العلمانيون المؤمنون بالمسيح
Christifideles laici
للبابا يوحنا بولس الثاني
إلى الأساقفة
والكهنة والشمامسة
والرهبان والراهبات
وجميع العلمانيين المؤمنين
افتتاحية
1- إن العلمانيين المؤمنين بالمسيح (ِChristifideles laїci) الذين تناول مجمع الأساقفة المنعقد في سنة 1987، في جلسته العامة، موضوع دعوتهم ورسالتهم في الكنيسة والعالم، بعد مرور عشرين عاماً على المجمع الفاتيكاني الثاني، هم من شعب الله، المتمثّل في فَعَلة الكَرْم، الوارد ذكرهم في إنجيل متى: “يشبه ملكوت السماوات رجلاً ربَّ بيت، خرج بالغداة يستأجر فَعَلةً لكَرْمه. فشارَط الفَعَلة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه” (متى20: 1و2).
إن المثل الإنجيل يضع أمام أعيننا كَرْمَ السيد الواسع، وجمهور الفَعَلة، من رجال ونساء، الذين يدعوهم ويرسلهم للعمل فيه. إن الكرْم هو العالم بأجمعه (متى13:38) الذي يجب أن يتبدّل، طِبْقاً للتدبير الإلهي، ويمهّد لمجيء ملكوت الله النهائي.
اذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي
2- “ثم خرج في الساعة الثالثة، فرأى آخرين واقفين في السوق بطّالين، فقال لهم: “إذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي” (متى 20: 3و4).
لا يزال نداء السيد المسيح يتردد منذ ذلك اليوم البعيد من تاريخ البشر، وهو يتوجّه إلى كل إنسان جاء إلى هذا العالم.
وإن الكنيسة، إذ تجدّد فيه دَفْقُ روح العنصرة، على أثر المجمع الفاتيكاني الثاني، أحسَّتْ في داخلها بأن شعوراً أقوى بطابعها الرسولي أخذ في النضوج. وانطلاقاً من انقيادها السخي، سمعَت من جديد صوت الرب، وهو يرسلها إلى العالم “كَسِرٍ للخلاص شامل” (1).
اذهبوا أنتم أيضاً! إن هذا النداء ليس موجَّهاً إلى الرعاة والكهنة والرهبان والراهبات وحدهم، بل يشمل الجميع. فإن الرب يدعو المؤمنين العلمانيين هم أيضاً شخصياً، ويحمّلهم رسالةً إلى الكنيسة والعالم. بهذا يذكّرنا القديس غريغوريوس الكبير، في عظته الموجَّهة إلى الشعب المسيحي، والتي يفسّر فيها مَثَل الكرْم: “تأملوا قليلاً، إخوتي، في نَمَط حياتكم، وانظروا هل أنتم في الحقيقة فَعَلة الرب. فليتبصّر كل واحد في ما يعمل، ولْيَبيّن هل يعمل حقاً في كرم الرب” (2).
إن المجمع الفاتيكاني الثاني قد سطّر صفحات رائعة حقاً في ما يتعلّق بطبيعة المؤمنين العلمانيين وكرامتهم وروحانيتهم ورسالتهم ومسؤوليتهم، معتمداً في ذلك على تراثه العقائدي والروحي والرعوي النفيس جداً. ولم تكن دعوة آباء المجمع لجميع المؤمنين العلمانيين، رجالاً ونساءً، إلى العمل في كَرْم المسيح، إلاّ صدىً لندائه، له المجد: “إن المجمع المقدس يناشد جميع المؤمنين، بقوة وباسم الرب، أن يستجيبوا بسرور وحماس وسخاء، لنداء المسيح الذي يدعوهم، في هذا الوقت بالذات، بمزيد من الإلحاح، ولاستنفارات الروح القدس. ولْيفهم الشباب جيداً أن هذا النداء موجَّه بصفةٍ خاصة إليهم، ولْيستجيبوا له بفرح وبقلب منفتح. إنه الرب نفسه يستحثّ، من جديد جميع العلمانيين، عبر المجمع الفاتيكاني الثاني، لأن يتّحدوا به أكثر فأكثر اتحاداً وثيقاً، وأن يهتموا اهتماماً خاصاً بمصالحه، كأنها شأنُهم الخاص (فيلبي 2: 5) وأن يشاركوا في رسالته الخلاصيّة. إنه يرسلهم بدورهم إلى كل مدينة وكل بقعة من الأرض، يريد التوجّه إليها بنفسه (لوقا 10: 1) (3).
“اذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي!”: لقد تردَّد صدى هذه الكلمات روحياً، في مجمع الأساقفة أيضاً، طوال فترة انعقاده في روما، من أول تشرين الأول سنة 1987 إلى الثلاثين منه. إن الآباء بحثوا في العمق “دعوة العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة والعالم، بعد انقضاء عشرين عاماً على المجمع الفاتيكاني الثاني” مقتفين آثار هذا المجمع ومسترشدين بالخبرات الشخصية والجماعية للكنيسة بأسرها، ومستفيدين من حصيلة مجامعهم السابقة.
وقد ضمَّ هذا المجمع ممثّلين مؤهلين عن المؤمنين العلمانيين، من رجالٍ ونساءٍ، أسهموا في أعماله إسهاماً فعّالاً، اعترف به الإرشاد الختامي بصراحة، إذ جاء فيه: “إنّا نشكر الرب، ليس فقط لأننا حظينا، في غضون هذا المجمع، بفرح مشاركة العلمانيين فيه، (من مراقبين ومراقبات) بل لأنه أتيحَ لنا، في سياق المناقشات، الاستماع إلى المدعوين، الممثّلين للعلمانيين، والوافدين من كل أنحاء العالم، ومن مختلف البلدان. وهذا ما أتاح لنا فرصة الإفادة من خبراتهم ونصائحهم واقتراحاته، التي أملاها عليهم حبّهم للقضية المشتركة” (4).
إن آباء المجمع تمكّنوا، وهم يصوّبون النظر إلى فترة ما بعد المجمع الفاتيكاني، من أن يتحققوا كيف استمر الروح في تجديد الكنيسة، مستحدثاً فيها طاقات قداسة جديدة، بمساهمة الكثيرين من المؤمنين العلمانيين. ومما يشهد لذلك نمط التعاون المستجدّ بين الكهنة والرهبان والمؤمنين العلمانيين، بالمشاركة الفاعلة في الليتورجيا، وفي التبشير بكلمة الله، والتعليم الديني، والخدمات الكثيرة، والمهمّات الموكولة إلى المؤمنين العلمانيين، والتي أجادوا القيام بها، فيما انتشرت بقوةٍ تجمّعات وجمعيات وحركات روحية ملتزمة، فضلاً عن مشاركة للنساء، أوسع وأفْعَل، في حياة الكنيسة وتنمية المجتمع.
ولم يَفٌتْ مجمع الأساقفة، في ذات الوقت، التنويه بما اعترض مسيرة المؤمنين العلمانيين، في الفترة التابعة للمجمع الفاتيكاني الثاني، من صعوبات وأخطار. ويمكننا التذكير، في الواقع، بتجربتين لم يستطيعوا دائماً تلافيهما: أولاهما أن تكريس ذواتهم للخدمات والمهمّات الكنسيّة بغيرة متّقدة، حمل بعضهم على التخلّي الفعلي عن المسؤوليات الخاصة بهم، على الصعيد المهني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، فيما عرّضَتْهم التجربة الأخرى، على نقيض ذلك، لأن يستبيحوا التفرقة، التي لا مبرر لها، بين الإيمان والحياة، وبين الخيار الإنجيلي وممارسة النشاط الفعلي، في مختلف المجالات الزمنيّة والأرضيّة.
وقد دأب مجمع الأساقفة، في أعماله على الرجوع إلى المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي لم يَفْتأْ تعليمه، بشأن مشاركة العلمانيين في نشاطات الكنيسة، وبالرغم من مرور عشرين عاماً، مطابقاً كل المطابقة لواقع الزمن الذي نحن فيه، ويقترن أحياناً ببٌعدٍ نبويّ. إنّ هذا التعليم جدير بأن يٌلْهمنا الحلول التي يجب أن نٌجابِهَ بها اليوم ما استجدَّ من قضايا، وأن يٌلقي عليها أضواءَه. وإنّ التحدي، الذي اضطلع به آباء مجمع الأساقفة، يقوم في الحقيقة، على تحديد السٌبٌل الدقيقة، التي يجب التقيّد بها لِتٌصبح “نظريّة” مشاركة العلمانيين الرائعة، التي نصَّ عليها المجمع الفاتيكاني الثاني “ممارسة” كنسيّة صحيحة. ومن جهة أخرى، نرى بعض القضايا تَفْرض ذاتها، بما تحمله من طابع “الجِدّة” إلى حدٍّ يمكن معه وصفها بأنها نشأت بعد المجمع، أقّلّه من حيث الترتيب الزمني. وقد أصاب آباء مجمع الأساقفة عندما أوْلَوا هذه القضايا اهتماماً خاصاً جداً، في خلال مناقشاتهم وتأملاتهم. ومن بين هذه القضايا، يجدر بنا أن نذكر تلك التي تتعلق بالخدمات الكنسية، التي كٌلِّف أو سَيٌكَلَّف بها المؤمنون العلمانيون، وبتعميم حركاتٍ رسولية جديدة وتنميتها، إلى جانب أشكالٍ أخرى من التجمعات العلمانية، فضلاً عن تحديد موقع المرأة ودورها في الكنيسة كما في المجتمع.
وفي ختام أعمالهم، التي أنجزوها بغيرة وكفاءة وأيحيّة، أبْدى آباء مجمع الأساقفة لنا رغبتهم وأمنيتهم في أن نقدّم إلى الكنيسة الجامعة، في الوقت المناسب، وثيقة ختامية، حول دور المسيحيين العلمانيين. (5)
إن هذا الإرشاد الرسولي، الملحق بمجمع الأساقفة، يرمي إلى إبراز قيمة أعمال هذا المجمع، إنطلاقاً من ملامحها الأولى Lineamenta إلى أداة العمل instrumentum laboris ومن التقرير الافتتاحي، إلى مداخلات كلٍ من الأساقفة والعلمانيين، والتقرير التأليفي، الذي أسفرت عنه المناقشة بين المجتمعين، وكذلك من مناقشات اللجان الفرعية وتقاريرها إلى الاقتراحات والرسالة الختامية. وعليه، فإن الوثيقة الحالية لا تقع على هامش المجمع، بل إنّها، على عكس ذلك، تعكسه بطريقة مترابطة وموضوعية. إنها ثمرة عمل جماعي، أسفر، في مرحلته الأخيرة، عن صياغة بيان، شارك فيه مجلس الأمانة العامة للمجمع، وأمانة السر ذاتها.
إن هدف إرشادنا هذا هو إيقاظ وَعْي أكثر صفاءٌ للهبة المعطاة لجميع المؤمنين العلمانيين، وللمسؤولية التي يضطلعون بها في شركة الكنيسة ورسالتها، فضلاً عن تغذية هذا الوعي.
متطلبات العالم الحاضرة الملِحّة:
لماذا أنتم هنا طوال النهار بلا عمل؟
3- إن المفهوم الأساسي لهذا المجمع، وبالتالي ثَمَرَته الأثْمن، والمرغوب فيها أكثر من غيرها، حَمْل المؤمنين العلمانيين على سماع صوت المسيح، الذي يدعوهم للعمل في كرمه، وللمشاركة الحية، الواعية والمسؤولة، في رسالة الكنيسة، في هذه الحقبة الرائعة والخطيرة من التاريخ، المشرفة على الألف الثالث الوشيك.
إن أوضاعاٌ جديدة بَرَزَت في الكنيسة والعالم، وفي الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، تفرض اليوم على المؤمنين العلمانيين، بصفة خاصة جداً، الاضطلاع بدورهم. وإذا كان إهمال هذا الدور غير مقبول في الماضي، فإنه يستوجب اللوم، أكثر منه في أيّ زمنٍ مضى. ولا يجوز لأيٍّ كان أن يبقى مكتوف اليدين.
لِنَعُد الآن إلى قراءة المثل الإنجيليّ: “وخرج أيضاً حول الساعة الخامسة فوجد آخرين واقفين النهار كله بطّالين؟ فقالوا له إنه لم يستأجرنا أحد. فقال لهم: امضوا أنتم أيضاً إلى كَرْمي”.
لا شك أن صدى صوت الرب يتردد في داخل كل مسيحيّ، وفي أعماق كيانه. إن الإيمان، وأسرار التنشئة المسيحية، تُصوّر المسيح في كلّ منا، وتجعل منه عضواً في الكنيسة حياً، وعنصراً عاملاً في رسالة الخلاص. ويذكّرنا المجمع الفاتيكاني الثاني بأنّ الأحداث، الطارئة على تاريخ الكنيسة والبشرية، تنقل هي أيضاً إلينا صوت الرب: “إنّ شعب الله، إذ يُحرّكه الإيمان، ويَعي أن روح الرب، الذي يملأ الكون، يعمل فيه، يحاول أن يميّز، في الأحداث وفي متطلبات عصرنا وطموحاته، التي يشارك فيها سائر البشر، العلامات الحقيقية لحضور الله أو لِقَصْده، لأن الإيمان يُضفي على الأشياء كلها ضوءاً جديداً، ويُظهر لنا الإرادة الإلهيّو بشأن دعوة الإنسان الشاملة، مُرشداً عقلنا إلى حلول غاية في الإنسانية. (6)
يتوجَّب علينا إذن أن نواجه هذا العالم، الذي هو عالمنا، بما ينطوي عليه من قِيَمٍ وقضايا وهموم وآمال ومكاسب وإخفاقات، هذا العالم الذي تطرح أوضاعه، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، قضايا ومشكلات أكثر خطورة من تلك التي أتى على وصفها المجمع الفاتيكاني الثاني، في الدستور الرعوي “فرح ورجاء” (7). وعلى كلٍّ، تلك هي الكرمة، وتلك هي الأرض، اللتان دُعِيَ المؤمنون العلمانيون إلى ممارسة رسالتهم فيهما. إن يسوع يريد منهم، كما من جميع تلاميذه، أن يكونوا “ملح الأرض ونور العالم”. (متى5: 13و14) ولكن ما هو اليوم وجهُ “الأرض” الذي يجب أن يكون المسيحيون مِلْحَهُ، ووجه “العالم” الذي يجب أن يكونوا نوره؟
إن التباين في الأوضاع، وفي أساليب طَرْح القضايا، كبير جداً في عالم اليوم، الذي يتميّز، فضلاً عن ذلك، بِحرَكة تَحَوُّلٍ سريعة. فمن الواجب إذن أن نتحاشى الإفراط في التعميم والتبسيط. إلاّ أنه يمكننا أن نتبيّن بعض خطوط تُحدّد توجّهات مجتمعنا المعاصر. وكما أن الزؤان والبذرة الطيبة ينموان معاً في حقل الإنجيل، كذلك الخير والشر، والظلم والعدالة والكآبة والأمل، تتواجد جنباً إلى جنب، وتتعانق أحياناً تعانقاً وثيقاً في التاريخ، الذي هو المسرح اليومي لممارسات الحرية البشرية.
العلمانية والحاجة إلى الدين
4- هل نتغافل عن شيوع اللامبالاة الدينية، بصفة مستمرة، وكذلك الإلحاد، على اختلاف صُوَرِه، لا سيّما تلك التي تتمثّل في العلمانيّة – الدَنْيَوَة – والتي قد تكون الأكثر انتشاراً؟ فالإنسان المأخوذ بنشوة الانتصارات التي أحرزها، بفضل تطوّر علميّ – تِقَنيّ لا شيء يحدّه، والمُفْتِن خصوصاً بأقدم تجربة وأحدثها، ألا وهي مساواة نفسه بالله، (تكوين 3: 5) هذا الإنسان انقطع عن أعمق جذوره الدينية، مُطلِقاً لحريته العنان، إنه قد نسيَ الله، واعتبر أن لا مكان لله في وجوده، ونبذَه، ليخرَّ ساجداً لمختلف “الأصنام”.
إنّ هذه العلمانية المعاصرة هي في الحقيقة ظاهرة خطيرة جداً، لأنها لا تتناول الأفراد فحسب، بل تتناول كذلك، على وجهٍ ما، جماعات بكاملها. وهذا ما لا حَظَه المجمع الفاتيكاني الثاني: “إن جماهير، تزداد كل يوم كثافة، تبتعد عملياً عن الدين” (8). وقد ذكرتُ أنا نفسي مراراً أن ظاهرة العلمانية استأثرت بالشعوب الأكثر عراقةً في المسيحية، وهي تفرض تبشيراً بالإنجيل جديداً، لا مجال للمماطلة فيه.
ومع هذا، فإن النزعة إلى دين، والحاجة إليه، لا يمكن أن تزولا بالكلّية. إن ضمير الإنسان، كل إنسان، متى توفّرت له الجرأة على مواجهة التساؤلات الأكثر خطورة، والخاصة بالكيان الإنسانيّ، لا سيّما تلك التي تتعلّق بمفهوم الحياة والألم والموت، لا يملك التردد في تَبَنّي كلمة الحق، التي أعلنها القديس أغوسطينوس: “لقد خلقتنا لك، يا رب، ولن يجد قلبنا الراحة، ما لم يسترح فيك” (9). وهكذا يشهد العالم المعاصر، عَبْرَ أساليب تزداد كل يوم شمولاً وحِدّة، للإنفتاح على رؤية روحية وسامية للحياة، كما يشهد ليقظةٍ في البحث الديني، ولِعوْدَةٍ إلى البُعد القُدسيّ، وإلى الصلاة، فضلاً عن المطالبة بحريّة الدُعاء باسم الرب.
الشخص البشري: بين دَوْس كرامته وتمجيدها
5- يجدر بنا أن نفكّر كذلك في شتّى الانتهاكات المفروضة اليوم على كرامة الشخص البشري. إن الكائن البشري، إذا لم يُعْتَرَف بكرامته، بِصِفتِه صورة الله الحية، (تكوين 1: 26) ولم يَحْظَ بالحب الذي تستوجبه هذه الكرامة، يتعرَّض لأن يتحوّل إلى مجرّد أداة، مع أقسى ما يتبع هذا من الإذلال والانحراف، مما يجعل منه عبداً شقياً لمن هو أقوى منه. وهذا “الأقوى” يتستّر وراء شتّى الأقنعة، من إيديولوجية وقدرة اقتصادية وأنظمة سياسية غير إنسانية، وتقنوقراطيّة علميّة، ومن اجتياح لوسائل الإعلام. وإننا لَنَجد أنفسنا هنا أمام العديد من الأشخاص، الذين هم إخوتنا وأخواتنا، وقد سُلِبَت حقوقهم الأساسية، نتيجة تساهل بعض القوانين المدنية المُفرِط، أو ما تنطوي عليه من ظلم صريح. فهي تنتهك الحق في الحياة، وفي سلامة الجسد، والحق في المَسْكِن وفي العمل، والحق في الأسرة وفي الإنجاب المسؤول، وحق المشاركة في الحياة العامة والحياة السياسية، والحق في حرية الضمير والمجاهرة بالعقيدة الدينية.
ومن يستطيع إحصاء الأطفال الذين لم يروا النور، لأنهم قُتِلوا في بطون أمهاتهم، والأطفال المهمَلين، وأولئك الذين يسيء أهلهم أنفسهم معاملتهم، والأطفال الذين يشبّون وقد حُرِموا من العطف والتربية. وإنّا نرى في بعض البلدان شعوباً بأسرها، محرومة من المسكن والعمل، ولا تملك وسائل العيش، اللائق بكرامة الكائنات البشرية. وكم من تجمّعات رهيبة، وقد استقرّت في محيط العواصم، وهي تعاني الفقر والبؤس الجسدي والنفسي معاً، ويُقضَى فيها على جماعات بشرية بأسرها.
على أن الطابع القدسي للشخص لا يمكن إلغاؤه تماماً، وإن كان، في غالب الأحيان، محتقراً ومُنتهكاً، لأن أساسه راسخ في الله، الخالق والآب. وسيَفرض هذا الطابع القدسي ذاته على الدوام.
وهذا ما يفسّر لنا تَفَهُّم العالم، أكثر فأكثر لأبعاد الكرامة الشخصية، الملازمة لكل كائن بشريّ، والمُضيّ في تأكيدها بقوة متزايدة. إن تيّاراً خيّراً بدأ يَنفُذ إلى كل شعوب الأرض، ويجتاحها، ويزيدها وعياً لكرامة الإنسان، فلا يمكن بأيّ حال أن يكون الإنسان “شيئاً” أو “متاعاً” في تصرّف غيره. إنّه دائماً “ذاتٌ” مجمَّلة بالوعي والحرية، وهو مدعوّ للإضطلاع بالمسؤولية في المجتمع الذي يعيش فيه، وفي التاريخ، كما أنه مُهيَّأ للتزوّد بالقيم الروحية والدينية.
يقولون إن هذا العصر هو عصر “الأنَسيّات” (أي المذاهب التي اتخذت من الإنسان موضوعاً لاهتماماتها)، والواقع أن بعضها تُناقض ذاتها، لأنها أسفرت عن تقليص الإنسان وتدميره، متأثرةً بنزعتها الإلحادية والدنيوية، فيما بالغ غيرها على عكس ذلك، في تمجيده، حتى جعلت منه، في الواقع وبمختلف الأشكال، معبوداً، بينما امتثلت غيرها أخيراً للحقيقة، إذ اعترفت بعظمته وعجزه معاً، فأبرزت كرامته الكاملة ودعمتها وعزَّزَتها.
إن هذه التيارات الأنَسيّة، على اختلاف توجّهاتها، إن دلّت على واقعٍ أو أسفرت عنه، فهذا الواقع هو الحاجة المتزايدة إلى “المشاركة”. تلك هي في أيامنا، واحدة من السمات المميّزة للبشرية. إنها، في الحقيقة، “علامة الأزمنة” التي أخذت تنضج في شتّى المجالات ومختلف الاتجاهات: لا سيّما في ما يمتُّ بِصِلةٍ إلى النساء، وعالم الشباب، في اتّجاه الحياة العائلية والمدرسية، كما في عالم الثقافة والاقتصاد والاجتماع والسياسة. لقد أصبح الاضطلاع بدورٍ معيّن، وعلى وجهٍ ما، خلق ثقافة أنَسيَّة جديدة، من متطلبات الجماعات والأفراد(10).
التصارع والسلام
6- وإننا لا نُغفِل أخيراً ظاهرة أخرى، تتسم بها البشرية المعاصرة: إن هذه مُصابة اليوم بالتصارع، أكثر منها في أيّ يوم مضى، ومزعزعة. وتختلف هذه الظاهرة، المتعدّدة الأشكال، عن التعدّدية الشرعية أي تعدّدية الذهنيات والمبادرات، وتتجلّى في التناقض المشؤوم الذي يفرّق بين الأشخاص والجماعات والفئات والأمم وتكتّلاتها. ويتّسم هذا التناقض بالعنف والإرهاب والحرب. وتُجدّد اليوم بعض الفئات البشرية محاولة بناء “برج بابل” (تكوين 11: 1-9) الطائشة، بحجمٍ غايةٍ في الضخامة، رغبةً منها في عَرْض قدرتها الكلية. وتُوّلد هذه المحاولة البلبلة والقتال، والتفتّت والطغيان. وهذا ما آل بالأسرة البشرية إلى حالة مأسويّة من الاضطراب والتمزّق.
وفي مُقابل ذلك، تجلّت لدى كل إنسان، ولدى الشعوب، نزعة قويّة لا تُقهَر، إلى تحقيق السلام عَبْرَ العدالة، باعتباره الخير الذي لا يُثَمّن. وقد وَجَدَت كلمات السيد المسيح، في عظته على الجبل:”طوبى لصانعي السلام” (متى5: 9) صدىً جديداً وبليغاً لدى معاصرينا. وها نحن نَرى اليوم أجيالاً بكاملها، تعيش وتتألم، وتسعى في سبيل استتباب الأمن والعدالة. وإن مشاركة الأشخاص والجماعات في حياة المجتمع، الآخذة في الازدياد، هي السبيل الذي يسلكونه اليوم، أكثر فأكثر، لتُصبح الرغبة في السلام واقعاً ملموساً. وعلى هذا السبيل نلتقي عدداً كبيراً من المؤمنين العلمانيين، قد جَنَّدوا أنفسهم بسخاء للعمل في حَقْلَي المجتمع والسياسة بشتّى الأساليب، سواء في إطار المؤسسات، أو كمعاونين متطوّعين، في خدمة أكثر الناس ضِعَةً.
يسوع المسيح رجاء البشرية
7- هذا هو الحقل الفسيح، الذي يضعه “ربّ البيت” تحت نظر من يرسلهم للعمل في كَرْمِه.
إن الكنيسة حاضرة وفاعلة في هذا الحقل. والكنيسة هي نحن جميعاً، الرعاة والمؤمنون، والكهنة والرهبان والعلمانيون. والوقائع التي ذكرناها تؤثّر على الكنيسة وتتحكّم بها، إلى حدّ ما، لكنّها لا تثبط عزيمتها، وبالأحرى لا تَصْرَعها، لأن الروح القدس، الذي يحرّكها، يدعم رسالتها.
ولا يخفى الكنيسة أن الجهود التي تبذلها، في سبيل تأمين الشركة والمشاركة، تُحقّق تماماً أهدافها، من خلال تَدَخُّل يسوع المسيح، فادي الإنسان والعالم، بالرغم من الصعوبات، ومن التباطؤ، والمعارضات المتنوّعة الناجمة عن الضعف البشري، وعن الخطيئة والشرير.
وتُدرك الكنيسة إدراكاً كاملاً أنّ الرب أرسلها لتكون في ذات الوقت “علامة وأداةً لاتحاد القلب بالله ولوحدة الجنس البشري بأجمعه” (11).
وعليه، فبالرغم من كل هذا، يُمكن الكنيسة، بل يتوجَّب عليها أن تتمسّك بالرجاء. فإن يسوع المسيح نفسه، الذي هو الإنجيل الحيّ والشخصيّ هو “البشرى” الجديدة وحاملة الفرح، التي تُعلنها الكنيسة لنا كلّ يوم، والتي تشهد لها أمام البشر أجمعين.
ويلعب المؤمنون العلمانيون دوراً فريداً، ليس له من بديل، في نقل هذه البشرى، وحَمْل هذه الشهادة. فمن خِلالهم تصبح الكنيسة حاضرة عالمياً، في قطاعات الحياة المتنوعة، كَعَلامةٍ ومنبعٍ للرجاء والمحبة.
الفصل الأول
أنا الكرمة وأنتم الأغصان
كرامة المؤمنين العلمانيين في الكنيسة – السرّ
سر الكرمة
8- تستعين التوراة بصورة الكرمة، بشتى الطرق، ومختلف المعاني. إلاّ أنها تستعين بها، بصفةٍ خاصة، للدلالة على سر شعب الله. والمؤمنون العلمانيون، من هذا المنظور الأكثر باطنيّة، ليسوا فقط فَعَلة يعملون في الكرم، بل إنهم كذلك جزء من الكرمة، على حدّ قول يسوع: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يوحنا 15: 5).
وقد سبق الأنبياء، في العهد القديم، ولجأوا إلى صورة الكرمة، عندما أرادوا التحدّث عن الشعب المختار. فإسرائيل كرمة الله، وصُنْعُ الرب، وفرحُ قلبه: “إنّي غَرَستُك أفضل كرمةٍ” (إرميا 2/21). ” أُنُّك، مثل كرمةٍ في دمك، غُرِسَت على المياه، فصارت كثيرة الثمار والأفنان من غزارة المياه” (حزقيال 19/10). “إنّي أُنشد لحبيبي نشيدَ محبوبي في كَرْمِه. كان لحبيبي كَرْمٌ في رابية ذات خصب، وقد حوَّطَه وحصّاه، وغرس فيه أفضل كرمة” (أشعيا5/ 1و2).
وقد واصلَ يسوع استخدام رمز الكرمة، وأراد من خلاله كَشْفَ بعض جوانب ملكوت الله: “رجلٌ غرس كرْماً، وحوَّطه بسياج، وحفر معصرةً، وبنى بُرجاً، وسلّمه إلى عَمَلةٍ وسافر” (مرقس 12/1، متى 21/28).
ويدعونا الإنجيليّ يوحنا إلى مزيد من التعمُق، ويُفسح لنا المجال لاكتشاف سر الكرمة، بصفتها رمزاً وصورة، ليس فقط لشعب الله، بل ليسوع نفسه. فيسوع هو الكرمة، ونحن التلاميذ أغصانها. هو “الكرمة الحقيقيّة” التي يجب أن تثبت فيها الأغصان لتحيا (يوحنا 15/1وما يتبع).
وحين عاد المجمع الفاتيكاني الثاني إلى استخدام مختلف الصور الكتابيّة، التي تُسلّط الضوء على سر الكنيسة، عرض من جديد صورة الكرمة والأغصان: “إن الكرمة الحقيقيّة هي المسيح. هو الذي يَهَب الحياة والخِصْبَ للفروع. والفروع هي نحن. إننا نَثْبُت، من خلال الكنيسة، في المسيح، الذي لا نستطيع بدونه أن نفعل شيئاً” (12) (يوحنا 15/ 1-5). فالكنيسة هي إذن الكَرْم الإنجيليّ. إنها سر، لأن محبة الآب والابن والروح القدس، وحياتهم، هي الهبة المجانيّة تماماً، المقدَّمة لجميع الذين وُلِدوا من الماء والروح، (يوحنا3/5) المدعوّين ليعيشوا في شركة الله ذاتها، وليُعلنوها، ويُدخلوها في صُلب التاريخ (تلك هي الرسالة). وقد قال يسوع: “في ذلك اليوم ستعرفون أنّي في الآب وأنّكم فيَّ وأنا فيكم” (يوحنا14/20) هنا، وفي صميم سر الكنيسة فقط، بصفته سر الشركة، تنكشف “هويّة” المؤمنين العلمانيين، وكرامتهم الأصليّة. وانطلاقاً من هذه الكرامة وحدها، يمكننا تحديد دعوتهم ورسالتهم في الكنيسة والعالم.
مَن هم المؤمنون العلمانيون؟
9- لقد لَفَت آباء مجمع الأساقفة بحقّ إلى ضرورة تحديد وصفٍ إيجابيّ لدعوة المؤمنين العلمانيين ورسالتهم، وعَرْضِهِ، عَبْرَ دراسةٍ عميقة لعقيدة المجمع الفاتيكاني الثاني، وفي ضوء أحدث الوثائق الصادرة عن السلطة الكنسيّة، والخبرة الحياتيّة التي اكتسبتها الكنيسة، بإرشاد الروح القدس (13).
لم يشأ المجمع الفاتيكاني الثاني اعتماد السهولة والحلّ المبسَّط، عبر تحديد سلبيّ لهوية المؤمنين العلمانيين. بل انفتح على رؤية إيجابيّة واضحة. فقد أعربَ عن هذه النيّة الأساسية، حين أكّد انتماء المؤمنين العلمانيين الكامل إلى الكنيسة وسرّها، والطابع الخاص لدعوتهم، القائمة، بصفةٍ خاصة، على “طلب ملكوت الله بالذات، من خلال إدارتهم للشؤون الزمنية، التي يتعاطونها طبقاً لمشيئة الله” (14).
“والمقصود هنا بالمؤمنين العلمانيين – على حدّ تعبير الوثيقة الدستورية “نور الأمم” – عامة المسيحيين، الذين ليسوا أعضاء في مَصَف رجال الكهنوت، أو في الحالة الرهبانية، المعتمدة من الكنيسة. وبعبارة أخرى، المسيحيين الذين أصبحوا، بفضل سرّ العماد، أعضاء في جسد المسيح، واندمجوا في شعب الله، وشاركوا، على النحو الخاص بهم، في وظائف المسيح الكهنوتية والنبوية والملوكية. ومن ثمَّ يمارسون، من جِهتِهم في الكنيسة والعالم، الرسالة المنوطة بكل الشعب المسيحي” (15).
وقد سبق أن أكدّ البابا بيوس الثاني عشر “أنّ المؤمنين، ولا سيّما العلمانيين منهم، هم، أكثر من غيرهم، في الخط الأمامي من حياة الكنيسة. والكنيسة هي، عَبْرَهم، العنصر الحيويّ في بُنية المجتمع البشري. ولهذا يتوجّب عليهم، قبل غيرهم، أن يَعوا بوضوح متزايد، أنّهم لا ينتسبون فقط إلى الكنيسة، بل هم الكنيسة، أعني جماعة المؤمنين المقيمين على وجه الأرض، والذين يرعاهم بابا رومة بالاشتراك مع الأساقفة، الذين هم على شركة معه. وبكلمة، هم الكنيسة” (16).
فالمؤمنون العلمانيون هم، كسائر أعضاء الكنيسة، وبموجب صورة الكرمة، الواردة في الكتاب، أغصان مرتبطة بالمسيح، الذي هو الكرمة الحقيقية، والذي به يحيون ويُعطون الحياة.
إنّ الارتباط بالمسيح عن طريق الإيمان وأسرار التنشئة المسيحية، هو بداية تجذير المسيحي في وضعه الجديد، المرتبط بسرّ الكنيسة، وهو يُوليه “شخصيّته” الأكثر عمقاً. وهذه الشخصية هي ركيزة الدعوات جميعاً، وأساس ديناميّة الحياة المسيحية، الكامنة في المؤمنين العلمانيين. ففي يسوع المسيح، الذي مات وقام، يصبح المعمَّد “خليقة جديدة” (غلاطية 6/15 و2كو 5/17) أي خليقةً مُبَرَّرة من الخطيئة، ومنتعشة بالنعمة.
وعليه، لا يمكن أن نرسم “صورة المؤمن العلمانيّ إلاّ عن طريق استثمار المواهب العجيبة، التي يَمَنُّ بها الله على المسيحيين، في سر المعمودية.
المعمودية والجِدّة المسيحية
10- لا نبالغ إن قلنا إن الهدف من حياة المؤمن العلمانيّ بكاملها هو حَمْلُهٌ على استيعاب ما أحْدَثَه فيه العماد، الذي هو سر الإيمان، من تجديد مسيحي أساسي، ليتمكّن من القيام بالتزاماته، في إطار الدعوة التي حددها له الله، وإذا شئنا أن نرسم “صورة” المؤمن العلمانيّ، فلنفحص، بطريقة مباشرة وصريحة، في ما نفحص، الجوانب الأساسية التالية: بالعماد نولد لحياة أبناء الله، وبه نتّحد بيسوع المسيح، وبجسده الذي هو الكنيسة، فضلاً عن أن العماد يُضفي علينا المسحة بالروح القدس، جاعلاً منّا هياكل روحيّة.
أبناء الله في الابن الوحيد
11- لِنَذكر ما قاله يسوع لنيقوديموس: “الحق الحق أقول لك: إن لم يُولَد أحد من الماء والروح، فلا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يوحنا3/5). فالعماد إذن ميلاد جديد. إنه تجديد.
ولقد كان بطرس الرسول يفكر بِهِبة العماد من هذه الزاوية، حين أطلق هذا النشيد: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي على حَسَب رحمته الكثيرة، وَلَدنا ثانيةً لرجاءٍ حيّ، بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات، لميراثٍ لا يبلى، ولا يفسد ولا يضمحلّ” (1بط 1/3و4). وهو يلقِّب بالمسيحيين جميع الذين وُلدوا “لا من زرعٍ فاسد، بل من غير فاسد، بكلمة الله الحي الباقي” (1بط1/23).
إننا بالعماد المسيحي نُصبح أبناء الله وبناته، في ابنه الوحيد يسوع المسيح. وكل مسيحيّ، لدى خروجه من مياه جُرن المعمودية، يسمع من جديد الصوت الذي سُمِع يوماً على ضفاف الأردن: “أنت ابني الحبيب، الذي به سررت” (لو 3/22). ويُدرك بالتالي أنه أصبح مشاركاً للابن الحبيب، حين صار ابناً بالتبني (غلا4/ 4-7) وأخاً للمسيح وهكذا يتحقق في حياة كل إنسانٍ تدبيرُ الله الأزلي: “إن الذين سَبَق فعرفهم، سبق فحدد أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه، حتى يكون بِكْراً بين إخوةٍ كثيرين” (رو8/29).
إنه الروح القدس، يجعل من المعمدين أبناء الله وبناته، وفي ذات الوقت، أعضاء جسد المسيح. هذا ما ذكَّر به القديس بولس مسيحي كورنتوس: “إننا جميعاً اعتمدنا بروحٍ واحد، لجسدٍ واحد” (1كو12/13). وهذا ما أتاح للرسول أن يقول للمؤمنين العلمانيين: “أنتم جسد المسيح، وأعضاء من عُضو” (1كو12/27) و”هذا هو الدليل على أنكم أبناء، وأن روح ابنه الذي أرسله الله، هو في قلوبكم” (غلا4/6 ورو8/15و16).
جسد واحد في المسيح
12- إن المعمَّدين، إذ تجدَّدوا “كأبناء في الابن” هم “أعضاء المسيح وأعضاء جسد الكنيسة” وليس شيء يفصل بينهم، كما يعلّمنا مجمع فلورنسا (17).
إنّ العماد يعني ويحقق معاً اندراج المعمَّد، سريّاً وحقاً، في عضويّة جسد يسوع المصلوب والممجّد. ويُشرك يسوع المعمَّد في موته، ليشركه أيضاً في قيامته، (روم6/ 3-5) ويخلع عنه “الإنسان العتيق” ليُلبِسَه “الإنسان الجديد” أي المسيح نفسَه. وفي هذا يقول الرسول بولس: “أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم” (غلا3/27 وأف4/22- 24 وكول 3/9- 10). وعليه، فإننا “نحن الكثيرين، جسد واحد في المسيح” (روم12/5).
إننا نجد في قول بولس هذا صدىً أميناً لتعليم يسوع نفسه، الذي أعلنَ لنا فعلاً وحدة تلاميذه السرية معه، والوحدة القائمة بينهم، تلك الوحدة التي أعلنها كصورةٍ وامتدادٍ للشركة الخفية التي تربط الآب بالابن والابن بالآب، برباط محبة الروح (يو17/21). تلك هي الوحدة التي تحدّث عنها يسوع، مستخدماً صورة الكرمة والأغصان: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يو15/5). وهذه الصورة تُبرز ليس فقط اتحاد التلاميذ بيسوع، بل شركة الحياة القائمة بين التلاميذ أنفسهم، لكونهم جميعاً أغصاناً في الكرمة الواحدة.
هياكل حيّة للروح القدس
13- لقد استعان بطرس الرسول بصورة أخرى، هي صورة بيتٍ، ولقَّب المعمَّدين “بالحجارة الحية” المؤسسة على المسيح “حجر الزاوية” وهم مُعدُّون “لبناء بيتٍ روحانيّ” (1بط 2/5 وما يتبع). وهذه الصورة تستدرجنا إلى مظهر آخر من مظاهر التجديد المنوط بالعماد، والذي يحدده المجمع الفاتيكاني الثاني بهذه الكلمات: “إن المعمَّدين مكرّسون، عبر التجديد ومسحة الروح القدس، ليكونوا بيتاً روحانياً” (18).
إن الروح القدس “يمسح” المعمّد، ويختمه بختمٍ لا يُمحى (2كو 1/21و22) ويجعل منه هيكلاً روحياً، أي أنّه يملأه من حضور الله المقدس، بفضل اتحاده بيسوع المسيح، وانقياده له.
ومتى استقوى المسيحي بهذه “المسحة” الروحية، استطاع أن يتبنّى قول يسوع :”إن روح الرب عليَّ، ولأجل ذلك مسحني وأرسلني لأبشر المساكين، وأشفي منكسري القلوب، وأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأطلق المهشّمين إلى الخلاص، وأكرز بسَنَة الرب المقبولة” (لو4/ 18و19 وأش 61/1 و2). وهكذا يشارك المعمّد في رسالة المسيح يسوع ذاتها، رسالة المسيّا المخلّص.
مشاركون في وظائف يسوع المسيح، الكهنوتية والنبوية والملوكية
14- وجَّه بطرس الرسول كلامه إلى المعمَّدين، واصفاً إياهم “بالأطفال الرضّع” :إدْنوا إلى هذا الحجر الحي، المرذول من الناس، المختار من الله، الكريم لديه. وكونوا أنتم أيضاً مبنيين، كالحجارة الحية بيتاً روحياً وكهنوتاً مقدساً، لإصعاد ذبائح روحية، مقبولة لدى الله بيسوع المسيح…. وأما أنتم فجيل مختار، وكهنوت ملوكي، وأمة مقدسة، وشعب مُقتنى، لتخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1بط 2/4و5و9).
