الدفاع عن المسيحية
القديس يوستينوس الشهيد
دفاع القديس يوستين من النصوص الليتورجية في القرن الثاني
نص الكتاب
إلى الإمبراطور تيطس إيليوس هادريانوس أنتونينوس بيوس، القيصر الجليل.
إلى فيريسيموس الفيلسوف ابنه.
إلى لوسيوس بن قيصر بالطبيعة وابن بيوس بالتبنِّي، الفيلسوف صديق المعرفة.
إلى مجلس الشيوخ الموقر.
إلى كل الشعب الروماني.
لصالح البشر من كل جنس المكروهين والمضطهدين ظلمًا، وأنا أحدهم، أنا يوستينوس بن برسكوس بن باخويوس، من فلافيا نيابوليس بسوريا، أُوجِّه خطابي هذا والتماسي.
إن مَنْ كان حقًا تقيًا حكيمًا، ويحب الحق وحده ويقدِّره يرفض التبعيَّة للقدماء، عندما تكون آراؤهم فاسدة. فإنه على صديق الحق أن يحافظ على العدالة في كلماته وفي أعماله بكل وسيلة حتى ولو كان في ذلك خطر على حياته.
فيا من تسمعون الناس في كل مكان يدعونكم أتقياء حكماء، حامي العدالة محبِّي المعرفة، ليس لأجل تملُّقكم، ولا لكي نحظى برضاكم، كتبنا هذا المقال. لقد أتينا نطلب منك محاكمتنا حسب العدالة بعد تحقيقٍ كافٍ. فلا تحكموا منساقين وراء المزاعم الباطلة رغبة في الزلفي لمروِّجي الإشاعات الخبيثة التى تثبَّتت بمرور الزمن، وأصحاب الخرافات العديمي التبصُّر.
إننا نوقن أنه لا يستطيع أحد أن يؤذينا إن لم نكن مذنبين فلا يمكنكم أن ترهقوا أرواحنا.
وحتى لا تعتقدوا أن هذه إن هي إلا كلمات في الهواء وتفاخر باطل، فإننا نطلب تحقيق التهم الموجَّهة ضدَّنا. وإن ثبت صحَّتها نعاقب. وإذا لم يكن هناك لوم علينا، فهل من العدالة أن تحكموا على الأبرياء بناء على الشائعات الكاذبة، إنكم بالحري تحكمون على أنفسكم إذا اخترتم الانقياد للهوى وليس للعدالة في تصرُّفكم في الأمور.
إن كل إنسان حكيم يعترف بحق الرعايا في إثبات براءة سلوكهم وكلماتهم من ناحية، وبواجب الحكام أن يستوفوا التقوى والحكمة في قراراتهم، وليس العنف والاستبداد، من ناحية أخرى. وهكذا يصبح الحكام ورعاياهم جميعًا سعداء.
فعلينا أن نعرض سيرتنا وتعاليمنا أمام أنظار الجميع، خشية أن نحسب مسؤولين أمام ضمائرنا عن الخطايا التى تصنعونها عن جهل إذا كنَّا لا نعرفكم بأنفسنا، وعليكم أن تسمعونا وتحكموا بغير انحياز حسبما تقتضيه الحكمة. فإذا لم تراعوا العدالة بعد استنارتكم، فسوف تكونون حينئذ بلا عذر أمام اللَّه.
تهمة الاسم
إن الاسم ليس صالحًا ولا طالحًا، إنما الأعمال المتعلِّقة بالاسم هي التي يجب أن نحكم فيها. فلو كان اسمنا هو تهمتنا، لكنَّا أفضل الناس.
وإننا لا نعتقد أنه يحق لنا أن نكون مبرَّرين بناء على اسمنا وحده إذا زللنا. على أنه أيضًا، إذا ثبت أن أسلوب حياتنا لا تشوبه شائبة، عليكم أن تبذلوا كل جهودكم حتى لا يُطعن في عدالتكم بمعاقبتكم الأبرياء ظلمًا. ولا يصح أن يكون الاسم وحده سندًا للمديح أو اللوم، إذا لم يوجد في الأعمال شيئًا يستحق المديح أو اللوم.
الاعتراف بالإيمان
كان أحرى بكم أن تعاقبوا الذين يتَّهموننا بأننا مسيحيُّون، فإذا أنكر أحدنا وقال أنه ليس مسيحيًا، تخلون سبيله بسبب أنكم لا ترونه مذنبًا. ولكن إن اعترف، فإن اعترافه ذاته يكون سبب الحكم عليه. ولذلك نحن نطالب بفحص سلوك من يعترف ومن ينكر، حتى يبيِّن كل واحد أمره بأعماله.
ولاحظوا أننا نتكلَّم هكذا من أجل منفعتكم: إذ في استطاعتنا أن ننكر عندما نسأل.
لماذا لا يقدِّم المسيحيُّون الذبائح؟
إننا لا نريد أن نشترى الحياة بثمن الكذب. إننا نشتهي الحياة الأبديَّة غير الفاسدة، ونفضِّل الحياة مع اللَّه خالق الكون. فإذا كنَّا لا نقدِّم ذبائح أو باقات ورد للأصنام التى صنعها الناس وجعلوها في الهياكل، فذلك لأننا لا نرى مظهرًا للألوهيَّة في هذه المادة عديمة الحياة.
ثم يستطرد القدِّيس يوستينوس كلامه عن سخافة عبادة الأوثان، فيقارن بين الوثنيَّة والمسيحيَّة، ثم يعقب بالكلام عن نزاهة المسيحيَّين.
عرض نزاهة المسيحيَّين
يقول القدِّيس يوستينوس في خطابه للإمبراطور أنه حينما تسمعون إننا ننتظر ملكوتًا، تفترضون بغير تدقيق أن الأمر يتعلَّق بمملكة بشريَّة. لكننا نتكلَّم عن ملكوت اللَّه. وأن ما يثبت ذلك هو أننا نرُد على أسئلتكم بأننا مسيحيُّون في حين أننا نعرف أن هذا الاعتراف سوف يؤدِّي إلي الموت. فلو كنا ننتظر ملكوتًا أرضيًا، لكننا ننكر لكي ننقِذ حياتنا، ونختبئ حتى لا يخيب آمالنا. ولكن رجاءنا ليس في هذا الزمن الحاضر؛ ونحن لا نخاف أيضًا من جلاَّدينا؛ وعلى أيّ حال، أليس الموت محتومًا؟
عدم الخوف من الموت
الموت لا يخيفنا: وكل الناس يعلمون أنه لابد من الموت ولا جديد في هذا العالم. وإذا كان جلاَّدونا يعتقدون أنه لا يوجد شيء بعد الموت، وأن الأموات يفقدون كل شعور، فهل هم يؤدُّون لنا خدمة بتخليصهم إيَّانا من آلام واحتياجات هذا الدهر؛ بل هم لا يُسلَمون من اللوم بسبب قسوتهم وعدم إنسانيَّتهم لأنهم لا يقتلوننا لكي يخلِّصوننا، إنما لكي ينزعوا عنَّا الحياة والسعادة.
إنكم تجدون فينا أكثر الأصدقاء الأنصار حماسًا لأجل السلام؛ لأنه بحسب تعاليم ديانتنا، لا يستطيع أحد أن يتهرَّب من اللَّه، سواء كان شرِّيرًا بخيلاً أو خبيثًا، أو كان رجلاً شريفًا ولكن كل واحد يذهب إلي العقاب الأبدي أو الخلاص الأبدي كنحو أعماله. لو كان كل الناس مقتنعين بذلك، لما رغب أحد أن يقترف ذنبًا في لحظة ما، لأنه يعلم أنه سيلقى العذاب الأبدي في النار، ولكان كل إنسان يضبط نفسه تمامًا، ويزيِّن نفسه بكل الفضائل حتى ينال الخيرات التي وعد بها اللَّه، وينجو من العقاب.
