إرشاد رسولي
نشر بعد مجمع الأساقفة
إلى المطارنة والكهنة والمؤمنين
بشأن المصالحة والتوبة
في رسالة الكنيسة اليوم
يوحنا بولس الثاني
أيها الإخوة الأجلاّء والأبناء الأعزاء،
السلام والبركة الرسولية،
مقدمة
أصل الوثيقة ومعناها
1- إن المصالحة والتوبة، عندما يدور الكلام عليهما، يحملان رجال هذا العصر ونساءه على العودة مجدداً إلى الكلمات – بعد تحويلها إلى لغة التخاطُب المتداولة اليوم – التي استهلّ بها مخلّصنا ومعلّمنا يسوع المسيح تبشير بقوله: ” توبوا وآمنوا بالإنجيل” (1)، أعني تقبّلوا البشارة، بشارة المحبة، وتبني أبناء الله وبالتالي الأخوّة.
لماذا تعود الكنيسة مجدداً إلى هذا الموضوع وإلى هذه الدعوة؟
إن الرغبة في معرفة إنسان اليوم والعالم المعاصر أفضل معرفة، وتفهّمهما، وحلّ ما يواجههما من معضلات، وهتك ما يغلّفهما من أسرار، وتمييز ما يعتمل فيهما من خير وشر، دفعت، منذ زمن بعيد الكثيرين إلى استنطاق هذين الإنسان والعالم. وهذا الاستنطاق هو من شان المؤرخين، وعلماء الاجتماع، والفلاسفة، واللاهوتيين، وعلماء النفس والشؤون الإنسانية، والشعراء، والمتصوّفين: وهذا الاستنطاق المشفوع بالعناية والاهتمام، والمليء في الوقت عينه بالرجاء، هو على الأخص من شأن الرعاة.
ويعود ذلك جليّاً في كل صفحة من صفحات الدستور الرعوي الهام من المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني المبدوء بعبارة فرح وأمل، وعلى الأخص في مقدمته المستفيضة، الملأى بالحكم. ويظهر، فضلاً عن ذلك، في بعض الوثائق التي نشرها أسلافنا الأجلاء، بحكمتهم ومحبتهم الرعوية، الذين تميّزت حبرياتهم بحدث تاريخي، نبوي، هو هذا المجمع المسكوني.
وترى عين الراعي، كما يرى سواه من الناس، أن هناك، بالإضافة إلى ما يتميّز به العالم وأناس هذا العصر، انقسامات كثيرة، خطيرة ومؤلمة.
عالم محطّم
2- وتظهر هذه الانقسامات في العلاقات القائمة بين الأشخاص والجماعات وحتى بين المجموعات البشرية الكبرى: فينشب الخلاف بين الأمم والأمم أو بين البلدان المتناوئة التي تسعى جادّة إلى السيطرة. ولا يصعب الاهتداء إلى أسباب هذه الخلافات، أعني الصراعات التي تشتدّ بالمواجهة والمشادّة، بدلاً من أن تُحَل بالحوار.
وعندما يبحث المراقبون الناشطون في أسباب هذه الانقسامات يرون أنها تختلف اختلافاً كبيراً: فمن الفوارق المتعاظمة بين الجماعات والطبقات الاجتماعية والمناطق، إلى الصراعات العقائدية، ومن تضارب المصالح الاقتصادية إلى النزاعات السياسية، ومن التنافر القبلي إلى التمييز الناشئ عن أسباب اجتماعية ودينية. وهناك، فضلاً عن ذلك، بعض أمور ماثلة أمام أعين الجميع، تبدو كأنها تبرز وجه الانقسامات المثير للشفقة، وهي أمور تنبع من هذه الانقسامات وتظهر خطورتها بطريقة لا يمكن دحضها. ويمكننا أن نذكر، بين مشاكل عصرنا الاجتماعية:
– امتهان حقوق الإنسان الأساسية، ولاسيما حقّه في المحافظة على الحياة، وعلى حياة كريمة. وإن أخزى ما يخزي أن هناك سيلاً من الكلام الأجوف، لم يُعرَف من ذي قبل، يدور في الوقت عينه، على هذه الحقوق ذاتها.
– الحبائل المنصوبة لحرّية الأفراد والجماعات، والإغراءات التي تستهدف لها، ولا تُستثنى حرية الاعتراف بالإيمان الخاص المعرّضة، أكثر من سواها، للامتهان ولأخطار كبيرة.
– مختلف أنواع التمييز العنصري والثقافي والديني إلى ما سوى ذلك.
– العنف والإرهاب.
– التعذيب وأساليب القمع الظالمة، غير المشروعة.
– تكديس الأسلحة التقليدية والنوويّة، وسباق التسلح، والنفقات الحربيّة التي يمكن التخفيف بها من شقاء الشعوب المتخلّفة اجتماعيّاً واقتصادياً.
– توزيع ثروات العالم ومنافع الحضارة توزيعاً غير عادل، يبلغ ذروته بتنظيم الشؤون الاجتماعية تنظيماً، تتباعد معه، يوماً بعد يوم، الشقة الفاصلة بين أحوال الأغنياء وأحوال الفقراء (2).
وإن شدة هذه الانقسامات تجعل من العالم الذي نعيش فيه، عالماً محطّماً في أساساته (3).
والكنيسة، وإن كانت لا تؤلّف مع العالم كياناً واحداً، وإن لم تكن من العالم، فهي قائمة في العالم، وهي معه في حوار(4)، فلا عجب إذا ما ظهرت في بنيتها آثار الانقسامات ونتائجها، هذه الانقسامات التي يعاني منها المجتمع البشري. والكنيسة، فضلاً عن الخلافات بين الجماعات المسيحية التي تعصف بها منذ قرون، تعاني، في هذه الأيام، هنا وهناك في داخلها وبين أعضائها، من انقسامات ناشئة عن اختلاف الآراء وتباين الاتجاهات في الحقل العقائدي والرعوي (5). وتبدو هذه الاختلافات أحياناً غير قابلة للشفاء. وهذه التمزّقات، وإن بدت، لأول وهلة، مذهلة، يمكن الاهتداء إلى أصولها لدى إنعام النظر، وهي تعود إلى هذا الجرح الذي يثخن صميم النفس البشرية. وهذا ما ندعوه، في ضوء الإيمان، الخطيئة، بدءاً بالخطيئة الأصلية التي يحملها كل من الناس معه منذ مولده، والمنتقلة إليه كإرثٍ عن والديه، حتى الخطيئة التي يرتكبها كلٌّ من الناس بإساءته استعمال ما أعطيه من حرية.
الحنين إلى المصالحة
3- وفي الواقع أن من ينظر إلى هذا الأمر، بما ينبغي من الدقة، يرى في قلب الانقسام، رغبة واضحة لدى ذوي الإرادة الصالحة والمسيحيين الحقيقيين، في حسم الخلافات، وتضميد الجراح، وإقامة وحدة جوهرية، على جميع المستويات. وتثير هذه الرغبة، لدى الكثيرين، توقاً أكيداً ملحّاً إلى المصالحة أو “حنيناً”، وإن لم تُستعمل هذه الكلمة.
إن بعضاً من الناس يعتقدون أن هذا حلم قد يصبح دعوة مالية إلى تغيير المجتمع. بيد أن سواهم يرون أن لا سبيل إلى إدراكه، إلاّ بعد مشقّة كبيرة، حتى لكأنه هدف يقتضي لبلوغه كثير من التفكير العميق والعمل الجادّ. وفي كل حال إن الرغبة في مصالحة صادقة، ثابتة، هي دونما شك، قضية من قضايا مجتمعنا الإنسانية، تعبّر عنها إرادة لا تلين في السعي وراء السلام. وهذا أمر فيه من الإلحاح قدر ما في الانقسام من الأخطار، رغم ما في ذلك من تناقض.
وبعد فلا يجوز، أن تكون المصالحة أقل رسوخاً في النفس من الانقسام. وتكون الرغبة في المصالحة أو “الحنين” إليها، والمصالحة عينها كاملتين، فاعلتين، على قدر ما تنفذان إلى هذا التمزّق الأصلي – بغية إبرائه- وهو في أساس سائر التمزّقات أعني، على ما أشرنا إليه، الخطيئة.
نظرة المجمع
4- إن كل مؤسسة أو منظمة تهدف إلى خلاص الإنسان وفق غاياته الأساسية، يجب أن تتبصّر مليّاً بأمر المصالحة لتدرك ما لها من معنى، وكبير أهمية، وترتقب ما يصدر عنها من نتائج لا بدّ منها للقيام بالعمل المطلوب.
ولا يمكن كنيسة يسوع المسيح أن تهمل السعي إلى هذا الهدف. فهي تجهد بنشاط الأم وحكمة المعلّمة، دائبة، لكي تكشف في المجتمع البشري، ما عدا علامات الانقسام، علامات البحث عن المصالحة، وهي علامات واضحة لها أقوى مدلول. والكنيسة تعرف أنه أُعطيت بصورة خاصة القدرة على المناداة بما للمصالحة من معنى ديني صحيح عميق وأنها أوكلت إليها رسالة للقيام بهذه المناداة، وهي فيما تفعل ذلك، تسهم في شرح ما لقضية الوحدة والسلام من تعابير ومفاهيم.
وما انفكّ أسلافنا يبشرون بالمصالحة ويستحثّون عليها الناس أجمعين وكل جماعة أو فئة منهم رأوها ممزّقة ومقسّمة (6). وإنّا نحن، بدافع داخلي وإذعاناً منّا لإلهام علوي – ونحن على يقين من ذلك – وتلبية لنداءات العائلة البشرية، أبرزنا موضوع السلام بطريقتين مختلفتين، لكن كلتيهما تلفت النظر وتسترعي الاهتمام:
أولاً بدعوتنا مجمع الأساقفة إلى الجمعية العامية السادسة، وثانياً بجعلنا المصالحة محور السنة اليوبيلية التي قرّرناها احتفالاً بذكرى مرور 1950 سنة على الفداء (7). ولمّا كان لا بدّ من اختيار موضوع يعالجه المجمع، وافقنا كل الموافقة على الموضوع الذي اقترحه عدد من إخواننا في الأسقفية، وهو موضوع المصالحة الواسع، والمرتبط كل الارتباط بموضوع التوبة (8). إن لفظة توبة ومفهومها لا يخلوان من التعقيد. إذا ربطناها بالتبديل أو التغيير الذي ترجع إليه الأناجيل، فإن التوبة تعني التغيير الذي يحدث في أعماق القلب تحت تأثير كلام الله وبالنظر إلى الملكوت (9). ولكن التوبة تعني أيضاً تغيير الحياة تجاوباً مع تغيير القلب، وبهذا المعنى إن عمل التوبة يكتمل بهذا: اعملوا…. ثماراً تليق بالتوبة (10). وهكذا تصبح الحياة كلها مطبوعة بطابع التوبة، تسعى باستمرار إلى بلوغ الأفضل. ولكن عمل التوبة لا يكون صحيحاً وفاعلاً ما لم يترجم إلى أفعال وأعمال توبة. وبهذا المعنى تعني التوبة في المفردات المسيحية اللاهوتية والروحية التقشف أي جهد الإنسان العملي، اليومي الرامي، بمساندة نعمة الله، إلى إهلاك الحياة من أجل المسيح، وهذه هي الطريقة الوحيدة لإيجادها (11)، وإلى خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد (12) وقمع ما هو جسدي فيه وتغليب ما هو روحي (13)، والتسامي باستمرار فوق ما هو أرضي، سعياً إلى ما هو في العلى حيث المسيح (14). وهكذا تكون التوبة تبدّلاً نابعاً من القلب، تترجمه الأعمال في حياة المسيحيين بكاملها.
وترتبط التوبة في كل من هذه المفاهيم ارتباطاً وثيقاً بالمصالحة، لأن المصالحة مع الله والذات والآخرين، تقتضي إزالة هذا الشدخ الكائن في أعماق النفس، وهو الخطيئة، وهذا لا يتم إلاّ بالتحول الباطني أو التبدّل الذي يثمر في الحياة بأعمال التوبة.
وقد فسحت وثيقة المجمع الأساسية ( المسمّاة الخطوط الكبرى)، المعدّة فقط لطرح الموضوع وشرح بعض جوانبه الأساسية، في المجال للجماعات الكنيسة، حيثما هي في العالم، للتفكير، طوال سنتين تقريباً في هذه الجوانب من الموضوع – أي التبدّل والمصالحة – التي تهمّ الجميع، وبالتالي لأخذ دفع جديد منه للحياة المسيحية والرسالة. وتعمّق البحث، بعد ذلكن لدى إعداد عمل المجمع إعداداً قريباً، من خلال أداة العمل التي أُرسِلت إلى الأساقفة ومعاونيهم في الوقت المناسب، ثم عالج آباء المجمع، طوال شهر، مع الذي دعوا إلى حضور الاجتماع الخاص، الموضوع وما يتعلّق به من مسائل عديدة مختلفة، بشعور عالٍ من المسؤولية، وصدر عن النقاش والدرس المشترك والبحث الدائب الدقيق ما يشبه الكنز الكبير الثمين، وقد عرضته باختصار في جوهره الاقتراحات الأخيرة.
وعندما بحث المجمع الأمر، لم يتجاهل أعمال المصالحة (وقد مرّ بعضها دون أن يسترعي الانتباه لأنه من الأمور العادية اليومية) التي تصلح، بطرق مختلفة، لفضّ الكثير من الخلافات، وحسم الكثير من النزاعات، وإزالة الانقسامات، صغيرة كانت أم كبيرة، وإعادة الوحدة. لكن همّ المجمع الأكبر كان منصبّاً على اكتشاف الأصل الحقيقي الكامن في صميم هذه الأعمال المتفرّقة. أي المصالحة في “ينبوعها”، إذا صحّ التعبير، التي تعمل في قلب الإنسان وضميره.
وإن موهبة الكنيسة الخاصة وميزتها الفريدة، في ما يتعلّق بالمصالحة وواجب إجرائها على كل صعيد، تهدفان إلى العودة بها دائماً إلى هذه المصالحة في “ينبوعها”. وتشعر الكنيسة، بما لها من رسالة خاصة، بأن من واجبها أن تذهب إلى هذا التمزّق الأول، تمزّق الخطيئة، لتحمل إليه الشفاء والمصالحة، وتعيد إذا صحّ التعبير، المصالحة الأولى التي هي المبدأ الفعّال لكل مصالحة حقيقية. وهذا ما وضعته نصب عينيها واقترحته من خلال المجمع.
وقد تحدّث الكتاب المقدس عن هذه المصالحة، ويحثّنا على السعي إليها بكل قوانا(15)، لكنه ينبّهنا أيضاً إلى أنها، قبل كلّ، عطيّة، يجود بها الله برأفته على الإنسان (16). وتاريخ الخلاص – سواء أكان خلاص البشر أجمعين أم خلاص كل من الناس، في أي زمان كان- إنما هو تاريخ المصالحة الرائع، الذي صالح فيه الله الآب العالم بدم ابنه الذي صار إنساناً وبصليبه، وأنشأ هكذا عائلة المصالحين الجديدة.
والمصالحة ضرورية، لأن الخطيئة أحدثت شدخاً أحدث بدوره سائر أنواع الشدوخ في نفوس الناس وفي ما حولهم. ولكي تكون المصالحة كاملة، فه تستدعي حتماً التحرّر من الخطيئة التي يجب رفضها في عمق أعماق أصولها. لذلك يترابط التبدّل والمصالحة برباط داخلي متين، بحيث لا يمكن الفصل بينهما أو التحدث عن الأول دون الثاني.
وتحدّ المجمع أيضاً عن مصالحة العائلة البشرية جمعاء، وعن ارتداد قلب كل من الناس، وعودته إلى الله، معترفاً بذلك ومعلناً أن وحدة البشر لا يمكن أن تتحقق ما لم يغيّر كل من الناس ما في نفسه. والتغيير الشخصي هو السبيل الذي لا بدّ منه، والمؤدي إلى الألفة بين الناس (17). وعندما تُعلن الكنيسة نبأ المصالحة المفرح أو تقترح إجراءها بواسطة الأسرار، فهي تقوم بدور نبويّ حقاً، فتشير إلى شرور الإنسان الجارية من الينبوع الفاسد، وترشد إلى أصل الانقسام، وتوقظ الأمل بالمقدرة على التغلّب على التوترات والنزاعات بلوغاً بهذه الوسيلة إلى الألفة والسلام، على جميع مستويات المجتمع البشري وفئاته. فهي تحوّل واقعاً تاريخياً مطبوعاً بطابع الحقد والعنف إلى حضارة محبة، وتقدّم إلى الجميع مبدأً نابعاً من الإنجيل والأسرار، هو مبدأ المصالحة في “ينبوعها” التي تجري منها كل بادرة مصالحة أو عمل مصالحة، حتى على الصعيد الاجتماعي.
وسيدور البحث في هذا الإرشاد على مثل هذه المصالحة التي هي نتيجة التبدّل. ذلك أن آباء المجمع – على مثال ما حدث في نهاية جمعيّات المجمع العامة الثلاث السابقة – دفعوا هذه المرّة أيضاً بحصيلة عملهم إلى أسقف روما، وراعي الكنيسة جمعاء، ورأس مصفِّ الأساقفة، بوصفه رئيساً للمجمع. فقبلنا المهمّة بطيبة خاطر على أنها واجب خطير من واجبات خدمتنا، وهي مهمّة الأخذ من كنز المجمع العظيم، لنقدّم لشعب الله، كثمرة لهذا المجمع، رسالة عقائدية ورعوية في موضوع التوبة والمصالحة. وسنبحث إذن في القسم الأول في الكنيسة لدى قيامها بمهمّة المصالحة وتشديدها على عمل تغيير القلوب الذي يعانق الإنسان معه الله مجدّداً، ويعانق الإنسان أخاه الإنسان، ويعانق الإنسان الخليقة جمعاء. وفي القسم الثاني سنبيّن السبب الأساسي لكل تمزّق أو انقسام بين الناس وعلى الأخص تجاه الله، وهذا السبب هو الخطيئة. وسنعرض أخيراً الوسائل التي تستطيع الكنيسة بواسطتها أن تعمل على المصالحة التامة بين الناس والله، وبالتالي على مصالحة الناس فيما بينهم وتستحثهم على هذه المصالحة.
إن الوثيقة التي ندفع بها إلى أبناء الكنيسة وإلى جميع الذين يتطلّعون إلى الكنيسة باهتمام وإخلاص، سواء أكانوا مؤمنين أم غير مؤمنين، هي بمثابة جواب على ما طلبه منا المجمع. وهذه الوثيقة – وهذا ما نريد أن نعلنه، إرضاء لواجب الحقيقة والعدالة – هي صنع المجمع عينه. وإن ما تنطوي عليه هذه الصفحات، إنما هو صادر عن هذا المجمع أيضاً: عن إعداده البعيد والقريب، وأداة العمل، والمداخلات في قاعة المجمع أو في اللجان، وعلى الأخصّ، عن الاقتراحات الثلاث والسبعين. إنّا نجد هنا حصيلة العمل المشترك الذي قام به الآباء ولم يغب عن صفوفهم ممثّلو الكنائس الشرقية التي تملك كنزاً لاهوتياً، روحياً، وطقسياً وفيراً، جليلاً حتى بالنسبة إلى الموضوع الذي يهمّنا هنا. وفضلاً عن ذلك، إن مجلس أمانة سرّ المجمع هو الذي قيّم، فور نهاية المجمع، في دورتين هامّتين، نتائج ما أنجز هذا المجمع من أعمال وأعطى من توجيهات. وهو الذي أبرز أهم ما في المقترحات من نقاط، وهو الذي رسم أخيراً الخطوط الكبرى الملائمة، لوضع الوثيقة الحاضرة. وإنّا إذ نشكر جميع الذين قاموا بهذا العمل، نريد، أمانة منّا لرسالتنا، أن نعرض ما بدا لنا في كنز المجمع العقائدي والرعوي أن فيه فائدة لحياة الكثيرين من الناس، في هذه الفترة الرائعة والعصيبة من التاريخ.
ويطيب لنا أن نقوم بذلك – وهذا له مدلوله الكبير – فيما لا تزال ذكرى السنة المقدسة حيّة في قلوب الكثيرين، وقد انقضت في جوّ توبة وارتداد ومصالحة. وليكن هذا الإرشاد الذي نوجهه إلى إخواننا في الأسقفية ومعاونيهم، وإلى الكهنة والشمامسة والرهبان وجميع المؤمنين رجالاً ونساءً من ذوي الضمير المستقيم، لتنقية إيمان كل منه الشخصي، وتنميته وتعميقه. وليكن كخميرة صالحة لتوطيد السلام والأخوّة والأمل والفرح في القلوب وهي قيم نابعة من الإنجيل الذي يجب أن يقبل ويكون موضوع تأمل ويُترجم في الحياة اليومية، على مثال الطوباوية مريم العذراء، أم سيدنا يسوع المسيح الذي حسن لله أن يصالح الجميع به (18).
القسم الأول
الارتداد والمصالحة:
مهمة الكنيسة وواجبها
الفصل الأول
مثل المصالحة
5- في مستهل هذا الإرشاد الرسولي تتبادر منّا إلى الذهن رواية القديس لوقا الفريدة التي حاولنا إبرازها في رسالة سابقة (19)، نعني الابن الضال (الشاطر) (20).
