال الكرسي الرسولي 78 (1986) ص 767 – راجع أيضا” الرسالة الموجهة إلى شعوب آسيا، مانيلا، 21 / 2 / 1981 عدد 2 – 4 – أعمال الكرسي الرسولي 73 (1981) ص 392 -393 والكلمات الموجهة إلى ممثلي الأديان غير المسيحية، طوكيو، في 24 / 2/ 1981، عدد 3 – 4، في التعاليم ,IV/1- Insegnamenti)(1981 ص 507 – 508).
46) الخطاب الموجه إلى الكرادلة والكوريا الرومانية في 22 / 11 / 1986، رقم 11، الكرسي الرسولي 79 (1987) ص 1089.
47) “نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة عدد 16، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
48) “فرح ورجاء”، دستور راعوي في الكنيسة والعالم، عدد 45، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. راجع أيضاً “رسالة الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم” عدد 54، المرجع السابق ذكره ص 876.
49) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 10، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
50) “العلمانيون المؤمنون بالمسيح، ارشاد رسولي ملحق بمجمع الاساقفة، 30 / 12 / 1988 عدد 35، أعمال الكرسي الرسولي 81 (1989) ص 457.
51) “إلى الأمم”، عدد 6، المذكور أعلاه.
52) المرجع نفسه.
53) المرجع نفسه عدد 27.
54) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي عدد 18 – 20، المرجع نفسه ص 17 – 19.
55) “العلمانيون المؤمنون بالمسح”، ارشاد رسولي ملحق بمجمع الاساقفة، عدد 235، المرجع نفسه ص 457.
56) “واجب التبشير بالإنجيل”، عدد 80، المرجع نفسه ص 73.
57) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 6، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
58) واجب التبشير بالإنجيل، عدد 80.
59) “إلى الأمم”، عدد 6.
60) المرجع نفسه عدد 20.
61) الخطاب الموجه إلى أعضاء الندوة التي عقدها مجلس أساقفة أوروبا، في 11 / 10 / 1985 أعمال الكرسي الرسولي 78 (1986) ص 178 – 189.
62) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي عدد 20، المرجع نفسه ص 19.
63) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي عدد 5 – و”نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة عدد 8، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
64) “الكرامة الإنسانية”، بيان في الحرية الدينية، عدد 3 و4، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، و”واجب التبشير بالإنجيل” عدد 79 و 80، ارشاد رسولي، والرسالة العامة للبابا بولس السادس عدد 12، المرجع نفسه ص 278 و 281.
65) الرسالة الرسولية (Ad Maximum Illud) “إلى ذلك العظيم”، المرجع نفسه ص 446.
66) “واجب التبشير بالإنجيل”، عدد 2، ارشاد رسولي، المرجع نفسه ص 2.
67) في “قاعدة الهراطقة”، CCLI , 201 – 202 – De praescriptione haereticorum XX:
68) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 9، الفصل 2 من العدد 10 إلى 18.
69) “واجب التبشير بالإنجيل” عدد 41، ارشاد رسولي، المرجع نفسه ص 31 32.
70) “نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة، عدد 28 و 35 و 38، و”فرح ورجاء”، دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم، عدد 43، و”إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 11 – 12، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
71) الرسالة العامة “ترقي الشعوب”، للبابا بولس السادس، في 2 / 3 / 197 عدد 21 و 42، أعمال الكرسي الرسولي، 9 (1967) ص 267 – 268 و 278.
72) “واجب التبشير بالإنجيل” ارشاد رسولي، للبابا بولس السادس، المرجع نفسه ص 23.
73) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 17.
74) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي، عدد 15، المرجع نفسه، ص 13 – 15، و”إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي عدد 13 و 14، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
75) الرسالة العامة في “الروح القدس في حياة الكنيسة والعالم” عدد 42 و 64 المرجع نفسه ص 857 – 859 و 892 – 894.
76) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي، عدد 60، المرجع نفسه ص 50 و 51.
77) “نور الأمم” دستور عقائدي في الكنيسة عدد 6 – 9، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
78) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي عدد 2، و”نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة عدد 9.
79) “إلى الأمم”، الفصل 3 عدد 19 – 22، المذكور أعلاه.
80) المرجع نفسه عدد 15.
81) المرجع نفسه عدد 6.
82) “استعادة الوحدة” قرار في الحركة المسكونية عدد 4، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
83) “واجب التبشير بالإنجيل”، عدد 58، ارشاد رسولي، المرجع نفسه ص 46 – 49.
84) التقرير النهائي، الجمعية العامة الاستثنائية 2، ج، 6.
85) المرجع نفسه 2، د، 4.