مخافة الرب طريق الاستقامة
ليس الخوف من قوانينكم ومن تعذيبكم هو ما يجعل المذنبين يبحثون عن طريقةٍ ليختبئوا؛ فإنهم يعرفون أنهم يستطيعون أن يتهرَّبوا منكم لأنكم بشر وهم يفعلون الشرّ. ولكنهم لو علموا يقينًا أنه لا يُخفى شيء على اللَّه، سواء إن كان عملاً أو في السريرة أيضًا، فإن العقاب الذي يوشك أن يتهدَّدهم يجعلهم يسلكون في تمام النظام. أنكم توافقوننا أنتم أنفسكم على هذا الرأي.
يبدو حقًا أنكم تخشون أن تروا كل الناس وقد صاروا فضلاء وليس لكم من تشتدُّون عليه. أن ذلك سلوك الجلاَّدين وليس سلوك الأمراء الأخيار. وإننا مقتنعون أن كل ذلك، كما قلنا، من عمل تلك الأرواح الشريرة التي يقدِّم لها الجهلاء الذبائح والعبادات. أما أنتم فتحبون التقوى والحكمة.
عبادة اللَّه
وأي ذي رأي سديد لا يُقرّ أننا لسنا كافرين؟ وإذ نعلم كما تُعلِّمنا ديانتنا، أن اللَّه ليس في حاجة إلي دم ولا إلي ذبائح ولا إلى بخور، فنحن نسبِّحه حسب قوَّتنا بمدائح التقوى والشكر في كل ما نأكل. إن طريقة تكريمه الحقيقيَّة، حسب ما تعلَّمنا، ليست في إحراق الأشياء التى جعلها اللَّه لأجل معيشتنا، بلا فائدة، بل في استعمالها من أجل أنفسنا، وفي إشراك للفقراء فيها، وفي عبادته علانيَّة وتقديمنا له تسابيح الشكر من أجل الحياة التى وهبها لنا، ومن أجل عنايته لحفظ صحَّتنا، ومن أجل خصائص كل الأشياء، وتغيُّرات فصول السنة. أننا نطلب منه أيضًا الخلود في الدهر الآتي بسبب الإيمان الذي لنا فيه. وسوف نبيِّن لكم أيضًا أننا نعبد ذاك الذي علَّمنا هذه الأمور، يسوع المسيح المصلوب في زمن بيلاطس بنطس حاكم اليهوديَّة في زمن طيباريوس قيصر.
إننا نحذِّركم من الشياطين لئلاَّ يخدعوكم ويمنعوكم عن فهم ما نكلِّمكم به، لأننا منذ آمنَّا باللَّه الكلمة المتجسِّد نبذنا عبادتهم.
الانتقال من الظلمة إلى النور
في الزمن الماضي، كنا نُسرّ بالفجور، أما اليوم فإن الطهارة هي كل ملذَّاتنا. كنا نستسلم للسِحر، أما الآن فإننا نكرِّس أنفسنا للَّه الصالح. كنا نحب المال والممتلكات ونبحث عنها أكثر من كل شيء، أما الآن كل أموالنا مشتركة يقاسمنا فيها الفقراء.
كانت الأحقاد تفصلنا عن بعضنا البعض، وكانت الفروق بين العادات والتقاليد لا تسمح لنا بقبول الغريب في بيتنا، أما اليوم بعد مجيء المسيح، فإننا نعيش معًا، ونصلِّي من أجل أعدائنا، ونحاول أن نكسب مضطهدينا الظالمين.
أرى أنه يحسن أن نذكِّركم ببعض تعاليم المسيح نفسه. وعليكم بفضل مقدرتكم وسلطانكم الإمبراطوري، أن تحكموا إذا كانت التعاليم التي أخذناها ونسلِّمها هي تعاليم مطابقة للحق.
الطهارة
“كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها” (مت 5: 28-29). “خير لك أن تدخل ملكوت اللَّه أعور من أن تكون لك عينان وتطرح في جهنم النار” (مر 9: 47). “ومن يتزوَّج مطلَّقة فإنه يزني” (مت 5: 32).
“ليس الجميع يقبلون هذا الكلام، بل الذين أُعطي لهم. لأنه يوجد خِصيان وُلدوا هكذا من بطون أمَّهاتهم. ويوجد خِصيان خَصاهم الناس. ويوجد خِصيان خَصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات. من استطاع أن يقبل فليقبل” (مت 19: 11-12).
وهكذا، فإن الذين بحسب القانون البشري يعقدون زواجًا مضاعفًا، والذين ينظرون إلى امرأة ليشتهوها متساوون في الذنب أمام ربنا. فهو لا يمنع الزنا فحسب، بل يمنع نيَّة الزنا أيضًا، لأن أفكارنا معلومة لدى اللَّه مثل أعمالنا.
إن رجالاً ونساء كثيرين، إذ تعلَّموا منذ الصبا في ناموس المسيح، ظلُّوا أنقياء حتى سن الستين والسبعين: وإني اَفتخر بأن أذكر لكم بعض أمثلة هؤلاء في كل الطبقات. وهل يلزم أن أذكركم أيضًا بالعدد الغفير من أولئك الذين تركوا الرذيلة لكي يخضعوا لهذه التعليم؟ والمسيح لم يدع الأبرار والأطهار للتوبة، بل الكفرة والمرذولين والأشرار. ألم يقل: “لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة” (مر 2: 17). لأن الآب السماوي يفضل توبة الخاطئ على معاقبته.
الرحمة والمحبَّة لكل الناس
وعن المحبَّة لكل الناس قال: “لأنه أن أحببتم الذين يحبُّونكم فأيّ أجر لكم. أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك” (مت 5: 46).“وأما أنا فأقول لكم أحبُّوا أعداءكم. باركوا لأعينكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم” (مت 5: 44).
الصدقة وعن واجب العطاء للفقراء وعدم عمل أيّ شيء من أجل المجد الباطل يقول: “ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تردُّه” (مت 5: 42).“وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردُّوا منهم فأيّ فضل لكم. فإن الخطاة لكي يستردُّوا منهم المثل” (لو 6: 34).”لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون” (مت 6: 19-20).”لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه. أو ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه” (مت 16: 26).”فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم” (لو 6: 36).”لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين” (مت 5: 45).
عدم الاهتمام بالأكل والشرب
“لا تهتمُّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللُباس” (مت 6: 25).
“انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها” (مت 6: 26). “فلا تهتمُّوا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس” (مت 6: 31).”لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولاً ملكوت اللَّه وبرُّه كلها تزاد لكم” (مت 6: 32-33).
“لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا” (مت 6: 21). “احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات” (مت 6: 1).
الوداعة والتواضع
علينا أن نكون متواضعين، في خدمة الجميع وودعاء؛ وإليكم التعاليم التى يعطينا إيَّاها في هذا الموضوع: “من لطمك على خدَّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاُترك له الرداء أيضًا” (مت 5: 39-40). “كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم” (مت 5: 22). “ومن سخَّرك ميلاً واحدًا، فاذهب معه اثنين” (مت 5: 41). “فليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجِّدوا أباكم الذي في السماوات” (مت 5: 16).
نبذ العنف
لا يليق بنا أن نأتي بأعمال العنف؛ فإن اللَّه لا يريد منا أن نقلِّد الأشرار، لكنه يدعونا إلى الصبر والوداعة لكي ننتزع الناس من دناءة الأهواء الشرِّيرة. ويمكننا أن نذكر لكم أمثلة عديدة عن أشخاص عاشوا بينكم، نبذوا عاداتهم العنيفة الاستبداديَّة، إذ غلبهم منظر فضيلة جيرانهم الذي يرونه كل يوم، غلبهم صبر زملائهم العجيب في احتمال الظلم وغلبتهم الخبرة التي اكتسبوها من علاقاتهم.
التمسُّك بالحق
يأمرنا المسيح ألا نحلف أبدًا وأن نقول الصدق، يقول:”لا تحلفوا البتَّة” (مت 5: 34). “بل ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرِّير” (مت 5: 37).