من أخ كان ضائعاً…
“كان لرجل ابنان. فقال له ابنه الأصغر: “يا أبتِ أعطني نصيبي من بيتك”: قال يسوع وروى قصة هذا الشاب المؤثرة: أي مغادرته الطائشة البيت الوالدي، وتبذيره كل ماله في حياة اللهو والفراغ، وأيام الغربة والجوع السوداء، وأكثر من ذلك، الكرامة المهدورة والإذلال والخجل، وأخيراً الحنين إلى البيت، والعزم على العودة إليه، واستقبال أبيه له، الذي لم ينسَ قط ابنه، لا بل قد احتفظ له بما كان يكنّهُ له من محبة وتقدير غير منقوصين. لذلك كان ينتظر دائماً ذاك الذي يعانقه الآن، ويأمر بإقامة احتفال كبير لعودة ذاك الذي “كان ميتاً فعاش، وضائعاً وضالاً فوجد”.
الإنسان – أي إنسان – هو هذا الابن الضال الذي تراوده تجربة الابتعاد عن أبيه ليعيش على هواه، والذي يقع في التجربة ويُخدع بالأباطيل التي تجتذبه كالتراب، ويُلفي نفسه وحده، مسلوب الكرامة، مستَغلاًّ، وفيما هو يسعى إلى إتّباع نمط حياة خاص به، يبرِّح به، وقد انحدر إلى درك الشقاء، شوق العودة إلى أبيه. والله كالأب في المثل، يترقّب عودة ابنه، ويعانقه لدى لقائه إياه، ويولم في مناسبة رجوعه احتفالاً بالمصالحة.
إن أبرز ما في المثل هو هذه الحفاوة الطافحة بالمحبة التي استقبل بها الأب الابن العائد، والتي هي دليل على رحمة الله المستعد أبداً للصفح والغفران. ولنقلها فوراً: إن المصالحة هي قبل كلٍّ، عطيّة الآب السماوي.
إلى الأخ الذي مكث في البيت
6- لكن المثل يتحدّث أيضاً عن الابن الأكبر الذي يرفض احتلال مقعده في الوليمة، ويعيب على أخيه الأصغر طيشه، وعلى أبيه حفاوته به، فيما لم يسمح له – على ما يقول – وهو المقتصد، الناشط، البّر بأبيه، والحريص على بيته، بإقامة وليمة لأصدقائه. وهذا دليل على أنه لم يفهم طيبة أبيه. وطالما أن هذا الأخ الشديد الثقة بنفسه، الحسود المتعالي المتشبع مرارة وغضباً، لم يرجع ويصالح أباه وأخاه، فالوليمة ليست، بحصر المعنى، عيد عودة ولقاء.
والإنسان – كل إنسان – هو أيضاً هذا الابن الأكبر، وقد جعلته الأنانية حسوداً، وحجّرت قلبه وأعمته وقطعت عليه مجال العودة إلى الآخرين وإلى الله. وأثارت طيبة الأب حفيظته وأغضبه حلمه، وكان لسعادة الأخ العائد لديه طعم مرارة (21). ولهذا فهو في حاجة أيضاً إلى العودة والاهتداء والمصالحة.
إن مثل الابن الضال هو قبل كل، قصة المحبة الجارفة الفائقة الوصف، محبة الآب – الله – الذي يقدّم لابنه العائد تقدمة المصالحة الكاملة. ولكن هذا المثل، عندما يلمّح، وهو يرسم صورة الابن الأكبر، إلى الأنانية العمياء التي تفرّق بين الأخوين، يصبح أيضاً قصّة العائلة البشرية، وهي تصف الحالة التي تتخبّط فيها وتدل على الطريق الذي يجب أن نسلكه. ويمثل الابن الضال التائق كلّ التوق إلى العودة إلى أحضان أبيه والظفر منه بالمسامحة والغفران، الذين يشعرون في قرارة ضميرهم برغبة ملحّة في المصالحة على جميع المستويات ودونما تحفّظ، وهم على أرسخ ما يكون اليقين أن هذه المصالحة لا تتمّ إلا إذا نبعت من تلك المصالحة الأولى، الأساسية، التي تأتي بالإنسان من بعيد لتعود به إلى الله فينعم بصداقته، صداقة الأبناء، ويعترف برحمته اللامتناهية. ولكن إذا نظرنا إلى هذا المثل نظرة الابن الثاني، نرى أنه يصف حالة العائلة البشرية التي قسّمتها الأنانيّات، ويلقي ضوءاً على ما في التوق إلى تأليف عائلة في مناخ مصالحة ووحدة، من صعوبة، ويذكّر بالتالي بالحاجة الماسّة إلى تغيير القلوب لاكتشاف رحمة الله، والتغلّب على سوء النيّة والعداوة بين الإخوة.
وفي ضوء هذا المثل المليء بالعبر عن الرحمة التي تمحو الخطايا، تلبّي الكنيسة هذا النداء للعمل بمضمونه وتتفهّم، على مثال المسيح، رسالتها الرامية إلى تغيير القلوب ومصالحة الناس مع الله، وهذا أمران مترابطان كل الترابط.
الفصل الثاني
في ينابيع المصالحة
في ضوء المسيح المصالِح
7- إن المصالحة، على ما يبدو من مثل الابن الضال، هي عطيّة من الله ومبادرة منه. والحال أن إيماننا يعلّمنا أن هذه المبادرة تأتي مفعولها في سرّ المسيح الفادي، المصالِح، المحرِّر الإنسان من الخطيئة على أنواعها. ويؤكّد بولس الرسول دونما تردّد أن رسالة يسوع الناصري الكلمة والابن والإله المتأنس هذه الرسالة المنقطعة النظير، هي من صميم المهمة والوظيفة.
ونحن أيضاً باستطاعتنا أن ننطلق من هذا السر الأساسي، سرّ تدبير الخلاص الذي تدور عليه عقيدة الرسول في المسيح، وقد كتب في رسالته إلى الرومانيين “فإن كان الله صالحنا بموت ابنه، ونحن أعداء، فكم بالحريّ، ونحن في مصالحته، أن نحيا بحياته، وليس هذا وحسب، بل أن نفتخر بالله أيضاً بواسطة ربنا يسوع المسيح الذي به نلنا المصالحة” (22). لأن “الله هو الذي، بالمسيح، صالح العالم مع عظمته” وشعر بولس بأنه مدفوع إلى حضّ مسيحيي كورنتوس بقوله: “تصالحوا مع الله” (23).
وعن رسالة المصالحة هذه التي تمّت بالموت على الصليب، تحدّث القديس يوحنا الإنجيلي، بعبارة أخرى، مؤكّداً أنه كان على المسيح أن يموت “ليجمع أيضاً في واحد أبناء الله المشتتّين” (24).
وقد أتاح لنا القديس بولس أيضاً أن نوسّع آفاق تفكيرنا بشأن المسيح حتى إلى أبعاد كونيّة، عندما كتب أن الآب صالح “من في الأرض والسماء” (25). ويمكن القول بحقّ عن المسيح الفادي أن “به كانت المصالحة في زمان الغضب” (26).
وأنه هو “سلامنا” (27) وهو أيضاً مصالحتنا.
وأن آلامه وموته اللذين يتجددان سرِّياً في الإفخارستيا، يدعيان بحق في الليتورجيا المقدّسة “قربان مصالحتنا” (28): أي مصالحتنا مع الله ومع الإخوة لأن السيد المسيح عينه ينبّه إلى وجوب إجراء المصالحة الأخويّة، قبل تقدمة الذبيحة (29).
ويجدر بنا بالتالي، انطلاقاً من هذه المواضيع وسواها من العهد الجديد، أن نوجّه تفكيرنا، بشأن سرّ المسيح الشامل، إلى مهمّته كمُصالح. وعلينا أيضاً أن نعلن أن إيمان الكنيسة بفعل المسيح، فعل الفداء، وسرّ موته وقيامته الفصحي، إنّما هو كسبب مصالحة الإنسان بمعناها المزدوج أي كتحرير من الخطيئة وكإتحاد بالله موطّد على النعمة.
وإنّا إذ نشهد بألم ما بين الناس من انقسامات وما في المصالحة من صعوبات، نستحثّ على التبصّر في سرّ الصليب بوصفه أسمى حدث يبصر منه المسيح حال انفصال الإنسان عن الله، وهي حال خطيرة، ويتألم لها عميق الألم حتى ليهتف مع المرتّل قائلاً: “إلهي إلهي لماذا تركتني” (30) ويحقق في الوقت عينه مصالحتنا. وإن النظر إلى السرّ الذي تمّ على الجلجلة يجب أن يذكّرنا دائماً بأن بُعد الانقسام والمصالحة “العامودي” في ما يتعلّق بالعلاقة بين الإنسان والله، ليفوق في نور الإيمان دائماً البُعد “الأفقي” أي الانقسام الحاصل بين الناس والحاجة إلى المصالحة فيما بينهم. ونعرف في الواقع أن مثل هذه المصالحة فيما بينهم هي، ويمكن أن تكون، فقط ثمرة فعل فداء المسيح الذي مات وقام ليقهر سلطان الخطيئة ويجدّد العهد مع الله وينقض هكذا “جدار العداوة” (31) الذي أقامته الخطيئة بين الناس.
الكنيسة المصالِحة
8- ولكن على ما يقول القديس لاوون في كلامه عن آلام المسيح “إن كل …… ما فعل ابن الله وعلّم من أجل مصالحة العالم، لا نعرفه في تاريخ الأعمال الماضية وحسب، بل إننا نشعر به بفعل الأعمال الحاضرة (32). ونشعر بالمصالحة التي أتمّها ببشريته في مفعول الأسرار المقدسة التي تحتفل بها كنيسته، والتي أسلم ذاته إليها وجعلها في الوقت عينه علامة وأداة للخلاص.
وهذا ما أكّده القديس بولس عندما كتب أن الله أشرك رسل المسيح في عمل المصالحة الذي أتمّه. فقال: “إن (الله) وهبنا خدمة المصالحة… ووضع فينا خدمة المصالحة” (33).
لقد وضع الآب برحمته في أيدي الرسل، المبشّرين به، وفي أفواههم خدمة المصالحة، فقاموا بها خير قيام بوصفهم حائزين على القوة للعمل “في شخص المسيح”. لكن كلمة المصالحة وكّلت أيضاً لجماعة المؤمنين كلها، إلى الكنيسة بمجملها، أعني مهمة العمل، قدر المستطاع، على الشهادة للمصالحة وتحقيقها في العالم.
ويمكن التأكيد أن المجمع الفاتيكاني الثاني، عندما سمّى الكنيسة “سراً أو علامة وأداة للاتحاد بالله اتحاداً وثيقاً، ولوحدة الجنس البشري كله”، وعندما أشار إلى أن وظيفتها تهدف إلى حمل “الناس المرتبطين اليوم بروابط وثيقة مختلفة، على تحقيق الوحدة التامّة مع المسيح” (34)، لاحظ أن على الكنيسة أن تسعى خاصة إلى العودة بالناس إلى المصالحة التامة.
ويمكن إذن فهم مهمة الكنيسة بإيجاز، هذه المهمة الواسعة المتشعبة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً برسالة المسيح على أنها أساساً وظيفة مصالحة مع الله ومع الإنسان عينه ومع الإخوة ومع الخليقة جمعاء، بطريقة ثابتة لأن “الكنيسة” على ما قلنا في مكان آخر “هي من طبعها مصالِحة” (35).
والكنيسة مصالِحة لأنها تعلن رسالة المصالحة، على ما فعلت دائماً عبر تاريخها منذ عهد مجمع أورشليم (36) حتى مجمع الأساقفة الأخير، ويوبيل الفداء الجديد. وإن ما يميّز هذا الإعلان هو أن المصالحة، في ما يتعلّق بالكنيسة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتغيير القلب، وهذا هو السبيل الذي لا بدّ منه للوصول إلى التفاهم بين الناس.
والكنيسة مصالِحة أيضاً لأنها ترشد الناس إلى الطرق وتضع في متناولهم الوسائل لبلوغ المصالحة الرباعيّة المشار إليها. وهذه الطرق هي تغيير القلب والتغلّب على الخطيئة، سواءً أكانت أنانية عمياء أم ظلماً، غطرسة أم استغلالاً للغير، تكالباً على المادة أم انغماساً في الملذات. أما الوسائل فهي الإصغاء المستمر الواعي لكلام الله، والصلاة الشخصية والجماعية ولاسيما الأسرار، وهي علامات وأدوات حقيقية للمصالحة، ومن بينها يمتاز في هذا المجال ما تعوّدنا أن نسمّيه بحق سرّ المصالحة أو التوبة وسنتحدث عنه لاحقاً.
الكنيسة المصالَحة
9- كان لسلفنا الطيب الذكر بولس السادس الفضل في إعلانه أن الكنيسة لكي تبشّر بالإنجيل، عليها أن تبدأ بقبول الإنجيل، أي أن تنفتح على رسالة إنجيل يسوع المسيح كاملة، تامة، لتسمعها وتضعها موضع العمل (37)، ونحن أيضاً عندما جمعنا ونظّمنا في وثيقة الأفكار التي نتجت عن الجمعية العامّة الرابعة لمجمع الأساقفة، تحدّثنا عن كنيسة تتلقّى تعليم الإنجيل، على قدر ما تلقي هذا التعليم (38).
ولا نتردد هنا في العودة إلى المقابلة، على قدر ما تنطبق على الموضوع الذي نعالجه لنؤكّد أن الكنيسة لتكون مصالِحة، يجب أن تبدأ بأن تكون مصالَحة. وينطوي هذا التأكيد البسيط المتساوي على يقين، وهو أن الكنيسة، لكي تبشّر الناس بالمصالحة تبشيراً مجدياً وتعرضها عليهم مع الأيام، يجب أن تصبح أكثر فأكثر جماعة (ولو قطيعاً صغيراً كما في الأزمنة الأولى) تلامذة المسيح، العاملين باستمرار على الارتداد إلى الله والحياة معه، على ما يليق بأناس جدد، بالروح وممارسة المصالحة.
وعلى الكنيسة أن تُعطي لمعاصرينا الشديدي التأثر شهادة الحياة المحسوسة، مثلاً على المصالحة قبل كل شيء في داخلها. ولهذا يجب أن نبذل جميعاً قُصارى الجهد لتهدئة الخواطر وتخفيف التوتّرات، والتغلب على الانقسامات، وتضميد الجراح التي قد يحدثها الإخوة بعضهم لبعض، عندما يشتدّ اختلاف الرأي حول ما يجب اختياره، لكي نحافظ في المقابل على الوحدة في كل ما هو جوهري بالنسبة إلى الإيمان والحياة المسيحية وفقاً للقول القديم المأثور: في ما هو مشكوك فيه، الحرية، في ما لا غنى عنه، الوحدة، في جميع الحالات، المحبة.
وعلى الكنيسة أيضاً أن تقوم بنشاطها المسكوني وفقاً لهذه القاعدة وهذا المقياس. وهي تعرف في الواقع أن عليها، لكي تكون مصالحة تماماً، أن تبذل جهدها في البحث عن الوحدة بين الذين يتشرّفون بأنهم مسيحيّون، لكنهم منفصلون بعضهم عن بعض ككنائس وجماعات، وعن الكنيسة الرومانية. وهي تسعى إلى وحدة لا تعتمد، لكي تكون ثمرة مصالحة حق وتعبيراً عنها، على تجاهل ما يقسِّم أو على تسويات سهلة، بقدر ما هي سطحيّة وهزيلة. لكن الوحدة يجب أن تنبع من ارتداد الجميع الحقيقي والمغفرة المتبادلة والحوار اللاهوتي والروابط الأخويّة والصلاة والانقياد التام لعمل الروح القدس الذي هو أيضاً روح مصالحة.
وتشعر الكنيسة أخيراً، لكي تستطيع أن تقول أنها مصالَحة، بواجب يتزايد خطورة كل يوم، هو واجب العمل، عن طريق دفع “حوار الخلاص” (39) إلى الأمام، على حمل الإنجيل إلى جميع الأمم وإلى هذه القطاعات الكبيرة من الجنس البشري في عالم اليوم التي لا تشاطرها إيمانها، وعلاوة على ذلك وبفضل “علمانية متزايدة” تبتعد عنها أو تقابلها بالإهمال، هذا إذا لم تناصبها العداء وتضطهدها. وتشعر الكنيسة بأن من واجبها أن توجّه إلى هؤلاء جميعاً ما يقوله القديس بولس أن “صالحوا الله” (40).
وفي كل حال، إن الكنيسة تعمل على المصالحة في الحقيقة يقيناً منها أن لا مصالحة ولا وحدة ممكنة خارج الحقيقة أو ضدّها.
الفصل الثالث
مبادرة الله وخدمة الكنيسة
10- إن الكنيسة، بوصفها جماعة مصالِحة ومصالَحة لا يمكنها أن تنسى أن في أساس هبة المصالحة ورسالة المصالحة اللتين أعطيتهما، تقوم مبادرة طافحة بالمحبة والرحمة والشفقة هي مبادرة الله الذي هو محبة (41) والذي بدافع من المحبة خلق الناس (42)، وخلقهم ليتمكّنوا من أن يحيوا بصداقة معه، وفي اتحاد فيما بينهم.
المصالحة تأتي من الله
إن الله أمين لمقصده الأزلي حتى عندما يسيء الإنسان، بدافع من الشيطان (43) وانجرافاً مع كبريائه، استعمال الحرية المعطاة له ليحب الخير ويسعى سعياً حثيثاً إليه، رافضاً هكذا واجب الطاعة لربّه وأبيه، وكذلك حتى عندما لا يجيب الإنسان على محبة الله بالمحبة، وعندما يقاومه مقاومة خصم له، فيخدع نفسه بالاعتماد على قواه الذاتية، وهذا ما يقوده إلى قطع العلاقة القائمة بينه وبين من خلقه. وعلى الرغم من هذا الانحراف لدى الإنسان، فإن الله باقٍ على محبته. وفي الحقيقة، إن قصة الفردوس الأرضي تحمّلنا على التأمل في العواقب الوخيمة، التي نشأت عن رفض الآب، وما ولّد هذا الرفض من خلل في نفس الإنسان، ومن فقدان ألفة كانت قائمة بين الرجل والمرأة وبين الأخ وأخيه (44). ومثل الإنجيل عن الابنين اللذين ابتعدا، كل منهما على طريقته، عن أبيهما وأحدثا هوّة بينهما، له دلالته الخاصة. وإن رفض محبة الله الأبوية وعطاياه المطبوعة بطابع المحبة هو دائماً سبب انقسام الجنس البشري.
لكننا نعرف أن الله “الغني بالمراحم” (45)، لا يقفل على مثال الأب الذي يتحدث عنه المثل، باب قلبه في وجه أحد من أبنائه. فهو ينتظرهم ويبحث عنهم ويتبعهم إلى حيث يحتجزهم رفض الوصال في عزلة وانقسام، ويدعوهم إلى التحلّق حول مائدته ليحتفلوا بفرح العيد، عيد الغفران والمصالحة.
وتبلغ هذه المبادرة الإلهية غايتها وتتجلّى بفعل الفداء الذي أتمّه المسيح والذي ينتشر في العالم بواسطة خدمة الكنيسة.
وفي الواقع أن الإيمان يعلمنا أن كلمة الله قد صار جسداً وجاء يسكن أرض الناس ودخل تاريخ هذا العالم فأخذه على عاتقه واستعاده في ذاته (46) وكشف لنا أن الله محبة وأعطانا “وصية جديدة” (47) هي وصية المحبة ورسّخ فينا اليقين أن طريق المحبة مفتوحة لجميع الناس، وبالتالي أن المجهود المبذول لإعادة الأخوة الشاملة ليس بباطل (48). وبعد أن انتصر على الصليب على الشرّ وقوة الخطيئة، حمل بطاعته الملأى بالمحبة الخلاص للجميع فصار للجميع “مصالحة”، وبه صالح الله الإنسان.
ولا تفتأ الكنيسة، وهي تواصل بشارة المصالحة التي أعلنها السيد المسيح في قرى الجليل وفلسطين كلها (49)، تحثّ الناس على الارتداد والإيمان بالإنجيل. وهي تتكلم باسم المسيح، متبيّنة قول بولس الرسول الذي سبق أن أشرنا إليه: “فنحن الآن سفراء المسيح، وكأن الله يدعوكم على يدنا، فنسألكم الآن، باسم المسيح، أن تصالحوا الله” (50).
والذين يلبّون هذا النداء ينخرطون في تدبير المصالحة ويختبرون الحقيقة التي ينطوي عليها ما أعلنه أيضاً القديس بولس من أن المسيح هو “سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً، وهدم بجسده العداوة والسياج القائم في الوسط… وصالح الاثنين بجسد واحد مع الله (51). وإذا كان هذا القول يرمي مباشرة إلى وجوب تخطّي الانقسام الديني بين اسرائيل – بوصفه الشعب المختار في العهد القديم – وبين سائر الشعوب المدعوّة جميعها إلى المشاركة في العهد الجديد، فهو يؤكد مع ذلك أن الله أوجد شموليّة جديدة روحية حققها بذبيحة ابنه الكلمة الذي صار إنساناً دونما حدود ولا استثناء، وهي شمولية تتناول جميع الذين يرتدون ويؤمنون بالمسيح. إنّا إذن مدعوون جميعاً إلى قطف ثمرة هذه المصالحة التي أرادها الله: كل إنسان وكل شعب.