86) “واجب تلقين التعليم المسيحي”، ارشاد رسولي 16 / 10 / 1979، عدد 53، أعمال الكرسي الرسولي، 71 (1979) ص 1320 والرسالة العامة (Salvorum Apostoli) رسل السلاف في 2 / 6 / 1985 عدد 21، أعمال الكرسي الرسولي 77 (1985) ص 802 – 803.
87) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي عدد 20، المرجع نفسه ص 18 – 19.
88) خطاب موجه إلى أساقفة زائير، كنشاسا، في 3 / 5 / 1980 عدد 4 – 6، أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 432 – 435 وخطاب إلى أساقفة كينيا، نيروبي، في 7 / 5 / 1980 عدد 6، وخطاب إلى أساقفة الهند، دلهي، في 1 / 2 / 1986 عدد 5 – أعمال الكرسي الرسولي 78 (1986) ص 748 – 749، وعظة في قرطاجين – كولومبيا، في 6 / 7 / 1986، عدد 7 – 8، أعمال الكرسي الرسولي 79 (1987) ص 105 – 106، راجع أيضا الرسالة العامة “رسل السلاف” (Salvorum Apostoli) عدد 21 و 22 في المرجع نفسه ص 802 – 804.
89) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 22، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
90) المرجع نفسه.
91) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي، عدد 64، المرجع نفسه ص 55.
92) “إن دور الكنائس المحلية إنما يقوم على استيعاب جوهر الرسالة الإنجيلية وتحويلها، دون أدنى تنكّر لحقيقتها الأساسية، في اللغة التي يفهمها أولئك الناس، ومن ثم اعلانها في تلك اللغة… ويجب تفهم “اللغة” هنا، لا بمعناها اللغوي والأدبي، بقدر ما يجب أن تفهم بمعناها الانتروبولوجي الثقافي” المرجع نفسه عدد 63، ص 53.
93) خطاب في اللقاء العام بتاريخ 13 / 4 / 1988 – التعاليم XI, I (1988) PP. 877 – 881 Insegnamenti
94) “وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم”، ارشاد رسولي، للبابا يوحنا بولس الثاني، 22 / 11 / 1981 عدد 10، حيث تجدر الاشارة إلى المثاقفة في حقل الزواج والعائلة، أعمال الكرسي الرسولي، 74 (1982) ص 91.
95) “واجب التبشير بالإنجيل”، عدد 63 – 65، ارشاد رسولي للبابا بولس السادس، المرجع نفسه ص 53 – 56.
96) “نور الأمم” دستور عقائدي في الكنيسة عدد 17، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
97) “خطاب موجه إلى الأعضاء المشاركين في ندوة أساقفة أفريقيا، كمبالا، في 31 / 7 / 1969، عدد 2، أعمال الكرسي الرسولي 61 (1969) ص 577.
98) “الكلمة الافتتاحية في الدورة الثانية للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، في 29 / 9 / 1963 – أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963) ص 858 راجع أيضا: “في عصرنا” بيان في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، عدد 2 – و”نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة عدد 16، و”إلى الأمم”، عدد 9، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، و”واجب التبشير بالإنجيل”، عدد 53، ارشاد رسولي، للبابا بولس السادس، المرجع نفسه ص 41 – 42.
99) الرسالة العامة “كنسيته” (Ecclesiam Suam) للبابا بولس السادس، في 6 / 8 / 1964، أعمال الكرسي الرسولي، 56، (1964) ص 609 – 659 – و”في عصرنا” بيان في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية و”إلى الأمم” عدد 11 و41، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
100) رسالة إلى أساقفة أسيا في مناسبة الجمعية العامة الخامسة لاتحاد المجالس الاسقفية الآسيوية في 23 / 6 / 1990 عدد 4، في صحيفة الاوسرفاتوري رومانو بتاريخ 18 / 7 / 1990.
101) “نور الأمم”، عدد 14 دستور عقائدي في الكنيسة، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني و”إلى الأمم”، قرار مجمعي في نشاط الكنيسة الارسالي عدد 7.
102) “استعادة الوحدة”، عدد 3، قرار في الحركة المسكونية، و”إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 7، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
103) الرسالة العامة “فادي الإنسان” للبابا بولس السادس، عدد 2 المرجع نفسه ص 279.
104) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 11 و 15 المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
105) “في عصرنا”، بيان في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، عدد 2، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
106) “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، ارشاد رسولي ملحق بمجمع الأساقفة عدد 35، المرجع نفسه ص 458.
107) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 41، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
108) الرسالة العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، للبابا يوحنا بولس الثاني، 30 / 12 / 1987 عدد 41 – أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 750 – 571.
109) “وثائق المؤتمر العالم الثالث لأساقفة أميركا اللاتينية – بويبلا (1979).
110) خطاب موجه إلى الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات في جاكارتا، بتاريخ 10 / 10 / 1989 عدد 5، الاوسرفاتوري رومانو 11 / 10 / 1989.