عبادة اللَّه وحده ويعلمنا أنه لا يجب أن نعبد سوى اللَّه وحده؛ فيقول: “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصيَّة الأولى والعظمى” (مت 22: 37-38).”وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلِّم الصالح” (مت 19: 16). “فقال له لماذا تدعوني صالحًا، ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو اللَّه” (مت 19: 17).
حفظ الوصايا
الذين لا يحيُّون بحسب وصاياه، لا ننظر إليهم كمسيحيَّين، حتى ولو أعلنوا تعاليم المسيح بأفواههم. لأنه وعد بالخلاص ليس للذين يقولون، بل للذين يعملون. ويقول: “ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات” (مت 7: 21). “الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبُّني. والذي يحبُّني يحبُّه أبي وأنا أحبُّه وأُظهر له ذاتي” (يو 14: 21). “كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب، أليس باسمك تنبَّأنا، وباسمك أخرجنا شيَّاطين، وباسمك صنعنا قوَّات كثيرة فحينئذ أصرِّح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت 7: 22-23).
“هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت 13: 42-43). بينما “يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار. ويطرحونهم في أتون النار” (مت 13: 49-50).”احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم” (مت 7: 15-16). “كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار” (مت 7: 19). فعاقبوا إذن أولئك الذين لا يعيشون وفق هذه التعاليم، أنهم ليسوا مسيحيَّين سوى بالاسم فقط.
بشأن الأحكام والقوانين
نحن أول من يدفع الضرائب والجِزية لمن تعينونهم لهذا العمل؛ فتلك أيضًا هي إحدى وصايا المسيح. في ذلك الوقت جاء بعضهم يسألونه “أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا” (مت 22: 17). فرد عليهم قائلاً: “أروني معاملة الجزية. فقدَّموا له دينارًا. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقصير. فقال لهم أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما للَّه للَّه” (مت 22: 19-21). إننا نعبد اللَّه وحده. وفيما عدا ذلك نطيعكم معترفين أنكم رؤساء الشعوب، ونسأل اللَّه أن يعطيكم الحكمة والعقل مع السلطان.
فإذا كنتم تحتقروننا بالرغم من توسلاتنا بينما نحن نوضح كل شيء، فلن نُضار من شيء؛ لأننا نؤمن بل نحن مقتنعون أن كل واحدٍ سوف يجازي حسب أعماله على قدر ما أخذ من اللَّه. والمسيح يقول: “فكل من أعطي كثيرًا يطلب منه أكثر. ومن يودعونه كثيرًا يطالبونه بأكثر” (لو 12: 48).
الموعوظون
الآن سوف نشرح لكم كيف نكرِّس أنفسنا للَّه متجدِّدين بالمسيح. فإننا لو أغفلنا هذه النقطة في عرضنا، نظهر مذنبين.
أولاً: يتعهَّد الموعوظون بصحَّة تعاليمنا بأن يعيشوا بحسب هذه التعاليم. وحينئذ نعلِّمهم أن يصلُّوا وأن يطلبوا من اللَّه مغفرة خطاياهم وهم صائمون. ونحن أنفسنا نصلَّي ونصوم معهم.
العماد
ثم نقتادهم إلى المكان حيث يوجد الماء. وهناك يتجدَّدون بنفس الطريقة التى تجدِّدنا نحن بها، فيغتسلون في الماء باسم اللَّه الآب سيِّد كل الأشياء ويسوع المسيح مخلِّصنا والروح القدس. لأن المسيح قال: “إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت اللَّه” (يو 3: 3).بديهي لا يستطيع الإنسان “أن يدخل بطن أمُّه ثانية ويولد” (يو 3: 4). ويعلِّمنا إشعياء النبي كيف تُمحى خطايا الخطاة التائبين. يقول: “اغتسلوا تنقُّوا اِعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ، كفُّوا عن فعل الشرّ، تعلَّموا فعل الخير. اطلبوا الحق، انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم حاموا عن الأرملة”. “هلمَّ نتحاجج يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كان حمراء كالدودي تصير كالصوف. إن شئتم وسمعتم تأكلوا خير الأرض. وإن أبيتم وتمرَّدتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلَّم” (إش 1: 16-20).
وإليكم التعليم الذي سلَّمه لنا في هذا الموضوع:
في ميلادنا الأول نولد جهلاء وبحسب قانون الضرورة من اجتماع والدينا؛ ونأتي إلى العالم بعبادات رديئة وميول شرِّيرة. فلكي لا نبقى هكذا أولاداً للضرورة والجهل، بل نصير أولاداً للاختيار والمعرفة، ولكي ننال مغفرة خطايانا السالفة، يذكرون اسم اللَّه الآب سيِّد الكون على من يريد أن يتجدَّد في الماء ويندم على خطاياه. وهذه التسمية وحدها هي بالضبط ما ينطق بها الكاهن الذي يقتاد إلى الحميم مَن يلزمه أن يغتسل.
فهل يمكن أن نعطي للَّه غير المنطوق به اسمًا؟ إن هذا الغسيل يدعى استنارة، لأن الذين يقبلون هذا التعليم تكون أرواحهم مستنيرة؛ لأنه باسم الآب ويسوع المسيح الذي صلب أيام بيلاطس بنطس، والروح القدس الذي نطق في الأنبياء بكل تاريخ يسوع، يغتسل المستنير.
سر الشكر
أما نحن فبعد أن يغتسل المؤمن المنضمّ إلينا، نقتاده إلى حيث يجتمع من نسمِّيهم اخوتنا. فنصلِّي بلجاجة صلوات عامة من أجلنا، ومن أجل المستنير، ومن أجل كل الآخرين في أيّ مكان كانوا، لكي ننال بمعرفة الحق، نعمة ممارسة الفضيلة وحفظ الوصايا، فنستحق بذلك الخلاص الأبدي.
وعندما تنتهي الصلوات، نتقبَّل بعضنا بعضًا بقبلة السلام ثم يُحضرون إلى الذي يرأس الصلاة خبزًا وكأسًا ويمزج الخمر والماء، فيأخذها ويسبِّح ويمجِّد اللَّه الآب والابن والروح القدس، ثم يقدم صلاة شكر طويلة عن كل الخيرات التي أخذناها منه. وبعد أن ينتهي من صلوات الشكر، يصرخ كل الشعب الحاضر: آمين. وآمين كلمة عبرانيَّة معناها “ليكن هكذا”. وبعدما يصنع الكهنة الخدام الإفخارستيا، ويرد كل الشعب، حينئذ يوزِّع الخدَّام الخبز والخمر الممزوج بالماء المقدَّسة ويحملون منها إلى الغائبين.
إننا ندعو هذا الطعام “إفخارستيا” ولا يستطيع أحد أن يشترك فيه، إن لم يكن مؤمنًا بتعليمنا، وإن لم يكن قد أخذ الحميم لأجل مغفرة الخطايا والتجديد، وإن لم يكن يحيا بحسب مبادئ المسيح. لأننا لا نتناول هذا الطعام مثل خبز عادي وشراب عادي. وكما أن يسوع المسيح مخلِّصنا تجسَّد من أجل خلاصنا، هكذا فإن هذا الطعام المقدَّس بالصلاة المكوَّنة من ذات كلمات المسيح، هو جسد ودم يسوع المسيح المتجسِّد: هذا هو تعليمنا.
والرسل في مذكِّراتهم التى تدعى أناجيل، يرون لنا أن الرب يسوع المسيح أوصاهم هكذا: أخذ خبزًا وشكر وقال: اصنعوا هذا لذكري، هذا هو جسدي. وأخذ أيضًا الكأس وشكر وقال: هذا هو دمي. وأعطاهم.