الكنيسة، سر المصالحة الكبير
11- وتقوم مهمّة الكنيسة على إعلان هذه المصالحة وعلى أن تكون هي سرّها في العالم. وفي الواقع أن الكنيسة “سرّ”، أعني علامة المصالحة وأداتها، بطرق مختلفة تتفاوت قدراً وقيمة، ولكنها تهدف جميعها إلى إدراك ما أراد الله برحمته أن يمنح الإنسان.
وهي على الأخص سرّ لمجرّد وجودها كجماعة مصالحة تشهد لعمل المسيح في العالم وتمثّله.
وهي أيضاً سرّ بما تقوم به من خدمة في المحافظة على الكتب المقدسة وشرحها وهي كتب بشارة المصالحة المفرحة لأنها تظهر من جيل إلى جيل قصد الله المفعم بالمحبة، وترشد كلاُّ من الناس إلى سبل المصالحة الشاملة بالمسيح.
وهي أخيراً سرّ بفضل الأسرار السبعة التي “تبني الكنيسة”(52) كل منها على طريقته ولأن هذه الأسرار جميعها تذكّر بسرّ المسيح الفصحي وتجدّده، فهي ينبوع حياة للكنيسة التي تستخدمها بيدها كأدوات ارتداد إلى الله ومصالحة بين الناس.
سبل اخرى للمصالحة
12- إن رسالة المصالحة هي شأن الكنيسة جمعاء بما فيها على الأخص تلك التي تشترك في المجد الإلهي صحبة العذراء مريم الملائكة والقديسين الذين يتأملون في الله القدوس ويعبدونه. وتتحد كنيسة السماء بكنيسة الأرض وكنيسة المطهر اتحاداً سرّياً بالتعاضد مع المسيح من أجل مصالحة العالم مع الله.
وأول سبيل لهذا العمل الخلاصي إنما هو الصلاة. وما من شكّ في أن العذراء أم المسيح والكنيسة (53)، والقديسين الذين أنهوا مسيرتهم على الأرض وهم ينعمون بمجد الله يساندون بشفاعتهم إخوانهم المسافرين على الأرض في ما يبذلون من جهود من أجل الارتداد، والإيمان، والنهوض بعد كلّ كبوة، والعمل على تنمية الاتحاد والسلام في الكنيسة والعالم. وفي سرّ شركة القديسين تتحقق المصالحة الشاملة بأسمى صيغة لها وأكثرها فائدة لخلاص الجميع.
وهناك أيضاً سبيل آخر هو سبيل الإرشاد. إن الكنيسة تلميذة المعلم الأوحد يسوع المسيح، لا تفتأ بدورها، كأم ومعلمة، تقترح على الناس المصالحة ولا تتردد في الجهر بشرّ الخطيئة، والمناداة بضرورة الارتداد وحثّ الناس على “المصالحة” ودعوتهم إليها. وفي الواقع أن هذه هي رسالتها النبويّة في عالم اليوم، مثلها في عالم الأمس، وهي رسالة معلّمها ورأسها يسوع. وتقوم الكنيسة دائماً على مثاله بهذه الرسالة بعاطفة المحبة والشفقة وتحمل إلى الجميع كلام الغفران والدعوة إلى الرجاء النابع من الصليب.
وهناك أيضاً سبيل العمل الصعب الشاق في غالب الأحيان، العمل الرعوي من أجل إعادة كل إنسان – أيّاً يكن وحيثما يكن – إلى الطريق الطويل أحياناً، طريق العودة إلى الآب بالاشتراك مع جميع الإخوة.
وهناك أخيراً سبيل الشهادة، الصامت تقريباً دائماً، الذي ينشأ عن وعي الكنيسة المزدوج: وعيها أنها في ذاتها “مقدسة أبداً” (54). وأنها في حاجة أيضاً إلى أن “تتطهّر…. يوماً بعد يوم، حتى يقدّمها المسيح لذاته مجيدة لا عيب فيها ولا غضن” لأن وجهها قد يكون، أحياناً لسبب خطايانا “أقل إشعاعاً” في عين من ينظرون إليها (55): ولا يمكن إلاّ أن يكون لهذه الشهادة وجهان أساسيّان: وهما أولاً علامة المحبة الشاملة التي تركها السيد المسيح إرثاً لتلاميذه اثباتاً لانتمائهم إلى ملكوته، وثانياً ترجمة هذه الشهادة إلى أعمال دائمة الجدّة من الارتداد والمصالحة في داخل الكنيسة وخارجها، عن طريق التغلّب على التوترات والغفران المتبادل، وتنمية روح الإخوّة والسلام ونشرها في العالم كله. وبإمكان الكنيسة في نهاية هذا الطريق الطويل أن تعمل عملاً مفيداً من أجل ما سمّاه سلفنا بولس السادس “حضارة المحبة”.
القسم الثاني
المحبة أقوى من الخطيئة
مأساة الإنسان
13- كما يقول يوحنا الرسول: “وإذا قلنا إننا بلا خطيئة خدعنا أنفسنا، ولم يكن فينا الحق. وإذا اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وصادق ليغفر لنا خطايانا” (56).
إن هذه العبارة الموحاة التي كتبت في فجر حياة الكنيسة، تمهّد خيراً من أي كلام بشري، للحديث عن الخطيئة المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحديث عن المصالحة. فهي تعرض مشكلة الخطيئة في إطارها البشري بوصفها جزءاً لا يتجزأ من حقيقة الإنسان، ولكنها تضعها حالاً في إطارها الإلهي، حيث تواجه الخطيئة حقيقة المحبة الإلهية، العادلة السخية الأمينة التي تتجلّى على الأخص بالمغفرة والفداء. ولهذا كتب القديس يوحنا عينه بعد ذلك بقليل أنه: “إذا كان قلبنا يبكّتنا، فكم الله هو أعظم من قلبنا” (57).
الإقرار بالخطأ – مع تعمّق كلٍّ في التفكير في شخصيته – ليعترف حقاً بأنه خاطئ وباستطاعته أن يخطأ وميّال إلى الخطيئة، هذا هو المبدأ الذي لا بدّ منه للعودة إلى الله. وهذا هو الاختبار الفريد الذي قام به داوود والذي “بعد أن صنع الشر في عين الرب” ونال عليه التوبيخ من النبي ناتان (58)، هتف قائلاً: “إني عالم بمعاصيّ، وخطيئتي أمامي في كل حين. إليك وحدك خطئت والشرّ أمام عينيك صنعت” (59). وبعد فإن يسوع يضع على شفتي الابن الضال وفي قلبه الكلمات المعبّرة: “يا أبتِ، خطئت إلى السماء وأمامك” (60).
وفي الواقع إن المصالحة مع الله تقتضي وتتضمن الإقلاع، عن وعي وقصد، عن الخطيئة التي يكون الإنسان قد سقط فيها. وهذا يقتضي إذن، ويتضمن فعل توبة بكل ما للكلمة من معنى: أعني الندامة وإبداء الأسف، واتخاذ موقف النادم الحقيقي، وهو موقف مَن يسلك طريق العودة إلى الآب. وهذه قاعدة عامة يجب على كل واحد أن يسير عليها في الحالة الخاصة التي يجد نفسه فيها. ذلك أنه لا يجوز الحديث عن الخطيئة والتوبة بعبارات مجرّدة فقط.
وفي الحالة الراهنة، حالة الإنسان الخاطئ التي يستحيل معها الارتداد دون الإقرار بالخطأ، تتدخّل خدمة المصالحة التي تقوم بها الكنيسة في كل حادثة بقصد محدّد وهو الحمل على التوبة، أي بقصد حمل الإنسان على معرفة ذاته” التي تتحدث عنها القديسة كاترينا السيانية (61)، والإقلاع عن الشر، واستعادة الصداقة مع الله، وإحلال النظام الداخلي، والارتداد الكنسي الجديد. أضف إلى ذلك أن رسالة التوبة وخدمتها موجّهتان، خارج إطار الكنيسة والمؤمنين، إلى جميع الناس، لأنهم جميعاً بحاجة إلى الارتداد والمصالحة (62).
ولإتمام هذه الخدمة، على ما ينبغي، يجب تقييم نتائج الخطيئة “بعيون (الإيمان) المستنيرة” (63). أي أسباب الانقسام والخصام ليس فقط داخل كل إنسان، بل أيضاً في مختلف الأوساط التي يعيش فيها من مثل العائلة، والمحيط والمهنة والمجتمع، على ما تمكن غالباً معرفته بالاختبار، وتؤكّده قصة مدينة بابل وبرجها اللذين ورد ذكرهما في الكتاب المقدس (64). وقد قصد هؤلاء الناس بناء ما أرادوه علامة للوحدة موئلاً لها، فإذا بهم قد تفرّقوا أكثر من ذي قبل، فاختلطت ألسنتهم وتقسّموا ولم يقدروا على التفاهم والوفاق.
لماذا فشل مشروعهم على ما فيه من طموح؟ لماذا “تعب البناؤون باطلاً” (65)؟ لأن الناس جعلوا علامة الوحدة المبتغاة ودرعها الواقية من صنع أيديهم متناسين الله، فاعتمدوا على ما لعملهم وحياتهم الاجتماعية من بعد “أفقي”، وأهملوا البعد “العمودي” الذي كان باستطاعتهم، بفضله، أن يتوطّدوا في الله، خالقهم وربّهم ويسعوا إليه بوصفه الغاية الأخيرة لمسيرة حياتهم.
ويمكن التأكيد أن مأساة الناس اليوم، مثل مأساتهم في كل زمان، تكمن أساساً في نزعتهم هذه “البابلية”.
الفصل الأول
سرّ الخطيئة
14- إذا قرأنا، على الضوء الجديد الذي يلقيه الإنجيل، ما رواه الكتاب المقدس عن مدينة بابل وبرجها، وقابلناه بالمقطع الذي يصف سقطة الأبوين الأوّلين، يمكننا أن نعثر فيه على عناصر قيّمة تمكننا من تفهم سر الخطيئة. إن هذه العبارة التي تعيد صدى ما كتبه القديس بولس عن سر الإثم (66)، من شأنِها أن تسعفنا على فهم ما في الخطيئة من غموض يدق على الأفهام. ما من شك في أن الخطيئة هي من صنع حرية الإنسان، لكن هناك أسباباً تعمل في صميم واقعها البشري، فتضعها فوق ما هو بشري، في تلك المنطقة الحدودية التي يلامس فيها الضمير والإرادة والإحساس لدى الإنسان قوى الظلام التي تعمل، على ما يقول القديس، في العالم حتى لتبسط سلطانها عليه (67).
معصية الله
يبدو من رواية الكتاب المقدس عن بناء برج بابل أن هناك نقطة أوّلية تساعدنا على تفهّم الخطيئة، وهي أن الناس قد أرادوا أن يبنوا مدينة ويقيموا مجتمعاً، ويكونوا ذوي حول وطول بمعزل عن الله، ولا نقول ضد الله (68). ومن هذه الجهة إن قصة الخطيئة الأولى التي ارتكبت في جنّة عدن، وقصة بابل، ولو اختلفتا اختلافاً كبيراً، محتوى وصيغة، فإنهما تجمعان على أمر واحد وهو أن كلتيهما تستبعد الله، لأن الناس يرفضون وصيّته ويدخلون في مزاحمة معه، ويدّعون باطلاً أنهم “مثله” (69). وفي قصة بابل لا يبدو استبعاد الله منافسة له، بل بالأحرى تناسياً له وإهمالاً، حتى لكأنه ما من فائدة تُرجى منه، في ما يتعلّق بما عزم عليه الإنسان من إقامة بناء ومجتمع. لكن العلاقة مع الله في كلتا الحالتين، انقطعت انقطاعاً عنيفاً. ففي حادثة عدن يبدو كم هو خطير وضائر ما يشكل طبيعة الخطيئة في أعماقها وجانبها المظلم: إنها معصية الله وخروج على شريعته، وعلى القاعدة الأدبيّة التي أعطاها للإنسان وكتبها في قلبه وأثبتها وأتمّها بالوحي.
استبعاد الله والقطيعة مع الله، ومعصية الله، هذا كان وما هو على مرّ التاريخ، ما ندعوه الخطيئة، على اختلاف أشكالها، وهي أشكال يمكنها أن تذهب إلى حدّ إنكار الله وجوده، وهذا ما يُعرَف بالإلحاد.
ومعصية الإنسان هي أن لا يعترف – بفعل حرّ منه – بسلطان الله على حياته، على الأقلّ في اللحظة الخاصة التي يخرق فيها شريعته.
الانقسام بين الإخوة
15- في الرواية التي أشرنا إليها سابقاً أدّت القطيعة مع الله بطريقة مأساوية إلى الانقسام بين الإخوة.
والقطيعة مع يهوه، في وصف “الخطيئة الأولى”، قطّعت في الوقت عينه رابطة الصداقة التي كانت تربط العائلة البشرية. ولهذا تظهر صفحات التكوين التالية الرجل والمرأة وكأن كلاًّ منهما يوجّه إلى الآخر أصبع الاتهام (70)، ثم تظهر لنا أخاً يناصب أخاه العداء ويقتله في النهاية (71).
وفي رواية أحداث بابل كانت نتيجة الخطيئة تمزيق العائلة البشرية الذي كان قد ابتدأ منذ الخطيئة الأولى، وقد وصل الآن إلى ذروته، على المستوى الاجتماعي.
مَن أراد أن يبحث في سرّ الخطيئة، لا يمكنه أن يتجاهل هذه الرابطة القائمة بين الأسباب والنتائج. إن الخطيئة، بما أنها قطيعة مع الله، هي فعل معصية ينبذ معه الإنسان، ضمناً على الأقل، مَن منه أتى، ومَن يحفظه في الحياة. إنها إذن عمل انتحاري. لأن الإنسان بارتكابه الخطيئة، يرفض الخضوع لله، فيختلّ توازنه الداخلي، وتنشأ في داخله التناقضات والصراعات. والإنسان وقد أصبح ممزّقاً هكذا، يقطع حتماً تقريباً الروابط التي تشدّه إلى سائر الناس وإلى الخليقة. هذه هي القاعدة وهذا هو الواقع الراهن الذي نجده في الكثير من الحالات النفسية وفي الحياة الروحية، وحتى في أحداث الحياة الاجتماعية التي تسهل فيها رؤية ما لاختلال التوازن الداخلي من نتائج وعلامات.
إن سرّ الخطيئة ينطوي على هذين الجرحين اللذين يفتحهما الخاطئ في ذاته وفي علاقته مع القريب. ولهذا يمكن التحدّث عن خطيئة شخصية واجتماعية: كل خطيئة هي من ناحية، شخصية، ومن ناحية أخرى، اجتماعية، بما أن لها ولأن لها تأثيرها على المجتمع.
الخطيئة الشخصية والخطيئة الاجتماعية
16- إن الخطيئة بالمعنى الحصري، هي دائماً فعل الفرد، لأنها فعل حرّ يقوم به أحد الناس وليس حصراً فئة أو جماعة. قد يكون هناك ظروف تقيّد هذا الفرد أو أسباب خارجيّة خطيرة عديدة تضغط عليه أو تدفعه، أو أنه يخضع لميول ونقائص وعادات ترتبط بحالته الاجتماعية. إن مثل هذه الأسباب الداخلية والخارجية قد تخفف في حالات كثيرة، قليلاً أو كثيراً من حريّته، وبالتالي من مسؤوليته وجرمه. غير أن هناك حقيقة إيمانيّة يؤيّدها عندنا الاختبار والعقل، وهي تؤكّد أن الشخص البشري حرّ. ولا يمكن تجاهل هذه الحقيقة قصد إلقاء تبعة خطيئة الأفراد على أسباب خارجية من مثل بُنى المجتمع البشري والأنظمة أو ما سوى ذلك. وبعد فإن هذا ينفي حرية الإنسان وكرامته اللتين تظهران – ولو سلباً ومأسوياً – في مسؤوليته عن الخطيئة المرتكبة. ولهذا فليس في الإنسان ما هو شخصي، وخاص به، ولا يمكنه التنازل عنه لسواه، مثل الفضل عن الفضيلة والمسؤولية عن الخطيئة.
وتقع أولى نتائج الخطيئة وأخطرها – والخطيئة هي فعل الشخص – على الخاطئ عينه: أي على علاقته مع الله، أساس الحياة البشرية، وعلى عقله، فتضعف إرادته وتظلم بصيرته.
لا بدّ الآن من السؤال: ماذا كان يقصد أولئك الذين كانوا، لدى الإعداد للمجمع وفي أثناء انعقاده، يتكلمون عن الخطيئة الاجتماعية. إن لهذه اللفظة، والحق يقال، وما تنطوي عليه من مفهوم معاني مختلفة.
إن الحديث عن الخطيئة الاجتماعية معناه، قبل كل الإقرار بأن خطيئة كل من الناس، بقوة ما بنهم من تضامن عجيب، غير مُدرك بقدر ما هو واقع وأكيد، تؤثر بطريقة ما على الآخرين. وهذا وجه آخر لذلك التضامن الذي يتطوّر على الصعيد الديني في سر “شركة القديسين” العميق العجيب والذي بفضله أمكن القول إن “كل نفس ترتفع، ترفع العالم” (72). ويقابل قاعدة الارتفاع هذه لسوء الطالع قاعدة الانحدار، حتى ليمكن التحدّث عن “الشركة في الخطيئة”، وتنحدر النفس فيها بالخطيئة فتحدر معها الكنيسة ونوعاً ما العالم كله. وبعبارة أخرى ما من خطيئة ولو كانت على أكبر قدر من الحميميّة والسرية والفردية تعني فقط من ارتكبها وحده. لأن كل خطيئة كبر أم صغر حجمها كثر أم قل أذاها ينعكس أثرها على الجماعة الكنسيّة كلها وعلى العائلة البشرية جمعاء. وبهذا المعنى الأول، يمكن دونما شك اعتبار كل خطيئة، خطيئة اجتماعية.
غير أن هناك بعض خطايا تشكّل بموضوعها، إساءة مباشرة إلى القريب، أو على وجه التحديد – وفقاً للتعبير الإنجيلي – إلى الإخوة. إنها إهانة لله لأنها تهين القريب. وهذه الخطايا تدعى عادة اجتماعية. وهذا هو المعنى الثاني للفظة. وبهذا المعنى، إنها اجتماعية كل خطيئة ضد القريب، وهي في شريعة المسيح خطيرة، على الأخص لأنها تنافي الوصية الثانية، الشبيهة بالأولى (73). وإنها أيضاً اجتماعية كل خطيئة تُقتَرف ضد العدل في العلاقات القائمة بين الأشخاص، وبين الشخص والمجتمع، وبين المجتمع والشخص. إنها اجتماعية كل خطيئة تمسُّ بحقوق الإنسان، ولاسيما حق الحياة، ولا يستثنى حق من سيولدون، وتمسُّ بسلامة الإنسان الجسدية، وكل خطيئة تنتقص من حرية الآخرين وقبل كل شيء حرية الإيمان بالله وعبادته وهي أسمى الحريات، ولك خطيئة تتناول كرامة الإنسان وشرفه. وإنها خطيئة اجتماعية كل خطيئة تقتَرف بحق الخير العام ومتطلباته في المجال الواسع، مجال حقوق المواطنين وواجباتهم. ويمكن أن تكون اجتماعية كل خطيئة فعل أو إهمال يرتكبها الحكّام ورجال الاقتصاد والنقابيّون الذين رغم أنهم قادرون لا يعملون بفطنة على تحسين حالة المجتمع أو تطويره، وفقاً لمقتضيات الأحوال والظروف، وأيضاً تلك التي يرتكبها العمال الذي يخلّون بواجب الحضور والقيام بالعمل، لتمكين المؤسسات من مواصلة تأمين خيرهم وخير عائلاتهم والمجتمع كله.
والمعنى الثالث للخطيئة الاجتماعية يتناول العلاقات القائمة بين مختلف الجماعات البشرية. وهذه العلاقات لا تتوافق دائماً ومقاصد الله الذي يريد أن تسود العدالة في العالم، والحرية والسلام بين الناس والفئات والشعوب. من هنا إن صراع الطبقات أيّاً يكن الدافع إليه وأحياناً واضع قواعده، هو شرّ اجتماعي. وكذلك الخصومات المتمادية بين الأمم المتحالفة، وبين أمّة وأمّة وفئات وفئات في الأمّة الواحدة، هي شر اجتماعي. ولا بدّ في جميع هذه الحالات من التساؤل عمّا إذا كان بالإمكان إلقاء مسؤولية مثل هذه الشرور وبالتالي الخطيئة على أحد الناس. ينبغي الاعتراف بأن وقائع وأحوالاً كالتي ذكرناها بما أنها تنتشر انتشاراً واسعاً، وتتزايد بكثرة وشدّة كوقائع اجتماعية، تصبح تقريباً دائماً مجهولة الفاعل. كما أن أسبابها معقّدة لا يمكن دائماً الاهتداء إليها. ولهذا، إذا دار الكلام عن خطيئة اجتماعية فإن للكلمة هنا معنى مشابهاً. وعلى كلّ إذا تكلّمنا عن خطيئة اجتماعية ولو في باب التشبيه والاستعارة فلا ينساقنّ أحد إلى التقليل من مسؤولية الأفراد بل يجب استحثاث ضمير الجميع ليعملوا، بجدّ وجرأة على تبديل هذه الأوضاع الفاسدة والأحوال التي لا تطاق.