إن هذا جانب آخر من جوانب نعمة العماد وكرامته. فإن المؤمنين العلمانيين يشاركون، من جهتهم، في وظيفة يسوع المسيح المثلثة: الكهنوتية والنبوية والملوكية. إن تقليد الكنيسة الحي لم يُهمل قط هذا الجانب. فقد جاء مثلاً في تفسير القديس أغوسطينوس للمزمور السادس والعشرين، أنَّ “داود تقبَّل المسحة الملوكية، التي لم تكن تُعطى في زمنه إلاّ للملك والكاهن. وهذان كانا يمثلاّن الملك – الكاهن الوحيد، المزمع أن يأتي، أي المسيح. (وكلمة “مسيح” مشتقة من كلمةChrisma أي المسحة). وإنّ رأسنا المسيح لم يتقبَّل وحده المسحة، فنحن أيضاً تقبَّلناها معه، لأننا جسده… ولهذا تُعطى المسحة لجميع المسيحيين، فيما كانت تُعطى، في العهد القديم، للملك والكاهن وحدهما. وإذا كنا جسد المسيح، فهذا ناجم بوضوح عن كوننا قد تقبّلنا المسحة، وأصبحنا، في المسيح، ممسوحين ومُسحاء، لأن الرأس والجسد يؤلفان، على وجهٍ ما، المسيح الكامل” (19).
وإننا، تمشّياً مع المجمع الفاتيكاني الثاني (20)، قد دَرَجنا، منذ بداية خدمتنا الرعوية، على الإشادة بكرامة كل شعب الله، كهنوتية كانت أم نبوية أو ملوكية. وقلنا “إن الذي وُلِد من مريم العذراء، ابن النجار، كما كان معاصروه يعتقدون، وابن الله الحي، كما أعلنه بطرس، قد أتى ليؤلّف منا جمعاً “مملكة كهنة”. وقد ذكَّرنا المجمع الفاتيكاني الثاني بسرّ هذه السلطة، وبِكوْن رسالة المسيح، الكاهن والنبي – المعلم والملك، مستمرة في الكنيسة. إن الجميع، أعني شعب الله بأسره، يشاركون في هذه الرسالة المثلثة” (21).
وإننا نتوخّى، عَبْرَ إرشادنا هذا، أن نكرر دعوة المؤمنين العلمانيين ليُعيدوا قراءة تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، المثمر والنفيس، المتعلّق بمشاركتهم في وظيفة المسيح المثلثة(22)، وليتأملوا هذا التعليم بذكاءٍ ومحبة. وإليكم تحليلاً مقتضباً لعناصر هذا التعليم الأساسية:
يشارك المؤمنون العلمانيون في الخدمة الكهنوتية، التي قدّم يسوع ذاته من خلالها على الصليب، ويواصل هذه التقدمة من خلال الاحتفال بسر الافخارستيا، الذي يُقام لمجد الله الآب ولخلاص البشرية. والمعمَّدون، بصفتهم أعضاء في جسد المسيح، يتَّحدون به وبذبيحته بتقدمة ذواتهم وأعمالهم (روم12/1و2). ويُعْلن المجمع، بشأن المؤمنين العلمانيين، أن “كلّ أعمالهم وصلواتهم ونشاطاتهم الرسولية، وحياتهم الزوجية والعائلية، وأشغالهم اليومية، وخلودهم إلى راحة النفس والجسد، إذا مارسوها بروح الله، أصبحت قرابين روحية، مستحبّة لدى الله بيسوع المسيح (1 بط 2/5). وهذا ينطبق على مشقّات الحياة ذاتها، إذا احتملناها بصبر. وهذه القرابين تنضمُّ إلى تقدمة جسد الرب عند الاحتفال بالإفخارستيا، لِتُرفَع إلى الآب بكل تقوى. وهكذا يكرّس المؤمنون العلمانيون لله العالم ذاته، مقدِّمين في كل مكان، بقداسة حياته، شعائر عبادةٍ لله” (23).
أما المشاركة في الخدمة النبويّة للمسيح “الذي يُعلن ملكوت الآب” (24). بشهادة حياته وفعالية كلمته فإنه تؤهّل المؤمنين العلمانيين وتجنّدهم لقبول الإنجيل، بالإيمان والتبشير به بالكلمة والأعمال، دون التردد في التنديد بالشر بجرأة. وإذ يتّحد المؤمنون العلمانيون بالمسيح “النبي العظيم” (لو7/ 16) ويشهدون بالروح لقيامته، يُصبحون مشاركين للكنيسة – التي “لا تخطئ في الإيمان”- (25) في وعيها للإيمان فائق الطبيعة، ومشاركين بذات القَدْر في نعمة الكلمة، (أع 2/17و18 ورؤ 19/10) فضلاً عن أنهم مدعوون لتجسيد جِدَة الإنجيل وفعاليته تجسيداً يتألق في حياتهم اليومية، العائلية والاجتماعية، وللتعبير بحِلْمٍ وجرأة، في وسط مشقات الزمن الحاضر، عن رجائهم في المجد “حتى من خلال بُنيات الحياة الزمنية” (26),
ثمّ إن المؤمنين العلمانيين يشاركون، بانتمائهم إلى المسيح، ربّ الكون ومَلِكه، في وظيفته الملوكية. وهو يدعوهم لخدمة ملكوت الله، ولنشره عبر التاريخ. إنّهم يعيشون الملوكية المسيحية، أولاً عن طريق الصراع الروحي، الذي يمارسونه، لتدمير سلطان الخطيئة فيهم (روم 6/12) ثمّ من خلال تكريس ذواتهم ليخدموا، في المحبة والعدالة، يسوع نفسه، الحاضر في جميع إخوته، لا سيّما أصغرهم (متى25/40).
ثم إن المؤمنين العلمانيين مدعوون، بصفة خاصة لأن يُعيدوا إلى الخليقة قيمتها الأصلية، غير منتقصة. وإنهم إذ يُخضعون الخليقة لخير الإنسان الحقيقي، عن طريق نشاطٍ مدعوم بحياة النعمة، يشاركون في ممارسة السلطان الذي يمارسه يسوع الناهض من القبر، على كل الأشياء، مجتذباً إياها إليه، ومُخضِعاً إياها للآب، في ذات الوقت الذي يخضع فيه هو نفسه له، بحيث يُصبح الله كلاًّ في الكل (يو 12/32 و1كو 15/28).
إن مشاركة العلمانيين في وظيفة يسوع المثلثة، ككاهن ونبي وملك، تتأصل في مسحة العماد، وتنمو في سر التثبيت، وتكتمل في سر الإفخارستيا، الذي يؤمّن استمرارها. وإذا توفَّرت هذه المشاركة لكل مؤمن علمانيّ، فلأن المؤمنين جميعاً يؤلفون جسد المسيح الواحد. إن يسوع يُغْني فعلاً كنيسته ذاتها بمواهبه، لأن الكنيسة هي جسده وعروسه. وبالتالي فإن كل فرد من أفرادها يشارك في وظيفة المسيح المثلّثة، بصفته عضواً في الكنيسة. وهذا ما يعلّمنا إياه بوضوح بطرس الرسول، الذي يصف المعمَّدين بأنهم “جيلٌ مختار وكهنوت ملوكيّ وأمة مقدسة وشعب اصطفاه الله” (1بط 2/)). ولما كانت مشاركة المؤمنين العلمانيين في وظيفة المسيح المثلثة مُستمَدَّة من الشركة الكنسيّة، فإنه من المحتَّم أن تُعاش وأن تتحقق في الشركة، ولأجل نمو هذه الشركة نفسها. وقد قال في هذا القديس أغوسطينوس: “كما أننا نُدعى جميعاً مسيحيين، بسبب المسحة السريّة، كذلك نُدعى جميعاً كهنة، لأننا جميعاً أعضاء في جسد الكاهن الأوحد” (27).
المؤمنون العلمانيون والطابع العلمانيّ
15- إن الجِدّة المسيحية هي أساس المساواة بين جميع الذين اعتمدوا في المسيح، وجميع أفراد شعب الله، كما أنّها عنوان هذه المساواة: “إن كرامة الأعضاء مشتركة بفعل تجدّدهم في المسيح، ومشتركة كذلك نعمة التبني، والدعوة إلى الكمال. فإن الخلاص واحد والرجاء واحد والمحبة واحدة، وليست هناك تجزئة” (28). وبفضل كرامة العماد المشتركة هذه، يُصبح المؤمن العلماني مشاركاً، في مسؤولية الرسالة الكنسيّة، لجميع خدام الهيكل، الحاصلين على الرُتَب الكهنوتية، وللرهبان والراهبات.
لكنّ كرامة العماد المشتَرَكة هذه لها لدى المؤمن العلمانيّ نَمَطُها الخاص، الذي يميّزه عن الكاهن والراهب والراهبة، بدون أن يفصله عنهم. وقد أسند المجمع الفاتيكاني الثاني هذا النمط إلى الطابع العلماني: “إنّ الطابع العلمانيّ هو طابع العلمانيين الخاص بهم، والمميّز لهم” (29).
وإذا شئنا أن نتفهَّم الوضع الكنسيّ، الخاص بالمؤمن العلماني، بطريقةٍ كاملة ومطابقة للواقع ومميزة، توَجَّب علينا أن نبحث، في العمق، البُعد اللاهوتي للطابع العلماني، في ضوء تدبير الله الخلاصي وسر الكنيسة.
إن للكنيسة، على حدّ قول البابا بولس السادس، بُعداً علمانياً صحيحاً، ومُلازماً لطبيعتها الخاصة، ولرسالتها، التي تمتد جذورها في سرّ الكلمة المتجسد، والتي تحققت في أعضائها بأشكال مختلفة” (30).
إن الكنيسة تعيش في هذا العالم، وإن لم تكن من هذا العالم (يو17/16) وقد أُرسِلَت لتواصل عمل يسوع المسيح الفدائي. وهذا العمل “الذي يتعلّق أساساً بخلاص البشر، يشمل كذلك تجديد النظام الزمني بكامله”(31).
وإنه لَمِنَ المؤكد أن كل أعضاء الكنيسة يشاركون في بُعدها العلمانيّ ولكنّ هذا يتم بطرق مختلفة. ولمشاركة المؤمنين العلمانيين، بنوع خاص، أسلوبها في العمل والخدمة “الخاص بها والمميّز لها” كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني. وهذا الأسلوب هو الذي يُطْلَق عليه اسم “الطابع العلماني” (32).
ويحدد المجمع واقع المؤمنين العلمانيين بقوله إنه أولاً، الموقع الذي تُوَجَّه إليهم فيه دعوة الله: “إنهم هناك مدعوون” (33). و”الموقع” معبَّر عنه بألفاظ ديناميكية: “إنّ المؤمنين العلمانيين يعيشون في وسط العالم، أي أنهم ملتزمون بجميع متوجبات العالم وأشغاله، على اختلافها، في ظروف الحياة العائلية والاجتماعية العادية، التي نُسِجَت منها حياتهم” (34). إنهم يعيشون العالم حياةً طبيعية ويدرسون ويشتغلون، ويقيمون علاقات ودّية واجتماعية ومهنيّة وثقافية. ولا يرى المجمع الفاتيكاني الثاني في وضعهم هذا مجرّد إطار خارجي وبيئة، بل واقعاً “مُعَدّاً لأن يحقق، في يسوع المسيح، بُعدَه الكامل” (35). ويذهب المجمع إلى أبعد من ذلك، فيؤكد “أن الكلمة المتجسد أراد شخصياً أن يشارك في هذا التضامن… لقد قدّس العلاقات البشرية، لا سيما العلاقات العائلية، التي تنبثق منها الحياة الاجتماعية، وخضع مختاراً لشرائع وطنه، وشاء أن يعيش كأيّ صانع من أبناء زمنه ومنطقته” (36).
“فالعالم” إذن هو الموقع والوسيلة اللذان تتمّ عبرهما دعوة المؤمنين العلمانيين المسيحية، لأن العالم، هو نفسه، مُعَدّ لتمجيد الله الآب في المسيح. إنطلاقاً من هذا، تمكّن المجمع من أن يحدد المعنى الحقيقي والخاص للدعوة التي يوجهها الله إلى المؤمنين العلمانيين. إنه لا يدعوهم إلى التخلّي عن الموقع الذي يشغلونه في العالم. فالعماد لا يُخرجهم من العالم. إلى هذا يشير بولس الرسول، حين يقول: “فَلْيَبْقَ كل واحد، أيها الإخوة، لدى الله، على الحال التي كان فيها حين دُعِيَ”(1كو 7/24). بل إن العماد يحدد لهم الدعوة إنطلاقاً من وضعهم بالذات في العالم. فالمؤمنون العلمانيون “مدعوون فعلاً من الله للعمل من الداخل على تقديس العالم، كما تعمل الخميرة في العجين، ممارسين مهمّاتهم الخاصة بهم، بتوجيهٍ من الروح الإنجيلية، ليتجلى المسيح للآخرين، أولاً عَبْرَ شهادة حياتهم، التي تشعُّ إذ ذاك بالإيمان والرجاء والمحبة” (37). وهكذا يكون وجود المؤمنين العلمانيين، وعملهم في قلب العالم، ليس فقط واقعاً انتروبولوجيّاً واجتماعياً، بل لاهوتيّاً وكنسيّاً بنوع خاص. ومن خلال وضعهم في وسط العالم، يُظهر الله قَصْده، ويُعلن لهم دعوتهم الخاصة، القائمة على “طلب ملكوت الله، من خلال تسيير الشؤون الزمنية في الاتجاه الذي يريده الله” (38).
من هذا المنظور بالذات أعلن مجمع الأساقفة “أن الطابع العلماني للمؤمن العلماني لا يُمكن حصره في معناه الاجتماعي وحده، بل يجب أن يشمل كذلك، وبالأخص، معناه اللاهوتي، وأن يُفْهَم في ضوء فِعل الخلق وعمل الفداء، اللذين استودع الله بموجبهما الرجال والنساء هذا العالم ليشاركوا في عمل الخَلق، ويحرروا الخليقة ذاتها من سطوة الخطيئة، ويتقدَّسوا في إطار الزواج أو العزوبة، وفي نطاق الأسرة والمهنة، ومختلف النشاطات الاجتماعية” (39).
إن واقع المؤمنين العلمانيين الكنسي يُحدَّد جذرياً انطلاقاً من التجديد المسيحي، والمتميز بطابعه العلماني (40).
إن رموز الملح والنور والخميرة تنطبق بنوع خاص على المؤمنين العلمانيين، وإن كانت موجهة إلى جميع تلاميذ يسوع، بدون تمييز. إنها رموز ذات دلالة عجيبة، لأنها لا تُترجم فقط اندماج المؤمنين العلمانيين، ومشاركتهم الكاملة في العالم، وفي الأسرة البشرية، بل تترجم بالأخص اندماجاً ومشاركة جديدين وفريدين، يهدفان إلى نشر الإنجيل الذي يحقق الخلاص.
مدعوون إلى القداسة
16- إن كرامة المؤمنين العلمانيين تنكشف لنا بكاملها إذا فحصنا الدعوة الأولى والأساسية، التي يحبوهم الآب بها في المسيح، بواسطة الروح: إنها الدعوة إلى القداسة أي إلى كمال المحبة. فالقديس هو الشاهد الأروع للكرامة المعطاة لتلميذ المسيح.
وقد عبّر المجمع الفاتيكاني الثاني عن الدعوة العامة إلى القداسة تعبيراً جليّاً. ويمكن التأكيد أن هذا المجمع، الذي أُريد له أن يكون مجمع التجديد الإنجيلي للحياة المسيحية، (41) صبَّ اهتمامه على هذا التوجيه الأساسي لأبناء الكنيسة وبناتها. وليس هذا التوجيه مجرّد إرشاد أخلاقي. إنه من متوجبات سر الكنيسة، التي لا يمكن تجاوزها، لأن الكنيسة هي الكرمة المقدَّسة والمقدِّسة ذاتها، الكامنة في المسيح. فالكنيسة هي الجسد السري، الذي يشارك أعضاؤه الرأس، التي هي المسيح، في ذات الحياة، حياة القداسة. إنها العروس المحبوبة للرب يسوع، الذي قدَّس طبيعة يسوع البشرية في بطن مريم العذراء (لو 1/35) هو ذات الروح الذي يُقيم ويعمل في الكنيسة، ناقلاً إليها قداسة ابن الله المتجسد.
إن المسيحيين جميعاً هم اليوم في حاجة ماسَّة إلى أن يعودوا ويسلكوا طريق التجديد الإنجيلي، متقبّلين بسخاء دعوة الرسول لأن يكونوا “قديسين في تصرفهم كلّه” (1بط 1/15). إن مجمع الأساقفة غير العادي، المنعقد في عام 1985، بع مرور عشرين عاماً على اختتام المجمع الفاتيكاني الثاني، كان على جانب كبير من الصواب، حين ركَّز على ضرورة القيام بعمل عاجل بهذا الصدد: “لمّا كانت الكنيسة في المسيح سرّاً، يجب اعتبارها علامة للقداسة وأداة لها. لقد كان القديسون القديسات دائماً منبعاً للتجديد، ومصدراً له، في أحرج الأوقات من تاريخ الكنيسة. ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى قديسين وقديسات وعلينا أن نسأل الرب بإلحاح أن يُنعم علينا بهم” (42).
إن الجميع في الكنيسة يتلقّون الدعوة المشتركة إلى القداسة، وبالتالي يشاركون فيها، لكونهم أعضاء في الكنيسة. والمؤمنون العلمانيون مدعوون إلى القداسة حتماً، بدون أية تفرقة بينهم وبين سائر أعضاء الكنيسة: “إن الدعوة إلى مِلء الحياة المسيحية، وإلى كمال المحبة، موجّهة إلى جميع المؤمنين بالمسيح، أيّاً كان وضعهم أو مستواهم” (43). “كل المؤمنين بالمسيح مدعوون للسعي إلى القداسة وإلى الكمال، بل هم مُلْزَمون بذلك، في إطار حالتهم الراهنة” (44).
إن جذور الدعوة إلى القداسة تتأصل في العماد. وهذه الدعوة تَنْشَط بواسطة الأسرار، لا سيما سر الافخارستيا. فالمسيحيون، إذ يلبسون يسوع المسيح ويرثون من روحه يُصبحون قديسين، وبذات الفعل، مؤهلين لأن يبرزوا قداسة كيانهم من خلال قداسة سيرتهم، بل إنهم ملتزمون بذلك. ولا يكفُّ الرسول بولس عن جعوة جميع المسيحيين إلى الالتزام بحياةٍ “تليق بالقديسين” (أف 5/3).
إن الحياة بحسب الروح. التي تُفضي إلى التقديس (روم6/22 وغلا 5/22) توقظ في جميع المعمَّدين، وفي كل واحد منهم الرغبة بل الالتزام باتّباع يسوع المسيح، والاقتداء به، عن طريق الالتزام بتطويبات العِظة على الجبل، وسماع كلمة الله وتأمُّلها، والمشاركة الواعية والفاعلة في حياة الكنيسة الليتورجيّة وفي أسرارها، والعكوف على الصلاة الفردية والعائلية والجماعية، والانفتاح على الجوع والعطش إلى البرّ، وممارسة وصية المحبة، في كل ظروف الحياة، وفي خدمة الإخوة، ولا سيما الوضعاء منهم والفقراء والمتألمين.
تقديس الذات في وسط العالم
17- إن دعوة المؤمنين العلمانيين إلى القداسة تقضي، بنوعٍ خاص، بأن تقودهم حياتهم بحسب الروح إلى الاضطلاع بالشؤون الزمنية، وإلى المشاركة في النشاطات الأرضية. والرسول نفسه يدعونا إلى الالتزام بذلك، حين يقول: “وكلُّ ما قلتم أو فعلتم فَلْيكن باسم الرب يسوع المسيح، شاكرين به لله الآب” (كو3/17). ويطبّق المجمع الفاتيكاني الثاني قول الرسول على المؤمنين العلمانيين، حين يؤكّد، في حزم، أنه “لا العناية بأسرتهم، ولا الاهتمام بالشؤون الزمنية، يجوز أن يبقيا بمعزلٍ عن حياتهم الروحية” (45). وقد صرَّح آباء مجمع الأساقفة بما يلي: “إن محافظة المؤمنين العلمانيين على وحدة حياتهم بالِغةُ الأهمية. وعليهم أن يحققوا قداستهم من خلال حياتهم العادية، المهنية والاجتماعية. ويتوجب عليهم، إذا شاؤوا الاستجابة لدعوتهم، أن يعتبروا حياتهم اليومية فرصةً سانحةً للاتحاد بالله، وصُنْع مشيئته، ولخدمة سائر البشر، بِحَمْلِهم على تحقيق الشركة مع الله في المسيح” (46).
وعلى المؤمنين العلمانيين أن يتفهّموا دعوتهم إلى القداسة، وأن يعيشوها كعلامةٍ وضّاءة للحب الإلهي غير المتناهي، حبّ الآب، الذي بعث فيهم حياة القداسة التي هي حياته، أكثر منها واجباً مُلزِماً لا مفرَّ منه. إن دعوة كهذه، وبهذا المفهوم، يجب تحديدها على أنها عنصر أساسي، وملازم للحياة الجديدة، التي يُحْدِثها العماد، وبالتالي عنصر أساسي، تقوم عليه كرامة المؤمنين العلمانيين. ثم إن الدعوة إلى القداسة مرتبطة، في ذات الوقت، ارتباطاً وثيقاً بالرسالة والمسؤولية، اللتين أؤتُمِنَ عليهما المؤمنون العلمانيون في الكنيسة والعالم. وإن القداسة المُعاشة، فضلاً عن كونها ثمرة مشاركتهم للكنيسة في حياة القداسة، تُمثّل كذلك، في ذاتها إسهاماً أوّلياً وأساسياً في بناء الكنيسة، بِصفتها “شركة القديسين”. وهناك مشهد عجيب، يَمْثُل أمام العيون المستنيرة بالإيمان، هو مشهد الكثيرين من المؤمنين العلمانيين، رجالاً ونساءً، وقد تحوّلوا إلى فَعَلة، يعملون بلا هوادة في كَرْم الرب، وصناع وُضَعاء، وفي ذات الوقت كبارٍ – بقدرة نعمة الله، طبعاً- يسعَون لتنمية ملكوت الله عبر التاريخ، من خلال حياتهم ونشاطاتهم اليومية ذاتها. وغالباً ما لا يشعر بهم الناس، وأحياناً لا يفهمونهم، كما يتجاهلهم عظماء الأرض، فيما يرعاهم الآب بعين محبته.
ثم إنه يتوجب الإقرار بأن القداسة قاعدة أساسية، وشرط لا بديل عنه قطعيّاً، لتحقيق رسالة الكنيسة الخلاصية. فقداسة الكنيسة هي المصدر الخفي لنشاطها الرسولي، ولاندفاعها الإرسالي، كما أنها مقياسهما الدقيق. ولا تُصبح الكنيسة، عروس المسيح، أُمّاً مخصبة بالروح، إلاّ بقدر ما تنفتح لِحُبِّه، وتحبّه بدورها.
لِنَعُد الآن إلى المثل الكتابي: إن نشأة الأغصان وامتدادها رَهْنٌ باندراجها في الكرمة: “كما أن الغصن لا يستطيع أن يأتي بثمرٍ من عنده، إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم ايضاً إن لم تثبتوا فيَّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. مَن يثبت فيَّ وأنا فيه يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً” (يو15/4و5).
ولا يَسَعنا إلاّ أن نذكّر هنا بالمؤمنين العلمانيين، من رجال ونساء، الذين أعلنّا رسمياًَ ضمَّهم إلى مَصَفّ الطوباويين والقديسين، أثناء انعقاد مجمع الأساقفة الأخير. وفي استطاعة شعب الله بأسره، ولا سيما المؤمنين العلمانيين، أن يجدوا فيهم نماذج جديدة للقداسة، وشهوداً جدداً للفضائل البطوليّة، التي مارسوها في ظروف حياتية عامة وعادية. وقد أكّد آباء مجمع الأساقفة أن “الكنائس المحلية، لا سيما تلك التي يسمونها الكنائس الحديثة، يجب أن تتنبه إلى أولئك الرجال والنساء من أبنائها، الذي أثبتوا قداستهم، في ظروف الحياة اليومية، في نطاق العالم والحياة الزوجية، والذين يمكن أن يكونوا قُدوةً للآخرين، فَيُرَشَّحون، متى سنحت الفرصة، لأن يُعْلَنوا طوباويين وقديسين” (47).
وفي ختام هذه التأملات، الرامية إلى تحديد الوضع الكنسي للمؤمن العلماني، يجدر بنا أن نذكر الهتاف الشهير الذي أطلقه القديس لاون الكبير: “أيها المسيحي، تَعَرَّف على كرامتك!”(48) وهذا ما ردده القديس مكسيم، أسقف تورينو، موجّهاً كلامه إلى الذين نالوا سر العماد: “تَبَّصروا في الشرف الذي أولاكم إياه هذا السر!”(49) وإنّا لَنَدعو جميع المعمدين لأن يسمعوا من جديد كلمات القديس أغوسطينوس: “لِنَفرح ولِنشكر، فقد صِرْنا، ليس فقط مسيحيين، بل المسيح بالذات…. لِيَعْتَرِكم الذهول والفرح، فإننا صِرنا مسحاء” (50).
إن كرامة الإنسان كمسيحي، التي هي أساس المساواة بين جميع أعضاء الكنيسة، تكفل وتنمي روح الشركة والإخاء، وهي، في ذات الوقت، المحرّك الخفي والفاعل لدينامية المؤمنين العلمانيين، الرسولية والإرسالية. إنها كرامة مُلْزِمة، كرامة الفَعَلة المدعوين من الرب، ليعملوا في كَرْمه. وقد ورد في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني “أن جميع العلمانيين ملتزمون بهذه المهمة الشريفة، أي العمل لإيصال قصد الله الخلاصي أكثر فأكثر، إلى جميع الناس، في جميع الأزمنة، وعلى وجه الأرض كلّها” (51).
الفصل الثاني
كلّنا أغصان في الكرمة الواحدة
مشاركة المؤمنين العلمانيين
في حياة الكنيسة- الشركة
سر الكنيسة – الشركة
18- لِنُصغِ من جديد إلى كلمات يسوع: “أنا الكرمة الحقيقية وأبي الحارث… أثبتوا فيَّ وأنا فيكم” (يو 15/1و4).
إن الشركة السريّة التي تربط بين الرب وتلاميذه وبين المسيح والمعمَّدين، مُعْلَنَة لنا في هذه الكلمات البسيطة. إنها شركة حية ومحيية، يُصبح معها المسيحيون مِلْكاً للمسيح، شأنُهم شأن الأغصان المتحدة بالكرمة، وليسوا مِلكاً لأنفسهم.
إن شركة المسيحيين مع يسوع نجد مثالها ومصدرها وغايتها في شركة الابن بالذات مع الآب، عبر هبة الروح القدس: فالمسيحيون متحدون بالآب، من خلال اتحادهم بالمسيح، برباط محبة الروح.
ويُردف يسوع قائلاً: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يو 15/5) فَعَنْ شركة المسيحيين مع المسيح تنجم شركة المسيحيين في ما بينهم، لأنهم جميعاً أغصان الكرمة الواحدة، التي هي المسيح.
إن الرب يسوع يقدم لنا هذه الشركة الأخوية على أنها انعكاس عجيب للحياة الإلهية الخاصة، حياة الحب القائم بين الآب والابن والروح القدس، ومشاركة سرية للمؤمنين في هذه الحياة. وقد صلّى يسوع لقيام هذه الشركة: “ليكونوا كلهم واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك. ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا، لكي يؤمن العالم أنّك أنت أرسلتني: (يو17/21).
إن هذه الشركة هي سر الكنيسة بالذات: هذا ما يُذكّرنا به المجمع الفاتيكاني الثاني، عَبْر القول الشائع للقديس كبريانوس: “إن الكنيسة الجامعة تبدو وكأنها شعب يستمد وحدته من وحدة الآب والابن والروح القدس” (52). وحين يستقبلنا الكاهن، في بداية الاحتفال بالإفخارستيا، مردداً سلام بولس الرسول: “لِتَكن نعمة الرب يسوع المسيح، ومحبة الله الآب، وشركة الروح القدس مع جميعكم!” (2كو 13/13) يُذكّرنا بسر الكنيسة- الشركة هذا.
بعد أن رسمنا “صورة” المؤمنين العلمانيين، من خلال الإشادة بكرامتهم، علينا الآن أن نتأمل في الرسالة والمسؤولية، اللتين يضطلعون بهما في الكنيسة والعالم. على أن هذا الأمر لا يستقيم فهمُه إلاّ في إطار المضمون الحي للكنيسة – الشركة.
المجمع الفاتيكاني الثاني وإكْلِسْيولوجيا الشركة
19- تلك هي في الواقع، الفكرة الرئيسة التي أوضحتها الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني، لتحدّد هويتها. يذّكرنا بهذا مجمع الأساقفة غير العادي، الذي انعقد عام 1985، بعد مرور عشرين عاماً على اختتام ذلك المجمع: “إن إكلسيولوجيا الشركة، هي الفكرة الرئيسة والأساسية، الواردة في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني. إن الشركة koinonid communion المؤسسة على الكتاب المقدس، أَوْلتها الكنيسة الأولى أهمية كبرى. وقد حافظت الكنائس الشرقية على هذا التقليد إلى يومنا هذا. ولهذا كثََّف المجمع الفاتيكاني الثاني جهوده لإبراز مفهوم الكنيسة كشركة، وإدراج هذا المفهوم في واقع الحياة. فما هو معنى كلمة “شركة” المتعددة الجوانب؟ إن المقصود منها، في الأساس، هو الشركة مع الله، بواسطة يسوع المسيح، في الروح القدس. والفوز بهذه الشركة يتم عَبْر كلمة الله والأسرار الإلهية. والعماد هو، في الكنيسة، المدخل إلى هذه الشركة وأساسها. والإفخارستيا هي مصدر الحياة المسيحية كلها وقمتها. (راجع نور الأمم، 11) فتناوُل جسد الرب الإفخارستي يعني الشركة الخاصة، القائمة بين جمع المؤمنين، في جسد المسيح، الذي هو الكنيسة (53) (1كو 10/16) كما يُنشئ هذه الشركة، وبعبارة أخرى، يبنيها.
وعلى أثر المجمع الفاتيكاني الثاني توجّه البابا بولس السادس إلى المؤمنين بخطبة جاء فيها: “إن الكنيسة شركة. فما معنى الشركة هنا؟ إنّي أُحِيلُكم إلى مَقطع من كتاب التعليم المسيحي، يتحدث عن “شركة القديسين. إن الكنيسة هي شركة القديسين. وشركة القديسين تعني مشاركة حية مزدوجة: إندماج المسيحيين في حياة المسيح، وسَرَيان ذات المحبة في جماعة المؤمنين كلها، في هذا العالم وفي الآخر: اتحاد بالمسيح وفي المسيح واتحاد بين المسيحيين، ضِمْن كنيسة المسيح” (54).
إن الصور الكتابية، التي أراد المجمع الفاتيكاني الثاني أن يقودنا عَبْرَها إلى تأمُّل سر الكنيسة، توضح واقع الكنيسة – الشركة في بُعدَيْها المتلازمين: أعني الشركة التي تربط المسيحيين بالمسيح، والشركة التي تربط بين المسيحيين أنفسهم. تلك هي صُوَر الحظيرة والقطيع والكرمة والبناء الروحي والمدينة المقدسة (55) ، ولا سيما صورة الجسد، الواردة في رسائل بولس الرسول، الذي تبعث تعاليمه الحياة في صفحات عديدة من أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، وما فَتِئَت حية وجذابة (56). ويُلقّب المجمع الكنيسة أيضاً “بشعب الله” مستلهماً في ذلك تاريخ الخلاص بكامله. “لم يشأ الله أن يحقق البشر تقديسهم وخلاصهم منفردين، بلا رباط يجمعهم. بل ارتضى، على عكس ذلك، أن يجعل منهم شعباً، يَنْشُد معرفة الله بالحق وخدمته في القداسة” (57) ويوجز الدستور العقادي “نور الأمم” هذه العقيدة في سطوره الأولى، على نحوٍ رائع: “إن الكنيسة هي، في المسيح، وعلى وجهٍ ما، سر، أي أنها ليست فقط علامة الاتحاد الوثيق بالله ووحدة الجنس البشري بأسره، بل هي، في ذات الوقت الوسيلة التي يتم من خلالها تحقيق هذا الاتحاد وهذه الوحدة” (58).
وعليه، فإن واقع الكنيسة – الشركة هو جزء مكمِّل لمضمون “السر” الرئيسي، أي القصد الإلهي في خلاص البشر، بل هو بالأحرى يحتوي هذا المضمون. ولهذا لا يمكن أن نحدد الشركة الكنسيّة تحديداً وافياً، إذا اعتبرناها مجرَّد واقعٍ اجتماعي وسيكولوجي. إن الكنيسة – الشركة هي الشعب “الجديد” الشعب “الماسوي” (messianique ) أي الشعب الذي يَرْئِسُه المسيح… وواقع هذا الشعب مستَمَد من كرامة أبناء الله وحريتهم… وشريعته وصية الله الجديدة، القاضية بأن نُحب كما أحبَّنا المسيح نفسه… ومصيره أخيراً ملكوت الله… وقد جمع المسيح أبناء هذا الشعب في شركة حياة ومحبة وحق” (59). ويرتبط أبناء هذا الشعب الجديد ببعضهم – وبالمسيح أولاً – بروابط ليست من صُنْع اللحم والدم، بل من صُنْع الروح، أعني به الروح القدس، الذي يناله جميع المعمَّدين (يوئيل 3/1).
وهذا الروح، الذي هو منذ الأزل، رباط الثالوث الأقدس، الواحد وغير المنقسم، والذي وحَّد بين الجسد البشري وابن الله، إلى الأبد، لمّا جاء مِلْءُ الزمان، (غلا 4/4) هذا الروح بالذات هو، على مرّ الأجيال المسيحية، ينبوع الشركة الكنسية الذي لا ينقطع ولا ينضب، في الكنيسة.
شركة عضوية: تنوّع وتكامل
20- إننا، توخِّياً للدقة في تقصّي الحقيقة، نقول إنّ الشركة الكنسية هي شركة عُضوية، شبيهة بتلك التي تجمع بين أعضاء جسدٍ حيّ وفاعل. إنها تتميّز فعلاً بكونها، في ذات الوقت، متنوعة ومتكاملة، بِتَنَوّع وتكامل ما في الكنيسة من دعواتٍ وأوضاع حياة وخدمات ومواهب ومسؤوليات. وبفضل هذا التنوع وهذا التكامل، يصبح كلٌّ من المؤمنين العلمانيين، على علاقة بالجسد كله، ويُسْهم بنصيبه في خدمة هذا الجسد. ويركّز بولس الرسول بنوع خاص على الشركة العُضوية القائمة في جسد المسيح السرّي. فَلْنستمع، من جديد إلى تعليمه الزاخر بالمعاني، من خلال العَرْض الشامل لهذا التعليم، كما ورد في أعمال المجمع الفاتيكاني، في الدستور العقائدي “نور الأمم”: “إن يسوع المسيح، إذ أرسل روحه إلى إخوته، الذين جَمَعهم من كل الأمم، جعل منهم جسده السري. وفي هذا الجسد، تتدفّق حياة المسيح في المؤمنين… وكما أن جميع أعضاء الجسد البشري، على تعددها، لا تؤلف إلا جسداً واحداً، كذلك المؤمنون يؤلِّفون جسداً واحداً في المسيح (1كو 12/12). هكذا يتجلّى في بناء جسد المسيح تنوّع مواهبه المختلفة لخير الكنيسة، على قدر غناه، وبقدر ما تحتاجه الكنيسة من خدمات (1كو 12/1-11). وبين هذه المواهب تحتل النعمة المعطاة للرسل الصدراة. والروح القدس ذاته يُخضع لسلطتهم المستفيدين من هذه المواهب أنفسهم (1كو فصل 14). وذات الروح، الذي هو مصدر وحدة الجسد، والذي يتعهده بقدرته، ويحقق فيه ترابط الأعضاء الداخلي، يبعث المحبة بين المؤمنين وينشّطها. وهكذا لا يتألم عضوٌ إلاّ وتتألم معه سائر الأعضاء، ولا يكرّم عضوٌ إلاّ وتفرح معه” (1كو 12/26) (60).
إنه الروح ذاته، الروح الواحد، مصدر التباين والوحدة في الكنيسة، وبين أعضائها. لِنَعُد إلى الدستور العقائدي “نور الأمم”: “إن المسيح، لكي يمكننا من تجديد أنفسنا فيه على الدوام، (أف4/23) منحنا روحه، الذي بحضوره، هو هو، في الرأس والأعضاء، يحيي الجسد كله ويوحده ويحركه، بحيث أن الآباء القديسين شبّهوا عمله هذا بعمل النفس، مصدر الحياة، في الجسد البشري” (61). وفي مكان آخر من الدستور المجمعي “نور الأمم”، وردت أقوال تساعدنا بما تميّزت به من تركيز وإبداع، على استيعاب الواقع العضوي، الذي تمتاز به الشركة الكنسية، حتى من جهة نموها المستمر ي اتجاه الشركة الكاملة. قال آباء المجمع: “إن الروح يسكن في الكنيسة، وفي قلوب المؤمنين كما في هيكل (1كو 3/16 و6/19) وفيها وتوسّل إلى الآب، وفيها يشهد بأن المؤمنين هم أبناء الله بالتبني (غلا4/6 ورو8/15 و16 و 36). وهذه الكنيسة التي يرشدها الروح إلى الحق، كل الحق (يو16/13) والتي يكفل لها الوحدة في الشركة والخدمة، يبنيها ويوجهها، بفضل ما توفّر لها من مختلف المواهب الإيراركية والكارزماتية، إنه يجمّلها بثماره (أف4/ 11و12 و1كو 12/4 و غلا5/22) وبقوة الإنجيل يجدّد شبابها ويجددها باستمرار، ويوجهها شَطْر الوحدة الكاملة مع عريسها. فالروح القدس والعروس يبتهلان معاً إلى الرب يسوع: تعال!” (رؤ 22/17) (62).
فالشركة الكنسية هي إذن هبة، وهبة كبرى من الروح القدس. والمؤمنون مدعوون لأن يتقبّلوها بشكر، ولأن يشعروا، في حياتهم، شعوراً جدّياً بمسؤوليتهم. وهذا يتحقق فعلاً عن طريق مشاركتهم في حياة الكنيسة ورسالتها، واضعين بتصرّفها خدماتهم ومواهبهم المتنوعة والمتكاملة.
“لا يحقّ للمؤمن العلماني الانطواء على نفسه والتزام العزلة الروحية عن الجماعة. بل يتوجّب عليه أن يعيش في مشاركة متواصلة مع الآخرين، وفي وعي عميق جداً للأخُوّة، وفي فرح المساواة في الكرامة، فضلاً عن نيته في أن يستثمر مع الآخرين الكنز الثمين الموروث. إن روح الرب يَهَبُ المؤمن العلماني، كما يَهَب الآخرين، عطايا كثيرة. وهو يدعوه للاضطلاع بمختلف الخدمات والمهمات. ويذكّره، كما يذكّر الآخرين _ الذين هم على علاقة به – بأنه إذا امتاز عن غيره فليس بمزيد من الكرامة، بل بأهليته الخاصة والإضافية للخدمة…. وهكذا تندرج، في إطار الشركة، مواهب المؤمن العلماني وخدماته ومهماته. إنها ثروات متكاملة، تُستَغَل لخير الجميع، بإرشادات الرُعاة الحكيمة” (63).
الخدمات والمواهب هي عطايا من الروح للكنيسة
21- إن المجمع الفاتيكاني الثاني يعتبر الخدمات والمواهب عطايا من الروح القدس، غايتها بناء جسد المسيح، وتأمين الرسالة التي تستهدف خلاص العالم (64). فالكنيسة يُديرها فعلاً ويُرشدها الروح القدس، الذي يوزّع مختلف المواهب الإيراركيّة والكارسماتيّة على المعمَّدين جميعاً، داعياً إيّاهم للعمل والمشاركة، كلاًّ بطريقته الخاصة.
فلنتأمّل الآن الخدمات والمواهب، فاحصين علاقاتها بالمؤمنين العلمانيين، ومشاركة هؤلاء في حياة الكنيسة – الشركة.
خدمات ومهمات ووظائف
إن الخدمات الحاضرة والفاعلة في الكنيسة تشكّل كلُّها، وإن بأساليب مختلفة، مشاركة في خدمة يسوع المسيح، الراعي الصالح، الذي يبذل حياته في سبيل الخراف (يو 10/11) والخادم المتواضع، الذي ضحّى بذاته، تضحيةً كاملة، في سبيل خلاص الجميع (مر10/45). إن بولس صريح للغاية في ما يتعلَّق بالبُنية الكهنوتية للكنائس، الرسولية. فقد ورد في رسالته الأولى إلى الكورنتيين: “قد وضع الله في الكنيسة أُناساً أوّلاً رسلاً، ثانياً أنبياء، ثالثاً معلّمين” (1 كو 12/28). ونقرأ في رسالته إلى الأفسسين أن “كلاًّ منّا نال النعمة على مقدار موهبة المسيح …. وهو الذي جعل بعضاً رسلاً وبعضاً أنبياء وبعضاً مبشرين وبعضاً رعاة ومعلّمين، لأجل تكميل القديسين، ولعمل الخدمة، وبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى مقدار قامة ملء المسيح” (أف 4/ 7و 11-13 وروم12/ 3-8).