اجتماعات يوم الأحد
وفيما بعد نجدد ذكر هذه الأمور فيما بيننا. والذين لديهم الخيرات يساعدون المحتاجين ونعين بعضنا بعض في كل تقدماتنا نبارك خالق الكون بابنه يسوع المسيح وبالروح القدس. وفي اليوم المدعو يوم الشمس ، يجتمع الجميع في مكانٍ واحدٍ في المدن وفي القرى: ونقرأ مذكرات الرسل (الأناجيل) وكتب الأنبياء على قدر ما يسمح به الوقت. وعندما ينتهى القارئ من القراءة، يخطب رئيس الاجتماع لكي يُنذر ويحُث على التشبُّه بهذه التعاليم الجميلة. ثم نقوم جميعًا ونصلِّي معًا بصوت عال.
ثم كما قلنا، بعد أن تنتهي الصلاة، يُحضرون خبزًا وخمرًا وماء. ويصعد الكاهن الصلاة والحمد والشكر إلى السماء على قدر استطاعته، ويرد الشعب آمين. ثم يكون التوزيع وشركة القدَّاسات لكل واحد ويرسل للغائبين.
والذين في يُسر ويريدون أن يُعطوا، يعطون بحريَّة، كل واحدٍ له أن يعطي ما يريد؛ ويعطي ما يُجمع للرئيس، فيساعد اليتامى والأرامل والمرضى والفقراء والمسجونين والضيوف الغرباء، وبالجملة يسعد جميع المحتاجين.
ونجتمع طوال يوم الأحد، لأنه اليوم الأول الذي فيه أخرج اللَّه المادة من الظلام، وخلق العالم؛ ولأنه في هذا اليوم نفسه قام المسيح مخلِّصنا من الأموات وظهر لرسله وتلاميذه وعلَّمهم هذا التعليم الذي وضعناه أمامكم لتفحصوه.
دعوة الإمبراطور إلى العدالة والحق
فإذا رأيتم أن ذلك مطابق للعقل والحق، فخذوه في الاعتبار لكن لا تحكموا بالموت على الأبرياء كأعداء. وأننا نحيطكم سلفًا أنكم لن تنجوا من دينونة اللَّه القادمة إذا كنتم مقيمون في الظلم، أما نحن فسوف نصيح قائلين: لتكن مشيئة اللَّه.
يمكننا أن نستند إلى خطاب والدكم القيصر العظيم الشهير “هادريان” فنلتمس المحاكمة كما طلبنا. وما كنا لنطلب ذلك إذ نذكر قرار هادريان، لكن لأننا نعلم بصواب قضيَّتنا، فقد وجَّهنا إليكم هذا الالتماس وهذا الغرض. ومع ذلك فإننا نرفق به صورة من خطاب هادريان، حتى تعلموا إننا في هذه النقطة نقول الحق.
خطاب هادريان: إلى مينوشيوس فوندانوس
قد استلمت خطابًا من سيرينيوس جرانيانوس سلفكم. ويبدو لي أن الأمر يتطلَّب التحقيق من أجل تجنُّب الاضطرابات، وألا نترك مجالاً للتدابير الشرِّيرة التي يحيكها المفترون. فإذا كان أهالي مقاطعتكم يستطيعون أن يدعِّموا حملتهم ضد المسيحيَّين بالحقائق ويردوا على هيئة المحكمة، فليتَّجهوا إلى هذا الأسلوب وحده، على أن يمتنعوا عن الدعوات والصراخ. ومن اللائق أكثر جدًا، إن كان هناك اتهام أن تعرفوه. فإذا اُتُّهم المسيحيُّون وثبت مخالفتهم للقوانين، فعاقبوهم بحسب خطورة المخالفة. ولكن إن كان الأمر مجرَّد حجَّة للافتراء، فأعملوا تحقيقًا عن هذا العمل الأثيم وأقيموا العدل.
كان الأنبياء يبشِّرون سلفًا بالأحداث المستقبلة، وكانت نبوَّاتهم يتحفظ عليها الملوك الذين تعاقبوا على عرش اليهوديَّة بعناية، وبالصبغة التى كتبها الأنبياء أنفسهم بها بخط أياديهم باللغة العبرانيَّة. وقد أسَّس بطليموس ملك مصر مكتبة أراد أن يجمع فيها مؤلِّفات كل الكتاب. فلما علم بهذه النبوَّات، طلب من هيرودس، ملك اليهوديَّة في ذلك الوقت، أن يرسل إليه هذه الكتب؛ فأرسلها هيرودس للملك بطليموس مكتوبة، كما قلت، باللغة العبرانيَّة.
ونظرًا لأنه لم يوجد في مصر من له دراية بهذه اللغة، فقد طلب بطليموس من هيرودس أن يرسل إليه علماء لكي يقوموا بترجمتها إلى اليونانيَّة. فكانت هذه الترجمات التي لا تزال موجودة بمصر، ونجدها في كل مكان بين أيدي اليهود. ولكنهم يقرؤونها دون أن يفهموها. أنهم ينظرون إلينا كأعداء وخصوم. وهم في ذلك ومثلكم يضطهدوننا ويقتلونا عندما يستطيعون. ويمكنكم بسهولة أن تحصلوا على إثبات ذلك.
في حرب اليهوديَّة الأخيرة، كان “باركوخبا” Barcochebas رأس الفتنة، يعذب المسيحيَّين وحدهم بأشد أنواع العذاب إن لم ينكروا الرب يسوع المسيح ويجدِّفوا عليه. أننا نقرأ في كتب النبوَّات أن يسوع المسيح يأتي، يولد من العذراء وينمو، يشفي كل مرض وكل سقم، يقيم الموتى، ومع ذلك ما كانوا يؤمنون. يُضطهد ويصلب ويموت ويقوم من الأموات ويصعد إلى السموات، وهو ابن اللَّه، يرسل رسلاً ليبشِّروا بهذه الأمور في العالم أجمع، وبالأخص الأمم الذين يؤمنون به. وهذه النبوَّات كانت منذ خمسة آلاف سنة وثلاثة آلاف وألفين وألف سنة وثمانمائة سنة قبل مجيئه؛ إذ أن الأنبياء قد تعاقبوا من جيل إلى جيل.
حياة المسيح وموته وقيامته المقدَّسة
نبوَّات موسى
يقول موسى أول الأنبياء: “لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع الشعوب. رابطًا بالكرامة جحشه، وبالجِفنة ابن أتانه، غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه” (تك 49: 10-11).
افحصوا بتدقيق تروا حتى متى كان لليهود رئيس وملك من أُمَّتهم: كان ذلك حتى ظهور سيِّدنا يسوع المسيح الذي فيه كملت النبوَّات. هكذا تم ما تنبَّأ به روح اللَّه القدَّوس بفم موسى أن القضيب لا يزول من يهوذا حتى يأتي ذلك الذي له المملكة. أن يهوذا جد اليهود، ويسمُّون يهودًا على اسمه. وأنتم بعد مجيء الرب، قد ملكتم على اليهود وغزوتم كل أرضهم. وهذه الكلمة: “وله يكون خضوع الشعوب” تعني أنهم ينتظرون مجيئه الثاني في كل الأمم. ويمكنكم أن تتحقَّقوا من ذلك: ففي كل الأمم يرجون المسيح المصلوب الذي من اليهوديَّة، فإنه بعد موته اِنتصرت جيوشكم على وطن اليهود.وهذه الكلمة: “رابطًَا بالكرمة جحشه ابن أتانه، غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه” كانت رمزًا لِما سوف يحدث للمسيح، ولِما كان يلزم أن يفعله هو ذاته.كان عند مدخل القرية جحش مربوط في كرمة. فجعل المسيح تلاميذه يحضرونه إليه، وركبه ودخل جالسًا عليه إلى أورشليم حيث كان الهيكل الذي هدمتموه فيما بعد. ثم صلب لكي يتم باقي النبوَّة. لأن هذه الكلمة: “غسل بالخمر لباسه وبدم العنب وثوبه” كانت تُنبئ عن الآلام التى كان يلزم أن يتحمَّلها لكي يطهر بدمه المؤمنين به. فإن هذا الثوب الذي يتكلَّم عنه الروح القدس بفم النبي هو مجموع المؤمنين به الذين تسكن فيهم كلمة اللَّه.ودم العنب الذي يتكلَّم عنه، يعني أن من يلزم أن يأتي يكون له دم ليس من زرع بشر، بل من قدرة اللَّه.