بعد أن قيل ما قيل بوضوح ودونما إبهام، لا بدّ من الإضافة فوراً أن هناك مفهوماً للخطيئة الاجتماعية غير مشروع ولا مقبول، على رغم أنه يتردّد غالباً في عصرنا في بعض الأوساط (74)، ويقود هذا المفهوم بوضعه الخطيئة الاجتماعية وضعاً مبهماً في مقابل الخطيئة الشخصية، عن وعي أو غير وعي، إلى التخفيف من الخطيئة الشخصية ومحوها تقريباً والاعتراف فقط بالخطايا والمسؤوليات الاجتماعية ووفقاً لهذا المفهوم النابع على ما هو ظاهر من عقائد وأنظمة غير مسيحية، – وربما أهملها اليوم الذين كانوا يرجون لها – أن كل خطيئة هي اجتماعية، بمعنى أن مسؤوليتها لا تقع على الضمير الأدبي لشخص معيّن، بقدر ما تقع على كيان مبهم أو مجموعة لا اسم لها من مثل الحالة والنظام والمجتمع والبُنى والمؤسسة إلى ما سوى ذلك.
والحال أن الكنيسة، عندما تتحدّث عن بعض حالات الخطيئة أو عندما تندّد ببعض الأحوال، وتصرفات بعض الفئات الاجتماعية، كبيرة كانت أم صغيرة، وحتى بمواقف أمم بكاملها أو مجموعة أمم، على أنها خطايا اجتماعية، تعرف وتعلن أن خطايا اجتماعية من هذا النوع هي نتيجة عدّة خطايا شخصية متراكمة، مترابطة. إنها خطايا شخصية يقترفها من يتسبّب بالظلم ويسانده أو يستغلّه، ومن كان بإمكانه أن يعمل على تحاشي بعض الأضرار الاجتماعية وإزالتها، أو على الأقل وضع حدّ لها، وتقاعس عن ذلك، إهمالاً وخوفاً وممالقة وسكوتاً مُخزياً، وتواطؤاً مقنَّعاً أو لا مبالاة، ومن يختبئ وراء الإدعاء باستحالة تغيير العالم، ومن يريد أيضاً اجتناب المشقّة أو التضحية باختلاقه أسباباً هامة. إن المسؤولية الحقيقية تقع إذن على عاتق الأشخاص.
ما من وضع – كما أنه ما من مؤسسة، وما من بنية، وما من مجتمع – هو بحدّ ذاته موضوع أفعال أدبية. لهذا فهو ليس بحدّ ذاته جيداً أو سيئاً.
ففي أساس كل وضع أو حالة خطيئة إذن، أناس خطاة. وهذا صحيح إلى حدّ أنه إذا أمكن تغيير وضع من حيث البُنية والصيغة بقوّة الشريعة أو على ما يحدث غالباً ويا للأسف بشريعة القوة، يتبيّن أن التغيير في الواقع هو غير كامل وقصير المدى وفي النهاية غير مُجدٍ ولا مفيد – لئلا نقول أنه يؤدّي إلى خلاف المراد – إذا كان الأشخاص المسؤولون مباشرة أو غير مباشرة، عن هذا الوضع لا يتغيّرون.
خطيئة مميتة، خطيئة عرضيّة
17- ولكن هوذا بُعدٌ آخر في سرّ الخطيئة ما فتئ عقل الإنسان يتأمل فيه: وهو خطورتها.
وهذا سؤال لا بدّ منه، وما حاول الضمير الإنساني يوماً رفض الإجابة عليه: لماذا وإلى أيّ مدى تعتبر الخطيئة خطيرة بوصفها إهانة لله، ونظراً إلى أثرها على الإنسان؟ إن للكنيسة عقيدة خاصة بشأن هذه المسألة، وهي تؤكّدها في خطوطها الأساسية، على الرغم من معرفتها أنه ليس دائماً من السهل في بعض حالات محدّدة، وضع حدود لها، واضحة ودقيقة.
لقد سبق الكلام في العهد القديم عن خطايا عديدة – تلك التي ترتكب عن قصد ومعرفة (75) من مثل أنوا خطايا الدنس (76)، وعبادة الأصنام (77)، والآلهة الكذبة (78) – ويجب على مرتكبها أن “يفصل عن شعبه” وهذا معناه أيضاً أن يحكم عليه بالموت (79). وفي المقابل هناك خطايا، ولاسيما تلك التي ترتكب عن جهل، كان يمكن مغفرتها بتقدمة ذبيحة (80).
والكنيسة بالاستناد إلى هذه النصوص تتحدّث دائماً، منذ قرون عن خطيئة مميتة وخطيئة عرضيّة. ولكن هذا التمييز وهذه الألفاظ على الأخص في العهد الجديد، وفيه نصوص كثيرة تعدّد الخطايا التي تستوجب الرذل (81) وتقبّحها، فضلاً عن أن السيد المسيح عينه ثبّت الوصايا العشر (82). ونريد هنا أن نتحدث بوجه خاص عن مقطعين لهما مدلولهما ووقعهما العميق في النفس.
يتحدث القديس يوحنا في مقطع من رسالته الأولى عن خطيئة تقود إلى الموت (بروس ثاناتون)، في مقابل خطيئة لا تقود إلى الموت (ميا بروس ثاناتون) (83). ولا حاجة هنا إلى الإيضاح أن الموت يعني الموت الروحي. فالمسألة مسألة فقدان الحياة الحقّ أو “الحياة الأبدية” التي هي في نظر يوحنا معرفة الآب والابن (84) والاتحاد بهما وتوثيق العلاقة معهما.
يبدو أن الخطيئة التي تقود إلى الموت في المقطع الذي أوردناه من رسالة القديس يوحنا الأولى هي رفض الابن (85)، أو عبادة الآلة الكذبة (86). ومهما يكن من أمر فإن يوحنا يبدو أنه أراد بهذا التمييز بين المفاهيم أن يشير إلى ما في ما يشكّل جوهر الخطيئة من خطورة بالغة، أي رفض الله.
وهذا ما يحدث على الخص لدى الجحود وعبادة الأصنام أي رفض الإيمان بالحقيقة الموحاة والمساواة بين الله وبعض الخلائق التي يصنع منها أصناماً أو آلهة كذبة (87). لكن الرسول يريد أيضاً في هذا المقطع أن يوضح أمراً راهناً لدى المسيحيّ وهو أنه “مولود من الله” بفعل “مجيء الابن”: إن فيه قوة تقيه السقوط في الخطيئة، والله يحفظه، و”الشرير لا يقوى عليه”. لأنه إذا خطئ عن ضعف أو جهل، فهو يثق من المغفرة لاعتماده على المساندة التي تمدّه بها صلاة الإخوة المشتركة.
وفي مقطع آخر من العهد الجديد، وعلى الأخصّ من إنجيل متى (88)، يتحدّث يسوع عينه عن “التجديف على الروح القدس” الذي “لا يغفر” لأنه يقوم على اختلاف مظاهره على رفض العودة إلى محبة أبر المراحم.
وهذه في الحقيقة تعابير فريدة بالغة الخطورة لأنها تعني رفض الله وغمط نعمته وبالتالي مقاومة مبدأ الخلاص عينه (89)، حتى لكأن الإنسان يسدّ عن قصد وتصميم على نفسه طريق المغفرة. غير أن هناك أملاً بأن قلّة من الناس يظلّون حتى النهاية على عنادهم وتنكّرهم لله وتحدّيهم إياه تحدّياً سافراً، وذلك لأن الله على ما يعلّمنا أيضاً القديس يوحنا (90)، هو “أعظم من قلبنا” في محبته ورحمته، وبإمكانه أن يتغلّب على كل مقاومة نفسية وروحية نبديها. لهذا يجب، على ما كتب القديس توما الأكويني، “ألاّ نيأس من خلاص أحد في هذه الحياة نظراً إلى قدرة الله ورحمته” (91).
لكن عندما نواجه مشكلة لقاء الإرادة المتمرّدة والله الكلّي العدالة، لا يمكننا ألاّ ننمّي مشاعر “الخوف والارتعاد” الخلاصيّة، على ما يوحي به القديس بولس (92)، غير أن تحذير يسوع من الخطيئة التي “لا يمكن أن تغتفر” يثبت وجود خطايا قد تستجلب على الخاطئ عقاب “الموت الأبدي”.
لقد ميّز الملافنة واللاهوتيّون والمعلّمون الروحيون والرعاة، في ضوء هذه النصوص من الكتاب المقدس وسواها، بين الخطايا المميتة والخطايا العرضيّة وتحدّث القديس أغسطينوس على الأخص عن جرائم تحمل الموت في مقابل هفوات عرضية، خفيفة أو يوميّة (93). وقد أثّر، فيما بعد، ما أعطى هذه الصفات من معنى، في تعليم الكنيسة وأعلن بعده القديس توما الأكويني بأوضح عبارة ممكنة العقيدة التي أصبحت ثابتة في الكنيسة.
عندما يميّز القديس توما، في لاهوت الخطيئة الذي وضعه، بين الخطايا المميتة والخطايا العرضية ويحدّدها لم يكن باستطاعته أن يتجاهل ما لذلك من علاقة بالكتاب المقدس، وبالتالي أن يتجاهل مفهوم الموت الروحي. ولكي يعيش الإنسان وفقاً للمعلّم الملائكي بحسب الروح يجب أن يبقى متّحداً بمبدأ الحياة الأعلى وهو الله بوصفه الغاية الأخيرة لكل كيانه ولكل عمله. والحال أن الخطيئة هي إخلال بهذا المبدأ الحيوي الذي يتسبّب به الإنسان. وعندما “تُخلّ النفس بالنظام بارتكابها الخطيئة إخلالاً يذهب بها إلى حدّ القطيعة والانفصال عن الغاية الأخيرة أي الله المرتبطة به برباط المحبة تكون هناك خطيئة مميتة، وعلى العكس من ذلك، كلّما لم يذهب الخلل إلى حدّ القطيعة والانفصال عن الله، فالخطيئة تكون عرضيّة” (94).
فلهذا لا تحرم الخطيئة العرضية من النعمة المبرّرة، ومن صداقة الله والمحبة ولا بالتالي من السعادة الأبدية فيما أن مثل هذا الحرمان هو في الواقع نتيجة الخطيئة المميتة.
وفضلاً عن ذلك إن القديس توما وسواه من الملافنة، عندما ينظرون إلى الخطيئة من حيث العقاب الذي تستوجبه، يسمّون مميتة الخطيئة، التي إن لم تغفر تؤدي إلى العقاب الأبدي، وعرضية التي تستوجب عقاباً زمنياً فقط (أي جزئياً ويمكن التكفير عنه على الأرض أو في المطهر).
وإذا نظرنا بعدئذٍ إلى مادة الخطيئة، فإن مفاهيم الموت والانفصال التام عن الله، الخير الأسمى والانحراف عن الطريق المؤدي إلى الله، أو التوقّف عن السير إليه ( وهذه كلها صيغ للتعبير عن الخطيئة المميتة) ترتبط بمفهوم ما ينطوي عليه مضمون الخطيئة الوضعي من خطورة. ولهذا فإن الخطيئة الثقيلة هي ذاتها عمليّاً في العقيدة وعمل الكنيسة الرعوي، الخطيئة المميتة.
ونصل هنا إلى لبّ تعليم الكنيسة التقليدي الذي غالباً ما عاد إليه المجمع الأخير وشدّد عليه. ولم يؤكّد المجمع في الواقع تعليم المجمع التريدنتيني بشأن وجود الخطايا المميتة والعرضيّة وطبيعتها (95) وحسب، بل ذكّر أيضاً بأن الخطيئة المميتة هي الخطيئة التي يكون موضوعها مادة ثقيلة، والتي فضلاً عن ذلك ترتكب عن معرفة تامة وقصد وتصميم. وتجب الإضافة – على ما فعله المجمع – أن بعض الخطايا هي من طبيعتها ثقيلة ومميتة، وهناك أفعال من ذاتها وفي ذاتها، بمعزل عن الظروف هي دائماً قبيحة بالنظر إلى موضوعها. وهذه الأفعال إذا اقترفت عن وعي كاف وحرية تامة، هي دائماً إثم ثقيل (96).
إن هذه العقيدة التي تستند إلى الوصايا العشر وتبشير العهد القديم والتي اعتنقها إعلان إيمان الرسل، والتي ترجع إلى أقدم تعليم في الكنيسة وهي لا تفتأ تكرّرها حتى اليوم، تتحقّق تماماً بالاختبار البشري في كل الأزمنة. إن الإنسان يعرف جيداً بالاختبار، أن بإمكانه أن يتوقّف على طريق الإيمان والعدالة أو يجنح عنها، هذه الطريق التي تقوده إلى معرفة الله ومحبته في هذه الحياة وإلى الاتحاد الكامل به في الأبدية، دون أن يخرج عن طريق الله. وفي هذه الحالة تكون الخطيئة عرضيّة. ولكن يجب ألاّ نحفّف من شأنها كما لو كانت شيئاً يجب إهماله أو “خطيئة لا تُحسب”.
إن الإنسان يعرف، والحق يُقال، باختباره المرير أن باستطاعته أن يبدّل مسيرته بفعل إرادة منه واعٍ وحرّ، ويسير في الاتجاه المعاكس لإرادة الله، ويبتعد هكذا عنه (وهذا ما يُدعى تحوّلاً عن الله)، رافضاً الاتحاد به القائم على المحبة، منقطعاً عن مبدأ الحياة الذي هو الله، مختاراً بالتالي الموت.
إنّا، جرياً على تقليد الكنيسة بأجمعه، ندعو خطيئة مميتة الفعل الذي يرفض الإنسان به بحريته ومعرفته الله وشريعته وعهد المحبة الذي يعرضه الله عليه، مفضّلاً الانطواء على ذاته أو التحوّل إلى ما يعاكس إرادة الله (وهذا يدعى تحوّلاً إلى الخليقة). وهو ما قد يحدث بطريقة مباشرة ومقصودة كما في خطايا عبادة الأصنام والجحود أو بطريقة مشابهة موازية كما في كل فعل معصية لوصايا الله في مادّة ثقيلة. ويعرف الإنسان حق المعرفة أن معصية الله هذه تقطع ما يشدّه إلى مبدئه الحيوي من روابط وهذه خطيئة مميتة أي فعل يهين الله ويرتدّ في النهاية على الإنسان عينه بقوة طاغية، مدمّرة غامضة.
في جمعية المجمع العمومية، اقترح بعض الآباء ثلاثة أنواع من الخطايا مقسّمة إلى عرضية وثقيلة ومميتة. وبإمكان هذا التقسيم المثلث أن يُظهر أن في الخطايا الثقيلة نوعاً من التدرّج. إنّما يبقى دائماً صحيحاً أن هناك فرقاً جوهرياً أكيداً بين الخطيئة التي تقضي على المحبة، والخطيئة التي لا تقتل الحياة الروحية: وما من حدّ وسط بين الحياة والموت.
وكذلك يجب اجتناب ردّ الخطيئة المميتة إلى “فعل اختيار أساسي” – على ما يقال اليوم – ضدّ الله، وهو اختيار يعني احتقار الله أو القريب بصورة صريحة ومقصودة. وهناك أيضاً في الواقع خطيئة مميتة، عندما يختار الإنسان عن معرفة وتصميم، لأي سبب كان، أمراً مخلاًّ بالنظام إخلالاً كبيراً. وفي الحقيقة أن في مثل هذا الاختيار بحدّ ذاته، امتهاناً للشريعة الإلهية ورفضاً لمحبة الله للبشرية وللخليقة كلها: إن الإنسان يبتعد من تلقاء نفسه عن الله، ويخسر المحبة. فيمكن إذن تغيير نزعة الإنسان الأولية تغييراً أساسياً. وما من شك في أنه قد يكون هناك حالات معقدة جداً وغامضة على الصعيد النفساني، لها تأثيرها الكبير على مسؤولية الخاطئ الشخصية. لكن لا يمكن الانتقال من اعتبارات نفسية إلى تشكيل مقولة لاهوتية جديدة مثل “الاختيار الأساسي” بحيث يفهم فهماً يغيّر مفهوم الخطيئة المميتة بمعناها التقليدي تغييراً موضوعياً أو يضعها موضع الشك.
وإذا كان من الواجب تقدير كل جهد مخلص، فطن ليتوضّح سر الخطيئة النفساني واللاهوتي، فإن من واجب الكنيسة كذلك أن تذكّر كلّ الذين يكبّون على درس هذه المادة، إما بضرورة بقائهم أمناء لكلام الله الذي يفقّهنا في الخطيئة، وإما بخطر المساهمة بعملهم في التخفيف، في عالم اليوم، من معنى الخطيئة.
فقدان معنى الخطيئة
18- لقد اكتسب الضمير المسيحي، على مرّ الزمن، إحساساً رهيفاً وإدراكاً دقيقاً حادّاً لما تحويه الخطيئة من بذار موت. وهذان الإحساس الرهيف والإدراك الحاد يساعدان أيضاً على اكتشاف مثل هذا البذار في ما ترتديه الخطيئة من أشكال مختلفة، وتظهر به من أقنعة متعددة، وهذا ما تعوّدنا أن ندعوه بحسّ الخطيئة.
وهذا الحسّ إنما هو متأصل في ضمير الإنسان الأدبي، حتى كأنه ميزان حرارة لديه. وهو مرتبط بحسّ الله كونه نابعاً أيضاً من العلاقة التي يقيمها الإنسان عن وعي مع الله بوصفه خالقه وربه وأباه. ولهذا، كما أنه لا يمكن استئصال حسّ الله كلّياً وإطفاء الضمير، هكذا لا يمكن القضاء تماماً على حسّ الخطيئة.
غير انه غالباً ما يحدث في التاريخ في فترات قد تطول أو تقصر، ولأسباب مختلفة، أن يظلم الضمير الأدبي لدى كثير من الناس. “هل لنا فكرة واضحة عن الضمير؟” هذا ما تساءلنا عنه لسنتين مضتا عندما كنّا نحدّث المؤمنين. أفلا يعيش الإنسان المعاصر وهو مهدّد بخطر فقدان الضمير؟ وإفساد الضمير؟ بتبلّد الضمير حتى لكأنه مخدَّر” (97).
إن هناك علامات كثيرة في عصرنا تدلّ على حصول هذا الكسوف، وهذا ما يدعو إلى القلق لأن هذا الضمير الذي حدّده المجمع بأنه “لب الإنسان السرّي جداّ ومخدعه المقدس” (98) يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحرية الإنسان… ولهذا فإن الضمير هو بالأحرى أساس كرامة الإنسان وعلاقته، في الوقت عينه، بالله” (99). فلا محالة إذن والحالة هذه، من أن يظلم بالتالي حسّ الخطيئة لارتباطه ارتباطاً وثيقاً بالضمير الأدبي وبالبحث عن الحقيقة وعزمه على استعمال حريته استعمالاً مسؤولاً. ومتى هزل الضمير أظلم حسّ الله. ومتى ضاع هذا المعلم الداخلي الهامّ الذي يعود إليه الإنسان، فَقَدَ حسّ الخطيئة ومعناها. ولهذا السبب أطلق سلفنا البابا بيوس الثاني عشر يوماً قولاً ذهب تقريباً مذهب المثل وهو: “إن خطيئة هذا العصر هي فقدان معنى الخطيئة” (100).
لماذا هذه الظاهرة في أيامنا؟ إذا نظرنا إلى بعض العناصر التي تشكّل ثقافة عصرنا، قد نهتدي إلى ما يساعدنا على تفهّم ما أصاب حسّ الخطيئة من هزال متزايد، وذلك بسبب أزمة الضمير وحسّ الله التي أشرنا إليها سابقاً.
إن “العلمانية” بحدّ ذاتها وبتحديدها هي حركة فكرية مسلكية تفرض نظرية إنسانية تتجاهل الله كليّاً، وتحصر همّها في العمل والإنتاج منجرفة في تيار الاستهلاك والملذّات، غير آبهة بخطر “هلاك النفس”. وهذه “العلمانية” لا يمكنها إلاّ أن تضعف حسّ الخطيئة. وهكذا تقتصر الخطيئة في الغالب على ما فيه من إهانة للإنسان. ولكننا نواجه في الواقع هنا اختباراً مرّاً ألمحنا إليه في أولى رسالة لنا عامّة وهو أن “بإمكان الإنسان أن يبنى عالماً دون الله، لكن هذا العالم لا يلبث أن يرتدّ على الإنسان (101). وفي الحقيقة أن الله هو مصدر الإنسان ومآله الأخير. والإنسان يحمل في ذاته بذاراً إلهياً (102) ولهذا فإن واقع الله هو الذي يكشف سرّ الإنسان وينيره. فباطل إذن الأمل بأن يتأصل حسّ الخطيئة بالنسبة إلى الإنسان والقيم الإنسانية، إذا انتفى حسّ إهانة الله، أعني حسّ الخطيئة الحقيقي.