إن هذه النصوص، وغيرها في كتب العهد الجديد، تعني أن الخدمات والمواهب والمهمّات الكنسيّة عديدة ومتنوّعة.
الخدمات الناشئة عن سرّ الكهنوت
22- إننا نجد في الكنيسة أولاً الخدمات الكهنوتية، أي الناشئة عن سرّ الكهنوت. فلقد اختار الرب يسوع الرسل وأقامهم – “زَرْعَ إسرائيل الجديد، وفي الوقت عينه، أصل السلطة الإيراركيّة المقدسة” – (65) وكلَّفهم إيجاد تلاميذ له في كل الأمم (متى28/ 19) وتكوين شعب كهنوتيّ وإرشاده. إن رسالة الرسل، التي لا يزال ارب يسوع يَكِلُها إلى رعاة شعبه، هي خدمة حقيقية، يُطلق عليها الكتاب اسم “دياكونيّا” المعبِّر، والذي يعني الخدمة الكهنوتية. ويُنعم المسيح الناهض من القبر على الكهنة بموهبة الروح القدس، عن طريق سرّ الكهنوت، مؤَمِّناً بذلك خلافة الرسل التي لا تنقطع، كما يُخوّلهم السلطة والصلاحيات المقدسة، ليواصلوا خدمة الكنيسة، عاملين “باسم المسيح – الرأس شخصياً” (66) وليجمعوا شعب الله، في الروح القدس، بواسطة الإنجيل والأسرار.
والخدمات الكهنوتية نعمة كبرى، تُؤَمِّن الحفاظ على حياة الكنيسة كلّها ومواصلة رسالتها، قبل أن تكون نعمة مخصَّصة لإنسانٍ معيَّن. وهذه الخدمات الكهنوتيّة تحقّق مشاركةً كهنوت المسيح، وتُظهرها. وهذه المشاركة تختلف في طبيعتها، وليس فقط في دَرَجَتها، عن تلك التي يُنشئها سرّاً العماد والتثبيت، بالنسبة لجميع المؤمنين. وكهنوت الخدمة، من جهةٍ أخرى، وبحسب تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، موقوف أساساً لخدمة جميع المؤمنين الملوكيّ، ومُعَدّ له (67).
ولهذا يجب على الرعاة أن يقتنعوا تماماً بأن الهدم من كهنوتهم هو خدمة شعب الله بأسره، (عبر 5/1) في سبيل تأمين الشركة الكنسيّة وتنميتها، لا سيما في يتعلّق بالخدمات المتنوعة والمتكاملة. وعلى المؤمنين العلمانيين بدورهم، أن يسلّموا بأن كهنوت الخدمة ضروري للغاية لتأمين حياتهم في الكنيسة ومشاركتهم في رسالتها (68).
خدمات العلمانيين ومهمّاتهم ووظائفهم
23- إن رسالة الكنيسة الخلاصيّة في العالم، لا تتحقق فقط بواسطة الخُدّام الذين نالوا سر الكهنوت، بل بواسطة جميع المؤمنين العلمانيين أيضاً. وهؤلاء، بِصِفَتِهم معمَّدين ومدعوّين للاضطلاع برسالة نوعيّة، يشاركون المسيح، كلُّ بحسب طاقته، في خدمته الكهنوتيّة والنبويّة والملوكيّة.
وعليه، يتوجَّب على الرعاة أن يسلّموا بحق المؤمنين العلمانيين في ممارسة الخدمات والوظائف والمهمّات الموكولة إليهم، وأن يشجّعوهم على القيام بها، لأنّها مستمَّدة من سِرَّي العماد والتثبيت، فضلاً عن سرّ الزواج، الذي ناله الكثيرون منهم.
وبالإضافة إلى هذا، يجوز للرعاة، عندما تقتضي ذلك الضرورة أو منفعة الكنيسة، ومع مراعاة القوانين التي ينصُّ عليها الحق العام، أن يَكِلوا إلى المؤمنين العلمانيين بعض الوظائف والمهمّات التي، وإن كان مَنوطة بخدمتهم الخاصة كرعاة، لا تشترط سِمَة الكهنوت. وإليكم ما ورد، بهذا الشأن، في الحق القانوني: “حيثما تُمليه حاجات الكنيسة، وفي غياب الكهنة، يجوز للعلمانيين، وإن لم يكونوا مكرَّسين قرّاءً أو خداماً للهيكل، أن ينوبوا عنهم في إحدى وظائفهم، كخدمة الكلمة، وتَرَؤس الصلوات الطقسيّة، ومَنْح سر العماد، وتوزيع المناولة، في حدود القانون” (69). إلاّ أنّه يحسن التنبيه إلى أن ممارسة هذه أو تلك من الوظائف لا تجعل من المؤمن العلمانيّ راعياً، لأن حقّ الرعاية لا يعتمد على الممارسة في ذاتها بل على السيامة الكهنوتية. إن سرّ الكهنوت وحده يُولي المرتسم حقَّ المشاركة الخاصة في وظيفة المسيح، الرأس والراعي، وفي كهنوته الأزليّ (70). إنّ الوظيفة التي تمارس بالنيابة تستمد شرعيّتها صراحةً مباشرةً من الإنابة الرسمية، الصادرة عن الرعاة، ويبقى المنتدَب خاضعاً لإشراف السلطة الكنسية (71).
لقد قدَّم مجمع الأساقفة الأخير رؤيةً شاملة وهامة للوضع الكنسيّ، فيما يتعلّق بالخدمات والوظائف والمهمّات التي يمكن أن تُسْنَد إلى المعمَّدين. فأبدى الآباء تقديرهم الحار لمشاركة المؤمنين العلمانيين، رجالاً ونساءً، بِقِسْطٍ وافر، في حقل الرسالة وفي حياة الكنيسة، بحيث يضعون مواهبهم وطاقاتهم في خدمة التبشير، وفي تقديس الشؤون الزمنيّة، وبعث الروح المسيحية فيها. كما أبدى الآباء، في ذات الوقت، إعجابَهم بتفاني العلمانيين المستمر في نطاق الجماعات الكنسية، وباستعدادهم السخيّ لِسَدِّ نقص، في الظروف الحرجة، ولتلبية حاجات الكنيسة الدائمة (72).
وعلى أَثَر التجديد الليتورجيّ، الذي أحدثه المجمع الفاتيكاني الثاني، تَنامى وعيُ المؤمنين العلمانيين للدور الذي يعود إليهم، سواء عن طريق المشاركة في الحفلات الليتورجيّة، أو عن طريق التحضير لها. فأبدَوا استعدادهم السخيّ للاضطلاع بهذا الدور. إن الاحتفال بالطقوس الكنسيّة هو بالفعل عمل جماعيّ مقدَّس، لا يقتصر على رجال الدين وحدهم. وعليه، فمن الطبيعيّ أن يقوم المؤمنون العلمانيون بالخدمات الطقسية، التي ليست من اختصاص الإكليريكيين المرتسمين (73). وبعد أن تحققت مشاركة المؤمنين العلمانيين الفعلية في النشاط الليتورجيّ، قُبِلَت عفويّاً مشاركتهم في التبشير بكلمة الله وفي المهمات الراعوية (74).
إلاّ أن الانتقادات لم تَغِبْ عن مجمع الأساقفة هذا، إلى جانب الآراء الإيجابيّة التي تخلَّلته. وقد تناولت هذه الانتقادات استعمال كلمة “خدمة” (Ministère) بدون تمييز، كما تناولَت الالتباس والمعادلة بين الكهنوت العام وكهنوت الخدمة، وعدم تطبيق القوانين والقواعد الكنسية الواجب مراعاتها، والتأويل الكيفيّ لمعنى الإنابة، والنزعة إلى تحويل المؤمنين العلمانيين إلى إكليريكيين، وخطر إحداث بُنْيَة كنسيّة فعليّة للخدمة في موازاة الخدمة المؤسَّسة على سر الكهنوت.
ولِتَلافي هذه الأخطار، كما يجب، ركَّز آباء المجمع على ضرورة تَوَخّي الوضوح في التعبير، وتحديد اصطلاحات لغويّة دقيقة، عند الحاجة (75)، للتعبير، من جهة، عن وحدة رسالة الكنيسة، التي يشارك فيها جميع المعَّمدين، وجهة أخرى، عن الخدمة الرعوية المبنيّة على سرّ الكهنوت، والتي تختلف اختلافاً جوهرياً عن سائر الخدمات والوظائف والمهمات الكنسية، المبنية على سِرَّي العماد والتثبيت.
وعليه، يتوجَّب على الرعاة، في الدرجة الأولى، إلى جانب اعترافهم بحقّ المؤمنين العلمانيين في الاضطلاع بالخدمات والوظائف والمهمّات المختلفة، وتفويضهم بممارستها، أن يهتموا غاية الاهتمام بإفهامهم أنّ حقَّهم في المشاركة في هذه النشاطات مستمدّ من معموديّتهم. ثم إنّه يتعيّن على الرعاة أن لا يُسْرِفوا في افتراض وجود “حالات الضرورة” أو “ضرورة الإنابة” حيث لا يبرّر الواقع ذلك، أو حيث يمكن تدارك هذه الحالات الاستثنائية، عن طريق بَرْمَجةٍ رعوية مدروسة.
ثم إن الخدمات والمهمّات التي يجوز للمؤمنين العلمانيين ممارستها، في مجالات الليتورجية ونَقْلِ الإيمان وبُنْيات الكنيسة الرعوية، يجب أن تنسجم مع دعوتهم العلمانيّة النوعية التي تختلف عن دعوة رجال الدين المكرَّسين. وبهذا الصدد، لا يَسَعُنا إلاّ التنويه بالإرشاد الرسولي “في وجوب التبشير بالإنجيل” الذي كان له تأثير كبير وفعّال في إحياء مشاركة المؤمنين العلمانيين المتنوعة في حياة الكنيسة ورسالتها الإنجيلية. إن هذا الإرشاد يذكّرنا بأن “الحقل الخاص بنشاط العلمانيين التبشيريّ، هو عالم السياسة والواقع الاجتماعي والاقتصاد، والعالم الواسع والمعقَّد الذي يتناول كذلك الثقافة والعلم والفنون والحياة الدوليّة ووسائل الإعلام، فضلاً عن مجالات أخرى، ذات انفتاح خاص على بشارة الإنجيل، كالحب والأسرة وتربية الأولاد والمراهقين، والعمل المِهَني والألم. وكلّما ارتفعت بين العلمانيين، المُشْبَعين بروح الإنجيل، نسبة المسؤولين عن هذه النشاطات، والملتزمين بها بصراحةٍ، والقادرين على تنميتها، والواعين لواجبهم، القاضي بتنمية طاقتهم المسيحية بكاملها، تلك الطاقة التي غالباً ما تكون مستترة ومكبوتة، ازدادت هذه النشاطات إسهاماً في بناء ملكوت الله، وبالتالي في تحقيق الخلاص في المسيح، بدون أن تفقد شيئاً من فعّاليتها البشرية، بل كاشفةً بالأحرى عن بُعْدٍ فائق، كثيراً ما يكون مجهولاً” (76).
وقد عَكَف الآباء، أثناء انعقاد مجمع الأساقفة، بعناية كبرى، على البحث في رُتْبَتَي القارئ والشماس الرسائلي الكنيستين. إنهما لم تكونا سابقاً، في الكنيسة اللاتينية، سوى مرحلتين روحيتين، تمهّدان للسيامة الكهنوتية. إلاّ أن البابا بولس السادس أولاهما، في الإرادة الرسولية Ministeria quaedam الصادرة بتاريخ 15 آب سنة 1972، بعض الاستقلالية والثبات، وإمكانية الإنعام بهما على المؤمنين العلمانيين، على أن يُحْصَر هذا الإنعام في الرجال. وقد جاء نصُّ الحق الكنسي يؤكّد هذا التوجّه (77). وأبدى الآباء رغبتهم في أن “يُعاد النظر في هذه الإرادة الرسولية، في ضوء العُرف المُتَّبع في الكنائس المحلية، ولا سيما لجهة تحديد المقاييس الواجب اعتمادها في اختيار المرشحين لكل خدمة” (78).
وقد شُكِّلَت لجنة خاصة، لا تقتصر مهمَّتها على تلبية رغبة الآباء الصريحة هذه، بل تتناول أيضاً التعمُّق بنوعٍ خاص، في بحث مختلف القضايا اللاهوتية والطقسية والقانونية والرعوية، التي أبرزتها إلى الوجود وَفرة الخدمات الكنسية، الموكولة اليوم إلى المؤمنين العلمانيين.
وفي انتظار انتهاء اللجنة من دراستها، وتنظيم الممارسة الكنسية للخدمات الموكولة إلى المؤمنين العلمانيين، وجَعْلِها أكثر فعالية، يتوجَّب على الكنائس الخاصة أن تتقيّد بدقة بالمبادئ اللاهوتية المذكورة أعلاه، لا سيمل في ما يتعلق بالاختلاف الأساسي بين كهنوت الخدمة والكهنوت العام، وبالتالي بين الخدمات التي يُخوّلها سر الكهنوت، وتلك التي يُخوّلها سرّا العماد والتثبيت.
المواهب
24- إن الروح القدس حين وَكَل إلى الكنيسة – الشركة مهمَّة تأمين مختلف الخدمات، جَمَّلها بعطايا وحوافز خاصة وعفوية، نسميها مواهب. وترتدي هذه المواهب أشكالاً في غاية التنوّع، من حيث هي تعبير عن الحرية المطلقة، التي يملكها الروح الذي يَهَبُها، أو من حيث هي استجابة لمتطلّبات تاريخ الكنيسة الكثيرة. وإنَّ ما تُضفيه كتب العهد الجديد على هذه المواهب، من وصفٍ وتصنيف، يدلّ على أنها كثيرة التنوع: “وإنما يُعْطى كلّ واحد إظهارَ الروح للمنفعة. فَيُعْطى واحد بالروح كلامَ الحكمة، وآخر كلام العِلم، بذلك الروح عينه، وآخر الإيمان بذلك الروح عينه، وآخر مواهبَ الشفاء بالروح الواحد، وآخر صُنْع القوّات، وآخر النبوّة، وآخر تمييز الأرواح، وآخر أنواعَ الألسنة، وآخر ترجمة الألسن” (1كو 12/7-10 و1كو 12/4- 6 وروم 12/6-8 و1بط 4/10-11)
وسواءٌ كانت هذه المواهب خارقة أو بسيطة ومتواضعة، فإنها “نِعَمٌ يهبها الروح القدس” تنعكس فوائدها على الكنيسة مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، لأنها موجَّهة إلى بناء الكنيسة، ونَفْع البشر، وتلبية حاجات العالم.
ويمكننا أن نجد اليوم أيضاً، بين المؤمنين العلمانيين، رجالاً ونساءً، يَنعمون بمواهب مختلفة. وإنَّ إعطاءَها لشخصٍ معين لا يمنع آخرين من المشاركة فيها، بحيث يمكنها الاستمرار، عبر الزمن، كميراث حيّ ونفيس، يولّد أُلفةً روحية خاصة بين العديد من الأشخاص. ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني فعلاً بشأن رسالة العلمانيين: “إن الروح القدس، الذي يقدّس شعب الله، عن طريق الأسرار والخدمة، يُنعم على العلمانيين، علاوة على ذلك، ليمكّنهم من ممارسة رسالتهم، بمواهب خاصة (1كو 12/7) يوزعها على كلّ منهم كما يشاء (1كو 12/11) ليخدم الجميع بعضهم بعضاً، كلّ واحدٍ بما نال من النعمة، كما يحسُن بالوكلاء الصالحين على نعمة الله المتنوعة (1بط 4م10) في سبيل بناء الجسد كله بالمحبة (أف4/ 16)” (79).
إن مواهب الروح القدس، إنسجاماً مع الدينامية السخيّة التي فجّرتها، تفرض على جميع الذين نالوها أن يستثمروها، وفقاً لتعليم المجمع، في سبيل تنمية الكنيسة بأسرها (80).
وعلى من ينال هذه المواهب، بل على جميع أعضاء الكنيسة، أن يتقبّلوها بشكر، لأنها نعمة نفيسة للغايةن تساعد على تنمية الحيوية الرسولية، وقداسة جسد المسيح كله، بشرط أن تكون صادرة حقاً عن الروح القدس، وأن تُمارَس بطريقة مطابقة تماماً لتوجيهات هذا الروح الصحيحة.
وهنا تتجلّى أكثر فأكثر ضرورة التمييز بين المواهب التي تصدر عن الروح القدس وغيرها. وقد أعلن آباء مجمع الأساقفة “أنّ عمل الروح القدس، الذي يهبّ حيث يشاء، ليس دائماً في الواقع سَهْلَ التمييز ولا سهل القبول. نحن نعرف أن الله يعمل في جميع المؤمنين المسيحيين، ونعي تماماً الخير الناجم عن هذه المواهب، سواءٌ لكل فرد، أو للجماعة المسيحية كلها، لكنّا نعي، في ذات الوقت، قدرة الخطيئة على إشاعة القلق والبلبلة، في حياة المؤمنين والجماعات” (81).
لهذا ليس هناك من موهبة تُعفي من الرجوع إلى رعاة الكنيسة، والخضوع لهم. وقد قال المجمع الفاتيكاني الثاني، في كثير من الوضوح “إن للمسؤولين عن رعاية الكنيسة، أن يقرّروا هل هذه المواهب صحيحة، وبالطبع، هل تُمارَس بطرقٍ سليمة. ولهم، بصفةٍ خاصة، “لا أن يُخمدوا الروح، بل أن يختبروا كل شيء، ويتمسّكوا بالحسن” (82) (1تيمو 5م 12و19و20و21) لكي تُسهم جميع المواهب، على اختلافها وتكامُلها، في تحقيق النفع للجميع” (83).
مشاركة المؤمنين العلمانيين في حياة الكنيسة:
25- إن المؤمنين العلمانيين يشاركون في حياة الكنيسة، ليس فقط بممارسة خدماتهم واستثمار مواهبهم، بل بطرق أخرى كذلك.
وهذه المشاركة تتجسد، بصفةٍ أساسية وضرورية، في حياة الكنائس الخاصة ورسالتها، أعني الأبرشيات “حيث توجد وتعمل حقاً كنيسة المسيح الواحدة، المقدسة، الجامعة، الرسولية” (84),
الكنائس الخاصة في الكنيسة الجامعة:
إذا ما شاء المؤمنون العلمانيون أن يشاركوا مشاركةً صحيحة في حياة الكنيسة، فإنهم في حاجة ماسّة إلى رؤية واضحة ودقيقة، تحدّد علاقة الكنيسة الخاصة بالكنيسة الجامعة. ليست الخاصة ثمرة تجزئة الكنيسة الجامعة، ولا الكنيسة الجامعة مجرد تجمّع للكنائس الخاصة. إن ما يجمع بينها هو، على عكس ذلك، رباط أساسي ودائم، باعتبار أن الكنيسة الجامعة توجد وتتجلّى في الكنائس الخاصة. وهذا ما عناه المجمع الفاتيكاني الثاني، حين أكّد أن الكنائس الخاصة “تكوّنت على صورة الكنيسة الجامعة، ففيها، وانطلاقاً منها، نشأت الكنيسة الجامعة الواحدة” (85).
إن المجمع يحضّ المؤمنين العلمانيين كذلك على أن يجسّدوا بنشاط انتماءهم إلى الكنيسة الخاصة، على أن يلتزموا أكثر فأكثر، في الوقت عينه، بروح “كاثوليكيّة” أي جامعة. ويدعو القرار المجمعيّ في رسالة العلمانيين جميع :العلمانيين إلى الاستمرار في تنمية مفهوم الأبرشية فيهم، فالرعية هي بمثابة خلية في الأبرشية، كما يدعوهم لأن يكونوا دائماً على استعداد للمشاركة في نشاطات الأبرشية، بدعوةٍ من راعيهم. ثم إنّهم، تجاوباً مع حاجات المدن والمناطق الريفيّة، مدعوون إلى عدم حصر مشاركتهم في حدود الرعية والأبرشية، بل التوسع فيها لتشمل المناطق المشتركة للرعايا والأبرشيات المختلفة، بل ولتتجاوزها إلى النطاق الوطني والدولي، لا سيما أنّ تزايد هجرة الشعوب المستمر، وتَوَفُّر الصِلات المتبادلة، وسهولة المواصلات لم تَعُدْ تسمح لفئةٍ من المجتمع بأن تبقى منطويةً على ذاتها. فيتوجّب على العلمانيين، والحالة هذه، أن يهتمّوا بحاجات شعب الله، المنتشر في كل الأرض” (86).
وفي هذا السياق أوصى مجمع الأساقفة الأخير بتشجيع إنشاء مجالس رعوية، على صعيد الأبرشية، يمكن الرجوع إليها عند الحاجة. وهذه هي، في الواقع، الوسيلة الفُضلى لتحقيق التعاون والحوار، فضلاً عن تنمية الحسّ المشترك، على الصعيد الأبرشي. إن مشاركة المؤمنين العلمانيين في هذه المجالس يمكنها أن تُوسّع مجال المشاورات. وهكذا يُتاح تطبيق مبدأ التعاون، بطريقة أكثر شمولاً ورسوخاً. وقد يُسفر هذا التعاون، في بعض الحالات، عن اتخاذ القرارات (87).
وينصّ الحق الكنسي (88) على مشاركة المؤمنين العلمانيين في المجامع الأبرشية والمجامع الخاصة، المنعقدة على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد العام. وفي استطاعة هذه المشاركة أن ترسّخ الشركة، وأن تساعد الكنيسة الخاصة على تأدية رسالتها الكنسية، في نطاق حدودها الذاتية، كما من خلال علاقتها بسائر الكنائس الخاصة، المتواجدة في ذات الإقليم الكنسي، أو في دائرة المجلس الأسقفي.
والمجالس الأسقفية مدعوة لتبحث في الوسائل العمليّة، الجديرة بأن تُسهم، أكثر من غيرها، في تطوير التشاور والتعاون مع المؤمنين العلمانيين، رجالاً ونساءً على الصعيد الوطني والإقليمي، بحيث يعي الجميع جيداً القضايا المشتركة، وتتجلى الشركة الكنسية القائمة بين الجميع (89).
الرعية
26- إن الشركة الكنسية، وإن كانت ذا بُعْدٍ كونيّ، تتجسد في الرعية بطريقة مباشرة ومنظرة، لا تُضاهى، لأن الرعية هي الموقع الأخير لِتَمَرْكُز الكنيسة. وهي على وجهً ما، الكنيسة ذاتها، عائشة في عُقر دار أبنائها وبناتها (90).
وعلينا جميعً أن نكتشف من جديد، في الإيمان، الوجه الصحيح للرعية، أي “سر” الكنيسة الحاضرة والفاعلة فيها. وإذا افتقرت الرعية أحياناً إلى الأشخاص والإمكانات، وإذا توزَّعت في أرجاء واسعة، أو تعذَّر التعرُّف عليها في أحياء عصريّة، آهلة، تضجّ بسكانها، يجب أن نذكر أنها، أي الرعية، ليست أولاً بُنْية وأرضاً ومبنى، بل هي، قبل كل شيء، “أسرة الله وجماعة أخويّة، تُحييها روح واحدة” (91). إنها بيت العائلة الأخوي والحفيّ” (92) وهي “جماعة المؤمنين” (93). إن الرعية، في النهاية، مؤسسة على واقع لاهوتي، لأنها “جماعة إفخارستية” (94). وهذا يعني أنها جماعة مؤهلة لأن تحتفل بالإفخارستيا، حيث تمتد جذور إنشائها ونموها الحية، وحيث يكمن رباط كيانها السري، في شركة كاملة مع الكنيسة جمعاء. إنّ أهلية الرعية للاحتفال بالإفخارستيا، مستمدة من كونها “جماعة إيمان وجماعة عضوية” أعني أنها مؤلفة من إكليريكيين مرتسمين ومن غيرهم من المسيحيين، يرئسهم كاهن الرعية المسؤول، الذي يربط الرعية إيراركيا بالكنيسة الخاصة كلها، بصفته ممثلاً لأسقف الأبرشية. (95).
ومما لا شك فيه أن عمل الكنيسة، في عصرنا، بالغ الأهمية. ومن الواضح أن الرعية لا تستطيع القيام به وحدها. ولهذا ينص الحق القانوني على ضرورة إقامة صِيَغ للتعاون بين رعايا المنطقة الواحدة (96)، ويوصي الأسقف بالاهتمام بجميع فئات المؤمنين، حتى بأولئك الذين لا تطالهم وسائل الرعاية العادية(97). كما أنه من الضروري إحداث أماكن للقاءات، وصِيَغ حضورٍ وعملٍ مختلفة، لِتَوَغُّل كلمة الله ونعمته في مختلف الأوضاع الحياتية، التي يعيشها البشر اليوم. فهناك، في شتَّى المجالات الثقافية والاجتماعية والتربوية والمهنية وغيرها، إشعاع روحي ورسالة خاصة بالبيئة، يحتاجان إلى العديد من أنماط النشاطات، التي لا يمكن أن تجد في الرعية وحدها مُرتكزاً لها ومُنطلقاً. ومع هذا، تعيش الرعية اليوم حقبةً من الزمن جديدة، تُبشر بالخير. ولقد تَوَجَّه البابا بولس السادس، في بداية حبريته، إلى الإكليروس الروماني قائلاً: “إننا نعتقد بكل بساطة بأن بُنْية الرعية القديمة، والجديرة بالإجلال، تحمل رسالة تتلاءَم جداً مع واقعنا الحالي، ولا غنىً عنها. فهي التي يجب أن تُنشئ الجماعة الأساسية للشعب المسيحي، وهي التي يجب أن تدرّبها على ممارسة الحياة الليتورجية، ممارسة طبيعية، وتوحّدها في الاحتفال بالليتورجيّا، وإليها يعود الحق في الحفاظ على الإيمان وإنعاشه، لدى جماهير هذا العصر، وهي المكلَّفة بأن تنقل إليهم عقيدة المسيح الخلاصية، وعليها أن تمارس المحبة بحرارة وتفاني، عن طريق النشاطات الخيرية والأخويّة” (98).
وقد انكبَّ آباء مجمع الأساقفة بكثير من الاهتمام، على دراسة الوضع الحاضر للعديد من الرعايا، وطالبوا بعملٍ حازم لتجديدها: “إن رعايا كثيرة، سواءٌ في المناطق المتحضّرة، أو في بلاد الإرساليّات، عاجزة عن العمل بنجاح كامل، بسبب افتقارها إلى الوسائل المادية، وإلى إكليريكيين مرتسمين، أو بسبب الأوضاع الحياتية الخاصة، التي يعيشها الكثيرون من المسيحيين (كالمنفيين مثلا والمهجّرين). وعلى السلطات المحلية، إذا شاءت أن تكون جميع هذه الرعايا جماعاتٍ مسيحية حقة، أن تُشجّع على تطوير بُنْيات الرعايا، بالمرونة الكبرى التي يُخوّلها الحق الكنيس، لا سيما بالتوسع في إشراك العلمانيين في المسؤوليات الرعوية. كما أنه على السلطات المحلية كذلك أن تُنشئ جماعات كنسية صغيرة تنطلق من القاعدة، أعني جماعات حياة، حيث يُتاح للمؤمنين أن يتحاوروا في ما يتعلق بكلمة الله، وأن يجسدوا في ما بينهم خدمة المحبة. إن هذه الجماعت تجسد، فضلاً عن ذلك الشركة الكنسية، ومراكز الإشعاع الإنجيلي، تجسيداً صحيحاً، بالاشتراك مع رعاتها” (99). ولا بد لتجديد الرعايا ولتأمين فعاليتها، من توفي صِيَغ للتعاون بين مختلف الرعايا، المتواجدة في منطقة واحدة، ولا مانع من أن تتخذ هذه الصيغ صفة المؤسسات.
الالتزام الرسولي في نطاق الرعية:
27- لنتأمل الآن عن كثب في الشركة، وفي مشاركة المؤمنين العلمانيين في حياة الرعية. ويجدر بنا هنا أن نُذكّر المؤمنين العلمانيين جميعاً، رجالاً ونساءً، بما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني من عبارات واقعية، حافلة بالمعاني، ومُنَشّطة إلى حد كبير: “إن مشاركة المؤمنين العلمانيين، في نطاق الجماعات الكنسية، ضرورية إلى حد يصعب معه على الرعاة، في أغلب الأحيان أن يؤدّوا رسالتهم على أكمل وجه بدون هذه المشاركة”(100). إن هذه الكلمات تنطوي على حقيقة أساسية، يتوجَّب فهمها في ضوء “إكلسيولوجية الشركة” وهذا أمر بديهي. فإن الخدمات والمواهب، لكونها مختلفة ومتكاملة، ضرورية كلها لتنمية الكنيسة، وتعمل كل منها بطريقتها الخاصة.
وعلى المؤمنين العلمانيين أن يقتنعوا أكثر فأكثر، بمضمون التزامهم الرسولي في نطاق الرعية. وهذا ما يَلْفِت المجمع الفاتيكاني الثاني النظر إليه بحق: “إن الرعية نموذج رائع للرسالة الجماعية، لأنها تضم في الوحدة كل ما فيها من عناصر بشرية متنوعة، وتُدْرجها في جامعية الكنيسة. فَلْيَتَعوّد العلمانيون إذن أن يعملوا في الرعية متحدين مع كهنتهم اتحاداً وثيقاً، وأن يحملوا إلى الجماعة الكنسية قضاياهم الخاصة وقضايا العالم، والمسائل المتعلقة بخلاص البشر، ليبحثوها معاً، ويجدوا لها الحلول، آخذين بعين الاعتبار آراء الجميع. ولْيُسهموا، كل بحسب طاقاته، في كل مبادرة رسولية وإرسالية، تقوم بها أسرتهم الكنسية” (101).
إن إشارة المجمع الفاتيكاني الثاني إلى بحث القضايا الرعوية، وإيجاد الحلول لها، “بتضافُر جهود الجميع” يجب أن تتحقق، بصفةٍ كاملة ومنظمة، من خلال تنمية المجالس الرعوية، في نطاق الرعية، بأقصى ما يمكن من الصدق والسخاء والحزم، تلك المجالس التي أصابَ آباء مجمع الأساقفة في التركيز عليها بوضوح (102).
ويستطيع المؤمنون العلمانيون، بل يتوجّب عليهم، في الظروف الحالية أن يبذلوا أقصى الجهد لتنمية شركة كنسيّة صحيحة، في داخل الرعايا التي ينتسبون إليها، ولإحداث وثبة إرسالية في اتجاه غير المؤمنين، وكذلك في اتجاه من أهمل من المؤمنين ممارسة الحياة المسيحية، أو تراخى في ممارستها.
وإذا كانت الرعية هي الكنيسة بالذات، مُنْغرسة في عقر بيوت البشر، فإنها تحيا وتعمل، مندمجةً اندماجاً عميقاً في المجتمع البشري، ومتضامنة معه تضامناً وثيقاً، في طموحاته ومآسيه. وكثيراً ما يخضع الكيان الاجتماعي للهزّات العنيفة التي تثيرها قِوى التفكك واللاإنسانية. وإذا ضلَّ الإنسان وتبلبل، فإنه لا ينفك يحمل في قلبه، أكثر فأكثر، الرغبة في اختبار الصِلات الأخوية والبشرية الفُضْلى وفي رعايتها. وقد يجد الإنسان الاستجابة لهذه الرغبة في نطاق الرعية، إذا بقيت هذه، بفضل مشاركة المؤمنين العلمانيين فيها، وفيَّةً لدعوتها ولرسالتها، أي إذا كانت في العالم “المكان” الصالح لتحقيق شركة المؤمنين، وفي ذات الوقت “علامة” دعوة الجميع إلى الشركة و”أداة” هذه الدعوة. وبكلمة، يجب أن تكون الرعية البيت المفتوح للجميع، والموضوع في خدمة الجميع. أو هي، كما كان يروق للبابا يوحنا الثالث والعشرين أن يسميها: “سبيل القرية – أي الينبوع – الذي يؤمّه الجميع للارتواء”.
أساليب المشاركة في حياة الكنيسة:
28- إنّ المؤمنين العلمانيين، المتحدين مع الكهنة والرهبان والراهبات، يؤلّفون شعب الله الوحيد، وجسد المسيح الأوحد.
إذا كان كل مسيحي “عضواً” في الكنيسة، فهذا لا يمنعه من أن يكون، في ذاته، “كائناً فرْداً وفريداً”، بل إنّ هذا، على عكس ذلك، يُضفي على تفرُّده مضموناً أعمق، لأنّ هذا التفرّد هو مصدر تنوّع وثراءٍ للكنيسة جمعاء. وانطلاقاً من هذا الواقع، يدعو الله كلاًّ منا، في المسيح، باسمِه الخاص، الذي لا يترك مجالاً لِلَّبْس.
إن دعوة الرب القائل: “اذهبوا أنتم أيضاً إلى كرْمي” موجّهة إلى كل منّا شخصياً. وهي تعني: “تعال أنت أيضاً إلى كرمي!”
وهكذا يقدّم كل منا ذاته، في تفرّده غير القابل للاستبدال، لِيُسهم في تنمية الشركة الكنسية، بشخصه وبعمله، كما أنه يتلقى ثروة الكنيسة بكاملها، ويستوعبها بأسلوبه الخاص. تلك هي “شركة القديسين” التي نُعلنها في قانون الإيمان: “فما يملكه الجميع يُصبح ملكاً لكل فرد، وما يملكه الفرد يُصبح ملكاً للجميع”. وقد قال في هذا القديس غريغوريوس الكبير: “كلُّ فردٍ في الكنيسة سَنَدٌ للجميع، والجميع سند لكل فرد” (103).
الصِيَغ الشخصية للمشاركة
يتحتم على كل مؤمن علماني أن يَعي دائماً وعياً عميقاً أنه “عضو في الكنيسة” مؤتمن على مهمة فريدة، لا يمكن استبدالها، عليه أن يؤديها لخير الجميع، ولا يجوز له أن ينتدب غيره للقيام بها. إن تأكيد المجمع الفاتيكاني الثاني على وجوب اضطلاع كل شخص بدوره في عمل الرسالة، يستمد مضمونه من هذا المنظور: “إن الرسالة التي يتوجّب على كل فرد ممارستها شخصياً، والتي تنبع دائماً من حياة مسيحية حقّة، (يو4/14) هي مصدر كل رسالة جماعية، يقوم بها العلمانيون، وشَرْط وجودها، ولا شيء يحلُّ محلها. وهذه الرسالة الفردية تؤتي ثمارها، دائماً وفي كل مكان. بل هي، في بعض الظروف، الرسالة الوحيدة، الموافِقة والممكنة. وجميع العلمانيين مدعوون للإسهام فيها ومُلْزَمون بها، أيّاً كان وضعهم، حتى إذا لم تتوفّر لهم فرصة المشاركة في الحركات الرسولية، أو إمكانية هذه المشاركة” (104).
وتنطوي الرسالة الشخصية على ثروات، يجب اكتشافها، لتكثيف الدينامية الإرسالية لدى كل مؤمن علماني. وبفضل صيغة الرسالة هذه، يمكن أن ينتشر الإشعاع الإنجيلي بطريقة دقيقة، وأن يطال كل الأماكن والأوساط، التي هي على اتصال بحياة العلمانيين، اليومية والملموسة. ثم إن المقصود هنا هو الإشعاع الدائم، لأنه مرتبط بالانسجام المستمر بين الحياة الشخصية والإيمان، كما أنه، في الوقت عينه، إشعاع نافذ، لأن المؤمنين العلمانيين، إذ يشاركون إخوتهم مشاركة كاملة في أوضاعهم الحياتية، وفي عملهم وضيقاتهم وآمالهم، يستطيعون أن يَنْفَذوا إلى قلب جيرانهم وأصدقائهم وزملائهم، ويفتحوه على الأفق الكلّي وعلى مفهوم الحياة الكامل، أعني الشركة مع الله، والشركة بين البشر.
الصِيَغ الجماعية للمشاركة
29- إن الشركة الكنسية، الحاضرة والفاعلة في نشاط كل شخص، تجد تجسيدها النوعي في نشاط المؤمنين العلمانيين المشترك، أي النشاط المتضامن، الذي يتم عن طريق المشاركة المسؤولة في حياة الكنيسة ورسالتها.
وقد اتخذت ظاهرة المشاركة بين العلمانيين، في الأزمنة الأخيرة، أشكالاً امتازت بتنوّعها، وتجلّت في حيوية كبرى. وإذا حفل تاريخ الكنيسة بجمعيات متواصلة، تضمّ المؤمنين – يشهد بهذا ما نشاهده في أيامنا، من مختلف الرابطات وجماعات العلمانيين الخاضعين لقانون رهباني (tiers orders والأخويات – فإن هذه الظاهرة حققت، في عصرنا انطلاقةً خاصة. فقد رأينا التجمعات تنشأ وتنتشر بأشكال مختلفة، كالجمعيات والرابطات والجماعات والحركات. ويمكن القول إننا نواجه موسماً جديداً لتجمّع المؤمنين العلمانيين. “لقد نبتت فعلاً بجوار التجمعات التقليدية، وأحياناً على جذورها ذاتها، حراكات وتجمّعات جديدة، ذات وجهٍ وهدف نوعيين. وبقدر ما تكون ثروات الروح القدس متوفرة ومتنوعة في النسيج الكنسي، تتوفر كذلك قدرة العلمانيين على المبادرة، وسخاؤهم” (105).
وغالباً ما تبدو تجمّعات العلمانيين مختلفة جداً في ما بينها، من أوجهٍ عدة، من جهة شكلها الخارجي مثلاً، أو من جهة توجّهاتها، وأساليبها في توجيه المنتسبين إليها، أو حقول نشاطها. إلاّ أننا نتبيّن خطوط تقاربٍ، عريضة وعميقة، بالنسبة إلى الهدف الذي تُجمع عليه، وهو المشاركة المسؤولة في رسالة الكنيسة، الرامية إلى إعلان إنجيل المسيح، بصفته مصدر رجاءٍ للإنسان وتجديد للمجتمع.
إن تجمع المؤمنين العلمانيين، بدوافع روحية ورسولية ناجم عن مصادر عدّة، ويستجيب لدواعي مختلفة. إنه تجسيد لطبيعة الشخص الاجتماعية، وتلبية لحاجة في نفسه، تدعوه إلى فعالية أكثر شمولاً ونفاذاً. إن التفاعل “الثقافي” مصدر كل تحوّل في البيئة والمجتمع، وحافزه، وكذلك ثمرته وعلامته، لا يمكن أن يتحقق، في الواقع، عَبْر نشاط أشخاص منفردين، بقدر ما يتحقق من خلال نشاط “ذات اجتماعية” أي جماعةٍ وتجمّعٍ ورابطةٍ وحركة. وهذا صحيح، لا سيما في إطار مجتمع تعددي ومجزأ – كما هو اليوم، في كثير من بلاد العالم – وفي مواجهة قضايا أصبحت معقدة إلى حد بعيد وصعبة. ثم إن أشكال التجمّع المختلفة، لا سيما في عالمٍ مُتَعَلْمِن، يمكن أن توفر للعديد من الناس مساعدة ثمينة، ليحيوا حياةً مسيحية تَفي بمتطلبات الإنجيل، ولِيَلتزموا بالعمل الرسولي والإرسالي.
وهناك الحافز الأعمق، ذو الطابع اللاهوتي، الذي يتجاوز ما ذكرنا من حوافز، ويبرر تجمّع المؤمنين العلمانيين، بل ويفرضه. إنّه حافر إكسيولوجي، على حد ما صرّح به المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي رأى في الرسالة الجماعية “علامة الشركة الكنسية ووحدة الكنيسة في المسيح” (106).
إن هذه العلامة يجب أن تتجلى في علاقات الشركة، داخل مختلف الجماعات، على اختلاف أشكالها، كما في خارجها، ضمن إطار الجماعة المسيحية الواسع.
إن الحافز الإكلسيولوجي بالذات، الذي أتينا على ذكره، يبرر، من جهة، “حق” المؤمنين العلمانيين في إنشاء التجمعات، ومن جهة أخرى، ضرورة وجود “مقاييس” تمييز، للتحقق من أن التجمعات، في هذا الشكل أو ذاك، تتمتع بالأصالة الكنسية.