111) الرسالة العامة “ترقي الشعوب” للبابا بولس السادس، عدد 14 – 21، المرجع نفسه ص 264 – 268، 277 – 278، والرسالة العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، للبابا يوحنا بولس الثاني، عدد 27 – 41 المرجع نفسه ص 547 – 572.
112) الرسالة العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي”، عدد 228، المرجع نفسه ص 548 – 550.
113) المرجع نفسه، الفصل 4، عدد 27 – 34، في المرجع نفسه ص 547 – 560 الرسالة العامة في “ترقي الشعوب”، عدد 19 – 21 في المرجع نفسه ص 226 – 227 – 278.
114) خطاب موجه إلى سكان فافيلا فيجيدال (Favela Vigidal) في ريو دي جانيرو في 2 / 7 / 1980 عدد 4، أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)
115) وثائق المؤتمر العام الثالث لأساقفة أميركا اللاتينية، بويبلا، 3757 (1142).
116) العظة 31 من Isaac de L’Etoile, PL 194, 1793 .
117) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 20، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
118) “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، عدد 35، ارشاد ملحق بمجمع الأساقفة، المرجع نفسه، ص 458.
119) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 38، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
120) خطاب موجه إلى المجمع المقدس، وإلى جميع الأعضاء المعاونين في الكوريا الرومانية، في حاضرة الفاتيكان والمدبرية الأسقفية في روما، 28 / 6/ 1980، عدد 30 تعاليم Insegnamenti III, 1 (1980) p. 1887 .
121) “نور الأمم”، دستور عقائدية في الكنيسة عدد 23، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
122) “إلى الأمم”، المرجع السابق ذكره، عدد 38.
123) المرجع نفسه عدد 29.
124) المرجع نفسه عدد 38.
125) المرجع نفسه عدد 30.
126) وثائق الجمعية الثالثة العامة لمؤتمر أساقفة أميركا اللاتينية، بويبلا، 2941 (368).
127) توجيهات خاصة لتعزيز التعاون بين الكنائس الخاصة، ولا سيما من أجل المزيد من التوزيع المتكافئ للاكليروس، “بعد الرسل” (Postquam Apostoli) 25 / 3 / 1980، أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980) ص 343 – 364.
128) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، الفصل 4، عدد 23، 27، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
129) المرجع نفسه عدد 23.
130) المرجع نفسه.
131) المرجع نفسه عدد 23 و 27.
132) “المجمع المقدس للرهبان والمؤسسات العلمانية، والمجمع المقدس للأساقفة، توجيهات بشأن العلاقات بين الأساقفة والرهبان في الكنيسة، “العلاقات المتبادلة” (Mutuae Relationes) 14 / 5/ 1978 عدد 4 آب، أعمال الكرسي الرسولي 70 (1978) ص 482 عدد 28، المرجع نفسه ص 490.
133) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 27، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
134) “الدرجة الكهنوتية”، قرار في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، عدد 10، و”إلى الأمم”، السابق ذكره، عدد 39، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
135) “تجديد الكنيسة”، قرار في التنشئة الكهنوتية، عدد 20، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وأيضا الدليل التالي: “Guide de vie pastorale pour les pretres diocèsains des Eglises qui dependent de la Congrégation pour l’Evangélisation des peoples, Rome 1989′
136) خطاب موجه إلى الأعضاء المشاركين في الجمعية العامة لمجمع تبشير الشعوب في 14 / 4 / 1989، عدد 4، أعمال الكرسي الرسولي 81 (1989) ص 1140 وأيضا، الرسالة الخاصة في مناسبة اليوم العالمي للرسالات لعام 1982.
137) التعاليم Insegnamenti V/2 (1982) p. 1879 .
138) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 78، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
139) المجمع المقدس للاكليروس، توجيهات “بعد الرسل” (Postquam Apostoli) عدد 29، المرجع نفسه ص 362 – 363.
140) مجموعة الحق الكنسي، المادة 783.
141) “إلى الأمم”، المرجع السابق ذكره، عدد 20.
142) “واجب التبشير بالإنجيل”، ارشاد رسولي، للبابا بولس السادس، عدد 69، المرجع نفسه، ص 58 – 59.
143) الرسالة العامة “كرامة المرأة”، للبابا يوحنا بولس الثاني، عدد 2، أعمال الكرسي الرسولي، 80 (1988) ص 1703.
144) للبابا بيوس الثاني عشر “دعاة الإنجيل” (Evangelii praecones) و “هبة الإيمان” (Fidei donum) المرجع نفسه، ص 510 وما يليها، وص 228 وما يليها، والرسالة العامة للبابا يوحنا الثالث والعشرين “رأس الرعاة” (Princeps Pastorum) ، المرجع نفسه ص 855 وما يليها، والارشاد الرسولي للبابا بولس السادس، “واجب التبشير بالإنجيل”، عدد 70 – 73، المرجع نفسه ص 59 – 63.