وهناك سبب آخر لفقدان حسّ الخطيئة في المجتمع المعاصر وهو ما يقع فيه من أخطاء من يقيّم بعض استنتاجات العلوم البشرية. وهكذا انطلاقاً من بعض أحكام يمليها علم النفس، يؤدي الحرص على مجانبة خلق الشعور بالذنب أو وضع حدّ للحرية إلى رفض الاعتراف، على وجه الإطلاق، بأي نقص. وإذا تعدّت مقاييس علم النفس ما لها من حدود، على غير وجه حق، – على ما أشرنا إليه- تقع إذ ذاك تبعة الخطايا على المجتمع وتعلن براءة الأفراد منها. وهناك أيضاً نوع من علم الإنسان “الثقافي” يضخّم ما للمحيط ولأحداث التاريخ من أثر على الإنسان، لا سبيل إلى إنكاره، بحيث يحدّ من مسؤوليته حتى لينكر عليه المقدرة على القيام بأفعال بشرية حقيقية، وبالتالي إمكانية ارتكاب الخطيئة.
ويضعف حسّ الخطيئة أيضاً بسهولة تحت تأثير مسلكيّة تنبع من نوع من النسبية المسمّاة بالتاريخية. وهي مسلكيّة تقول بأن القاعدة الأدبية هي نسبيّة فتنتفي عنها ما لها من قيمة مطلقة، غير مشروطة، وتنفي بالتالي إمكانية وجود أفعال غير جائزة بحدّ ذاتها، بمعزل عن الظروف التي يفعلها فيها من يفعلها. وهكذا “تهتز القيم الأدبية وتنهار”. وليست المسألة “مسألة جهل المسلكية المسيحية” بقدر ما هي جهل “الموقف الأدبي ومعناه وأساسه ومقاييسه” (103). ونتيجة هذا الإنهيار الأخلاقي هي دائماً تضاؤل مفهوم الخطيئة تضاؤلاً يبلغ تقريباً حدّ القول أن الخطيئة موجودة لكن مرتكبها مجهول.
ويُفقَد أخيراً حسّ الخطيئة – على ما قد يحدث في التربية التي تعطى للشبان، في وسائل الإعلام وحتى في التربية العائلية – عندما يظنّ خطأ أنه شيء واحد هو والشعور المريض بالذنب أو الخرق البسيط للوصايا والقواعد الشرعية.
ففقدان حسّ الخطيئة إذن هو نوع من إنكار الله أو نتيجة لهذا الإنكار، لا إنكار الإلحاد وحسب، بل إنكار “العلمانية” أيضاً. وإذا كانت الخطيئة هي قطع الإنسان علاقته البنوّية بالله ليعيش خارج نطاق الطاعة له، فالخطيئة إذ ذاك لا تكون إنكار الله وحسب بل تكون أن يحيا الإنسان كأن الله غير موجود، وهذا يعني إزالته من الحياة اليومية. ومثل هذا المجتمع المشوّه الفاقد التوازن في كلا الاتجاهين على ما تعرضه غالباً وسائل الإعلام، من شأنه أن يساعد كثيراً على فقدان حسّ الخطيئة تدريجياً. وفي مثل هذه الحالة، ينتج فقدان حسّ الخطيئة عن عدة مصادر: رفض كل علاقة بما يفوق الطبيعة البشرية، بحجة التوق إلى الاستقلال الشخصي، الانجراف وراء أمثلة مسلكية يفرضها التوافق والتصرف العام، ولو رذلها الضمير الشخصي، أحوال اجتماعية واقتصادية مأسوية تضغط على قسم كبير من البشرية تخلق نزعة إلى حصر الأخطاء والذنوب ضمن حدود المحيط الاجتماعي، وأخيراً وعلى الأخص، تضاؤل مفهوم أبوّة الله وسلطانه على حياة الناس.
وحتى في حقل الفكر والحياة في الكنيسة نزعة تساعد حتماً على إضعاف حسّ الخطيئة. فهناك مثلاً، من يسعون إلى استبدال مواقف متطرّفة في الماضي بمواقف ليست أقلّ تطرّفاً: فبدلاً من أنهم كانوا يرون الخطيئة في كل مكان، أصبحوا لا يرونها في أي مكان، وبدلاً من أنهم كانوا يشدّدون على خوف العقاب الأبدي، أصبحوا ينادون بمحبة الله التي ينتفي معها كل عقاب تستوجبه الخطيئة، وعوضاُ من القسوة التي كانوا يلجأون إليها في إصلاح الضمير الضال، أصبحوا يدعون إلى احترام الضمير احتراماً يؤدي إلى الإعفاء من الجهر بالحقيقة. ولماذا لا نضيف أن البلبلة التي أحدثها في ضمائر الكثيرين من المؤمنين اختلاف الآراء والتعليم في اللاهوت، والوعظ والتعليم المسيحي والإرشاد الروحي بشأن قضايا خطيرة ودقيقة تتعلّق بالأخلاق المسيحية، أضعف حسّ الخطيئة الصحيح حتى كاد يمحوه. ولا ينبغي السكوت عن بعض نقائص في ممارسة سرّ التوبة من مثل الميل إلى تعمية المفهوم الكنسي للخطيئة والارتداد، بجعلهما شأناً شخصياً ليس إلاّ، أو على العكس من ذلك، الميل إلى مسخ قيمة الخير والشر الشخصية والتوقف فقط على ما لهما من بُعد جماعي. وهناك أيضاً خطر يهدد دائماً وهو خطر استعمال السر من قبيل العادة بحيث يصبح فارغاً من معناه الكامل ومفعوله التربوي.
إن استعادة معنى الخطيئة الصحيح هي أول وسيلة لمواجهة الأزمة الروحية الخطيرة التي تشدّ على خناق إنسان اليوم، ولا يمكن استعادة معنى الخطيئة إلاّ إذا رجع الإنسان إلى مبادئ العقل والإيمان التي لا يمكنه التنكّر لها والتي نادت بها دائماً عقيدة الكنيسة الأدبية.
وهناك أمل بأن ينتعش حسّ الخطيئة الخلاصي، على الأخص في العالم المسيحي والكنسي. ومما يساعد على ذلك التعليم المسيحي السليم، المستنير بلاهوت كتابي حول العهد، والاستماع بانتباه إلى تعليم السلطة الكنسية وتقبّله بثقة، وهو ما انفك ينير الضمائر، وممارسة سرّ التوبة بعناية متزايدة.
الفصل الثاني
“سرّ التقوى”
19- لكي نعرف الخطيئة، كان لا بدّ من أن نبحث بدقّة في طبيعتها على ما يُظهرها لنا الكشف عن تدبير الخلاص، أي سرّ الإثم. ولكن الخطيئة ليست في هذا التدبير، العامل الأهم ولا هي المنتصرة. إنها في صراع مع مبدأ آخر فاعل بإمكاننا أن ندعوه سرّ التقوى، وفق عبارة جميلة، موحية استعملها القديس بولس. وإن خطيئة الإنسان ستتغلّب وتنتصر، وفي النهاية ستدمّر وسيظل تدبير الله الخلاصي ناقصاً أو أنه سيفشل، ما لم يندرج سرّ التقوى هذا في دينامية التاريخ ليتغلّب على خطيئة الإنسان.
إنّا نجد هذه العبارة في إحدى رسائل القديس بولس الرعوية، وهي الرسالة الأولى إلى تيموثاوس. وهي تبرز فجأة كما لو كانت ثمرة وحي إلهي. وإن الرسول الذي خصّ في الواقع تلميذه الحبيب بمقاطع طويلة من رسالته ليشرح له فيها تنظيم الجماعة (الحياة الطقسية وبالارتباط معها السلطة الكنسية التسلسلية)، تحدّث بعدئذٍ عن رؤساء الجماعة قبل أن ينتقل أخيراً إلى تصرّف تيموثاوس “في كنيسة الله الحي، عمود الحق ودعامته”. وفي الختام، فجأة، وعن قصد وتصميم يتطرّق إلى ذكر ما يعطي كل ما كتب معناه قائلاً: “ولا خلاف في أن سرّ التقوى عظيم” (104).
ويمكننا دون أن نخون معنى النص الحرفي أن نوسّع نظرة الرسول اللاهوتية هذه لتشمل رؤية كاملة للدور الذي تقوم به، في تدبير الخلاص الحقيقة التي يعلنها بقوله: “إنه حقاً عظيم”، لنردّدها معه، “سر التقوى” لأنه غلب الخطيئة.
ولكن ما معنى هذه “التقوى” في مفهوم القديس بولس؟
هو المسيح عينه
20- إنه من الأهمية بمكان أن يكون بولس، لدى عرضه سرّ التقوى، قد نسخ دون أن يقيم أية رابطة غراماطيقية مع ما سبق له أن كتب (105)، ثلاثة أسطر من نشيد في مدير المسيح كان – برأي عدد من كبار ذوي الاختصاص – مستعملاً لدى الجماعات المسيحية اليونانية.
كان المؤمنون يعترفون بسرّ المسيح بكلمات هذا النشيد الملأى بالمحتوى اللاهوتي والمتميّزة بجمال الأسلوب الرفيع، أعني أنه:
– ظهر حقاً في الجسد البشري وصار بارّاً بفعل الروح القدس، وهو الذي قدّم ذاته عمّن ليسوا أبراراً.
– تراءى للملائكة وصار أعظم منهم، وأُعلِنَ عنه لدى الوثنيين على أنه حامل الخلاص.
– أومِن به في العالم على أنه مرسل من الآب وأن هذا الآب عينه هو من أصعده إلى السماء كربّ (106).
ولهذا فإن سرّ التقوى هو سرّ المسيح عينه. إنه في كلمة موجزة معبّرة، سرّ التجسد والفداء، وفصح المسيح التام وابن الله وابن مريم: سرّ آلامه وموته وقيامته ومجده. لقد أراد القديس بولس، باستعادته عبارات هذا النشيد، أن يؤكّد أن هذا السر هو المبدأ الحيوي الخفيّ الذي يجعل من الكنيسة بيت الله وعامود الحق ودعامته. ويمكننا اقتداء بتعليم القديس بولس، أن نؤكّد أن سرّ تقوى الله ومحبته غير المتناهية لنا، بإمكانه أن ينفذ إلى أعماق إثمنا الخفية ليبعث في نفسنا حركة ارتداد، ويفتديها وينشر أشرعتها لتسير نحو المصالحة.
وقد كتب القديس يوحنا أيضاً، بالعودة دونما شك إلى هذا السر، – ولو استعمل أسلوباً مميّزاً خاصاً به يختلف عن أسلوب القديس بولس – “إن كل مولود من الله لا يخطأ. لأن ذاك الذي وُلِد من الله، يصون نفسه والشرير لا يقترب منه” (107). وفي كلام القديس يوحنا هذا بارقة أمل تستند إلى المواعيد الإلهية: لقد تلقّى المسيحي ضمانة وما يحتاج إليه من قوّة لكيلا يخطأ. وهذا لا يعني أنه أصبح معصوماً من الخطأ بما أوتيه من قوّة ذاتية كامنة فيه، على ما يعتقد أتباع مذهب اللاأدرية، بل إن ذلك هو نتيجة عمل الله. والمسيحي، لكيلا يخطأ، فهو يعرف الله، على ما ذكّر به القديس يوحنا في المقطع عينه. وقد كتب قبل ذلك بقليل: “ومن وُلَد من الله لا يفعل الخطيئة، لأن زرع الله فيه” (108). وإذا فهمنا “بزرع الله”، على ما يقترح بعض الشرّاح، يسوع ابن الله، يمكننا إذ ذاك أن نقول أن المسيحي، لكيلا يخطأ، -أو لكي يتحرّر من الخطيئة- يجد حاضراً في نفسه، المسيح وسرّ المسيح الذي هو سرّ التقوى.
جهد المسيحي
21- ولكن لسرّ التقوى وجهاً آخر: في مقابل تقوى الله ومحبته للمسيحي يجب أن يخصّ المسيحي الله بالتقوى والمحبة. وبهذا المفهوم الثاني تعني التقوى (اوزابايا) حصراً، سلوك المسيحي الذي يجاوب على تقوى الله ومحبته الأبوية بالتقوى والمحبة البنوية.
وبإمكاننا أن نؤد بهذا المعنى أيضاً مع القديس بولس “أنه عظيم سرّ التقوى”. وبهذا المعنى كذلك إن التقوى بوصفها قوة ارتداد ومصالحة تواجه الإثم والخطيئة. وفي هذه الحالة إن أهم عناصر سرّ المسيح هي موضوع التقوى، أعني أن المسيحي يتقبّل السر ويتأمل فيه، وينهل من معينه القوّة الروحية اللازمة لكي يحيا حياته وفقاً للإنجيل. وهنا كذلك يجب القول أن “من ولد من الله لا يفعل الخطيئة”. إنما للعبارة معنى الأمر: إن المسيحي الذي يسانده سرّ المسيح كينبوع قوة روحية داخلية يُحذَّر من ارتكاب الخطيئة لا بل يُؤمَر بمجانبة الخطيئة، وبإحسان المسلك والتصرّف “في بيت الله، الذي هو كنيسة الله الحي” (109) لأنه ابن الله.
نحو حياةٍ مصالَحة
22- وهكذا إن كلام الكتاب المقدس، فيما يكشف لنا سرّ التقوى، يفتح عقل الإنسان على الارتداد والمصالحة، لا بمعناهما المجرّد الذي يصعب إدراكه، بل بوصفهما قيمتين مسيحيّتين حقيقيّتين يجب العمل على الحصول عليهما في الحياة اليومية.
إن أناس اليوم، وقد تعرّضوا لخطر فقدان معنى الخطيئة، وتوهّموا أحياناً أنهم في عصمة من الخطيئة، وليس هذا من المسيحية في شيء، هم في حاجة إلى سماع تحذير القديس يوحنا بدورهم كما لو كان موجَهاً إلى كل منهم شخصياً “إذا قلنا أننا بلا خطيئة، خدعنا أنفسنا ولم يكن الحق فينا” (110). وأيضاً “إن العالم كله تحت الشرير وضع” (111). إن صوت الحقيقة يدعو إذن كلاُّ من الناس ليفحص ضميره فحصاً واقعياً ويعترف بأنه ولد بالإثم على ما نقول في المزمور “ارحمني يا الله” (112).
إن أناس اليوم الذين يتهدّدهم الخوف ويترصّدهم اليأس يمكنهم أن يتقوّوا بالوعد الإلهي الذي يحمل إليهم رجاء المصالحة الكاملة.
إن سرّ التقوى ، فيما يتعلّق بالله، هو هذه الرحمة التي بها الرب وأبونا – ونكرّر ذلك – غنيّ إلى ما لا حدّ له (113). وكما قلنا في الرسالة العامة التي دار موضوعها على الرحمة الإلهية (114)، إن الرحمة هي محبة أقوى من الخطيئة والموت. وعندما نلاحظ أن المحبة التي خصّنا بها الله لا تتوقّف أمام خطيئتنا ولا تتراجع أمام إهاناتنا، لكنها تزداد عناية وسخاء، وعندما يتبيّن لنا أن هذه المحبة قد ذهبت إلى حدّ أنها تسبّبت بآلام الكلمة الذي صار جسداً وبموته، وارتضى أن يفتدينا بدمه الذي دفعه ثمناُ عنا، نهتف إذ ذاك هتاف الشكر والامتنان قائلين: “أجل، إن الله غنيّ بالرحمة”، لا بل نؤكّد “أن الرب هو رحمة”.
إن سرّ التقوى هو الطريق التي شقّتها الرحمة الإلهية للحياة المصالَحة.
القسم الثالث
راعوية التوبة والمصالحة
تطوير التوبة والمصالحة
23- إن مهمّة الكنيسة الطبيعية، إن مهمّة الكنيسة الطبيعية، بما أنها تواصل عمل مؤسسها الإلهي، عمل الفداء، تهدف إلى إثارة مشاعر الارتداد والتوبة في قلب الإنسان، ومنحه هبة المصالحة. ولا تقتصر هذه المهمة على بعض تأكيدات نظرية، ولا على نصب مثال أدبي أعلى لا ترفقه بما يقتضي من طاقات تعمل على تحقيقه، لكنها تبغي ترجمة ذاتها بوظائف خدميّة محددة ترمي إلى ممارسة التوبة والمصالحة ممارسة واقعية.
ويمكننا أن ندعو هذه الخدمة المستندة إلى مبادئ الإيمان التي عرضناها والرامية إلى أهداف محددة والمدعومة بوسائل ملائمة، راعوية التوبة والمصالحة. وهي تنطلق من يقين الكنيسة أن الإنسان الذي يستهدفه كل نشاط رعوي وعلى الأخصّ ذاك الخاص بالتوبة والمصالحة هو الإنسان المطبوع بطابع الخطيئة، والذي يقدم لنا داود عنه أبلغ مثال. ولم ينكر داود آثامه بعد أن وبّخه عليها ناتان النبي لكنّه اعترف بها قائلاً: “خطئت إلى الرب” (115). وصرخ قائلاً: “إنّي عالم بمعاصيّ وخطيئتي أمامي في كل حين” (116) وتضرع أيضاً بقوله: “نقّني بالزوفا فأطهُر، أغسلني فأفوق الثلج بياضاً” (117) وتلقّى جواب الرحمة الإلهية: “إن الرب قد نقل خطيئتك عنك، فلا تموت أنت” (118).
وإن الكنيسة لتجد ذاتها أمام الإنسان – لا بل أمام المجتمع البشري كله – الذي جرحته الخطيئة ونالته في عمق أعماق كيانه، والذي يشعر بتوق لا يقهر إلى التحرّر من الخطيئة وعلى الأخص إذا كان مسيحياً، يعي أن سرّ التقوى، المسيح الحي، يعمل فيه وفي العالم بقوة الفداء.
يجب إذن القيام بوظيفة الكنيسة وظيفة المصالحة وفقاً للرابطة الوثقى التي تشدّ الصفح ومغفرة خطيئة كل إنسان إلى المصالحة الأساسية الشاملة التي حققها الفداء للبشرية جمعاء. وتفهّمنا هذه الرابطة أن الارتداد عن الخطيئة وحده بإمكانه أن يحقق المصالحة العميقة المستمرة حيثما دخل الانقسام، لأن الخطيئة هي مبدأ الانقسام الفاعل، الانقسام بين الإنسان وخالقه، وفي قلب الإنسان وكيانه، وبين الأفراد والفئات البشرية، وبين الإنسان والطبيعة التي خلقها الله.
ولا حاجة بنا إلى ترداد ما قلناه عن أهمية “خدمة المصالحة” (119) هذه وما يقابلها من نشاط رعوي يضعها موضع العمل في ضمير الكنيسة وحياتها. إن الكنيسة تفقد وجهاً من وجوه كيانها وتهمل مهمة من أهم مهامها، إن لم تنادِ بوضوح وثبات، في وقت ذلك وغير وقته، “بكلمة المصالحة” (120)، وتقدّم للعالم تقدمة المصالحة. ولكن ولا بأس من أن نكرّر القول أهمية خدمة المصالحة الكنسية هذه تتعدى حدود الكنيسة إلى العالم أجمع.
إن الحديث عن النشاط الرعوي في ما خصّ التوبة والمصالحة معناه مواجهة مجموعة المهام التي تضطلع بها الكنيسة، على جميع الصُعُد، بغية تطويرها ودفعها إلى الأمام. وعلى وجه الضبط والتحديد إن الحديث عن هذا النشاط الرعوي معناها الإحالة بجميع النشاطات التي تقود معها الكنيسة الناس، أفراداً أو جماعات، إلى التوبة الحق وتضعهم هكذا على طريق المصالحة الكاملة، وذلك بفضل كل فرد وجميع الذين يؤلّفون الكنيسة – رعاة ومؤمنين – على جميع المستويات وفي جميع الأوساط بجميع الوسائل المتاحة لها بالكلام والعمل بالتعليم والصلاة.
لقد أبدى آباء المجمع – بوصفهم ممثّلين لأخوانهم الأساقفة وقادة للشعب الموكول إليهم – اهتمامهم بهذا النشاط الرعوي من الناحية العملية والواقعية. ويسعدنا أن ننقل أصداءهم ونشاطرهم قلقهم وآمالهم ونتلقّى ثمار أبحاثهم واختباراتهم ونشجّعهم في ما ينهضون له من مشاريع ويقومون به من أعمال. فعسى أن يجدوا في هذا القسم من الإرشاد الرسولي ما حملوه إلى المجمع، وهذا ما نريد أن نشرك في فوائده، من خلال هذه الصفحات الكنيسة جمعاء. لهذا إنّا نرى من المناسب أن نسترعي الانتباه إلى خلاصة النشاط الرعوي المتعلق بالتوبة والمصالحة مشددين على النقطتين التاليتين.
1- الوسائل والطرق التي تستعملها الكنيسة لتطوير التوبة والمصالحة.
2- السر الخاص بالتوبة والمصالحة.