ويجب الإقرار أولاً بحرية المؤمنين العلمانيين في إنشاء تجمعات كنسية. وتعني هذه الحرية، بحصر المعنى، حقاً صحيحاً، ناجماً، ليس عن تنازلٍ ما من قِبَل السلطة، بل عن العماد الذي يدعو المؤمنين العلمانيين، بصفته سراً، إلى مشاركة فعالة في شركة الكنيسة وفي رسالتها. وقد أشار العلمانيين، بعد التَثَبُّت من ارتباطهم الضروري بالسلطة الكنسية، يحق لهم إنشاء الجمعيات وإدارتها، والالتحاق بالجمعيات الموجودة” (107). ويؤكد الحق القانوني “أن للمؤمنين الحق في إنشاء الجمعيات الخيرية أو التقويّة، أو تلك التي ترمي إلى نشر الدعوة المسيحية في العالم، كما أن لهم الحق في إدارة هذه الجمعيات بحرّية. ويحق لهم كذلك أن يعقدوا الاجتماعات، ليواصلوا العمل معاً على تحقيق هذه الأهداف” (108).
والمقصود هنا هو الحرية المعترَف بها، والمكفولة من السلطة الكنسية. وانطلاقاً من ذلك، يصبح حق المؤمنين العلمانيين في التجمّع مرتبطاً أساساً بحياة الشركة، وبرسالة الكنيسة ذاتها.
مقاييس انتساب تجمعات المؤمنين إلى الكنيسة
30- علينا أن نتفهّم ضرورة وجود مقاييس واضحة ودقيقة لتمييز تجمعات العلمانيين والتعرف عليها، لا من باب التعرض لحرية التجمع، بل من منظور الشركة ورسالة الكنيسة. وهذه المقاييس تُدْعى “مقاييس انتساب التجمعات إلى الكنيسة”.
ومن بين المقاييس الأساسية، التي تساعدنا على تمييز أي تجمع للمؤمنين العلمانيين من حيث انتماؤه إلى الكنيسة، تتوقف عند التالية، معتبرين إياها وحدةً لا تتجزلأ:
– انبثاق التجمع، في الدرجة الأولى، عن دعوة كل مسيحي إلى القداسة. وهذا يتجلّى “من خلال ثمار النعمة التي يُحْدِثُها الروح في المؤمنين” (109) والتي ترتقي بهم إلى ملء الحياة المسيحية وكمال المحبة (110). ومن هذه الزاوية، يكون كل تجمع للمؤمنين والعلمانيين (111). مدعواً ليكون أكثر فأكثر وسيلة للتقديس في إطار الكنيسة، أي وسيلةً تساعد أعضاء التجمع وتحفزهم على تحقيق “اتحادٍ أوثق بين واقع حياتهم وإيمانهم”.
– التزام التجمع بالمجاهرة بالإيمان الكاثوليكي، عن طريق تقبّل الحقيقة، في ما يتعلق بالمسيح والكنيسة والإنسان، وإعلان هذه الحقيقة، وفقاً لتعليم الكنيسة، التي تملك أن تفسره تفسيراً صحيحاً. ويتوجب على كل تجمع للمؤمنين العلمانيين أن يكون مَوْقِعاً لإعلان الإيمان، وطَرْحِه وتوجيه الناس على أساسه، وفي كل محتواه.
– الشهادة للشركة الكنسية، المؤسسة على يقين راسخ وقوي، والمقترنة بعلاقة بنوية بأسقف روما، مركز الوحدة الكنسية الجامعة، الدائم والمنظور (112)، ومع الأسقف المحلي “مصدر وحدة الكنيسة الخاصة المنظور، وأساسها” (113) فضلاً عن “التقدير المتبادل لجميع أشكال الرسالة في الكنيسة”(114)
وتتجسد الشركة مع أسقف روما، والأسقف المحلي، في الاستعداد الصادق لقبول تعاليمهما العقائدية، وتوجيهاتهما الرعوية. وعلاوةً على ما ذكرنا، تفرض الشركة الكنسية الاعتراف بتعددية المؤمنين العلمانيين الشرعية في الكنيسة، كما تفرض الاستعداد للتعاون المتبادل.
– تبَنّي هدف الكنيسة الرسولي، والتعاون لتحقيق هذا الهدف، وهو “التبشير بالإنجيل، وتقديس البشر، وتأمين التثقيف المسيحي لضمائرهم، وتأهيلهم بالتالي لِبَثّ روح الإنجيل في مختلف الجماعات والأوساط” (115).
ومن هذا المنظور، يُطلَب من تجمعات المؤمنين العلمانيين، على اختلاف أشكالها، ومن كل واحد منها، أن تُنعش فيها روحاً تبشيرية وثّابة، تجعل منها أدوت تبشير بالإنجيل جديد، تزداد فاعلية مع الأيام.
– الالتزام بحضور في المجتمع البشري، يُتيح للتجمعات أن تكون في خدمة الكرامة الإنسانية الكاملة، في مفهومها الذي حدّدته عقيدة الكنيسة الاجتماعية.
بناءً على هذا، يجب أن تُصبح تجمعات المؤمنين العلمانيين تيارات مشاركة وتعاون حية، لتُحدث في قلب المجتمع أوضاعاً أكثر عدالة وأوفر إخاء.
إن المقاييس الأساسية، التي عرضناها، تتحقق عَبْر الثمار الملموسة، التي تظهر آثارها في حياة الجمعيات، على اختلاف أشكالها، وفي نشاطاتها، وبالأخص عَبْر تَذَوّقٍ متجددٍ للصلاة والتأمل والحياة الليتورجيّة وممارسة الأسرار الإلهية، فضلاً عن مساعدة الناس على وَعْي ومفهوم الدعوة إلى الزواج المسيحي، وإلى كهنوت الخدمة، وإلى الحياة المكرّسة، والاستعداد للمشاركة في برامج الكنيسة ونشاطاتها، سواءٌ على الصعيد الوطني، أو على الصعيد الدولي، والالتزام بالتعليم الديني والتأهيل التربوي للتنشئة المسيحية، والغيرة على تأمين الحضور المسيحي في الحياة الاجتماعية، على اختلاف بيئاتها، واستحداث نشاطات خيرية وثقافية وروحية، والعمل على إنعاشها، وروح التجرّد والفقر الإنجيلي، في سبيل محبةٍ للجميع أكثر سخاءً، والاهتداء إلى الحياة المسيحية، وعودة المعمَّدين “البعيدين” إلى الشركة.
خدمات الرعاة في سبيل الشركة
31- إن صادفت بعض أشكال التجمع صعوبات يمكن تبريرها، وحاولَت أشكال أخرى جديدة فرض ذاتها، لا يحق لرعاة الكنيسة أن يتخلّوا عن ممارسة سلطتهم، ليس فقط لخير الكنيسة، بل لخير تجمعات العلمانيين ذاتها. وعليهم أن يُضيفوا إلى مهمة التمييز، التي يضطلعون بها، مجهوداً لتوجيه نموّ تجمعات المؤمنين العلمانيين، ضمن شركة الكنيسة ورسالتها، ولا سيما لتشجيعها.
وإنه لَمِنَ الملائم جداً أن تُصادق السلطة الكنسية المختصة، رسمياً وبصراحة، على بعض التجمعات والحركات الجديدة، لا سيما أنها انتشرت على الصعيد الوطني في الغالب، وعلى الصعيد الدولي. وفي هذا الاتجاه، أكّد المجمع الفاتيكاني الثاني “أن الروابط بين رسالة العلمانيين والسلطة الكنسية يمكن أن تختلف، في نَمَطها، باختلاف أشكال هذه الرسالة وأهدافها….إن السلطة الكنسية قد صادقت صراحة، وفي الواقع، بأسلوب أو بآخر، على بعض أشكال رسالة العلمانيين. وعلاوةً على ذلك، يمكن أن تختار السلطة الكنسية وأن تعزز، بصفة خاصة، بعض الجمعيات والمؤسسات الرسولية، التي تستهدف مباشرةً الخير الروحي، وأن تضطلع، بالنسبة إليها، بمسؤولية مميزة، وذلك تجاوباً مع مقتضيات خير الكنيسة العام” (116).
ومن بين أشكال رسالة العلمانيين المختلفة، التي لها علاقة خاصة بالسلطة الكنسية، لَفَت آباء مجمع الأساقفة النظر بصراحة إلى بعض حركات “العمل الكاثوليكي” وتجمعاته، التي “يشارك فيها العلمانيون بحرية، وبطريقة عُضوية وثابتة، بدَفع من الروح القدس، وفي شركةٍ مع الأسقف والكهنة، ليتمكنوا من العمل، بالأسلوب الأكثر ملاءَمةً لدعوتهم، وبطريقة خاصة، على إشراك الجماعة المسيحية كلها في النشاطات الرعوية، وفي إنعاش جميع القطاعات الحياتية، بروح الإنجيل، بأمانة وغيرة” (117).
وقد كُلّف مجلس العلمانيين الباباوي بتحضير كشفٍ بالجمعيات التي تحظى بمصادقة كرسي روما الرسولي الرسمية. كما كُلِّف بأن يحدد، بالاشتراك مع أمانة سر الوحدة المسيحية، الشروط الواجب توفّرها للمصادقة على جمعية مسكونية، ذات أكثرية كاثوليكية، وأقلية غير كاثوليكية. وعلى المجلس المذكور أن يحدد كذلك الحالات التي لا يمكن إعطاء رأي إيجابي بشأنها(118).
وجميعنا، رعاةً ومؤمنين، مُلزَمون بأن نشجع باستمرار إقامة روابط وعلاقات أخوية، بين مختلف الجمعيات العلمانية، تتّسم بالتقدير والمودّة والتعاون المتبادل. بهذا الأسلوب وحده، يُتاح لثروة العطايا والمواهب، التي يَمَنّ بها الرب علينا، أن تُسهم إسهاماً مثمراً ومنظَّماً في بناء البيت المشترك: “إذا شئنا أن نبني معاً البيت المشترك، يجب التخلّي تماماً عن روح الخصومة والجَدَل، بحيث يقترن التنافس بالأحرى بالتقدير المتبادل (رو12/10) كما يجب الاهتمام بإظهار المحبة والرغبة في التعاون، مع التزام الصبر، وبُعد النظر، والاستعداد للتضحية التي يستوجبها ذلك” (119).
ولْنَعُد الآن مرة أخرى إلى ما قاله يسوع: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان” (يو15/5). لنشكر الله على هبة الشركة الكنسية العظمى، التي هي انعكاس، في الزمن، لشركة المحبة الأزلية وغير الموصوفة، القائمة في الله الواحد والثالوث. إنّ وَعْي عظمة هذه الهبة يجب أن يقترن بإحساسٍ مُرْهَف جداً بالمسؤولية: إن هذه الهبة، شأنها شأن الوزنة الإنجيلية، يجب أن تتحول إلى شركة حياة متنامية.
إن المسؤولية عن هبة الشركة هذه، تعني أولاً الالتزام بالتغلب على كل تجربة، تهدف إلى الانقسام والتخاصُم، وتهدد بالحياة المسيحية والالتزام الرسولي. وإن صيحة الألم وخيبة الأمل، التي أطلقها بولس الرسول: “بَلَغني أن كلاّ منكم يقول: أنا لبولس وأنا لأبُلُس، أو أنا لكيفا أو أنا للمسيح. ألعلَّ المسيح قد تجزأ” (1كو 12و13) إن هذه الصيحة لا تزال تدوّي، وكأنها تعنيفٌ في مواجهة “تَمَزّق جسد المسيح”، فيما تَرِنُّ كنداءٍ يتوسل الإقناع، كلمات الرسول الأخرى: “أرجو منكم، أيها الإخوة، باسم ربنا يسوع المسيح، أن تقولوا جميعكم قولاً واحداً، وألاّ يكون بينكم شقاق، بل تكونوا ملتئمين بفكرٍ واحد ورأي واحد” (1كو 1/10).
هكذا تُصبح الشركة الكنسية “علامةً” للعالم و”قوةً” جذابة، تقود إلى الإيمان بالمسيح: “كما أنك أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا، لكي يؤمن العالم أنك أنت أرسلتني” (يو17/21). وبهذا تنفتح الشركة على الرسالة، بل تُصبح هي الرسالة.
الفصل الثالث
أقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمار
مشاركة المؤمنين العلمانيين في مسؤولية
الكنيسة – الرسالة
الشركة الإرسالية:
32- لِنَعُد إلى مَثَل الكرمة والأغصان، كما جاء في الكتاب، فإنه يقودنا، بصفة مباشرة وطبيعية إلى التأمل في الخِصْب والحياة. إن الأغصان المتأصّلة في الكرمة، والتي تستمد منها الحياة، مدعوّة لأن تأتي بثمر: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان. كل غصن يثبت فيّ، وأنا فيه، يأتي بثمر كثير” (يو15: 5). إن من مقتضيات الحياة المسيحية والكنسية أن تأتي بثمر. ومَن لا يأتي بثمر لا يبقى في الشركة: “كل غصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه (أبي)” (يو15: 2).
إن الشركة مع يسوع، التي تنجم عنها شركة المسيحيين في ما بينهم، لا غنىً عنها مطلقاً لمن يريد أن يأتي بثمر: “إنكم بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً” (يو15: 5) والشركة مع الآخرين أجمل ثمر يمكن أن تعطيه الأغصان. فهي هبة من المسيح ومن روحه.
والحال أن الشركة توّلد الشركة، وتتجلّى أساساً كشركةٍ إرسالية. فيسوع يقول لتلاميذه: “لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم، وأطلقتكم لتأتوا بأثمار، وتدوم أثماركم” (يو 15/16).
فالشركة والرسالة مرتبطان إذن في العمق. إنهما تتدخلان، وتستتبع كل منهما الأخرى، إلى حد أن الشركة تمثل منبع الرسالة وثمرتها معاً: فالشركة إرسالية، والرسالة تهدف إلى الشركة. هو الروح ذاته دائماً، يدعو الكنيسة ويوحّدها ويرسلها لتبشر بالإنجيل “إلى أقصى الأرض”. (أع 1/8) وتعرف الكنيسة، من جهتها، أن الشركة، التي تقبَّلتها كهبة، معدّة لتشمل البشر جميعاً. ولهذا تشعر بأنها مدينة للبشرية كلها، ولكل إنسان، بهذه الهبة التي تسلّمتها من الروح القدس الباعث في قلوب المؤمنين محبة يسوع المسيح، والتي هي، في ذات الوقت، قوة تماسكٍ داخلي وانتشار في الخارج. ورسالة الكنيسة مستمدّة من طبيعتها ذاتها، كما أرادها المسيح: أي أن تكون، في آنٍ، “علامة وحدة الجنس البشري بأجمعه، والوسيلة لتحقيق هذه الوحدة” (120) وهدف هذه الرسالة هو التبشير بالشركة “الجديدة” التي اندرجت في تاريخ العالم، بواسطة ابن الله المتجسد، وحَمْلُ البشر جميعاً على أن يعيشوا هذه الشركة.
وبهذا المعنى تُحدد شهادة الإنجيليّ يوحنا، نهائياً، الغاية التي ترمي إليها رسالة الكنيسة بكاملها: “الذي رأيناه وسمعناه به نبشركم، لتكون لكم أيضاً شركة معنا” (1يو1/3).
والحال أن الرب، في إطار رسالة الكنيسة، يكِل إلى المؤمنين العلمانيين، الذين هم في حالة شركة مع سائر أفراد شعب الله، قسطاً كبيراً من المسؤولية. وقد وَعى هذا الأمر آباء المجمع الفاتيكاني الثاني، إذ أكّدوا “أن الرعاة يدركون جيداً أهمية مشاركة العلمانيين في ما يعود بالخير على الكنيسة كلها. إنهم يدركون أن المسيح لم يُقمهم رعاةً ليضطلعوا وحدهم بكامل رسالة الكنيسة تجاه العالم، إذ إن مهمتهم العظيمة تقوم على تأدية رسالتهم الرعوية تجاه المؤمنين، والاعتراف بالخدمات المنوطة بهؤلاء المؤمنين، والنِعَم الخاصة بهم، بحيث يُتاح للجميع أن يسهموا، كلٌّ بطريقته، وبوحدة الروح، في العمل المشترك” (121) وقد عبّر الآباء تكراراً عن اقتناعهم بهذا الأمر، بوضوح وقوة متجددين، عبر أعمال المجمع كلها.
التبشير بالإنجيل
33- إن على المؤمنين العلمانيين، بصفتهم أعضاء في الكنيسة، أن يبشروا بالإنجيل: تلك هي دعوتهم ورسالتهم، فأسرار التنشئة المسيحية، ومواهب الروح القدس تؤهلهم لهذا العمل وتُلزمهم به.
ويجدر بنا أن نورد، في ما يلي، نصاً واضحاً ومكثفاً للمجمع الفاتيكاني الثاني: “إن العلمانيين، بمشاركتهم المسيح في وظيفته، ككاهنٍ ونبي وملك، يلعبون دوراً فاعلاً في حياة الكنيسة ونشاطها… وإذ يتغذون بمشاركتهم النشيطة في حياة جماعتهم الليتورجية، يُسهمون بغيرةٍ في نشاطاتها الرسولية، ويوجّهون إلى الكنيسة أُناساً ربما كانوا بعيدين عنها جداً، ويشاركون بحرارةٍ في نشر كلمة الله، لا سيما عن طريق التعليم الديني. إنهم، إذ يستعينون بكفاءاتهم، يجعلون خدمة النفوس، وإدارة أموال الكنيسة أكثر فاعلية” (122).
والحال أن رسالة الكنيسة تَتَمحور كلها حول التبشير بالإنجيل، وتنتشر عبر هذا التبشير. وتواصل هذه الرسالة مسيرتها بِدَفْعٍ من نعمة يسوع المسيح ووصيّته القائلة: “اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها” (مر16/15) “وها أنا معكم كل الأيام، وإلى منتهى الدهر” (متى28/ 20). “والتبشير بالإنجيل، على حد قول البابا بولس السادس، هو النعمة الموهوبة للكنيسة، ودعوتها الخاصة، وهو يحدد هويتها في العمق” (123).
وبالتبشير بالإنجيل تبني الكنيسة ذاتها، وتتكون كجماعةٍ تُعلن إيمانها من خلال التزامها بكلمة الله، التي تحتفل بها في أسرارها المقدسة وتحياها بالمحبة، التي هي بمثابة روح الوجود المسيحي الأدبي. وهَدَف “البشرى” هو أن توقظ في قلب الإنسان روح التوبة، والتعلق الشخصي بيسوع المسيح، المخلص والرب. إنها تُعِدّه للمعمودية ولسر الافخارستيا، وتتوطد عبر تصميم المؤمن على أن يحيا الحياة الجديدة بالروح، والاضطلاع الفعلي بهذه الحياة.
وإنه لَمِن المؤكد أن وصية يسوع: “اذهبوا وبشروا بالإنجيل” تحتفظ دائماً بقيمتها حية، وتفرض ذاته بإلحاحٍ لا يضعف. إلاّ أن الوضع الحالي، ليس في العالم فحسب، بل في قطاعاتٍ كنسية عديدة أيضاً، يتطلب حتماً تلبيةً عاجلةً وسخية لنداء المسيح، الموجَّه شخصياً إلى كل تلميذ. ولا يجوز لأحد أن يرفض التجاوب شخصياً مع هذا النداء: “الويل لي إن لم أبشر بالإنجيل” ( 1كو9/16).
قد أزفت الساعة للشروع في تبشيرٍ بالإنجيل جديد
34- إن الحياة المسيحية كانت سابقاً، في بلدانٍ وأمم بأسرها، مزدهرة وجديرة بأن تُبرز إلى الوجود جماعا إيمانٍ حي وفاعل. وها هي الآن في محنة، بل إنها قد تبدَّلت جذرياً في بعض الأحيان، بسبب انتشار اللامبالاة الدينية ، والدَنْيَوة (أي العلمانية) والإلحاد، وبالأخص في البلدان والأمم الملقََّبة بالعالم الأول (أي الراقي) حيث الرفاهية الاقتصادية، والسباق إلى الاستهلاك، يدفعان الناس إلى أن يعيشوا “وكأن الله غير موجود” ويغذّيان فيهم هذه النزعة فيما يُحاذون أوضاعاً مخيفة، يسودها الفقر والبؤس. وإن اللامبالاة الدينية، وإلغاءَ الدور الإلهي تماماً في مواجهة مشكلات الحياة الخطيرة، ليسا أقل إقلاقاً وبلاءً من الإلحاد المُعْلن. وإذا كان الإيمان المسيحي لا يزال حياً في بعض مظاهره التقليدية والطقسية، فإن هناك نزعةً إلى انتزاعه من الوجود، في أكثر فترات الحياة أهمية، كفترات الولادة والألم والموت. وهذا مصدر التساؤلات والألغاز الرهيبة التي لا بد أن تطرح نفسها، وليس من يُجيب علها. وهذا ما يعرّض إنسان اليوم لخيبة الأمل اليائسة، أو يُغريه بوضع حدٍ للحياة ذاتها التي تطرح مثل هذه التساؤلات.
وعلى عكس ذلك، هناك بلدان وأمم أخرى، لا تزال التقوى والحِسّ الديني فيها مَصونَيْن، عبر الكثير من التقاليد الحية جداً. لكن هذا التراث الأخلاقي والروحي مهدَّد بالزوال، هو أيضاً، تحت ضغط مؤثرات عديدة، لا سيما الدَنْيَوة (secularization) وانتشار البدع. وحده تبشيرٌ بالإنجيل متجدد يستطيع أن يؤمّن نموَّ إيمان واضح وعميق، مؤَهَّل لإيلاء هذه التقاليد قدرة على التحرير الصحيح.
لا شك أنه من المُلِحْ، في كل مكان، إعادة اللحمة المسيحية إلى المجتمع البشري. وهذا لن يتم ما لم نُعِد اللحمة المسيحية إلى الجمعيات الكنسية ذاتها، المتواجدة في هذه البلاد وهذه الأمم.
إن المؤمنين العلمانيين ملتزمون اليوم تماماً بهذه المهمة الكنسية، بصفتهم مشاركين في مهمة المسيح النبوية. وعليهم بنوعٍ خاص أن يشهدوا بأن الإيمان وحده يستطيع أن يقدّم للمشاكل والآمال، التي تثيرها الحياة في كل إنسان وكل مجتمع، الحلول الصالحة، التي يستشفّها الجميع، ويتوقون إليها بِوَعي متفاوت. وهذا ممكن إذا عرف المؤمنون العلمانيون كيف يتغلّبون على الانشقاق القائم في نفوسهم، بين الإنجيل وواقع الحياة، وكيف يحققون، في نشاطهم اليومي، في مجالات الأسرة والعمل والمجتمع، وحدة حياةٍ، تستلهم الإنجيل وتستمد منه قوةً لتحقيق ذاتها على أكمل وجه.
إنّي أكرر، لجميع أبناء هذا العصر، النداء المدوّي، الذي افتتحت به خدمتي الرعوية: “لا تخافوا! افتحوا أبوابكم للمسيح على مصراعيها! افتحوا لقدرته المخلِّصة حدود بلادكم، وأنظمتكم الاقتصادية والسياسية، وحقول الثقافة والحضارة والتنمية الواسعة. لا تخافوا! إن المسيح “يعرف ما في الإنسان”. هو وحده يعرف. والإنسان غالباً ما لا يغرف، في أيامنا، ما يحمله في داخله، في قرارة نفسه وفي أعماق قلبه. ولهذا كثيراً ما يشكّ في معنى وجوده على هذه الأرض. يُساوره الشك الذي يتحوّل إلى يأس. أرجو منك، بل أناشدكم، بكل تواضع وثقة، أن تسمحوا للمسيح بالتحدّث إلى الإنسان. هو وحده، عنده كلام الحياة، نَعَم، الحياة الأبدية” (124).
ليس ما يهدّد الإنسان في فَتْح الأبواب على مصاريعها للمسيح، وقبوله في حيّز حياتنا البشرية الخاصة. بل هذا هو، على عكس ذلك، الطريق الوحيد، الواجب سلوكه، إذا أردنا أن نتعرّف على حقيقة الإنسان الكاملة، ونعزّز ما فيه من قِيَم.
إن الالتحام الحَيوي، الذي يقيمه المؤمنون العلمانيون بين الإنجيل وواجبات الحياة اليومية، هو الشهادة الأوفر جمالاً، والأكثر إقناعاً بأن السَعْي إلى المسيح والتعلّق به، لا الخوف. منه، هما العامل الحاسم لجعل الإنسان يعيش ويكبر، ولِخَلْق أنماط حياة جديدة أكثر لياقةً بالكرامة البشرية.
الإنسان محبوب من الله! تلك هي البُشرى البسيطة والمثيرة معاً، التي يتوجّب على الكنيسة أن تقدّمها إلى الإنسان. ويستطيع كل مسيحي، بل يجب عليه، من خلال كلامه وحياته، أن يُعطي صدىً بعيداً لرسالة الكنيسة هذه: الله يحبك! من أجلك جاء المسيح، ولأجلك هو “الطريق والحق والحياة” (يو14/6).
إن هذه البُشرى الإنجيلية، الموجَّهة ليس فقط إلى كل شخص بمفرده، بل إلى جماعات الشعوب بأسرها، على اختلاف أوضاعها وأوساطها وثقافاتها، هي مُعَدَّة لتكوين شركات كنسية ناضجة، ينتشر فيها الإيمان، ويحقق مضمونه الأصلي، القائم على الالتصاق بشخص المسيح، والالتزام بإنجيله، وإقامة شركةٍ سريّة معه، والعيش في المحبة والخدمة.
وللمؤمنين العلمانيين “دورهم في تكوين هذه الجماعات الكنسية، ليس فقط عن طريق المشاركة الفاعلة والمسؤولة في حياة الجماعة، وإعطاء الشهادة التي لا بديل عنها، عَبْر هذه المشاركة، بل بالانطلاق أيضاً في النشاط الإرسالي، باتجاه جميع الذين لم ينالوا بعد الإيمان، أو الذين لا يطبّقون حياتهم على الإيمان، الذي أُعطي لهم بالعماد.
وعلى المؤمنين العلمانيين أن يقدّموا للأجيال الجديدة إسهامهم القيّم والواجب الأداء، أكثر منه في أي يوم مضى، عن طريق بذل جهدٍ منظَّم في حقل التعليم الديني. وقد شكر آباء مجمع الأساقفة للقيّمين على العليم الديني جهودهم، معترفين بأنهم يقومون “بمهمة قيّمة جداً، من خلال إنعاش الجماعات الكنسية” (125). ومن البديهي أن الوالدين المسيحيين هم، بالنسبة إلى أولادهم، معلّمو الدين الأولون، الذين لا بديل عنهم، لأن سر الزواج، الذي قبلوه، أهّلهم للقيام بهذه المهمة. لكن علينا جميعاً أن نقتنع، في ذات الوقت، “بحق” كل معمَّد في أن يُلَقَّن الإيمان والحياة المسيحية، وأن يُرَبّى على أساسهما، وأن يجد إلى جانبه من يساعده على استيعابهما.
اذهبوا إلى العالم أجمع
35- إن الكنيسة، التي تلاحظ اليوم وتُعاني الحاجة الملحّة إلى تبشيرٍ بالإنجيل متجدد. لا يمكن أن تتغاضى عن رسالتها الدائمة، القاضية بحمل الإنجيل إلى جميع الذين لا يعرفون بعدُ المسيح فادي الإنسان، وهم الملايين الكثيرة من الرجال والنساء. تلك هي المهمة الإرسالية الأخص، التي وَكَلها يسوع إلى كنيسته، ولا يزال يكِلُها إليها في كل يوم.
إن نشاط المؤمنين العلمانيين، الذي لم يتوقف قط في هذا المجال، يبدو اليوم ضرورياً أكثر فأكر، وذات قيمة أكبر. إن أمر الرب: “اذهبوا إلى العالم أجمع” لا يزال، في الواقع، يجد لدى الكثيرين من العلمانيين الأسخياء، استعداداً لِترك بيئتهم وعملهم، ومقاطعتهم ووطنهم، ليتوجهوا إلى بلاد الإرساليات وليعملوا فيها، أقلّه لفترةٍ معينة. بل إن أزواجاً مسيحيين، إذ يحذون حذو أكيلا وبرِسكلة (أع 18 وروم 16/3)، يقدّمون شهادةً معزّية لمحبة المسيح والكنيسة المضطرمة، بحضورهم الفاعل في تلك البلاد. وهناك حضور إرساليّ صحيح آخر، هو حضور عدد من المسيحيين، الذين يعيشون، لدواعي مختلفة، في بلادٍ أو في أوساطٍ لم تُنشأ الكنيسة بعدُ فيها، ويشهدون لإيمانهم الخاص.
لكنّ القضية الإرسالية، التي تواجهها الكنيسة في أيامنا، هي من الضخامة والخطورة بحيث لا أمل في إيجاد علاج ناجع لها، ما لم يضطلع بمسؤولياتها حقاً جميع أعضاء الكنيسة، أفراداً أو جماعات.
إن نداء المجمع الفاتيكاني الثاني، الموجَّه إلى الكنائس الخاصة، لم يفقد شيئاً من أهميته. بل إنه يتطلب اليوم تجاوباً أكثر شمولاً وتصميماً: “بما أن الكنيسة الخاصة مُلزَمة بأن تمثل الكنيسة الجامعة أفضل تمثيل، عليها أن تَعي بوضوح أنها أُرسِلت كذلك إلى من لا يؤمنون بالمسيح” (126).
ويتوجّب اليوم على الكنيسة أن تخطو خطوة كبرى إلى الأمام، في طريق التبشير بالإنجيل، وأن تُدخل ديناميتها الإرسالية في مرحلة تاريخية جديدة. إننا اليوم في عالمٍ أُلغِيت فيه المسافات، وصَغُرَ حجمه، ويتحتّم على الجماعات الكنسية أن تتحد فيما بينها، وأن تتبادل طاقاتها ووسائل نشاطها، وأن تلتزم معاً برسالة التبشير بالإنجيل وعَيْشَه. وهي رسالة فريدة ومشتركة. وقد جاء في بيان مجمع الأساقفة أن “الكنائس المدعوّة الناشئة تحتاج إلى طاقة الكنائس القديمة، كما تحتاج الأخيرة إلى شهادة الكنائس الناشئة وانطلاقتها. ولكل كنيسة أن تغرف من ثروات الكنائس الأخرى” (127).
إن قضية تدريب علمانيين ناضجين، ومُتحلّين بروح المسؤولية، فضلاً عن تدريب الإكليروس المحلي، تُطْرَح في الكنائس الناشئة كعاملٍ أساسي لا غنىً عنه، في ترسيخ الوجود الكنسي (128). وهكذا تنطلق الجماعات المبشَّرة ذاتها في اتجاه بلاد جديدة، في أنحاء العالم، لتؤدي بدورها رسالة التبشير بإنجيل المسيح، والشهادة له.
ويستطيع المؤمنون العلمانيون، من خلال حياتهم المثالية ونشاطاتهم، أن يحسّنوا العلاقات بين أتباع الديانات المختلفة. وقد أصابَ آباء مجمع الأساقفة حين ألمحوا إلى هذا الموضوع، قائلين “إن الكنيسة تعيش اليوم، حيثما وُجِدَت، بين أناس يمارسون مختلف الديانات. .. وجميع العلمانيين، لا سيما الذين يعيشون بين شعوب تنتمي إلى ديانات مختلفة، يجب عليهم، سواء كانوا في بلدهم الأصلي، أو في بلدٍ هاجروا إليه، أن يكونوا، لسكان هذا البلد، علامة حضور الرب وكنيسته، بالأسلوب الذي يلائم ظروف الحياة في كل بلدٍ. إن الحوار بين الديانات هو في المرتبة الأولى من الأهمية، لأنه يقود إلى المحبة والاحترام المتبادل. كما يقضي على الأحكام المُسْبَقة التي يتبادلها أتباع الديانات المختلفة، أو يخفف، على الأقل، من حدّتها، فيما يُعزّز الوحدة والصداقة بين الشعوب” (129).
ويقضي تبشير الشعوب بالإنجيل أولاً بتَوَفُّر الرُسُل. وفي هذا السبيل، يتوجب علينا جميعاً، بدْءاً بالأسرات المسيحية، الشعور بمسؤوليتنا عن تشجيع نشأة دعوات إرسالية، بنوع خاص، سواء كانت كهنوتية أو رهبانية أو علمانية، وإنضاجها، مستعينين بكل الوسائل المؤاتية، غير مهملين الوسيلة المفضَّلة، أعني بها الصلاة التي أوصانا بها الرب يسوع: “‘ن الحصاد كثير، أما الفعلة فقليلون. فاسألوا ربّ الحصاد أن يُرسل فَعَلةً لحصاده” (متى9/37و 38).
لِنَعِش الإنجيل في خدمة الأشخاص والمجتمع
36- إن الكنيسة، إذ تتقبل الإنجيل، وتُعلِنه بقوة الروح، تصبح جماعةً مبشَّرة ومبشِّرة. وبهذا تجعل من نفسها خادمة البشر. ففي داخلها يشارك المؤمنون العلمانيون في رسالة خدمة الشخص والمجتمع. صحيحُ أن غاية الكنيسة الأخيرة هي ملكوت الله “الذي تُشكّل الكنيسة على الأرض أصلَه وبدايته” (130) وهي، بذات الفعل، مكرَّسة تماماً لتمجيد الآب، لكنّ الملكوت هو مصدر تحرير تام، وخلاصٍ كامل للبشر. وعليه فإن الكنيسة ترافق البشر في مسيرتهم، وتعيش في تضامنٍ كامل ووثيق مع تاريخهم.
ولما كانت مهمة إظهار سر الله، المتجلي في يسوع المسيح للعالم، قد أُنيطت بالكنيسة، فإن هذه، في الوقت عينه، تُعلن الإنسان للإنسان نفسه. إنها تكشف له عن معنى وجوده، وتُوَعّيه على الحقيقة الكاملة، المتعلقة بكيانه وبمصيره (131). فالكنيسة إذن، من هذا المنظور، مدعوة لخدمة الإنسان، انطلاقاً من رسالتها التبشيرية. وهذه الخدمة متأصّلة أولاً في هذا الواقع العجيب والمذهل: وهو “أنّ ابن الله، بتجسّده، قد اتّحد هو نفسه، على وجهٍ ما، بكل إنسان” (132).
ولهذا فإن الإنسان هو “السبيل الأول، الذي يجب أن تَعْبُرَ الكنيسة من خلاله، إلى القيام برسالتها. إنه سبيل الكنيسة، الأول والأساسي، الذي رَسَمَه المسيح، والذي يمرّ بِسِرَّي التجسد والفداء” (133).
وبهذا المعنى بالذات، تحدّث المجمع الفاتيكاني الثاني في وثائقه المختلفة، تكراراً وبوضوح وقوة بالِغَيْن. وإليكم النص البعيد المرمى، كما ورد في الدستور المجمعي “فرح ورجاء”: “إن الكنيسة، عندما تسعى لتحقيق هَدَفها الخلاصي، لا تقتصر على إيصال الحياة الإلهية إلى الإنسان، بل تتعدّاه لتنشر أيضاً في العالم كله، وعلى وجهٍ ما، النور الذي تُشِعُّه هذه الحياة الإلهية، لاسيما عن طريق رَأْب ما تصدَّع من كرامة الشخص البشري وتعزيز هذه الكرامة، وتثبيت تلاحم المجتمع، وإضفاء معنى أعمق على نشاط البشر اليومي، الذي توليه الكنيسة مفهوماً أسمى. وهكذا تعتقد الكنيسة أنها تستطيع أن تُسهم إسهاماً واسعاً في “أنْسَنة” الأسرة البشرية وتاريخها أكثر فأكثر، من خلال كل عضوٍ من أعضائها، ومن خلال الجماعة كلها التي تؤلّفها”(134).
وللمؤمنين العلمانيين دور خاص في هذا الإسهام، الذي يعود بالخير على الأسرة البشرية، والذي تضطلع الكنيسة بمسؤوليته، لأنهم يتّسمون “بالطابع العلماني” الذي يُلزمهم بمهمة “إنعاش النظام الزمني بالقيم المسيحية” بأساليب خاصة يستحيل استبدالها.
تعزيز كرامة الشخص
37- اكتشاف كرامة الشخص البشري،التي لا يجوز انتهاكها، ومساعدة الآخرين على اكتشافها: تلك هي المهمّة الأساسية، وعلى وجهٍ ما، المهمة الرئيسة والموحِّدة، التي تلتزم بها الكنيسة، وعَبْرها المؤمنون العلمانيون، ف إطار خدمة الأسرة البشرية التي دُعِيَت إليها.
إن الإنسان وحده، بين جميع المخلوقات الأرضية، “شخصُ وذاتُ واعية وحرّة” وهو بالتالي “محور” كل خلائق الأرض و”قِمَّتها” (135).
إن كرامته كشخص هي خير ما يملكه، وبفضلها يكتسب قيمةً ترفعه فوق مستوى العالم المادي بأسره. لقد قال يسوع: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟” (مر8/36). إن قوله هذا ينطوي على حقيقة أنتروبولوجيّة، جديرة بأن تنير طريقه وتنشّطه، وهي أن قيمة الإنسان لا تُقَدَّر بما يملك – وإن ملك العالم بأسره – بل بما هو، في ذاته.. ولا تعادل خيرات الدنيا الخير الكامن في الإنسان، بصفته شخصاً، هذا الخير الذي هو الشخص بعينه.
وتتجلّى كرامة الشخص، بكل ما فيها من روعة، عندما نتأمل في مصدرها ومصيرها: فالإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، والمفتدى بدم المسيح الثمين للغاية، مدعوّ لأن يكون “ابناً في الابن” وهيكلاً حيّاً للروح، وغايتُه شركة حياة مع الله أبدية. وعليه، فإن كل انتهاك لكرامة الكائن البشري الشخصية، ينادي أمام الله بالثأر، ويُصبح إهانةً لخالق الإنسان.
إن الكائن البشري هو دائماً، وبفضل كرامته الشخصية، قيمةٌ في ذاته، ولأجل ذاته. ومن هذا المنطلق يجب النظر إليه ومعاملته. ولا يجوز، في أيّ حال، أن يُنْظَر إليه، وأن يعامَل كمتاعٍ يُستخدَم، وكأنه أداةٌ وشيء من الأشياء.
وكرامة الإنسان الشخصية هي أساس المساواة بين البشر. وعليه، يتحتَّم رفض كل أشكال التمييز، على اختلافها، وهي للأسف، لا تزال تُمارَس على الأصعدة العنصرية والاقتصادية والاجتماعية والقافية والسياسية والجغرافية إلخ… وهي تمزّق الأسرة البشرية وتُذِلها. إن كل تمييز ينطوي على ظلمٍ لا يُطاق على الإطلاق، ليس فقط بسبب التوتر والشقاقات التي يُحْدِثها في اللُحمة الاجتماعية، بل كذلك، وبالأحرى، بسبب العار الذي يُلحقه بكرامة الشخص، كرامة من يقع ضحية هذا الظلم، وبالأخص كرامة من يرتكبه.
وإذا كانت كرامة الشخص أساس المساواة بين البشر فإنها كذلك أساس المشاركة والتعاون بينهم: لأن أصول الحوار والشركة كامنة، في النهاية، في كونهم “ما هُم” أكثر منها في “ما لهم”.
والكرامة الشخصية مِلْكٌ دائم لكل كائن بشري. وإنه لَمِن الأمور الأساسية أن نتنَبَّه إلى القوة المتفجّرة الكامنة في هذه الحقيقة، التي تقوم على وحدانية الشخص التي لا بديل لها. وينجم عن هذا أن الفرد يقاوم، بطريقة لا تُقهر قطعيّاً، كل محاولة سَحْقٍ وإبادة، تَتَسَتَّر وراء الجماعة والمؤسسة والبنية والنظام. وليس الشخص، في فَرْديته، رقماً من الأرقام، ولا حلقةً في سلسلة، ولا تِرْساً في جهاز. والإعلان، الأكثر فعالية وإثارة، لقيمة كل كائن بشري، صَدَر عن ابن الله بالذات، عندما تجسَّد في أحشاء امرأة. وهذا ما لا ينفكّ يحدّثنا عنه عيد الميلاد (136).
احترام حق الإنسان المنيع في الحياة
38- إن الإقرار العملي بكرامة الكائن البشري الشخصية، يفرض احترام حقوق الشخص البشري، والدفاع عنها وتعزيزها. إنها حقوق طبيعية وشاملة، لا يجوز انتهاكها. ولما كانت صادرة عن الله نفسه، لا يملك أحد، أيّاً كان، أن يبدّلها، وبالأحرى أن يُلغيها، سواء كان فرداً أو جماعة أو سلطة أو دولة.
إن حُرْمة الشخص، التي هي انعكاس لحرمة الله المطلقة، تتجسد أولاً وأساساً في حرمة الحياة البشرية. إنه من الصواب حقاً أن نتحدث عن حقوق الإنسان – كحقّه في الصحة والمسكن والعمل والأسرة والثقافة – لكننا نشيع الضلال والوهم، إذا تحدّثنا عنها، كما يفعلون في غالب الأحيان، بدون أن ندافع، بأقصى ما يمكن من التصلّب، عن “الحق في الحياة” بصفته الحق الأساسي، ومنطلق سائر حقوق الشخص، التي لا وجود لها بدونه.
