أم الفــَادي
Redemptoris Mater
رسالة الحبر الأَعظم
البابا يوحنا بولس الثاني
العامة
عن الطوباوية مريَم العَذراء
في حياة الكنيسة عَبر مَسيرتها على الأرض
أيها الإخوة المحترمين
والأبناء والبنات الأعزاء،
سلام وبركة رسولية!
المقدمة
1- إن لأُم الفادي موقعاً محدّداً في مخطّط الخلاص، لأنه “عندما بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه، مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس وننال التبنّي. والدليل على أنكم أبناء، كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه، ليصرخ فيها أبَّا، أيها الآب!” (غلاطية 4: 4 – 6).
هذه العبارات للرسول بولس، التي يستعيدها المجمع الفاتيكاني الثاني في مطلع ما يعرضه بشأن الطوباوية مريم العذراء (1)، استهلُّ بها، أنا أيضاً، تأمّلي في معنى الدور الذي لمريم في سرّ المسيح وفي حضورها الفاعل والمثالي في حياة الكنيسة. ذلك أن هذه العبارات تعلن في آن محبّة الآب ورسالة الابن وعطيّة الروح، والمرأة التي ولدت الفادي، وبنّوتنا الله، في سرّ “ملء الزمان” (2).
“ملء الزمان” هذا يشير إلى الحقبة التي حدّدها الآب، منذ الأزل، لكي يرسل ابنه “فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا 3: 16)؛ كما يشير إلى هذه الآونة السعيدة التي فيها “الكلمة الذي كان لدى الله، صار جسداً وسكن في ما بيننا” (يوحنا 1 : 1، 14) وأضحى أخاً لنا؛ وهو يبرز البرهة التي فيها كوّن الروح في أحشاء مريم التي من الناصرة، وهي عذراء، طبيعة المسيح البشرية، بعد أن أنزل عليها ملء النعمة؛ ويشير إلى المرحلة التي فيها تناول الخلاص الزمن نفسه بعد أن حلّ الأزل فيه؛ وإذ دخله سرّ المسيح أضحى، وبشكل نهائي، “زمن خلاص”. أخيراً، يشير إلى انطلاقة مسيرة الكنيسة في خطاها الأولى الخفيّة. ففي الليتورجيا، تهتف الكنيسة لمريم التي من الناصرة بوصفها فاتحة لها (3)، لأنها ترى في واقع الحبل بها، وهو حبل غير موصوم بالخطيئة الأصليّة، تحقيقاً مسبقاً لنعمة الخلاص التي للفصح، في أشرف عضو فيها، وخصوصاً لأن واقعة التجسد أبرزت المسيح ومريم في شركة لا تنفصم، فهو ربها ورأسها، وهي، إذ كانت أول من تلفّظ في العهد الجديد بعبارة “ليكن لي بحسب قولك” سبقت وصوّرت وضعها، وضع العروس والأم.
2- والكنيسة تسير، على مرّ الزمن، صوب انقضاء الدهر، لملاقاة الرب الذي يأتي، يسندها حضور المسيح (راجع متى 28 : 20). ويهمّني أن ألفت أولاً إلى أنها تتقدّم في مسيرتها على هذه الطريق تستهدي الخط الذي سلكته العذراء مريم التي سارت في طريق الإيمان وهي تتمسّك بأمانة بما يربطها بابنها حتى الصليب (4).
إني أستعيد هذه العبارات الكثيفة المعنى والإيحاء التي وردت في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني “نور الأمم”، هذه الوثيقة التي تعطينا في خاتمتها خلاصة رائعة لما تعلّمه الكنيسة بشأن والدة المسيح والتي تكرّمها بوصفها أمّها الحبيبة وقدوتها في الإيمان والرجاء والمحبة.
بعد المجمع ببضع سنوات شاء سلفي العظيم بولس السادس أن يعود إلى موضوع العذراء الفائقة القداسة فعرض في رسالته العامّة “أم المسيح” ثم في التحريضين الرسوليّين اللّذين مطلعهما “العلامة العظيمة” “وإكرام مريم” (5)، أُسُس الإكرام الفريد الذي لوالدة المسيح في الكنيسة ومفاهيمه، وكذلك مختلف الأشكال الليتورجية والشعبيّة أو الفرديّة التي يتّخذها هذا الإكرام المريميّ نابعاً من روح الإيمان.
3- إن ما يدفعني اليوم إلى العودة إلى هذا الموضوع هو أنَّ آفاق العام الألفين الذي أضحى قريباً أخذت تطلّ وتحمل الذكرى الألفيّة الثانية لميلاد يسوع المسيح، وهي توجّه نظرنا في الوقت نفسه صوب والدته. وفي هذه السنين الأخيرة، طلعت أصوات من هنا وهناك تقول أن إقامة يوبيل مماثل يكون موضوعه الاحتفال بذكرى ميلاد مريم، تفرض ذاتها استعداداً لهذه الذكرى.
أجل، إذا كان لا يمكن أن نعيّن في مسيرة التاريخ زمناً محدّداً نشير فيه إلى يوم ميلاد مريم، فقد وعدت الكنيسة دوماً أن مريم ظهرت قبل المسيح في أفق تاريخ الخلاص (6). فالواقع، إذن، أنّه فيما كان يقترب بشكل حاسمٍ “ملء الزمان”، أعني ظهور عمّانوئيل بوصفه حدثاً خلاصياً، فالتي كانت معدّة منذ الأزل لأن تكون أمّاً له سبقته في الوجود على الأرض. وواقع كونها “تسبق” مجيء المسيح تعكسه ليتورجيا ما قبل الميلاد. فإذا كانت السنون التي تفصلنا عن نهاية السنة الألفين للمسيح ومطلع الألف الثالثة، يمكن أن نقارن بينها وبين هذه الحقبة القديمة، حقبة الانتظار التاريخي للمسيح، تضحي رغبتنا في التوجّه، لا سيما في هذه المرحلة، صوب تلك التي بدأت تتألّق “كنجمة الصبح” الحقيقيّة في ليل انتظار هذا الحدث، في إطارها الطبيعي. فكما أن هذه النجمة والفجر الذي يرافق ظهورها يسبقان اشراقة الشمس، كذلك سبقت مريم، منذ أن حُبِل بها حبلاً منزهاً عن الخطيئة الأصلية، مجيء المخلِّص، أي بزوغ “شمس العدل” في تاريخ الجنس البشري (7).
إن وجودها في إسرائيل، وجوداً خفيّاً، إلى حدّ أن معاصريها كادوا أن يجهلوه، كان يسطع بوضوح أمام الأزلي الذي كان قد أشرك في مخطّط الخلاص الشامل تاريخ البشر كلّه، “ابنة صهيون” هذه الخفيّة (صوفانيا 3: 14؛ زخريا 2 : 14). فنحن المسيحيين، إذن، محقّون في رغبتنا في أن نبرز وجود أمّ المسيح الفريد في التاريخ، لا سيما في هذه السنين الأخيرة من الألف الثاني، يقيناً منَّا أن المخطّط الربّاني الذي وضعه الثالوث الأقدس هو محور الوحي والإيمان.
4- وإن المجمع الفاتيكاني الثاني يعدّنا لذلك إذ يطرح في تعليمه موضوع والدة الإله، في “سرّ المسيح والكنيسة”. وفي الواقع، إذا كان “لا يفهم سرّ الإنسان إلاّ في ضوء سرّ الكلمة المتجسِّد”، كما يؤكّد هذا المجمع نفسه (8)، فمن الطبيعي أن نطبّق هذا المبدأ بالذات على “فتاة الأجيال” الفريدة هذه، على “المرأة” التي لا مثيل لها، التي أضحت والدة المسيح. ففي سرّ المسيح وحده نكتشف سرّها في كلّيته. والكنيسة، منذ البدء سعت إلى اكتناهه في هذا الضوء: فسرّ التجسد أتاح لها أن تسبُرَ سرّ والدة الكلمة المتجسّد أكثر فأكثر وتنيره. وكان لمجمع أفسس (431) في هذا المجال أهمية حاسمة لأن حقيقة أمومة مريم الإلهية توطّدت فيه بشكل علني ورسمي بوصفها عقيدة إيمانيّة في الكنيسة، فكان ذلك مدعاة لفرح عظيم لدى المسيحيّين. إن مريم هي والدة الإله، لأنّها حبلت بالروح القدس في أحشائها البتولية وولدت يسوع المسيح ابن الله الواحد في الجوهر مع الآب (9). “إن ابن الله… المولود من العذراء مريم، أضحى حقاً واحداً منّا” (10)؛ لقد تأنّس. ففي سر المسيح يتألّق سرّ والدته في كلّيته في أفق إيمان الكنيسة. ومن جهة أخرى، فعقيدة أمومة مريم الإلهيّة كانت لمجمع أفسس، ولا تزال للكنيسة، وكأنّها ختم يؤكّد عقيدة التجسّد، التي تعلن أن الكلمة اتّخذ حقيقة، في وحدة شخصه، الطبيعة البشريّة بدون أن تضمحلّ حياله.
5- اعتلان مريم في سرّ المسيح هو أيضاً، في رؤية المجمع، وسيلة لتفهّم أكثر عمقاً لسرّ الكنيسة. وفي الواقع، أن مريم، بوصفها والدة المسيح، متّحدة بشكل خاص بالكنيسة “التي شاءها الرب جسداً له” (11). والنصّ المجمعي يقارب بشكل ملفت بين هذه الحقيقة، حقيقة الكنيسة بوصفها جسد المسيح (كما يعلّم الرسول بولس في رسائله)، وحقيقة “ولادة ابن الله بفعل الروح القدس من العذراء مريم”. إن واقع التجسّد يجد له امتداداً، في سرّ الكنيسة – جسد المسيح. ولا يمكن أن نفكّر في واقع التجسّد بالذات دون أن تتبادر إلى الذهن مريم والدة الكلمة المتجسّد.
مع ذلك، أريد أن أعرض في هذه التأمّلات خصوصاً “مسيرة الإيمان” التي “سلكتها العذراء الطوباوية، حافظة في أمانة اتحادها بالمسيح” (12). وبذلك تتّخذ هذه “الرابطة المزدوجة” التي تربط والدة الإله بالمسيح والكنيسة معنى تاريخياً. فلسنا هنا في وارد سرد تاريخ العذراء الأم، أي مسيرتها الشخصيّة بالإيمان، “والنصيب الأصلح” (لوقا 10 : 42) الذي لها في تاريخ الخلاص، فحسب، بل أيضاً مسيرة شعب الله كله، أعني جميع الّذين يشتركون في مسيرة الإيمان الواحدة.
وهذا ما يعبّر عنه المجمع، في موضع آخر، إذ يشير إلى أن مريم “تحتلّ المرتبة الأولى “بصيرورتها” صورة الكنيسة… على صعيد الإيمان والرجاء والاتّحاد الكامل بالمسيح” (13). “ومرتبتها الأولى” هذه، كصورة أو مثال، تتعلّق بصميم سرّ الكنيسة نفسه التي تقوم برسالتها الخلاصيّة، تحقيقاً واكتمالاً، أو تجمع في ذاتها، على غرار مريم، صفات الأمومة والبتوليّة معاً. فهي بتول “لأنها أعطت عريسها إيمانها به، إيماناً تصونه كاملاً ونقيّاً”، وهي “تضحي بدورها أمّاً… إذ تلد إلى حياة جديدة وخالدة أبناء حبل بهم من الروح القدس وولدوا من الله” (14).
6- هذا كله يتمّ على مرّ تطور تاريخي وبشكل “مسيرة”. إن مسيرة الإيمان تعني التاريخ، أي تاريخ النفوس، إلا أنه في الوقت نفسه تاريخ البشر، الخاضعين لوضع عابر على هذه الأرض وقائمين في نطاق التاريخ. على أننا نسعى، في التأمّلات الآتية، إلى أن نتنبّه للمرحلة الراهنة. فهي ليست بعد في ذاتها من التاريخ، ومع ذلك، فهي لا تني تكيّف التاريخ لا سيَّما بمعنى تاريخ الخلاص. وإنه لينبسط أمامنا مجال وسيع جدّاً، حيث لا تزال العذراء الطوباوية تحتلّ “المرتبة الأولى” في شعب الله. إن مسيرتها الفريدة على دروب الإيمان تشكّل مرجعاً دائماً للكنيسة، أفراداً وجماعة، وللشعوب والأمم، وعلى نوع ما للبشريّة جمعاء. وفي الواقع، إنه ليتعذّر علينا أن نلمّ بإشراقه ونقدّره.
ويشير المجمع إلى أن والدة الإله هي منذ الآن اكتمال الكنيسة في يومها الأخير: “فالكنيسة تبلغ، في شخص العذراء الطوباويّة، منذ الآن الكمال الذي يبرزها “لا كلف فيها ولا غضن” (أفسس 5 : 27). كما يشير في الوقت نفسه، إلى أنّ المؤمنين “لا يزالون مشدودي الجهد للنموّ في القداسة بالانتصار على الخطيئة؛ وهذا ما يحدوهم إلى رفع الالحاظ صوب مريم كمثال للفضائل يشرق في مجتمع المختارين كله” (15). ومسيرة الإيمان ليست الآن مسيرة والدة ابن الله: فقد تمجّدت مريم في السماوات إلى جانب ابنها، واجتازت العتبة التي تفصل بين الإيمان والرؤية “وجهاً إلى وجه” (1 كورنتس 13 : 12). مع ذلك، لا تزال مريم، في الوقت نفسه، وقد اكتمل فيها اليوم الأخير، “نجمة البحر” (16) لجميع الذين لا يزالون على دروب الإيمان. فإذا رفعوا أنظارهم إليها، حيثما وجدوا على الأرض، إنّما يفعلون ذلك “لأنّها ولدت الابن الذي أقامه الله بكراً ما بين إخوة كثيرين” (روما 8 : 29) (17). وأيضاً لأنها “تسهم، وهي الأم الحانية في ولادة هؤلاء الأخوة والأخوات وتنشئهم” (18).
القسم الأول
مريم في سرّ المسيح
أولاً- الممتلئة نعمة
7- “تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح، الذي غمرنا من علياء سمائه، بكلّ بركة روحيّة في المسيح”، (أفسس 1 : 3). هذه الكلمات في الرسالة إلى الأفسسيّين تعلن قصد الله الآب منذ الأزل ومخطّطه لأجل خلاص الإنسان في المسيح. إنه لمخطّط عامّ يشمل البشر أجمعين، وقد خلقوا على صورة الله ومثاله (تكوين 1 : 26). وكما أنّهم جميعاً داخلون “منذ البدء” في عمل الله الخالق، فهم منذ الأزل أيضاً، موضوع المخطّط الإلهي في الخلاص الذي سوف يعلن كلياً عندما يحين “ملء الزمن” بمجيء المسيح. وتواصل الرسالة نفسها عرضها بالقول: إن الله هذا “أبا ربّنا يسوع المسيح” “قد اختارنا فيه عن محبّة من قبل إنشاء العالم، لنكون قدّيسين، وبغير عيب أمامه؛ وسبق فحدّد على حسب مرضاته، أن نكون له أبناء بيسوع المسيح، لتمجيد نعمته السنيّة، التي أنعم بها علينا، في الحبيب، وفيه لنا الفداء بدمه، ومغفرة الزلاّت، على حسب غنى نعمته” (أفسس 1 : 4 – 7).
المخطّط الإلهي في الخلاص، الذي أعتلن كلياً بمجيء المسيح، هو أزليّ. وهذا أيضاً، كما تعلّم الرسالة نفسها ورسائل أخرى للقدّيس بولس (كولوسي 1 : 12 – 14؛ روما 3 : 24؛ غلاطية 3 : 13؛ 2 كورنتس 5 : 18 – 29) مرتبط منذ الأزل بالمسيح (19)، وهو يضمّ البشريّة جمعاء. إلاّ أنّه يحتفظ بمرتبة فريدة “للمرأة” التي هي والدة ذاك الذي أناط به الآب عمل الخلاص. وكما جاء في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، “نجد ملامحها في إشارة نبويّة في الوعد الذي قطع لأبوينا الأوّلين بعد أن سقطا في الخطيئة، على نحو ما ورد في سفر التكوين (3 : 15) كما أنها هي، العذراء، التي سوف تحبل وتلد ابناً يدعى عمّانوئيل، على حسب نبوءة أشعيا (7 : 14) (20). بهذه الصورة يعدّ العهد القديم “لملء الزمن”، حيث أرسل الله ابنه، مولوداً من امرأة… لننال التبني. ومجيء ابن الله إلى العالم هو الحدث الذي أتى خبره في الفصول الأولى من إنجيلي القديسين لوقا ومتى.
8- فالبشرى التي حملها الملاك هي الحدث الذي يُدخل مريم في سرِّ المسيح. لقد تمّ هذا الحدث في الناصرة، في ظروف محدّدة من تاريخ اسرائيل، أول شعب أوتُمنَ على مواعيد الله. قال المرسل الإلهي للعذراء: “افرحي يا ممتلئة نعمة، الرب معك” (لوقا 1 : 28). “فاضطربت مريم لهذا الكلام وجعلت تفكّر ما عسى أن يكون هذا السلام” (لوقا 1 : 29)؛ ما عسى أن تكون هذه العبارات الغريبة، لا سيما منها عبارة “الممتلئة نعمة” (21).
إذا أردنا أن نتأمّل مع مريم هذه الكلمات، ولا سيما منها عبارة “الممتلئة نعمة” نستطيع أن نجد تقارباً بليغاً مع المقطع الآنف الذكر بالذّات من الرسالة إلى الأفسسيّين. وإذا كانت عذراء الناصرة تُطلق عليها، بعد البشرى التي حملها مرسل السماء، تحيّة “مباركة أنت في النساء” (لوقا 1 : 42)، فإنما يتّضح ذلك بالبركة التي غمرنا بها “الله الآب في السماوات في المسيح”. فهي بركة روحية تلفّ البشر جيمعاً وتحمل في ذاتها الملء والشموليّة (“كل بركة”)، نابعين من الحب الذي يجمع إلى الآب بالروح القدس الابن المساوي له في الجوهر. وفي الوقت نفسه إنها بركة تشمل في المسيح يسوع الناس جميعاً، في تاريخ البشرية، حتى المنتهى. مع ذلك، فهذه البركة تتناول مريم بشكل خاصّ واستثنائي. وفي الواقع، فقد حيّتها اليصابات بوصفها “مباركة في النساء”.
فالغاية من هاتين التحيّتين هي، إذن، أن مجد النعمة التي أنعم بها الآب علينا في الابن الحبيب قد تجلّى كاملاً في نفس ابنة صهيون. فالمرسل يحيّي مريم بوصفها “ممتلئة نعمة”. وكأنِّي بهذه الصفة قد أضحت اسمها الحقيقي، لأنه لا يُطلق على مخاطبته الاسم الشخصي الذي تحمله في هويتها الأرضية “ميريم” أي مريم، بل يُطلق عليها هذا الاسم الجديد “الممتلئة نعمة”. فما معنى هذا الاسم ولماذا يدعو رئيس الملائكة عذراء الناصرة بهذا الاسم؟.
في بيان الكتاب المقدّس، تعني “النعمة” عطيّة خاصة تنبع من حياة الله نفسه وهو ثالوث ومحبّة في رؤية العهد الجديد (1 يوحنا 4 : 8). وثمرة هذا الحبّ هي الاختيار، ذاك الذي ورد الكلام عليه في الرسالة إلى الأفسسيّين. ففي الله، هذا الاختبار هو إرادته الأزلية في خلاص الإنسان بإشراكه في حياته الإلهية (2 بطرس 1 : 4) في المسيح. ذلك هو الخلاص بالاشتراك في الحياة الفائقة الطبيعة. هذه الموهبة الأزلية، ونعمة اختيار الإنسان هذه من قبل الله، تضعان في الإنسان بذار قداسة أو تفجّران في النفس ينبوعاً على غرار عطيّة الله نفسها، يحيي مختاري النعمة ويقدّسهم. وهكذا تتحقّق في الإنسان هذه البركة، “كلّ بركة روحيّة”، أي إنّها تضحي فيه واقعاً هو صيرورتنا “أبناء الله بالتبنيّ في المسيح”، ذاك الذي هو منذ الأزل “ابن الآب الحبيب”.
عندما نقرأ أن المرسل قال لمريم أنها “ممتلئة نعمة”، نتبيّن من خلال قرائن النصّ، حيث تلتقي الايحاءات والوعود القديمة، أنّا حيال بركة فريدة تتميّز بين “كل بركة روحية في المسيح”. فمريم حاضرة في سرّ المسيح “منذ قبل إنشاء العالم”، وهي التي اختارها “الآب أمّاً لابنه المتجسّد، وهي التي اختارها الابن، في آن مع الآب، واستودعها منذ الأزل روح القداسة. إن مريم متّحدة مع المسيح بشكل فريد وخاصّ بها، وهي محبوبة في هذا الابن الحبيب منذ الأزل، هذا الابن الواحد في الجوهر مع الآب وحيث يصبّ “كل مجد النعمة”. وهي، في الوقت نفسه، ولن تزال، كاملة الانفتاح على هذه “الهبة التي تهبط من فوق” (يعقوب 1 : 17). “ومريم هي في المرتبة الأولى بين هؤلاء الوضيعين والمفتقرين إلى الرب الذين يرجون منه الخلاص وينتظرونه في ثقة”، كما يعلّم المجمع (22).
9- وإذا كانت التحيّة والتسمية “الممتلئة نعمة” تعنيان كل هذا، فموضوعهما الاول، في قرينة بشرى الملاك، اختيار مريم أمّاً لابن الله. إلا أنَّ “ملء النعمة” يشير، في الوقت نفسه، إلى كل المواهب الفائقة الطبيعة التي أُغدقت على مريم في نطاق كونها قد اختيرت ووُجِّهت لتكون أمّاً للمسيح. وإذا كان هذا الاختيار أساسيّاً لتحقيق مخطّط الله في خلاص البشرية، وإذا كان الاختيار الأزلي في المسيح، الهادف إلى كرامة التبنيّ، يلفّ البشر جميعاً، فاختيار مريم استثنائي وفريد. وإنّا لنستخلص من هنا المرتبة الفريدة التي لها في سرّ المسيح.
لقد قال المرسل الربّاني “لا تخافي، يا مريم، فلقد نلتِ حظوة عند الله. وها أنت تحبلين وتلدين ابناً وتسمّينه يسوع. إنه يكون عظيماً، وابن العليّ يدعى” (لوقا 1 : 30 – 32). وإذ اضطربت مريم حيال هذه التحية المدهشة، وسألت: “كيف يكون ذلك، وأنا لا أعرف رجلاً”، يجيب الملاك بما يؤكِّد ويفسِّر ما سبق وقال: “الروح القدس يأتي عليك وقدرة العليّ تظلّلك. ومن أجل ذلك، قالقدّوس الذي يولد منك يدعى ابن الله” (لوقا 1 : 35).