الفصل الأول
تطوير التوبة والمصالحة
الطرق والوسائل
24- إن الكنيسة تعتمد خاصة لتطوير التوبة والمصالحة وسيلتين وكّلهما إليها مؤسسها عينه وهما: التعليم المسيحي والأسرار. وتستعملهما الكنيسة بطريقة تعتبر دائماً أنها تلائم مقتضيات رسالتها الخلاصية وتتجاوب في الوقت عينه ومتطلّبات الناس في كل الأزمنة وحاجاتهم الروحية، وذلك بصيَغٍ وأشكال قديمة وجديدة. ويجدر بنا أن نذكر من بينها على الأخص ما يمكننا أن نسمّيه وفقاً لتعبير سلفنا بولس السادس بطريقة الحوار.
الحوار
25- إن الحوار، بالنسبة إلى الكنيسة هو نوعاً ما أداة، وعلى الأخص، طريقة للقيام بعملها في عالم اليوم.
وفي الواقع أن المجمع الفاتيكاني الثاني، بعد أن علّم أن “الكنيسة تبدو علامة لتلك الأخوّة التي تجعل الحوار الصريح ممكناً وتزيده قوّة، وذلك بمقتضى الرسالة التي تمتاز بها، ألا وهي إنارة الكون كله ببشارة الإنجيل وتوحيد البشر بروح واحد….، يضيف توّاً أن على الكنيسة أن تكون مستعدة دائماً “لإقامة حوار مثمر بين كل الذي يؤلّفون شعب الله الواحد” (121)، وكذلك لتتمكن من “إقامة حوار مع المجتمع البشري” (122).
وقد خصّ سلفنا بولس السادس الحوار بقسم هام من رسالته العامة المبدوءة بعبارة: كنيسته، حيث وصفه وحدده تحديداً له مدلوله بقوله عنه: “إنه حوار الخلاص”(123).
وفي الواقع أن الكنيسة تستعمل طريقة الحوار لكي تحسن حمل الناس – سواء أكانوا يعرفون أنفسهم أنهم أعضاء الجماعة المسيحية بالعماد والاعتراف بالإيمان أم هم غرباء عنها – على الارتداد والتوبة، عن طريق تجديد ضميرهم وحياتهم تجديداً عميقاً، في ضوء سر الفداء والخلاص اللذين حققهما المسيح ووكلهما إلى خدمة كنيسته. إن الحوار الصحيح يرمي إذن بادئ ذي بدء إلى تجديد كل من الناس بالارتداد الباطني والتوبة مع احترام كلّيّ للضمائر، واعتماد الصبر والتأني، والتقدم خطوة خطوة، على ما تقتضيه أحوال الناس في عصرنا.
ويبقى الحوار الرعوي، من أجل المصالحة، واجب الكنيسة الأساسي اليوم، في مختلف المجالات وعلى كل المستويات.
وتشجّع الكنيسة، على الأخص، الحوار المسكوني أي الحوار بين الكنائس والجماعات الكنسية التي تعترف بالإيمان بالمسيح ابن الله والمخلص الوحيد والحوار مع سائر جماعات الناس الذين يبحثون عن الله ويتوقون إلى إقامة علاقة اتحاد معه.
وفي أساس مثل هذا الحوار مع الكنائس، والجماعات المسيحية والديانات الأخرى، يجب أن يكون هناك جهد صادق – وهذا شرط لمصداقية الكنيسة وفاعليتها – لإقامة حوار مثمر ومتجدد داخل الكنيسة الكاثوليكية عينها. هذه الكنيسة تعي بأنها في طبيعتها تُشكّل سرَّ وحدة الشركة الشاملة في المحبة (124)؛ لكنها تدرك أيضاً أن في داخلها توترات قد تصبح عوامل تقسيم.
وإن النداء القلق الحازم الذي أطلقه سلفنا في مناسبة السنة المقدسة 1975 (125) لا يزال اليوم على جدّته وقوّته. وللتغلب على النزاعات وحذراً من أن تسيء الخلافات المألوفة إلى وحدة الكنيسة، يجب أن نقف جميعاً أمام كلمة الله ونعمل بها ونطرح الآراء الذاتية، ونبحث عن الحقيقة حيثما وجدت، أعني في الكلمة الإلهية وفي الشرح الصحيح الذي تعطيه عنها سلطة الكنيسة التعليمية. وبهذه الطريقة إن الإصغاء المتبادل والاحترام والامتناع عن إصدار أحكام سريعة والصبر والقدرة على مجانبة إخضاع الإيمان الذي يوحّد لآراء وصيغ وخيارات عقائدية، إن هذا كله من خصائص الحوار الذي يجب متابعته، داخل الكنيسة بثبات وتصميم وإخلاص. وواضح أن الحوار لن يكون هكذا، ولن يكون أداة مصالحة، إن لم يعِرْ السلطة الكنيسة التعليمية ما ينبغي من الانتباه ويذعن لها.
إن الكنيسة الكاثوليكية التي تسعى هكذا جادّة في البحث عن اتحادها الداخلي، تستطيع أن توجه نداء للمصالحة – على ما فعلت منذ زمن بعيد – إلى الكنائس الأخرى التي ليس لها معها مشاركة تامة، وأيضاً إلى الديانات الأخرى، وحتى إلى جميع الذين يبحثون عن الله بقلب مخلص.
باستطاعتنا أن نؤكّد، على ضوء المجمع وتعليم أسلافنا الذي تلقيناه إرثاً ثميناً نسعى إلى المحافظة عليه ووضعه موضع العمل، إن الكنيسة الكاثوليكية، بجميع فئاتها، تسير بصدق في طريق الحوار المسكوني، مجانبة التفاؤل السهل، إنما دونما حذر، ولا تردّد ولا إبطاء، وإن القواعد الأساسية التي تحاول اتباعها في هذا الحوار هي من جهة التأكيد أن المسكونية الروحية فقط – القائمة على الصلاة المشتركة والطاعة المشتركة للرب الأوحد – تفسح في المجال للاستجابة بإخلاص وجدّية لمقتضيات العمل المسكوني (126)، ومن جهة ثانية اليقين أن نوعاً من التساهل في ما يتعلّق بالعقيدة ولاسيّما النظرية، قد يؤدي إلى صيغة تعايش سطحية، عابرة لا إلى الاتحاد العميق الثابت التي نرتجيه. إن الوصول إلى هذا الاتحاد يتم ساعة تشاء العناية الإلهية، غير أن الكنيسة الكاثوليكية تعرف في ما خصّها أن للوصول إليه عليها أن تكون منفتحة، واعية جميع “القيم المسيحية، الصحيحة التي تنبع من التراث المشترك والتي توجد عند الإخوة المنفصلين عنا” (127)، وأن عليها بالمقابل أن ترسي حواراً صادقاً بنّاءً على مواقف واضحة وعلى الأمانة للإيمان الموروث الذي حدّدته السلطة التعليمية فيها وفقاً للتقليد العريق، وعلى التطابق مع هذا الإيمان. وفضلاً عن ذلك إن الكنيسة بالرغم مما يتهدّد الحوار من تخاذل، وبالرغم من الإبطاءات التي لا بدّ منها والتي لا يصلحها التهوّر، تستمر في البحث مع جميع الإخوة المسيحيين الآخرين عن طرق الوحدة، ومع أتباع الديانات الأخرى عن حوار مخلص. فعسى أن يقود هذا الحوار بين الأديان إلى تجاوز جميع المواقف التي يمليها العداء، والحذر، والرذل المتبادل وعلى الأخص، التأنيبات المتبادلة. وهذا شرط أوليّ لكي يتم اللقاء على الأقل في الإيمان بإله واحد وفي اليقين بالحياة الأبدية للنفس الخالدة. وليمُنّ الله علينا على الأخص بأن يفضي الحوار المسكوني إلى مصالحة مخلصة في نطاق كل ما يمكن أن يكون حتى اليوم مشتركاً مع باقي الكنائس المسيحية، وهو الإيمان بيسوع المسيح، ابن الله المتأنس، المخلّص والرب، وسماع كلام الله، ودراسة الوحي، وسرّ العماد.
وبقدر ما تستطيع الكنيسة أن تحقق الوفاق الفعّال – الوحدة في التنوّع – في داخلها، وأن تقدّم ذاتها شاهداً على المصالحة وخادماً وضيعاً لها، تجاه الكنائس الأخرى، والجماعات الكنسيّة وباقي الأديان، تصبح وفقاً لتحديد القديس أغسطينوس المعبّر: “عالماً مصالَحاً” (128)، ويمكنها إذ ذاك أن تكون علامة مصالحة في العالم ومن أجل العالم.
والكنيسة إذ تعي خطورة الحالة التي خلقتها قوى التقسيم والحرب – وهي خطورة عظيمة – والتي تشكل اليوم تهديداً كبيراً لا للتوازن والوفاق العالمي وحسب، بل لبقاء البشرية وديمومتها، تشعر بان من واجبها أن تقدّم وتعرض مساعدتها الخاصة الفريدة للتغلّب على النزاعات وإعادة الوفاق وتوطيده.
وإنه لحوار معقّد دقيق حوار المصالحة الذي تلتزم به الكنيسة على الأخصّ من خلال نشاط الكرسي الرسولي وأجهزته المختلفة. ويمكن القول أن الكرسي الرسولي يسعى إلى التدخّل لدى حكّام الشعوب والمسؤولين عن مختلف المحافل الدولية أو الانضمام إليهم بمحاورتهم أو حضّهم على الحوار لمصلحة المصالحة وسط صراعات عديدة. والكنيسة تقوم بذلك لا لأغراض ترمي إليها أو غايات مبيّتة، بل استجابة “لنزعة إنسانية” (129)، وتضع مجموعة مؤسساتها وسلطتها الأدبية، وهي فريدة في خدمة الوفاق والسلام. وهي تقوم بذلك يقيناً منها أنه مثلما “يتقابل في الحرب فريقان”، هكذا في قضية السلام، هناك “دائماً وحتماً طرفان عليهما أن يعرفا كيف يلتزمان”، وهكذا “نجد معنى الحوار الحقيقي من أجل السلام” (130).
وتلتزم الكنيسة أيضاً الحوار من أجل المصالحة من خلال الأساقفة بما لهم من سلطة وعليهم من واجب، سواء أكان إفرادياُ بتدبيرهم كنائسهم الخاصة، أم متّحدين في مجالسهم الأسقفية بمعاونة الكهنة وجميع أعضاء الجماعات المسيحية. وإنهم يؤدّون واجبهم بأمانة كلّما دفعوا إلى الأمام هذا الحوار الذي لا غنى عنه، وكلّما نوّهوا بالمقتضيات الإنسانية والمسيحية المتعلّقة بالمصالحة والسلام. والعلمانيون “الذين يتّخذون ميداناً لنشاطهم الخاص بالتبشير بالإنجيل، عالم السياسة والاجتماع والاقتصاد الواسع المعقّد… والحياة الدولية” (131)، مدعوون بالاتحاد مع رعاتهم إلى التزام الحوار مباشرة لمصلحة الحوار من أجل المصالحة. وهي الكنيسة أيضاً من تقوم بواسطتهم بعملها، عمل المصالحة.
إن تجديد القلوب عن طريق الارتداد والتوبة هما إذن الفرضية الأساسية والقاعدة الثابتة اللتان يرتكز إليهما كل تجديد اجتماعي طويل الأمد، والسلام بين الأمم.
ويبقى أن نذكّر، في ما خصّ الكنيسة وأعضاءها، بان الحوار أيّاً تكن الصيغة التي يعتمدها – وهذه الصيَّغ مختلفة جداً ويمكن أن تكون كذلك، ما دام لمفهوم الحوار قيمة تقوم على التماثل والتشابه – لا يمكن أبداً أن ينطلق من موقف لا مبالاة تجاه الحقيقة، لكنه يقوم بالأحرى بعرض هذه الحقيقة بهدوء ونفس طيبة تحترم أفهام الآخرين وضمائرهم. ولا يمكن حوار المصالحة على الإطلاق أن يقوم مقام إعلان الحقيقة الإنجيلية أو أن يخفف منها. وحقيقة الإنجيل ترمي إلى ارتداد الخاطئ والاتحاد بالمسيح والكنيسة. إنّما يجب أن يكون الحوار في خدمة نقل هذه الحقيقة وتحقيقها بواسطة الوسائل التي تركها المسيح للكنيسة من أجل نشاط المصالحة الرعوي، وعلى الأخص بواسطة التعليم المسيحي والتوبة.
التعليم المسيحي
26- في الحقل الواسع الذي ينبغي فيه للكنيسة أن تقوم بوظيفتها عن طريق الحوار، يتوجّه نشاط الخدمة الرعوية، خدمة التوبة والمصالحة إلى أعضاء جسم الكنيسة قبل كلٍّ بتعليم مسيحي ملائم يدور على واقعين متميّزين، متكاملين، أعارهما آباء المجمع انتباهاً خاصاً وأبرزوهما في الكثير من المقترحات التي اختتموا بها أعمالهم وهما على الأخص: التوبة والمصالحة. فالتعليم المسيحي إذن هو الأداة الأولى التي يجب استعمالها.
وتنطوي توصية المجمع هذه وهي جدّ مؤاتية على مبدأ أساسي وهو أن ما هو رعوي لا يتعارض وما هو عقائدي، وأن العمل الرعوي لا يمكنه أن يتجاهل المحتوى العقائدي، لا بل إن ينهل من معينه حياته الأصيلة وقوته الحقيقية. وإذا كانت الكنيسة “عمود الحق ودعامته” (132)، وإذا كانت قد أقيمت في العالم كأم ومعلّمة، كيف يمكنها أن تهمل واجب تعليم الحقيقة التي هي طريق الحياة؟
ينتظر من رعاة الكنيسة، قبل كلّ، تعليم مسيحي في المصالحة، وهو تعليم لا يمكنه إلاّ أن يستند إلى تعليم الكتاب المقدس، وعلى الأخصّ تعليم العهد الجديد المتعلّق بضرورة تجديد العهد مع الله بالمسيح، الفادي والمصالح. وفي ضوء هذا الاتحاد الجديد وهذه الصداقة، وكإمتداد لهما، يجب أن يستند هذا التعليم إلى ضرورة مصالحة الإنسان مع أخيه، ولو كان عليه أن يؤجّل لبعض الوقت تقدمة القربان (133). وقد شدّد يسوع جداً على موضوع المصالحة الأخوية: مثلاً عندما يدعو إلى بسط الخدّ الآخر لمن لطمنا، وإلى ترك الرداء لمن أخذ منّا القميص(134)، أو عندما علّم شريعة المغفرة، وهي مغفرة يتقبّلها كلٌّ على مقدار ما يعرف أن يغفر(135)، مغفرة يأمر بمنحها الأعداء (136) سبعين مرة سبع مرات (137) أي في الواقع، إلى ما لا حدّ له. فإذا تحقّقت هذه الشروط، وهي لا تتحقّق إلاّ في مناخ إنجيلي صحيح فقط، يمكن أن يكون هناك مصالحة حقيقية بين الأفراد والشعوب. ومن هذه المعطيات المتّخذة من الكتاب المقدس في المصالحة، ينشأ بطبيعة الحال، تعليم مسيحي لاهوتي تدخل في مضامينه عناصر من علم النفس وعلم الاجتماع وباقي العلوم الإنسانية، يمكن أن تساعد على توضيح الأمور، وطرح المشاكل طرحاً سليماً، وإقناع السامعين أو القرّاء بأخذ قرارات عملية. وينتظر أيضاً من رعاة الكنيسة، تعليم مسيحي في التوبة. وهنا أيضاً يجب أن يكون ينبوعه غنى رسالة الكتاب المقدس، وتشدّد هذه الرسالة قبل كلٍّ في ما يخص التوبة، على مفعول الارتداد، والارتداد كلمة تحاول أن تترجم النص اليوناني (متانويا) (138) التي تعني حرفياً انقلاب النفس واتجاهها إلى الله. وبعد، هذان هما العنصران الأساسيان اللذان يبرزان من مثل الابن الضائع الذي عثر عليه: “عودته إلى ذاته” (139) وقرار الرجوع إلى أبيه. ولا مجال للمصالحة ما لم تتوفّر أولاً هذه الاستعدادات للارتداد التي يجب أن يشرحها التعليم المسيحي بمفاهيم وعبارات تتوافق ومختلف الأعمار وتنوّع الأحوال على الصعيد الثقافي والأخلاقي والاجتماعي.
هذا هو مفهوم التوبة الأول، الذي يمتد إلى الثاني: التوبة معناها أيضاً الندامة. إن معنى لفظة “متانويا” المزدوج يظهر في الوصية – وهي وصية لها مدلولها – التي أعطاها يسوع بقوله: “إن تاب (رجع إليك) أخوك فاغفر له، وإذا خطئ إليك في اليوم سبع مرات، وسبع مرات رجع في اليوم إليك وقال:”أنا تائب “فاغفر له” (140). والتعليم المسيحي الجدير بهذا الاسم يجب أن يبيّن أن التوبة مثل الارتداد، ليست شعوراً سطحياً، بل إنقلاباً حقيقياً للنفس.
وللتوبة مفهوم ثالث، وهو الحركة التي تبرز معها إلى الخارج مشاعر الارتداد والتوبة التي تحدّثنا عنها: وهذا ما يسمّى بفعل التوبة. ونلاحظ هذا المعنى في لفظة “متانويا”، على ما استعملها يوحنا السابق أو المعمدان بحسب نصوص أناجيل متى ومرقس ولوقا (141). فعل التوبة معناه، أخيراً، إعادة التوازن والانسجام اللذين أفسدتهما الخطيئة، وتغيير الاتجاه ولو كلّف ذلك التضحية ونكران الذات.
وعلى الجملة لا بدّ من تعليم مسيحي في التوبة يكون قدر المستطاع كاملاً وملائماً في أيام كالتي نعيشها، تتعارض فيها مواقف علم النفس السائدة، والتصرفات الاجتماعية والمفاهيم الثلاثة التي عرضناها: يبدو أنه يصعب أكثر من أي وقت مضى على إنسان اليوم أن يعترف بخطئه ويعقد العزم على الرجوع على أعقابه واستئناف السير بعد تصحيحه، ويبدو أنه يأنف من أن يقول “أنا نادم” أو “آسف”، ويبدو كل ما هو توبة أي أن يرتضي التضحية ويمارسها ليعود عن الخطيئة ويتفلّت من قيودها. ولهذا إنّا نريد أن نؤكّد أنه لا يمكن التخلّي عن نظام التوبة في الكنيسة ولو طرأ عليه تخفيف منذ بعض الوقت إلحاق ضرر بحياة المسيحيين الباطنية وحياة الجماعة الكنسية، وبقدرتها على نشر الرسالة المسيحية. وغالباً ما يفاجأ غير المسيحيين لرؤيتهم أن تلامذة المسيح قلّما يؤدون شهادة التوبة الصحيحة. وواضح، من جهة ثانية، أن التوبة المسيحية تكون صادقة أصيلة، إذا دفعت إليها المحبة، لا الخوف وحده، وإذا قامت على جهد جادّ لصلب “الإنسان العتيق” لكي يولد “الإنسان الجديد” بقوّة المسيح، وإذا أخذت مثالاً لها المسيح الذي، على الرغم من انه بريء، اختار سلوك طريق الفقر، والصبر والتقشّف، وبإمكاننا أن نقول، حياة التوبة.
وينتظر كذلك من رعاة الكنيسة- على ذكّر به آباء المجمع – تعليم مسيحي في الضمير وتثقيفه. وهذا أيضاً موضوع حالي إلى أبعد حدّ، وذلك نظراً إلى الاضطرابات التي تؤثر في ثقافتنا الحاضرة، نرى أن هذا المخدع الداخلي، أعني قرارة النفس العميقة، ولنقل: الضمير، غالباً ما يهاجم ويُمتحن ويُشوَّش ويُظلِم. ويمكن الاهتداء، بشأن وضع تعليم مسيحي رصين، إلى توجيهات قيّمة، لدى ملافنة الكنيسة، ولاهوت المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ولاسيما وثيقتين منه هما: الكنيسة في عالم اليوم (142)، والحرية الدينية (143). وغالباً ما تحدّث البابا بولس السادس عن هذا الموضوع ليذكّر بطبيعة الضمير ودوره في حياتنا (144). وإنّا، اقتفاءً لأثره، لا نترك مناسبة إلاّ انتهزناها لنلقي الضوء على ما يشكل جزءاً هاماً جداً من عظمة الإنسان وكرامته(145)، على هذا “النوع من الحسّ الأدبي الذي يرشدنا إلى تمييز ما هو خير، وما هو شرّ… كعين باطنية، وأداة للنفس بصيرة، باستطاعتها أن تقود خطانا على طريق الخير”. وذكّرنا كذلك بضرورة تثقيف الضمير تثقيفاً مسيحياً لكيلا يصبح “طاقة هدّامة لإنسانية الإنسان الحق، ولكي يبقى المكان المقدس الذي يكشف الله له فيه عن خيره الصحيح” (146).
وينتظر كذلك من رعاة الكنيسة تعليم مسيحي بشأن قضايا أخرى أقل أهميّة بالنسبة إلى المصالحة.
– بشأن حسّ الخطيئة أو معناها الذي تضاءل في عالمنا.