إن الكنيسة لم توافق، في يومٍ من الأيام، على الانتهاكات الكثيرة التي تعرَّض، ولا يزال يتعرّض لها، حق كل كائن بشري في الحياة، من جانب الأفراد أو السلطات ذاته. إن موضوع هذا الحق هو الكائن البشري، في كل مرحلةٍ من مراحل نُموّه، بدءاً من الحبل به إلى موته الطبيعي، وفي جميع حالاته: صحيحاً كان أو مريضاً، كامل الجسد أو مُعاقاً، غنياً أو مُعدماً. وقد أعلن المجمع الفاتيكاني الثاني ذلك بكل صراحة: “كل ما يتعارض مع الحياة ذاتها، وكل أنواع القتل والإبادة الجماعية، والإجهاض، والإجهاز على المرضى، والانتحار المتعَّمد نفسه، وكل ما يشكل انتهاكاً لسلامة الشخص البشري، كالبَتْر والتعذيب الجسدي والمعنوي، والإكراه النفسي، وكل ما يُسيء إلى كرامة الإنسان، كأوضاع الحياة غير الإنسانية، والسجن التعسُّفي، والسَبي والرق والدعارة، والمتاجرة بالنساء والفتيان، وأوضاع العمل المُذِلّة التي تحوّل العمال إلى مجرّد أدوات للإنتاج، بدون مراعاة شخصيتهم الحرّة والمسؤولة… إن جميع هذه الممارسات وأمثالها، هي في الحقيقة مُشينة. وهي، فيما تُفسد الحضارة، تُلحق العار بالذين يقومون بها أكثر مما تُلحقه بمن يُعانونها، كما أنها تشكل إهانة جسيمة لكرامة الخالق” (137).
وإذا وجب على كل إنسان أن يضطلع برسالة ومسؤولية التسليم بحق كل كائن بشري في الكرامة الشخصية، وأن يدافع عن حق الإنسان في الحياة، فإن بين المؤمنين العلمانيين من هم مدعوون للقيام بهذا الواجب بصفة خاصة. إنهم الوالدون والمربّون، والأطباء والممرضون، وكل الذين يضطلعون بالسلطة الاقتصادية والسياسية.
إن الكنيسة، إذ ترحّب، في حب وسخاء، بكل حياة بشرية، لاسيما إذا كانت هذه الحياة ضعيفة وسقيمة، تعيش اليوم مرحلة أساسية من مراحل رسالتها، تَعْظُم أهميتها بقدر ما تنتشر “ثقافة الموت”. “فالكنيسة تؤمن فعلاً إيماناً راسخاً بأن الحياة البشرية تبقى دائماً هِبةً رائعة من لدن إله الجود، حتى في حالة الضعف والألم. وفي مواجهة التشاؤم والأنانية، اللذي يحجبان النور عن العالم، تنحاز الكنيسة إلى الحياة، وتعرف كيف تكتشف، في كل حياةٍ بشرية، روعةَ “النَعَم” و”آمين” اللذين يجسّدان المسيح (2كو 1/19 ورؤ 3/14). وهي تواجه “بالنَعَم” الحي “اللا”، الذي يحتاج الإنسان والعالم ويكدّرهما. وهكذا تحمي الكنيسة الإنسان والعالم ممن يهددون الحياة وينالون منها” (138). وعلى المؤمنين العلمانيين، المسؤولين أكثر من غيرهم عن استقبال الحياة مباشرةً، بحكم دعوتهم أو مهنتهم، أن يجسّدوا هذا “النَعَم” الذي تواجه به الكنيسة الحياة البشرية، وأن يجعلوه فاعلاً.
وعلى هوامش الحياة البشرية، بَرَزت بوضوح إمكانات ومسؤوليات جديدة، بفضل الازدهار الرائع، الذي حققته العلوم البيولوجية والطبية، والذي تَزامنَ مع تقدّم التكنولوجيا المذهل، بحيث أصبح الإنسان اليوم قادراً، ليس فقط على مراقبة الحياة البشرية منذ نشأتها، وفي المراحل الأولى من نموّها، بل على التلاعب بها أيضاً.
إن ضمير البشرية الأخلاقي لا يمكن أن يظلّ غريباً عن الخُطى الجبّارة التي حققتها القدرة التكنولوجية، أو غير مكترث لها، وقد أحرزت هذه القدرة بدورها سيطرةً، آخذةً في الاتساع والتعمّق، على الديناميات التي تُشرف على الإنجاب، وعلى المراحل الأولى لنمو الشخص البشري. ربّما لم يسبق للحكمة أن اضطلعت في يوم من الأيام، بقدر ما تضطلع اليوم، وفي هذا المضمار، بدور مرساة الخلاص الوحيدة، ليتمكّن الإنسان، عبر البحث العلمي والبحث التطبيقي، من التصرُّف بذكاء ومحبة، آخذاً بعين الاعتبار حُرمة الكرامة الشخصية، التي هي من حق كل كائن بشري، منذ أول لحظة من وجوده، بل محيطاً بالإجلال هذه الكرامة. وهذا ما يتحقق عندما يلتزم العلم والتقنية بحماية الحياة بالطرق المشروعة، وبمعالجة الأمراض منذ نشأتها، رافضَيْن، باسم كرامة البحث العلمي ذاتها، إجراء عمليات، تُتلف التراث التناسلي للفرد وللجنس البشري (139).
إن المؤمنين العلمانيين، الملتزمين بالعلم والتقنية، على اختلاف اختصاصاتهم، وعلى مختلف الصُعُد، وجميع الذين يضطلعون بمسؤوليات طبية واجتماعية وتشريعية أو اقتصادية، عليهم أن يواجهوا بجرأة “التحديات” الناشئة عن قضايا “البيوإتيك” الجديدة. “ويتوجّب على المسيحيين، كما أعلن آباء مجمع الأساقفة، أن يمارسوا مسؤولياتهم كمعلّمين للعلوم والتكنولوجيا، لا كعبيد لها… وفي منظور “التحديات” المعنوية، التي ستطرحها القدرة التكنولوجية الجديدة والهائلة، والتي ستعرّض للخطر، ليس فقط حقوق البشر الأساسية، بل الذات البيولوجية للجنس البشري نفسها، يُصبح من الأهمية بمكان أن يضطلع العلمانيون المسيحيون – تساعدهم في هذا الكنيسة جمعاء – بمهمة رَبْط الثقافة بمبادئ الأنَسِيَّة الصحيحة، لكي تتم تنمية حقوق الإنسان والدفاع عنها، على أساس ديناميّ وراسخ في ذات جوهره، هذا الجوهر الذي أعلنته الكرازة الإنجيلية للبشر” (140).
إننا اليوم جميعاً في حاجة ملحّة إلى أقصى ما يمكن من التَيَقُّظ، لمواجهة ظاهرة التركيز على الطاقة، لاسيما الطاقة التكنولوجية. وهذا التركيز يرمي إلى التلاعب، ليس فقط بالذات البيولوجية، بل بقرارةِ ضمير البشر أيضاً، وأنماط حياتهم، وهكذا يُضاعف خطر التمييز بين البشر، وَوَضْع شعوبٍ بأسرها على هامش المجتمع.
أحرار في الدعاء باسم الله
39- إن احترام كرامة الشخص، الذي يستوجب الدفاع عن حقوق الإنسان، وتعزيز هذه الحقوق، يفرض ضرورة الاعتراف بما للإنسان من بُعْدٍ دينيّ. ولسنا هنا بصدد ضرورةٍ “مذهبية” لا غير، بل ضرورةٍ تمتدُّ جذورها الدائمة في واقع الإنسان ووجوده. ونحن بالله “نحيا ونتحرّك ونوجد”. (أع 17/28) وإذا لم يقر الجميع بهذا الواقع، فإن لجميع المقتنعين به الحق في أن يُحترم إيمانهم، وما ينجم عن هذا الإيمان من خيارات الحياة، الفردية منها والجماعية. هذا هو مضمون الحق في حرية الضمير وحية المُعتقد. والاعتراف العمليّ بهذا الحق هو من أنبَل ثروات الشعوب، ومن واجباتها الأكثر خطورة، إذا شاءت حقاً أن تؤمّن خير الشخص والمجتمع: “إن الحرية الدينية، التي تقتضيها على الدوام كرامة كل إنسان، هي حجر الزاوية في صرح حقوق الإنسان، وهي بالتالي من المقوّمات الثابتة لخير الشخص وخير المجتمع بأسره، فضلاً عن الانشراح الشخصي الذي تُضفيه على كل إنسان. ويترتب على هذا أن حرية الأفراد والجماعات في المجاهرة بدينها وممارسته، هي عنصر أساسي للعيش المشترك والسلميّ بين الناس… والحق المدني والاجتماعي في الحرية الدينية، لكونِه يَطال دائرة الروح في العمق، يتجلّى كمَرْجِعٍ، وعلى وجه ما، كمقياسٍ لسائر الحقوق الأساسية” (141).
ولم ينسَ مجمع الأساقفة الكثيرين من الإخوة والأخوات، الذين لا ينْعمون بعدُ بهذا الحق، ويواجهون الكثير من الشدائد، والعيش على هامش المجتمع، والآلام والاضطهادات، والموت أحياناً، لأنهم شهروا إيمانهم. إن العدد الأكبر منهم، هم من الإخوة والأخوات المؤمنين العلمانيين. والتبشير بالإنجيل والشهادة له بحياة مسيحية، في خِضمّ الألم والاستشهاد، يشكّلان قمة رسالة تلاميذ المسيح، كما أن محبة الرب يسوع إلى حد بذل الحياة لأجله، هي مَوْرِد خصيب للغاية، يُسهم في بناء الكنيسة. هكذا تشهد الكرمة السريّة لِخِصْبِها، على حد قول القديس أغوسطينوس: “إن هذه الكرمة، كما ورد الإعلان عنها، على فم الأنبياء والرب نفسه، كانت تنشر على العالم بأسره أغصانها المثقلة بالثمار، وتزداد قوةً كلما ازداد ارتواؤها بدم الشهداء الغزير” (142).
إن الكنيسة بأسرها مَدينة بالشكر العميق لأولئك الذين كانوا للناس قدوةً، وبذلوا الذات. وهي تجد في هؤلاء المسيحيين الأسخياء حافزاً لتنطلق مجدداً في حياة مقدسة ورسولية. ولهذا رأى آباء مجمع الأساقفة أن الواجب يقضي بنوع خاص، “بأن يشكروا العلمانيين الذي لا يكلّون من الشهادة لإيمانهم، وقد بقوا أوفياء في اتحادهم بكرسي روما الرسولي، على الرغم من القيود المفروضة على حريتهم، وحرمانهم من الخدام الروحيين. إنهم يجازفون بحياتهم ذاتها. وهكذا يشهد العلمانيون لطابع أساسي مميز للكنيسة، ألا وهو أن كنيسة الله وليدة النعمة الإلهية. ويتجلّى هذا، على الوجه الأسمى، في الاستشهاد” (143).
كل ما قلناه إلى الآن، بصدد احترام كرامة الشخص، والاعتراف بحقوق الإنسان، يُحمّل بالطبع كل مسيحي وكل إنسان مسؤولية التقيّد به. لكنّا نلفت الانتباه فوراً إلى أن لهذه القضية بُعداً عالمياً. إنها تطال فعلاً مجموعات بشرية بكاملها، بل شعوباً بأسرها، انتُزِعَت منها حقوقها الأساسية بعنف. وقد شجبت الرسالة الباباوية العامة “في الاهتمام بالشأن الاجتماعي” بصراحةٍ كل أشكال التفاوت في التنمية بين مختلف العوالم.
إن احترام الشخص البشري يتجاوز إطار المسلكيّة الفردية. فهو المقياس الأساسي، وَلْنَقل إنه بمثابة الركيزة الأساسية، التي يجب أن تقوم عليها بُنية المجتمع نفسه، لأن الشخص هو غاية المجتمع بأسره.
وعليه، فإن مسؤولية خدمة المجتمع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسؤولية خدمة الشخص، وانطلاقاً من هذا الواقع، نستطيع أن نحدد، بصفة إجمالية، رسالة بث الروح المسيحية في النظام الزمني. وهي الرسالة التي دُعِيَ المؤمنون للقيام بها، بما يملكون من وسائل خاصة ونوعية.
الأسرة هي المجال الأول للالتزام الجماعي
40- إن البُنْية الطبيعية للشخص البشري تنطوي على بُعْدٍ اجتماعي، لأن دعوته إلى العيش في شركة مع الآخرين وإلى هبة ذاته لهم، تتغلغل في أعماقه: “إن الله الذي يرعى الجميع كأبٍ، شاء أن يؤلّف من جميع الناس أسرة واحدة، وان يعامل بعضهم بعضاً كإخوة” (144). وعليه، فإن “المجتمع” الذي هو ثمرة طابع الإنسان الاجتماعي وعلامته، يتجلّى في كامل حقيقته حيث يكون “تَجَمُّع” أشخاص.
هناك ترابط وتبادل بين الشخص والمجتمع: وكل ما يُعْمَل لخير الشخص يخدم المجتمع، وكل خدمة تُسْدَى للمجتمع تعود بالخير على الشخص. ولهذا فإن التزام المؤمنين العلمانيين الرسولي، على الصعيد الزمني، يعني دائماً، وبلا انفصال، خدمةً تُؤَدى للشخص الفردي، في وحدانيته الفريدة، كما تُؤَدى للبشر جميعاً.
إن البُعْد الاجتماعي للشخص تجسَّد، أولاً وأصلاً، في الزوجين والأسرة: “إن الله، منذ البدء، لم يخلق الإنسان وحيداً. “ذكراً وأنثى خلقهما” (تك 1/27). إن مجتمع الرجل والمرأة كان التجسيد الأول للشركة بين الأشخاص” (145). وقد أعاد يسوع إلى الزوجين كرامتهما كاملةً، وإلى الأسرة ترابُطها (متى 19/3-9) كما أوضح بولس علاقة الزواج العميقة بسر المسيح والكنيسة (أف 5/22 و6/4 وكول 3/18- 21 و1بط 3/1-7).
إن المجال الأول لالتزام المؤمنين العلمانيين الاجتماعي، يتمثّل في الزوجين والأسرة. وهو التزام لا يمكن الاضطلاع به، كما يجب، إلاّ عبر الإيمان الراسخ بدور الأسرة الفريد، والذي لا بديل له، في تنمية المجتمع والكنيسة ذاتها.
إن الأسرة، بصفتها مهد الحياة والحب، حيث “يولد” الإنسان و”يكبر” هي خلية المجتمع الأساسية. ويجب أن يحظى مجتمع الأسرة هذا باهتمام مميز، لاسيما كل مرة تجف فيه ينابيع الحياة، بسبب الأنانية البشرية، والحملات ضد الإنجاب، وحالات الفقر والبؤس الجسدي والثقافي والأخلاقي، والنزعة إلى الإسراف في اللذة، والسباق إلى الاستهلاك، فيما تعبث الإيديولوجيات والأنظمة المختلفة، وغياب العناية والحب، بدور الأسرة التربوي الخاص.
ويتحتّم، في هذه الحالات، القيام بعمل موسَّع وعميق ومنظَّم، لا يعتمد على التثقيف وحده، بل على الوسائل الاقتصادية والمؤسسات التشريعية أيضاً، لكيما نؤمّن للأسرة مكانها، كمجالٍ أول لأنْسَنة الشخص والمجتمع.
إن التزام المؤمنين العلمانيين الرسولي تجاه الأسرة، يرمي أولاً إلى جَعْلها تعي هويتها، بصفتها نواة المجتمع الأساسية، ودورها الفريد في المجتمع، بحيث تضطلع، أكثر فأكثر، بِدَور المحرك الأول، الفاعل والمسؤول، فتقوم بتنمية ذاتها والمشاركة في الحياة الاجتماعية. وبهذه الطريقة، يتهيأ للأسرة، بل يتوجب عليها، أن تفرض على الجميع، وعلى السلطات العامة أولاً، احترام حقوقها. وهكذا تُنقذ ذاتها، وتنقذ بذات الفعل المجتمع نفسه.
إن ما ورد في الإرشاد “في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم” بشأن مشاركة الأسرة في تنمية المجتمع، (146) وما عبَّر عنه كرسي روما الرسولي في “شرعة حقوق الأسرة” بناءً على تمنيّات مجمع الأساقفة، المنعقد في عام 1980، يشكلان برنامج عمل، كاملاً وعُضوياً، لجميع المؤمنين العلمانيين، المعنيين، كلّ من موضعه، بتنمية قِيَم الأسرة وتلبية حاجاتها. ويجب تنفيذ هذا البرنامج بالسرعة والتصميم، الذين تقتضيهما خطورة التهديدات المتصاعدة، الموجَّهة ضد استقرار الأسرة وتكاثرِها، كما يقتضيهما تصاعد المحاولات، الضاغطة والمنظمة، لتحييد الأسرة، وإلغاء دورها الاجتماعي.
وتدلّنا الخبرة على أن حضارة الشعوب وترابطها منوطان، بصفة خاصة، بمستوى أسُراتها الإنساني. من هنا يستمد الالتزام الرسولي، تجاه الأسرة، قيمةً اجتماعية لا مثيل لها. والكنيسة مقتنعة كل الاقتناع بهذا الأمر، وهي تدرك أن “مستقبل البشرية يمرّ عبر الأسرة” (147).
المحبة روح التضامن ودعامته
41- إن خدمة المجتمع تتجسد وتتحقق بأساليب مختلفة، بدءاً بالحرّة منها واللاشكلية، وانتهاءً بتلك التي ترتدي طابعاً مؤسسياً، أي بدءاً بالمعونة المقدَّمة إلى أشخاص على انفراد، وانتهاءً بالمعونة المقدَّمة إلى تجمّعات مختلفة وجماعات أشخاص.
والكنيسة جمعاء، بصفتها كنيسة، مدعوّة مباشرة لخدمة المحبة: “إن الكنيسة المقدسة، إذ تقرن وليمة المحبة بالعشاء الإفخارستي، قد ظهرت بأجمعها موحَّدة حول المسيح برباط المحبة. وهي تُعرَف، في كل حين، من خلال علامة المحبة هذه. وفيما تبتهج بمبادرات الآخرين في هذا المجال، تعتبر أعمال المحبة جزءاً من رسالتها الخاصة بها، وحقاً لا يجوز لها التخلي عنه. ولهذا فإنّ أعمال الرحمة التي تمارسها تجاه الفقراء والضعفاء، والمشاريع المدعوة خيرية، وتلك التي تقوم على التعاون المتبادل، للتخفيف من الآلام البشرية المتنوعة، تحتل في الكنيسة مكانة خاصة” (148). كما أن محبة القريب، التي تُمارَس اليوم، كما في الماضي، من خلال أعمال الرحمة الجسدية والروحية، تمثّل المضمون – المباشَر والشائع والعادي إلى أبعد حد – لالتزام المؤمنين العلمانيين النوعي، القائم على بث الروح المسيحية في النظام الزمني.
وإذ يمارس المؤمنون العلمانيون محبة القريب، فإنهم يعيشون مشاركتهم في وظيفة المسيح الملوكية، أعني في سلطة ابن الإنسان، الذي جاء ليَخدم لا ليُخدَم (مر10/45) ويُعلنون هذه المشاركة. إنّهم يعيشون هذه المشاركة ويُعلنونها بالأسلوب الأكثر بساطة، الذي هو في متناول الجميع، في كل وقت. وكذلك بالأسلوب الأكثر إثارة، لأن المحبة هي الهِبة الأسمى التي يقدمها الروح لبناء الكنيسة، (1كو 13/13) ولخير البشرية. إن المحبة تنشّط بالفعل التضامن الفاعل وتدعمه، متنبّهة جداً لكافة حاجات الكائن البشري.
إن مِثل هذه المحبة، التي لا يمارسها الأفراد وحدهم، بل تمارسها أيضاً جمعيات وجماعات، متضامنة في ما بينها، هي ضرورية الآن وفي كل حين، ولن يستطيع أن يحلَّ محلها شيء ولا إنسان ولا العديد من المؤسسات والمبادرات العامة ذاتها، بالرغم مما تبذله من جهود، لتلبية حاجات الشعب، التي غالباً ما تكون جسيمة ومتشعّبة في أيامنا. ومن باب المفارقة نقول إن هذه المحبة أضحت أكثر ضرورة، لأن المؤسسات التي صارت معقَّدة في تنظيمها، والتي تطمع في إدارة كل مال حرّ، تصبح غير فاعلة، بسبب التوظيفيّة اللاشخصية، والديوانيّة المتطرفة، والمصالح الخاصة المفرطة، واللامبالاة المستسهلة والشاملة.
وفي هذا السياق بالذات، استمرّت في البروز والانتشار، لاسيما في المجتمعات المنظّمة، صُور مختلفة من التطّوع المجاني، تتمثل في عدد وافر من الخدمات والمشاريع. وهذا التطوّع، إذا التزم بمضمونه، كخدمةٍ مجانية في سبيل الأشخاص، لاسيما الأكثر عوزاً منه، والأكثر إهمالاً من قِبْل المؤسسات الاجتماعية ذاتها، يُعتبر تجسيداً هاماً للرسالة التي يضطلع فيها المؤمنون العلمانيون، رجالاً ونساءً، بدورٍ مميّز.
المنتفعون من الحياة السياسية والمشاركون فيها
42- لا يمكن فصل المحبة، الموضوعة في خدمة الشخص، عن العدالة. فكلتاهما تفرضان، كلُّ بأسلوبها الخاص، الاعتراف الكامل والفعلي بحقوق الشخص، الذي من أجله وُجد المجتمع وجميع بُنْياته ومؤسساته (149). وإذا شاء المؤمنون العلمانيون أن يبثّوا الروح المسيحية في النظام الزمني، بالمعنى الذي أوردناه، أي عن طريق خدمة الشخص والمجتمع، لا يجوز لهم قطعياً التخلي عن المشاركة في “السياسة” أي عن النشاط الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي والإداري والثقافي، المتعدد الأشكال، الذي يستهدف تعزيز الخير العام، عُضوياً وعبر المؤسسات. وهذا ما أكّده آباء مجمع الأساقفة مراراً: يحق للجميع، ولكل فرد، بل يتوجّب عليهم أن يشاركوا في السياسة. ويمكن لهذه المشاركة أن تتحقق من خلال أشكال ومستويات ومهمات ومسؤوليات، متنوعة ومتكاملة إلى حد كبير. أما الاتهامات، الموجَّهة في غالب الأحيان، إلى رجال الحكومة والمجلس النيابي والطبقة المسيطرة والأحزاب السياسية، والناعتة إياهم بالنفعية والهيام بالسلطة والأنانية والرشوة، فضلاً عن الرأي الشائع بأن السياسة تعرّض بالضرورة أربابها لانهيار الأخلاق، كل هذه الاتهامات لا تبرّر على الإطلاق، التشكك وغياب المسيحيين عن مسرح الدولة.
وعلى النقيض من ذلك، كان للمجمع الفاتيكاني الثاني تصريح له مغزاه: “إن الكنيسة تُجلُّ وتُقدَّر، إلى حدٍ كبير، نشاط أولئك الذين يكرّسون أنفسهم لخير الدولة، ويضطلعون بمهماتها، خدمةً للجميع” (150).
إن المقياس الأساسي لسياسة تضطلع بخير الشخص والمجتمع، هو سَعْيها لتحقيق الخير العام، بصفته خير جميع الناس، وخير كل إنسان، خيراً تُقدّمه، فيما يكفله ترحيبٌ حر ومسؤول، من قِبَل الأشخاص، أفراداً وجماعات: “لقد وُجدت الجماعة السياسية لتحقيق الخير العام، الذي يبرّر وجودها تبريراً كاملاً، ويُبرز مفهومها، ومنه تستمد حقها الخاص. ويشمل الخير العام مُجْمَل أوضاع الحياة الاجتماعية، التي تُتيح للبشر وللعائلات والجماعات أن تحقق ذاتها بطريقة أكمل وأسهل” (151).
وإن سياسة لخير الشخص وخير المجتمع، تتوجه باستمرار صوب الدفاع عن العدالة وتعزيز وجودها، بصفتها “فضيلة” يجب تنشئة الجميع عليها، “وطاقة” أدبية، تدعم جهود الذين يحاولون تعزيز حقوق الناس جميعاً، وحقوق كل فرد منه، وإيقاظ وَعْيهم لواجباتهم، انطلاقاً من كرامة الكائن البشري الشخصية.
إن ممارسة السلطة السياسية يجب أن ترتكز على روح الخدمة، التي، إذا اقترنت بالكفاءة والفعالية الضروريتين، أصبحت ضرورية لجَعْلِ عمل السياسيين صافياً وشريفاً، على الوجه الذي يطالب به الشعب بحق. وهذا يتطلب تصدّياً مُعلناً لبعض الإغراءات والانتصار عليها. ومن هذه الإغراءات اللجوء إلى مناورات خسيسة، وإلى الكذب واختلاس أموال الدولة، لصالح بعض الأشخاص، أو بهدف كسب الأنصار، واستعمال أساليب ملتوية وغير شرعية، للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها والتوسع فيها بأي ثمن.
ومما لا شك في البتّة، أنه يتوجب على المؤمنين العلمانيين، الملتزمين بالعمل السياسي، أن يراعوا استقلالية الشؤون الأرضية، بالمفهوم الذي يحدده الدستور المجمعي “فرح ورجاء” : “إنه لَمِنَ المهم للغاية أن نَعي وعياً صحيحاً العلاقات الواجب قيامها بين الجماعة السياسية والكنيسة، وأن نميّز بوضوح بين الأعمال التي يقوم بها المؤمنون، أفراداً أو جماعات، باسمهم الخاص كمواطنين، مستلهمين ضميرهم المسيحي، وتلك التي يقومون بها باسم الكنيسة، متضامنين مع رعاته. وإذ تعي الكنيسة حدود مهمتها وصلاحياتها، ولا تخلط، بأي حال، بينها وبين الجماعة السياسية، ولا ترتبط بأي نظام سياسي، فإنها تبقى علامةً لما يتميّز به الشخص البشري من سمو الطابع، وصائنةً لهذا الطابع” (152). ويتوجب على المؤمنين العلمانيين، في ذات الوقت – ومن باب الحاجة الماسة والمسؤولية – أن يشهدوا للقيم الإنسانية والإنجيلية، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنشاط السياسي ذاته، كالحرية والعدالة، والتضامن والتفاني الصادق، وغير المُغرِض، في سبيل الخير العام، وبساطة نمط الحياة، والحب التفضيلي للفقراء وللطبقة الأدنى من البشر. وهذا يتطلّب من المؤمنين العلمانيين أن يستمدوا من مشاركتهم الفعلية في حياة الكنيسة، انطلاقةً روحية متزايدة، وأن يستنيروا بعقيدتها الاجتماعية. وعلى الجماعات المسيحية أن تقف إلى جانبهم، وتساعدهم في هذه المهمة، بالاشتراك مع رعاتها (153).
إن التضامن هو النهج والوسيلة الواجب اعتمادهما لتحقيق سياسةٍ، تهدف إلى تنمية بشرية صحيحة. ويتطلب هذا التضامن مشاركة فاعلة ومسؤولة، في الحياة السياسية، من قِبَل كل مواطن، ومن التجمعات المتنوعة، بدءاً من النقابات، وانتهاءً بالأحزاب. فكلنا معاً، وكل فرد منا، منتفعون من هذه الحياة السياسية، ومشاركون فاعلون فيها في ذات الوقت. وانطلاقاً من هذا التنسيق، ليس التضامن، كما أعلنّا في رسالتنا العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” “مجرد عاطفة شفقة مُبْهَمة، وحنانٍ سطحي، نشعر بها، أمام الشرور التي تحيق بالكثيرين من البشر، قريبين وبعيدين. إن التضامن، على عكس ذلك، عزمٌ ثابث ودائب على الالتزام بالخير العام، وبعبارة ٍ أخرى، بخير الجميع وخير كل فردٍ لنكون جميعاً مسؤولين حقاً عن الجميع” (154).
ويجب أن يتحقق السياسي اليوم على مستوى خط أفقٍ يتجاوز حدود كل أمة، أو كل مجموعة أمم، ويتخذ أبعاداً قارية أو عالمية.
إن ثمرة النشاط السياسي المتضامن، التي يرغب فيها الجميع، والتي لا تزال بعيدة عن النضوج، هي السلام ولا يجوز للمؤمنين العلمانيين أن يكونوا غير مبالين، متجاهلين أو متكاسلين، إزاء كل ما يشكل رفضاً للسلام أو يعرضه للخطر، كالعنف والحرب والتعذيب والإرهاب والمعتقلات وعِسْكَرة السياسة، وسباق التسلُّح والتهديد النووي. بل يجب على المؤمنين العلمانيين، على النقيض من ذلك وبصفتهم تلاميذ يسوع المسيح “ملك السلام” (متى5/9) عن طريق توبة القلب، والعمل على تعزيز الحق والحرية والعدالة والمحبة، وهي أسس السلام، التي لا تتبدل (155).
وعلى المؤمنين العلمانيين، بالتعاون مع جميع الذي يطلبون السلام مُخْلِصين، وعَبْر المنظمات المختصة والمؤسسات الوطنية والدولية، أن يشجعوا العمل التربوي الدقيق، الذي من شأنه أن يتغلب على ثقافة التسلط، المعتمِدة على الأنانية والبغضاء، والأخذ بالثأر والعداوة، وأن ينمّي ثقافة التضامن، على جميع المستويات. إن هذا التضامن هو فعلاً “السبيل إلى السلام والتنمية” (156). وانطلاقاً من هذا المنظور، دعا آباء مجمع الأساقفة المسيحيين إلى نَبْذ كل أشكال العنف المرفوضة، وإلى تعزيز التوجُّه نحو الحوار والسلام، والالتزام بإقامة نظامٍ اجتماعي ودولي عادل (157).
تحديد موقع الإنسان في قلب الحياة الاقتصادية – الاجتماعية
43- إن الخدمة التي يقدّمها المؤمنون العلمانيون في سبيل المجتمع، تركّز عملها الأساسي على القضية الاقتصادية – الاجتماعية، التي نجد مفتاحها في منظّمة “العمل”.
وقد ذكّرتنا أخيراً الرسالة البابوية العامة “الاهتمام بالشأن الاجتماعي” بخطورة هذه القضايا، في الوقت الحاضر، إذا تناولناها في إطار النظرة الشاملة إلى التنمية، وفي ضوء الحل الذي تقدمه عقيدة الكنيسة الاجتماعية. وإنا نرغب رغبةً حارة في أن نُحيلَكم جميعاً، لاسيما المؤمنين العلمانيين، إلى هذه الرسالة العامة.
إن خيرات الأرض مُعَدَّة لجميع الناس. وفي هذا المبدأ تكمن إحدى النقاط الأساسية، التي تتمحور حولها عقيدة الكنيسة الاجتماعية. لقد شاء التدبير الإلهي أن تكون خيرات الأرض في خدمة جميع الناس، وكل منهم، كوسيلة لتنمية حياة بشرية حقيقية. وللملكية الخاصة دور اجتماعي جوهري في تحقيق هذه الغاية. والعمل الذي يقوم به الرجل والمرأة، والذي هو من حقوق كل شخص بشري، ومن واجباته، يمثّل، في الواقع، وبالدرجة الأولى، الأداة العادية والمباشرة لتنمية الحياة الاقتصادية.
إن هذا كله يندرج، بنوعٍ خاص، في رسالة المؤمنين العلمانيين. ويحدد المجمع الفاتيكاني الثاني، بصفة إجمالية، غاية حضورهم ونشاطهم، وعلامة هذا الحضور وهذا النشاط: “يجب أن نُجِل ونعزز، في إطار الحياة الاقتصادية، والاجتماعية أيضاً، كرامة الشخص البشري ودعوته بكاملها، وخير المجتمع بأسره، لأن الإنسان هو، في الواقع، صانع الحياة الاقتصادية – الاجتماعية كلها ومحورها وغايتها” (158).
وليكن المؤمنون العلمانيون، في إطار التَغيّرات التي تستجد في دنيا العمل والاقتصاد، وتُبلبلها، في مقدمة المتطوعين لإيجاد الحلول للمشاكل الخطيرة، الناجمة عن البطالة المتزايدة. وَلْيُكافحوا للتغلب على المظالم، التي تُسببها منظمات العمل المنحرفة، وَلْيَسعوا لتحويل مكان العمل إلى مقرٍ تتعايش فيه جماعة من الأشخاص، يُراعي كلُّ منهم خصائص الآخرين، ويعترف بحقهم في المشاركة، وَلْيحاولوا تحقيق المزيد من التضامن بين الذي يُسْهمون في العمل المشترك، وإحداث تعديل في أنظمة العمل التجاري والمالي، وفي تبادل الخبرات التكنولوجية.
ولبلوغ هذا الهدف، يتوجب على المؤمنين العلمانيين أن يقوموا بالمهمة الموكولة إليهم بكفاءة مهنية ونزاهة وروح مسيحية، متخذين من ذلك وسيلةً لتقديس ذواتهم (159)، ومُلبين نداء المجمع الفاتيكاني الثاني، الموجَّه إليهم: “إن الإنسان يؤمّن عادة، من خلال شُغله، معيشته ومعيشة أسرته، ويشترك مع إخوانه ويخدمهم، وتُتاح له فُرَص ممارسة محبة حقيقية، ومشاركة في إتمام الخلق الإلهي. وإننا نعتقد، بالإضافة إلى ذلك، أن الإنسان، إذ يقدّم لله شغله، يشارك في عمل المسيح الفدائي، لأن يسوع أضفى على العمل كرامة سامية، حين عمل بيديه في الناصرة” (160).
أما في ما يخص الحياة الاقتصادية – الاجتماعية، فإن مسألة “علم البيئة” تطرح ذاتها، وبطريقة تتفاقم حدّتها يوماً بعد يوم. لا شك أن الله أَوْلى الإنسان مهمة “إخضاع” الكائنات المخلوقة “واستثمار بستان العالم”، لكن يتوجب على الإنسان أن يراعي، في قيامه بهذه المهمة، الصورة الإلهية، التي خُلِق على مثالها، فيعمل بذكاء ومحبة. وعليه أن يشعر بمسؤوليته عن المواهب التي أغدقها الله، ولا يزال يُغدقها عليه باستمرار، وأن ينقلها _مُجمَّلةً إن أمكن – إلى الأجيال اللاحقة، التي شاء الرب أن تنتفع هي أيضاً بمواهبه: “إن السلطان، الذي يمنحه الخالق للإنسان، ليس مطلقاً، ولا يخوّله حرية “استعمال الأشياء وسوء استعمالها”، أو التصرّف بها على هواه. فالحدود التي فرضها الله رمزياً، بحرمانه أبوينا الأوّلين من “الأكل من ثمر الشجرة” (تك2/16 و 17) تدلّنا بوضوح كافٍ على أننا خاضعون، في إطار الطبيعة المنظورة، لشرائع، ليست فقط بيولوجية، بل أخلاقية أيضاً، لا يمكن أن نتجاوزها بدون عقاب. إن فهماً صحيحاً للتنمية لا يتغاضى عن هذه الاعتبارات، المتعلّقة باستعمال عناصر الطبيعة، وبتجديد الموارد، وبعواقب تصنيعٍ فوضوي. إنها اعتبارات تضع أمام ضميرنا، مرة أخرى البعد الأخلاقي، الذي يجب أن تتم التنمية على أساسه” (161).
إضفاء الطبع الإنجيلي على الثقافة والثقافات البشرية
44- إن خدمة الشخص والمجتمع البشري تتحقق عبر خلق الثقافة ونقلها، تلك الثقافة التي تشكّل، لاسيما في أيامنا، واحدةً من أخطر مهمات التعايش البشري والتطور الاجتماعي. وإننا في ضوء المجمع الفاتيكاني الثاني، نعني “بالثقافة” “كل ما يساعد الإنسان على صَقْل طاقات عقله وجسده المتعددة، وتنميتها، باذلاً جهده لإخضاع الكون، عن طريق المعرفة والعمل، وأَنْسَنة الحياة الاجتماعية، أي الحياة العيلية ومُجمل الحياة المدنية، من خلال تطوير الأخلاق والمؤسسات، وترجمة خبرات الإنسان الروحية الواسعة، وطموحاته الكبرى، ونقلها إلى الآخرين والحفاظ عليها، عبر مؤلّفاته، على مرّ الزمن، لكي تُستخدم في تقدّم العديد من البشر، بل الجنس البشري بأجمعه” (162). وعليه، فإن الثقافة يجب أن تُعتبر مِلْكاً مشتركاً لكل شعب، وتعبيراً عن كرامته وحريته وقدرته الخلاقة، وشاهدةً لمسيرته التاريخية. وإننا نذكّر، بنوع خاص، بأن الإيمان المسيحي لا يندرج في التاريخ ولا يصنع التاريخ إلاّ ضِمْن الثقافة، ومن خلالها.
وفي مواجهة ثقافة تبدو وكأنها منفصلة، ليس فقط عن الإيمان المسيحي، بل عن القِيَم الإنسانية ذاتها (163)، وإزاء ثقافةٍ علمية وتقنية، عاجزة عن الإجابة على ما يشغل قلب البشر من تساؤلات حول مضمون الحق والخير، لا يَسَعُ الكنيسة إلاّ أن تعي وعياً كاملاً الحاجة الملحّة، من الناحية الرعوية، إلى إيلاء الثقافة عناية خاصة جداً.
ولهذا تطالب الكنيسة المؤمنين العلمانيين بأن يشاركوا، بما أُوتوا من جرأةٍ وقدرةٍ عقلية خلاّقة، في المناصب الثقافية الممتازة، المتمثّلة في دنيا المدرسة والجامعة، ومراكز البحث العلمي والتقني والإبداع الفني، والتفكير الأّنَسِيّ. إن حضورهم هذا لا يرمي فقط إلى التعرّف على مضمون الثقافة الحاضرة، وتنقيته من شوائبه، عند الاقتضاء، بإخضاعه لنقدٍ رزين، بل يرمي كذلك إلى إغنائه، بما في الإنجيل وفي الإيمان المسيحي، من فريد الثروات. وإن ما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني، بشأن العلاقة بين الإنجيل والثقافة، يتوافق مع واقع تاريخي ثابت، ويشكّل، في الوقت عينه، مثلاً أعلى للعمل، منسجماً مع واقع الزمن الذي نعيشه ومُلِحّاً إلى حد بعيد. إنه منهج هام، مطروح على المسؤولية الرعوية، التي تضطلع بها الكنيسة جمعاء، وبالتالي على المسؤولية المختصة بالمؤمنين العلمانيين: “إن بشارة المسيح تُجدّد باستمرار حياة الإنسان الساقط وثقافته، وتكافح الأضاليل والشرور، الناشئة عن إغراءات الخطيئة الدائمة. إنها لا تنفكّ تُنقّي أخلاق الشعوب، وترفع مستواها، وتُخصب من الداخل، بثروات السماء، المزايا الروحية والمواهب الخاصة بكل شعبٍ وبكل جيل، وتعززها وتكمّلها وتجددها في المسيح. وهكذا إذ تؤدّي الكنيسة رسالتها الخاصة، تُسهم، بذات الفعل، في عملية تمدين الشعوب، وتدفعها إلى الأمام. وهي تشارك بنشاطها، حتى الليتورجي ذاته، في تكوين حرية الإنسان الداخلية” (164).
إنه لَمِنَ المفيد أن نستمع من جديد، في هذا الصدد، إلى بعض ما ورد في إرشاد البابا بولس السادس في “وجوب التبشير بالإنجيل” من أقوال غنيّة بمضمونها: “إن الكنيسة تبشّر بالإنجيل، حين تسعى – بالقوة الإلهية وحدها، الكامنة في الرسالة التي تعلنها (روم1/16 و1كو 1/18 و2/4) – لهداية الفرد والجماعة معاً، وتوجيه النشاط الذي يلتزمون به، وتغيير حياتهم وواقع الوسط الذي يعيشون فيه. إن مناطق بأسرها تتبدّل. وليس المُراد فقط أن تكرز الكنيسة بالإنجيل في قطاعات جغرافية، تتسع مساحتها يوماً بعد يوم، أو أن تبشر شعوباً تزداد على الدوام كثافةً، بل المُراد أيضاً أن تطال الكنيسة، وتبدّل، بقوة الإنجيل، مقاييس الحكم على الأشياء والقِيَم الفاعلة، ومراكز التأثير وأساليب التفكير ومنابع الوحي ونماذج الحياة البشرية، التي تتناقض وكلمة الله وتدبيره الخلاصي. ويمكننا إيجاز كل هذا بالقول إنه ينبغي أن نطبع بطابع الإنجيل ثقافة الإنسان وثقافاته، ليس بطريق زخرفية، كما لو طَلَيناها من الخارج، بل بطريقة حية، في العمق وحتى الجذور… إن الفَصْل بين الإنجيل والثقافة، هو بلا شك، مأساة عصرنا، كما كان في غيره من العصور. ولهذا يجب بذل الجهود لإضفاء الطابع الإنجيلي على الثقافة، أو بالأحرى على الثقافات” (165).