نبوَّات إشعياء
ويُنبئ إشعياء بنفس الأمر بتعبير آخر فيقول: “ويخرج قضيب من جذع يسىّ وينبت غصن من أصوله” (إش 11: 1). “ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسّى القائم راية للشعوب إيَّاه تطلب الأمم. (إش 11: 10).هذا هو المسيح. ولد من عذراء من جنس يعقوب أبي يهوذا الذي كان كما رأينا، جدًا لليهود. وكان يسّى أيضًا جدًا للمسيح، وهو ابن ليعقوب وليهوذا حسب ترتيب الأجيال. لا عذر لليهود في عدم الإيمان اُنظروا الآن كيف يُنبئ إشعياء بلفظ واضح أنه يولد من عذراء.يقول: “ها العذراء تحبل وتلد أبنًا وتدعو اسمه عمانوئيل” (إش 7: 14). هذا الأمر يبدو للناس غير معقول وغير ممكن؛ وهو بالضبط ما أنبأ به اللَّه، حتى لا يرفضوا الإيمان به عندما يحدث ذلك الأمر، بل يؤمنون بسبب النبوَّة. في ذلك الوقت بشَّر الملاك المرسل إلى العذراء بهذه العبارات “وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّيه يسوع. هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى” (لو 1: 31-32). “لأنه يخلٍّص شعبه من خطاياهم” (مت 1: 21).
ماذا ننال بمعرفتنا عن حياة المسيح
هذا ما تعلَّمناه من الذين رووا لنا حياة مخلِّصنا يسوع المسيح وأننا نؤمن به، وأن روح النبوَّة بشَّر بميلاده العتيد، كما قلنا، بفم إشعياء الذي تكلَّمنا عنه.
الإله القدير الأبدي
بعد ميلاد المسيح، كان لابد أن يظل غير معروف من الناس إلى أن يصل إلى سن الرجولة. وهذا ما حدث بالفعل. اسمعوا ما كتب سلفًا في هذا الموضوع. وهذه هي النبوَّة:
“لأنه يولد ولد ونعطي ابنًا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام” (إش 9: 6). المقصود هنا هو قوَّة الصليب الذي سند عليه كتفيه عندما صلب، كما سوف ترون بأكثر وضوح فيما بعد. ويقول النبي إشعياء أيضًا بوحي من اللَّه: “بسطتُ يديّ طول النهار إلى شعب متمرِّد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره” (إش 65: 2). “يسألوني عن أحكام البرّ. يُسرُّون بالتقرُّب إلى اللَّه” (إش 58: 2). وأيضًا في فصل آخر، يقول المسيح بلسان نبي آخر: “ثقبوا يديّ ورجليّ” (مز 22: 16). “يقسمون ثيابي وعلى لباسي يقترعون” (مز 22: 18). إن الملك داود الذي قال هذه الكلمات لم يتحمَّل شيئًا من هذا. بل يسوع المسيح الذي بسط يديه عندما صلبه اليهود المعاندون الذين كانوا يزعمون أنه ليس المسيح. وكما أنبأ النبي قديمًا شدُّوه من الجانبين وأجلسوه على عرش قائلين له: “أحكم لنا” هذه الكلمة: “ثقبوا يديّ ورجليّ” تعني أنه على الصليب كانت المسامير تثقب يديه ورجليه. وبعد أن صلبوه ألقوا قرعة على ثوبه واقتسمه الجلاَّدون. ويمكنكم قراءة المحاضر الرسميَّة التى تروى ما حدث في عهد بيلاطس البنطى لتحقِّقوا بأنفسكم.
المسيح يحمل خطايا العالم
أراد يسوع المسيح من أجلنا أن يتأنَّس ويتحمَّل الآلام وسيأتي ثانيًا في مجده. اسمعوا النبوَّات: “سكب للموت نفسه وأُحصيَ مع أثَمة وهو حمل خطيَّة كثيرين وشفع في المذنبيِن” (إش 35: 12).”هوذا عبدي يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جدًا. كما اندهش منك كثيرون. كان منظره كذا مفسدًا أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم. هكذا ينضح أمما كثيرين. من أجله يسد ملوك أفواههم لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به وما لم يسمعوه فهموه”. (إش 52: 13).
“من صدَّق خبرنا ولمن اُستعلِنت ذراع الرب. نبت قدَّامه كفَرْخْ وكعِرْق من أرض يابسة لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمُسَتَّر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به”. (إش 53: 1-3).
“لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمَّلها ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من اللَّه ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحُبْرُه شُفينا. كلُّنا كغنم ضللنا مِلْنا كل واحد إلى طريقه والرب وُضِع عليه إثم جميعنا. ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاةٍ تساق إلى الذبح. وكنعجة صامتة أمام جازِّيها فلم يفتح فاه. من الضُغْطة ومن الدينونة أُخِذ” (إش 53: 4-8).
فعندما صُلب تركه كل تلاميذه وأنكروه. وبعد أن قام من الأموات ظهر لهم وعلَّمهم كيف يقرءون النبوَّات التى كانت تخبر بكل هذه الأمور؛ ورأوه يصعد إلى السماء؛ فاِمتلأوا إيمانًا ولبسوا القوَّة التي أرسلها لهم من الأعالي، وذهبوا إلى العالم لكي يعلِّموا الناس ودُعوا رسلاً.
نبوَّات ميخا
وعن مكان ميلاده، اسمعوا كيف أنبأ بذلك نبي آخر هو ميخا النبي. وها هي كلماته:
“لأنه هكذا مكتوب بالنبي. وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصُغرى بين رؤساء يهوذا. لأن منك يخرج مدبِّر يرعى شعبى إسرائيل” (مت 2: 5-6).
“أما أنتِ يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل” (ميخا 5: 2).
إن بيت لحم مدينة صغيرة في اليهوديَّة على بعد خمسة ثلاثين غِلوة من أورشليم. هناك ولد المسيح: ويمكنكم أن تتأكَّدوا من ذلك من سجلاَّت تعداد “سيرينيوس Cyrenius أول حاكم لليهوديَّة تابع لكم.
جحود اليهود وعمى بصريتهم
وحينما تسمعون الأنبياء ينطقون هكذا بأسمائهم الخاصة فلا تعتقدون أن هؤلاء الأشخاص الملهمين هم الذين يتكلَّمون، بل كلمة اللَّه يحرِّكهم. هذا ما لم يفهمه اليهود الذين عندهم وبين أيديهم كتب الأنبياء. لم يعرفوا المسيح بعد مجيئه لكننا نؤمن بمجيئه ونبيِّن حسب الأنبياء أنهم صالبيه، لذلك يطاردوننا بحقدهم.
الويل للأثمة
وحتى يكون ذلك واضحًا لديكم، إليكم الكلمات التى نطق بها اللَّه الآب على لسان إشعياء النبي. يقول: “الثور يعرف قانيه والحمار مِعْلف صاحبه. أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم. ويل للأُمَّة الخاطئة الشعب الثقيل الإثم نسل فاعلي الشرّ أولاد مفسدين. تركوا الرب” (إش 1: 3-4). وفي مكان آخر: “السموات كرسي والأرض موطئ قدميَّ. أين البيت الذي تبنون لي وأين مكان راحتي” (إش 66: 1). وأيضًا في مكان آخر: “رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي” (إش 1: 14). “لست أطيق الإثم والاعتكاف” (إش 1: 13).”فحين تبسطون أيديكم أستر عينيّ عنكم وإن كثَّرتُم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دمًا”(إش 1: 15)”وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أٌسرّ. حينما تأتون لتظهروا أمامي من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دوري. لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة. البخور هو مكرهة لي” (أش 1: 11-13 ).