فالبشرى، إذن، هي اعتلان التجسد في مطلع تحقيقه على الأرض. إن هبة الله ذاته وحياته لخلاص الخليقة كلها، وبخاصة الإنسان، تبلغ احدى قممها في سرّ التجسد وهو القمّة بين هبات النعمة في تاريخ الإنسان والكون. ومريم “ممتلئة نعمة” لأن تجسّد الكلمة واتّخاذ ابن الله الطبيعة البشرية في وحدة شخصه يتحقّقان ويكتملان فيها بالذات. والمجمع يؤكّد أنَّ مريم “هي أم ابن الله وبالتالي هي ابنة الآب المفضّلة وهيكل الروح القدس؛ وإنها تتجاوز بعيداً، بعطيّة النعمة العظمى هذه، الخلائق الأخرى كلّها في السماء وعلى الأرض” (23).
10- إن الرسالة إلى الأفسسيّين، في معرض كلامها على “مجد النعمة الذي منحناه الله الآب في الحبيب”، تزيد “أن لنا (في هذا الحبيب) الفداء بدمه (أفسس 1 : 7). وإنّا لنقرأ في الوثائق الرسميّة التي أصدرتها الكنيسة أن “مجد النعمة” هذا قد تجلّى في والدة الإله لكونها “افتديت بشكل فائق واستثنائي” (24). فبقوّة غنى نعمة الابن الحبيب، واعتباراً لثمار الفداء الذي جاء به من سيكون ابناً لها، حفظت مريم من ارث الخطيئة الأصلية (25). وبالتالي، فهي منذ اللحظة الأولى التي حبل بها، أي منذ اللحظة الأولى لوجودها، خاصة المسيح وتشترك في النعمة التي تخلّص وتقدّس وفي الحب النابع “من الحبيب”، في ابن الآب الأزلي الذي أضحى بالتجسّد ابناً لها. ولذلك، فعلى صعيد النعمة، أعني المشاركة في الطبيعة الإلهية تستقي مريم، في الروح القدس، الحياة من ذاك الذي، على صعيد الولادة الأرضية، أعطته الحياة بوصفها أمّاً له. والليتورجيا لا ترتاب في منحها لقب “أمِّ خالقها” (26). وهي تحييّها بالعبارة التي يضعها “دانتي اليغييري” على شفتي القديس برنردوس، إذ يدعوها “ابنة ولدها” (27). ولأنّ هذه “الحياة الجديدة” تنزل على مريم بما يليق بمحبّة هذا الابن لهذه الأمّ من كمال، وبالتالي على مستوى كرامة أمومتها الإلهيّة، يدعوها ملاك البشارة “ممتلئ نعمة”.
11- في مخطّط الثالوث الأقدس الخلاصي، يشكّل سرّ التجسّد التحقيق الأمثل للوعد الذي قطعه الله للبشر في أعقاب الخطيئة الأصلية، تلك الخطيئة الأولى التي ألقت بثقلها على تاريخ الإنسان على هذه الأرض (تكوين 3 : 15). فقد جاء ابن، هو “نسل المرأة” ليجتثّ شرّ الخطيئة من جذوره: “سيسحق رأس الحيّة”. وغلبة ابن المرأة لن تتحقّق إلا عبر صراع عنيف يرافق تاريخ البشر، كما يُبرز ذلك مطلعُ الكتاب المقدس وكأنّي به مطلع الإنجيل. إن “العداوة التي أعلنت منذ البدء يؤكّدها سفر الرؤيا الذي ينشر “الصفحات الأخيرة من تاريخ الكنيسة والعالم”، حيث تبرز مجدداً ظاهرة “المرأة” وهي إذ ذاك ملتحفة بالشمس” (رؤيا 12 : 1).
إن مريم والدة الكلمة المتجسّد، نراها في قلب دائرة هذه العداوة وهذا الصراع الذي يطبع تاريخ البشر على الأرض وتاريخ الخلاص بالذّات؛ وأنها لتحمل، في هذا المركز، وهي واحدة “من الوضعاء والفقراء إلى الرّب”، أكثر من أي إنسان آخر “مجد النعمة”، ذاك الذي أولاناه الآب “في الحبيب”. ومن هذه النعمة، تنطلق عظمة كيانها وجماله. وإنها لتظلّ أمام الرب وأمام البشرية كلها العلامة التي لا تتغيّر ولا تمسّ لإختيار الله، ذاك الذي عنته رسالة بولس: “قد اختارنا عن محبّة من قبل إنشاء العالم… وسبق فحدّد، على حسب مرضاته، أن نكون له أبناء بيسوع المسيح” (أفسس 1 : 4 – 5). وإن لفي هذا الاختبار طاقة أعظم من كل ما نتج عن الشرّ والخطيئة وعن هذه “العداوة” التي تطبع تاريخ الإنسان. وتبقى مريم، في هذا التاريخ، علامة الرجاء الوطيد.
ثانياً: طوبى للتي آمنت
12- ما أن ينتهي الإنجيلي لوقا من سرد خبر البشارة، حتى يقودنا، في خطى عذراء الناصرة، صوب “مدينة من يهوذا” (لوقا 1 : 39). يرى العلماء في هذه المدينة عين كارم اليوم، وهي قائمة في الجبال قريباً من أورشليم. قصدتها مريم “مسرعة” لزيارة اليصابات نسيبتها، وهي زيارة دفع إليها ما سمعته من جبرائيل في معرض البشرى التي حملها إليها، وقد ذكر اليصابات بشكل ملفت وأشار إلى كونها، هي المتقدّمة سنّاً، قد حبلت من قرينها زخريا بابن: “ها إن البصابات نسيبتك قد حبلت هي أيضاً بابن في شيخوختها، وهذا الشهر هو السادس لتلك التي تدعى عاقراً، إذ ليس من أمر يستحيل على الله” (لوقا 1 : 36 – 37). لقد رجع المرسل الإلهي إلى ما حدث لأليصابات جواباً عن سؤال مريم: “كيف يكون ذلك وأنا لا أعرف رجلاً” (لوقا 1 : 34). أجل، سيكون ذلك “بقدرة العلي”، كما جرى لأليصابات، بل بطريقة أعجب مما جرى لأليصابات.
ذهبت مريم، تدفعها المحبّة، إلى بيت نسيبتها. ولدى دخولها، ردّت اليصابات على تحيّتها. وإذ شعرت أن الجنين يرتكض ابتهاجاً في أحشائها، صاحت بصوت جهير “يملأها الروح القدس”: “مباركة أنت في النساء، مبارك ثمرة بطنك” (لوقا 1 : 40 – 42). هذا الهتاف أو هذا التعظيم، على لسان اليصابات، دخل في صلب “السلام الملائكي” بعد تحيّة الملاك وأضحى بذلك من الصلوات الأكثر تلاوة في الكنيسة. إلاّ أن كلمات اليصابات تتخذ معنى أكثر كثافة في السؤال الذي يلي: “من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربّي إليّ؟”! (لوقا 1 : 43). تلك شهادة اليصابات لمريم: فهي تعترف وتعلن أن أمّ الرب، أمّ المسيح، ماثلة أمامها. ويشارك الابن الذي تحمله اليصابات، هو أيضاً، في هذه الشهادة. “فقد ارتكض ابتهاجاً في بطني” (لوقا 1 : 44). وسيكون هذا الولد يوحنا المعمدان، ذاك الذي أعلن في الأردن أن يسوع هو المسيح.
إن كل كلمة في تحيّة اليصابات لكثيفة المعنى. مع ذلك، فما تقوله في الختام يبدو ذا أهمّية كبرى: “طوبى للتي آمنت بأنه سيتمّ ما قيل لها من قبل الرب” (28) (لوقا 1 : 45). يمكننا أن نقارن بين هذه الكلمات وتسمية “الممتلئة نعمة” في تحية الملاك. ففي كل من هذين النصّين يبرز مضمون مريميّ أساسي أعني حقيقة مريم التي دخلت في سرّ المسيح، دخولاً فاعلاً، لأنّها “آمنت”. والامتلاء من النعمة الذي أعلنه الملاك يعني هبة الله ذاته؛ وإيمان مريم الذي أشادت به اليصابات في الزيارة يشير إلى كيفيّة تجاوب عذراء الناصرة مع هذه الهبة.
13- يقول المجمع، “إن الله الذي ينزل الوحي يقتضي “طاعة الإيمان” (روما 16 : 26؛ روما 1 : 5؛ 2 كورنتس 10: 5 – 6)، تلك التي يستسلم فيها الإنسان كليّاً لله وهو حرّ” (29). هذا المفهوم للإيمان، نجد له في مريم تجسيداً كاملاً. والبرهة “الحاسمة” في هذا المجال، كانت البشارة. وكلمات اليصابات بالذّات “طوبى للتي آمنت” مرتبطة أولاً وتحديداً بهذه البرهة (30).
وفي الواقع، فقد استسلمت مريم كليّاً لله في بشارتها وأعلنت بذلك “طاعة إيمانها بالله” الذي يخاطبها بواسطة من أرسله، إذ قدّمت له ذاتها إجلالاً، عقلاً وإرادة (31)، تقدمة كاملة. فقد تجاوبت معه بكل شخصيتها، إنسانة وامرأة، وهو تجاوب إيمانيّ يستلزم مشاركة مطلقة “مع نعمة الله التي تبتدر الإنسان وتسنده”، وتجاوباً كاملاً مع عمل الروح القدس الذي “لا يني يعمل بمواهبه لكل يكتمل الإيمان” (32).
إن كلمة الله الحيّ التي بشّر بها الملاك مريم، تتناول شخصها بالذات: “ها أنت تحبلين وتلدين ابناً” (لوقا 1 : 31). وبتجاوب مريم مع هذه البشرى أضحت “أمّ الربّ”، وتحقّق فيها سرّ التجسّد الإلهي: لأن “أب المراحم أراد أن يسبق التجسّد قبول تُبديه هذه الأم المختارة” (33). وهذا القبول أعلنته مريم بعد أن أصغت إلى كلمات المرسل كلها، فقالت: “أنا أمة الرب؛ فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1 : 38). هذا الاذعان من مريم – “فليكن لي” – كان العنصر البشري في تحقيق السرّ الإلهي. وهذا ينسجم مع ما جاء في الرسالة إلى العبرانيين من قول الابن للآب وهو يدخل العالم: “ذبيحة وقرباناً لم تشأ؛ غير أنك هيّأت لي جسداً… حينئذٍ قلت: ها أنا ذا آتي… لأعمل، يا الله، بمشيئتك” (عبرانيين 10 : 5 – 7). فسرّ التجسّد قد تمّ عندما أعلنت مريم هذا الاذعان، – ” ليكن لي بحسب قولك” – وأفسحت المجال، في ما يعود إليها في مخطّط الله، لتحقيق ما قصده ابنه.
هذا الإعلان، تلفّظت به مريم في إيمان. فقد وضعت ذاتها في تصرّف الله بشكل مطلق واستسلمت كليّاً، كما هو شأن أمة الله، لشخص ابنها ورسالته (34). وهذا الابن، قد حبلت به في فكرها، بالإيمان، كما يعلّم الآباء، قبل أن تحبل به في أحشائها (35). فاليصابات، إذن، محقّة في امتداح مريم: “طوبى للتي آمنت بأنه سيتمّ ما قيل لها من قبل الرب”. وهذه الكلمات قد سبق وتحقّقت: فمريم التي من الناصرة، تقف عند مدخل بيت اليصابات وزخريا وهي أمّ لابن الله. وهذا ما حظيت اليصابات بحظّ اكتشافه: “أمُّ ربي تأتي إليّ”.
14- انطلاقاً من هذه الوقائع، يمكننا أن نقارن أيضاً بين إيمان مريم وإيمان إبراهيم، إبراهيم الذي يدعوه الرسول “أباً لنا في الإيمان” (روما 4 : 12). ففي التبرير الخلاصيّ الذي أوحى به الله، نرى أن إيمان إبراهيم هو مطلع العهد القديم؛ فيما يستهلّ إيمان مريم في البشارة العهد الجديد. وكما أن إبراهيم آمن، “راجياً حيث لا رجاء، وأضحى أباً لأمم كثيرة” (روما: 4 : 18)، كذلك مريم في البشارة، فقد آمنت، بعد أن أشارت إلى عزمها على البتولية (“كيف يكون ذلك، وأنا لا أعرف رجلاً”)، إنها ستضحي أمّاً لابن الله بقدرة العليّ، بالروح القدس، كما أوضح الملاك: “القدّوس المولود منك يدعى ابن الله” (لوقا 1 : 35).
مع ذلك، فكلمات اليصابات “طوبى للتي آمنت” لا ينحصر بعدها بمناسبة البشارة فحسب. أجل، إن هذه البشارة هي قمّة إيمان مريم في ترقبّها المسيح، بل هي المنطلق أيضاً ومطلع “مسيرتها إلى الله” وخطواتها على درب الإيمان. وستتكامل على هذا الدرب “الطاعة” لما قاله الوحي الإلهي، ذاك الذي كان عقيدة لها، تكاملاً سامياً وبطولي الواقع، كما ستتكامل أكثر فأكثر بطولتها في الإيمان. “وطاعة الإيمان” هذه لدى مريم سيكون لها، عبر مسيرتها كلها، مقارنات مدهشة مع إيمان إبراهيم. فعلى غرار أبي شعب الله “آمنت مريم ورجت حيث لا رجاء” طوال مسيرتها على درب اذعانها، وهي ابنة الله وأُمّه. وفي بعض مراحل هذه المسيرة خصوصاً، نرى البركة التي أعطيت “تلك التي آمنت” تتجلّى في وضوح أكثر. أن نؤمن، هذا يعني أن نستسلم إلى حقيقة كلمة الله الحي وعياً من وإقراراً في تواضع “كم أنَّ أحكامه بعيدة عن التنقيب وطرقه عن الاستقصاء” (روما 11 : 33). ومريم التي يمكن أن يقال أنها وُضعت، بإرادة العليّ الأزليّة، في وسط “طرق الله هذه البعيدة عن الاستقصاء” وهذه “الأحكام البعيدة عن التنقيب” ترضخ لها في ظلمة الإيمان، وتقبل، قبولاً كليّاً، والقلب مفتوح، مضامين مخطّط الله كلها.
15- عندما يطرق أذنيّ مريم، في البشارة، ما يعود إلى الابن الذي ستكون له أمّا “وتدعوه باسم يسوع” (المخلّص)، تعطى أيضاً أن “تعرف” أن الرب الإله سيمنحه عرش داود أبيه، وأنه “سيملك على بيت يعقوب إلى الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء” (لوقا 1 : 32 – 33). ذلك كان الاتجاه الذي كانت تسلكه آمال اسرائيل. فالمسيح الموعود به لا بدّ أن يكون “عظيماً”، وعظمته تنطلق من الاسم الذي يحمل، أعني ابن العليّ، أو من وراثته داود. فلا بدّ إذن من أن يكون ملكاً، لأنه سيملك “على بيت يعقوب”. لقد نمت في أجواء انتظار شعبها هذا. ترى، هل كان في استطاعتها أن تتبيّن، عندما بشَّرها الملاك، الأبعاد الأساسيّة التي لعبارته؟ وما هو مفهوم هذا “الملك” الذي “لن يكون له انقضاء”؟
وحتى في هذه اللحظة التي شعرت فيها، بالإيمان، أنّها أمّ “المسيح الملك”، أجابت، مع ذلك، “أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1 : 38). أي أن مريم قد أعلنت منذ تلك اللحظة الأولى “طاعتها الإيمان”، واستسلمت لما يعنيه، في بشراه، ذاك الذي كان مصدرها أي الله نفسه.
16- وفي سياق مسيرة “طاعة الإيمان” هذه، سمعت مريم، بعد ذلك بقليل، كلمات أخرى، تلك التي تلفّظ بها سمعان في هيكل أورشليم. كان ذلك في اليوم الأربعين لمولد يسوع إذ “صعدت مريم ويوسف بالصبي إلى أورشليم ليقدّماه للرب” (لوقا 2 : 22) بحسب ناموس موسى. كانت الولادة قد تمّت في أقصى أوضاع الفقر، إذ نقرأ في لوقا أن مريم، عندما ذهبت إلى بيت لحم مع يوسف بمناسبة اكتتاب السكّان، وفقاً لما أمرت به سلطات روما، لم تجد “موضعاً في النزل”، فولدت ابنها في زريبة وأضجعته في مذود (لوقا 2 : 7).
رجل بار يخشى الله، اسمه سمعان، يظهر في هذه المرحلة من مسيرة مريم “على درب الإيمان”. وتأتي أقواله التي أوحاها الروح القدس (لوقا 2 : 25 – 27) تأكيداً لحقيقة البشارة، إذ نقرأ في الإنجيل أنه “حمل الصبي على ذراعيه”، وكان قد “دعي يسوع” كما طلب الملاك (لوقا 2 : 21). ويتوافق قول سمعان والمعنى الذي لهذا الاسم أي المخلّص: “الله المخلص”. ويتّجه سمعان إلى الرب ويهتف: “أن عينيّ قد شاهدتا خلاصك الذي أعددته أمام وجوه الشعوب كلها، نوراً يضيء للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل” (لوقا 2 : 30 – 32). وفي الوقت نفسه، يلتفت سمعان إلى مريم ليقول لها: “ها إن هذا الولد قد جُعَِلَ لسقوط ونهوض كثيرين في إسرائيل وهدفاً للمخالفة… لكي تكشف الأفكار من قلوب كثيرة”. وفي ما يعود إلى مريم: “وأنت أيضاً سيجوز سيف في نفسك” (لوقا 2 : 34 – 35). وتأتي أقوال سمعان لتزيد ما سمعته في بشرى الملاك نوراً”: يسوع هو المخلّص، وهو النور الذي يضيء الناس. أليس هذا ما أعلن، على نوع ما، ليلة الميلاد عندما جاء الرعاة المغارة (لوقا 2 : 8 – 20)؟ وأليس هذا ما أعتلن بوضوح أكثر عندما جاء مجوس المشرق (متى 2 : 1 – 12)؟ مع ذلك، فابن مريم سيرى في ذاته، منذ مطلع حياته، ووالدته معه، تحقيق ما قاله سمعان فيه أي صيرورته “هدفاً للمخالفة” (لوقا 2 : 34). ومقولة سمعان هذه تبدو وكأنها بشرى ثانية لمريم، لأنها تُظْهِر البعد التاريخي الواقعي الذي سيلازم رسالة ابنها: المخالفة والألم. وإذا كانت هذه البشرى تؤكّد إيمانها باتمام الوعود الإلهية في الخلاص، إلاّ أنّها، من جهة أخرى، تكشف لها أيضاً أن لا بدّ لها من طاعة الإيمان في الألم إلى جانب المخلّص المتألّم، وإن أمومتها له سيلفّها الخفاء والألم. وفي الواقع، ففي أعتاب زيارة المجوس وإكرامهم (“خرّوا وسجدوا له”) وتقدمة هداياهم (متى 2 : 11)، أرغمت مريم على الهرب بابنها إلى مصر، بحماية يوسف الساهرة، “لأن هيرودس موشك أن يطلب الصبي ليهلكه” (متى 2 : 13). وكان لا بدّ لهما من البقاء في مصر حتى وفاة هيرودس (متى 2 : 15).
17- بعد وفاة هيرودس، ورجوع الأسرة المقدسة إلى الناصرة، تبدأ مرحلة طويلة هي مرحلة الحياة الخفيّة. إن “التي آمنت بأنه سيتمّ ما قيل لها من قبل الرب” (لوقا 1 : 45)، تعيش في ذاتها كل يوم أبعاد هذه الكلمات. الابن الذي دعته يسوع يلازمها طوال النهار، وهي، بالتالي، تستعمل إلى جانبه هذا الاسم الذي لم يكن ليثير أية دهشة لاستعماله في إسرائيل من زمن بعيد. إلا أن مريم كانت على علم أن من يحمل اسم يسوع قد دعاه الملاك “ابن العلي” (لوقا 1 : 32)، وأنها حبلت به وولدته وهي “لا تعرف رجلاً” بفعل الروح القدس وقدرة العليّ التي ظلّلتها (لوقا 1 : 35)، كما كانت تظلّل الغمامة حضور الله في عهد موسى والآباء (خروج 24 : 16؛ 40: 34 – 35؛ 1 ملوك 8 : 10 – 12). فمريم تعرف، إذن، أنّ الابن الذي ولدته، وهي عذراء، هو هذا “القدّوس” “وابن الله” بالذات الذي حدّثها عنه الملاك.
على مرّ السنين، طوال حياة يسوع الخفيّة في بيت الناصرة، ظلّت مريم، هي أيضاً، “مستترة مع المسيح في الله” (كولوسي 3 : 3)، في الإيمان. وفي الواقع، أن الإيمان هو اتصال بسرّ الله. ومريم على اتصال دائم ويومي بالسرّ اللاموصوف، سر الله المتجسّد، وهو سرّ يتجاوز كل ما أوحى به في العهد القديم. منذ أن هبطت البشرى على العذراء – الأم، دخل فكرها هذا الجديد الجذري الذي جاء في ما كشف به الله عن ذاته، ووعت السرّ. فكانت الحلقة الأولى من هذه السلسلة من “الأصاغر” الذين قال عنهم يسوع يوماً: “أيها الآب، لقد أخفيت ذلك عن الحكماء وأصحاب الدهاء و كشفته للأطفال” (متى 11: 25). “فليس أحد يعرف الابن إلاّ الآب” (متى 11 : 27). فكيف، إذن، “تعرف مريم الابن؟ أجل، إنّها لا تعرفه كما يعرفه الآب؛ ومع ذلك، فهي الأولى بين من أراد الرب أن “يكشف لهم” (متى 11 : 26 – 27) (ا كورنتس 2 : 11). وإذا كان الابن، ذاك الذي لا يعرف حقيقته كاملة غير الآب، قد اعتلن لمريم أمّه بوصفه ذاك الذي يلده الآب في “اليوم” الأزلي (مزمور 2 : 7)، وذلك منذ أن بُشّرت به، فهي لا تتّصل به إلا في الإيمان وبالإيمان. وهي، بالتالي، طوباويّة لأنها “آمنت”، ولأن إيمانها يتجدّد كل يوم عبر المحن والصعوبات التي تكتنف مرحلة طفولة يسوع وطوال الحياة الخفية في الناصرة حيث كان “خاضعاً لهما” (لوقا 2 : 51). كان خاضعاً لمريم وكذلك ليوسف، لأن هذا الأخير كان، في نظر الناس، بمثابة أب له. وهذا ما حملهم على أن يدعوا ابن مريم “ابن النجّار” (متى 13 : 55).
وإذ ظلّت والدة هذا الابن تحفظ في قلبها ما قيل لها في البشارة به وفي الأحداث التي تلت هذه البشارة، فهي تحمل بذلك “جديد” الإيمان، الحديد الأساسي، ومطلع العهد الجديد أعني مطلع الإنجيل والبشرى السعيدة، البشرى التي تبعث الفرح. مع ذلك فليس من الصعب أن نلحظ في هذا المطلع شيئاً من الألم الكامن في القلب، يقارب ما يدعوه القديس يوحنا الصليبي “ليل الإيمان”، أي هذا “الحجاب” الذي نتطلع من خلاله إلى ما لا يرى ونعيش في صميم السرّ (36). أجل، “تلك كانت صورة الأوضاع التي عاشت فيها مريم، طوال سنين كثيرة، وهي في صميم سرّ ابنها، تسير على درب الإيمان، بقدر ما كان يسوع “ينمو في الحكمة… والنعمة أمام الله وأمام الناس” (يوحنا 2 : 52). وكانت محبة الله الخاصّة له تتجلّى أكثر فأكثر في نظر الناس. وكانت مريم أولى الخلائق في اكتشاف المسيح، هي التي كانت تعيش، ويوسف، معه تحت السقف الواحد في الناصرة.