إن الوسيلة الأكثر ملاءَمة، في الوقت الحاضر، لإنشاء ثقافة ونَقْلها إلى الآخرين، هي أدوات الإعلام الاجتماعي (166). فوسائل الإعلام، على أثر تطوُّر الاختراعات السريع، وتأثيرها الشامل والدقيق معاً على تكوين العقلية والأخلاق، تعطي أبعاداً جديدة لرسالة الكنيسة. ومسؤولية المؤمنين العلمانيين المِهَنية، في هذا المجال، سواء مُورِسَت على الصعيد الفردي، أو عبر المبادرات والمؤسسات الجماعية، يجب أن يُعتَرَف بقيمتها على الوجه الأكمل، وأن تُدعَم بالوسائل المالية والعقلية والرعوية، الأكثر ملاءَمة.
أما في ما يتعلق باستعمال أدوات الإعلام، من حيث إنتاج البرامج أو تَلَقّيها والإفادة منها، فإنه من المُلِحّ أن نمارس من جهةٍ، نشاطاً تربوياً في اتجاه تنمية الحس النقدي، الذي يحركه الوَلَع بالحقيقة، ومن جهةٍ أخرى، نشاطاً يهدف إلى حماية حرية الشخص، واحترام كرامته، وإلى تعزيز ثقافة الشعوب الحقيقية، برفض كل أشكال الاحتكار والتلاعب، رفضاً حازماً وجريئاً.
ولا تقتصر مسؤولية العلمانيين الرسولية على النشاط الدفاعي وحده. فإن الإنجيل، الذي فيه خصنا، يجب أن يبشَّر به من خلال جميع الوسائل العالمية، والوسائل الكبرى ذاتها، المتمثلة في الصحافة والسينما والإذاعة والتلفزة والمسرح.
الفصل الرابع
فَعَلة كَرْم الرب
موزّعون ممتازون لنعمة الله المتعددة الأشكال
تنوع الدعوات
45- إن “ربّ الكَرْم” كما ورد في المَثَل الإنجيلي، يدعو الفَعَلة للعمل في كرْمه، في ساعات مختلفة من النهار، بعضهم في مطلع النهار، وبعضهم في التاسعة صباحاً، وبعضهم حوالَي الظهر، وبعضهم في الساعة الثالثة، والأخيرون حوالي الساعة الخامسة (متى 20/1 وما يتبع). وفي تفسيره لهذه الصفحة من الإنجيل، يقارن القديس غريغوريوس الكبير بين ساعات الدعوة المختلفة وأعمار الحياة: “يمكن تطبيق اختلاف الساعات على مختلف أعمار الإنسان. فالصباح يمكن أن يمثّل الطفولة، بحسب تفسيرنا، والساعة الثالثة سن المراهقة، لأن تحرّك الشمس في كبد السماء يرمز إلى ازدياد حميّة الحياة. والساعة السادسة تمثل الشباب، لأن الشمس إذ تبدو وكأنها في وسط السماء، ترمز إلى العمر الذي تكتمل في الحميّة. أما الكهولة، فهي تتمثّل في الساعة التاسعة، لأن الإنسان، في هذه السن، يبدأ بفقدان حميّة الشباب، كما أن الشمس تميل إلى الهبوط من مستواها الأعلى. أما الساعة الحادية عشرة، فتمثّل المتقدمين في السن… فَكَوْن الفَعَلة مدعوّين للعمل في الكرْم في ساعات مختلفة، يمكن أن يعني أن الواحد مدعوّ إلى القداسة في زمن الطفولة، والآخر في فترة الشباب، والآخر في سنّ النضوج، والآخر في سنّ أكثر تقدّماً” (167).
ويمكننا الرجوع إلى تفسير القديس غريغوريوس الكبير، والتوسّع فيه، بحيث يمتد إلى التنوّع العجيب، القائم بين الأشخاص، الذين تضمّهم الكنيسة، والذين هم مدعوّون جميعاً وكل فردٍ منهم، للعمل في سبيل مجيء ملكوت الله، عبرَ اختلاف الدعوات والأوضاع والمواهب والخدمات. إن هذا التنوع مرتبط، ليس فقط بالسنّ، بل بالجنس أيضاً والمزايا والدعوات وأوضاع الحياة المختلفة. إنه تنوّع يزيد ثروة الكنيسة حَيَويّةً وكثافةً.
شباب وأولاد وأشخاص مُسِنّون
الشباب أمل الكنيسة
46- لقد شاء آباء وجمع الأساقفة أن يُولوا الشباب اهتماماً خاصاً. وهم على صواب، لأن الشباب يمثّلون، في كثير من البلدان، نصف عدد السكان، وغالباً نصف عدد شعب الله، المقيم في تلك البلدان. ومن هذه الناحية، يشكّل الشباب قوةً استثنائية وتحدّياً كبيراً لمستقبل الكنيسة. فهذه تستشف فعلاً من خلال الشباب، الطريق الواجب سلوكها في اتجاه المستقبل الذي ينتظرها، وترى فيهم صورة الفُتُوَّة الفَرِحة، التي تُضفيها روح الله على الكنيسة بلا انقطاع. وانطلاقاً من ذلك، رأى آباء المجمع الفاتيكاني الثاني في الشباب “أمل الكنيسة” (168).
وقد جاء في رسالتنا إلى شبان العالم وشاباته، الصادرة في 31 آذار، من عام 1985، ما يأتي: “إن الكنيسة توجّه أنظارها إلى الشباب، بل هي تتطلّع إلى ذاتها، بصفة خاصة، عبر الشباب، أي عَبْرَكم جميعاً، وعبر كل واحدٍ وواحدةٍ منكم. هكذا فعلت منذ البدء، أي منذ عهد الرسل. تدلّنا على ذلك كلمات القديس يوحنا، في رسالته الأولى: “إنّي أكتب إليكم، أيها الشباب، لأنكم قد غلبتم الشرير. قد كتبتُ لكم أيها الأولاد، لأنكم قد عرفتم الآب…. قد كتبتُ لكم أيها الشباب، لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم” (1يو 2/13و14). إن الكنيسة، في جيلنا هذا، وفي ختام الألف الثاني لمجيء المسيح، لا تزال تتطلّع إلى ذاتها عَبْر الشباب” (169).
وعلينا أن لا ننظر إلى الشباب كإلى موضوع اهتمام الكنيسة الرعوي فحسب، بل إنّا نشجّعهم أيضاً، وعلينا أن نشجعّهم “ليصيروا عناصر فاعلة، تشارك في تبشير المجتمع بالإنجيل، وفي تجديده” (170). إن زمن الشباب هو زمن اكتشافٍ مكثّف “لِلأَنا” الخاص و”لمشروع حياةٍ” خاص. إنه زمن النموّ، الذي يجب أن يتمّ “في الحكمة والسنّ والنعمة أمام الله والناس” (لو2/52). “إن حِسّ الشباب، كما قال آباء مجمع الأساقفة، يُدرك في العمق قِيَم العدالة واللاعنف والسلام، وقلبهم منفتح على الأُخوَّة والصداقة والتضامن. وهم يجنّدون أنفسهم، إلى أقصى حدّ، في خدمة القضايا المتعلّقة بنوعية الحياة والحفاظ على الطبيعة. إلاّ أنهم مُثَقَّلون أيضاً بالهموم، وخيبة الآمال، والقلق، ومخاوف العالم، فضلاً عن التجارب الملازمة لحالتهم” (171).
وعلى الكنيسة أن تواصل الحب الذي خصَّ به يسوع الشاب: “نظر إليه يسوع وأحبّه” (مر10/21). ولهذا تُعلن الكنيسة يسوع المسيح للشباب بلا كلل، وتنادي بالإنجيل على أنّه الجدير وحده بأن يستجيب، وبما فيه الكفاية، لطموحات الشباب الأساسية، وأن يستحثّهم، بأسلوب مثير، على الالتزام الشخصيّ: “تعال اتبعني!” (مر10/21). وهذا ينطوي على مشاركة يسوع في حبّه البنويّ للآب، وفي رسالته الخلاصية تجاه البشرية.
إن للكنيسة أشياء كثيرة تقولها للشباب، كما أن لهؤلاء أشياء كثيرة يقولونها للكنيسة. ومن شأن هذا الحوار المتبادل، الذي يجب أن يجري بموَدّة كبرى وصراحة وجرأة، أن يعزز اللقاء والعلاقات المتبادلة بين الأجيال، وأن يصبح مصدر ثروة وفتوّة للكنيسة وللمجتمع المدني معاً. وقد جاء في رسالة المجمع الفاتيكاني الثاني إلى الشباب: “إن الكنيسة تنظر إليكم بثقةٍ ومحبة… إنها بالذات فتوّة العالم الحقيقية… أنظروا إليها، تجدوا فيها وجه المسيح” (172).
الأطفال وملكوت السماوات
47- إن الرب يسوع خصَّ الأطفال، بلا شكّ، بمحبته الرقيقة والسَمْحة، كما خصَّهم ببركته، وأمّن لهم فوق هذا، ملكوت السماوات، (متى19/13- 15، ومر10/14). وقد أشاد خصوصاً بالدور الفاعل، الذي يضطلعون به في ملكوت الله: إنهم الرمز البليغ والصورة المشرقة للمزايا الأدبية والروحية، التي يجب توفّرها لدخول ملكوت الله، وللحَظْوة بحياةٍ ملؤها الثقة بالرب: “في الحقيقة أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الصبيان، لن تدخلوا ملكوت السماوات. فمن وضعَ نفسه مثل هذا الصبي، فذاك هو العظيم في ملكوت السماوات. ومَن قَبِل صبياً مثل هذا باسمي، فإياي يَقبل” (متى 18/3-5 ولو9/48).
إن الأطفال يذكروننا بأن نشاط الكنيسة الإرسالي المستمر يستمدُّ حيويته، لا من الوسائل والاستحقاقات البشرية فحسب، بل من هِبةٍ من الله مجانية على الإطلاق. إن حياة البراءة والنعمة، التي يعيشها الأطفال، وكذلك الآلام التي كثيراًً ما تُلْحَق بهم ظلماً، تُصبح، بفعل صليب المسيح، مصدر إثراءٍ روحي لهم وللكنيسة جمعاء. كل هذا يجب أن نعيَه جميعاً وعياً مُرْهَفاً وحافلاً بالشكر.
وعلاوة على ذلك، يجب الإقرار بأن سن الطفولة تنفتح على إمكانات عملٍ قيّمة، سواء لبناء الكنيسة أو لأَنْسَنة المجتمع. وما يؤكده المجمع الفاتيكاني الثاني بشأن حضور الخيّر في حضن الأسرة، أي “الكنيسة البيتية” – “حيث يُسهم الأطفال، بطريقتهم الخاصة، وبصفتهم أعضاء حية في الأسرة، في تقديس الأبوين” (173) – يمكن أن يُطبَّق أيضاً على حضور الأطفال في الكنيسة الخاصة والجامعة. وقد سَبَق اللاهوتي والمربيّ جان جِرْسُن، في القرن الخامس عشر فألمح إلى هذا، إذ قال: “إن الأطفال والشباب ليسوا جزءاً من الكنيسة يمكن إهماله” (174).
المُسِنّون وموهبة الحكمة
48- أمّا المسنّون الذين غالباً ما يُعتبرون، على غير حق، أشخاصاً لا فائدة تُرجَى منهم، اللهمَّ إن لم يُعتبروا عبئاً لا يُطاق، فإنّا نذكّر بأن الكنيسة تطالبهم، وتتوقع منهم، أن يتابعوا رسالتهم، الرسولية والإرسالية، التي ليست فقط مهمة ممكنة وواجبة، حتى في سنّهم المتقدّمة، بل تتخذ أيضاً، وفي هذه السن بالذات، نمطاً نوعياً فريداً.
وتُصوّر التوراة الإنسان المُسِن كرمزٍ للشخص الغني بالحكمة ومخافة الله (سير 25/4-6). ومن هذه الوجهة، يمكن تحديد “موهبة” الإنسان المُسِن بأنها عطية، تجعل منه، في الكنيسة والمجتمع، الشاهد لتقليد الإيمان (مز44/2 وخر 12/26،27) ومعلّم حياة (سير6/34 و8/11و 12) وصانع محبة.
وإن ازدياد عدد المسنين في أيامنا، في مختلف بلدان العالم، والإحالة المبكرة على التقاعد، يفتحان، أمام هؤلاء المسنين، مجالات جديدة للعمل الرسولي. إنها مهمة يتوجب عليهم الاضطلاع بها بشجاعة، والتغلب بعزمٍ على تجربة الانطواء على الماضي، في حنين إليه، مع العلم بأن الماضي لن يعود أبداً ورَفْض الالتزام، في الحاضر، بسبب الصعوبات التي يصادفونها، في عالمٍ يتجدد باستمرار، في حين يتوجب عليهم، على عكس ذلك، أن يَعوا بلا انقطاع، وعياً واضحاً، دورهم الشخصي في الكنيسة والمجتمع، لأن هذا الدور لا يتوقف، بسبب السنن بل يتخذ أوجهاً جديدة. وقد تغنَّى صاحب المزامير بهذا الدور حين قال: “في المشيب نفسه يثمرون، ويكونون سِماناً أغِضَّة، فيخبرون بأن الرب مستقيم” (مز 91/15و16). وإنّا نكرر ما قلناه بمناسبة الاحتفال بيوبيل الأشخاص المُسِنين: “يجب اعتبار الدخول في سن الكهولة امتيازاً، ليس فقط لأنه لم يُعْطَ لجميع الناس حظُّ بلوغ هذه المرحلة من العمر، بل أيضاً وخصوصاً، لأن الإنسان يستطيع فِعلاً في هذه المرحلة أكثر منه في أي زمنٍ آخر، أن يتفحَّص الماضي، وأن يُدرك مفهوم السر الفصحي ويتعمّق في عيشه وأن يُصبح في الكنيسة قدوةً لشعب الله كله… وبالرغم من القضايا المقعَّدة، التي تواجهونها، وهبوط القوى التدريجي، وعدم كِفاية المؤسسات الاجتماعية وبطء التشريع الرسمي وعدم التَفَّهم لدى المجتمع الأناني، بالرغم من كل هذا، لستم أيها المسنون على هامش حياة الكنيسة، ولستم عناصر سلبية في عالم يتطوّر بسرعة، ولا يجوز لكم أن تعتقدوا أنّكم كذلك. إنّكم عناصر فاعلة، في حقبة من الوجود الإنساني، تمتاز بخصبها البشري والروحي. إن لكم رسالةً يجب أن تؤدوها وعليكم واجب مشاركة يجب أن تقوموا به. إن كل كائنٍ بشري هو بحسب التدبير الإلهي، حياة تنمو. وهذا النُمو يبدأ مع انبثاق أول شرارة من وجوده ولا ينتهي إلاّ في الرمَق الخير من حياته” (175).
رجالٌ ونساء
49- لقد حظيَ وضع المرأة ودورها باهتمام خاص من قِبَل آباء مجمع الأساقفة. وكان هدفهم مزدوجاً. فمن جهة أقرّوا بضرورة مشاركة المرأة في بناء الكنيسة، وتنمية المجتمع وكرّروا دعوة كل فردٍ إلى هذا الإقرار. ومن جهة أخرى أجْروا تحليلاً أكثر نوعية لمشاركة المرأة في حياة الكنيسة ورسالتها.
واستناداً إلى البابا يوحنا الثالث والعشرين الذي كان يرى في وَعْي المرأة لكرامتها الخاصة، واشتراكها في الحياة العامة، علامة الأزمنة (176)، أكّد آباء مجمع الأساقفة، مراراً وبقوة، أن هناك ضرورة مُلحّة للدفاع عن كرامة المرأة الشخصية، وبالتالي عن مساواتها بالرجل، وتعزيز هذه الكرامة وهذه المساواة، في مواجهة التمييز الذي تُخْضَع له المرأة، لمجرّد كونها امرأة، ووضعها على هامش المجتمع.
وإذا كانت هذه المهمة منوطة بالجميع، في الكنيسة والمجتمع، فإنها بصفةٍ خاصة مهمّة النساء أنفسهن. وعليهن أن يشعرن بالتزامهن بها وبان تحريكها يقع على عاتقهن في الدرجة الأولى. يجب أن تُبذَل جهود كثيرة، في أماكن عديدة من العالم، وفي أوساط مختلفة، للقضاء على العقلية الجائرة والمؤذية، التي تنظر إلى الكائن البشري وكأنه شيء، لا شخص، وكأنه سلعة وأداة وُضعت في خدمة مصلحةٍ أنانية أو لإشباع شهوة لاسيما أن المرأة هي الضحية الأولى لمثل هذه العقلية. إن الاعتراف الصريح والواضح بكرامة المرأة الشخصية، يشكّل الخطوة الأولى لتعزيز مشاركتها الكاملة، سواء في حياة الكنيسة، أو في الحياة الاجتماعية والعامة.
إن السؤال الذي طرحه الإرشاد الرسولي في “وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم” بشأن أوجُه التمييز الكثيرة، التي تدفع المرأة ثمنها، يستدعي إجابةً أكثر تصميماً: “إننا نطالب الجميع بأن يلتزموا بنشاط رعوي نوعي، أوفر جرأة وحسماً، يرمي إلى وضع حد نهائي لهذا التمييز، على اختلاف وجوهه، ويُسفر عن تقدير كامل لصورة الله المتألقة في كل كائن بشري وبدون استثناء” (177). وقد أكّد آباء مجمع الأساقفة في هذا السياق أنه “يتوجّب على الكنيسة حين تحدد رسالتها أن تكافح بحزمٍ كل أشكال التمييز والتعسّف اللذين يُلحقان الضرر بالنساء” (178). كما أكّد الآباء “أن كرامة المرأة التي يُسيء إليها الرأي العام إساءةً كبرى يجب أن يُرَدَّ إليها الاعتبار عن طريق تأمين احترام حقيقي لحقوق الشخص البشري والعمل بمقتضى عقيدة الكنيسة” (179).
أما في ما يتعلّق بالمشاركة الفاعلة والمسؤولة في حياة الكنيسة ورسالتها بنوع خاص فيجدر بنا أن نشير إلى أن المجمع الفاتيكاني الثاني كان صريحاً في الدعوة إلى هذه المشاركة: “لمّا كانت النساء في أيامنا يشاركن مشاركة فاعلة في حياة المجتمع بكاملها يتحتّم أن يشاركن أيضاً مشاركةً أكبر في مختلف قطاعات الرسالة الكنسية” (180).
وفي هذه الحقبة التالية للمجمع الفاتيكاني الثاني، نما وتعمّق وعي المواهب التي تتحلّى بها المرأة، ووعي مسؤولياتها ودعوتها الخاصة. وهذا الوعي مستوحى، بطريقة فريدة، من الإنجيل، ومن تاريخ الكنيسة. والإنجيل، أي تعليم المسيح ومسلكه، يبقى في نظر المؤمن، وفي الفترة التاريخية التي نعيشها، المرجع الضروري والقاطع، والخصيب والمجدّد.
صحيح أن النساء لم يُدعَيْنَ للاضطلاع بالرسالة الخاصة بالرسل، وبالتالي لم يشاركن في كهنوت الخدمة، لكنّ عدداً كبيراً منهن رافقن يسوع في جولاته الرسولية، وقمن بمساعدة الرسل، (لو8/2و3) وكنَّ على مقربة من الصليب (لو23/49) وحضرن دفن يسوع (لو23/5) وتقبَّلن بشرى القيامة في فجر يوم الفصح، ونَقَلنها إلى الرسل (لو24/1-10) وصلَّين مع هؤلاء في العليّة، في انتظار العنصرة (أع1/14).
وتمشياً مع روح الإنجيل، خالفت الكنيسة الأولى تقاليد ذلك الزمن، ودعت المرأة للقيام بمهمّات مرتبطة بالتبشير. وقد ذكر بولس الرسول عدداً من أولئك النساء بأسمائهن، نظراً للمهمات المختلفة التي أُنيطت بهن، في وسط الجماعات الكنسية الأولى وفي خدمتها (روم 16/1-15 وفيل 4/2و3 وكول 4/15 و1كو 11/5 و1تيمو 5/16). وفي هذا قال بولس السادس: “إذا قامت الكنيسة على شهادة الرسل، فإن شهادة النساء أسهمت كثيراً في تغذية إيمان الجماعات المسيحية” (181).
لقد وُجد في الكنيسة دائماً، كما في الأجيال الأولى، كذلك على مرّ أزمنة النمو التي تلتها، نساءٌ لعبن – على اختلاف الوجوه واللغات – دوراً، كان أحياناً حاسماً، واضطلعن بمهمات كان لها أثرها البالغ في الكنيسة نفسها. إنه تاريخ حافل بنشاط واسع، كان في أغلب الأحيان متواضعاً وحَذِراً. ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون حاسماً بالنسبة إلى نمو الكنيسة وقداستها، إن هذا النشاط يجب أن يستمر بطريقة أفضل، وأن يتوسع ويتعمّق، مترافقاً، من جهة، مع الوعي الموسَّع والشامل لكرامة المرأة الشخصية ودعوتها، ومن جهة أخرى، مع الحاجة الملحّة إلى “تبشير بالإنجيل جديد” وإلى “أنسنة” أشمل للعلاقات الاجتماعية.
وإذ رجع آباء مجمع الأساقفة إلى توجيه المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي يعكس رسالة الإنجيل وتاريخ الكنيسة، صاغوا هذه “التوصية” الواضحة: “على الكنيسة أن تعترف، من خلال حياتها ورسالتها، بجميع المواهب المنعم بها على النساء والرجال، وأن تترجمها في الواقع” (182). وقالوا أيضاً: “يُعلن هذا المجمع أن الكنيسة تفرض الاعتراف بجميع هذه المواهب والخُبُرات والمؤهلات التي لدى الرجال والنساء، والاستعانة بها، لتصبح رسالتها أكثر فعالية (انظر مجمع عقيدة الإيمان: تعليم بشأن الحرية المسيحية والتحرير، عدد 72) ” (183)
الأسس الأنتروبولوجية واللاهوتية
50- إذا شئنا أن نؤمّن للنساء المكان الذي يحق لهن في الكنيسة والمجتمع، وجب علينا أن نقوم بدراسة، جديّة وعميقة، للأسس الأنتروبولوجية، التي يقوم عليها وَضْع الذكور والإناث، على أن تكون الغاية من هذه الدراسة تحديد هوية المرأة الشخصية والخاصة، في علاقتها بالرجل، التي تتسم بالاختلاف والتكامل المتبادل، ليس فقط في ما يتعلق بالأدوار الواجب الاضطلاع بها، والخدمات الواجب تأمينها، بل أيضاً وبطريقة أعمق، في ما يتعلق بالبُنية الشخصية ومفهومها. وقد شعر آباء مجمع الأساقفة بوجوب القيام بهذه الدراسة، فأكّدوا أن “الأسس الأنتروبولوجية واللاهوتية في حاجة إلى دراسات عميقة، تستهدف إيجاد حلول للقضايا، التي تتصل بمفهوم الجنسين الحقيقي، وكرامتهما” (184).
وإذ تمضي الكنيسة قُدُماً في التفكير في الأسس الأنتروبولوجية واللاهوتية للوضع الأنثوي، تؤمّن حضورها في المَدْرج التاريخي لمختلف الحركات العاملة في سبيل كرامة المرأة. وإذ هي تَنفَذُ إلى جذور الكيان الشخصي الأنثوي، تُسهم في هذا السبيل إسهاماً قيّماً، إلى أقصى حد. والكنيسة تبغي من وراء ذلك، وبعزمٍ أشد إطاعة الله، الذي، حين خلق الإنسان “على صورته” “خلقه ذكراً وأنثى” (تك1/27) كما تبغي الاستجابة لدعوة الله للبشر إلى التَعرُّف على تدبيره كخالق، وإلى الإعجاب بهذا التدبير، والعيش بوحيٍ منه. إنه تدبير “منذ البدء” بطابع لا يُمْحى، كيان الشخص البشري – رجلاً وامرأة _ وبالتالي، بُنْياته، بما تحمل من معاني، وديناميّته العميقة. وهذا التدبير بالذات، المتَّسم بالحكمة والمحبة، ينبغي استكشافه بكل ما ينطوي عليه من ثروة، تجلَّت تدريجياً “منذ البدء” وتحققت عبر تاريخ الخلاص، وبلغت ذروتها في “ملء الزمان” عندما “أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة” (غلا4/4). وهذا “الملء” يتواصل في التاريخ. فقراءة تدبير الله مستمرة، ويجب أن تستمر بلا انقطاع، في إطار إيمان الكنيسة، ومن خلال حياة العديد من النساء المسيحيات. ولا يجوز إهمال ما تُتحفنا به العلوم البشرية المختلفة، والثقافات على تنوّعها. وهذا الإسهام يمكن أن يساعد على تَقَبُّل القِيَم وتَفهُّم المتطلبات الكامنة في جوهر المرأة الثابت، وعلى تحديدها، بفضل بصيرةٍ نيّرة. هذا فضلاً عن القيم والمتطلبات، المرتبطة بتطور الثقافات عبر التاريخ. وهذا ما يذكّرنا به المجمع الفاتيكاني الثاني: “تؤكّد الكنيسة أن وراء كل التغيُّرات أشياء تبقى ثابتة، لأن أساسها النهائي في المسيح، الذي هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد” (عبر13/8) (185).
لقد جاءت الرسالة الرسولية، الخاصة بكرامة المرأة ودعوتها، على ذكر الأسس الأنتروبولوجية واللاهوتية لكرامة المرأة الشخصية. وهذه الوثيقة، التي تتناول، من جديد، التأملات الواردة في لقاءات يوم الأربعاء، والتي خُصّصت، لفترة طويلة لموضوع “لاهوت الجسد” وتتوسع في هذه التأملات وتُحددها، إنما ترمي إلى الوفاء بوعدنا الذي تضمّنته الرسالة العامة “أم الفادي” (186)، وفي ذات الوقت، إلى استجابة طلب مجمع الأساقفة.
ولما كانت الرسالة الرسولية “كرامة المرأة” ترتدي طابع التأمل الكتابي – اللاهوتي، يمكنها أن تُلهم الجميع رجالاً ونساءً وأن تحث ممثلي العلوم البشرية والأنظمة اللاهوتية بنوع خاص على مواصلة بحثهم النقدي، للتعمّق أكثر فأكثر في دراسة القِيم والمواهب النوعية التي يتحلّى بها الإناث والذكور، ليس فقط في مجال الحياة الاجتماعية بل كذلك وخصوصاً في مجال الوجود المسيحي والكنسي، وذلك انطلاقاً من كرامة الرجل والمرأة الشخصية وعلاقاتهما المتبادلة.
ولا بد للمتأمل في الأسس الأنتروبولوجية واللاهوتية، التي تقوم عليها الأنوثة، من أن يستثير ويسترشد بها في الرد المسيحي على السؤال الذي كثيراً ما يُطرح، وبأسلوب قاطع أحياناً، حول “المجال” الذي يمكن بل يجب أن تشغله المرأة، في الكنيسة والمجتمع.
ويتبيّن بوضوح، من خلال كلام يسوع ومواقفه – وهي المقاييس التي تعتمدها الكنيسة – أنه لا يوجد أي تمييز بين المرأة والرجل، على صعيد علاقتهما بالمسيح، إذ “ليس هناك رجل وامرأة. فأنتم جميعاً واحد في المسيح يسوع” 0غلا 3/28)، ولا على صعيد المشاركة في حياة الكنيسة وقداستها. وهذا يتفق مع تصريح يوئيل النبي الرائع، الذي تحقق في يوم العنصرة: “أفيض روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم” (يوئيل2/28، أع2/ 17 وما يتبع). وقد ورد في الرسالة الرسولية، الخاصة بكرامة المرأة ودعوتها: “كلاهما – المرأة والرجل – مُنفتحان على الحقيقة الإلهية وعلى المحبة في الروح القدس وجديران باستثمارهما. وكلاهما يستوعبان حضور الروح القدس، الخلاصي والمبرّر” (187).
رسالة في الكنيسة والعالم
51- أما في ما يتعلّق برسالة الكنيسة الرسولية، فإنه من المؤكّد أن المرأة، لفعل سرَّي المعمودية والتثبيت، تشارك كالرجل في وظيفة يسوع المسيح المثلثة، بصفته كاهناً ونبياً وملكاً.وهي بالتالي مؤهلة للمشاركة في رسالة الكنيسة الأساسية، أي التبشير بالإنجيل، وملتزمة بها. والمرأة من جهة أخرى مدعوة حين تضطلع بهذه الرسالة بالذات، للاستعانة بمواهبها الخاصة لاسيما موهبة الكرامة الشخصية ذاتها، التي مَنَّ الخالق بها عليها، وموهبة الكلمة وشهادة الحياة وسائر المواهب المرتبطة بدعوتها الأنثوية.
ولا تستطيع المرأة في مشاركتها في حياة الكنيسة ورسالتها أن تنال سر الكهنوت، وبالتالي لا تستطيع الاضطلاع بالمهمات الخاصة بكهنوت الخدمة. إنه ترتيب أسندته الكنيسة دائماً إلى إرادة يسوع المسيح الواضحة، والحرة تماماً والسامية التي تجلَّت في دعوته الرجال وحدهم ليكونوا رسله (188). ويمكن فهم هذا الترتيب في ضوء العلاقة القائمة بين المسيح العريس والكنيسة عروسه (189). وهذه الرؤية تتعلق بالوظيفة ولا علاقة لها بالكرامة والقداسة. ويجب التأكيد أنه “وإن كانت الكنيسة ذات بُنْيةٍ إيراركية فإن هذه البُنية تستهدف بكاملها تقديس أعضاء المسيح” (190). “ولكن إذا كنا على حد قول بولس السادس لا نستطيع تغيير موقف المسيح، ودعوته الموجّهة إلى الرجال، نستطيع مع ذلك أن نُقرّ بدور المرأة في الرسالة التبشيرية، وفي حياة الجماعة المسيحية، وأن نعزز هذا الدور” (191).
ومن الضروري جداً أن نتجاوز الإقرار النظري بحضور المرأة الفاعل والمسؤول في الكنيسة، ونحققه عملياً. وفي ضوء هذا المفهوم الواضح جداً، يجب أن نقرأ الإرشاد الذي نحن بصدده والموجَّه إلى المؤمنين العلمانيين، الذين خصصناهم عمداً وتكراراً بعبارة “رجال ونساء”. ويتضمّن الحق القانوني، فضلاً عن ذلك تدابير عديدة بشأن مشاركة المرأة في حياة الكنيسة ورسالتها. إنها تدابير يجب أن نتوسع في معرفتها، وأن نتجاوب معها بأكثر واقعية ووضوحاً مع مراعاة الفوارق المتمثّلة في الحساسيات الثقافية والاحتياجات الرعوية.
لنفكّر مثلاً في إشراك النساء في المجالس الرعوية، على مستوى الأبرشية والرعية، وفي مجامع الأبرشيات والمجامع الخاصة. وهذا ما حمل آباء مجمع الأساقفة على القول: “لتشارك النساء في حياة الكنيسة بدون تمييز على الإطلاق حتى في المشاورات وإعداد القرارات” (192). وقالوا أيضاً: “يجدر أيضاً بالنساء اللواتي يلعبن دوراً هاماً في نقل الإيمان، وفي تأمين مختلف الخدمات في حياة الكنيسة، أن يشاركن في إعداد الوثائق الرعوية، والمبادرات الإرسالية، كما يجب أن يُعترف بهن كمشاركات في رسالة الكنيسة، على صعيد الأسرة والمهنة والمجتمع المدني” (193).
وفي مجال التبشير والتعليم الديني، الأكثر دقة، يجب بذل نشاط أكبر في تعزيز دور المرأة التكاملي، في نقل الإيمان ذلك الدور الذي يتوجب على المرأة أن تقوم به ليس فقط ضمن الأسرة بل في مختلف أماكن التربية، وبوجهٍ أعمّ، في كل مكان مخصص لِتلَقّي كلمة الله وفهمها وإيصالها بمختلف الوسائل ومن بينها الدرس والبحث وتعليم اللاهوت.
وكلما نما التزام المرأة بعمل التبشير بالإنجيل، ازدادت شعوراً بحاجتها إلى أن تُبَشّر. وهكذا تستطيع، بعينها المستنيرتين بالإيمان (أف 1/18) أن تميّز بين ما ينسجم حقاً مع كرامتها الشخصية ودعوتها من جهة وما يتعارض معهما من جهة أخرى، بحيث لا تُحجم عن تعزيز الوسائل الكفيلة بتنمية القِيم الحقيقية، بحجة “الكرامة” وباسم “الحرية” والتقدم، فتتحمل مسؤولية التدهور الأخلاقي، على مستوى الأشخاص والأوساط والمجتمع. إن القيام بهذا “التمييز” ضرورة تاريخية مُلحّة، لا يجوز إغفالها كما أنه في ذات الوقت أمرٌ ممكن بل واجب مُلِحّ تفرضه مشاركة المرأة المسيحية في وظيفة المسيح والكنيسة النبوية. إن “التمييز” الذي يتحدث عنه بولس الرسول تكراراً، لا يكتفي بتقويم الأمور والأحداث في ضوء الإيمان بل يشمل كذلك تصميماً فعلياً والتزاماً فاعلاً، سواء في نطاق الكنيسة أو في نطاق المجتمع البشري.
ويمكننا التأكيد أن جميع قضايا العصر، التي ورد ذكرها في القسم الثاني من الدستور المجمعي “فرح ورجاء – والتي لم تجد لها قط حلاًّ، ولا خفَّت حدّتها في الفترة التي تفصلنا عن المجمع الفاتيكاني الثاني – تقتضي حضوراً فاعلاً للنساء، وإسهاماً منهن مثالياً في حلّها، ليس له من بديل.
وإن بين المهمات الموكولة إلى المرأة مهمتين كُبريين، بنوع خاص تستحقان أن نلفت إليهما نظر الجميع:
الأولى توفي كامل الكرامة لحياة المرأة كزوجة وأم. إن للمرأة اليوم إمكانات جديدة لتَفَهُّم القِيَم البشرية والمسيحية، التي تنطوي عليها الحياة الزوجية، وخبرة الأمومة، ولتحقيق هذه القِيَم تحقيقاً أفضل. ويستطيع الرجل نفسه، كزوج وأب أن يُفيد من تَدَخُّل المرأة الذكي والمحب والحازم، للتخلّص من عادة الغياب أو الحضور العَرَضي أو غير الكافي، ولاسيما لإقامة علاقات شركة بين الأشخاص جديدة وهامة.
أما مهمة المرأة الثانية فهي تأمين البُعد الأخلاقي للثقافة، أعني بُعداً بشرياً حقّاً، يليق بكرامة الكائن البشري في حياته الشخصية والاجتماعية. ويبدو أن المجمع الفاتيكاني الثاني يربط بين البُعد الأخلاقي للثقافة ومشاركة العلمانيين في رسالة المسيح الملوكية: “لِيُوحّد العلمانيون جهودهم في سبيل تأمين الإصلاحات الملائمة للمؤسسات، وأوضاع الحياة التي تدفع الناس إلى الخطيئة لكي تتقيّد كلها بقواعد العدالة، وتساعد على ممارسة الفضائل بدلاً من أن تعرقلها. ومتى فعل العلمانيون هذا، فإنهم سيُشبعون الثقافة والأعمال البشرية من القيمة الأخلاقية” (194).
وبقدر ما تشارك المرأة، مشاركة فاعلة ومسؤولة في نشاط المؤسسات المنوط بها الحفاظ على أفضلية القِيَم الإنسانية في حياة الجماعات السياسية، بقدر ذلك تكون أقوال المجمع الفاتيكاني الثاني قد حددت حقلاً هاماً لرسالة المرأة. إن احترام كرامة المرأة الشخصية ودعوتها النوعية يجب أن يمتد إلى كل أبعاد حياة هذه الجماعات، بدءاً من البعد الاجتماعي – الاقتصادي وانتهاءً بالبعد الاجتماعي – السياسي: ليس فقط في المجال الشخصي بل في المجال الجماعي أيضاً، وليس فقط في أشكال النشاط، المتروكة لحرية الأشخاص المسؤولة بل كذلك في تلك التي تكفلها الشرائع المدنية العادلة.
“ليس حسناً أن يكون الإنسان وحده. فأصنع له عوناً بإزائه” (تك2/18). إن الله الخالق استودع المرأة الرجل. صحيح أنه استودع كل إنسان أخاه الإنسان، لكنه بصفة خاصة استودع المرأة الرجل، لأن المرأة بفضل اختبارها الخاص للأمومة، تَنعم بشعور نوعي تجاه الرجل وتجاه مقوّمات خيره الحقيقي، ابتداءً من قيمة الحياة الأساسية. وما أعظم إمكانات المرأة ومسؤولياتها في هذا المجال، في عصر لا يُسْتَوْحى فيه تطور العلم والتقنية دائماً من الحكمة الحقيقية ولا يُقاس بمقياسها، مما يُعرّض لخطرٍ أكيد، خطر انتزاع صفة الإنسانية من الحياة البشرية لاسيما حين تتطلّب هذه الحياة حباً أوفر وحفاوةً أكثر سخاء.
إن المرأة حين تضع مواهبها في خدمة الكنيسة والمجتمع، تشعر بانشراح شخصي حقيقي – يركّزون عليه كثيراً في أيامنا – وتسهم في الوقت عينه إسهاماً فريداً في تحقيق الشركة الكنسية، ودينامية شعب الله الرسولية.
ومن هذا المنظور، يجب التحدث أيضاً عن الرجل، لا عن المرأة وحدها.
الحضور المشترك والتعاون بين الرجال والنساء
52- إن أكثر من صوتٍ قد ارتفع، في اجتماعات مجمع الأساقفة، مُعرباُ عن الخوف من أن يقود الإلحاح المفرط، بشأن وضع النساء ودورهنّ، إلى نسيان الرجل، وهو نسيان مرفوض. إننا نأسف في الواقع وفي ظروف كنسية مختلفة لغياب الرجال أو لحضورهم غير الكافي. فإن عدداً منهم يتملّصون من مسؤولياتهم الكنسية الخاصة، بحيث لا يتفرّغ سوى النساء لمواجهة هذه المسؤوليات التي نذكر منها، على سبيل المثال، المشاركة في الصلاة الطقسية في الكنيسة، وتربية الأولاد ولاسيما التعليم الديني، وحضور اللقاءات الدينية والثقافية والإسهام في المبادرات الخيريّة والمشاريع الإرسالية.
لا بدّ إذن من القيام بمجهود راعوي، يرمي إلى تحقيق حضور مشترك للرجال والنساء، لتصبح مشاركة المؤمنين العلمانيين في رسالة الكنيسة الخلاصية، أكثر اكتمالاً وانسجاماً وإثماراً.
إن الباعث الأساسي الذي يفرض الحضور المنسَّق للرجال والنساء وتعاونهم، ويبرّر هذا الحضور وهذا التعاون، لا يكمن فقط كما قلنا في تأمين المزيد من التعبير والفعالية لنشاط الكنيسة الرعوي، ولا بالأحرى، في مجاراة الجانب الاجتماعي للتعايش البشري، الذي يجمع بالطبع بين الرجال والنساء، بل إن هذا الباعث يكمن في كون هذا الحضور وهذا التعاون يتجاوبان مع قصد الله، الذي شاء “منذ البدء” أن يكون الكائن البشري “وحدة بين اثنين” والنذي خلق الرجل والمرأة كجماعة أشخاص أُولى، تكون مصدراً لكل جماعة أخرى، وفي الوقت عينه، “علامة” لجماعة الحب المتبادل بين الأشخاص، التي يقوم عليها سر حياة الله الواحد والثالوث الداخلية.
لهذا السبب، بنوع خاص، تصبح الطريقة الأعم والأدق والأساسية في ذات الوقت، لتأمين حضور الرجال والنساء المنسَّق والمتناغم، في حياة الكنيسة ورسالتها، أن يقوموا أولاً بمهمات الزوجين والأسرة المسيحية، ويضطلعوا معاً بمسؤولياتهم. ومن خلال ذلك، يُستشفُّ ويُعلَن تنوُّع أشكال الحب والحياة المختلفة: الزوجية والأبوية والأمومية والبنوية والأخوية. وكما جاء في إرشادنا في “وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم”: “إذا كانت الأسرة المسيحية جماعة يجدد المسيح روابطها من خلال الإيمان والأسرار فإن مشاركتها في رسالة الكنيسة جب أن تتم بطريقة جماعية. وعليه، فإن على العروسين أن يعيشا خدمتهما للكنيسة والعالم كزوجين، وعلى الأبوين وأولادهما أن يعيشوا هذه الخدمة كأسرة… والأسرة المسيحية، فضلاً عن ذلك، تبني ملكوت الله في التاريخ عبر الشؤون اليومية، الخاصة بوضعها الحيوي، والمميِّزة له. حينئذٍ تتجسد مشاركة الأسرة المسيحية في رسالة يسوع المسيح وكنيسته – النبوية والكهنوتية والملوكية – وتتحقق في إطار الحب الزوجي والعائل المُعاش في ثروة قِيَمه العجيبة، وفي ما يقتضيه من عطاءٍ كلّي وأمانة وخِصْب” (195).