“أليس هذا صومًا اختاره حل قيود الشر. فك عقد النير واطلاق المسحوقين أحرار وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عريانًا أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك” (إش 58: 6-7).
وهكذا ينطق روح البنوَّة عن المسيح؛ يقول: “بسطت يدي طول النهار إلى الشعب متمرِّد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره” (إش 65: 2). وأيضًا: “بذلتُ ظهري للضاربين وخدِّي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق. والسيِّد الرب يعينني لذلك لا أخجل. لذلك جعلت وجهي كالصوان وعرفت أني لا أخزى. قريب هو الذي يبررني” (إش 50: 6-8). وأيضًا يقول: “ثقبوا يديّ ورجليّ” (مز 22: 16). “يقسمون ثيابي وعلى لباسي يقترعون” (مز 22: 18). “أنا اضطجعت ونمت. استيقظت لأن الرب يعضِّدني” (مز 3: 5).
مهازل اليهود
وأيضًا: “كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاء وينغِضون الرأس قائلين اتَّكل على الرب فلينجِّيه. لينقذه لأنه سُرّ به” (مز 22: 7-8). كل هذا صنعه اليهود بالمسيح: ويمكنكم أن تتحقَّقوا من ذلك فعندما كان على الصليب، كانوا يحرِّكون شفاههم ويهزُّون رؤوسهم قائلين: “خلَّص آخرين فليخلِّص نفسه إن كان هو المسيح مختار اللَّه” (لو23: 35).
مباهج الخلاص
اسمعوا أيضًا النبوَّة عن أن المسيح يشفى كل الأمراض ويقيم الموتى: “هو يأتي ويخلِّصكم. حينئذ تتفتح عيون العمي وآذان الصم تتفتح. حينئذ يقفز الأعرج كالأيل ويترنم لسان الأخرس” (إش 35: 5-6). أما أنه أكمل هذه المعجزات، فإن وثائق بيلاطس البنطي تعطيكم إثباتًا لذلك. وقد أخبرت النبوَّة أيضًا أنه سوف يُقتل وكذلك الذين يرجونه.
إيمان الشعوب وتمرُّد اليهود
ويخبر أيضًا إشعياء النبي نفسه بأن شعوب الأمم الذين لم يكونوا ينتظرون يعبدونه، وأن اليهود الذين اِنتظروه دائمًا سوف لا يعرفونه عند مجيئه. وهذه كلماته: “أصغيت إلى الذين لم يسألوا. وُجدتُ من الذين لم يطلبوني قلت هأنذا لأمة لم تسمَّ باسمي، بسطتُ يدي طول النهار إلى شعب متمرِّد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره. شعب يغيظني بوجهي دائمًا يذبح في الجنَّات ويبخِّر على الآجر” (إش 65: 1-3). فاليهود الذين كانت عندهم النبوَّات وكانوا دائمًا ينتظرون المسيح، لم يعرفوه عند مجيئه. بل فعلوا أكثر من ذلك إذ قتلوه، وعلى النقيض من ذلك فإن الأمم الذين لم يسمعوا قط عن المسيح إلى اليوم الذي فيه بشَّرهم به رسله، الذين خرجوا من أورشليم وسلَّموهم النبوَّات، أنكروا أصنامهم وأضحوا مملوئين سرورًا وإيمانًا وكرَّسوا أنفسهم للمسيح. أما عن الافتراءات ضدّ المعترفين بالمسيح، وعن ويل الذين يلعنونه ويزعمون أنه من واجبهم المحافظة على التقاليد القديمة، فاسمعوا إشعياء كيف أخبر بها بكلمات قليلة قائلاً: “ويل للقائلين للشرّ خيرًا وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا والنور ظلامًا، الجاعلين المرّ حلوًا والحلو مرًا” (إش 5: 20).
شريعة الحياة
عندما يخبر روح النبوَّة بالمستقبل يقول: “من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب. فيقضي بين الأمم، وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل.لا ترفع أُمَّة على أمَّة سيفًا ولا يتعلَّمون الحرب في ما بعد” (إش 2: 3-4). لقد تحقَّقت هذه الكلمات ويمكنكم أن تنظروا ذلك. فقد خرج اثنا عشر رجلاً من أورشليم ليطوفوا العالم. كانوا رجالاً بسطاء لا يعلمون كيف يتكلَّمون: ولكنهم باسم اللَّه بشَّروا كل العالم بأنهم مُرسلون من المسيح لكي يعلِّموا الجميع كلمة اللَّه. ونحن الذين كنَّا قديمًا لا نعرف شيئًا سوى أن نقاتل بعضنا بعضًا، نعترف بفرح بالمسيح ونموت. ومع ذلك كان من السهل علينا أن نفعل كما يقال: حلف اللسان وليس القلب. بينما يضحِّي جنودكم الذين يثقون بكم من أجل الأمانة الواجبة لكم، أنتم الذين لا تستطيعون أن تجازيهم بغير الفانيات، يُضحُّون بحياتهم وأهاليهم وكل مصالحهم؛ فإنه من المستغرب حقًا ألا نكون نحن الذين نتوق إلى الخلود غير مستعدِّين أن نتحمَّل كل شيء لكي ننال الثواب المرغوب فيه من ذلك الذي يستطيع أن يمنحه لنا.
مواهب النبوَّة للبشر
اسمعوا ما قاله الذين نادوا بتعاليمه الذين أنبأوا بمجيئه. يقول الملك داود بالوحي الإلهي: “يوم إلى يوم يُذيع كلامًا وليل إلى ليل يبدي علمًا. لا قول ولا كلام ولا يسمع صوتهم. في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم. جعل للشمس مسكنًا فيها. وهي مثل العروس الخارج من حجلته. يبتهج مثل الجبَّار للسباق في الطريق” (مز 19: 2-5). حسن وموافق أن نزيد نبوَّات أخرى من داود النبي إلى هذه الكلمات. ترون شريعة الحياة التى يعطيها روح النبوَّة للناس؛ وكيف يخبر بتحالف هيرودس ملك اليهود مع اليهود أنفسهم، ومع بيلاطس نائبكم في اليهوديَّة ومع جنود ضد يسوع المسيح؛ وكيف يقول إن كل جنس البشر يلزم أن يؤمنوا به؛ وأن اللَّه يدعوه ابنه ويتعهَّد بأن يُخضِع له كل أعدائه.
عدم إطاعة الشياطين
تحاول الشيَّاطين على قدر استطاعتها أن نهرب من سلطان اللَّه الآب سيِّد كل الأشياء وسلطان المسيح؛ وأخيرًا كيف يدعو اللَّه كل الناس إلى التوبة قبل أن يأتي يوم الدينونة وهذه كلمات داود النبي:”طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس. لكن في ناموس الرب مسرَّته وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً. فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه. التى تعطي ثمرتها في أوانه. وورقها لا يذبل. وكل ما يصنعه ينجح. ليس كذلك الأشرار لكنهم كالعُصافة التى تذريها الريح. لذلك لا يقوم الأشرار في الدين ولا الخطاة في جماعة الأبرار. لأن الرب يعلم طريق الأبرار.أما طريق الأشرار فتهلك” (مز 1).”لماذا ارتجَّت الأمم وتفكَّر الشعوب في الباطل. قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه قائلين لنتقطع قيودهما ولنطرح عنَّا ربطهما “الساكن في السموات يضحك. الرب يستهزئ بهم. حينئذ يتكلَّم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه. أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي.إني أخبر من جهة قضاء الرب قال لي أنت ابني. أنا اليوم ولدتك. اِسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصى الأرض ملكًا لك. تحطِّمهم بقضيب من حديد. مثل إناء خزَّاف تكسرهم.فالآن يا أيها الملوك تعقَّلوا. تأدَّبوا يا قضاة الأرض. اعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعدة. اقبلوا الابن لئلاَّ يغضب فتبيدوا من الطريق، لأنه عن قليل يتَّقِد غضبه. طوبى لجميع المتَّكلين عليه” (مز2).