مع ذلك، فبعد أن وُجد يسوع في الهيكل، وكان قد بلغ الثانية عشرة، كان جوابه عن سؤال أمّه: “يا ابني، لمَ صنعت بنا هكذا؟”، “ألم تعلما أنّي ملتزم بشؤون أبي؟” ويزيد الإنجيلي: “أمّا هما فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما”. فيسوع، إذن، كان يعي أن الآب وحده يعرف الابن” (متى 11 : 27)، إلى حدّ أن تلك التي أعطيت أن يكشف لها، بشكل أكثر عمقاً، سرّ بنوّته الإلهية، أعني والدته، هي نفسها لم تكن تحيا في صميم هذا السر إلاّ بالإيمان! وإذا كانت تعيش إلى جانب ابنها، يجمعهما السقف الواحد، “وتحفظ في أمانة اتحادها بابنها”، “كانت تتقدّم في مسيرة الإيمان”، كما يشير المجمع (37). وظلّ الأمر كذلك حتى في سياق حياة المسيح العلنيّة. حتى أن الطوبى “للتي آمنت”، التي جاءت على لسان اليصابات في الزيارة، كانت تتكامل فيها يوماً بعد يوم.
18- هذه الطوبى تبلغ ملء معناها عندما وقفت مريم عند قدمي صليب ابنها (يوحنا 19 : 25) ويعلن المجمع أن ذلك لم يحدث “بدون قصد إلهي”: “لقد ظلّت مريم أمينة للاتحاد بابنها حتى الصليب (38)، ومزّقها الألم في ضراوة إذ كان قلبها، وهو قلب أم، مشاركاً ابنها الوحيد في تقدمة ذاته محرقة. وقد رضخت، في حب، لتقدمة هذه الذبيحة التي ولدت من أحشائها”. واتحادها بابنها هذا أملاه الإيمان نفسه الذي أملى عليها طاعتها حيال ما كشفه لها الملاك في البشارة. لقد سمعت أنذاك أيضاً “أنه سيكون عظيماً… وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء” (لوقا 1 : 32 – 33). والآن ها هي واقفة عند قدمي الصليب. إن ما تشهده ينسخ كلياً هذه الكلمات. فابنها ينازع على هذه الخشبة كمجرم “مزدرى ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومتمرس بالعاهات… مزدرىً فلم نعبأ به… سُحِقَ لأجل آثامنا” (أشعيا 53 : 3 – 5). ما أعظم طاعة الإيمان، إذ ذاك، وكم تتجلّى فيها بطولة إيمان مريم حيال “أحكام الله البعيدة عن التنقيب”. إن “استسلام مريم لله” استسلام العقل والإرادة، استسلام لا محدود (39) لذاك الذي “ما أبعد طرقه عن الاستقصاء” (روما 11 : 33)! وما أقوى عمل النعمة في نفسها! وما أعمق أثر الروح القدس نوراً وسنداً!
إن إيماناً كهذا يُوحِّد مريم، اتّحاداً كاملاً، بالمسيح في مرحلة تلاشي الذات هذه. المسيح… “القائم في صورة الله، الذي لم يعتدّ مساواته الله حالة مختلسة، بل لاشى ذاته آخذاً صورة عبد صائراً شبيهاً بالبشر”. وعلى الجلجلة، وضع نفسه أكثر “وضع نفسه وصار طائعاً حتى الموت، بل موت الصليب” (فيلبي 2 : 5 – 8). وعند قدمي الصليب، شاركت مريم بالإيمان في سرّ هذا التلاشي المدهش. نجدنا، هنا، حيال “التلاشي” الإيماني الأكثر عمقاً في تاريخ البشر. فبالإيمان، تشارك الأم في موت ابنها، وموته الفدائي. ما أبعد هذا الإيمان النيّر عن إيمان الرسل الهاربين! وقد أكّد يسوع، بصليبه على الجلجلة، وبشكل نهائي، أنه “هدف للمخالفة”، كما سبق وتنبأ سمعان. وفي الوقت نفسه، كانت تتحقّق، على الجلجلة، كلمات سمعان هذا لمريم “وأنت سيجوز سيف في نفسك” (40).
19- أجل، “طوبى للتى آمنت”! هنا، عند قدمي الصليب، تتردّد هذه العبارة التي أطلقتها اليصابات بعد البشارة، وقد بلغت ذروة معناها، والطاقة التي تحمل في ذاتها تتسرّب إلى أعماقنا. ومنذ أن نُصِبَ الصليب، لا يزال يمتدّ أشعاع طوبى الإيمان هذه، وتتّسع أبعادها، وكأني بالامتداد والاتّساع هذين يتفجّران من قلب سرّ التجسد. بل تعود هذه الطوبى إلى البدء “لتلّفه وتضحي، بالمشاركة في ذبيحة المسيح، آدم الجديد، الرد على التمرّد واللا إيمان اللذين تحملهما، في كيانها، خطيئة أبوينا الأولين، ذلك تعليم آباء الكنيسة، لا سيّما منهم القديس أيريناوس. وقد ورد نصّه في وثيقة المجمع المعنونة “نور الأمم”، حيث يقول: “إن عقدة تمرّد حواء قد انحلّت بطاعة مريم، لأن ما عقدته العذراء حواء بلا إيمانها، قد حلّته العذراء مريم بإيمانها” (41). في ضوء هذه المقارنة، بين حوّاء ومريم، يعطي الآباء مريم لقب “أمّ الاحياء”، وغالباً ما يردّدون “الموت بحوّاء والحياة بمريم” (42).
فنحن، إذن، على حق إذ نجد في عبارة “طوبى للتي آمنت” ما يمكن أن نسميّه المدخل إلى صميم حقيقة مريم، تلك التي حيّاها الملاك “بالممتلئة نعمة”. وإذا كانت منذ الأزل، حاضرة في سرّ المسيح لأنها “ممتلئة نعمة”، فقد اشتركت بالإيمان في هذا السرّ في سياق مسيرتها على الأرض: “تقدمت في مسيرتها الإيمانيّة”، وفي الوقت نفسه، وبشكل بعيد عن الأضواء، إلا أنّه مباشر وفعّال، جعلت سرّ المسيح حاضراً لدى البشر. ولا تزال على هذه الأرض، وعبر سرّ المسيح، هي أيضاً حاضرة لدى البشر. وبذلك يستضيء سرّ الأم من سرّ الابن.
ثالثاً- هذه أمك
20- يحفظ الإنجيلي لوقا ذكرى هذه المناسبة حيث “رفعت امرأة في الجمع صوتها وقالت (باتجاه يسوع): “طوبى للبطن الذي حملك، والثديين اللذين رضعتهما” (لوقا 11 : 27). في هذه الكلمات، مديح لمريم بوصفها أم يسوع بحسب الجسد. ربما لم يُتَحْ لهذه المرأة أن تعرف أمّ يسوع في شخصها. ذلك أن مريم لم تكن ترافق يسوع عندما بدأ رسالته كمسيح الربّ، بل ظلّت تعيش في الناصرة. ويمكن القول أن ما جاء على لسان هذه المرأة، قد أخرج، على نوع ما، مريم من عزلتها المغمورة.
هذه الكلمات تلقي نوراً في وسط الجمع، أقلّه لفترة عابرة، على إنجيل الطفولة. هذا الإنجيل حيث نرى حضور مريم، كأمّ، تحبل بيسوع في أحشائها، وتلده، وترضعه شأن الأمهات: فهي الأم والمرضع التي تشير إليها هذه المرأة في وسط الجمع. وبسبب هذه الأمومة بالذات، تبرز حقيقة بنوّة يسوع للإنسان، وهو ابن العليّ (لوق 1 : 32). فهو “جسد”، شأن كل إنسان؛ إن “الكلمة الذي صار جسداً” (يوحنا 1 : 14)؛ إنه جسد مريم ودمها (43). وجاءت ردّة يسوع على الطوبى التي أطلقتها هذه المرأة، باتجاه أمّه بحسب الجسد، كثيفة المعنى: “بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها” (لوقا 11 : 28). فقد سعى إلى أن يحوّل الانتباه عن الأمومة، بوصفها رابطة جسديّة، ليوجّهها صوب هذه الروابط في الروح التي تنشأ عن الاصغاء إلى كلمة الله والأمانة لها.
هذا التحوّل صوب القيم الروحية نتبينّه أيضاً بوضوح أكثر في جواب آخر ليسوع ورد في الأناجيل بحسب متى ومرقس ولوقا. فعندما أخبر يسوع أن “أمّه وأخوته قائمون في الخارج، يريدون أن يروه”، أجاب: “أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها” (لوقا 8 : 20 – 21). قال ذلك “وهو يجيل نظره في المتحلّقين حوله”، كما نقرأ في مرقس (3 : 34) أو “ومدّ يده نحو تلاميذه”، كما جاء في متى (12 : 49). وتأتي هذه النصوص في خط الجواب الذي أعطاه يسوع، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، مريم ويوسف عندما وجداه، بعد ثلاثة أيام، في هيكل أورشليم.
الآن، وقد غادر يسوع الناصرة ليبدأ حياته العلنية في فلسطين كلها، أضحى بكليته، ومنذ تلك اللحظة، “ملتزماً بشؤون أبيه” (لوقا 2 : 49). كان يبشّر بالملكوت، “ملكوت الله” “وشؤون الآب”، وهي مضامين بشرى تولي كل ما هو إنساني، وبالتالي كل رابطة بشريّة، بالنسبة إلى الأهداف والواجبات المفروضة على كل إنسان، معنىً وبعداً جديدين. وفي ضوء البعد الجديد، تتّخذ كل علاقة، حتى “الأخوّة”، معنى غير الذي “للأخوّة” بحسب الجسد، تلك التي تنشأ من البنوّة المشتركة لذات الوالدين. وحتى “الأمومة” في نطاق ملكوت الله، ومن زاوية أبوّة الله بالذات، تتّخذ معنى آخر، هذا المعنى بالذات الذي يعلّمناه يسوع في العبارات التي ينقلها لوقا.
أتراه يبتعد بذلك عن تلك التي ولدته بحسب الجسد، ويتركها في ظلال العزلة التي اختارتها لذاتها؟ إذا حصرنا النظرة في المعنى الأوّل لهذه العبارات يمكن أن يبرز هذا الموقف. إلاّ أنه لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الأمومة الجديدة، والمختلفة عن الأولى، التي يعنيها يسوع في حديثه إلى تلاميذه، إنما تتحقّق خصوصاً في مريم بالذات. أليست مريم في طليعة “الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها”؟ وإذ ذاك، أفلا تكون أوّل من تعنيها هذه الطوبى التي نزلت من شفتي يسوع ردّاً على ما قالته هذه المرأة المجهولة؟ أجل، إن مريم تستحقّ هذه الطوبى من واقع صيرورتها أمّ يسوع بحسب الجسد (“طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما”)، ولأنها أيضاً، وخصوصاً، منذ اللحظة الأولى التي تلقّت فيها البشرى، قبلت كلمة الله، لأنها آمنت، لأنّها أطاعت الله؛ ولأنها تحفظ هذه الكلمة “وتتأمل فيها في قلبها” (لوقا 1 : 38 و 45؛ 2 : 19 و 15)، وكانت أمينة لها حياتها كلها. فيمكننا، إذن، أن نؤكّد أن الطوبى التي أطلقها يسوع لا تتنافى، بالرغم مما يبدو في الظاهر، وتلك التي أطلقتها المرأة المجهولة، بل تتلاقى وإياها في شخص الأمّ العذراء، وهي التي لا تسمّى ذاتها إلاّ “أمة الرب” (لوقا 1 : 38). وإذا كانت “الأجيال كلها سوف تغبّطها” (لوقا 1 : 48)، أفلا تكون هذه المرأة المجهولة، الأولى في تأكيد هذه الآية النبوية التي جاءت في نشيد مريم التعظيمي، وقد استهلّت بذلك، دون أن تدري، ما سوف تجيء به الأجيال من تطويبات؟.
إذا كانت مريم قد أضحت بالإيمان إمّا للابن الذي أعطاه الآب لها بقدرة الروح القدس، وقد حفظت بتوليّتها كاملة، فقد اكتشفت، بالإيمان نفسه، وقبلت البعد الآخر لأمومتها، ذاك الذي أوحى به يسوع في سياق رسالته المسيحانية. ويمكن القول أن هذا البعد الذي لأمومتها كان لدى مريم منذ البدء، أعني منذ اللحظة التي حبلت فيها بابنها وولدته، لأنها منذئذٍ كانت “تلك التي آمنت”. إلا أنه بقدر ما تتّضح في رؤياها وفي فكرها رسالة ابنها. فهي نفسها، بوصفها الأمّ، كانت تتفتّح أكثر فأكثر لهذا الوجه الجديد للأمومة، ذاك الذي كان يقوم عليه “دورها” إلى جانب ابنها. ألم تقل منذ البدء “أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1 : 38). بالإيمان، واصلت مريم سماع هذه الكلمة التي أوحى بها الله الحي عن ذاته والتأمل فيها. وكانت الكلمة تزداد أكثر فأكثر شفافية بشكل “يفوق كل إدراك” (أفسس 3 : 19). وبوصفها أمّاً أضحت مريم بذلك، وبوجه من الوجوه، “التلميذة” الأولى لابنها، الإنسانة الأولى التي كأنّي به يقول لها: “اتبعني”، قبل أن يوجّه هذه الدعوة إلى الرسل أو إلى أي إنسان آخر (يوحنا 1 : 43).
من هذه الزاوية، نجد أن نصّ إنجيل يوحنا الذي يعود إلى مريم في عرس قانا له مدلوله الخاصّ. ففي هذا النصّ تظهر مريم إمّا ليسوع في مطلع حياته العلنيّة: “كان عرس في قانا الجليل، وكانت أمّ يسوع هناك، ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس” (يوحنا 2 : 1 – 2). يمكن أن نستخلص من هذا النصّ أن يسوع وتلاميذه قد تلقوا الدعوة مع مريم، وعلى نوع ما بسبب وجود هذه الأخيرة في الحفلة، أي يبدو أن الابن قد دعي لأن الأم قد دعيت. وقد عرفنا ما تبع هذه الدعوة من أحداث كانت “أولى عجائب” يسوع، أعني تحويل الماء خمراً، مما حمل الإنجيلي على أن يكتب: “أظهر يسوع مجده فآمن به تلاميذه” (يوحنا 2 : 11).
مريم حاضرة في قانا الجليل بوصفها أم يسوع. وإن لإسهامها في “أولى العجائب” التي تُبْرِزُ يسوع الماسيّا مدلولاً. “إذ نفدت الخمر، قالت أمّ يسوع له: ليس عندهم خمر. فقال لها يسوع: “ما لي ولك، يا امرأة، إن ساعتي لم تأتِ بعد” (يوحنا 2 : 3 – 4).
في إنجيل يوحنا، هذه “الساعة” تعني الزمن الذي حدّده الآب ليتمّم الابن عمله ويتمجّد (يوحنا 7 : 30؛ 8 : 20؛ 12: 23 – 27؛ 13: 1؛ 19 : 27). حتى لو بدا أن جوابه هو رفض (لا سيما إذا نظرنا ليس إلى السؤال فحسب، بل خصوصاً إلى التأكيد الجازم: “إن ساعتي لم تأتِ بعد”). فذلك لم يمنع مريم من الاتّجاه صوب الخدم لتقول لهم: “مهما قال لكم، فافعلوه” (يوحنا 2 : 5). وإذ ذاك، يأمر يسوع الخدام أن يملأوا الأجاجين ماء، والماء يتحوَّل إلى خمرة أكثر جودة من تلك التي قُدّمت أولاً لضيوف مأدبة العرس.
أي انسجام عميق بين يسوع وأمه! كيف يمكن أن ننفذ إلى سرّ اتحادهما الروحي في الصميم؟ إلاّ أن الواقع له دلالته الواضحة. وإنّه لمن المؤكّد أن هذا الحدث يبرز البعد الجديد أو المعنى الجديد الذي لأمومة مريم. إن لهذه الأمومة معنى يتخطى كلمات يسوع ومختلف الأحداث التي يسرد الإنجيليون الثلاثة الأوّلون أخبارها (لوقا 11 : 27 – 28؛ لوقا 8 : 19 – 21؛ متى 12 : 46 – 50؛ مرقس 3 : 31 – 35). ففي هذه النصوص، يسعى يسوع إلى التركيز على التناقض القائم بين الأمومة الناشئة من واقع الإيلاد فقط “والأمومة” (“كالأخوة”) في نطاق ملكوت الله، في إشراقة الخلاص الذي لأبوّة الله. فيما النص الوارد في يوحنا، حيث خبر ما جرى في قانا، نتبين فيه ما يبرزه الواقع، وهو هذه الأمومة الجديدة بحسب الروح وليس بحسب الجسد، أعني حدب مريم على البشر في مبادرتها حيال مختلف ما لهم من حاجات وضرورات. في قانا الجليل، نرى وجهاً واحداً من واقع الفقر في البشر، ويبدو أنه غير ذي قيمة وقليل الأهمية (“ليس عندهم خمر”)، إنما قيمته في ما يعبّر عنه. فأن نهرع إلى الإنسان في حاجاته، يعني، في الوقت نفسه، أن نسلّط على هذه الحاجات النور المنبعث من الرسالة المسيحانية ومن القدرة الخلاصيّة التي للمسيح. فنحن، إذن، حيال وساطة. أن مريم تقف بين ابنها والبشر في واقع ما يعانون من حرمان وفقر وألم. إنها تتّخذ لذاتها مكاناً “في الوسط” أعني إنها تقوم بدور الوسيط، ليس من الخارج، بل من موقع أمومتها، وهي تعي، من جراء هذه الأمومة، قدرتها على أن تعرض لهذا الابن حاجات البشر، أو بالأحرى “حقها” في ذلك. فوساطتها، إذن لها طابع الضراعة: “مريم تضرع” لأجل البشر؛ بل أكثر من ذلك. فهي، بوصفها أمّاً، تتشوّق إلى أن تتجلّى قدرة ابنها المسيحانية، أعني قدرته الخلاصيّة الهادفة إلى إغاثة البشر في شقائهم وإلى تحرير الإنسان من الشرّ الجاثم فوق حياته في أشكال شتَّى ومعايير مختلفة. وهذا بالذات ما سبق وتنبّأ عنه أشعيا النبي في شأن المسيح في النّص الشهير الذي طبّقه يسوع على ذاته أمام مواطنيه في الناصرة: “مسحني الرب لأبشّر المساكين… وأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر…” (لوقا 4 : 18). وهناك عنصر جوهري في دور أمومة مريم، نراه في ما أمرت به الخدّام: “مهما قال لكم، فافعلوه”. إن أمّ المسيح تظهر أمام البشر وكأنها الناطق باسم الابن، تعبّر عن إرادته وترشد إلى ما يقتضيه تجلّي قدرة المسيح الخلاصيّة. ففي قانا، يستهلّ يسوع “ساعته” بفضل ضراعة مريم وطاعة الخدّام. وفي قانا، تظهر مريم إنسانة تؤمن بيسوع، وإيمانها هذا يخرج إلى النور أولى العجائب ويسهم في بعث إيمان التلاميذ.
22- فيمكننا، إذن، أن نقول أن هذه الصفحة من إنجيل يوحنا تضعنا أمام أول ظهور لحقيقة الحنان، حنان الأم، في مريم. وهذه الحقيقة عبّر عنها، في زمن غير بعيد، تعليم المجمع الأخير. وإنه لمن الأهمية أن نشير إلى أن دور أمومة مريم هذا تفسّره علاقته بوساطة المسيح، إذ نقرأ “إن دور مريم تجاه البشر، وهو دور أمّ، لا ينال ولا ينتقص في شيء، من وساطة المسيح الفريدة، بل أنه، بعكس ذلك، يظهر قوتها لأن الوسيط بين الله والناس واحد، الإنسان، المسيح يسوع” (1 تيموتاوس 2 : 5). ووساطة مريم، وهي وساطة أمّ، تنبع، وفقاً لما أراده الله، “من فيض استحقاقات المسيح؛ فهي تستند إلى وساطته هو، وترتبط بها ارتباطاً كليّاً، وتستمدّ منها كل ما لها من طاقة” (44). وبهذا المعنى بالذات نرى، في ما حدث في قانا الجليل، الاعتلان الأول لوساطة مريم، وهي وساطة تتّجه كليّاً صوب المسيح وتهدف إلى إبراز قدرته الخلاصية.
وإنه ليستخلص من النصّ الوارد في يوحنا أنّا حيال وساطة أمّ. والمجمع يؤكّد أن مريم قد أضحت لنا، على صعيد النعمة، أمّاً. وهذه الأمومة، على صعيد النعمة، تنطلق من أمومتها الإلهية بالذات، لأنها “لما كانت بحسب مخطّط الله أمّ الفادي، الأمّ التي غذّته، فقد أُشركت، على مدى وسيع، في رسالته بصفة فريدة كليّاً، وهي أمة الرب الوضيعة” التي “أسهمت في رسالة المخلص اسهاماً لا مثيل له بطاعتها وإيمانها ورجائها ومحبتها الحارة، بهدف أن تعود إلى النفوس الحياة الفائقة الطبيعة” (45). وأمومة مريم هذه، في تدبير النعمة، تتواصل بدون انقطاع حتى يكتمل نهائياً عقد المختارين (46).
23- إذا كانت الفقرة الواردة في إنجيل يوحنا، حيث خبر ما جرى في قانا، تظهر لنا أمومة مريم، أمومة تبادر إلى تلبية الحاجة، في مطلع رسالة يسوع المسيحانية، فهناك فقرة أخرى من إنجيل يوحنا تؤكد موقف هذه الأمومة في تدبير النعمة الخلاصي، وقد بلغ قمّته، أعني الآونة التي اكتملت فيها ذبيحة صليب المسيح وسرّه الفصحي. يلتزم يوحنا الاختصار في سرد الخبر: “وكانت أمّ يسوع وأخت مريم التي لكليوبا ومريم المجدلية واقفات عند صليبه. فلمّا رأى يسوع أمه وبقربها التلميذ الذي كان يحبّه، قال لأمه: “يا امرأة، هوذا ابنك”. ثم قال للتلميذ: “هي ذي أمّك”. ومنذئذٍ، أخذها التلميذ إلى بيته الخاص” (يوحنا 19 : 25 – 27).