– بشأن التجربة والتجربات: إن الرب يسوع، ابن الله، “المجرَّب في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة” (147)، سمح بأن يجرّبه الشرير (148)، ليشعرنا بأن أتباعه، على مثاله سيخضعون للتجربة، وليبيّن لنا كيف يجب أن نتصرف عندما نجرَّب. وإن الذين يضرعون إلى الآب لكيلا يجرَّبوا فوق طاقتهم (149)، ولكيلا يسقطوا في التجربة (150)، والذين لا يعرّضون ذواتهم لأسباب الخطيئة وأخطارها، فإذا ما أُخضعوا للتجربة، فهذا لا يعني أنهم ارتكبوا الخطيئة، لا بل بالأحرى أنها فرصة لهم ليزدادوا أمانة وثباتاً من خلال التواضع واليقظة والسهر.
– بشأن الصوم: ويمكن ممارسته في صيغه القديمة والحديثة، كعلامة ارتداد وتوبة، وإماتة شخصية، وفي الوقت عينه، كعلامة اتحاد مع المسيح المصلوب، وتضامن مع الجياع والمتألمين.
– بشأن الصدقة: وهي طريقة لتجسيد المحبة، بإشراك من يعانون من عواقب الفقر في ما نملك.
– بشأن الرابطة الوثقى القائمة بين التغلّب على الانقسامات في العالم، والاتحاد الكامل بالله وبين الناس، وهذه هي غاية الكنيسة الأخروية.
– بشأن الظروف الوضعية العملية التي يجب أن تتحقق فيها المصالحة (في العائلة، في الجماعة المدنيّة، في البُنى الاجتماعية)، وخاصة، بشأن المصالحات الأربع التي تُُصلح التمزّقات الأساسية الأربعة: مصالحة الإنسان مع الله، مع ذاته، مع إخوانه، ومع الخليقة كلّها.
– ولا يجوز للكنيسة، دون أن تشوّه تشويهاً كبيراً رسالتها الجوهرية، أن تهمل التعليم المسيحي المستمرّ بشأن ما تدعوه اللغة المسيحية التقليدية بعواقب الإنسان الأربع وهي: الموت، والدينونة (الخاصة والعامة)، والجحيم والنعيم، ويطلب من الرعاة، في الإطار الثقافي الذي يميل إلى سجن الإنسان في حياته الأرضية التي قد ينجح أو لا ينجح فيها، تعليم مسيحي يكشف، بيقين الإيمان، عن الحياة الآتية التي تعقب الحياة الحاضرة ويلقي عليها ضوءاً كافياً. وترتسم وراء أبواب الموت السرّية أبديّة أفراح بالاتحاد مع الله، أو أبدية عقاب وعذاب، بعيداً عن الله. وفي هذه الرؤية الأخروية فقط يمكن الإنسان أن يقيّم طبيعة الخطيئة على وجهها الصحيح ويشعر باندفاع شديد إلى التوبة والمصالحة.
ولن تعوز رعاة النفوس الغير، المتبصّرون بالأمور، الفرص المؤاتية لإلقاء التعليم المسيحي الموسّع، المنوّع، الذي يراعون فيه ما لمن يخاطبونهم من ثقافة إنسانية وتربية دينية متنوّعة. وغالباً ما تتيح هذه الفرص قراءات الكتاب وطقوس القداس وباقي الأسرار، وحتى الظروف التي تستدعي الاحتفال بها. ويمكن الاستفادة من الكثير من المبادرات للوصول إلى الغاية عينها، من مثل الوعظ، والمحاضرات، والمناقشات، والمباحثات، ودورات الثقافة الدينية إلخ، على ما يجري في كثير من الأمكنة. إنّا نرغب في التنويه خاصة بأهمية الرسالات الشعبية القديمة وفاعليتها، بالنسبة إلى هذا التعليم المسيحي. وإذا ما طبقت على المقتضيات الخاصة بعصرنا، يمكنها أن تكون اليوم، مثلها بالأمس، أداة قيّمة للتربية في الإيمان، وعلى الأخص في كل ما يتعلّق بالتوبة والمصالحة.
ونظراً لما للمصالحة، المؤسسة على الارتداد، من أهمية كبيرة، في حقل بالغ الدّقة، حقل العلاقات الإنسانية والحياة الاجتماعية على جميع المستويات، بما فيها العلاقات الدولية، لا يمكن التعليم المسيحي أن يهمل ما تقدمه عقيدة الكنيسة الاجتماعية من مساهمة ذات قيمة كبيرة. وإن تعليم أسلافنا الذي أملته عليهم الظروف، وهو تعليم دقيق، منذ لاوون الثالث عشر، بالإضافة إلى مساهمة الدستور الرعوي المبدوء بعبارة فرح وأمل من المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وهي مساهمة قيّمة، وما جاءت به المجالس الأسقفية بدورها من مساهمة في بعض الظروف الخاصة ببلدانها، إن هذا كلّه يشكّل مجموعة في عقيدة الكنيسة الاجتماعية، وهي مجموعة كبيرة متماسكة، تبحث في المقتضيات المتعددة الخاصة بحياة المجتمع البشري، والعلاقات بين الأفراد والعائلات والفئات في مختلف قطاعاتها، وبقيام مجتمع يهدف إلى التقيّد بالشريقة الأدبية التي هي في أساس الحضارة.
وتنطوي عقيدة الكنيسة الاجتماعية، على ما هو واضح، على نظرة متخذة من كلام الله في ما يتعلق بحقوق الأفراد والعائلة والمجتمع وواجباتهم، بشأن قيمة الحرية وأبعاد العدالة وأولوية المحبة وكرامة الشخص البشري ومقتضيات الخير العام الذي يجب أن تسعى إلى البحث عنه لتحقيقه، السياسة التي تعلنه السلطة الكنسية التعليمية الخاصة بالشؤون الاجتماعية، والتي تثبت نواميس العقل العامة وضمير الشعوب، وتعرضها مجدّداً، يتوطّد الأمل، إلى حدٍّ كبير، بحلّ سلمي للنزاعات الاجتماعية المتعددة، وفي النهاية، للمصالحة الشاملة.
الأسرار
27- إن الوسيلة الثانية – وهي من تأسيس إلهي – التي تضعها الكنيسة بتصرّف النشاط الرسولي الخاص بالتوبة والمصالحة تكمن في الأسرار.
يمكن أن نتبيّن في ما في الأسرار الغنيّة بالرموز والمحتوى، من طاقة عجيبة سرّية، وجهاً لم يُلقَ عليه دائماً الضوء الكافي، وهو أن كلاًّ من الأسرار هو علامة، لا للنعمة الخاصة به وحسب، بل أيضاً للتوبة والمصالحة، فيمكن إذن أن نحيا في كلّ من الأسرار هذه الأبعاد الروحية.
من الراهن أن العماد غسل خلاصي يعمل، على ما يقول القديس بطرس، “لا على غسل الجسد من الدرن، بل على الاعتراف بالله بنيّة طاهرة (151). فهو في وقت معاً موت، وتكفين وقيامة (152) مع المسيح المائت والمكفّن والقائم. وهو عطيّة الروح القدس عبر المسيح (153). لكنّ هذا العنصر الأساسي الفريد الذي يتألف منه العماد المسيحي لا يزيل، بل على العكس يغني عنصر التوبة القائم في العماد الذي تقبّله يسوع عينه من يوحنا “لإتمام كلَّ برّ” (154). وبعبارة أخرى إنه فعل ارتداد وعودة إلى علاقة صحيحة مع الله، فعل مصالحة مع الله مع محو الوصمة الأصلية وما يتبعها من انخراط في سلك عائلة المصالحين الكبرى.
وكذلك التثبيت، بنا أنّه تثبيت للعماد، وبما أنّه مع العماد سرّ الدخول في الحياة المسيحية، فهو، ما دام يولي ملْ الروح القدس، ويقود الحياة المسيحية إلى سنّ البلوغ، يعنين ويحقق بذات الفعل، ارتداداً أكبر للقلب وانتماءً أشدّ وأفعل إلى جماعة المصالحين ذاتها التي هي كنيسة المسيح.
إن تحديد القديس أغسطينوس للإفخارستيا بأنه “سرّ التقوى، وعلامة الوحدة، ورباط المحبة” (155)، يوضّح تماماً مفاعيل التقديس الشخصي (التقوى)، والمصالحة الجماعية (الوحدة والمحبة) التي تنبع من جوهر سرّ الافخارستيا بوصفه تجديداً غير دموي لذبيحة الصليب، ينبوع خلاص ومصالحة لجميع الناس. إنّما لا بدّ من التذكير بأنّ الكنيسة التي تستهدي بالإيمان بهذا السرّ السامي تعلّم أنه ليس باستطاعة أي مسيحي يعرف أن ارتكب خطيئة كبيرة أن يقبل الافخارستيا قبل أن يحصل على غفران الله. وهذا ما نقرأه في التوجيه المبدوء بعبارة سرّ الافخارستيا الذي وافق عليه، كما ينبغي، بولس السادس، والذي يثبت كليّاً تعليم المجمع التريدنتيني: “يجب تقديم الافخارستيا للمؤمنين كدواء يحرّرنا من آثامنا اليومية ويقينا الخطايا المميتة، ويجب إطلاعهم على أنسب الطرق لاستعمال أقسام الليتورجيا والقداس الخاصة بالتوبة، وتذكير من أراد أن يتناول بالوصية: ليمتحن الإنسان نفسه، (1كو11/28). إن عادة الكنيسة تظهر أن هذا الامتحان ضروري لكيلا يتقدّم أي إنسان، إذا عرف أن عليه خطيئة مميتة، مهما اعتبر نفسه أنه نادم، من الافخارستيا المقدس، دون أن يسبق ذلك الاعتراف السرّي، وإذا دعت الضرورة، ولا يمكنه أن يعترف لقلّى المعرّفين، فليبرز أولاً فعل ندامة كاملة” (156).
أما سرّ الدرجة فغايته إعطاء الكنيسة رعاة، لا يكونون معلّمين ورعاة وحسب، بل مدعوّين ليكونوا شهوداً للوحدة وصانعيها، وبناة لعائلة الله، ومدافعين عن اتحاد هذه العائلة، وعاملين على حفظه من خمير الانقسام والتشتت.
وسرّ الزواج الذي يرفع شأن الحب البشري، بفعل النعمة، هو علامة محبة المسيح للكنيسة، على وجه التأكيد، لكنّه علامة الانتصار أيضاً الذي يمكّن الأزواج من تحقيقه على القوى التي تشوّه الحب وتحطّمه، بحيث تصبح العائلة المولودة من هذا السرّ، علامة للكنيسة المصالَحة والمصالِحة من أجل عالم مصالَح في جميع بناه ومؤسساته.
وسرّ مسحة المرضى أخيراً هو، في محنة المرض والشيخوخة، وعلى الأخصّ في الساعة الأخيرة من حياة المسيحي، علامة ارتداد نهائي إلى الرب، وقبول تام للألم والموت كتكفير عن الخطايا. وبهذا تتحقق المصالحة الأخيرة مع الله.
وبعد، فهناك بين الأسرار سرّ، وإن دُعي غالباً سرّ الاعتراف بسبب الإقرار بالخطايا الذي يتمّ فيه، يمكن اعتباره، بطريقة أكثر ملاءمة، على أنه سرّ التوبة، على وجه التخصيص، حسبما يدعى. فهو إذن سرّ الارتداد والمصالحة. وقد بحثت جمعية المجمع العمومية الأخيرة، على الأخصّ، في هذا السرّ لما له من أهمية في مسألة المصالحة.
الفصل الثاني
سرّ التوبة والمصالحة
28- إن المجمع في جميع مراحله وعلى كلّ مستوياته، أولى بالغ الاهتمام العلامة السرّية التي تشير إلى التوبة والمصالحة، وتحققهما في الوقت عينه. ومن المؤكد أن هذا السرّ لا ينطوي في ذاته على كل مفاهيم التوبة والمصالحة. وفي الواقع أن الكنيسة تعرف منذ نشأتها أشكالاً عديدة ومختلفة من التوبة وتستعملها: بعضها طقسي وبعضها شبه طقسي وتشمل فعل التوبة في القداس حتى الاحتفالات التي تقام استمطاراً للغفران وفي مناسبة الحج والزيارات التقوية، وبعضها له طابع تقشّف مثل الصوم. غير أنّه ما من فعل، بين جميع هذه الأفعال، أوضح مدلولاً، وأفعل أثراً إلهياً، وأسمى مقاماً، وفي الوقت عينه، أقرب منالاً، كطقس، من سرّ التوبة.
وإن المجمع منذ فترته الإعدادية، وبعدئذ أبان المداخلات العديدة في أثناء انعقاد جلساته، وفي اجتماعات حلقاته، والمقترحات النهائية التي نتجت عنه، أخذ بعين الاعتبار هذا القول الذي تردّد غير مرة وبطرق مختلفة وهو: إن سرّ التوبة يمرّ في أزمة. فأوصى بتعليم مسيحي معمّق، وكذلك بتحليل لا يقلّ عمقاً يتناول الطبيعة اللاهوتية والتاريخية والنفسية والاجتماعية والقانونية الخاصة بالتوبة بوجه عام وسرّ التوبة بوجه خاص. فأراد بذلك أن يستجلي أسباب الأزمة ويفتح المجال لحلّ أكيد ثابت لخير البشرية. وتلقّت الكنيسة في الوقت نفسه، من المجمع عينه، ما يؤكّد تأكيداً واضحاً إيمانها بشأن السرّ الذي يولي كل مسيحي وجماعة المؤمنين كلّها يقين الغفران، بفضل قوة دم المسيح الفادي.
ومن الفائدة بمكان أن نجدّد هذا الإيمان ونؤكّده، في زمن قد يضعف فيه ويفقد بعض مقوّماته، أو يجرّ إلى دائرة من الظل والصمت، لأن الأزمة التي أشرنا إليها تهدّده في شقّها السلبي. وفي الواقع إن سرّ الاعتراف يواجه صعوبات كثيرة من جهة، ظلام الضمير الأدبي والديني، تضاؤل معنى الخطيئة، تشويه مفهوم الندامة، قعود الهمّة في ما خصّ الحياة المسيحية الصحيحة، ومن جهة ثانية، العقلية السائدة هنا وهناك التي تقول باستطاعة الحصول على المغفرة من الله رأساً، وحتى بطريقة عادية، دون الاقتراب من سرّ المصالحة، وأيضاً عادة ممارسة الأسرار بطريقة تفتقر أحياناً إلى الحرارة العفوية الروحية، وهي عادة ناشئة ربما عن حكم خاطئ، مزيّف بشأن مفاعيل السرّ.
فيجدر بنا إذن أن نذكّر بأبرز وجوه هذا السر العظيم.
“الذين تغفرون لهم خطاياهم”
29- إن الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، يعطينا أول عنصر وأهمّه في ما خصّ رحمة الرب وغفرانه. إن صفة رحيم في المزامير وتبشير الأنبياء، غالباً ما تطلق على الرب، خلافاً للعبارة المتداولة باستمرار التي تمثّل إله العهد القديم، على الأخصّ، إلهاً قاسياً معاقباً. وهناك في المزامير مقطع طويل، مليء بالحكمة، ناشئ عن تقليد الخروج، يذكّر بعمل الله الخير في وسط شعبه، ولعلّ هذا العمل، على الرغم من أنه وصف على طريقة المشبّهة، هو أبلغ إعلان للرحمة الإلهية في العهد القديم. وحسبنا أن نورد هنا هذه الآيات: “وهو رحيم يغفر الإثم ولا يهلك، وكثيراً ما يردّ غضبه ولا يثير كلّ سخطه، ويذكر أنهم بشرن نفس يذهب ولا يعود” (157).
في ملء الزمن، يظهر ابن الله، الآتي كالحمل الذي يرفع خطيئة العالم (158) ويأخذها على عاتقه، كمن له سلطان القضاء (159)، ومغفرة الخطايا (160).وقد أتى لا ليحكم بالهلاك بل ليغفر ويخلّص (161).
وقد أعطى المسيح سلطان مغفرة الخطايا هذا، بواسطة الروح القدس، أناساً بسطاء، معرّّضين للوقوع في حبائل الخطيئة، أعني رسله بقوله لهم: “اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه غفرت له، ومن أمسكتموها عليه، أُمسِكت” (162). وهذا أمر جديد هو من أروع ما أتى به الإنجيل من روائع! خوّل يسوع الرسل هذا السلطان الذي بإمكانهم – على ما فهمت الكنيسة ذلك دائماً منذ فجر وجودها – نقله إلى خلفائهم الذين تلقّوا من الرسل أنفسهم رسالة مواصلة عملهم ومسؤولية هذا العمل، بوصفهم مبشّرين بالإنجيل، وخدَمة فداء المسيح.
وهنا يتجلّى شخص خادم سرّ التوبة الذي غالباً ما يدعى، وفق عادة قديمة جداً، المعرّف، بكل ما له من عظمة.
إن الكاهن، خادم التوبة مثله على المذبح حيث يحتفل بالافخارستيا، وفي جميع باقي الأسرار، يعمل “بشخص المسيح”. والمسيح الذي يحضره الكاهن والذي يتم بواسطة الكاهن سرّ مغفرة الخطايا، يبدو أخاً للإنسان (163)، حبراً رحيماً، أميناً شفيقاً (164)، راعياً يسعى دائماً وراء النعجة الضّالة (165)، طبيباً يشفي ويقوّي (166)، معلماً أوحد يعلّم الحقيقة ويرشد إلى سبل الله (167)، للأحياء والأموات (168) يحكم بالحقّ والواقع وليس بحسب الظواهر (169).
ومما لا شك فيه أن خدمة الكاهن هذه، هي أصعب خدماته وأكثرها دقة وإرهاقاً وخطراً، ولكنها أجملها وأدعاها إلى التعزية. ولهذا إنّا، عملاً بتوصية المجمع الملحّة، لن نألو جهداً في حضّ إخواننا الأساقفة والكهنة على القيام بهذه الخدمة بأمانة وثبات (170). وإن المعرّف، أمام كل من المؤمنين الذي ينفتح له في مزيج من الخوف والثقة، لَمدعوّ إلى النهوض بمهمّة سامية قوامها خدمة التوبة والمصالحة البشرية، أعني الإطلاع على نقائص المؤمن وزلاّته، وتقدير رغبته في النهوض وما يقتضي له من جهود، وتبيّن عمل الروح القدس في قلبه ونقل الغفران إليه الذي لا يقدر على منحه إلاّ الله وحده، و”الاحتفال” بمصالحته مع الأب، على ما يصف ذلك مثل الابن الضال، وإدراج هذا الخاطئ مجدّداً، بعد أن تحرّر، في الاتحاد الكنسي مع إخوانه، وتوبيخ هذا التائب توبيخاً أبويّاً بعبارات جازمة، مشجّعة، ودّية بقوله له: “لا تعد تخطأ” (171).
ولا بدّ للمعرّف، لكي يقوم قياماً فعّالاً بهذه الخدمة من أن يتحلّى بصفات إنسانية كالفطنة، والرصانة وقوة التمييز، والحزم الملطّف بالعذوبة والطيبة. ولا بدّ له أيضاً من إعداد جدّي يكون غير مجتزئ، بل كاملاً ومتناسقاً في مختلف فروع اللاهوت، وفي علم التربية، وعلم النفس، ومنهجية الحوار، وعلى الأخصّ في ما يتعلّق بمعرفة كلام الله معرفة حيّة، عميقة مستساغة في الأسماع. ولكن ما يحتاج إليه أكثر ما يحتاج، إنما هو الحياة الروحية الناشطة الصادقة. ولكي يقود خادم التوبة الآخرين على طريق الكمال المسيحي، عليه أن يسلك هو أولاً هذا الطريق، وأن يعطي – بالأفعال أكثر منه بالخطب المسهبة – البراهين عن خبرة حقيقية بالصلاة المُعاشة، وممارسة الفضائل الإنجيلية، اللاهوتية والأدبية، وعن الطاعة الأمينة لإرادة الله، والمحبة للكنيسة والانقياد لسلطتها التعليمية.
وكل هذه المجموعة من الصفات الإنسانية والفضائل المسيحية، والكفايات الرعوية، لا تُرتَجل، ولا تُكتَسَب دونما مشقّة. وللقيام بخدمة سر التوبة يجب إعداد كل كاهن منذ سني الدراسة في المدرسة الإكليريكية، وتفقيهه لا في اللاهوت النظري والأدبي والروحي والرعوي ( وهذا كله يؤلف لاهوتاً واحداً ) وحسب، بل في العلوم الإنسانية أيضاً ومنهجية الحوار، ولاسيّما المحادثة الرعوية. ويجب بعد ذلك أن يسترشد للقيام باختباراته الأولى ويلقى المساعدة فيها. وعليه أن يسعى إلى التقدّم في هذا المجال، وتطوير معلوماته بالدرس المستمر. وأي كنز من النعمة، والحياة الحق، والإشعاع الروحي يهبط على الكنيسة، لو كان كل كاهن يسهر على ألاّ يتخلّف، إن إهمال أو لحجج أخرى، عن الموعد المضروب للمؤمنين في كرسي الاعتراف، ويبذل المزيد من العناية لكيلا يذهب إليه دون استعداد، أو وهو خلو من الصفات الإنسانية التي لا غنى عنها، ومن الاستعداد الروحي والرعوي.