ملك المسيح
وفي نبوَّة أخرى يخبر الروح القدس عن طريق داود نفسه بأن المسيح يملك بعد أن يُصلب. ها هي كلماته: “رنِّموا للرب ترنيمة جديدة، رنِّمي للرب يا كل الأرض. رنِّموا للرب باركوا اسمه بشِّروا من يوم إلى يوم بخلاصه. حدِّثوا بين الأمم بمجده بين جميع الشعوب بعجائبه. لأن الرب عظيم وحميد جدًا مهوب هو على كل الآلهة. لأن كل آلهة الشعوب أصنام، أما الرب فقد صنع السماوات. مجد وجلال قدامه. العز والجمال في مقدسه. قدِّموا للرب يا قبائل الشعوب، قدِّموا للرب مجدًا وقوَّة، قدِّموا للرب مجد اسمه. هاتوا تقدمة وادخلوا دياره. اسجدوا للرب في زينة مقدسه. اِرتعدي قدَّامه يا كل الأرض. قولوا بين الأمم الرب قد ملك (على خشبة)” (مز 96: 1-10).
الأحداث المستقبلة
وأحيانًا يخبر روح النبوَّة بالأحداث المستقبلة كأنها حدثت بالفعل؛ ولقد رأيتم ذلك فيما سبق. وحتى لا يتخذ القارئ من ذلك مادة للاحتجاج، تقول شرحًا لذلك أن هذه الأحداث قد تقرَّرت بصفة نهائيَّة، وانبأ بها كأنها تمَّت. وثابت أن داود تنبَّأ بالنبوَّة التي ذكرت قبل صلب المسيح بألف وخمسمائة سنة: ولم يصلب من قبله من أجل خلاص الشعوب، كما لن يصلب أحد ذلك. لقد صلب المسيح ومات وقام وصعد إلى السماء حيث يملك، وبشَّر الرسل في العالم أجمع بالخبر السعيد، الذي يكون موضوع مسرَّة الذين ينتظرون حياة الخلود التي وعد بها.
دعوة الأمم
أن روح النبوَّة يدعو كل أجناس الناس أمما ما عدا سبطيّ اليهوديَّة والسامرة، فيدعيان إسرائيل وبيت يعقوب. وكما تنبَّأ الأنبياء فسوف يكون المؤمنون من الأمم أكثر من اليهود والسامريَّين، ونذكر النبوَّة التالية: “ترنَّمي أيتها العاقر التى لم تلد، أشيدى بالترنُّم أيتها العاقر التى لم تمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البَعْل قال الرب” (إش 54: 1). هذه المستوحشة هي الأمم الذين كانوا لا يعرفون الإله الحق الذين كانوا يعبدون أيدي الإنسان. أما اليهود والسامريُّون الذين كانوا قد أخذوا كلمة اللَّه من الأنبياء، وكانوا ينتظرون المسيح، فلم يعرفوه عند مجيئه، فيما عدا عدد قليل يخبر عنهم روح النبوَّة بإشعياء فيقول: “لولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلاً لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة” (رو 9: 29). أما سدوم وعمورة فهما مدينتان شرِّيرتان يتكلَّم عنهما موسى وقد أهلكهما اللَّه بالنار والكبريت. ولم ينج منهما أحد سوى رجل كلداني غريب يدعى لوط هرب منها مع بناته. وظلَّت ديارهم خربة محترقة جدباء: ويمكن لمن يريد التحقيق من ذلك.
كان اللَّه يعلم أن الأمم سوف يكونون أكثر إخلاصًا وأكثر أمانة من اليهود. ويشهد بذلك إشعياء النبي إذ يقول أن إسرائيل أغْلَف القلب، وأما الأمم فليسوا غُلْف سوى باللحم.
مجيء المسيح في مجده
ويقول روح النبوَّة لكي يبيِّن لنا أن الذي احتمل هذه الآلام هو نفسه غير المنطوق به، الذي يملك على أعدائه: “وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي. وجُعل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته. على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش. أما الرب فسُرّ بأن يسحقه بالحزن. أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيَّامه، ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع. وعبدي البار بمعرفته يبرِّر كثيرين وآثامهم هو يحملها. لذلك أقسم أنه بين الأعزاء ومع العظماء يقسِّم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه وأًحصي مع أثَمة وهو حمل خطيَّة كثيرين وشفع في المذنبيِّن” (إش 53: 8-12).
صعود المسيح ومجيئه الثاني
انظروا كيف كان يلزم أن يصعد إلى السماء حسب النبوَّات. فقد قيل: “ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارتفعن أيتها الأبواب الدهريَّات فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد. الرب القدير الجبَّار، الرب الجبَّار في القتال” (مز 24: 7-8). وأيضًا يأتي ثانية في مجده. اسمعوا قول الكتاب: “فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله” (مت 16: 27).
الإيمان بنبوَّات المستقبل
لقد بيّنا أن كل الأحداث التى تمَّت في الماضي سبق أن أخبر عنها الأنبياء. يلزم إذن نؤمن أيضًا أن كل ما أنبأوا عنه فيما يختص بالمستقبل لابد أن يصير. أن الأحداث السابقة التى لم تكن معروفة إلا بالنبوَّات قد تمَّت. وسوف يكون الأمر كذلك أيضًا فيما يختص بالأمور الأخرى؛ سوف تحدث بالرغم من جهل البعض وعدم إيمان البعض.
الإيمان بالمجيء الثاني والخلود
لقد أنبأ الأنبياء بمجيء المسيح الثاني. فمجيئه الأول تمّ كإنسان محتقر وتحت الآلام. أما مجيئه الثاني فسوف يكون كما هو مكتوب يأتي من السماء في مجد مع جيش ملائكته. حينئذ يقيم أجساد كل الناس الذين وُجدوا، وسوف يُلبس الأبرار الخلود، وسوف يُرسل الأشرار إلى النار الأبديَّة، ليتعذَّبوا مع الشيَّاطين إلى الأبد. وإليكم بيان هذه الأحداث المستقبلة من نبوَّات الأنبياء: يقول حزقيال النبي: “وإذا رعش فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمة. ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق” (حز 37: 7-8).
نهاية الأشرار
عن عقاب الأشرار وعذابهم فاسمعوا ما قيل أيضًا في هذا الموضوع: “دودهم لا يموت والنار لا تطفأ” (مز 9: 44). “دودهم لا يموت ونارهم لا تطفأ” (إش 9: 24).
وحينئذ يندمون ولكن بلا فائدة، وما سوف يقول له اليهود وماذا يفعلون حينما يرون المسيح آتيًا في مجده يخبرنا زكريا النبي عنه بهذه العبارات: “فينظرون إلى الذي طعنوه وينوحون عليه كنائِح على وحيد له ويكونون في مرارة عليه كمن في مرارة على بكره” (زك 12: 10). “في ذلك اليوم يعظم النوح في أورشليم” (زك 12: 11).
“وتنوح الأرض عشائر عشائر على حِدَّتها” (زك 12: 12).
النبوَّة عن خراب أورشليم
اسمعوا كيف يخبر روح النبوَّة بخراب أرض اليهوديَّة. أنه يضع هذه الكلمات في فم الشعوب المتعجِّبين لهذا الخراب: “صهيون صارت برِّيَّة وأورشليم موحشة. بيت قدسنا وجمالنا حيث سبَّحك آباؤنا، قد صار حريق نار وكل مشتهياتنا صارت خرابًا. ألأجل هذه تتجلَّد يارب. أتسكتَ وتذُّلنا كل الذل” (إش 64: 10-12). وتعلمون جيدًا أن أورشليم صارت خربة حسب النبوَّة. وعن خراب المدينة وعن منع الجميع من العودة للسكن فيها، يقول إشعياء النبي: “بلادكم خربة. مدنكم محرقة بالنار. أرضكم تأكلها غرباء قدَّامكم وهي خربة كانقلاب الغرباء” (إش 1: 7). أنتم تعلمون جيدًا بالأمر الذي قد أصدرتموه بألاَّ يُترك في المدينة أحد، وأن يعاقب كل يهودي يُضبط وهو يحاول الدخول إليها بالموت.