لا شك في أنّا نلمس في هذا النصّ وجهاً من وجوه الحدب الفريد الذي للابن حيال أمّ يغادرها وهي تعاني الألم الأعظم. مع ذلك، “فوصية الصليب” تتجاوز هذا الإطار. لقد شاء يسوع أن يبرز علاقة جديدة بين الأم وابنها. وهذه العلاقة أكّد حقيقتها وواقعها بشكل علني ورسمي. ويمكن القول، أن أمومة مريم حيال البشر، إذا كان قد سبق الأنباء عنها، فقد تبلورت الآن معالمها بوضوح وتحقّقت، نتيجة لاكتمال سرّ الفادي الفصحي. إن أمّ المسيح، بوجودها بشكل مباشر في اشراقة هذا السرّ الذي يلفّ البشر أجمعين، وكلاً منهم، تعطى اليوم لهؤلاء البشر جميعاً، ولكلّ منهم، أمّاً. إن الإنسان الحاضر عند قدمي الصليب هو يوحنا “التلميذ الذي كان يحبه” (47). ومع ذلك، فهو ليس وحده المعني. فالمجمع لا يرتاب في تسمية مريم “أمّ المسيح وأمّ البشر”، أميناً بذلك لمعطيات التراث: وفي الواقع، فكون مريم من نسل آدم يضمّها إلى المجموعة البشرية… بل هي حقاً “أمّ أعضاء (المسيح)… بإسهامها بالمحبة في ولادة المؤمنين في الكنيسة” (48).
هذه الأمومة الجديدة في مريم، النابعة من الإيمان، هي ثمرة الحب “الجديد” الذي تعمّق فيها نهائياً عند قدمي الصليب، بمشاركتها ابنها في حبه الفدائي.
24- ونجدنا، هكذا، في صُلْب اكتمال الوعد الوارد في مطلع الكتاب: “إن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية” (تكوين 3 : 15). وفي الواقع، فالمسيح، بموته الفدائي، يسحق في جذوره شرّ الخطيئة والموت. وإن لتسمية أمه، وهو يتّجه إليها من أعلى صليبه، “امرأة” ويقول لها: “يا امرأة، هو ذا ابنك”، إن لهذه التسمية مدلولاً. وكان قد سبق ودعاها بهذا الاسم في قانا (يوحنا 2 : 4). وكيف يسعنا أ، نرتاب في أن هذه التسمية، وهنا بالذات، على الجلجلة، تتناول سرّ مريم في أعماقه، بأبرازها الموقع الفريد الذي لها في مجمل التدبير الخلاصي. والمجمع يرينا كيف أن الأزمنة تكتمل وينطلق التدبير الجديد بمريم، “ابنة صهيون المثلى، بعد انتظار طويل لتحقيق الوعد، عندما اتّخذ ابن الله منها الطبيعة البشرية لتحرير الإنسان من الخطيئة بأسرار جسده” (49).
إن الكلمات التي يتلّفظ بها يسوع وتتساقط من أعلى الصليب، تشير إلى أن أمومة والدته تجد لها امتداداً في الكنيسة وبالكنيسة، ممثّلة بيوحنا. وهكذا، “فالممتلئة نعمة” التي أُدخلت سرّ المسيح لتكون أماً له، أعني والدة الإله الفائقة القداسة، تظلّ في هذا السر بالكنيسة بوصفها “المرأة” التي يعنيها سفر التكوين (3 : 15) في البدء وسفر الرؤيا (12 : 1) في خاتمة تاريخ الخلاص. وقد خطّطت العناية الإلهية منذ الأزل أن تشمل أمومة مريم الإلهية الكنيسة. ذلك ما تجزم به معطيات التراث الراسخة التي ترى في أمومة مريم للكنيسة انعكاساً وامتداداً لأمومتها لابن الله (50).
وفي نظر المجمع، إن زمن ولادة الكنيسة وكمال اعتلانها للعالم نستشفّ منه، هو بالذات، هذا الامتداد لأمومة مريم: “كما أنه حسن لدى الله ألا يعتلن سرّ خلاص البشر بوضوح إلا ساعة يُرسل الروح الذي وعد به المسيح، كذلك نرى الرسل، قبل يوم العنصرة، مواظبين على الصلاة بنفس واحدة مع بعض النساء ومريم أم يسوع ومع أخوته” (أعمال الرسل 1 : 14). ونرى مريم تستدعي، هي أيضاً، بصلواتها، عطيّة الروح، ذاك الذي سبق، في البشارة، وظلّلها هي نفسها (51).
فهناك، إذن، في تبرير النعمة الذي تحقّق بفعل الروح القدس تزامن فريد بين تجسد الكلمة وولادة الكنيسة. والشخص الذي يجمع بين هذين الحدثين هو مريم: مريم في الناصرة ومريم في عليّة أورشليم. وفي الحدثين تظهر مريم، بحضورها الأساسي، وإن كان بعيداً عن الأضواء، السبيل إلى الولادة بالروح. وهكذا، فصاحبة الحضور في سرّ المسيح بوصفها أمّاً له، تضحي حاضرة، بإرادة الابن وبالروح القدس، في سرّ الكنيسة. ولا تزال تواصل في الكنيسة حضورها، حضور الأم وفقاً لمدلول الكلمات التي هبطت من على الصليب “يا امرأة، هو ذا ابنك”. “هي ذي أمك”.
القسم الثاني
والدة الإله في قلب الكنيسة عبر مسيرتها
أولاً- الكنيسة، شعب الله الحاضر لدى أمم الأرض كلّها
25- “الكنيسة تتقدّم في مسيرتها، عبر اضطهادات العالم وتعزيات الله” (52)، وهي تنادي بصليب الرب وموته حتى يوم مجيئه (53) (1 كورنتس 11 : 26). وكما أن إسرائيل بحسب الجسد دعي جماعة الله في مسيرته عبر الصحراء (2 عزريا 13: 1؛ العدد 20: 4؛ تثنية الاشتراع 23: 0001)، كذلك إسرائيل الجديد… يدعى، هو أيضاً، جماعة أو كنيسة المسيح: ذلك أن المسيح هو الذي اشتراه بدمه (أعمال الرسل 20 : 28) وملأه من روحه ووضع بين يديه ما يكفيه من وسائل لتحقيق وحدته الظاهرة والاجتماعية. إن من يدفعهم الإيمان إلى التطلع إلى المسيح، ينبوع خلاص ومبدأ وحدة وسلام، هؤلاء جميعاً، دعاهم الرب، وجمعهم في بناء هو الكنيسة، لتكون في نظر الإنسان، فرداً ومجتمعاً، العلامة الظاهرة لهذه الوحدة الخلاصية” (54).
إن المجمع الفاتيكاني الثاني يتكلّم عن الكنيسة في مسيرتها قياساً مع إسرائيل العهد القديم في مسيرته عبر الصحراء. إن لهذه المسيرة وجهها الخارجي، الظاهر في الزمن والمكان، حيث تتمّ عبر التاريخ. “فالكنيسة، مدعوة إلى أن تمتدّ إلى جميع أطراف العالم وتتّخذ مكانها في التاريخ الإنساني، وإن كانت، في الوقت نفسه، تتجاوز حدود الأمم في الزمن والمكان” (55). مع ذلك، فميزة هذه المسيرة الأساسيّة داخليتها. إنها مسيرة في الإيمان “بقدرة الرب الناهض من الموت” (56)، مسيرة في الروح القدس الذي أُعطيَ الكنيسة معزياً لا يرى (يوحنا 14 : 26 15: 26؛ 16 : 7). “وإذ تسير الكنيسة، عبر التجارب والشدائد، تسندها طاقة نعمة الله التي وعدها بها الرب… لتتجدّد دوماً بفعل الروح القدس، حتى تبلغ، بالصليب، النور الذي لا يغرب” (57). وفي هذه المسيرة بالذات، مسيرة الكنيسة عبر الزمن والمكان، بل عبر تاريخ النفوس، وهو أكثر أهميّة من الزمن والمكان.
مريم حاضرة، مريم “الطوباويّة لأنها آمنت”. وهي التي كانت تتقدّم في مسيرة الإيمان، مشاركة أكثر من أي خليقة أخرى في سرّ المسيح. ويردف المجمع: “إن مريم بحضورها في صميم تاريخ الخلاص، تجمع وتعكس في ذاتها (58)، على نوع ما، أسمى ما يستلزمه الإيمان. فهي في وسط المؤمنين بمثابة “مرآة” حيث تنعكس “عظائم الله” (أعمال الرسل 2 : 11)، انعكاساً لا أسمى ولا أصفى.
26- إن الكنيسة التي أرساها المسيح على أساس الرسل، وعت، كل الوعي، عظائم الله هذه يوم العنصرة، عندما “امتلأ من الروح القدس جميع الملتئمين في العلية وطفقوا يتكلمون بلغات أخرى كما آتاهم الروح أن ينطقوا” (أعمال الرسل 2 : 4) ومنذ تلك اللحظة، بدأت مسيرة الإيمان، مسيرة الكنيسة عبر تاريخ الإنسان والشعوب. ونحن نعلم أن مريم كانت حاضرة في مطلع هذه المسيرة حيث نراها في وسط الرسل، في العليّة، تستنزل بصلواتها عطيّة الروح (59).
إن مسيرتها الإيمانية كانت أكثر مدى. لقد سبق الروح القدس وحلّ فيها، وأضحت عروسته الأمينة، يوم البشارة، وقد اقتبلت كلمة الله الحقّ، وقدّمت لله الذي أوحى، عقلها وإرادتها، في رضوخ حرّ لهذا الوحي، بل استسلمت لله بكيانها كله “بطاعة الإيمان” (60). ولقد عبّرت عن هذا الاستسلام بقولها للملاك “ها أنا أمة الرب. فليكن لي بحسب قولك”. إن مسيرة مريم على دروب الإيمان، مريم التي نراها في العلية تصلّي، هي، بالتالي، أطول مدى من مسيرة أولئك الملتئمين هناك: لقد “سبقتهم” (61) مريم “واتّخذت محل الصدارة”. إن لحظة العنصرة في أورشليم، قد أعدّ لها بالصليب، وبالبشارة في الناصرة أيضاً. فمريم، إذن، تلتقي مسيرتها في العليّة بمسيرة الكنيسة في الإيمان. يبقى أن نتبيّن كيف؟
بين الذين كانوا مواظبين على الصلاة في العلّية استعداداً للذهاب إلى “العالم أجمع” بعد أن يحلّ عليهم الروح القدس، من دعاهم يسوع، الواحد تلو الآخر، منذ مطلع رسالته في إسرائيل. وقد اختار أحد عشر منهم، هم فئة الرسل، وسلّم إليهم الرسالة التي سلّمها إليه الآب، وقال لهم بعد قيامته: “كما أرسلني الآب، كذلك أنا أرسلكم” (يوحنا 20 : 21). وبعد ذلك بأربعين يوماً، وقبيل رجوعه إلى الآب، زاد: “ستنالون قوة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً… إلى أقاصي الأرض” (أعمال الرسل 1: 8). وقد بدأت رسالة الرسل هذه فور أن خرجوا من علّية أورشليم، فوُلِدَتْ يومذاك، الكنيسة، وأخذت تنمو بالشهادة التي أدّاها بطرس وسائر الرسل للمسيح المصلوب والناهض من الموت (أعمال الرسل 2 : 31 – 34؛ 3 : 15 – 18؛ 4: 10 – 12؛ 5 : 30 – 32).
لم تحظ مريم مباشرة بهذه الرسالة. لم تكن في عداد من أرسلهم يسوع “ليتلمذوا جميع الأمم” (متى 28 : 19)، عندما وكل إليهم هذه الرسالة. إلا أنها كانت حاضرة في العليّة حيث كان الرسل يستعدّون للقيام بها بفعل حلول روح الحق. كانت هناك معهم، وفي وسطهم مواظبة على الصلاة بوصفها “أمّ يسوع” (أعمال الرسل 1 : 13 – 14)، أعني أمّ المسيح المصلوب والناهض من الموت. وهذه النواة الأولى “للذين كانوا يتطلّعون بإيمان إلى يسوع، مبدأ خلاص” (62) كانت على علم أن يسوع كان ابن مريم وإنها كانت والدته وأنها كانت، بهذه الصفة بالذات، منذ الحبل به وولادته، الشاهدة الوحيدة لسرّ يسوع، هذا السرّ الذي انكشف أمام عيونهم وتأكد بالصليب والقيامة. فمنذ اللحظة الأولى، إذن، لوجودها كانت “تتطلع” إلى يسوع من خلال مريم التي كانت للكنيسة في ذلك الزمن، وعلى مرّ الزمن، الشاهد الوحيد لسني طفولة يسوع وحياته الخفية في الناصرة، هي التي “كانت تحفظ هذه الأشياء كلها في عناية وتتأمل فيها في قلبها” (لوقا 2 : 19؛ 2 : 51).
غير أنه في كنيسة تلك الأيام، كما في الكنيسة دوماً، كانت مريم ولا تزال، قبل أي شيء، تلك التي “تُطَوَّبُ لأنها آمنت”. كانت أول من آمن. فمنذ لحظة البشارة والحبل، ومنذ الولادة في مغارة بيت لحم، كانت مريم، وظلّت طوال مسيرة أمومتها، تسلك في خطى يسوع. كانت في خطاه عبر سني حياته الخفية في الناصرة؛ وكانت في خطاه في مرحلة ابتعاده الظاهر عندما بدأ “يعمل ويعلّم” (أعمال الرسل 1 : 1) في إسرائيل؛ وكانت في خطاه، خصوصاً، في الخبرة المأساوية التي كانت لهما على الجلجلة. والآن، ومريم حاضرة مع الرسل في عليّة أورشليم، فجر الكنيسة، فإيمانها الذي ولد في حديث البشارة، يجد له تأكيداً. كان الملاك قد قال لها “ها أنت تحبلين وتلدين ابناً وتسميّنه يسوع. إنه يكون عظيماً… ويملك على بيت يعقوب إلى الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء” إن الأحداث القريبة التي جرت على الجلجلة كانت قد غلّفت بظلالها هذا الوعد. ومع ذلك، فحتى عند قدمي الصليب، لم يتزعزع إيمان مريم. بل كانت ولا تزال، على غرار إبراهيم، “تلك التي آمنت ورجت على خلاف كل رجاء” (روما 4 : 18). وها هي، بعد القيامة، ترى أن الرجاء قد كشف عن حقيقته وأخذ الوعد يتبلور في الواقع. ذلك أن يسوع كان قد قال للرسل قبيل رجوعه إلى الآب: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم… وها أنا ذا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر” (متى 28 : 19 – 20). تلك كانت كلمات ذاك الذي ظهر، بقيامته، قاهر الموت، وصاحب “الملك الذي لن يكون له انقضاء”، كما سبق الملاك أن تنبأ بشأنه.
27- فجر الكنيسة، في مطلع المسيرة الطويلة، مسيرة الإيمان، التي استهلّتها العنصرة في أورشليم، كانت مريم، مع جميع الذين ألّفوا النواة التي انطلق منها “إسرائيل الجديد”. كانت حاضرة في ما بينهم، هي الشاهد الفريد لسرّ المسيح. وكانت الكنيسة مواظبة على الصلاة معها، وفي الوقت نفسه، تتأمل فيها في ضوء الكلمة المتجسّد. ولن تحيد الكنيسة عن ذلك. فهي، بقدر ما “تسبر أغوار السرّ العظيم، سرّ التجسد، تلتقي في تفكيرها أمّ المسيح وتتناولها في عميق الاحترام والتقى” (63) إن مريم تلازم المسيح، تلازماً لا انفصام فيه، وتلازم سرّ الكنيسة منذ البدء، منذ أن رأت النور. ففي أساس هويّة الكنيسة، منذ أن انطلقت، وما يجب أن تكون جيلاً بعد جيل، في وسط شعوب الأرض كلّها، نرى تلك “التي آمنت بأنه سيتمّ ما قيل لها من قبل الرب” (لوقا 1 : 45). ذلك إن إيمان مريم هذا الذي يطبع مطلع العهد الجديد والأبدي، عهد الله مع البشر في يسوع المسيح، هذا الإيمان البطولي “يسبق” شهادة الكنيسة في مرحلتها الرسولية، ويظل في قلب الكنيسة، بعيداً عن الأضواء، تراثاً خاصّاً من وحي الله. وجميع الذين يشتركون في هذا التراث الخفي، جيلاً بعد جيل، وهم راضخون للشهادة الرسولية في الكنيسة، يشتركون، على نوع ما، في إيمان مريم.
إن كلمات اليصابات “طوبى للتي آمنت” لازمت الكنيسة منذ العنصرة، وستلازمها على مدى الأجيال، حيثما تنتشر معرفة سرّ المسيح الخلاصي، بشهادة الرسل وعمل الكنيسة. وبذلك، تتحقّق نبؤة نشيد التعظيم “تغبّطني جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي عظائم. فإن اسمه قدوس” (لوقا 1 : 48 – 49). لأنّ من معرفة سرّ المسيح يستخلص تعظيم أمه، ويعبّر عنه بإكرام والدة الإله. إلا أن هذا الإكرام يحمل دوماً في ذاته تغبيطاً لإيمانها، لأن عذراء نطقت اليصابات. فالذين، في كل جيل، يتقبّلون في إيمان سرّ المسيح، كلمة متجسداً وفادي العالم، في مختلف أمم الأرض وشعوبها، ليس فقط يتطلّعون إلى مريم في إكرام ويلجأون إليها في ثقة، كما يُلجأ إلى أمّ، بل يسعون أيضاً إلى أن يجدوا في إيمانها ما يسند إيمانهم. وهذه المشاركة الحيّة بالذات، في إيمان مريم، هي التي توليها هذا الحضور الخاص الذي لها في مسيرة الكنيسة، شعب الله الجديد، على الأرض كلها.
28- يقول المجمع “إن مريم، بحضورها في صميم تاريخ الخلاص، تدعو المؤمنين إلى ابنها وإلى ذبيحته، وإلى محبّة الآب، عندما تكون موضوع كرازة أو إكرام” (64). من هنا، واستناداً إلى شهادة الكنيسة في عهدها الرسولي، يضحي دوماً إيمان مريم، على نوع ما، إيمان شعب الله في مسيرته، أفراداً وجماعات، أوساطاً ولقاءات، وأخيراً، إيمان مختلف الفئات التي تتألف منها الكنيسة. وهو إيمان يُنقل بالمعرفة والقلب في آن، ويُسعى إليه ويتجدد دوماً بالصلاة. “ولذلك، فالكنيسة إذ تتمرّس برسالتها، تتطلع في حقّ صوب تلك التي ولدت المسيح الذي حبل به من الروح القدس وولد من العذراء لهذه الغاية بالذات، أن يولد وينمو أيضاً، بواسطة الكنيسة، في قلوب المؤمنين” (65).
واليوم، وقد قاربنا، في مسيرة الإيمان هذه، من نهاية الألف الثانية للميلاد، تلفت الكنيسة، في أعقاب المجمع الفاتيكاني الثاني، إلى ما تكتشفه في ذاتها، أعني كونها “شعب الله الوحيد الحاضر لدى شعوب الأرض جميعاً”، وإلى هذه الحقيقة أن المؤمنين جميعاً “على انتشارهم في العالم، هم، في الروح القدس، مرتبطون بالشركة مع الجميع (66)، حتى أنه يمكن القول أن في هذا الاتحاد يتواصل سرّ العنصرة. فالرسل وتلاميذ الرب مواظبون، في ذات الوقت، ولدى جميع أمم الأرض، “على الصلاة مع مريم أم يسوع” (أعمال الرسل 1 : 14). وإذ تتجلّى فيهم، على مدى الأجيال، “علامة الملكوت” الذي ليس من هذا العالم (67)، فهم يعون أيضاً أن واجبهم، في وسط هذا العالم، أن يلتئموا حول الملك الذي مُنح الأمم ميراثاً” (مزمور 2 : 8) وأعطاه الآب “عرش داود أبيه” حتى يملك على بيت يعقوب إلى الدهر، ولا يكون لملكه انقضاء”.
في زمن الترقّب هذا، نرى مريم حاضرة بالإيمان الذي جعلها تستحقّ الطوبى، لاسيما منذ لحظة البشارة، في رسالة الكنيسة، وفي عملها الهادف إلى إرساء ملكوت ابنها في العالم (68). وحضور مريم هذا يظهر اليوم، كما ظهر في تاريخ الكنيسة كله، بتعابير كثيرة. وعملها يتّخذ في إشعاعه أشكالاً شتى: في إيمان المؤمنين أفراداً، وتقاهم، وفي تقاليد الأسر المسيحية وهي “كنائس عائلية”، وفي الجماعات الرعوية والرسولية، والمؤسسات الرهبانية والأبرشيات، وفي ما ينطلق من المزارات الكبرى من قوّة جاذبية و أشعاع حيث يتواجد لا الأفراد أو المجموعات المحلّية فحسب، بل، أحياناً، أمم وقارات بكلّيتها، في مسعى إلى لقاء أمّ الرب، تلك التي استحقت الطوبى لأنها آمنت، وهي الأولى بين المؤمنين، ولأنها كذلك أضحت أمّ عمانوئيل. تلك موحيات أرض فلسطين، وهي موطن المسيحيين الروحي جميعاً، لأنها موطن المخلص ووالدته؛ وذلك ما توحي به مزارات لا تحصى أقامها الإيمان المسيحي، عبر القرون، في روما والعالم أجمع؛ و ذلك ما توحي به مراكز اسمها “غواديلوب ولورد وفاطمة” وسواها منتشرة في مختلف البلدان؛ وهل يسعني أن أنسى، في هذا المجال، مركز “جاسنا غورا” في أرض أجدادي. ألا نستطيع أن نتكلّم عن “جغرافية” للإيمان والنفوس المريميّة تستوعب هذه المزارات الخاصة بشعب الله في سعيه إلى أن يلقى والدة الإله ليجد في إشعاع حضور هذه “التي آمنت”، وهو حضور أمّ، دعماً لإيمانه هو. ذلك أن إيمان مريم الذي بدأ في البشارة واكتمل عند قدمي الصليب، قد فتح في الإنسان هذه الفسحة الداخلية حيث يمكن الآب الأزلي أن “يغمرنا بكل بركة روحيّة”: فسحة العهد الجديد والأبدي (69). وهذه الفسحة قائمة في الكنيسة التي هي، في المسيح، “سرّ اتحادنا الصميم بالله، ووحدة الجنس البشري بأجمعه” (70).
في الإيمان الذي أعلنته مريم في البشارة وهي “أمة الرب”، وحيث ما زالت “رائدة” شعب الله في مسيرته على الأرض كلها، تجد الكنيسة مسعاها الدائم إلى تجديد البشرية كلها برئاسة المسيح قائدها، في وحدة روحه” (71).
ثانياً- مسيرة الكنيسة ووحدة المسيحيين
29- “إن الروح يبعث في تلاميذ المسيح جميعاً الشوق والعمل الهادف إلى تحقيق اتحادهم جميعاً في سلام، وفقاً للطريقة التي شاءها المسيح، في قطيع واحد يتولاه راع واحد” (72). إن مسيرة الكنيسة، لاسيّما في عصرنا الراهن، تتميّز بطابع المسكونية: فالمسيحيون يسعون إلى ما يعيد بناء وحدتهم، تلك الوحدة التي سأل المسيح الآب قيامها بين تلاميذه عشية آلامه: “لكي يكونوا بأجمعهم واحداً. فكما أنك أنت، أيها الآب، فيّ وأنا فيك، فليكونوا هم أيضاً فينا، حتى يؤمن العالم أنك أنت أرسلتني” (يوحنا 17 : 21). فالوحدة المسيحية، إذن، هي الميزة التي تدعو العالم إلى الإيمان، فيما انقسام المسيحيين معثرة (73).