إن آباء مجمع الأساقفة انطلاقاً من هذا المنظور قد ذكّروا بالمفهوم الذي يجب أن يضطلع به سر الزواج، في الكنيسة والمجتمع ليتهيأ له أن ينير ويُلهم الرجل والمراة في علاقاتهما المتبادلة. وبهذا المعنى ركّز الآباء على “أنه من الضروري والمُلحّ، أن يعيش كل مسيحي رسالة الرجاء التي تنطوي عليها العلاقة بين الرجل والمرأة، وأن يُعلن هذه الرسالة. إن سر الزواج الذي يكرّس هذه العلاقة في صورتها الزواجيّة، ويُعلنها “علامةً” لعلاقة المسيح بكنيسته، يتضمّن تعليماً هاماً جداً بالنسبة لحياة الكنيسة. وعلى الكنيسة أن تنقل إلى عالم اليوم هذا التعليم، الذي يجب أن يُلهم الرجل والمرأة في جميع علاقاتهما المتبادلة. وعليها أيضاً أن تتوسع في استثمار هذه الثروات” (196). وكان الآباء على حق، حين لاحظوا أنه “من الضروري التركيز من جديد على وجوب تقدير البُتُولة واحترام الأمومة” (197)، لتعزيز ازدهار الدعوات المختلفة والمتكاملة، في إطار الشركة الكنسية الحي، وفي سبيل نموها المتواصل.
مرضى ومتألمون
53- إن الإنسان مدعوّ إلى الفرح، لكنه يختبر كل يوم أشكالاً عديدة من الآلام والأوجاع. وقد ختم الأساقفة مجمعهم بهذا النداء الموجّه إلى الرجال والنساء، المصابين بالآلام والأوجاع المتنوّعة: “أيها المُهْمَلون والمنبوذون من مجتمع الاستهلاك والمرضى والمُعاقون والفقراء والجائعون والمهجَّرون والسجناء والبطّالون والمُسنّون والأولاد اللقطاء والأشخاص العائشون في العزلة وأنتم يا ضحايا الحرب وكل ضروب العنف، الناجمة عن مجتمعنا الإباحي، إن الكنيسة تشارككم في آلامكم التي تقودكم إلى الرب وتُشرككم في آلامه الفدائية، وتجعلكم تعيشون في نور الفداء. إننا نعتمد عليكم لتعلّموا العالم بأسره كيف يكون الحب. وسنبذل كل ما في وسعنا لتشغلوا في المجتمع وفي الكنيسة، المكان الذي يحق لكم أن تشغلوه” (198).
وفي إطار عالم الآلام البشرية، الذي لا حدود له لِتَّتجه أنظارنا إلى جميع المصابين بالأمراض، على اختلاف أشكالها، لأن المرضى يجسّدون الإنسان المتألم، تجسيداً أكثر تواتراً وشيوعاً.
ونداء الرب موجّه إلى الجميع، وإلى كل فرد: إن المرضى هم أيضاً مرسَلون كفَعَلة إلى كرمه، ولا يُثْنيهم العبء، الذي يُضني أعضاء الجسد، ويزعزع صفاء النفس عن الذهاب إلى الكرْم والعمل فيه، بل يحثّهم على أن يعيشوا دعوتهم الإنسانية والمسيحية، ويشاركوا في تنمية ملكوت الله بوسائل جديدة بل أكثر فعالية. وعليهم أن يستوحوا منهجهم من كلام بولس الرسول، فهو أولاً نورٌ يفتح أعينهم على معنى النعمة الخاصة بحالهم ذاتها: “أُتمُّ ما ينقص من شدائد المسيح في جسمي لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كول 1/24). وكان هذا الاكتشاف مصدر فرحٍ للرسول: “إنّي أفرح الآن في الآلام التي احتملها من أجلكم” (كول1/24).
ويستطيع كثيرون من المرضى أن يحملوا في قلوبهم هم أيضاً فرح الروح القدس، مع كونهم في ضيقٍ شديد” (1تسا1/6) وأن يكونوا شهوداً لقيامة يسوع. وقد قال مُعاق، في خطاب ألقاه في إحدى جلسات مجمع الأساقفة: “إنه لمن الأهمية بمكان أن نوضح أن الله يدعو المسيحيين، الذين يُعانون في حياتهم حالات المرض والألم والشيخوخة، ليس فقط لأن يضمّوا أوجاعهم الخاصة إلى آلام المسيح، بل لأن يفتحوا قلوبهم أيضاً منذ الآن لطاقات التجديد، ولفرح المسيح الناهض، وأن ينقلوا إلى الآخرين هذه الطاقات وهذا الفرح” (2كو4/10و11 و1بط4/13 وروم 8/18 وما يتبع) (199).
وقد ورد في الرسالة الرسولية “الألم الخلاصي” أن الكنيسة من جهتها “التي انبثقت من سر الفداء بواسطة صليب المسيح، يتوجّب عليها أن تسعى للقاء الإنسان على طريق الألم بنوع خاص، وفي هذا اللقاء، يصبح “الإنسان هو نفسه طريق الكنيسة” وهذا من أهم الطرق” (200). إن الإنسان المتألم هو طريق الكنيسة، لأنه أولاً طريق المسيح نفسه، السامري الصالح “الذي لم يَمْضِ في طريقه” “بل تحنن عليه ودنا إليه وضمد جراحاته، وصبَّ عليها زيتاً وخمراً، وحمله على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى بأمره: (لو10/32-34).
لقد نقلت الجماعة المسيحية، على مرّ القرون، مثل السامري الصالح إلى جمهور المرضى والمتألمين الغفير، معلنةً حب المسيح الشافي والمعزّي، وناشرةً إياه. وقد تمَّ هذا من خلال شهادة الحياة الرهبانية، المكرَّسة لخدمة المرضى، وعبرَ التزام جميع الأشخاص، المهتمّين بالخدمات الصحية، التزاماً لا يكلّ. ونرى اليوم في المستشفيات ودور العلاج الكاثوليكية ذاتها، حضوراً للمؤمنين العلمانيين، رجالاً ونساء، يتكثّف إلى حدٍّ أصبح معه هذا الحضور كاملاً أحياناً وقاصراً عليهم وحدهم. إن هؤلاء بالذات، أطباء كانوا أو ممرضين وممرضات، فضلاً عن المستخدمين الصحيين جميعاً والمعاونين المتطوعين هم المدعوون ليكونوا صورةً حية للمسيح وكنيسته في محبتهم للمرضى والمتألمين.
عمل رعوي متجدد
54- يجب أن لا يتقلّص هذا الإرث الثمين، الذي تسلَّمته الكنيسة من يسوع المسيح “طبيب الجسد والنفس” (201) بل يجب استثماره وتنميته، أكثر فأكثر، عن طريق استئناف العمل الرعوي، وإعطائه دفعاً جديداً في سبيل المرضى والمتألمين وبالتعاون معهم. ويجب أن يكون هذا العمل جديراً بدعم وتعزيز ما نقدمه من اهتمام وحضور وإصغاء وحوار ومشاركة ومساعدة فعلية للشخص، حينما تُمتحن امتحاناً قاسياً، بسبب المرض والألم، ليس فقط ثقبه بالحياة، بل كذلك إيمانه بالله وبحبه الأبوي. ويجد هذا التجدد الرعوي أبلغ تجسيدٍ له في الاحتفال بالأسرار المقدسة مع المرضى وعلى نيَّتهم، فيعزّز هذا صمودهم في حالة الوجع والوهن، وكذلك رجاءهم في حالة اليأس، ويفتح مجالاً للقاء الفرح.
وإن أحد الأهداف الأساسية لهذا العمل الرعوي والمتجدد والمكثف الذي يجب أن يشمل بطريقة منسَّقة جميع عناصر الجماعة الكنسية، هو إشعار المريض والمُعاق والمتألم بأنه ليس فقط مستفيداً من محبة الكنيسة وخدماتها، بل عنصراً فاعلاً أيضاً ومسؤولاً في مجال التبشير والخلاص، ومن هذا المنظور يجب على الكنيسة أن تُعلن بُشرى الخلاص في صميم المجتمع، وأن تُدرجها في الثقافات التي فقدت معنى العذاب البشري، والتي تتناول بالنقد كل الأحاديث التي تصبُّ في هذا الواقع الحياتي. إن بُشرى الخلاص تُعلِن للملأ أن الإنسان والمجتمع نفسه، يمكن أن يجدا في الألم معنى إيجابياً، باعتبار أنه ينطوي، في توجهه على شكل من أشكال المشاركة في آلام المسيح المخلِّصة وفي فرح قيامته، كما ينطوي بالتالي على طاقةٍ لتقديس النفس وبناء الكنيسة.
إن إعلان بشرى الخلاص هذه يُصبح قابلاً للتصديق، إذا لم يصدر فقط عن الشفتين، بل مرَّ عبر شهادة الحياة سواء كانت شهادة الذين يعتنون بصحة المرضى وبالمُعاقين والمتألمين، أو شهادة المرضى أنفسهم، إذا ازدادوا وعياً لمكانتهم ولرسالتهم في الكنيسة، وفي سبيل الكنيسة، واضطلعوا بمسؤولياتهم.
وإذا شئنا أن تزدهر “حضارة المحبة” وأن تمر في عالم العذاب البشري الواسع، يجدر بنا أن نقرأ، وأن نتأمل من جديد، الرسالة الرسولية “الألم الخلاصي” التي نذكّركم هنا بخاتمتها: “إنه لضروري أن يتجمَّع بالروح على قدم صليب الجلجلة كل المتألمين المؤمنين بالمسيح، لاسيما أولئك الذي يتعذّبون لا لشيء إلاّ لأنهم يؤمنون بالمسيح المصلوب، والناهض من القبر حتى إذا ما قدّموا الرب نفسه لأجل وحدة الجميع. وَلْيتجمَّع أيضاً على قدم الصليب كل ذوي النوايا الصالحة، لأن المعلَّق على الصليب هو “فادي الإنسان” ورجل الآلام، الذي اضطلع بالآلام الجسدية والنفسية، التي يعانيها البشر في كل الأزمنة، وهكذا يستطيعون أن يكتشفوا في المحبة بُعْدَ آلامهم الخلاصي، والأجوبة الصحيحة على جميع تساؤلاتهم. وإننا مع مريم أم المسيح التي كانت واقفة على قدم الصليب، نتوقف على مقربة من صُلبان إنسان اليوم، ونبتهل إلى جميع القديسين، الذين شاركوا المسيح في آلامه، على مر القرون، مشاركة خاصة ونطلب إليهم أن يُساندونا كما نطلب مساعدتكم يا جميع المعذّبين. وأنتم أنفسكم أيها الضعفاء نطلب منكم أن تصبحوا مصدر قوة للكنيسة والبشرية. وَلْتكن آلامكم، المتحدة بصليب المسيح، هي المنتصرة في الصراع العنيف، الدائر بين الخير والشر على مسرح عالمنا المعاصر” (202).
حالات الحياة والدعوة
55- إن كل فَعَلة الكَرْم أعضاء في شعب الله: الكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين العلمانيين، وجميع الذين هم في ذات الوقت موضوع الشركة الكنسية، والمشاركة في رسالة الخلاص ومادتهما. إننا جميعاً وكل فرج منا نعمل في كرْم الرب الوحيد والمشترك بيننا، من خلال مواهب وخدمات مختلفة ومتكاملة.
والمسيحيون على صعيد الوجود قبل صعيد العمل، هم أغصان الكرمة الوحيدة المخصبة، التي المسيح. إنّهم الأعضاء الحية في جسد الرب الواحد، المبني بقوة الروح. وإذ نقول على صعيد الوجود، قبل صعيد العمل هم أغصان الكرمة الوحيدة المخصبة، التي هي المسيح. إنهم الأعضاء الحية في جسد الرب الواحد، المبنيّ بقوة الروح. وإذ نقول على صعيد الوجود، لا نعني فقط حياة النعمة والقداسة، التي هي المصدر الأول والأغنى لِخِصب أمّنا الكنيسة المقدسة الرسوليّ والإرساليّ، بل نعني أيضاً قداسة الحياة، التي يتّصف بها الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وأعضاء الجمعيات العلمانية، والمؤمنون العلمانيون.
إن حالات الحياة المختلفة في الكنيسة – الشركة، متّحدة في ما بينها إلى حد أن كل حالةٍ منها موجَّهة إلى الأخرى. إنها واحدة في معناها العميق المشترك بينها. إنها أنماط حياة تُعاش في إطارها الكرامة المسيحية، المتساوية لدى الجميع، والدعوة الشاملة إلى القداسة، في كمال المحبة. وهذه الأنماط مختلفة ومتكاملة معاً، بحث أن لكل منها وجهه الفريد، الذي لا يمكن الخلط بينه وبين غيره، فيما كل منها في ذات الوقت على علاقةٍ بجميعها وفي خدمتها.
فحالةُ حياة المؤمن العلماني تتسم، بنوع خاص، بالطابع العلماني. وهي تؤدي خدمة كنسية، إذ تشهد بطريقتها أمام الكهنة والرهبان والراهبات، لما تنطوي عليها لشؤون الأرضية والزمنية من معنى، بالنسبة إلى تدبير الله الخلاصي، كما أنها تذكّرهم بذلك. أما كهنوت الخدمة فإنه بدوره يكفل بصفة مستمرة الحضور السري للمسيح الفادي، في مختلف الأزمنة والأمكنة. أما الحياة الرهبانية، فإنها تشهد لطابع الكنيسة الاسكاتولوجي، أو بعبارة أخرى، لِنُزوع الكنيسة إلى ملكوت الله الذي ترمز إليه وتُظهره قبل أوانه، وتتذوّقه عبر نذور العفة والفقر والطاعة.
إن كل حالات الحياة، سواء في مُجْمَلِها أو كل حالة منها، في علاقتها بغيرها هي في خدمة تنمية الكنيسة. إنها أنماط حياة مختلفة، تتوحّد في العمق، في “سر الشركة” الكنسية، وتُنَسِّق في ما بينها بدينامية عميقة، ضِمْن رسالة الكنيسة الواحدة.
وهكذا يكشف سر الكنيسة، الوحيد والمتجانس، عن غنى سر المسيح ويعيشه في مختلف حالات الحياة وتنوّع الدعوات. والكنيسة، كما راق للآباء أن يرددوا، تشبه حقلاً، تنبت فيه أعشاب ونباتات وزهور وثمار عجيبة وأخّاذة في تنوّعها وقد قال في هذا القديس أمبروسيوس: “هناك حق يُنتج ثماراً كثيرة، ولكنّ أفضل الحقول هو الذي يُنتج ثماراًُ وزهوراً معاً. والحال أن حقل الكنيسة يُنتج هذه وتلك. فهنا يمكنك أن ترى البُتولة تزهر، وهناك الترَمُّل يشبه في تقشُّفه الغابات في السهل، وهنالك الأعراس التي تباركها الكنيسة والتي تملأ أهراءات العالم الفسيحة من وافر الحصاد. فيما تفيض معاصِر الرب يسوع، وكأنها ثمار كرمة مزدهرة، تلك الثمار التي تمثّل ثروة الأعراس المسيحية” (203).
الدعوات العلمانية المختلفة
56- إن التنوّع في كثرته يتجلّى أخيراً في داخل كل حالة من حالات الحياة. ففي نطاق الحياة العلمانية نرى دعوات مختلفة، وبعبارة أخرى مختلف الدروب الروحية والرسولية، التي يمكن أن يسلكها المؤمن العلماني. فهناك دعوات علمانية “خاصة” تنبت في إطار دعوة علمانية “عامة”. ويجدر بنا في هذا الصدد، أن نذكر الخبرة الروحية، التي نضجت حديثاً في الكنيسة، وأسفرت عن ظهور العديد من الجمعيات العلمانية المختلفة الأشكال. وقد انفتح المؤمنين العلمانيين والكهنة أنفسهم مجال ممارسة المشورات الإنجيلية، المتعلّقة بالفقر والعفة والطاعة، عن طريق إبراز النذور أو قطع الوعود، مع المحافظة الكلية على الوضع الخاص بالعلمانيين والإكليريكيين (204). وقد لاحظ آباء مجمع الأساقفة “أن الروح يُحدث أيضاً أشكالاً أخرى من تكريس الذات، يتطوّع عَبْرَها أشخاص، بدون أن يتخلَّوا قطعياً عن حياتهم العلمانية” (205).
وإنّا لنختم ما قلناه، بتلاوة صفحة جميلة للقديس فرنسيس الأسيزي، الذي بَرَع في تنمية الحياة الروحية لدى العلمانيين (206). إنه في سياق حديثه عن “التقوى” أي الكمال المسيحي، أو “الحياة بحسب الروح” تطرَّق بأسلوب بسيط ورائع، إلى دعوة جميع المسيحيين إلى القداسة، كما تطرَّق في ذات الوقت إلى الشكل النوعيّ، الذي يستطيع كل مسيحي، من خلاله، تحقيق هذه الدعوة. قال: “كما أن الله، عندما خلق الكون أوصى النباتات بأن تثمر، كلاًّ بحسب جنسه (تك1/11) كذلك يوصي المسيحيين، وهم نباتات كنيسته الحية، أن يأتوا بثمار التقوى، كل واحد بحسب واقعه ودعوته. على النبيل والحِرَفيّ، وعلى الخادم والأمير وعلى الأرملة والمتزوجة، أن يمارسوا التقوى بطرق مختلفة. وفضلاً عن ذلك، يجب أن تتلاءم ممارسة التقوى مع طاقات كل فرد، وطبيعة عمله، وواجبات حاله… وإنه لخطأ بل بدعة أن نحاول إقصاء التقوى عن سَرِيَّة الجنود ودكّان الحِرَفيين وبلاط الأمراء، وبيت المتزوجين. صحيحٌ أن من كانت هذه دعواتهم لا يستطيعون أن يمارسوا التقوى، كما يمارسها من انقطعوا للتصوّف وحياة الدير والرهبنة، ولكن هناك أشكال أخرى للتقوى، غير الثلاثة المذكورة، جديرة بان تقود إلى الكمال الملتزمين بالحياة العلمانية.. إننا نستطيع، أينما كنّا، بل يتوجب علينا أن نصبو إلى الكمال” (207).
وانطلاقاً من ذات النظرة، أعلن المجمع الفاتيكاني الثاني: “يجب أن تتّسم روحانية العلمانيين بميزات خاصة، تختلف باختلاف أوضاع حياة كل فرد. فهناك الحياة الزوجية والعائلية وحياة العزوبة والترمّل، وهناك حالة المرض ونوع العمل المِهَني والاجتماعي. وعلى كل فرد إذن أن يُنمي، بلا انقطاع، المزايا والمواهب المعطاة له، لاسيما تلك التي تتلاءم مع أوضاع حياته، وأن يستثمر المواهب التي خصّه الروح القدس بها”. (208).
وما يصح بالنسبة إلى الدعوات الروحية، يصح أيضاً على وجه ما وبالأحرى بالنسبة إلى الأساليب، غير المتناهية في تنوّعها، التي يتهيأ عَبْرها لجميع أعضاء الكنيسة، ولكل واحد منهم، أن يكونوا فَعَلة في كَرْم الرب ويعملوا فيه لبناء جسد المسيح السري. إن كل فردٍ مدعو، في الحقيقة شخصياً وفي نطاق تاريخه الشخصي الفريد، للاضطلاع بدوره الخاص في سبيل مجيء ملكوت الله. ولا يجوز أن تبقى أية وزنةٍ، وإن كانت أصغر الوزنات، مُخَبَّأة وغير مستثمرة. (متى25/24- 27).
ويوجّه إلينا بطرس الرسول هذا التحذير: “ليخدم كل واحدٍ الآخرين بما نال من المواهب، كما يليق بالوكلاء الصالحين على نعمة الله المتنوّعة” (1بط4/10).
الفصل الخامس
لتأتوا بثمار
تثقيف المؤمنين العلمانيين
تنمية مستمرة للنضوج
57- إن مثل الكرمة والأغصان، الوارد في الإنجيل، يكشف لنا عن وجهٍ أساسي آخر لحياة المؤمنين العلمانيين ورسالتهم. إنه دعوة إلى النمو، والاستمرار في النضوج، والمزيد من الإثمار… فالله الآب يعتني بكرمه كالكرّام النشيط، وإسرائيل يستعجل بحرارةٍ حضور الله، بهذا الابتهال: “ارجع يا إله الجنود. تطلّع من السماء وانظر، وتعهد هذه الكرمة، واحْمِ غرس يمينك! (مزمور 80/15و 16) ويتحدَّث يسوع بدوره عن عمل الآب: “أنا الكرمة الحقيقية، وأبي الحارث. كلُّ غصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه، وكل ما يأتي بثمر يُنقّيه ليأتي بثمر أكثر” (يو15/ 1و2).
إن حيويّة الأغصان منوطة باندراجها في الكرمة، التي هي يسوع المسيح: “مَن يثبت فيَّ وأنا فيه، فهو يأتي بثمر كثير، لأنكم بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً” (يو15/5).
إن الله يتوجَّه إلى الإنسان الحر، داعياً إياه إلى النمو والنضج والإثمار، ولا يمكن الإنسان إلاّ أن يضطلع بمسؤوليته. ويشير يسوع إلى هذه المسؤولية الرهيبة والمثيرة معاً بقوله: “إن كان أحد لا يثبت فيَّ، يُطرَح خارجاً كالغصن فيجف، فيجمعونه في النار فيحترق” (يو15/6).
في إطار هذا الحوار بين الله الداعي والشخص المدعو، بصفته مسؤولاً، تندرج إمكانية، بل ضرورة تثقيف المؤمنين العلمانيين، تثقيفاً كاملاً ومتواصلاً، كرّسَ له آباء مجمع الأساقفة، وبحق قسطاً كبيراً من اهتمامهم. فإنهم بالأخص بعد أن وصفوا التثقيف المسيحي بأنه “عملية شخصية متواصلة ترمي إلى تحقيق النُضج في الإيمان، والتشابه مع المسيح، طبقاً لمشيئة الآب، وبإرشاد من الروح القدس” أكّدوا بوضوح أن “تثقيف المؤمنين العلمانيين يجب أن يكون من أولويات العمل الأبرشي، وأن يُدرّج في برامج النشاط الرعوي، بحيث تَصُبُّ في هذا الهدف جهود الجماعة، من كهنة وعلمانيين ورهبان” (209).
اكتشاف دعوة الشخص ورسالته وعَيْشُهُما
58- إن الهدف الأساسي من تثقيف المؤمنين العلمانيين هو اكتشاف لدعوتهم الشخصية، يزداد كل يوم وضوحاً، واستعداد يتعمق يوماً بعد يوم، لِعَيْش هذه الدعوة، عن طريق الاضطلاع برسالتهم الخاصة.
إن الله يدعوني ويرسلني كفاعل إلى كَرْمه. إنه يدعوني ويرسلني لأعمل في سبيل مجيء ملكوته في التاريخ. إن هذه الدعوة وهذه الرسالة الشخصيتين تحددان كرامة كل مؤمن علماني ورسالته، وتُشكّلان القوة الدافعة لكل عملية التثقيف، التي تهدف إلى مساعدة المؤمن العلماني على وَعْي هذه الكرامة بفرح وشكر، وعلى مواجهة هذه المسؤولية بأمانة وسخاء.
إن الله افتكر فينا منذ الأزل، وأحبّنا كأشخاص فريدين، غير قابلين للاستبدال، داعياً كل واحد منا باسمه الخاص، كالراعي الصالح الذي “يسمي خرافه بأسمائها” (يو10/3). لكن قصد الله الأزلي لا ينكشف لكلٍ منا إلاّ من خلال تطور حياته، وتعاقُب صُروفها في الزمن. فهو بذات الفعل لا ينكشف إلاّ تدريجياً وعلى وجهٍ ما يوماً بعد يوم.
والحال أن هناك شروطاً لا غنىً عنها، إذا شئنا أن نكتشف حقيقة ما يريده الرب منّا، في واقع حياتنا. وهذه الشروط هي الإصغاء اليَقِظ والطيّع إلى كلمة الله، والصلاة الصادقة والمستمرة، والاتصال بمرشد روحي حكيم ومحب، والتبصر في المواهب والوزنات، التي ائتمننا الله عليها، وفي مختلف الأوضاع الاجتماعية والتاريخية المحيطة بنا.
وإن في حياة المؤمن العلماني، فضلاً عن ذلك، فترات هامة وحاسمة إلى حد كبير، ومؤاتية لتمييز دعوة الله له، ولتقبُّل الرسالة التي يأتمنه عليها. ومن بين هذه الفترات، سن المراهقة والشباب. ولكن لا ينسَ أحدٌ أن الرب، كربّ الكرْم الذي جاء ذكره في المثل الإنجيلي، يدعو الإنسان بمعنى أنه يُطْلِعه على إرادته المقدسة بطريقة ملموسة ودقيقة، في كل ساعة من ساعات العمر. ولهذا فإن التيقظ، أي التنصّت المتلهف إلى صوت الله، هو الحالة الأساسية والمستمرة، التي تلازم تلميذ المسيح.
وفي أية حال، ليس المراد هنا مجرد معرفة ما يريده الله منا في شتى ظروف الحياة، بل تلبية مشيئة الله أيضاً. وهذا ما تذكّرنا به كلمات مريم أم الله، الموجّهة إلى الخدام في عرس قانا الجليل: “افعلوا كل ما يأمركم به!” (يو2/5).
وإذا شئنا أن نصنع مشيئة الله، يجب أن نكون قادرين على ذلك، وأن نُنمّي فينا على الدوام هذه القدرة، بنعمة الله طبعاً. وهذه النعمة لن تتخلّى عنا أبداً، على حد قول القديس لاون الكبير: “إن الذي أعطاكم الكرامة، سيعطيكم القوة” (210). إلاّ أن هذا يتطلب من كل منّا تعاوناً حراً ومسؤولاً.
تلك هي المهمة العجيبة والشاغلة التي تنتظر جميع المؤمنين العلمانيين، وجميع المسيحيين، بلا انقطاع: أن يَعُوا أكثر فأكثر الثروات التي أُعطيت لهم بالإيمان والعماد، وأن يعيشوها بكمال متزايد. وهذا ما يحثّنا عليه بطرس الرسول، حين يتحدّث عن الميلاد والنموّ، معتبراً إياهما مرحلتَي الحياة المسيحية: “وكأطفال وُلدوا حديثاً، تُوقُوا إلى اللبن العقلي، الذي لا غش فيه، لتنموا به للخلاص” (1بط 2/2).
تثقيف كامل للعيش في وحدة الحياة
59- إن اكتشاف دعوة المؤمنين العلمانيين ورسالتهم الخاصتين، وتحقيق هذه الدعوة وهذه الرسالة، ينطويان على وجوب تهيئتهم للحياة في الوحدة، تلك الوحدة التي يحملون سِمَتَها في كيانهم بالذات، كأعضاء في الكنيسة وفي المجتمع البشري.
ولا يمكن أن يَجمع وجودُهم بين حياتين متوازيتين: إحداهما الحياة المسمّاة “روحية” وهي كذلك بِقِيَمِها ومقتضياتها، والأخرى التي يُقال لها “علمانية” تتمثل في حياة الأسرة والعمل والعلاقات الاجتماعية، والالتزام السياسي، والنشاطات الثقافية. إن الغصن المطعًّم والثابت في الكرمة التي هي المسيح، يُثمر في كل قطاعات النشاط والوجود، لأن جميع قطاعات الحياة العلمانية تندرج في تدبير الله، الذي يريدها “مجالاً تاريخياً” للوحي، ولتحقيق محبة يسوع المسيح، لمجد الله الآب، ولخدمة الإخوة. إن كل نشاط وكل حالة وكل التزام فِعلي – كالكفاءة والتضامن في العمل، والحب والتفاني في إطار الأسرة وتربية الأولاد، والخدمة الاجتماعية والسياسية، وإدارج الحقيقة في عالم الثقافة – كل هذا يشكل فرصة مؤاتية “لممارسة الإيمان والرجاء والمحبة، بصفةٍ مستمرة” (211).
إلى وحدة الحياة هذه دعا المجمع الفاتيكاني الثاني جميع المؤمنين العلمانيين، مُشيراً بقوةٍ إلى خطورة الفصل بين الإيمان والحياة، وبين الإنجيل والثقافة: “إن المجمع يحثّ المسيحيين، مواطني المدينتين، على أن يقوموا بمهماتهم الزمنية بحميّة وأمانة، مُستلهمين روح الإنجيل. ويخطأ الذي يظنّون أنه يحق لهم إهمال شؤونهم البشرية، بحجة أنه ليس لنا هنا مدينةٌ باقية، وأننا في طريقنا إلى الآتية. لقد نسُوا أن الإيمان نفسه يجعل من الاهتمام بالشؤون البشرية واجباً مُلحّاً، آخذاً بعين الاعتبار الدعوة الملازمة لكلٍّ منهم. ولا يقلّ فداحةً الخطأ الذي يرتكبه أولئك الذين، على عكس ذلك، يظنّون أن لهم الحق في الانصراف كليّاً إلى النشاطات الأرضية، وكأنها غريبة تماماً عن حياتهم الدينية، التي تقتصر في عُرفهم على ممارسة شعائر العبادة، والقيام ببعض التزامات أدبية معيّنة. إن الفصل بين الإيمان الذي ينتسبون إليه، والتصرّف اليومي للعديدين منهم، هو من أكثر أخطاء عصرنا والتصرّف اليومي للعديدين منهم، هو من أكثر أخطاء عصرنا خطورة” (212). ولهذا نؤكّد أن الإيمان، الذي لا يصبح ثقافة هو إيمان “لم يكتمل استيعابه، ولم يتمّ التمعّن فيه، ولم يُعَشْ عيشاً صحيحاً” (213).
أوجه الثقافة
60- في هذا العرض الشامل للحياة تندرج، عديدةً ومُنَسَّقة، جوانب الثقافة الكاملة التي يجب أن يتحلّى بها المؤمنون العلمانيون.
لا شك في أن الثقافة الروحية يجب أن تحتلّ مكاناً ممتازاً في حياة كل فرد، مدعو لأن يُنمي باستمرار اتحاده الوثيق بيسوع المسيح، عبرَ امتثاله لإرادة الآب، وتفانيه في خدمة إخوته، بالمحبة والعدالة. وقد ورد في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني ما يأتي: “إن حياة الاتحاد الوثيق بالمسيح، ضِمْن الكنيسة، تتغذى من الإمدادات الروحية، المشركة بين جميع المؤمنين، لاسيما عن طريق المشاركة الفاعلة في الليتورجيا المقدسة. وعلى العلمانيين أن يستعينوا بهذه الإمدادات، للقيام بواجباتهم الزمنية، في ظروف وجودهم العادية، دون أن يفصلوا الاتحاد بالمسيح عن حياتهم، بل عاملين على تنمية هذا الاتحاد، من خلال القيام بأعمالهم طبقاً لمشيئة الله” (214).
إن تثقيف المؤمنين العقائدي يبدو كل يوم أكثر إلحاحاً، في هذا العصر، ليس فقط لأنّ التعمّق في الإيمان يوليهم بطبيعته ديناميةً، كذلك لضرورة “الرد على من يطلب منهم دليلاً على الرجاء الذي فيهم” (1بط3/15) في مواجهة العالم وقضاياه الخطيرة والمعقّدة. وينجم عن هذا أنّ هناك ضرورة قُصوى للقيام بعمل منظّم في مجال التعليم الديني، يراعي السنَّ وأوضاع الحياة المختلفة، فضلاً عن السعي بعزمٍ لتغذية الثقافة بالقِيَم المسيحية، لكي تتمكّن من مواجهة القضايا الأبدية والمشاكل الجديدة التي تهزُّ اليوم الإنسان والمجتمع.
ويتحتّم بنوعٍ خاص على المؤمنين العلمانيين، لاسيما أولئك الملتزمين، بشتى الطرق بالقضايا الاجتماعية والسياسية، أن يعرفوا معرفة أدقّ عقيدة الكنيسة الاجتماعية. وهذا ما طالبَ به آباء مجمع الأساقفة عدة مرات في خُطَبِهم. وقد قال هذا المجمع، في سياق حديثه عن مشاركة المؤمنين العلمانيين في العمل السياسي: “لا يكفي حثّ العلمانيين على أن يحققوا على الصعيد السياسي، وبطريقة فاعلة، هذا المشروع النبيل، أي حَمْل الآخرين على الاعتراف بالقِيَم الإنسانية والمسيحية وتقديرها. إنهم لن يستطيعوا تحقيق هذا الهدف، ما لم نقدّم لهم الوسائل الكفيلة بتثقيف وَعْيهم الاجتماعي، لاسيما بالنسبة إلى عقيدة الكنيسة الاجتماعية، التي تنطوي على مبادئ التفكير ومقاييس الحُكم، والتوجيهات العملية” (انظر مجمع عقيدة الإيمان: “مذكرة في الحرية المسيحية والتحرر”، عدد 72). إن هذه العقيدة يجب أن تُدرَج في المنهج الأساسي للتعليم الديني، وأن تُوضَّح في دورات متخصصة، كما في المدارس والجامعات، ويجدر بنا أن نشير إلى أن عقيدة الكنيسة الاجتماعية هي ديناميكية، أي أنها تتلاءم وظروف الزمان والمكان. ويحقّ للرعاة، بل يتوجّب عليهم أن يعرضوا مبادئ مسلكيّة، في مجال النظام الاجتماعي، وغيره من المجالات، وعلى جميع المسيحيين أن يجتهدوا في الدفاع عن حقوق الإنسان، على أن تبقى العضوية الفاعلة، في الأحزاب السياسية، قاصرة على العلمانيين” (215).
وإن الاهتمام بتنمية القِيَم الإنسانية يجب أن يجد له مكاناً في مُجْمَل ثقافة المؤمنين العلمانيين، الكاملة والاتحادية. وإن لهذا الاهتمام أهميّته بالنسبة إلى العمل الإرسالي والرسولي. وفي هذا بالضبط قال المجمع الفاتيكاني الثاني: “على العلمانيين أن يقدّروا تقديراً كبيراً الكفاءة المهنيّة، والحِسّ العائلي والمدني، والصفات المتّصلة بالحياة الاجتماعية، كالإستقامة وروح العدالة والإخلاص والرقة والمروءة التي لا تستقيم حياة مسيحية بدونها”(216).
معاونو الله المربي
61- في أي الأماكن وبأي الوسائل يتثقّف المؤمنون؟ مَن هم الأشخاص، وما هي الجماعات المدعوّة للقيام بواجب تثقيف العلمانيين تثقيفاً كاملاً واتحادياً؟
كما أن مهمّة تربية الإنسان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأبوّة والأمومة، كذلك تستمد الثقافة المسيحية أصلها وقوّتها من الله، لأنه الآب الذي يحبّ أولاده ويربّيهم. نعم، إن الله هو المربي الأول والأكبر لشعبه، كما ورد في فقرةٍ مذهلة من نشيد موسى: “لأن نصيب الرب شعبُه، يعقوب حَبْلُ ميراثه، لَقِيَهُ في أرضٍ برّية، وفي خلاءٍ بَلْقَعٍ خربٍ أطَافه، وأرشده وصانه كإنسانِ عينِه، كالنسر الذي يُثير فراخه، وعلى فراخِه، يرفّ ويبسط جناحَيْه، فيأخذها ويحملها على ريشِه. الرب وحده اقتاده، وليس معه إلهٌ غريب” (تث 32/ 10-12 و8/5).
إن عمل الله التربوي يظهر ويكتمل في يسوع المعلّم، ويمسّ في الصميم قلب كل إنسان، لفضل حضور الروح القدس الديناميكي. والكنيسة – الأم مدعوّة سواء بذاتها أو بمختلف تنظيماتها وتجسيداتها، للمشاركة في هذا العمل التربوي الإلهي. وهكذا يتثقف المؤمنون العلمانيون على يد الكنيسة وفي الكنيسة، في شركةٍ وتَعاونٍ متبادل بين جميع أعضائها، من كهنة ورهبان ومؤمنين علمانيين. وهكذا تستمدّ الجماعة الكنسية بكاملها، على تنوّع أعضائها، الخِصْب من الروح القدس، وتُسهم فيه. وبهذا المفهوم كتب Methode d’Olympe ما يلي: “إن الناقصين… يُحمَلون ويُرَبَّون على يد مَن هم أقرب إلى الكمال منهم، وكأنهم في حضن أمّ، لتحبل بهم وتَلِدهم عظمةُ الفضيلة وجمالها” (217). وهذا ما حصل للقديس بولس، الذي حَمَله المسيحيون المُدَرَّبون (في شخص حنانيا) وأدخلوه إلى الكنيسة، فأصبح بدوره، في ما بعد، كاملاً وأبّاً روحياً لأبناءَ كثيرين.
إن العمل التربويّ هو أولاً عمل الكنيسة الجامعة، التي يضطلع فيها بابا روما بدوره كمُرَبٍّ أول للمؤمنين العلمانيين. وإليه، بِصِفته خليفة بطرس، تعود مهمَّة “تثبيت إخوته في الإيمان” إذ يُعلّم جميع المؤمنين المقوّمات الأساسية لدعوتهم ولرسالتهم المسيحيتين والكَنسيتين. وعلى المؤمنين العلمانيين أن يُصغوا في طاعةٍ مُحِبَّة، ليس فقط إلى التعليم الصادر عنه مباشرةً، بل كذلك إلى ما تنقله إليهم الوثائق الصادرة عن مجامع الكرسي الرسولي.
ثم إن الكنيسة الواحدة والجامعة حاضرة في كل أرجاء العالم، عبر الكنائس الخاصة. والأسقف المحلّي مسؤول شخصياً عن المؤمنين العلمانيين، في كلّ واحدة منها. فعليه أن يثقّفهم عن طريق التبشير بالكلمة، والاحتفال بسر الافخارستيا وسائر الأسرار، وتنشيط حياتهم المسيحية وتوجيهها.
وفي نطاق الكنيسة الخاصة، أي الأبرشية، توجد الرعية وتعمل. فتقوم بدورها الأساسي في تثقيف المؤمنين العلمانيين، بطريقةٍ مباشرة وشخصية أفضل. وإذ تجد الرعية سهولة أكبر في الاتصال بكل شخص بمفرده، وبكل جماعة، فإنها مدعوّة لتدريب أعضائها على الإنصات لكلمة الله، وعلى الحوار الليتورجي والشخصي مع الله، وعلى حياة محبّة للإخوة، وحَمْل الآخرين على إدراك مفهوم الشركة الكنسيّة، والمسؤولية الإرسالية، بطريقةٍ جدّ مباشرة وعملية.
وفي نطاق بعض الرعايا، لاسيما الكبيرة منها والمشتتة، توجد جماعات كنسية صغيرة يمكن أن تساعد كثيراً على تثقيف المسيحيين، إن هي أَضْفَت على وَعْي الشركة والرسالة الكنسية واختبارهما، مزيداً من الدقة والتعمق. وقد أعلن آباء مجمع الأساقفة أن “هناك نمطاً آخر من المساعدة، يقوم على تعليم دينيّ يتبع العماد، ويكون بمثابة نظام الموعوظين، ويعرض من جديد بعض محتويات كتاب “رتبة تنشئة البالغين المسيحية” بحيث يُصار إلى الانفتاح على الثروات الطائلة والعجيبة، الكامنة في سر العماد السابق قبوله، والمسؤوليات الناجمة عنه، وإلى عَيْش هذه الثروات وهذه المسؤوليات (218).
إن تكاتُف مختلف أعضاء الكنيسة يرتدي أهمية خاصة، بالنسبة إلى الثقافة التي يحصل عليها المؤمنون العلمانيون، سواء في أبرشيتهم أو في رعيتهم، لاسيما في ما يتعلّق بمضمون الشركة والرسالة. إنه تكاتُفٌ يُظهر سر الكنيسة، الأم والمربية ويحققه. فعلى الكهنة والرهبان أن يساعدوا المؤمنين العلمانيين، ويضطلعوا بتثقيفهم. ولهذا دعا آباء مجمع الأساقفة الكهنة والمرشَّحين للكهنوت “لأن يُعِدّوا أنفسهم بعناية لكي يكونوا جديرين بتعزيز دعوة العلمانيين ورسالتهم” (219). أما المؤمنون العلمانيون أنفسهم، فإنه يستطيعون، بل يتوجّب عليهم، أن يساعدوا الكهنة والرهبان في مسيرتهم الروحية والرعوية.