غلبة المسيح
صعد المسيح إلى السماء بعد قيامته. وسوف يضرب أعداءه الشيَّاطين ويكمل عدد المختارين الأبرار والصدِّيقين الذين بسببهم لم يسلَّم العالم بعد إلى الحريق. اسمعوا داود النبي يتنبَّأ عن هذه الأحداث: “قال الرب لربِّي اِجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطِئًا لقدميك. يرسل الرب قضيب عزَّك من صهيون. تسلَّط في وسط أعدائك. شعبك منتدب في يوم قوَّتك في زينة مقدسه” (مز 110: 1-3).
قبول الكلمة وتعليمها
هذه الكلمات: “يرسل الرب قضيب عزَّك من صهيون” تخبر بالكلمة الفعَّالة التي بشَّر بها الرسل الخارجين من أورشليم في كل مكان، وبالرغم من الموت الذي يهدَّد الذين يعلِّمون أو فقط يعترفون باسم المسيح، فنحن في كل مكان نقبل هذه الكلمة ونعلِّم بها. فإذا كنتم تقرءون هذه الصفحات كأعداء، فنحن نكرِّر لكم أنه لا يمكنكم أن تقتلونا. لن يصيبنا ضرر. أما أنتم وكل الذين يكرهوننا ظلمًا، فإن لم تتوبوا، فسوف يكون مصيركم النار الأبديَّة.
مدارج الإيمان
ويمكننا أن نذكر نبوَّات أخرى كثيرة، لكننا نتوقَّف هنا، واثقين أن تلك التى ذكرناها تكفي لإقناع الذين لهم آذان للسمع فيفهمون. ويعتقدون أنه يمكنهم أن يروا بأنفسهم أننا نستطيع أن نثبت ما نقول. فكيف كنَّا نؤمن بأن المصلوب هو ابن اللَّه المولود قبل كل الدهور، وأنه سوف يدين كل الجنس البشري، إن لم نكن قد رأينا كل النبوَّات الخاصة به التى تنبأ بها الأنبياء قبل تجسده قد تحقَّقت نقطة نقطة: خراب اليهوديَّة، والناس من جميع الأمم يعتنقون تعليم رسله وينكرون العادات القديمة التى كانوا فيها تائهين. وقد أصبحنا نحن أنفسنا وكل هذا الجمع من الأمميِّين أو السامريِّين أصلاً مسيحيَّين أكثر عددًا وأكثر إخلاصًا. تستطيع كل هذه الشهادات بالتأكيد أن تأتي بالإيمان واِقتناع العقل عند الذين يحبُّون الحق، الذين ليسوا عبيدًا لأهوائهم ولا للآراء الفاسدة.
مسؤوليَّة الإنسان
ولا يزعمن أحد، تبعًا لما قيل، أننا نعتقد أن تحقيق ما لابد أن يكون إنما هو بسبب القدر. وعليكم على هذا الزعم.إن كل إنسان سوف يعاقب أو يثاب حسب أعماله. لقد تعلَّمنا هذا التعليم من الأنبياء ونؤمن أنه حق. فإن لم يكن الأمر كذلك، وكان كل شيء من عمل القدر، لما كانت هناك حرِّيَّة في التصرُّف. ولو كان القدر يريد أن يكون هذا صالحًا وذاك طالحًا، لما أستحق هذا مديحًا، وذاك لومًا.
ولو كان الإنسان لا يستطيع باختيار إرادته الحرَّة أن يتجنَّب الشرّ ويصنع الخير، لكان غير مسؤول عن أعماله إطلاقًا. ولكن ممَّا يبرهن على الإنسان يصنع الخير والشرّ بحرِّيته أننا نرى الشخص ذاته ينتقل من النقيض إلى النقيض. فلو كان مقدرًا له أن يكون صالحًا أو طالحًا، لما كانت هناك مثل هذه التغيُّرات في سلوكه، ولما كان يتغيَّر باستمرار، ولما كان هناك أُناس فضلاء وآخرون أردياء طالما أن القدر سبب الخير والشرّ في نفس الوقت، وكان القدر نفسه متناقضًا مع ذاته، وأيضًا لكان يلزم ان نعترف، كما ذكرنا، أن الخير والشرّ ليسا شيئًا، وأن مسألة الفضيلة والرذيلة هي مسألة وجهة نظر. ولكن العقل السليم يقول أن في ذلك كفرًا وظلمًا ممقوتًا.
وفي نظرنا أن القضاء المحتوم الحقيقي هو المكافأة العادلة للخير، والعقاب العادل للشرّ. ولم يخلق اللَّه الإنسان مثل باقى الكائنات، من الأشجار وذوات الأربع التى لا نستطيع أن تفعل شيئًا بحرِّيتها؛ وإن كان الإنسان صالحًا بطبيعته لا يختار الخير من نفسه، لما استحق ثوابًا أو مديحًا. كذلك لا تكون معاقبته عن أخطائه عدلاً إن لم تكن إراديَّة، وإن لم يكن هو نفسه يستطيع أن يكون شيئًا آخر سوى ما هو. ويقول إشعياء النبي بوحي من اللَّه الآب سيِّد الخليقة: “اغتسلوا وتنقُّوا اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ كفُّوا عن فعل الشرّ تعلَّموا فعل الخير. اطلبوا الحق انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم حاموا عن الأرملة.هلم نتحاجج يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف. إن شئتم وسمعتم تاكلون خيز الأرض. وإن أبيتم وتمرَّدتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلَّم” (إش 1: 16- 20).
هلاك الخطاة
هذه الكلمة: “تؤكلون بالسيف” لا تعني أن العصيان سوف يعاقب بالسيف؛ فسيف الرب هو النار التى سوف تأكل الذين فضَّلوا الشرّ. لذلك يقول: “تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلَّم” فلو كان قد أراد الكلام عن السيف الذي يقطع ويقتل في الحال لم قال “تؤكلون”. ماذا أخذ الفلاسفة من الأنبياء وحينما يقول أفلاطون: [إن الخطأ هو خطأ الرجل الحرّ الذي يختار، واللَّه ليس السبب في ذلك] فهو يأخذ هذه الكلمة عن موسى النبي. لأن موسى أقدم من كل الكُتَّاب اليونانيَّين. وكل ما قاله الفلاسفة والشعراء عن خلود النفس، والعقاب الذي يتبع الموت، والتأمُّل في الأمور السماويَّة، والعقائد الأخرى، قد أخذوا مبادءه عن الأنبياء وهكذا استطاعوا إدراكها وذِكرها، إننا نجد بذار الحق عند جميعهم؛ ولكن مما يتثبت لنا أنهم لم يفهموا جيدًا، هو أنهم يناقضون أنفسهم.
قضيَّة القدرة الفهم والتبصُّر
فإذا كنا نقول أن المستقبل قد أنبأ عنه، فإننا لا نريد بذلك أن نقول أن قانون القدر يتسلَّط على كل شيء. إن اللَّه يعرف سلفًا كل ما سوف يفعله الناس، ونظرًا لأنه قرَّر أن يعطي كل واحد كنحو أعماله، وأن يعاقب عن الأخطاء المقترفة ضدَّه، فهو القدير يخبر بروح النبوَّة بالمستقبل، حتى يدعو الناس إلى الفهم ويذكِّرهم وهكذا يبيِّن عنايته واِهتمامه بهم.
بشفاعة القديس يوستينوس الشهيد أيها الرب يسوع المسيح إلهنا ارحمنا وخلصنا . آمين .
No Result
View All Result
Discussion about this post