إن الحركة المسكونية قد بلغت في الكنيسة الكاثوليكية زخمها الأقوى في أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، انطلاقاً من وعي أكثر وضوحاً وشمولاً لما لتحقيق وحدة المسيحيين من ضرورة محرجة. فلا بدّ من أن تتعمّق في المسيحيين، أفراداً وجماعات، “طاعة الإيمان” التي كانت مريم مثالها الأول والأكثر اشعاعاً، “ولأن اشراقها اللامع هو علامة رجاء وطيد وعزاء في مقدمة شعب الله في مسيرته”، فالمجمع المقدس يجد فرحاً عظيماً وعزاء في واقع أن بين أخواننا المنفصلين من يحوطون والدة إلهنا ومخلصنا بالإكرام الواجب لها، لاسيمّا لدى الشرقيين منهم” (74).
30- فالمسيحيون على علم أنهم لن يبلغوا الوحدة المفقودة إلا عندما ترسو هذه الوحدة على وحدة ما يؤمنون به. ولا بدّ لهم من أن يتجاوزوا خلافات عقائدية، لها أهميتها بشأن سرّ الكنيسة ورسالتها وأحياناً بشأن الدور الذي لمريم في عمل الخلاص (75). إن الحوارات التي بدأتها الكنيسة الكاثوليكية مع الكنائس والجماعات الكنسية في الغرب (76)، تتمحور أكثر فأكثر، حول هذين الوجهين المتلازمين لسرّ الخلاص نفسه. فإذا كنا نستشفّ من خلال سرّ الكلمة المتجّسد سرّ الأمومة الإلهيذة، وإذا كان التأمّل في والدة الإله هو المدخل إلى فهم أعمق لسرّ التجسذد، فلا بد من تطبيق المقياس نفسه على سرّ الكنيسة ودور مريم في عمل الخلاص. فإذا أنعم المسيحيون النظر في هذا وذاك من الوجهين، وسلّطوا أنوار كل منهما على الآخر، في سعيهم إلى القيام بما يأمرهم به يسوع، كما هي وصية أمّهم لهم (يوحنا 2 : 5)، استطاعوا أن يتقدموا معاً في “مسيرة الإيمان”، تلك المتمثلة دوماً في مريم، والتي تقودهم إلى الوحدة التي أرادها ربهم الأوحد، والتي يتشوّق إليها جدّاً الذين يصغون، في انتباه، “إلى ما يقوله اليوم الروح القدس للكنائس” (رؤيا 2 : 7 و 11 و 17).
وإنه لمن دواعي التفاؤل أن هذه الكنائس والجماعات الكنسية تلتقي والكنيسة الكاثوليكية في نقاط أساسيّة من المعتقد المسيحي وكذلك بشأن العذراء مريم. ذلك، إنها تعترف بها أماً للرب وتعتبر هذا الموقف منها جزءاً من إيماننا بالمسيح، الإله الحقيقي والإنسان الحقيقي، وهي تتأملها عند قدمي الصليب تقبل التلميذ الحبيب ابناً لها، وهذا التلميذ يقبلها بدوره أماً له.
فلماذا، إذن، لا نرى فيها جميعاً معاً أُمّاً لنا أجمعين، تصلّي لأجل وحدة أسرة الله، وهي رائدة الموكب الكبير، موكب شهود الإيمان في الرب الواحد، ابن الله، الذي حبل به في أحشائها البتوليذة بفعل الروح القدس؟
31- على أني أريد أن أبرز إلى أي حد تشعر الكنائس، الكاثوليكية والارثذوكسيّة والشرقيّة القديمة، بعميق وحدتها في محبّة والدة الإله وإكرامها. أليس “إن العقائد الأساسيّة في الإيمان المسيحي، حيال الثالوث وكلمة الله الذي أخذ جسداً من العذراء مريم، قد حدّدتها المجامع المسكونية الملتئمة في الشرق”(77)؟؛ وأليس “إن الشرقيّين يرفعون في طقوسهم الأناشيد الرائعة لمريم الدائمة البتوليّة… ووالدة الإله الفائقة القداسة” (78)؟.
إن إخواننا في هذه الكنائس قد تعرّضوا لظروف قاهرة معقدة، إلا أن تاريخهم، على كونه مطبوعاً بالاضطهادات الدمويّة، عابق بشوق عظيم إلى الالتزام المسيحي والاشعاع الرسولي. إنه لتاريخ أمانة للرب، “ومسيرة إيمان” أصيل عبر مختلف الأزمنة والأمكنة، حيث نرى المسيحيّين الشرقّيين في اتجاه دائم صوب والدة الإله، في ثقة لا محدودة، يشيدون بمدائحها ويستشفعونها في صلوات لا تنقطع. وفي الساعات العصيبة التي عرفها وجودهم المسيحي المتألم “لجأوا إلى حمايتها” (79). وعرفوا أن يجدوا فيها السند القوي. أن الكنائس التي تؤمن بما حدّده مجمع أفسس تنادي بالعذراء “أمّ الله”، لأن “سيدنا يسوع المسيح… المولود من الآب قبل الدهور بحسب الألوهة، قد ولد في الأزمنة الأخيرة، لأجلنا ولأجل خلاصنا، من مريم العذراء والدة الإله بحسب الجسد” (80). والآباء اليونان والتراث البيزنطي، في تأملهم في العذراء على ضوء الكلمة المتجسّد، سعوا إلى سبر أغوار ما يربط مريم، بوصفها والدة الإله، بالمسيح والكنيسة: إن للعذراء حضوراً دائماً وعلى أوسع مدى في سرّ الخلاص.
والتقاليد القبطية والحبشية قد دخلت في تأمل مريم هذا في خطى القديس كيرلّس الاسكندري، واتخذت دورها في الإشادة بهذا السرّ في غزارة شعريّة رائعة (81). والقديس أفرام السرياني المدعو “قيثارة الروح القدس” ما فتئ ينشد مريم، ولا تزال بصماته في تراث الكنيسة السريانية كله (82). والقديس غريغوريوس الذي من “نارك”، وهو أحد أمجاد أرمينيا الأكثر اشعاعاً، يتعمَّق، بقوة إلهامه الشعري، في مديح والدة الإله في مختلف وجوه سرّ التجسّد، ويجد في كل وجه من هذه الوجوه مناسبة للتغنّي بالعذراء مريم والدة الكلمة المتجسّد، والإشادة بكرامتها التي لا مثيل لها وجمالها الرائع (83).
فلا عجب إذا كانت مريم تحتلّ مكاناً مميزاً في طقوس الكنائس الشرقيّة القديمة، مع غزارة في الأناشيد وكثرة في الأعياد.
32- في الليتورجيا البيزنطيّة، وفي ساعات الفرض الإلهي كلها، نرى تسبيح الأم ملازماً تسبيح الابن، والتسبيح الذي يرفع إلى الآب بالابن وفي الروح القدس. وفي الأنافور، أو صلاة الشكر في ليتورجيا القديس يوحنا الذهبي الفم، وفوراً بعد استدعاء الروح القدس على القرابين، ينطلق الشعب بالنشيد التالي لوالدة الإله: “إنه لواجب حقاً أن نغبّطك، يا والدة الإله الدائمة الغبطة، والمنزهة عن كل عيب، وأم إلهنا. يا من هي أكرم من الشيروبيم، وأمجد بلا قياس من السيرافيم. يا من ولدت الله الكلمة ولبثت بتولاً، إنك حقاً والدة الإله، إياك نعظّم”.
هذه المدائح التي ترتفع إلى مريم في كل احتفال بالليتورجية الإفخارستية قد صاغت الإيمان، وبلورت التقوى والصلاة لدى المؤمنين، واترعت، على مرّ العصور، روحيّتهم كلها، وبعثت فيهم عميق الاكرام “لوالدة الإله الفائقة القداسة”.
33- يحتفل، هذا العام، بالذكرى المئوية الثانية عشرة لانعقاد مجمع نيقية الثاني (787) الذي وضع حداً للجدل بشأن إكرام الأيقونات المقدسة، وأعلن، أميناً لتعاليم الآباء القديسين والتراث الكنسي العام، إمكانية عرض أيقونات والدة الإله والملائكة والقديسين، إلى جانب الصليب المقدس، في الكنائس والمنازل وعلى الطرقات، لكي يكرّمها المؤمنون (84). و قد تمسّك كلٍ من الشرق والغرب بهذه العادة: فأيقونات العذراء تحتلّ محلاً مرموقاً في المعابد والبيوت. وقد رسمت مريم كعرش لله يحمل الربّ ويقدّمه للبشر، أو كالطريق التي تقود إلى المسيح وتقدّمه، أو كمصليّة تشفع، وعلامة حضور الله في مسيرة المؤمنين حتى يحلّ يوم الرب، أو كالحامية التي تغطّي الشعب بردائها، أو كالعذراء الحانية؛ وهي تُرْسَم عادة مع ابنها، الطفل يسوع، تحمله على ذراعيها: تلك علاقتها بابنها الذي بدوره يمجّد والدته، وأحياناً تقبّله في حنان. وفي أيقونات أخرى نراها في عظمة رؤساء الكهنة وكأنها مأخوذة تتأمل في ذاك الذي هو سيد التاريخ (رؤيا 5 : 9 – 14) (85).
ويجدر بنا أن نذكر أيضاً أيقونة عذراء “فلاديمير” التي رافقت شعوب الروسيا القديمة في مسيرة إيمانهم. إن انقضاء الألف الأول على دخول المسيحية هذه الأراضي النبيلة يقترب: أنها أرض أنبتت مؤمنين ومفكِّرين وقديسين. والأيقونات المقدّسة لا تزال مكرّمة في أوكرانيا وروسيّا البيضاء وروسيّا تحت مختلف العناوين: إنها شهادة لإيمان هذا الشعب الطيّب وروح الصلاة فيه، هذا الشعب الذي يحسّ حضور والدة الإله بين ظهرانيه وحمايتها. في هذه الأيقونات تتألّق العذراء صورة للجمال الإلهي، ومحلاً للحكمة الأزلية، ومثالاً للضراعة والتأمل، وصورة للمجد، هذه العذراء التي بلغت في إيمانها، وهي بعد على الأرض، المعرفة الأسمى، لأنها اقتنت علماً روحياً لا يطوله الفكر البشري. اذكّر أيضاً بعذراء العلّية، تصلّي في وسط الرسل، بانتظار الروح: ليتها تكون علامة الرجاء لجميع الذين يسعون، عبر الحوار الأخوي، إلى تعميق طاعتهم للإيمان.
34- إن غزارة هذه التسابيح وغناها التي يضمّها تراث الكنيسة العظيم، في مختلف تعابيره، من شأنها أن تساعدنا على أن نجعل هذا التراث يعود إلى تنفسه الكامل “برئتيه” الشرقية والغربية. وأكرّر هنا ما سبق لي أن أكّدته، أن هذا الرجوع ضروري اليوم، أكثر من أي يوم مضى، فهو السند الفعّال لتسيير الحوار القائم بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس والجماعات الكنسية في الغرب (86). وهو يمهّد الطريق أمام الكنيسة في مسيرتها، لتنشد، على وجه أكمل، وتحيا في ذاتها ترنيمة التعظيم التي لوالدة الإله.
ثالثاً- نشيد الكنيسة في مسيرتها
35- في المرحلة الراهنة من مسيرتها، تسعى الكنيسة، إذن إلى استعادة وحدة المؤمنين بالمسيح، فتبرهن عن طاعتها للربّ الذي صلّى قبيل آلامه لهذه الوحدة بالذات. “إنها تتقدّم في مسيرتها… تكرز بصليب الرب وموته حتى يوم رجوعه” (87). “ولما كانت مسيرتها محفوفة بالتجارب والشدائد، فالكنيسة تجد لها سنداً في قوة نعمة الله التي وعدها بها الرب، لئلا ينتقص أي شيء من كمال أمانتها، من جراء ضعفها البشري، بل تظلّ العروسة التي تليق بالرب وتتجدّد دوماً بفعل الروح القدس، إلى أن تبلغ بالصليب النور الذي لا يغيب” (88).
إن الامّ العذراء حاضرة دوماً في مسيرة الإيمان هذه التي يقوم بها شعب الله صوب النور. ولدينا في ذلك شهادة خاصة هي نشيد التعظيم الذي تفجّر من أعماق إيمان مريم أثناء الزيارة، والذي لا تزال تتردّد أصداؤه في قلب الكنيسة عبر القرون. ذلك أنها تتلوه كل يوم في صلاة الغروب وفي ممارسات تقويّة شتىّ فرديّة وجماعية.
“تعظّم نفسي الرب، وتتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنه نظر إلى حقارة أمته؛ فها، منذ الآن، تغبّطني جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي عظائم. فإن اسمه قدوس، ورحمته إلى جيل وجيل للذين يتّقونه. بسط قدرة ساعده، فشتّت ذوي القلوب المتغطرسة بأفكارها؛ حطّ الأعزاء عن عروشهم، ورفع المتواضعين؛ غمر الجياع بالخيرات، وأرسل الأغنياء فارغي الأيدي. عضد إسرائيل فتاه، ذاكراً رحمته على ما وعد به آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأبد!”
36- عندما حيّت اليصابات نسيبتها الشابة، وقد وصلت إليها من الناصرة، جسَّدت مريم جوابها في نشيد التعظيم. لقد استهلّت اليصابات تحيتها مريم بتسميتها “مباركة” من جراء ما تحمل في أحشائها، ثم “طوباوية” من جراء إيمانها (لوقا 1 : 42، 45). هذا التبريك والتطويب إنما مرجعهما المباشر حدث البشارة. والحال، أن إيمان مريم يضحي أعمق وعياً، ويجد له تعبيراً جديداً، أثناء الزيارة، حيث شهدت اليصابات في تحيّتها لهذا الحدث الأساسيّ. وكأني بما ظلّ مغموراً في أعماق “إطاعة الإيمان” أثناء البشارة، يقفز الآن إلى العلن، شعلة من الروح وهّاجة محيّية. إن التعابير التي تستعملها مريم عند مدخل بيت اليصابات هي اعتراف ملهم بالإيمان، تتجاوب فيه مريم مع الكلمة الموحى بها بالفاظ تنّم عن ارتفاع كيانها بكليته إلى الله يتدفق روحاً وشاعرية. في هذه التعابير، السامية في بساطتها، والتي تستلهم في مجملها النصوص المقدسة المتداولة في إسرائيل (89)، نستشفّ خبرة مريم الشخصية وانخطاف قلبها. إنه لينطلق منها شعاع من سرّ الله ومجد قداسته التي لا يفيها وصف، ومن الحبّ الأزلي الذي يدخل تاريخ الإنسان عطية لا أسمى.
ومريم هي أول من يشترك في هذا الوحي الجديد الذي أنزله الله، وهذه الهبة الجديدة، “هبة الله للإنسان”، التي تمّت بواسطتها. ذلك ما يبعث فيها هذا الهتاف: “لقد صنع بي عظائم؛ فإن اسمه قدوس”. إن كلماتها تعكس فرح الروح، فرحاً يعجز التعبير عنه: “يبتهج روحي بالله مخلصي”. لأن “الحقيقة الأصلية… عن الله، وعن خلاص الإنسان، تتجلّى لنا في المسيح الذي هو الوسيط وكمال الوحي في آن” (90). وفي البهجة التي تغمر قلبها، تعلن مريم أنها وُضعتْ في وسط ملء المسيح هذا بالذات. وقد تمّ فيها الوعد الذي قُطع للآباء، وفي مقدّمتهم “إبراهيم ونسله إلى الأبد”. وإنها لواعية ذلك، وبالتالي، فالتدبير الخلاصي كله يتّجه صوبها، بوصفها أم المسيح؛ هذا التدبير، حيث يعتلن رب العهد، الذي “يذكر رحمته”.
37- إن الكنيسة التي تكيّف مسيرتها الأرضية، منذ مطلعها، على مسيرة والدة الإله، تردّد معها دوماً كلمات نشيد التعظيم، وهي تستقي من أعماق إيمانها، المعتلن في البشارة والزيارة، حقيقة إله العهد، الإله القدير و الصانع “العظائم” للإنسان: “إن اسمه قدوس”. وفي نشيد التعظيم ترى أن الخطيئة التي لطّخت مطلع تاريخ وجود الإنسان، رجلاً وامرأة، على الأرض، خطيئة اللاإيمان، “وضعف الإيمان” حيال الله، هذه الخطيئة قد سحقت حتى الجذور. وفي مواجهة “الشكّ الذي أثاره “أبو الكذب” في قلب حوَّاء، أولى النساء، نرى مريم، التي اعتاد التقليد أن يسمّيها “حوَّاء الجديدة” (91) “وأمّ الأحياء” (92) الحقيقية، تعلن بقوّة حقيقة الله، الله القدوس والقدير، مصدر كل عطاء منذ البدء، “صانع العظائم”، والذي خلق، فأعطى الوجود كل كيان. وعندما خلق الإنسان، منحه كرامة صورته ومثاله بشكل فريد يميّزه عمّا سواه من خلائق على الأرض. ولم تحلْ خطيئة الإنسان دون مواصلة عطائه، فأعطى ذاته في ابنه. “وقد أحبّ هكذا العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد” (يوحنا 3 : 16). ومريم هي الشاهد الأول لهذا الواقع الرائع الذي سوف تحقّقه في كماله أعمال ابنها وتعاليمه، ويبلغ قمته بصليبه وقيامته.
إن الكنيسة التي لا تني تردّد مع مريم نشيد التعظيم هذا، بالرغم من “التجارب والشدائد”، تستند إلى ما تحمله هذه الحقيقة عن الله، تلك المعلنة بهذه البساطة الرائعة. وفي الوقت نفسه، وبهذه الحقيقة عن الله بالذات، تسعى إلى إنارة الطرقات الشاقّة والمتشابكة التي يسلكها وجود البشر على الأرض. إن مسيرة الكنيسة، في هذه الحقبة الأخيرة من الألف الثانية للمسيحية، تستلزمها جهوداً تجدِّد بها أمانتها لرسالتها. وفي خطى من قال عن نفسه: “أن الله أرسلني لأبشّر المساكين” (لوقا 4 : 18)، جدّت الكنيسة جيلاً بعد جيل، وتجدّ اليوم أيضاً للقيام بهذه الرسالة.
إن محبتها المفضلة للمساكين، يعبّر عنها في روعة، نشيد مريم. أن ربّ العهد، الذي تغنّت به عذراء الناصرة، في ابتهاج روحها، هو، في الوقت نفسه، الذي “يحطّ المقتدرين عن عروشهم ويرفع المتواضعين… ويغمر الجياع بالخيرات، ويرسل الأغنياء فارغي الأيدي… ويشتّت ذوي القلوب المتغطرسة بأفكارها… ويبسط رحمته إلى جيل وجيل للذين يتقونّه”. إن مريم مطبوعة الأعماق بروح “فقراء يهوه”، أولئك الذين كانوا ينتظرون من الله خلاصهم ويضعون فيه ثقتهم كلها (مزمور 25؛ 31؛ 35؛ 55). وهي تعلن واقع حلول سرّ الخلاصي ومجيء “مسيح الفقراء” (أشعيا 11: 4؛ 61 : 1). والكنيسة، إذ تستقي من قلب مريم، في عمق الإيمان الذي أملى عليها العبارات الواردة في نشيد التعظيم، تعي أكثر فأكثر أنه لا يمكن الفصل بين ما هو الله المخلص، الله ينبوع كل عطاء، واعتلان محبته المفضّلة للفقراء والودعاء، هذه المحبة التي يتغنّى بها نشيد التعظيم والتي عبّر عنها، بعده، يسوع قولاً وعملاً.
فالكنيسة تعي، إذن، أنه ليس فقط لا يمكن الفصل بين هذين العنصرين من البشرى التي يحملها نشيد التعظيم، بل لا بدّ أيضاً من التمسّك بعناية بالأهميّة التي توليها كلمة الله الحي “الفقراء”، “واختيار مصلحة الفقراء”. ووعي الكنيسة هذا يتوطّد بشكل خاص في عالمنا الراهن. فنحن حيال موضوعات ومعضلات تتضامن عضوياً والتحسّس المسيحي للحرية والتحرير. “ومريم الخاضعة كلياً لله، والساعية إليه بوثبة من إيمانها، هي، مع ابنها، الصورة الأكمل لتحرير الإنسانية والكون وحريتهما”. والكنيسة لا بدّ لها من النظر إليها، هي الأمّ والمثال، لكي تتفهّم، في كليّته، معنى رسالتها (93).
القسم الثالث
وساطة الأم
أولاً- مريم، أمة الرب
38- إن الكنيسة تعلم وتعلّم، في هدي القديس بولس، أن ليس لنا إلا وسيط واحد “لأن الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، الإنسان، المسيح يسوع، الذي بذل نفسه فداء عن الجميع” (1 تيموثاوس 2 : 5 – 6). “إن دور الأمّ الذي لمريم حيال البشر لا ينال في شيء من وساطة المسيح الوحيدة هذه ولا ينتقص منها: بل يبرز، بالعكس، قوّتها” (94). أنها وساطة في المسيح.
والكنيسة تعلم وتعلّم أن “كل فاعلية في مجال خلاص البشر تقوم بها العذراء الطوباوية، إنما تنبع من استعداد للعطاء محض مجاني من قبل الله؛ وموردها، فيض استحقاقات المسيح؛ وتستند إلى وساطته وتعتمدها في كل شيء وتستمد منها طاقتها كلها. ولا تعترض في شيء اتحاد المؤمنين المباشر مع المسيح بل، على عكس ذلك، فهي تدعم هذا الاتحاد” (95).
هذا الأثر الخيّر يسانده الروح القدس: فكما أنه ظلّل العذراء وانطلقت الأمومة الإلهية فيها من عمله هذا، فهو يعكف، كذلك، على توطيد عناية مريم بإخوة ابنها.
ذلك أن وساطة مريم وثيقة الارتباط بأمومتها، وتحمل طابع هذه الأمومة الذي يميزها عن وساطة الخلائق الأخرى التابعة لوساطة المسيح، الوسيط الأوحد، بشكل مختلف وملحق دوماً بهذه الوساطة. على أن وساطة مريم، هي أيضاً، وساطة تابعة (96). وفي الواقع، “إذا كان لا يمكن أن تتساوى أية خليقة بالكلمة المتجسد والفادي”، ففي الوقت نفسه، “إن وساطة الفادي، الوسيط الأوحد، لا تتنافى وأي التحاق بها من قبل الخلائق، في التزام ينبوع الوساطة الأوحد، بل تبعث هذا التدخل. وعلى هذه الصورة تنسكب محبة الله الوحيدة، انسكاباً حقيقياً، في أشكال مختلفة على الخلائق” (97).