مجالات أخرى للتربية
62- إن الأسرة المسيحية أيضاً، بصفتها “كنيسة بيتية” هي مدرسة طبيعية وأساسية للتثقيف الإيماني. فالأب والأم ينالان في سر الزواج النعمة للقيام بتربية أولادهما تربية مسيحية، وتوكَل إليهم هذه الخدمة. فهما يؤدّيان الشهادة أمام أولاهما، وينقلان إليهم القِيم الإنسانية والدينية معاً. وحين يتعلّم الأطفال أن ينطقوا بالكلمات الأولى، يتعلّمون في الوقت عينه أن يسبّحوا الله، ويشعرون بأنه قريب منهم كالأب المُفعم حباً ولطفاً. ومتى أصبح في إمكانهم أن يعبّروا بالإشارة عن حبهم، فإنهم يتمكّنون أيضاً من الانفتاح على الآخرين والشعور بأنهم، إذ يهبون ذواتهم، يحققون معنى الحياة البشرية. وإذا كانت الأسرة مسيحية حقاً أصبحت حياتها اليومية “الاختبار الأول للكنيسة”، على أن يتأكد هذا الاختبار وينمو عَبْر اندماج الأولاد الفاعل والمسؤول، مع جماعةٍ كنسية أوسع، وفي المجتمع المدني. وكلّما ازداد الزوجان والأهل المسيحيون إدراكاً بأن “كنيستهم البيتية تشارك في حياة الكنيسة الجامعة وفي رسالتها، أصبح أولادهم أكثر استعداداً للتأثر “بالحس الكنسيّ”، ولتفهُّم الجمال الكامن في تكريس طاقاتهم لخدمة ملكوت الله.
ثم إن المدارس والجامعات توفّر هي أيضاً مجالات هامّة للتربية، وكذلك مراكز التجديد الروحي، الآخذة اليوم في الانتشار. وكما جاء في بيان مجمع الأساقفة إن مشاركة الأهلين المسيحيين في حياة المدرسة بعيدة عن أن تكفي في مُجمَل وضعنا الحالي الاجتماعي والتاريخي، المتّسم بتطورٍ ثقافي عميق. لهذا يجب تأهيل مؤمنين علمانيين يكرّسون ذواتهم للعمل التربوي ولرسالةٍ كنسيّة، بحصر المعنى. كما يجب إنشاء “جماعات تربوية” وتنميتها، على أن تكون مؤلفة من أهالي ومعلمين وكهنة ورهبان وراهبات وممثلين عن الشباب. وعلى المؤمنين العلمانيين إذا شاؤوا أن تمارس المدرسة مهمتها التربوية أن يدركوا أنهم ملتزمون بمطالبة الجميع بحرية التربية الصحيحة المكفولة بتشريع مدني مناسب (220).
وقد وجَّه آباء مجمع الأساقفة عبارات التقدير والتشجيع إلى جميع المؤمنين العلمانيين، من رجال ونساء، الذين يضطلعون بمهمة تربوية في المدرسة وفي معاهد التربية، بروح وطنية ومسيحية عميقة. كما سجَّل الآباء الحاجة المُلحَّة لأن يشهد حقاً للإنجيل المؤمنون العلمانيون، القائمون بمهمة التربية والتعليم في مختلف المدارس، كاثوليكية كانت أو غير كاثوليكية، وذلك بقُدوة حياتهم وكفاءتهم وضميرهم المهنيّ، واستلهام الروح المسيحية في تعليمهم، على أن يُراعوا دائماً، وبالطبع استقلالية العلوم والأنظمة المختلفة. وإنه لَمِن الأهمية بمكان أن يتخذ البحث العلمي والتقني، الذي يقوم به المؤمنون العلمانيون، من خدمة الإنسان بكامل قِيَمِه ومتطلباته، مقياساً له. وتَكِلُ الكنيسة إلى المؤمنين العلمانيين مهمة جَعْل الرباط الوثيق، القائم بين الإيمان والعلم وبين الإنجيل والثقافة البشرية أقرب إلى الفهم لدى الجميع (221).
وإنّا لَنقرأ في إحدى فقرات البيان الصادر عن مجمع الأساقفة، أن هذا المجمع “يستحثّ المدارس والجامعات الكاثوليكية على القيام بدورها النبويّ”، ويُشيد بتفاني المربين والمدرّسين، وبينهم الآن عدد غفير من العلمانيين. ويدعو المجمع لإعداد رجال ونساء في دُور التربية الكاثوليكية، يُجسّدون “الوصية الجديدة”. إن حضور كهنةٍ وعلمانيين معاً وكذلك رهبان وراهبات، في المدرس والجامعات يضع الطلبة أمام صورةٍ حية للكنيسة، ويُسهّل لهم الإطلاع على ثرواتها. (انظر مجمع التربية الكاثوليكية: “العلماني المربي شاهد للإيمان في المدارس” (222).
وللجماعات والجمعيات والحركات أيضاً دورها في تثقيف المؤمنين العلمانيين. إن كل واحدة منها تستطيع ضمن أساليبها الخاصة بها أن تؤمّن ثقافة عميقة، راسخة في اختبارها للحياة الرسولية. والفرصة مُتاحة لها لإكمال الثقافة التي يوفّرها لأعضائها معلّمون آخرون وجماعات أخرى، ولتجسيد هذه الثقافة وتحديد نوعها.
الثقافة التي يتبادلها الجميع أخذاً وعطاء
63- ليست الثقافة حكراً للبعض. إنها حق للجميع وواجب على الجميع. وقد طالب آباء مجمع الأساقفة بهذا الصدد، “بأن تتوفّر إمكانية الحصول على الثقافة للجميع، لاسيما للفقراء، الذين لا يستطيعون بدورهم أن يوفّروا، هم أنفسهم، هذه الثقافة لغيرهم”. وأردف الآباء قائلين: “لِنَسْتَعِن، في التثقيف بوسائل ملائمة تمكّن المسيحيين من تحقيق دعوتهم الإنسانية والمسيحية كاملة” (223).
إذا شئنا أن نقوم بعملٍ رعوي مثمر، لا بدّ من تعزيز ثقافة المزمعين أن يثقّفوا الآخرين بما في ذلك، تنظيم دروس وإنشاء مدارس متخصصة. إن إعداد الذين سيتوّلون بدورهم تثقيف الآخرين، هو المطلب الأول لتأمين ثقافة عامة ودقيقة لشعب الله كلّه، ولجميع المؤمنين العلمانيين.
ولا بدّ، في عملية التثقيف من إيلاء الثقافة المحلية عناية خاصة. إلى هذا دعا مجمع الأساقفة بوضوح: “إن تثقيف المسيحيين يقتضي أن نُراعي، إلى أقصى حد الثقافة البشرية المحلية، التي تُسهم في الثقافة في حد ذاتها، والتي ترشدنا حُكمنا على القِيَم التي تنطوي عليها الثقافة التقليدية، وتلك التي تتضمّنها الثقافة العصرية. ويجب الالتفات كذلك إلى مختلف الثقافات التي يمكن أن تتعايش في إطار الشعب الواحد والأمة الواحدة. وعلى الكنيسة أم الشعوب ومعلّمتها، أن تسعى عند الاقتضاء للمحافظة على ثقافة الأقليّات، التي تعيش في وسط الأمم الكبرى” (224).
وقد برزت في مجال التثقيف ثوابت ضرورية ومخصبة إلى حد كبير. أوّلها أن لا ثقافة حقيقية ومثمرة، إن لم يضطلع كل إنسانٍ بمسؤولية تثقيفه الشخصي، ولم يُنْمِ هذه المسؤولية بنفسه، لأن كل ثقافة هي في الأساس ثقافة ذاتية.
ثم الاعتقاد بأن كلاًّ منا هو، في الوقت عينه، غاية الثقافة ومصدرها، وكلما ازددنا ثقافةً، ازددنا قدرةً على تثقيف الآخرين.
ومن المهم جداً أن نَعي أن العمل الثقافي، الذي نحن بصدده، والذي لا يستغني قطعيّاً عن اللجوء بذكاء إلى الوسائل والأساليب المتَّبعة في نطاق العلوم البشرية، لا يؤتي ثماره إلاّ بمقدار انفتاحنا على عمل الله. فَمَن كان كالغصن، الذي يستسلم للكرّام الذي يقلِّمه، أتى بثمرٍ كثير لنفسه وللآخرين.
نداء ودعاء
64- لا يسَعُنا في ختام هذه الوثيقة، التي تأتي في أعقاب مجمع الأساقفة، إلاّ أن نردد مرة أخرى، دعوة ربّ الكَرْم التي وردت في الإنجيل: “اذهبوا أنتم أيضاً إلى كَرْمي!” ويمكن القول إنّ مضمون مجمع الأساقفة، بشأن دعوة العلمانيين ورسالتهم، يكمن بالضبط في نداء الرب هذا، الموجّه للجميع، ولاسيما إلى المؤمنين العلمانيين، من رجال ونساء.
لقد كانت أعمال مجمع الأساقفة، لجميع المشاركين فيه، فرصة اختبارٍ روحي عظيم، اختبار كنيسة تحرص، بعونٍ من نور الروح القدس وقوّته، على تمييز نداء الرب المتكرر، والاستجابة له، ودينامية رسالتها الخلاصية، واعيةً وعياً جيداً مكانة المؤمنين العلمانيين ودورهم النوعيين. إن ثمرة مجمع الأساقفة، التي توخّينا عبر هذا الإرشاد أن نعممها على قدر الإمكان، في جميع الكنائس المنتشرة في العالم، منوطة بالاستجابة الفعلية لهذا النداء، من قِِبَل شعب الله بأسره، وبمن فيه من المؤمنين العلمانيين.
ولهذا نوجّه إلى الجميع، وإلى كل فرد، هذا الإرشاد الحار، مستحثين إياهم على أن يحفظوا، بلا ملل، وفي قلوبهم، وفي حياتهم، الوعي الكنسي اليقظ، نعني به وعي انتمائهم إلى كنيسة يسوع المسيح، وعلى أن يشاركوا في سر شركتها، وفي طاقتها الرسولية والإرسالية.
وعلى جميع المسيحيين أن يعوا الكرامة الفائقة التي أعطيت لهم بالعماد وهذا أمر مهم للغاية. إننا بالنعمة مدعوون لأن نكون أبناء الآب المحبوبين، وأعضاء في جسد يسوع المسيح وكنيسته، وهياكل حية ومقدسة للروح القدس. فلنستمع مرة أخرى، بشعور مُرهَف وعرفانٍ للجميل، إلى كلمات الإنجيلي يوحنا: “انظروا أيّة محبّة منحنا الآب، حتى نُدعى ونكون أبناء الله” (1يو 3/1).
إن هذه “الجِدّة المسيحية” الموهوبة لأعضاء الكنيسة، والتي هي للجميع أساس المشاركة في وظيفة المسيح الكهنوتية والنبوية والملوكية، وأساس الدعوة إلى القداسة في المحبة، هذه “الجِدّة المسيحية” تتجسد وتتحقق في المؤمنين العلمانيين بالطريقة التي تتفق مع “الطابع العلماني” الذي يُميّزهم والخاص بهم”.
إن الوعي الكنسي يشمل، فضلاً عن الشعور بكرامة الجميع المسيحية، الشعور بالانتماء إلى سر الكنيسة- الشركة. وهذا وجهٌ أساسي وحاسم، بالنسبة إلى حياة الكنيسة ورسالتها. إن دعاء يسوع الحار، في خلال العشاء السري “ليكونوا واحداً!” يجب أن يصبح، كل يوم للجميع ولكل فرد منهاج حياة وعمل، مُوجِباً ومحتَّماً.
إن الشعور الحي بالشركة الكنسية، الموهوبة من الروح القدس، والتي يطالبنا الروح بالتجاوب معها بحرية، لا بد أن يُسفر عن نتيجة هامة، هي استثمار منسَّق، في الكنيسة “الواحدة والجامعة” للتنوّع القَيّم، القائم بين مختلف الدعوات وأوضاع الحياة، والمواهب والخدمات والمهمات والمسؤوليات، وكذلك تعاونٌ بين الجماعات والجمعيات والحركات العلمانية، مبني على مزيد من الاقتناع والعزم، يرمي إلى تضامنها في الاضطلاع برسالة الخلاص الكنسية المشتركة ذاتها. إن هذه الشركة، في ذاتها، هي العلامة الأولى والكبرى لحضور المسيح المخلّص في العالم. وهي تعزّز، في ذات الوقت، عمل الكنيسة الرسولي المباشر والإرسالي وتنشّطه.
ثم إنه يتوجّب على الكنيسة كلّها، برعاتها ومؤمنيها وهي على عتبة الألف الثالث، أن تزداد شعوراً بمسؤوليتها عن الاستجابة لوصية المسيح: “اذهبوا إلى العالم أجمع، وبشّروا بالإنجيل الخليقة كلها” (مر16/15) وعن القيام بِوَثْبة إرسالية متجددة. فإلى الكنيسة قد وُكِلت مهمة، ذات نطاق واسع، موجبة ورائعة ألا وهي تبشير بالإنجيل جديد، أصبح عالم اليوم في حاجة ماسّة إليه. وعلى المؤمنين العلمانيين أن يشعروا بأنهم طرف فاعل في هذه المهمة، لأنهم مدعوون للتبشير بالإنجيل وعيشه، عن طريق خدمة الشخص البشري والمجتمع، في كل ما يُمثلان من قِيَم ومتطلبات.
إن مجمع الأساقفة، الذي انعقد في شهر تشرين الأول من السنة المريمية، وكل أعماله بصفة خاصة إلى شفاعة العذراء مريم، أمّ الفادي. وإلى هذه الشفاعة ذاتها يَكِل الآن ما ستؤدي إليه نتائج المجمع من نجاح روحي. وفي ختام الوثيقة، التي تعقب المجمع، وبالاشتراك مع الآباء، والمؤمنين العلمانيين المشاركين فيه، ومع سائر أعضاء شعب الله جميعاً، نتوجّه إلى العذراء بندائنا هذا، الذي تحوّل إلى دعاء:
أيتها العذراء الفائقة القداسة أمّ المسيح وأمّ الكنيسة، إننا، بفرح وإعجاب، معكِ نُرنّم ترنيمة الحب المقرون بالشرك:
“تُعظّم نفسي الرب!”
معكِ نشكر الله، الذي يمتد حبّه عبر الأجيال، الدعوة الرائعة والرسالة العديدة الأشكال الموهوبتَيْن للمؤمنين، المؤمنين العلمانيين، المدعوين من الله، شخصياً ليعيشوا وإيّاه في شركة حب وقداسة، وليتَّحدوا كإخوة
في أسرة أولاد الله الكبرى، والمُرسَلين لينشروا نورَ المسيح ويُضرموا بنار الروح عبر حياتهم الإنجيلية
كل قطاعات الحياة الدنيوية.
يا عذراء يا من “تعظم نفسها الرب” املأي من العلمانيين القلب شكراً وحَميَّة لهاتين الدعوة والرسالة. يا من كانت بتواضعٍ وأريحيّة “أمة الرب” هبينا نحن أبناءك أن نكون على مثالك على تمام الاستعداد لخدمة الله وخلاص العالم. افتحي قلوبنا لعظائم الأمور، لملكوت الله والتبشير، تبشير كل الخلائق بالإنجيل. إن قلبك، قلب الأم يقلق باستمرار، بسبب شتى الأخطار وشرور تفوق الحَصْر تَسْحق على السواء الرجال والنساء،
في هذا العصر.
لكنّ قلبك متنبّهٌ في ذات الوقت، للمبادرات الكُثرالموجّهة للخير وللطموحات الكبرى إلى القِيَم وللتقدم الذي تحقق وما نتج عن هذا من ثمار للخلاص غِزار.
أيتها العذراء الباسلة ألهِمينا العزم والثقة بالله لنقوى على تذليل كل ما يعترضنا، في أداء رسالتنا، من عراقيل.علّمينا أن نتعاطى شؤون عالمنا هذا بِحسّ مُرْهَف بالمسؤولية، مسؤوليتنا المسيحية، راجين بسعادة
مجيء ملكوت الله وسماواتٍ جديدة وأرضاً جديدة. أنتِ التي كنتِ في العلّية تنتظرين مع الرسل المصلّين
مجيء روح العنصرة، سَليهِ أن يفيض من جديدعلى المؤمنين العلمانيين، بلا استثناء، من رجال ونساء
ليضطلعوا تماماً بدعوتهم ورسالتهم، بوصْفِهم أغصاناً في الكرمة الحقيقية، ومدعوين ليأتوا بوافر الثمار
من أجل حياة العالم. أيتها العذراء الأم، تعهَّدينا بإرشادك وعَوْنك لنعيش كأبناء وبنات حقيقيين لكنيسة ابنك
على الدوام، ولنستطيع الإسهام في إقامة حضارة الحق والحب على الأرض، حسب رغبة الرب ولمجدِه.
آمين.
إرشاد أُعطي في روما، في جوار القديس بطرس، في الثلاثين من كانون الأول، يوم عيد عائلة يسوع ومريم ويوسف المقدّسة، عام 1988، الحادي عشر لحبريّتنا.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم” عدد 48.
2) القديس غريغوريوس الكبير: Hom. In Evang. I, XIX, 2: P.L.76.
3) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار مجمعي في رسالة العلمانيين Apostolicam actuositatem،عدد 33.
4) يوحنا بولس الثاني: عظة في القداس الاحتفالي الختامي للجمعية العمومية العادية السابعة لمجمع الأساقفة (30 تشرين الأول 1987)، AAA 80, 598 (1988).
5) راجع الفقرة 1.
6) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، “فرح ورجاء”، عدد 11.
7) إن آباء مجمع الأساقفة غير العادي المنعقد في 1985، بعد أن أكّدوا أهمية الدستور “فرح ورجاء” الكبرى وملاءمته التامة لواقع الحال، أردفوا قائلين: “إلاّ أننا نلاحظ، في ذات الوقت، أن علامات زمننا الحاضر تختلف بعض الشيء عن العلامات المعاصرة للمجمع الفاتيكاني الثاني، وتنطوي على قضايا وأسباب قلق أكبر. فإن الجوع والقهر والظلم والحرب والآلام والإرهاب وأشكالاً أخرى للعنف متنوعة، آخذة في الازدياد في كل أنحاء العالم”.(Ecclesis sub Verbo Dei mysteria Christi celebrans pro salute mundi. Relation finalis II.D. 1) .
8) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 7.
9) القديس أغوسطينوس: Confessiones I, CCL. 27,1.
10) راجع Instrumentum laboris: “دعوة العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة والعالم، بعد مرور عشرين عاماً على المجمع الفاتيكاني الثاني”، عدد 5- 10.
11) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم” عدد 1.
12) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 6.
13) راجع فقرة 3.
14) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم” عدد31.
15) ذات المرجع.
16) بيوس الثاني عشرك خطاب للكرادلة الجدد (20 شباط 1946) AAS 38 (1946) 149.
17) مجمع فلورنسة المسكوني: قرار خاص بالأرمن DS.1314.
18) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم” عدد 10.
19) القديس أغوسطينوس: Enarr. In Ps XXVI. II,2:CCL 38,154 et suiv..
20) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 10.
21) يوحنا بولس الثاني: عظة في بداية خدمته كراعٍ أعظم للكنيسة (22 تشرين الأول 1978)، AAS 70 (1978) 946
22) راجع التذكير بهذا التعليم في “Instrumntum laboris” :”دعوة العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة والعالم، بعد مرور عشرين عاماً على المجمع الفاتيكاني الثاني”، عدد 25.
23) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 34.
24) ذات المرجع، عدد 35.
25) ذات المرجع، عدد 12.
26) ذات المرجع، عدد 35.
27) القديس أغوسطينوس: De Civitate Dei XX ,10: CCL 48, 720
28) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 32.
29) ذات المرجع، عدد 31.
30) بولس السادس: خطاب لرؤساء وأعضاء الجمعيات العلمانية (2 شباط 1972)، AAS. 64 (1972) 208
31) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار مجمعي في رسالة العلمانيين Apostolicam Actuositatem، عدد 31.
32) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 31.
33) ذات المرجع، عدد 31.
34) ذات المرجع، عدد 31.
35) راجع ذات المرجع، عدد 48.
36) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم، “فرح ورجاء”، عدد 32.
37) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 31.
38) ذات المرجع، عدد 31.
39) فقرة 4.
40) “إن العلمانيين بصفتهم أعضاء كاملي العضوية في شعب الله وفي الجسد السري، ومشاركين بالعماد في وظيفة المسيح المثلثة، الكهنوتية والنبوية والملوكية، يُجسدون ثروات هذه الكرامة وينمّونها، عبر حياتهم في وسط العالم. وإن ما يشكل مهمة إضافية أو استثنائية، بالنسبة إلى الرجال المكلّفين بالخدمة الكهنوتية، يجب اعتباره، بالنسبة إلى العلمانيين، رسالة نموذجية. فدعوة هؤلاء الخاصة تقوم بالذات على طلب ملكوت الله، من خلال إدارتهم للشؤون الزمنية، التي يُنجزونها بحسب تدبير الله” (نور الأمم عدد 31). Insegnamenti X,1 (1987), 564) (Jean Paul II, Angelus[15 mars 1987].
41) راجع بصفة خاصة الفصل الخامس من الدستور العقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 39- 42، الذي يبحث “الدعوة العامة إلى القداسة في الكنيسة”.
42) راجع الجمعية العمومية غير العادية الثانية لمجمع الأساقفة (1985) Ecclesia sub Verbo Dei mysteria Christi celebrans pro salute mundi. Telatio finalis II, A,4.
43) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 40.
44) المرجع عينه، عدد 42 – إن أقوال المجمع هذه، الرسمية والكاملة الوضوح، تؤكد لنا من جديد حقيقة أساسية من حقائق الإيمان المسيحي. فالبابا بيوس الحادي عشر، مثلاً، يقول في رسالته العامة Casti Connubii الموجهة إلى الأزواج المسيحيين: “على الجميع، أيّاً كان وضعهم وأيّاً كان نوع الحياة الذي اختاروه، أن يقتدوا بسيدنا يسوع المسيح، الذي قدّمه الله للبشر نموذجاً كاملاً لكل قداسة. إنهم يستطيعون، بل يتوجب عليهم، أن يبلغوا، بعون الله، قمة الكمال المسيحي. تشهد بهذا حياة العديد من القديسين” AAS 22 (1930) 548.
45) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار مجمعي في رسالة العلمانيين. Apostolicam Actuositatem، عدد 4.
46) فقرة 5.
47) فقرة 8.
48) القديس لاون الكبير: Sermo XXI: S.Ch. 22 bis, 72
49) القديس مكسيم : مقالة ثالثة في العماد -90- PL. 57, 779.
50) القديس أغوسطينوس: مقالة في إنجيل القديس يوحنا 21، 8: PL.35, 1568.
51) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 33.
52) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم” عدد 4.
53) الجمعية العمومية غير العادية لمجمع الأساقفة (1985) Ecclesia sub Verbo K
Dei mysteria Christi celebrans pro salute mundi. Relatio finalis II, C,1.
54) بولس السادس: خطبة الأربعاء (8 حزيران 1966)، Insegnamenti IV (1966) 794.
55) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 6.
56) راجع ذات المرجع، عدد 7.
57) ذات المرجع، عدد 9.
58) ذات المرجع، عدد 1.
59) ذات المرجع، عدد 9.
60) ذات المرجع، عدد7.
61) ذات المرجع، عدد7.
62) ذات المرجع، عدد 4.
63) يوحنا بولس الثاني: عظة في القداس الاحتفالي الختامي للجمعية العامة العادية السابعة لمجمع الأساقفة (30 تشرين الأول 1987) AAS. 80 (1988) 600.
64) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد4.
65) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في نشاط الكنيسة الإرسالي “إلى الأمم”، عدد 5.
66) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في نشاط الكهنة وحياتهم: Presbyterorum ordinis، عدد 2. راجع أيضاً المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 10.
67) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 10.
68) راجع يوحنا بولس الثاني: رسالة خميس الأسرار إلى جميع كهنة الكنيسة (9 نيسان 1979)، عدد 3و4 Insegnamenti II, 1 (1979) 844-847.
69) C.I.C. can. 230 p.3
70) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار مجمعي في خدمة الكهنة وحياتهم، Presbyterorum ordinis، عدد 2و5.
71) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار مجمعي في رسالة العلمانيين Apostolicam actuositatem، عدد 24.
72) إن الحق القانوني يعدد سلسلة من الوظائف والنشاطات الخاصة برجال الكهنوت، والتي يُخوَّل المؤمنون العلمانيون القيام بها لزمنٍ معيّن، لأسباب خاصة وهامة، وبالتحديد في غياب الكهنة والشمامسة، على أن يسبق هذا تصريح قانوني وإنابة من السلطة الكنسية المختصة: راجع قانون 230: 3 و517: 2 و776 و861: 2 و 942 و1112 الخ..
73) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور في الليتورجيا المقدسة “Sacrosanctum Concilium”، عدد28. الحق القانوني، قانون 230 فقرة 2 التي تنص على “أن العلمانيين يستطيعون، بتفويض مؤقت، أن يمارسوا وظيفة القارئ، في النشاطات الليتورجية. وكذلك يستطيع جميع العلمانيين ممارسة وظيفة مُفسّر ومرتل ووظائف أخرى، طبقاً للقانون”.
74) يذكر الحق القانوني وظائف أو مهمات مختلفة، يستطيع المؤمنون العلمانيون القيام بها، ضِمن بُنْيات الكنيسة النظامية: راجع القانون: 228و 229: 3 و 317: 3 و436: 1 عدد 5 و436: 2 و 483 و494 و537 و 759 و776 و 784 و785و 1282 و1421: 2 و 1424: 2 و1435، الخ…
75) راجع فقرة 18.
76) بولس السادس: إرشاد رسولي Evangelii nuntiandi، عدد 70: AAS. 68 (1976) 60
77) قانون 230: 1.
78) فقرة 18.
79) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار مجمعي في رسالة العلمانيين “Apostolicam actuositatem” عدد3.
80) “ما دامت هذه المواهب تُعطى، حتى أبسطها، فإن لكل من المؤمنين حق ممارستها، بل واجب ممارستها في الكنيسة والعالم، لخير البشر ولبناء الكنيسة، في حرية الروح القدس، الذي “يهبّ حيث يشاء” (يو3/8). وكذلك في شركةٍ مع إخوته في المسيح وبالأخص مع رعاته” (المرجع عينه).
81) الفقرة عدد 9.
82) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم” عدد 12.
83) راجع ذات المرجع، عدد 30.
84) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار مجمعي في مهمة الأساقفة الرعوية في الكنيسة، “Christis Dominus”، عدد 11.
85) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 23.
86) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار مجمعي في رسالة العلمانيين Apostolicam actuositatem”، عدد 10.
87) راجع الفقرة 10.
88) راجع القانون 443: 4و 463: 1و 2.
89) راجع الفقرة 10.
90) ورد في نصوص المجمع ما يلي: “لما كان الأسقف في كنيسته لا يستطيع أن يترأس رعيته شخصياً، ودائماً وفي كل مكان، وَجَب عليه حتماً أن يُنشئ جماعات من المؤمنين، من أهمها الرعايا المنظمة محلياً، برئاسة راعٍ يحلّ محل الأسقف، لأن هذه الرعايا تمثّل، على وجهٍ ما، الكنيسة المنظورة القائمة في العالم” (المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور في الليتورجيا المقدسة “Sacrosanctum Concigium”، عدد 42).
91) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 28.
92) يوحنا بولس الثاني: إرشاد رسولي “Catechesi tradendae”، عدد 67: AAS;(1979) 1333.
93) قانون 515: 1.
94) راجع الفقرة 10.
95) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور في الليتورجيا المقدسة “Sacrosanctum Concilium”، عدد 42.
96) راجع قانون 555:1، أ.
97) راجع قانون 383: 1.
98) بولس السادس: خطاب بحضور إكليروس روما (24 حزيران 1963): AAS.55 (1963) 674.
99) الفقرة 11.
100) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين “Apostolicam actuositatem”، عدد 10.
101) ذات المرجع.
102) راجع الفقرة 10.
103) القديس غريغوريوس الكبير: Hom.In Ez. II, I, 5 CCL 142, 211.
104) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين Apostolicam actuositatem””، عدد 16.
105) يوحنا بولس الثاني: Angelus (23 aout 1987): Insegnamenti,X,3 (1987) 240.
106) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين Apostolicam actuositatem””، عدد 18.
107) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين Apostolicam actuositatem””، عدد 19 وعدد 15. وكذلك دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم”، عدد 37.
108) الحق القانوني الغربي، قانون 215.
109) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم”، عدد 39.
110) راجع ذات المرجع، عدد 40.
111) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين Apostolicam actuositatem””، عدد 19.
112) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم”، عدد 23.
113) راجع ذات المرجع.
114) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين Apostolicam actuositatem””، عدد 23.
115) راجع ذات المرجع، عدد 20.
116) راجع ذات المرجع، عدد 24.
117) الفقرة 13.
118) راجع الفقرة 15.
119) يوحنا بولس الثاني: خطاب في المؤتمر الوطني للكنيسة الإيطالية، في لوريت (10 نيسان 1985): AAS.77 (1985) 964.
120) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد1.
121) ذات المرجع، عدد 30.
122) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين. Apostolicam,actuositatem””،عدد10.
123) بولس السادس: إرشاد رسولي Evangelii nuntiandi، عدد 14: AAS.68 (1976),13.
124) يوحنا بولس الثاني: عظة في بداية خدمته كراع أعلى للكنيسة (22 تشرين الأول 1978): AAS.70 (1978) 947.
125) الفقرة 10.
126) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في نشاط الكنيسة الإرسالي، “إلى الأمم”، عدد 20 –راجع ذات المرجع، عدد 37.
127) الفقرة 29.
128) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في نشاط الكنيسة الإرسالي، “إلى الأمم”، عدد 21.
129) الفقرة 30 ب.
130) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد5.
131) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 22.
132) ذات المرجع.
133) يوحنا بولس الثاني: الرسالة العامة “فادي الإنسان”، عدد 14: AAS.71(1979) 284,285.
134) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 40.
135) راجع ذات المرجع، عدد 12.
136) “إن كنا نحتفل بمولد يسوع بهذه الأبّهة فلكي نشهد بأن كل إنسان هو فريد ولا يمكن استبداله. وإذا كانت إحصاءاتنا البشرية وتصنيفاتنا البشرية، والأنظمة البشرية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والإمكانات البشرية وحدها، عاجزة عن أن تؤمّن للإنسان أن يُولَد ويكون ويعمل ككائن فريد وغير قابل للاستبدال، فإن الله هو الذي يؤمّن له كل هذا. فالإنسان، في نظر الله وأمام الله، هو دائماً فريد ويستحيل استبداله. إنه كائن كان موضع تفكير منذ الأزل، ومنذ الأزل أُختير ودُعي باسمه الخاص” (يوحنا بولس الثاني: رسالة الميلاد الأولى إلى العالم: AAS. 71 (1976) 66.
137) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 27.
138) يوحنا بولس الثاني: إرشاد رسولي: “Familiaris consortio”، عدد 30:AAS. 74 (1982) 116 .
139) راجع مجمع عقيدة الإيمان: إرشاد Donum vitae بشأن احترام الحياة البشرية في الولادة وكرامة الإنجاب – جواب على بعض أسئلة الساعة (22 شباط 1987) :AAS. 80 (1988) 70-102..
140) الفقرة 36.
141) يوحنا بولس الثاني: رسالة في يوم السلام العالمي الحادي والعشرين (8 كانون الأول 1987): AAS.80 (1988) 278 et 280.
142) القديس أغوسطينوس: De Cathech. Rud. XXIV, 44:CCL. 46,168 .
143) الفقرة 32.
144) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 24.
145) ذات المرجع، عدد 12.
146) راجع يوحنا بولس الثاني: إرشاد رسولي Familiaris consortio”، 42- 48:AAS. 74 (1982) 134-140 .
147) ذات المرجع، ، عدد 85:AAS. 74 (1982) 188 .
148) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين “Apostolicam actuositatem”، عدد 8.
149) العلاقة بين العدالة والرحمة. راجع الرسالة العامة “Divers in misericordia” ، عدد 12: AAS. 72 (1980) 1215 – 1217.
150) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 75.
151) ذات المرجع، عدد 74.
152) ذات المرجع، عدد 76.
153) راجع الفقرة 28.
154) يوحنا بولس الثاني: البراءة “Sollicitudo reisocialis” ، عدد 38: AAS. 80 (1988) 565, 566.
155) راجع يوحنا الثالث والعشرين: الرسالة العامة “Pacem in terries”: AAS. 55 (1963) 256, 266.
156) يوحنا بولس الثانيك الرسالة العامة “Sollicitudo rei socialis” عدد 39: AAS. 80 (1988),568.
157) راجع الفقرة 26.
158) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 75.
159) راجع الفقرة 24.
160) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 67 – راجع كذلك يوحنا بولس الثاني: الرسالة العامة “Laborem exercens”، 24- 27: AAS. 73 (1981) 637- 647.
161) يوحنا بولس الثانيك الرسالة العامة “Sollicitudo rei socialis” عدد 34: AAS. 80 (1988),560.
162) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 53.
163) راجع الفقرة 35.
164) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة، في عالم اليوم “فرح ورجاء”، عدد 58.
165) بولس السادس: إرشاد رسولي Evangelii nuntiandi، عدد 18: AAS.68 (1976),18- 19.
166) راجع الفقرة 37.
167) القديس غريغوريوس الكبير: عظة في الإنجيل: I, XIX, 2: PL.66, 1155
168) المجمع الفاتيكاني الثاني: بيان في التربية المسيحية “Gravissium edicationis”، عدد 2.
169) يوحنا بولس الثاني: رسالة رسولية إلى جميع شباب العالم، بمناسبة “سنة الشباب الدولية”، عدد 15: AAS. 77 (1985) 620, 621
170) الفقرة 52.
171) الفقرة 51.
172) المجمع الفاتيكاني الثاني: Nuntii “Aux jeunes” (8 decembre 1965): AAS. 58 (1966), 18.
173) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، “فرح ورجاء”، عدد 48.
174) Jean Gerson, De parvulis ad Christum tradendis: Œuvres completes. Desclee, paris 1973, IX, 669.
175) يوحنا بولس الثاني: خطاب في جماعات في سن الكهولة، من الأبرشيات الإيطالية (23 آذار 1984): Insegnamenti, VII, 1 (1984), 744
176) راجع يوحنا الثالث والعشرين: الرسالة العامة “pacem in terries”: AAS. 55 (1963) 267m 268
177) يوحنا بولس الثاني: إرشاد رسولي “Familiari consortio”، عدد 24: AAS.74 (1982) 109, 110
178) الفقرة 46.
179) الفقرة 47.
180) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين “Apostolicam actuositatem”، عدد 9.
181) بولس السادس: خطاب أمام لجنة سنة المرأة الدولية (18 نيسان 1975): AAS. 67 (1975), 266.
182) الفقرة 46.
183) الفقرة 47.
184) ذات المرجع.
185) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، “فرح ورجاء”، عدد 10.
186) إن الرسالة العامة “أم الفادي” بعد أن ذكّرت بأن البعد المريمي للحياة المسيحية يبرز بصفة خاصة في ما يتعلق بالمرأة وبوضعها، تقول: “إن الأنوثة ترتبط بأم الفادي ارتباطاً خاصاً. وهذا موضوع يمكننا أن نتعمق فيه في مناسبة أخرى. على أننا نشير هنا إلى أن وجه مريم التي من الناصرة يسلّط الضوء على المرأة، بوصفها امرأة، لكون الله قد لجأ إلى امرأة، وإلى خدمتها الحرة والفاعلة، ليكمّل حَدَث تجسد ابنه السامي. ويمكننا إذن التأكيد أن المرأة، إن تطلّعت إلى مريم، وجدت فيها المدخل الذي تَعْبُر منه المرأة لتعيش أنوثتها بكرامة، ولِتُنجز تنميتها الحقيقية. وفي ضوء مريم، تكتشف الكنيسة، على وجه المرأة انعكاساً لجمالٍ، هو بمثابة المرآة لما يستطيع القلب البشري أن ينطوي عليه من أسمى العواطف: أي كما هِبة الذات، بدافع الحب، والقدرة على الصمود في وجه أفدح الآلام، والأمانة غير المحدودة، والنشاط الذي لا يكلّ، والقدرة على التوفيق بين الحدس النافذ إلى الأعماق، والكلمة التي تدعم وتشجّع” (يوحنا بولس الثاني: الرسالة العامة “أم الفادي”، عدد 46: AAS. 79 (1987) 424, 425..
187) يوحنا بولس الثاني: رسالة رسولية في “كرامة المرأة”، عدد 16.
188) راجع مجمع عقيدة الإيمان: بيان بشأن قبول النساء في كهنوت الخدمة. Inter insigniores (15 Octobre 1978): AAS. 69 (1988) 98-116.
189) راجع يوحنا بولس الثاني: رسالة رسولية “كرامة المرأة” عدد 26.
190) ذات المرجع، عدد 27. “إن الكنيسة، جسد ذو فوارق، ولكل فرد فيها وظيفته. إن المهمات مختلفة ويجب أن لا تختلط. وهي لا تبرر أي تقدم للبعض على البعض الآخر، كما أنها لا توفّر أية حدة للحسد (1كو12/13). إن الأكبر في ملكوت السماوات، ليسوا القائمين بالخدمة الكهنوتية، بل القديسين” (مجمع عقيدة الإيمان: البيان الخاص بمسألة قبول النساء في خدمة الكهنوت “Inter insigniores” ( 15 تشرين الأول 1976): AAS. 69 (1977) 115.
191) بولس السادس: خطاب أمام لجنة سنة المرأة الدولية (18 نيسان 1975): AAS. 67 (1975) 266.
192) الفقرة 47.
193) ذات المرجع.
164) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عدد 36.
195) يوحنا بولس الثاني: إرشاد رسولي “Familiaris consortio” عدد 50: AAS. 74 (1982) 141, 142.
196) الفقرة 46.
197) الفقرة 47.
198) الجمعية العمومية العادية لمجمع الأساقفة (1987) Per concilii semitas ad Populum Dei Nuntius, 12.
199) الفقرة 53.
200) يوحنا بولس الثاني: رسالة رسولية “Salvifici doloris”، عدد 3:AAS. 76 (1984) 203.
201) القديس أغناطيوس الأنطاكي: Ad Ephesios, VII, 2: S.Ch. 10, 64.
202) يوحنا بولس الثاني: رسالة رسولية “Salvifici doloris”، عدد 31: AAS. 76 (1984) 249,250.
203) القديس أمبروسيوس: De virginat VI, 34: PL 16, 288. Cf. S. Augustin Sermo CCCIV, III, 2: PL. 38, 1396.
204) راجع بيوس الثاني عشر: رسالة رسولية “Provida Mater” (2 شباط 1947): AAS. 39 (1947), 114- 124, C.I.C. can 573.
205) الفقرة 6.
206) راجع بولس السادس: رسالة رسولية “Sabaudiae gemma” (29 كانون الثاني 1967): AAS. 59 (1967), 113- 123.
207) القديس فرنسيس السالزي:”Introvuction a la vie devote”. Œuvres completes. Monastere de la Visitation, Annecy 1893, III, 19- 21.
208) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين. “Apostolicam actuositatem”، عدد 4.
209) الفقرة 40
210) Dabit virtutem, qui contulit dignitatem (S.Leon le Grand. Serm,II,1: S.Ch. 200,248.
211) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين “Apostolicam acutositatem”، عدد 4.
212) المجمع الفاتيكاني الثاني: دستور رعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، “فرح ورجاء”، عدد 43. راجع كذلك المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في نشاط الكنيسة الإرسالي، “إلى الأمم”، عدد 21 وبولس السادس: إرشاد رسولي AAS. 68 (1976) 19:”Evangelii nuntiandi”.
213) يوحنا بولس الثاني: Discours aux participants au Congres du Mouvement ecclesial d’engagement culturel (M.E.I.C), (16 Janvier 1982),2: Insegnamenti V,1. (1982),131. Cf. egalement Lettre au Cardinal Agostino Casaroli, Secretaite d’Etat, par laquelle est institute le Conseil Pontifical pour la Culture (20 mai 1982):AAS.74 (1982) : 685, Discours a la communaute universitaire de Louvain (20 mai 1985) : Insegnamenti, VII,1 (1985),1591.
214) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين “Apostolicam acutositatem”، عدد 4.
215) الفقرة 22- راجع كذلك يوحنا بولس الثاني: الرسالة العامة “Sollicitudo rei socialis”، عدد 41: AAS.80 (1988) 570- 572.
216) المجمع الفاتيكاني الثاني: قرار في رسالة العلمانيين “Apostolicam actuositatem”، عدد 4
217) القديس متوديوس الأولبمي: Symposium III,8:S. Ch. 95, 110
218) راجع الفقرة 11.
219) الفقرة 40.
220) راجع الفقرة 44.
221) الفقرة 45.
222) الفقرة 44.
223) الفقرة 41.
224) الفقرة 42.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post