145) “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، عدد 35، ارشاد رسولي ملحق بمجمع الأساقفة المرجع نفسه ص 457.
146) الرسالة العامة “دعاة الإنجيل” للبابا بيوس الثاني عشر، المرجع نفسه ص 510 – 514.
147) “نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة، عدد 17 و 33 وما يليها، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
148) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 35 – 36 و 41 – المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
149) “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، عدد 14، ارشاد رسولي ملحق بمجمع الأساقفة، المرجع نفسه ص 410.
150) مجموعة الحق الكنسي، المادة 225 المقطع الأول، راجع أيضا: “نشاط الكنيسة الرسولي”، قرار في رسالة العلمانيين، عدد 6 و 13، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
151) “نور الأمم”، دستور عقائدي في الكنيسة، عدد 31، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ومجموعة الحق الكنسي، المادة 225 المقطع الثاني.
152) “واجب التبشير بالإنجيل”، أرشاد رسولي للبابا بولس السادس، عدد 70، المرجع نفسه ص 60.
153) “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، ارشاد رسولي ملحق بمجمع الأساقفة، عدد 35، المرجع نفسه ص 458.
154) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 17، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
155) “واجب تلقين التعليم المسيحي”، ارشاد رسولي، عدد 66، المرجع نفسه، ص 1331.
156) الحق الكنسي المادة 785 المقطع الأول.
157) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 17، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
158) الجمعية العامة للمجمع المقدس لتبشير الشعوب، 1969، بشأن معلمي التعليم المسيحي و”التعليم” الخاص بهذا الموضوع، نيسان / أبريل 1970 Bibliographia missionaria 34, (1970)pp. 197- 212, et s. c. de propaganda Fide Memoria Rerum, III/2(1976)pp. 821 – 831
159) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 28، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
160) “الراعي الصالح”، دستور في الكوريا الرومانية، للبابا يوحنا بولس الثاني، 28 / 6 / 1988 عدد 85، أعمال الكرسي الرسولي 80 (1988) ص 881، راجع أيضا: “إلى الأمم”، السابق ذكره عدد 29.
161) “إلى الأمم”، السابق ذكره، عدد 29، و”الراعي الصالح” ، السابق ذكره، عدد 86، المرجع نفسه ص 882.
162) “إلى الأمم”، السابق ذكره، عدد 31.
163) المرجع نفسه عدد 33.
164) “الكنيسة المقدسة”، إرادة رسولية للبابا بولس السادس، 6 / 8 / 1966 ، 2، عدد 43، أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966) ص 782.
165) “إلى الأمم”، السابق ذكره عدد 34، و”الكنيسة المقدسة” إرادة رسولية، 3، عدد 22، المرجع نفسه ص 787.
166) “إلى الأمم” ، السابق ذكره، عدد 35، راجع أيضا: الحق الكنسي، المادة 211 ص 781.
167) “في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم”، ارشاد رسولي للبابا يوحنا بولس الثاني، عدد 54، المرجع نفسه ص 147.
168) رسالة رسولية للبابا بولس السادس “النافذون والمتعاظمون” (Graves et increscentes) في 5 / 9 / 1966، أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966) ص 750 – 756.
169) راجع: p. Manna, le Nostre “CHIESE” e LA PROPAGAZIONE DEL VANGELO, TRENTONA DUCENTA, 1952, p. 45 .
170) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 38 المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
171) “نور الأمم”، دستور عقائدي، عدد 13، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
172) “إلى الأمم”، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، عدد 24.
173) “الدرجة الكهنوتية”، قرار في حياة الكهنة وخدمتهم الراعوية، عدد 14، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني.
174) “العلمانيون المؤمنون بالمسيح”، ارشاد رسولي ملحق بمجمع الأساقفة، عدد 17.
175) “نور الأمم”, دستور عقائدي عدد 1.
176) خطاب موجه إلى الجمعية العامة لمؤتمر الأساقفة في أميركا اللاتينية، في “بور أو برنس”ن 9 / 3 / 1983، أعمال الكرسي الرسولي 75 (1983) ص 771 – 779، والعظة التي القيت في افتتاح “تساعيات الأعوام” التي أعلنها مؤتمر الأساقفة في أميركا اللاتينية في “سان دومينكو” بتاريخ 12 / 10 / 1984 التعاليم: Insegnamenti VII/2 (1984) p.885- 897 .
177) الرسالة العامة “أم الفادي”، للبابا يوحنا بولس الثاني ، 25 / 3 / 1987، عدد 2، أعمال الكرسي الرسولي 79 (1987) ص 362 – 363.
المرجع نفسه عدد 22، المرجع نفسه ص 390.
الموسوعةالعربيةالمسيحية
Discussion about this post