إن تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني يعبّر عن واقع وساطة مريم بوصفها اشتراكاً في وساطة المسيح نفسه وهي المصدر الأوحد للاستشفاع، إذ نقرأ: “أن هذا الدور التابع الذي لمريم، تعترف به الكنيسة بدون تردّد، وهي لا تني تختبره في ذاتها. وأنها لتعرضه على قلوب المؤمنين، سعياً إلى أن يجدوا في هذه الأم من السند والمعونة ما يربطهم بشكل أوثق بالوسيط والمخلص (98). وهذا الدور هو، في الوقت نفسه، خاصٌ واستثنائي. إنه ينطلق من أمومتها الإلهية، ولا يمكن المؤمن أن يفهمه ويحيا فيه بالإيمان إلاّ بالاستناد إلى هذه الأمومة في كمال أبعادها. ذلك أن مريم هي، بفضل الاختيار الإلهي لها، أم الابن الواحد في الجوهر مع الآب، وقد أُشركت، اشراكاً وسيع المدى، بعمل الفداء، وأضحت لنا، على صعيد النعمة، أمَّاً (99). “وهذا الدور هو البعد الحقيقي “لحضورها في سرّ الخلاص، سرّ المسيح والكنيسة”.
39- تلك هي الزاوية التي يجب أن ننظر منها إلى هذا الحدث الأساسي في التدبير الخلاصي، أعني تجسّد الكلمة في البشارة، كما سبق وقلنا. ومن الملفت أن تقول مريم، وقد رأت في كلام من أرسله الله إليها إرادة العلّي، وأخضعت ذاتها لقدرته، “أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك (لوقا 1 : 38). إن أولى الخطوات في الخضوع للوساطة الوحيدة “بين الله والإنسان” وساطة يسوع المسيح، هي قبول عذراء الناصرة أمومتها. أن مريم ترضخ لاختيار الله لها أن تكون، بفعل الأمومة هو، على الأخص ثمرة تقدمة ذاتها تقدمة كليّة، لله في البتوليّة. لقد قبلت مريم اختيار الله لها أمّاً لابنه، يدفعها الحب الذي يبعث في إنسانة، هي عروس الله، “أن تتكرّس”، تكّرساً كلياً، له. وانطلاقاً من هذا الحب، كانت مريم تصبو إلى أن تكون “عطية للرب”، دوماً وفي كل شيء، بالعيش في البتولية. إن عبارة “أنا أمة الرب” تعبّر عن هذا الواقع الذي قام فيها منذ البدء أعني قبولها أمومتها ومفهومها لها، بوصفها عطية ذاتها عطاء كلياً، لله، في خدمة مقاصد العلّي الخلاصية. وكانت مشاركتها كأمّ في حياة يسوع المسيح ابنها، مشاركة عاشت فيها، حتى النهاية، بطريقة تتجاوب مع دعوتها إلى البتولية.
إن أمومة مريم، المترعة حتى الصميم، من موقفها كعروسة للرب “وأمة له”، هي البعد الأول والأساسي للوساطة التي تعترف بها الكنيسة لها، وتعلنها (100)، ولا تني “توصي بها قلوب المؤمنين”، لأن ثقتها بها عظيمة. ولا بدّ من التسليم أن الله نفسه، الآب الأزلي، كان أول من لجأ إلى عذراء الناصرة وأعطاها ابنه الخاص في سرّ التجسد. وهذا الاختيار للدور السامي والكرامة الفائقة التي هي الأمومة لابن الله، يرتبط، على الصعيد الكياني، بهذه الحقيقة بالذات، حقيقة اتحاد الطبيعتين في شخص الكلمة. وهذا الواقع الأساسي، واقع الامومة لابن الله، هو منذ البدء، انفتاح كلّي على شخص المسيح ونشاطاته و رسالته كلها. وأن عبارة “أنا أمة للرب” تشهد لانفتاح فكر مريم هذا. هذا الانفتاح الذي يجمع ويصهر على نوع ما فيها، حبّين، حبّ البتول وحب الأمّ. ولذلك، فإن مريم أضحت ليس فقط أم ابن الإنسان، تلك التي غذّته، بل قد “اشتركت، وسيع المشاركة، وعلى وجه مطلق الفرادة” في ما هو للمسيح والفادي (101). وكما سبق وقلت، كانت مريم تتقدّم في مسيرة الإيمان، تلك التي قادتها عند قدمي الصليب حيث تحقّقت مساهمتها، مساهمة الأم، في رسالة المخلص كلها، عملاً وتألماً.
وعلى مدى مسيرتها في هذه المشاركة في رسالة ابنها الفادي، كانت مريم تشهد في ذاتها تغييراً عجيباً، من جراء “حرارة المحبة” التي كانت تترع نفسها أكثر فأكثر تجاه جميع الذين تتَّجه إليهم رسالة المسيح. “وحرارة المحبة” هذه التي كانت تهدف، في وحدة جهود مع المسيح، إلى إن “تعود الحياة الفائقة الطبيعية إلى النفوس” (102)، كانت تدخل مريم، بشكل محض شخصي، في الوساطة الوحيدة “بين الله والناس”، وساطة الإنسان يسوع المسيح. وهي نفسها كانت أول من خبر في ذاته الثمار الفائقة الطبيعة الناشئة عن هذه الوساطة. أليس أنها قد سبقت وسمعت، في البشارة، تحيّة تدعوها “الممتلئة نعمة”. وهذا يفرض القول أن هذا الامتلاء من النعمة ومن الحياة الفائقة الطبيعة قد أعدّها بشكل خاص للمشاركة مع المسيح، الوسيط الأوحد لخلاص البشر. وهذه المشاركة، هي بالذات، وساطتها التابعة لوساطة المسيح.
وفي ما يعود إلى مريم، فالوساطة التي نعنيها هي وساطة خاصة واستثنائية، ترتكز على “الامتلاء من النعمة”. وهذا الامتلاء من النعمة كان يعبّر عنه الاستعداد الكامل الذي كان يميّز “أمة الرب”. وتجاوباً مع هذا الاستعداد الداخلي الذي كان لدى أمه، كان المسيح يسوع يعدّها لتكون أكثر فأكثر “أمّاً للبشر على صعيد النعمة”، وهذا ظاهر، أقلّه بشكل غير مباشر، من بعض التفاصيل التي نقرأها في الأناجيل الثلاثة الاولى (لوقا 11: 28؛ 8 : 20 – 21؛ مرقس 3 : 32 – 35؛ متى 12 : 47 – 50)، وأكثر منها في إنجيل يوحنا ( 2: 1 – 12؛ 19 : 25 – 27). وقد سبق لي وأبرزتها إلى النور. وفي هذا المجال، إن الكلمات التي تفوّه بها يسوع على الصليب، بشأن مريم ويوحنا، تتميّز بوضوحها.
40- بعد أحداث القيامة والصعود، دخلت مريم العلية مع الرسل تنتظر معهم العنصرة. وكانت في ما بينهم بوصفها “أم الرب الممجّد”. لقد كانت، ليس فقط تلك التي “تقدمت في مسيرة الإيمان”، وكانت أمينة للاتحاد بابنها “حتى الصليب”، بل أيضاً “أمة الرب” التي تركها ابنها أمّاً للكنيسة، وهي بعد في مهدها: “هذه أمك”. وهكذا، بدأ ينشأ رابط خاص بين هذه الأم والكنيسة. ذلك أن الكنيسة، وهي بعد في المهد، كانت ثمرة صليب ابنها وقيامته. أن مريم التي أعطت ذاتها، عطاء مطلقاً، لشخص ابنها، ورسالته، لم يكن في استطاعتها ألاّ تنقل إلى الكنيسة، منذ انطلاقتها، هذا العطاء، عطاء ذاتها، وهو عطاء أمّ، الذي كانت قد قامت به. وبعد ذهاب ابنها، ظلّت أمومتها في الكنيسة وساطة أمّ: وهي، بالشفاعة التي ترفعها لأجل ابنائها جميعاً، تشارك كأمّ، في عمل ابنها، فادي العالم، الخلاصي. وبهذا المعنى يقول المجمع المسكوني: “أن أمومة مريم في تدبير النعمة تتواصل بدون انقطاع حتى يكتمل نهائياً عقد المختارين جميعاً (103). لقد بلغت وساطة أمة الله الوالدية، بموت ابنها الفدائي، بعداً شاملاً، لأن عمل الفداء يلفّ البشر أجمعين. وهكذا، تعتلن بشكل فريد فاعلية وساطة المسيح الوحيدة والشاملة “بين الله والبشر”. وأن اسهام مريم المشترك، بنوعيته التابعة، في شمولية وساطة الفادي، وهو الوسيط الأوحد. ذلك ما يشير إليه المجمع في وضوح في النص الآنف الذكر.
وأنّا لنقرأ في أعمال المجمع أيضاً: “أن دور مريم في الخلاص لا يتوقّف بانتقالها إلى السماء: أن ضراعتها المتواصلة تستنزل علينا النعم التي تضمن لنا خلاصنا الأبدي” (104). وأن وساطة مريم تتواصل، عبر تاريخ الكنيسة والعالم، بضراعتها، تلك التي ظهرت لأول مرّة في قانا الجليل. ويُرْدف المجمع، والكلام بشأن مريم، “أن محبّتها الوالدية لتحملها على أن تتنَّبه لإخوة ابنها الذين لم تنته بعد مسيرتهم، أو الذين يتخبطون في مخاطر ومحن حتى يبلغوا إلى الوطن السعيد” (105). وهكذا، فأمومة مريم حاضرة بدون انقطاع في الكنيسة، حضور الوسيط الذي يتضرع. والكنيسة تعلن إيمانها بهذه الحقيقة إذ تلجأ إلى مريم وتدعوها: “المحامية” “والمعينة” “والمغيثة” “والوسيطة” (106).
41- وإن مريم، من جراء “صعودها إلى السماء” لتسهم بشكل خاص، بوساطتها التابعة لوساطة الفادي، في وحدة الكنيسة عبر مسيرتها على الأرض، وهي تحمل وقائع اليوم الأخير والمرحلة السماوية التي لشركة القديسين. أن حقيقة الانتقال، التي حدّدها بيوس الثاني عشر، قد أكّدها مجدّداً المجمع الفاتيكاني الثاني الذي يعبّر عن إيمان الكنيسة بشأنها على الوجه التالي: “إن العذراء الطاهرة التي صانها الله فلم تمّسها الخطيئة الأصلية، قد رفعت، جسداً ونفساً، بعد أن انتهت مسيرة حياتها على الأرض، إلى مجد السماء. وقد عظّمها الرب كمليكة على الكون لتكون بذلك أكثر شبهاً بابنها، ملك الملوك وربّ الأرباب (الرؤيا 19 : 16) قاهر الخطيئة والموت) (108). وقد جاء تعليم بيوس الثاني عشر هذا منسجماً مع التقليد حيث نجد تعابير كثيرة بهذا المعنى عبر تاريخ الكنيسة، شرقاً وغرباً.
إن سرّ الانتقال إلى السماء يحقّق نهائياً في مريم ثمار وساطة المسيح، فادي العالم والرب الناهض من الموت والوسيط الأوحد: “فكما أنه في آدم يموت الجميع، كذلك أيضاً في المسيح سيحيا الجميع، ولكن كل واحد في رتبته، المسيح، على أنه باكورة، ثم الذين للمسيح عند مجيئه” (1 كورنتس 15 ك 22 – 23). إن سرّ الانتقال إلى السماء، يعبّر عن إيمان الكنيسة الذي يعلن أن مريم مرتبطة برباط وثيق لا ينفصم بالمسيح، لأنها إذا كانت، بوصفها أمّاً وعذراء، متّحدة به، اتّحاداً فريداً زمن مجيئه الأول، فاسهامها المتواصل معه يتّحدها به أيضاً بانتظار مجيئه الثاني. “إذ قد افتديت بشكل فائق اعتباراً لاستحقاقات ابنها (109). فلها الدور الخاصّ بالأمّ، دور وسيطة الرحمة، زمن مجيئه الأخير، عندما سيحيا جميع الذين للمسيح “ويلاشى آخر عدوّ هو الموت” (1 كورنتس 15 : 26) (110).
إن العظمة التي بلغتها “ابنة صهيون المثلى” (111)، في انتقالها إلى السماء، ينطلق منها مجدها الأبدي. ذلك، أن مجد أمّ المسيح هو مجدها بوصفها “ملكة الكون” (112). والتي أعلنت ذاتها “أمة الرب” في البشارة ظلّت طوال حياتها على الأرض، أمينة لما يعنيه هذا الاسم، وقد وطّدت ذاتها في التتلمذ للمسيح الذي إنما أراد رسالته خدمة: “أن ابن البشر لم يأت ليُخدم، بل ليَخدم ويبذل نفسه فداء عن كثيرين” (متى 20 : 28). وهذا ما حمل مريم على أن تكون في طليعة الذين “إذ يخدمون المسيح في الآخرين، كما يخدمونه في شخصه، يقودون أخوتهم، في التواضع والصبر (113)، إلى الملك الذي يقال في حقّ أن خادمه هو الملك”. وقد بلغت كمال “هذه الحرية الملوكية” الخاصة بتلاميذ المسيح: أجل، أن من يخدم الملك.
“إن المسيح، الذي وضع نفسه، وصار طائعاً حتى الموت، موت الصليب، لذلك رفعه الله (فيليبي 2 : 8 – 9)، فدخل مجد ملكوته، وقد أخضع له كل شيء، ريثما يخضع نفسه لأبيه، والخليقة كلها معه، ليكون الله كلا في الكل (114) (1 كورنتس 15 ك 27 – 28)”. وأن لمريم، أمة الرب، نصيبها في ملكوت ابنها هذا (115). وأن مجد الخدمة، لا يزال سبب رفعتها الملوكية: وإذ قد صعدت إلى السماء، فهي لا توقف دورها الخلاصي حيث تعبّر عن وساطتها، وساطة الأمّ، “حتى يتمّ، بشكل نهائي، عقد المختارين” (116). وعلى هذه الصورة، فالتي كانت “أمينة لاتّحادها بابنها حتى الصليب”، تواصل اتّحادها به، الآن “وقد أخضع له كل شيء، فحينئذ يخضع الابن نفسه للذي أخضع له كل شيء ليكون الله كلاً في الكل”. وهكذا، فقد صعدت مريم إلى السماء، وكأنها ملتحفة بكل ما في شركة القدّيسين من واقع، وأن اتّحادها، هي نفسها، بابنها في المجد مصوّب بكليته نحو كمال الملكوت النهائي، عندما “يصير الله كلا في الكل”.
وحتى في هذه المرحلة بالذات، فوساطة مريم الوالدية لا تزال تابعة للوسيط الأوحد، ريثما يتحقّق نهائياً “ملء الزمن” أعني عندما “يتجدّد كل شيء في المسيح” (أفسس 1 : 10).
ثانياً- مريم في حياة الكنيسة، وحياة كل مسيحي
42- إن المجمع الفاتيكاني، قد أضفى، في أمانة للتراث، نوراً جديداً على دور أمّ المسيح في حياة الكنيسة. “إن العذراء الطوباوية، من جراء نعمة أمومتها الإلهية التي تتحدها بابنها الفادي، وما لها من مواهب ووظائف خاصّة بها، ترتبط بالكنيسة ارتباطاً في الصميم: فوالدة الإله هي صورة الكنيسة على صعيد الإيمان والمحبّة والوحدة مع المسيح” (117). وقد سبق ورأينا أن مريم تقيم، منذ البدء، إلى جانب الرسل بانتظار العنصرة، وأنها، بوصفها “الطوباوية التي آمنت”، حاضرة في وسط الكنيسة السائرة على دروب الإيمان، جيلاً بعد جيل، وأنها مثال الرجاء الذي لا يخيب (روما 5 : 5).
لقد آمنت مريم أنه سيتّم ما قيل لها من قبل الرب. وهي العذراء، آمنت أنها ستحبل في أحشائها وستلد ابناً هو “القدوس”، الذي يدعى “ابن الله”، واسمه “يسوع” أعني الله المخلص. وهي أمة الرب التي ظلّت على كمال الأمانة لشخص ابنها ورسالته. وهي الأم “التي ولدت على الأرض، بإيمانها وطاعتها، ابن الآب، وهي لا تعرف رجلاً، وقد ظلّلها الروح القدس” (118).
لذلك، نرى الكنيسة تحوط مريم بإكرام خاص، وذلك منذ أقدم العصور، وهي على حق في ذلك… ومريم تكرمها الكنيسة باسم “والدة الإله”، ويلجأ المؤمنون إلى حمايتها، ويضرعون إليها في جميع الأخطار والحاجات” (119). هذا الإكرام فريد النوعية: فهو يحوي ويعبّر عما يربط في العمق بين أمّ المسيح والكنيسة (120). وإذ هي عذراء وأم في آن، تظلّ مريم في الكنيسة “المثال الدائم”. وبالتالي، يمكن القول، انطلاقاً، خصوصاً، من هذه الرؤية، أعني من مريم “كمثال” “وصورة”، أن والدة الإله الحاضرة في سرّ المسيح، تظل دوماً حاضرة في سرّ الكنيسة، لأن الكنيسة، أيضاً، “تدعى أمّاً وعذراء”. هذه التسميات لها جذورها العميقة في الكتاب واللاهوت (121).
43- إن الكنيسة “تضحي أُمّاً من جراء قبولها كلمة الله وأمانتها لها” (122). وعلى غرار مريم التي كانت أوّل من آمن، وقد قبلت كلمة الله التي أنزلت عليها في البشارة وظلّت أمينة لها، عبر جميع المحن، حتى الصليب، كذلك، تضحي الكنيسة أُمّاً عندما تقبل في أمانة كلمة الله، “فتلد إلى حياة جديدة خالدة، بالكرازة والمعمودية، بنين حبل بهم من الروح القدس وولدوا من الله” (123). إن وجه الأمومة هذا الذي للكنيسة، عبّر عنه رسول الأمم، عندما كتب: “يا أولادي الصغار، الذين اتمخّض بهم من جديد إلى أن يتصوّر المسيح فيهم” (غلاطية 4 : 19). إن هذه العبارات للقديس بولس إنما تشير إلى وعي الكنيسة في أجيالها الأولى، وهي خادمة الكلمة بين البشر، إنها أمّ. وهذا الوعي، كان يسمح، ويسمح الآن، للكنيسة أن تنظر إلى سرّ حياتها ورسالتها في ضوء المثال الذي لها في أمّ الابن الذي هو “بكر بين إخوة كثيرين” (روما 8 : 29).
فيمكن القول، إذن، أن الكنيسة تتعلّم من مريم ما هي الأمومة الخاصة بها: إنها تعرف أن وجه الأمومة في رسالتها مرتبط جوهرياً بطبيعتها السريّة. وهي تتأمل في قداسة العذراء الملتحفة بالخفاء وتقتدي بمحبّتها وأمانتها في الامتثال لإرادة الآب (124). وإذا كانت الكنيسة هي العلامة والوسيلة في مجال الاتحاد الصميم بالله، فهي كذلك من جرّاء أمومتها، لأنها، وقد أحياها الروح، “تلد” بنين وبنات من الأسرة البشريّة لحياة جديدة في المسيح. وكما أن مريم هي خادمة سرّ التجسد، كذلك تظلّ الكنيسة خادمة سرّ التبنيّ بالنعمة. وفي الوقت نفسه، وعلى غرار مريم، تظلّ الكنيسة العذراء الأمينة لعريسها: “فهي أيضاً عذراء، وقد قدّمت لعريسها عهدها (125)، هذا العهد الذي تصونه كاملاً ونقياً. ذلك أن الكنيسة هي عروس المسيح، كما نتبين من رسائل بولس (أفسس 5 : 21 – 33؛ 2 كورنتس 11 : 2)، ومن تسمية يوحنا لها “عروس الحمل” (رؤيا 21 : 9). فإذا كانت الكنيسة، وهي العروس، “تصون العهد الذي قدّمته للمسيح”، فهذه الأمانة، التي أضحت صورة للزواج في تعليم الرسول (أفسس 5 : 23 – 33)، لها أيضاً قيمة أخرى: إنها مثال الهبة الكلّية لله في العزوبة “لأجل ملكوت السماوات” (متى 19 : 11 – 12؛ 2 كورنتس 11 : 2). وهذه البتولية هي، في خطى عذراء الناصرة، ينبوع يتدفّق خصباً روحياً خاصّاً: إنها ينبوع الأمومة في الروح القدس.
إلا أن الكنيسة حريصة أيضاً على الإيمان الذي استودعها إياه المسيح: فعلى غرار تلك التي كانت تحفظ كل ما كانت له علاقة بابنها الإلهي وتتأمل فيه في قلبها (لوقا 2 : 19؛ 51)، تبذل الكنيسة جهدها لتحفظ كلمة الله، وتسبر أغوار كنوزها، في حصافة وفطنة، بهدف أن تشهد لها في أمانة، وفي كل زمن، أمام جميع البشر (126).
44- وانطلاقاً من هذه العلاقة، علاقة المثال، تلتقي الكنيسة مريم وتسعى إلى الاقتداء بها: وهي، إذ تقتدي بأمّ ربها، تحفظ، بنعمة الروح القدس، إيماناً كاملاً ورجاء وطيداً ومحبة مخلصة (127)، في نقائها البتولي. فمريم، إذن، حاضرة في سر الكنيسة بوصفها النموذج. إلا أن سرّ الكنيسة يقوم أيضاً على ولادة البشر لحياة جديدة وخالدة، تلك أمومتها في الروح القدس. وفي مجال الأمومة هذا، فمريم، ليست فقط مثال الكنيسة وصورتها، بل هي أكثر من ذلك. “إن مريم تسهم، في محبة نابعة من أمومتها، في ولادة “أبناء الكنيسة الأمّ وبناتها وتنشئتهم”. فأمومة الكنيسة تتحقّق، ليس فقط على مثال والدة الإله وصورتها، بل “بمؤازرتها” أيضاً. والكنيسة تستقي في سخاء من هذه المؤازرة، أعني من الوساطة الوالدية التي تتميّز بها مريم، بمعنى أنها كانت تسهم، حتى على هذه الأرض، في ولادة أبناء الكنيسة وبناتها وتنشئتهم، بوصفها أمّا لهاذ الابن “الذي جعله الله بكراً بين إخوة كثيرين” (128).
وفي مجال هذه الولادة وهذه التنشئة “تسهم مريم بحبها الوالدي”، كما يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني (129). وإنّا لنكتشف هنا القيمة الحقيقية لما قاله يسوع لأمه ساعة الصلب: “يا امرأة، هذا ابنك”، وما قاله، بعد ذلك، للتلميذ “هذه أمّك” (يوحنا 19 : 26 – 27). إن هاتين العبارتين تحدّدان مركز مريم في حياة تلاميذ المسيح، وتعبّر، كما سبق وقلت، عن الأمومة الجديدة التي لأمّ الفادي، الأمومة الروحية التي نشأت في أعمق ما لسرّ فادي العالم الفصحي من غور. إنها أمومة على صعيد النعمة، لأنها ترتكز إلى موهبة الروح القدس الذي يبعث أبناء الله الجدد، أولئك الذين فداهم دم المسيح؛ هذا الروح الذي حلّ على الكنيسة وعلى مريم معاً يوم العنصرة.
هذه الأمومة يراها ويعيشها الشعب المسيحي، خصوصاً في الحفلات الإفخارستية، تلك التي تحيي ليتورجيا سرّ الفداء، حيث يحضر المسيح في جسده الحقيقي المولود من العذراء مريم.
والتقوى المسيحية رأت دوماً صلة عميقة بين إكرام العذراء القديسة والعبادة الإفخارستية. وهذا واقع نشهده سواء في الليتورجيا الغربيّة أو الشرقيّة، وفي تقاليد العائلات الرهبانية، وفي روحيّة الحركات المعاصرة، حتى تلك التي تتناول الشبيبة، وفي الخدمات الرعوية التي تؤدى في المعابد المريمية. إن مريم تقود المؤمنين إلى الإفخارستيا.
45- إن ميزة الأمومة، إنها تتناول الشخص. فهي تخلق دوماً علاقة، فريدة كلياً، بين شخصين: علاقة الأمّ مع ابنها، وعلاقة الابن مع أمّه. وحتى عندما يكون للأمّ بنون كثيرون، فعلاقتها الشخصيّة مع كل منهم تطيع أمومتها في جوهرها. ذلك إن كلاً منهم، قد ولد منها بطريقة خاصة به. وهذا يصحّ في ما يعود إلى كل من الوالدة والوالد. وكل ولد تحوطه أمه بمحبّة والدية تتميّز عن سواه، وتبنى عليها تنشئته ونضوجه الإنسانيان.
ويمكن القول، أن هناك قياساً بين الأمومة “على صعيد النعمة” وبين ما يميّز، على صعيد الطبيعة، العلاقة بين الأمّ وولدها. وفي هذا الضوء، يمكننا أن نفهم أكثر صيغة المفرد التي استعملها المسيح في وصيّته على الجلجلة في تعبيره عن الأمومة الجديدة التي خصّ بها والدته، والتي تتناول إنساناً بمفرده: “هو ذا ابنك”.
وعلاوة على ذلك، نتبيّن في هذه الكلمات، بوضوح كلّي سبب هذا البعد المريمي في حياة تلاميذ المسيح، ليس فقط في حياة يوحنا الحاضر في تلك الساعة عند قدمي الصليب مع والدة معلّمه، بل في حياة كل تلميذ للمسيح، وكل مسيحي. إن الفادي يستودع التلميذ أمّه، وفي الوقت نفسه، يعطيه إياها أمّاً له. فإمومة مريم، التي أضحت للإنسان إرثاً، هي عطيّة، عطيّة يقدّمها المسيح نفسه لكل إنسان في شخصه. والفادي يستودع يوحنا مريم، ويستودع مريم يوحنا. فعند قدمي الصليب، تبدأ تقدمة الإنسان ذاته لأمّ المسيح، تقدمة عُبّر عنها، بطرائق مختلفة، في تاريخ الكنيسة. والرسول والإنجيلي نفسه، بعد أن ذكر الكلمات التي وجّهها يسوع، وهو على الصليب، لأمّه وله، زاد: “ومنذ تلك الساعة، أخذها التلميذ إلى بيته الخاصّ (يوحنا 19 : 27). أجل، إن هذه الإشارة تعني أن التلميذ أعطي دور الابن وحمل مسؤولية والدة معلمه الحبيب. ولأن مريم أعطيت له شخصياً كأمّ، فهذه الإشارة تحمل، ولو بشكل غير مباشر، كل مضامين العلاقة الصحيحة التي تربط الابن بأمّه. وهذا كله يمكن أن يلخّص بعبارة “تقدمة الذات”. إن تقدمة الذات هي التجاوب مع محبة إنسان، لا سيّما إذا كان هذا الحبيب أمّاً.
إن البعد المريمي في حياة تلميذ المسيح، يعبّر عنه، بشكل خاص، بهذه التقدمة البنويّة بالذات لوالدة الإله، تلك التي بدأت في وصيّة الفادي على الجلجلة. فالمسيحي، إذ يقدّم ذاته بروح البنوَّة، لمريم، على غرار الرسول يوحنا الذي “أخذها إلى بيته الخاص” (130)، يكون له، في عداد ما يخصّه شخصياً، والدة المسيح. فتدخل في مدى حياته كلها، أعني في “الأنا” الإنسانية والمسيحية التي له. “أخذها إلى بيته الخاص”. وهو يسعى بذلك إلى أن يلفّه إشعاع الحبّ، حبّ الأمّ، الذي تحوط به أمّ الفادي أخوة ابنها في عنايتها بهم (131)، “أولئك الذين تسهم في ولادتهم وفي تنشئتهم” (132)، على مدى الموهبة الخاصة بكل منهم بقدرة روح المسيح. وهكذا، أيضاً، تمارس الأمومة بحسب الروح القدس، تلك التي أضحت دور مريم انطلاقاً من الجلجلة، عند قدمي الصليب، ومن العليّة.
46- إن هذه العلاقة البنويّة وهذا الاستسلام، استسلام الابن لأمّه، ليس فقط ينبع من المسيح، بل، يمكن القول، أنه في النهاية يصبّ في المسيح، وأن مريم لا تني تردّد لجميع البشر ما سُمع منها في قانا الجليل: “مهما قال لكم فافعلوه”. ذلك أن المسيح، هو الوسيط الأوحد بين الله والناس، “وهو الطريق والحقّ والحياة” (يوحنا 14 : 6)؛ وهو الذي أعطاه الآب العالم، لكي “لا يهلك الإنسان، بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا 3 : 16). إن عذراء الناصرة، هي أول من شهد لهذا الحب الخلاصي، حب الآب، وهي مصمّمة على أن تبقى دوماً، وفي كل مكان، أمته الوضيعة. ففي نظر كل مسيحيّ، وكل إنسان، مريم هي أوّل من “آمن” وبهذا الإيمان بالذّات، إيمان العروس والأمّ، تريد أن يكون تأثيرها في جميع الذين يستسلمون لها كبنين. ونحن نعلم أنه بقدر ما يظلّ هؤلاء الأبناء على هذا الموقف ويتعمّقون فيه، بقدر ذلك تقرّبهم مريم من غنى المسيح الذي لا يستقصى (أفسس 3 : 8)، وبقدر ذلك يعون، أكثر فأكثر، كرامة الإنسان في كمالها والغاية القصوى لدعوته، “لأن المسيح يكشف الإنسان لذاته، كشفاً كليّاً” (133). إن هذا البعد المريمي في الحياة المسيحيّة، يتّخذ وجهاً خاصاً في ما يعود إلى المرأة ووضعها كمرأة. ذلك، إن الأنوثة، ترتبط بأمّ الفادي بصلة خاصّة. وإنما هذا موضوع يمكننا أن نسبر أغواره في مناسبة أخرى. على أني أشير، هنا، إلى أن صورة مريم التي من الناصرة تسلّط أنوارها على المرأة، بوصفها امرأة؛ من جراء أن الله، في الحدث السامي، أعني تجسّد ابنه، قد لجأ إلى خدمة امرأة، وهي خدمة حرّة وفعّالة. ويمكن بالتالي أن نؤكّد أن المرأة، إذ تتّجه صوب مريم، تجد فيها السرّ الذي يمكّنها من أن تعيش في كرامة أنوثتها وتحقّق ذاتها، تحقيقاً أصيلاً. وفي ضوء مريم، تكتشف الكنيسة في وجه المرأة انعكاساً لجمال هو مرآة لأسمى ما يستطيعه قلب البشر من عواطف: كمال عطاء الذات بدافع الحب، وطاقة الصمود حيال أفدح الآلام، والأمانة اللامحدودة، والنشاط الذي لا يكلّ، وإمكانية الإنسجام بين الحدس الذي ينفذ إلى الأعماق والكلمة التي تسند وتشجّع.
47- لقد أعلن بولس السادس رسميّاً، أثناء انعقاد المجمع، أن مريم هي أمّ الكنيسة، أعني “أمّ شعب الله بأجمعه، مؤمنين ورعاة” (134). وعاد إلى تأكيد ذلك بقوّة أعظم عام 1968، في صورة الاعتراف بالإيمان المعروفة باسم “دستور إيمان شعب الله”، حيث قال: “نؤمن أن والدة الإله الفائقة القداسة، حوّاء الجديدة، أمّ الكنيسة، تواصل في السماء دورها الوالدي حيال أعضاء المسيح، بأسهامها في ولادة الحياة الإلهيّة في نفوس المفتدين، وتنميتها” (135).
لقد أظهر تعليم المجمع أن حقيقة العذراء الفائقة القداسة، والدة المسيح، تفيد التعمّق في حقيقة الكنيسة. وبولس السادس أيضاً، يوم تكلّم في وثيقة “نور الأمم” غداة أن أقرّها المجمع، أعلن: “أن معرفة حقيقة العقيدة الكاثوليكية بشأن الطوباوية مريم العذراء، ستكون دوماً مدخلاً يمكّننا من أن نتفهَّم في دقة سرّ المسيح والكنيسة” (136). إن مريم حاضرة في الكنيسة بوصفها أمّ المسيح، وفي الوقت نفسه الأم التي أعطاها المسيح الإنسان في شخص الرسول يوحنا، في سر الفداء. ذلك ما يجعل مريم، بهذه الأمومة الجديدة في الروح القدس، تلّفنا جميعاً، وكل واحد منّا، في الكنيسة. وبهذا المعنى بالذات نقول أن مريم أمّ الكنيسة، هي في الوقت نفسه، مثال الكنيسة. ذلك أن الكنيسة “يجب أن تجد في العذراء والدة الإله، الصورة الأكثر أمانة للاقتداء الكامل بالمسيح”. ذلك ما يطلبه بولس السادس ويتمنّاه (137).
هذه الصلة الخاصة التي تربط بين أمّ المسيح والكنيسة، يمكنها أن تزيد إضاءة سر “المرأة”. تلك التي تلازم وحي مخطّط الخلاص الذي أعدّه الله للبشرية، منذ الفصول الأولى من سفر التكوين حتى سفر الرؤيا. ذلك، أن مريم، الحاضرة في الكنيسة بوصفها أمّ الفادي، تسهم في حنان الأمومة، “في المعركة ضدّ قوى الظلام”، هذه المعركة التي نشهدها عبر تاريخ البشر كلّه (138). وانطلاقاً من التطابق بين الكنيسة “والمرأة الملتحفة بالشمس” (139) (رؤيا 12 : 1)، يمكن القول أن “الكنيسة، قد بلغت، في شخص العذراء الطوباويّة، الكمال الذي يجعلها “لا كلف فيها ولا غضن”، ولذلك، فإذ يرفع المسيحيون أعينهم، في إيمان، إلى مريم، عبر مسيرتهم على الأرض، “يصوّبون جهدهم للنموّ في القداسة” (140). إن مريم، ابنة صهيون المثلى، تساعد أبناءها جميعاً، حيثما كانوا، وأيّاً كانت طريقة عيشهم، على أن يجدوا في المسيح الطريق التي تقود إلى بيت الآب.
فالكنيسة، تحافظ، إذن، في حياتها كلها، على صلتها بوالدة الإله، وهذه الصلة تشمل، في سرّ الخلاص، الماضي والحاضر والمستقبل. وهي تكرمها، بوصفها أمّ البشرية، بحسب الروح، ووسيطة النعمة.
ثالثاً- معنى السنة المريمية
48- هذه الصلة الخاصّة بين البشرية وهذه الأم، هي التي حدتني على أن أعلن في الكنيسة، في هذه الحقبة التي تسبق نهاية الألف الثانية للميلاد، سنة مريميّة. إن هذه المبادرة قد سبق وأخذها بيوس الثاني عشر عندما أعلن سنة 1954 سنة مريميّة، سعياً إلى تسليط الأنوار على القداسة الفائقة التي تتميّز بها أمّ المسيح، تلك التي عبّر عنها سرّاً الحبل بها المعصوم من الخطيئة الأصلية (وقد حدّدت العقيدة في ذلك قبل مئة سنة تماماً من التاريخ المذكور) وانتقالها إلى السماء (141).
وفي خطى المجمع الفاتيكاني الثاني، اركّز الآن على حضور والدة الإله، حضوراً خاصّاً، في سرّ المسيح والكنيسة. ذلك أن هذا الحضور هو بعد أساسيّ في الرؤية اللاهوتية المريميّة التي فصّلها المجمع، وقد أنهى أعماله منذ أكثر من عشرين سنة. والسينودس الأسقفي الاستثنائي، المنعقد سنة 1985، قد دعانا جميعاً إلى التقيّد في أمانة، بما جاء به المجمع من تعليم وتوجيه. ويمكن التأكيد أن الروح القدس نفسه ينطق بهذين المرجعين، المجمع والسينودس، ليبلغ إلينا ما يريد أن يقوله للكنيسة في الحقبة الراهنة من التاريخ.
انطلاقاً من هذه القرائن، لا بدّ للسنة المريميّة من أن تحثّنا على قراءة جديدة وعميقة لما جاء في أعمال المجمع بشأن الطوباوية مريم العذراء، والدة الإله، في سرّ المسيح والكنيسة. ذلك بالذات ما أوحى بالأفكار الواردة في هذه الرسالة العامّة، والموضوع، هنا، ليس فقط ما نؤمن به من عقيدة، بل أيضاً ما يجب أن نحيا فيه من إيمان، وبالتالي “الروحية المريمية الأصيلة”، في ضوء التراث الكنسي، لا سيما تلك التي يحرّضنا المجمع على سلوكها (142). وعلاوة على ذلك، فالروحية المريمية، كما والتكريم الذي يعبّر عنها، يجدان في الخبرة التاريخية، خبرة الأشخاص ومختلف الجماعات المسيحية العائشة في وسط الشعوب والأمم على الأرض كلها، ينبوعاً غزيراً جداً ترده. وأنه ليطيب لي أن أذكر، في هذا المجال، بين معلّمي هذه الروحية وشهودها، وهم كثر، القديس “لويس ماري غرينيون دهم ونفور”، الذي كان يقترح على المسيحيين أن يتكرّسوا للمسيح بين يدي مريم، ويرى في ذلك وسيلة فعّالة للعيش، في أمانة، وفقاً لوعود المعموديّة (143). وإنه ليسرّني أن ألاحظ أن العصر الراهن لا يفتقر إلى تعابير جديدة عن هذه الروحيّة وهذا التكريم.
فهناك، إذن، مراجع لا يمكن أن نغفلها، ولا بدّ لنا من الاتصال بها في أجواء هذه السنة المريميّة.
49- هذه السنة المريميّة، ستنطلق يوم العنصرة في السابع من حزيران القادم. إذ لا بدّ من التذكير، ليس فقط أن مريم قد “سبقت” دخول المسيح الرب في تاريخ الإنسان، بل من الإشارة أيضاً، في ضوء مريم، أن تحقيق سرّ التجسّد يعني أن هذا الإنسان قد دخل في مرحلة “ملء الزمن”، وأن الكنيسة هي العلامة لذلك. فبوصفها شعب الله، تقوم الكنيسة، في إيمان، بمسيرتها صوب اليوم الأخير، في وسط الشعوب والأمم كلها، ابتداء من يوم العنصرة. وأمّ المسيح، التي كانت حاضرة منذ مطلع “زمن الكنيسة”، إذ كانت مواظبة على الصلاة مع رسل ابنها وتلاميذه بانتظار حلول الروح القدس، لا تزال ولن تزال في “طليعة” مسيرة الكنيسة هذه عبر تاريخ البشر. وهي أيضاً، تلك التي تسهم بدون هوادة، بوصفها أمة الرب، في عمل الخلاص الذي أنجزه المسيح ابنها.
وبالتالي، فالكنيسة مدعوة، في هذه السنة المريمية، ليس فقط إلى أن تستذكر كل ما يشهد له تاريخها من اسهام والدة الإله، اسهام أمّ، في عمل الخلاص في المسيح الرب، بل أيضاً أن تعدّ للمستقبل، في ما يعود إليها، السبل لهذا الإسهام، لأن نهاية الألف الثانية من التاريخ المسيحي هي، في الوقت نفسه، طليعة الألف الثالثة.
50- وكما سبق وقلنا، أن كثيرين من أخواننا غير الكاثوليك يكرّمون والدة الإله، ويقيمون الحفلات تعبيراً عن هذا الإكرام، وأخصّ بالذكر الشرقيين منهم. وهذا الواقع يسلّط ضوءاً مريمياً على الحركة المسكونية. ويطيب لي أن أشير أيضاً إلى أن سنة الألف لعماد القديس “فلاديمير” أمير “كييف” الأعظم (988) تتوافق والسنة المريمية هذه. لقد كان هذا الحدث التاريخي نقطة انطلاق المسيحية في الأرض الروسيّة آنذاك، ومنها امتدّت إلى اصقاع أخرى من شرق أوروبا. ذلك كان السبيل أيضاً إلى امتداد المسيحية، بفضل أعمال التبشير، إلى خارج أوروبا حتى مناطق شمال آسيا. وإنما أمنيتنا أن نتّحد بالصلاة، لا سيما في هذه السنة المريميّة، مع جميع من يقيمون الذكرى الألف لهذا العماد، من أرثذوكس وكاثوليك، مردّدين ومؤكدين ما كتبه المجمع: “أنّا لنجد فرحاً عظيماً وعزاء في واقع… أن الشرقيّين يتّجهون بنفس معطاء صوب والدة الإله الدائمة البتولية ليرفعوا إليها إكرامهم، تدفعهم حرارة تقاهم” (144). ومع أننا لا نزال نتألم للنتائج التي نشأت عن الانفصال الذي حدث بعد بضع عشرات من السنين (1054)، نستطيع، مع ذلك، أن نقول أنّا، في حضرة أمّ المسيح، نشعر أنّا حقيقة إخوة وأخوات في نطاق شعب مسيحيّ مدعوّ إلى أن يؤلّف أسرة واحدة، هي أسرة الله على الأرض، كما سبق وقلت في مطلع هذه السنة: “إن رغبتنا أن نوطّد مجدّداً هذا الإرث الذي يشمل أبناء هذه الأرض وبناتها جميعاً” (145).
يوم أعلنت السنة المريمية، حدّدت أن ختامها سيكون العام المقبل في عيد انتقال العذراء مريم الفائقة القداسة إلى السماء، سعياً إلى إبراز “العلامة العظيمة الظاهرة في السماء” الوارد ذكرها في سفر الرؤيا، وإلى أن نتجاوب، في الوقت نفسه، مع تحريض المجمع، الذي يتّجه نحو مريم “علامة الرجاء الوطيد والعزاء في مقدّمة شعب الله في مسيرته”. وهذا التحريض، يعبّر عنه المجمع بالشكل التالي: “فليرفع المسيحيون جميعاً إلى والدة الإله والبشر تضرّعات ملحّة. إن التي ساعدت بصلواتها الكنيسة عندما كانت في المهد نسألها أن تواصل الاستشفاع لدى ابنها، في شركة جميع القدّيسين، الآن وقد رُفعت إلى السماء في مجد عظيم فوق الطوباويين والملائكة جميعاً، إلى أن تلتئم جميع عائلات الشعوب، تلك التي تحمل ختم الاسم المسيحي الجميل أو التي لا تزال تجهل حتى اليوم مخلّصها، في السلام والوفاق، في شعب لله واحد، ليتمجّد بذلك الثالوث القدوس الواحد في الجوهر (146).
الخاتمة
51- ترفع الكنيسة كل يوم، في ختام ليتورجيا الساعات، صلاة أو “أنديفونا”، إليكم واحدة منها موجّهة إلى مريم: “يا أمّ الفادي الحنون؛ يا باب السماء الذي لا يغلق؛ يا نجمة البحر؛ هلمّي إلى إنقاذ الشعب الذي عثر ويسعى إلى أن ينهض؛ لقد ولدتِ خالقك، فذهلت الطبيعة”.
“لقد ذهلت الطبيعة”. إن كلمات “الانديفونا” هذه تعبّر عن ذهول الإيمان الذي يلازم سرّ أمومة مريم الإلهيّة. إن هذا الذهول، يلازم الإيمان، على نوع ما، في قلب الخليقة كلّها، ومباشرة في قلب شعب الله كلّه، في قلب الكنيسة. يا لروعة العمق الذي بلغه الله، هو الخالق وسيّد كل شيء، في اعتلان ذاته للإنسان (147)! ويا لتألّق مخطّطه في ردم هوّة “المسافة” اللامحدودة التي تفصل بين الخالق والخليقة! وإذا كان في ذاته اللاموصف والذي لا تستقصى أحكامه، فقد تجاوز ذاته في واقع سرّ تجسّد الكلمة، الذي صار إنساناً وولد من عذراء الناصرة.
وإذا كان قد خطّط منذ الأزل أن يدعو الإنسان إلى أن يكون شريكاً في الطبيعة الإلهية ( 2 بطرس 1 : 4)، فيمكن القول أنه قد أعدّ الإنسان لهذا “التأليه” مع اعتبار أوضاعه التاريخية، إلى حدّ أنه، حتى بعد السقطة، يظلّ مستعداً لتحقيق مخطّط محبته هذا الأزلي، بثمن عظيم، هو صيرورة ابنه الواحد معه في الجوهر إنساناً. حيال عطاء كهذا، هل يسع الخليقة كلها، ولا سيّما الإنسان المعني مباشرة، ألاّ تغمرهما الدهشة؛ ونركّز في ذلك على الإنسان الذي أُشرك في الطبيعة الإلهية في الروح القدس: “فلقد أحبّ الله العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد” (يوحنا 3 : 16).
وفي قلب هذا السرّ وذهول الإيمان هذا، نجد مريم. لقد كانت أول من خبر في ذاته حقيقته. “لقد ولدت خالقك، فذهلت الخليقة”.
52- إن كلمات هذه “الانديفونا” الليتورجية تعبّر أيضاً عن حقيقة “الانقلاب العظيم” الذي حقّقه سرّ التجسّد في الإنسان. إنه انقلاب يتناول تاريخه كلَّه، منذ البدء الذي تسود وقائعه الفصول الأولى من سفر التكوين، حتى حدّه الأقصى في رؤيا نهاية العالم، تلك التي لم يشأ يسوع أن يعلن لنا “لا يومها ولا ساعتها” (متى 25 : 13). إنه الحدّ الفاصل القائم دوماً، والذي لا هوادة فيه، بين العثرة والنهوض، بين الإنسان العائش في الخطيئة والإنسان العائش في النعمة والبرّ. والليتورجيا، لا سيما في الزمن الذي يسبق الميلاد، تضع ذاتها في المركز الحسّاس في هذا الانقلاب أو هذا الحدّ وتعي أنه واقع يوميّ، فتملي علينا النشيد: “تعال إلى انقاذ الشعب الذي يعثر ويسعى إلى النهوض”.
إن هذه الكلمات، إنما تنطبق على كلّ إنسان. تنطبق على الجماعات والأمم والشعوب، وعلى الأجيال والأزمنة في تاريخ البشر؛ تنطبق على العصر الراهن حيث نعيش، على هذه السنين الأخيرة من هذا الألف الذي يقارب نهايته: “تعال إلى إنقاذ الشعب الذي يعثر”.
تلك هي الصلاة التي نرفعها إلى مريم، “أم الفادي الفائقة القداسة”؛ الصلاة التي نرفعها إلى المسيح”، الذي دخل تاريخ الإنسان بواسطة مريم. هذه “الانديفونا” تصعد سنة بعد سنة إلى مريم، وتنوّه بالزمن الذي شهد تحقيق هذا الانقلاب التاريخي المصيريّ، والذي يتواصل، ولا رجوع إلى الوراء: الانقلاب بين واقع “العثرة” وواقع “النهوض”.
لقد وُفقّت الإنسانية إلى اكتشافات رائعة، وبلغت، في دنيا العلم والتقنية، انجازات مذهلة، وحقّقت أعمالاً عظيمة على دروب التقدّم والحضارة، بل يمكن القول أنها نجحت، في هذه السنين الأخيرة، في تسريع مسيرة التاريخ. إلا أنّ الانقلاب الأساسيّ، الانقلاب الذي يمكن أن نصفه “بالأوّلي”، يلازم دوماً مسيرة الإنسان، وعبر الطوارئ التاريخية كلّها، يرافق الإنسان، فرداً وجماعة. إنه التحدّي الدائم لضمير البشر، لضمير الإنسان عبر تاريخه كلّه: التحدّي الذي يقوم على أن يسير بدون أن “يعثر”، على طرق هي دوماً قديمة وجديدة في آن، وعلى أن “ينهض” إذا “عثر”.
والكنيسة التي ستبلغ عمّا قريب، مع البشرية كلها، حدود سنة الألفين، تقبل، في ما يعود إليها، مع مجموعة المؤمنين وكل إنسان ذي إرادة صالحة، هذا التحدّي العظيم الذي تحمله كلمات “الأنديفونا” المريمية عن “الشعب الذي يعثر والذي يسعى إلى النهوض”، وتتّجه صوب الفادي وأمّه معاً لتقول: “تعاليا إلى الإغاثة”. فهي ترى، وهذه الصلاة تشهد، الطوباويّة والدة الإله في سرّ المسيح الخلاصي وسرّها هي؛ إنها تراها عميقة الجذور في تاريخ الإنسان ودعوته الأزلية وفقاً للمخطّط الذي أقرّه الله له، بعنايته، منذ الأزل؛ إنها تراها تسهم بحضورها، حضور الأمّ، وعونها في حلّ المشكلات، المختلفة والمعقّدة، التي تلازم اليوم حياة الأشخاص والعائلات والأمم؛ إنها تراها تمدّ يد المعونة للشعب المسيحي في الكفاح الدائم بين الخير والشرّ، لئلا يتعرّض للعثرات ولكي “ينهض” إذا عثر.
إن أمنيتي الحارّة أن تسهم أيضاً التأملات التي تحملها هذه الرسالة العامّة في تجديد هذه الرؤيا في قلوب المؤمنين جميعاً.
وبوصفي أسقف روما، إني أبعث إلى جميع الذين وُجّهت إليهم هذه التأملات بقبلة السلام، قبلة أرفق بها تحيّتي وبركتي في المسيح يسوع ربنا. آمين.
رسالة أعطيت في روما، في جوار القديس بطرس، في الخامس والعشرين من آذار سنة ألف وتسعمائة وسبع وثمانين، الموافق عيد البشارة بالربّ، في السنة التاسعة لحبريّتي.
يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) انظر الدستور العقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 52 وكل الفصل المعنون: “الطوباوية مريم العذراء، أم الله في سر المسيح و الكنيسة”.
2) عبارة “ملء الأزمنة” تقابل عبارات مماثلة في اليهودية الكتابية “انظر تكوين 29، 1؛ 1 ملوك 7، 12؛ طوبيا 14، 5) واليهودية غير الكتابية، وتوافق خاصة ما جاء في العهد الجديد (انظر مرقس 1، 15؛ لوقا 21، 24؛ يوحنا 7، 8؛ أفسس 1، 10). إنها من الوجهة الصورية تشير ليس فقط إلى ختام سلسلة زمنية. بل خاصة إلى نضوج واكتمال حقبة من السنين لها أهمية خاصة لأنها تهدف إلى تحقيق انتظار، فتكتسب هكذا بعداً اسخاتولوجياً. إذا اكتفينا بما جاء في غلاطية 4، 4 وفي سياق هذا النص فمجيء ابن الله هو الذي أظهر أن الوقت قد بلغ ملأه إذا جاز القول. أو بتعبير آخر أن الوقت المحدّد بالوعد لإبراهيم وبالشريعة لموسى قد بلغ الذروة بمعنى أن المسيح أنجز الوعد الإلهي و أبطل الشريعة القديمة.
3) انظر كتاب القداس الروماني، مقدمة رتبة الثامن من كانون الأول (عيد الحبل بلا دنس)؛ القديس أمبروسيوس: في حال البتولية، 15، 93 – 94: الآباء اللاتين 16، 342؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 68.
4) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 58.
5) بولس السادس، رسالة عامة؛ “أم المسيح” (15 أيلول 1966)؛ أعمال الكرسي الرسولي (1966) صفحة 745 – 749؛ إرشاد رسولي “العلامة الكبرى” (13 أيار 1967) أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967) صفحة 465 – 475؛ إرشاد رسولي “العبادة المريمية” (2 شباط 1974) أعمال الكرسي الرسولي (1974) صفحة 113 – 168.
6) العهد القديم بشّر بأنواع مختلفة بسرّ مريم، انظر القديس يوحنا الدمشقي: عظة في الانتقال 1، 8 – 9، “الينابيع المسيحية” 80، 103 – 107.
7) انظر “تعاليم يوحنا بولس الثاني” 2، 6 / 2 (1983)، 225 – 226؛ بيوس التاسع رسالة رسولية “الإله الذي لا يوصف” (8 كانون الأول 1854: أعمال الحبر الأعظم بيوس التاسع، جزء أول ص 597 – 599.
8) انظر دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عد 22.
9) مجمع أفسس المسكوني: قرارات المجامع المسكونية، بولونيا 1973، 41 – 44؛ 59 – 61؛ (الوثائق المقدسة 250 – 264)؛ انظر مجمع خلقيدونيا المسكوني: المرجع المذكور 84 – 87 (الوثائق المقدسة 300 – 303).
10) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عد 22.
11) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 52
12) انظر المرجع المذكور عد 58
13) المرجع المذكور عد 63؛ انظر القديس امبروسيوس “شرح الإنجيل حسب لوقا” 2، 7؛ في حالة البتولية 14، 88 – 89؛ الآباء اللاتين، 341
14) انظر دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 64
15) المرجع عينه
16) “أزيلوا الشمس التي تنير عالمنا الزمني، فهل يبقى نهار؟ أزيلوا مريم، نجمة البحر الواسع، فماذا يبقى سوى ليل بهيم، وظلال الموت والعتمات الكثيفة؟ القديس برنردس، “في ميلاد الطوباوية مريم، عظة في “مجرى الماء”، عد 6، أعمال القديس برنردس، 5، 1968، 279؛ انظر عظة في مدائح العذراء مريم؛ المرجع ذاته 1966، 34 – 35
17) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 63
18) المرجع عينه.
19) عن اختيار مريم انظر يوحنا الدمشقي، عظة في المولد 7، 10 وعظة في النياح 1، 3، الينابيع المقدسة 80، 85: “لأنها هي المختارة منذ الأجيال القديمة، بفضل اختيار وعطف الله والآب الذي ولدك (أنت كلمة الله) قبل الأزمنة دون أن تنفصل عنه وبدون تغيير، هي التي ولدتك، لحماً من لحمها في الأزمنة الأخيرة…”
20) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” ع 55
21) في تراث الآباء عن هذا التعبير فيض من التأويلات المتنوعة: انظر أوريجانوس، عظة لوقا 6، 7 أعمال الآباء 87، 148؛ سفريانوس ده غابالا، في خلق العالم، عظة 6، 10 الآباء اليونان 56، 497 – 498؛ يوحنا فم الذهب (المنحول) في بشارة والدة الله ضد آريوس الكافر، الآباء اليونان 85، 441 – 446؛ انتيبار ده بوسترا، عظة ثانية في البشارة لوالدة الله القديسة 3 – 11، الآباء اليونان 85، 1777 – 1783؛ سوفرونيوس الأورشليمي عظة ثانية في البشارة لوالدة الله القديسة 17 – 19، الآباء اليونان 3 / 87، 3235 – 3240؛ يوحنا الدمشقي، عظة في النياح 1، 7؛ أيرونيموس، رسالة 65، 9، الآباء اللاتين 22، 628 امبروسيوس، شروح في إنجيل لوقا 2، 9؛ اغوسطينوس عظة 291، 4، 6؛ الآباء اللاتين 38، 1318 – 1319؛ انكيريديون 36، 11، الآباء اللاتين 40، 250، بطرس كريسولوغوس عظة 142، الأباء اللاتين 52، 579 – 580؛ عظة 143، الآباء اللاتين 52، 583، فولجنسيوس الروسبي رسالة 17، 6، 12 والآباء اللاتين 65، 458؛ أعمال برنردس، 4، 1966، 36 – 38
22) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد55
23) المرجع عينه عد 53
24) انظر بيوس التاسع، رسالة رسولية “الله الذي لا يوصف” (8 كانون الأول 1854): أعمال البابا بيوس التاسع جزء أول، 616؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 53
25) جرمانوس القسطنطيني، عظة في البشارة لوالدة الله القديسة، الآباء اليونان 98، 327 – 328؛ اندراوس القريطشي، قانون في مولد الطوباوية مريم 4، الآباء اليونان 97، 1321 – 1322؛ في مولد الطوباوية مريم، الآباء اليونان 97 811 – 812؛ عظة في نياح مريم 1، الآباء اليونان 97، 1067 – 1068
26) ليتورجيا الساعات، 15 آب (انتقال العذراء مريم) نشيد المساء والثاني (طبعة لاتينية)؛ القديس بطرس داميان، أناشيد وصلوات 47، الآباء اللاتين 145، 934
27) الكوميديا الإلهية، الفردوس 33، 1، انظر ليتورجيا الساعات، ذكر العذراء مريم، السبت، النشيد الثاني لفرض القراءات (الطبعة اللاتينية).
28) أغوسطينوس، البتولية المقدسة 3، 3 الآباء اللاتين 40، 398؛ عظة 25، 7 الآباء اللاتين 46، 937 – 938.
29) دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” عد 5
30) هذا تعليم تقليدي، سبق القديس ايريناوس فعرضه: “كما أنه بمعصية عذراء أصيب الإنسان فسقط ومات، كذلك بطاعة عذراء لكلمة الله انتعش الإنسان وبحياة اقتبل الحياة…. لأنه كان لا بدّ… لحوّاء أن تستعاد في مريم، لكي بعذراء أصبحت محامية عن عذراء تسقط وتبطل معصية عذراء بطاعة عذراء”. شرح الكرازة الرسولية 33، انظر أيضاً، ضد الهراطقة 5، 19، 1
31) الفاتيكان الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” عد 5
32) المرجع عينه، عد 5؛ انظر دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 56
33) الفاتيكان الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 56
34) المرجع عينه عد 56
35) المرجع عينه عد 53؛ أغوسطينوس في البتولية المقدسة، 3، 3 الآباء اللاتين 40، 398 عظة 215، 4، الآباء اللاتين 38، 1074؛ عظة 196، 1، الآباء اللاتين 38، 1019 “في استحقاقات الخطأة والمغفرة لهم” 1، 29، 57، الآباء اللاتين 44، 142، عظة 25، 7، الآباء اللاتين 46، 937 – 938؛ لاون الكبير، مقالة 21 في ميلاد الرب 1
36) انظر “الصعود إلى جبل الكرمل” 1، 2 فصل 3، 46
37) انظر دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 58
38) المرجع عينه عد 58
39) انظر دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” عد 5
40) في مشاركة مريم المسيح بموته، أو تألمها معه نظر القديس برنردس، عظة للأحد الواقع في أسبوع عيد الانتقال 14، أعمال القديس برنردس 5، 1968، 273
41) ايرينياوس، ضد الهرطقات 3، 22، 4 الينابيع المسيحية 211، 438 – 444، انظر دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 56
42) المرجع عينه عد 56 والآباء المذكورين في الحاشيتين 8 و 9
43) “المسيح حق والمسيح جسد، المسيح حق في روح مريم، والمسيح جسد في بطن مريم”: أغوسطينوس عظة 25 (عظات غير منشورة) 7، الآباء اللاتين 46، 938
44) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 60
45) المرجع عينه عد 61
46) المرجع عينه عد 62
47) إن ما كتبه أوريجانوس في حضور مريم ويوحنا على الجلجلة بات معروفاً: “يجب أن نتجرأ فنقول أن الأناجيل هي البواكير بين سائر أسفار الكتاب المقدس، وبين الأناجيل إنجيل يوحنا هو الباكورة، ولا يفهمه إلا من اتكأ على صدر يسوع وقبل مريم منه أمّاً له”: شروح على إنجيل يوحنا 1، 6، الآباء اليونان 14، 31؛ انظر امبروسيوس، عرض الإنجيل حسب لوقا، 10 129 – 131
48) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 54 و 53. نصّ هذا العدد الأخير يستشهد باغوسطينوس في البتولية المقدسة 6، 6، الآباء اللاتين 40، 399
49) المرجع عينه عد 55
50) لاون الكبير مقالة 26 في ميلاد الرب، 2
51) دستور عقائدي في الكنيسة، “نور الأمم”، عد 59
52) اغوسطينوس، مدينة الله، 18، 51
53) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم”، عد 8
54) المرجع عينه عد 9
55) المرجع عينه عد9
56) المرجع عينه عد 8
57) المرجع عينه عد 9
58) المرجع عينه عد 65
59) المرجع عينه عد 59
60) انظر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” عد 5
61) انظر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 63
62) المرجع عينه عد 9
63) المرجع عنيه عد 65
64) المرجع عينه عد 65
65) المرجع عينه عد 65
66) المرجع عينه عد 13
67) المرجع عينه عد 13
68) المرجع عينه عد 13
69) انظر كتاب القداس الروماني، صيغة تكريس الكأس في الصلوات الإفخارستية.
70) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 1
71) المرجع عينه عد 13
72) المرجع عينه عد 15
73) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قرار في الحركة المسكونية “استعادة الوحدة” عد 1
74) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 68 و 69، في ما يتعلق بدور مريم في تنشيط الوحدة بين المسيحيين والعبادة لمريم في الشرق، انظر لاون الثالث عشر رسالة عامة “مساعدة الشعب” (5 أيلول 1895): أعمال لاون 15، 300 – 312
75) انظر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قرار في الحركة المسكونية “استعادة الوحدة” عد 20
76) انظر المرجع عينه عد 19
77) المرجع عينه عد 14
78) المرجع عينه عد 15
79) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 66
80) المجمع المسكوني الخلقيدوني، تحديد الإيمان، قرارات المجامع المسكونية البولونية 1973، 86 الوثائق المقدسة 301
81) انظر “ودَّاشة مريم” (مدائح مريم) الذي يأتي كملحق لملحق في كتاب المزامير الاثيوبي ويحتوي على مدائح وصلوات لمريم لكل يوم من الأسبوع. انظر أيضاً “ماتشافا كيدانا مهرات” (كتاب عهد الرحمة)؛ لا بدّ من الإشارة إلى المقام الهام الذي تشغله مريم في كتب الترانيم والليتورجية الاثيوبية.
82) انظر مار أفرام، مدائح الميلاد، الكتبة السريانيون 82 – الكتبة المسيحيون الشرقيون، 186
83) غريغوار الناريكي، كتاب الصلوات، الكتبة المسيحيون 78، 160 – 163 و 428 – 432
84) المجمع المسكوني النيقاوي الثاني، قرارات المجامع المسكونية، بولونيا 1973، 135 – 138 والوثائق المقدسة 600 – 609
85) انظر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 59
86) انظر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في الحركة المسكونية “استعادة الوحدة” عد 19
87) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 8
88) المرجع عينه عد 9
89) كلمات هذا النشيد (تعظم نفسي الرب..) تحتوي كما هو معروف مقاطع كثيرة من العهد القديم أو تذكر بها.
90) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” عد 2
91) انظر مثلاً يوستينوس، حوار مع تريفون 100، اوتّو الثاني 358؛ ايريناوس، ضد الهرطقات 3، 22، 4، الكتبة المسيحيون 211، 439 – 445؛ ترتليانوس، في جسد المسيح، 17، 4 – 6
92) انظر ابيفانيوس، باناريون 2، 2، هرطقات 78، 18؛ الآباء اليونان 42، 727 – 730
93) انظر مجمع تعليم الإيمان، ارشاد في الحرية المسيحية والتحرير (22 آذار 1986) عد 97
94) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 60
95) المرجع عينه عد 60
96) انظر الصيغة: وسيطة لدى الوسيط، التي يستعملها القديس برنردس، في عظة الأحد الواقع في الأسبوع الذي يلي عيد انتقال العذراء، عظة 2، أعمال القديس برنردس 5، 1968، 263؛ إن مريم كمرآة نقية، تعكس نحو ابنها كل المجد وكل الشرف الذي ينالها. برنردس أيضاً، عظة في مولد الطوباوية مريم – قناة الماء 12، الطبعة المذكورة 283
97) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 62
98) المرجع عينه عد 62
99) المرجع عينه عد 61
100) المرجع عينه عد 62
101) المرجع عينه عد 61
102) المرجع عينه عد 61
103) المرجع عينه عد 62
104) المرجع عينه عد 62
105) المرجع عينه عد 62 – الكنيسة في صلاتها تعترف أيضاً وتحتفل بدور مريم كأم، “دور شفاعة وسماح، ابتهال ونعمة، مصالحة وسلام” (انظر مقدمة رتبة القداس للطوباوية مريم البتول، أم النعمة ووسيطتها، في مجموعة قداسات الطوباوية مريم البتول (طبعة 1987، 1، 120).
106) المرجع عينه عد 62
107) المرجع عينه عد 62 انظر يوحنا الدمشقي، عظة أولى في النياح، 11 – عظة ثانيةن 2، 14؛ عظة ثالثة، 2: الكتبة المسيحيون 80، 111 – 112؛ 127 – 131؛ 157 – 161؛ 181 – 185؛ القديس برنردس، عظة في انتقال الطوباوية مريم، 1 – 2، اعمال القديس برنردس 5، 1968، 228 – 238
108) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 59؛ انظر بيوس الثاني عشر، دستور رسولي “الله الكلي الجودة” (أول تشرين الثاني 1950): أعمال الكرسي الرسولي 42 (1950) ص 769 – 771: القديس برنردس يصوّر مريم محاطة من كل جهة ببهاء مجد ابنها، عظة الأحد الواقع في الأسبوع الذي يلي الانتقال، 3: أعمال القديس برنردس 5، (1968) 263 – 264
109) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 33
110) في ما يتعلق بهذه الناحية الهامة من وساطة مريم، وساطة التي تلتمس وتنال الرأفة من ابنها الديَّان، انظر القديس برنردس، عظة الأحد الواقع في الأسبوع الذي يلي الانتقال 1 – 2، أعمال القديس برنردس 5، 1968، 262 – 263؛ لاون الثالث عشر، الرسالة العامة” شهر تشرين الأول” (22 أيلول 1891)، أعمال لاون 11، 299 – 315
111) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 55
112) المرجع عينه عد 59
113) المرجع عينه عد 36
114) المرجع عينه عد 36
115) في ما يتعلق بقضية “مريم الملكة” انظر يوحنا الدمشقي، عظة في الميلاد 6؛ 12؛ عظة في النياح 1، 2، 12، 14؛ 2، 11؛ 3، 4: الينابيع المسيحية 80، 59 – 60؛ 77 – 78؛ 83 – 84؛ 113 – 114؛ 117؛ 151 – 152؛ 189 – 193
116) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 62
117) المرجع عينه عد 63
118) المرجع عينه عد 63
119) المرجع عينه عد 66
120) انظر امبروسيوس، في إرشاد البتول، 14، 88 – 89، الآباء اللاتين 16، 341؛ اغوسطينوس عظة 215، 4، الآباء اللاتين 38، 1074؛ في قداسة البتولية 2، 2؛ 5، 5؛ 6، 6: الآباء اللاتين 40، 397 و 398 – 399؛ عظة 191، 2، 3: الآباء اللاتين 38، 1010 – 1011
121) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 63
122) المرجع عينه عد 64
123) المرجع عينه عد 64
124) المرجع عينه عد 64
125) المرجع عينه عد 64
126) انظر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” عد 8؛ القديس بوناونتورا، شروح في إنجيل لوقا، إلى المياه الصافية، 7، 53 عد 40؛ 68 عد 109
127) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 64
128) المرجع عينه عد 63
129) المرجع عينه عد 63
130) معروف أن التعبير اليوناني “آيسِ تَا إيديا” يتخطّى بالمعنى مجرد استقبال التلميذ لمريم في بيته، استضافتها في منزله. إنه يعني بالأحرى “شركة حياة” تنشأ بين الاثنين عملاً بكلمة المسيح المنازع – انظر اغوسطينوس، مقالة في إنجيل يوحنا 119، 3: “استقبلها عنده، لا في منزله، لأنه لم يكن يملك شيئاً يخصه، بل أفسح لها مكاناً في المسؤوليات التي كان يكرس ذاته لها من كل قلبه”.
131) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 62
132) المرجع عينه عد 63
133) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي، الكنيسة في العالم “فرح ورجاء”، عد 22
134) انظر بولس السادس، خطبة 21 تشرين الثاني 1964: أعمال الكرسي الرسولي 56 (1964) ص 1015.
135) بولس السادس، قانون إيمان شعب الله، (30 حزيران 1968)، عد 15 أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968) ص 438 – 439
136) بولس السادس، خطبة 21 تشرين الثاني 1964: أعمال الكرسي الرسولي (1964) ص 1015
137) المرجع عينه، ص 1016
138) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي، الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عد 37
139) انظر القديس برنردس، عظة للأحد الواقع في الأسبوع الذي يلي الانتقال، أعمال القديس برنردس 5، 1968، 262 – 274
140) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 65
141) انظر الرسالة العامة “التاج المشّع” (8 أيلول 1953) أعمال الكرسي الرسولي، 45 (1953) ص 577 – 592؛ بيوس العاشر في رسالته العامة “إلى ذلك اليوم” (2 شباط سنة 1904) بمناسبة مرور خمسين سنة على تحديد عقيدة الحبل بالطوباوية مريم بلا دنس، كان قد أعلن يوبيلاً فوق العادة لبضعة أشهر، أعمال الحبر الأعظم بيوس العاشر 1، 147 – 166
142) انظر دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 66 و 67
143) القديس لوي – ماري غرينيون ده مونفور، مقالة في العبادة الصحيحة للعذراء القديسة. يحق لنا أن نقارن بين هذا القديس والقديس الفونس ماري ده ليغوري الذي يحتفل في هذه السنة بالذكرى المئوية الثانية لوفاته. انظر بين أعماله كتابه: أمجاد مريم.
144) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 69
145) عظة الأول من كانون الثاني سنة 1987
146) دستور عقائدي في الكنيسة “نور الأمم” عد 69
147) انظر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” عد 2؛ “في هذا الوحي يتوجه الله الذي لا يرى في محبته التي لا حد لها إلى البشر مثله إلى أوليائه، يتحدث إليهم ليدعوهم ويقبلهم أن يشتركوا في حياته”.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post