ولا يسعنا في هذا المجال إلاّ أن نذكر، بإعجاب واحترام، أمثلة بعض مشاهير رسل كرسي الاعتراف كالقديس يوحنا نابوموسين، والقديس يوحنا مريم فياناي، والقديس يوسف كافاسو والقديس ليوبولد دي كاستيل نوفو، لكيلا نتحدّث إلاّ عن ذائعي الصيت ممّن تحصيهم الكنيسة في عداد القديسين. ولكن بودّنا أيضاً أن نعرف عن تقديرنا لجيش المعرّفين القديسين الذين ظلّوا تقريباً مجهولين، والذين يعود إليهم فضل خلاص الكثير من النفوس التي ساعدوها لتهتدي وتقاوم الخطيئة والتجارب، وتتقدّم روحياً، وفي النهاية، لتتقدّس. ولا نتردّد في القول أن كبار القديسين الذي أعلنت قداستهم قد خرجوا على وجه الإجمال هم أيضاً من منابر سرّ التوبة، ومعهم تراث الكنيسة الروحي، والحضارة المزدهرة المشبعة بالروح المسيحية. فالتقدير والكرامة إذن لهذا الجيش الصامت من إخواننا الذين خدموا ويخدمون كل يوم قضيّة المصالحة عن طريق خدمة سرّ التوبة.
سر المغفرة
30- إن الكشف عن قيمة هذا السرّ وعن سلطان مغفرة الخطايا الذي منحه السيد المسيح الرسل وخلفاءهم، نمّى لدى الكنيسة وعيها لعلامة المغفرة التي يعطيها سرّ التوبة. وفي هذا اليقين أن الرب يسوع عينه قد رسم ووكل إلى الكنيسة – كهبة تدلّ على عطف منه “ومحبة لجميع الناس” (172)، وتقدّم للجميع – سرّاً خاصاً من أجل مغفرة الخطايا المرتكبة بعد العماد.
إن ممارسة هذا السر – من حيث الاحتفال به وصيغته – قد تطوّرت تطوّراً كبيراً مع الأيام، على ما يشهد بذلك أقدم كتب توزيع الأسرار، وأعمال المجامع العامة ومجامع الأساقفة الخاصة، وتبشير الآباء وتعليم ملافنة الكنيسة. إنّما في ما يتعلّق بجوهر هذا السر، فقد رسخ دائماً في يقين الكنيسة وهو يقين لم يتغيّر إن الحلّة السرية التي يعطيها خادم السر تمنح المغفرة، بإرادة المسيح، كلاًّ من المؤمنين. ويعزّز هذا اليقين، كل التعزيز، كلّ من المجمع التريدنتيني (173) والمجمع الفاتيكاني الثاني: “أولئك الذين يتقدّمون من سرّ التوبة يقتبلون فيه من رحمة الله غفراناً عن الإساءة التي ألحقوها به، ويتصالحون في الوقت عينه مع الكنيسة التي جرحوها بخطيئتهم والتي تدأب في العمل على توبتهم بالمحبة، والمثل، والصلاة” (174). ويجب التأكيد على أنه عنصر جوهري من عناصر الإيمان بشأن قيمة التوبة وغايتها، إن مخلصنا يسوع المسيح رسم في كنيسته سرّ التوبة لكي يَقْبَل المؤمنون الذين سقطوا في الخطيئة بعد العماد، النعمة، ويتصالحوا مع الله (175).
ويتضمّن إيمان الكنيسة بهذا السر بضع حقائق أساسية أخرى لا يمكن تجاهلها، وقد حافظ طقس سرّ التوبة دائماً على هذه الحقائق وأبرزها، عبر ما طرأ من تطوّر وتغيير في الصيغ العملية. لقد رمى المجمع الفاتيكاني الثاني، عندما أمر بتجديد هذا الطقس، إلى التعبير عن هذه الحقائق تعبيراً أوضح (176) وتحقّق ذلك في الكتاب الخاص بتوزيع سر التوبة(177). وقد استعاد في الواقع العقيدة الكاملة المتخذة من التقليد، التي جمعها المجمع التريدنتيني، ونقلها من إطارها التاريخي الخاص (الذي بُذِل فيه جهد كبير لشرح العقيدة إزاء انحرافات خطيرة بشأن تعليم الكنيسة الصحيح) للتعبير عنها بأمانة بعبارات أكثر ملاءمة وظروف عصرنا.
بعض قناعات أساسية
31- إن الحقائق المشار إليها آنفاً والتي ذكّر بها المجمع بقوّة ووضوح، والتي تضمّنتها المقترحات يمكن اختصارها بالقناعات الإيمانية التالية التي تدور حولها كل التأكيدات الأخرى الخاصة بالعقيدة الكاثوليكية بشأن سر التوبة؟
1- القناعة الأولى هي أن سرّ التوبة بالنسبة إلى المسيحي هو الطريق العادي لنيل الصفح وغفران الخطايا الكبيرة المرتكبة بعد العماد. وإن المخلّص عينه وعمله الخلاصي لا يتقيّدان بأية علامة سرّية تقيّداً يحول دون تمكّنهما من أن يعملا، في أي زمان ومكان من تاريخ الخلاص، بمعزل عن الأسرار وفوقها. وإننا في مدرسة الإيمان نتعلّم أن المخلّص عينه قد شاء فاتّخذ التدبير الكفيل بجعل أسرار الإيمان الوضيعة، الثمينة، بطريقة مألوفة، الوسائل الفعّالة التي تمرّ بها قوّته الخلاصيّة وتعمل. فليس من الحماقة إذن وحسب، بل من الاعتداد الباطل، ترك أسرار النعمة والخلاص التي رسمها الرب، وإهمالها كيفيّاً، والادعاء بقبول الغفران دون اللجوء إلى السرّ الذي رسمه السيد المسيح من أجل الغفران. إن تجديد الطقوس الذي تمّ بعد المجمع لا يفسح المجال لأي وهم أو تشويه في هذا الأمر. وكان من شأن هذا التجديد أن يعمل، وفقاً لقصد الكنيسةن على إثارة انتفاضة جديدة تحمل على تجديد مشاعرنا الباطنيّة، أعني تحمّلنا على تفهّم طبيعة سرّ التوبة تفهّماً أعمق، وعلى قبوله قبولاً مدعوماً بالإيمان دعماً أقوى، دونما قلق بل بثقة، وعلى ممارسة السر ممارسة نعرف أنها طافحة بنعمة الله الرحيمة.
2- القناعة الثانية تتعلّق بوظيفة سرّ التوبة بالنسبة إلى من يلجأ إليه. إن هذا السرّ، وفقاً لأقدم مفهوم للتقليد، هو نوع من العمل القضائي، لكنه يتمّ لدى محكمة رحمة، أكثر مما هي محكمة عدالة ضيّقة بحصر المعنى. ولا سبيل إلى مقارنة هذه المحكمة بالمحاكم البشريّة إلا من باب الاستعارة (178)، أعني أن الخاطئ هو من يكشف عن خطاياه وحالته وهي حالة خليقة خاضعة للخطيئة، ويتعهّد هذا الخاطئ بالرجوع عن الخطيئة وبمحاربتها ويقبل الكفّارة (التوبة السرّية) التي يفرضها عليها المعرّف، ويقبل الحل من خطاياهز
ولكن ضمير الكنيسة، إذ يتأمّل في وظيفة هذا السرّ، يكتشف فيه ما عدا الطابع القضائي الذي أشرنا إليه، وجهاَ شفائياً أو دوائياً وهذا يعود إلى كون المسيح غالباً ما يظهر في الإنجيل كطبيب (179)، ولأن عمله الخلاصي، غالباً ما يدعى منذ عصور المسيحية الأولى “دواء الخلاص”. وكان القديس أغسطينوس يقول، وهو يتحدّث عن ممارسة النشاط الرعوي الخاص بالتوبة (180)، “أريد أن أعالج وأشفي لا أن أتّهم”. وبفضل دواء الاعتراف، لا يؤدي جرح الخطيئة إلى اليأس (181). ويشير كتاب التوبة إلى هذا الوجه الشفائي من السر (182) الذي ربما يؤثر بإنسان اليوم لإبانته له ما في الخطيئة من ضلال، وأكثر من ذلك، لإظهاره له ما فيها من ضعف بشري وهزال.
وسواء أكان محكمة رحمة أم مشفى روحي، إن السر بوجهيه يتطلّب معرفة ما في قلب الخاطئ لتمكن محاكمته وحلّه ومعالجته وشفاؤه. ولهذا السبب يستوجب السرّ من قبل الخاطئ الإقرار الصحيح الكامل بالخطايا والدافع إلى ذلك لا قصد التقشف (كممارسة التواضع والإماتة)، بل طبيعة السرّ عينها.
3- إن القناعة الثالثة التي يهمّنا أن نشدّد عليها تتناول الوقائع أو العناصر التي تشكّل العلامة السرّية للغفران والمصالحة. وبعض هذه الوقائع أعمال التائب وهي تختلف أهميةً لكن كلاًّ منها ضروري إما لصحة العلامة وإما لسلامتها وكمالها وإما لفائدتها.
والشرط الأول الذي لا بدّ منه هو قبل كل استقامة ضمير التائب ونقاؤه. ولا يمكن الإنسان أن يتقدّم في طريق التوبة الصادقة الصحيحة، ما لم يفهم أن الخطيئة تنأى به عن القاعدة الأدبية المكتوبة في عمق كيانه (183)، وما لم يعترف بأنه اختبر اختباراً شخصياً مسؤولاً هذا التناقض، وما لم يقل “هذه خطيئة” وحسب، بل “إنّي خطئت”، وما لم يسلّم بأن الخطيئة قد أدخلت في الضمير تمزّقاً يغزو الكيان الإنساني كله ويفصله عن الله والقريب. والعلامة السرّية لنقاء الضمير هذا هو ذلك الفعل التقليدي المدعو: “فحص الضمير”، وهو فعل يجب أن يكون دائماً لا بحثاً نفسانياً قلقاً بل مقارنة مخلصة صافية مع الشرعة الأدبية، ومع القواعد الإنجيلية التي تعرضها الكنيسة، ومع المسيح عينه، معلمنا ومثالنا في الحياة، ومع الآب السماوي الذي يدعونا إلى الخير والكمال (184).
ولكن فعل التوبة الجوهري الذي يقوم به التائب، إنّما هو الندامة ، أي رفض الخطيئة المرتكبة رفضاً قاطعاً جازماً والقصد الثابت في الوقت عينه لعدم ارتكابها (185)، محبة بالله التي تولد مجدداً مع التوبة. فالندامة، المفهومة على هذا الوجه، هي مبدأ الارتداد ولبّه، وهي لبّ هذا التغيير الإنجيلي الذي يعود بالإنسان إلى الله على مثال الابن الضال العائد إلى أبيه، والذي يجد في سر التوبة علامته المنظورة، حيث الانسحاق يلقى كماله. ولهذا “على ندامة القلب هذه، تقوم صحة التوبة” (186).
إنّا، إذ نكرّر كل ما تعلّمه الكنيسة، بإلهام من كلام الله بشأن الندامة يهمنا أن نشدّد هنا على وجه واحد فقط من وجوه العقيدة التي يجب التعمّق في معرفتها ووضعها نصب العينين. غالباً ما ينظر إلى الارتداد والندامة من حيث ما تنطويان عليه من مقتضيات لا جدل فيها، ومن حيث تفرضانه من إماتة، قصد تغيير الحياة تغييراً جذرياً. لكنه من المفيد التذكير والتنبيه إلى أن الندامة والارتداد هما أكثر من ذلك: إنهما اقتراب من قداسة الله، واكتشاف الإنسان حقيقته الباطنية الخاصة التي أقلقتها الخطيئة وحتى قلبتها، وتحرره في أعماقه واستعادته بالتالي فرحته المفقودة، فرحة الخلاص (187) التي لا يعرف القسم الأكبر من معاصرينا أن ينعموا بها.
من هنا ندرك إذن لماذا الكنيسة، منذ فجر النصرانية وبالاتحاد مع الرسل والمسيح، قد أُدرِجت في علامة سرّ التوبة، الإقرار بالذنوب. وهذا الإقرار يبدو من الأهمية بحيث أن الاسم الذي يطلق، منذ عدة قرون على السرّ، كان ولا يزال اسم الاعتراف. وإن ما يوجب الاعتراف بالخطايا، قبل كلّ، إنما هو حاجة من يقوم بدور القاضي في السرّ إلى معرفة الخاطئ، لأنه يعود إليه، في وقت معاً، أمر تقدير ثقل الخطايا، وندامة التائب. وهو يحتاج، في ممارسته أيضاً دور الطبيب إلى الإطلاع على حالة المريض لمعالجته وشفائه. وللاعتراف الإفرادي كذلك قيمة علامة: علامة لقاء الخاطئ مع وساطة الكنيسة في شخص الخادم، علامة يظهر معها المؤمن أنه خاطئ أمام الله والكنيسة، علامة ينجلي معها أمام نظر الله. فلا يمكن بالتالي ردّ الإقرار بالخطايا إلى عملية تحرير ذاتي نفساني، ولو كانت تلبية لحاجة مشروعة طبيعية إلى الانفتاح على الغير، وهي حاجة راسخة في قلب الإنسان. إن الإقرار هو عمل طقسي احتفالي بطبيعته الشبه مأسوية، وضيع بسيط بعظمة معناه. إنه حقاً عمل الابن الضال الذي يعود إلى أبيه والذي يستقبله أبوه بقبلة السلام. إنه عمل أمانة وشجاعة. إنه عمل تسليم الذات، بعد تخطّي الخطيئة، إلى الرحمة الغافرة (188). وهكذا إنّا ندرك لماذا يجب أن يكون الإقرار بالخطايا عادة إفراديّاً، وليس جماعياً، كما أن الخطيئة هي في العمق فعل شخصي. ولكن هذا الإقرار ينتزع في الوقت عينه الخطيئة نوعاً ما من أعماق القلب الخفيّة، وبالتالي من المحيط الفردي الصرف، فيما يشدّد على طابعها الاجتماعي لأن الجماعة الكنسيّة التي جرحتها الخطيئة هي التي تستقبل مجدّداً، بواسطة خادم التوبة الخاطئ التائب الذي نال الغفران.
والعنصر الجوهري الآخر من سر التوبة يتعلّق الآن بالمعرّف، القاضي والطبيب، صورة الأب الذي يستقبل الذي يرجع ويغفر له: وهذه هي الحلّة. والكلام الذي يعرب عنها والحركات التي ترافقها في كتاب التوبة القديم والجديد، يدلّ في عظمته على بساطة لها معناها. إن الصيغة السرّية: “اغفر لك…” ووضع اليد، وإشارة الصليب المرسومة على التائب، هذا كله يدلّ على أن الخاطئ النادم والمرتد يلتقي في هذه اللحظة قوة الله ورحمته. هذا هو الوقت الذي يحضر فيه الثالوث، استجابة للتائب، ليمحو له خطيئته ويعيد إليه براءته، وفيه يمنح التائب عينه ما في آلام يسوع وموته وقيامته من قوة خلاصيّة، بوصفها “رحمة أقوى من الإثم والإهانة”، على ما حددناها في رسالتنا العامة: غني بالرحمة. إن الله هو دائماً أول من تهينه الخطيئة – “إليك وحدك خطئت”ن والله وحده باستطاعته أن يغفر. لهذا، إن الحلّة التي يمنحها الكاهن خادم المغفرة للتائب – على الرغم من أنه هو خاطئ – هي العلامة الفاعلة لتدخّل الآب في كل حلّة، ولهذه “القيامة” من “الموت الروحي” التي تتجدّد كلّما منح سرّ التوبة. إن بإمكان الإيمان وحده أن يؤكّد لنا أن كل خطيئة تغفر، في هذه اللحظة، وتمحى بفضل تدخّل عجيب من المخلّص.
إن الكفّارة هي الفعل الأخير الذي يتوّج العلامة السرّية للتوبة. إن ما يقبل التائب الذي نال الغفران بعد قبوله الحلّة أن يقوم به يدعى في بعض البلدان توبة. ما هو معنى الكفّارة التي يقوم بها المؤمن أو هذه التوبة التي يتمّها! ليست على وجه التأكيد الثمن الذي يدفع عن الخطيئة التي حلّ منها الخاطئ ولا عن المغفرة التي حصل عليها: ما من ثمن بشري يوازي ما حصل عليه وهو ثمرة دم المسيح الثمين للغاية. إن أفعال التكفير التي – على الرغم من احتفاظها بطابع البساطة والتواضع – كان يجب أن تُعرِب أحسن مما تفعل عمّا تعني – تشير إلى أمور هامة: إنها علامة الالتزام الشخصي الذي يأخذه المسيحي على عاتقه أمام الله، في السرّ، بأن يبطأ حياة جديدة (ولهذا كان من الواجب ألاّ تقتصر فقط على بضع صيغ تتلى، بل تتناول أعمال التكفير هذه إن باستطاعة الخاطئ الذي مُنِحَ المغفرة أن يضمّ إماتة الجسد والنفس سواء قام بها عفواً أم ارتضاها، إلى آلام المسيح الذي وهبه المغفرة، وهي تعلّم أيضاً أنه يبقى بعد الحلّة في المسيحي منطقة مظلمة ناشئة عن جراح الخطيئة، ونقص المحبة في التوبة وضعف القوى الروحية والتي لا تزال تعمل فيها بؤرة فساد هي الخطيئة التي تجب محاربتها دائماً بالإماتة والتوبة. هذا هو معنى الكفّارة الوضيعة، ولكنها مخلّصة (189).
4- يبقى أن نلمّح إلى قناعات أخرى هامة خاصة بسرَ التوبة.
ينبغي التأكيد قبل كل، أن ليس هناك ما هو شخصي وحميمي أكثر من هذا السرّ الذي يجد فيه الخاطئ نفسه وحيداً أمام الله مع خطيئته وتوبته وندمه وثقته. وما من أحد يمكنه أن يندم مكانه، أو أن يطلب المغفرة باسمه. إن هناك نوعاً من الوحدة هي وحدة الخاطئ في إثمه، يمكن أن نراها ممثّلة تمثيلاً مأسوياً بقايين مع خطيئته “الرابضة على الباب”، على ما جاء في سفر التكوين بطريقة واقعية، ومع العلامة الفارقة المطبوعة على جبهته (190)، وممثّلة أيضاً بداوود الذي وبّخه النبي ناتان (191)، أو بالابن الضال عندما وعى الحالة التي ألقى نفسه فيها، لابتعاده عن الله، وعندما عزم على العودة إلى الله (192)، كل هذا يدور بين الله والإنسان فقط. إنّما في الوقت عينه لا يمكن إنكار طابع هذا السر الاجتماعي وهو السر الذي تأتي فيه الكنيسة جمعاء – المجاهدة والمتألمة والممجّدة في السماء – إلى نجدة التائب وتحتضنه مجدّداً، وعلى الأخصّ لأن الكنيسة جمعاء هي من كانت تلقّت الإهانة وجُرِحت بسبب خطيئته. والكاهن، خادم السرّ يبدو بفضل الوظيفة المقدسة الخاصة به كشاهد وممثّل لطابع السرّ الكنسي. وهذان هما وجها السرّ المتكاملان: طبيعته الإفرادية، وطابعه الكنسي، اللذان أبرزهما تجديد طقس التوبة التدريجي، ولاسيما كتاب التوبة الذي نشره بولس السادس، وأبَان معناهما لدى الاحتفال بهذا السرّ.
5- وينبغي التأكيد بعدئذٍ على أن أثمن ثمرة تُجتنى من سرّ التوبة، إنّما هي المصالحة مع الله التي تتمّ في عمق قلب الابن الضال الذي “وُجِد” والذي هو كل تائب. ويجب طبعاً أن نضيف أن هذه المصالحة مع الله تُفضي، إذا جاز القول، إلى مصالحات أخرى ترأب الصدوع التي أحدثتها الخطيئة: فالتائب الذي نال الغفران يتصالح مع ذاته في أعماق كيانه حيث يجد حقيقته الباطنية، ويتصالح مع إخوانه الذين هاجمهم وأساء إليهم نوعاً ما، ويتصالح مع الكنيسة، ويتصالح مع الخليقة كلها.
وإن وعي المؤمن لهذا كله يولّد لدى التائب في نهاية الاحتفال، عاطفة عرفان جميل، تجاه الله من أجل هبة الرحمة التي تلقّاها. وإلى رفع آيات الشكر هذه تدعوه الكنيسة.
عن كل كرسي اعتراف إنّما هو مكان مفضّل ومبارك، يولد منه، بعد القضاء على الانقسامات، إنسان مصالَح جديد، لا عيب فيه – عالم جديد!
6- وبودّنا أخيراً أن نتحدّث عن اعتبار أخير يهمنا، وهو يتعلّق بنا جميعاً، نحن الكهنة، خدمة سرّ التوبة، الذين بإمكاننا – ويجب علينا – أن نستفيد منه. أن حياة الكاهن الروحية والرعوية، كحياة إخوته العلمانيين أو الرهبان تتعلّق من حيث نوعيّتها وحرارتها، بممارسة سرّ التوبة، ممارسة شخصية متواترة، واعية (193). إن احتفال الكاهن بالافخارستيا وتوزيعه لسائر الأسرار وغيرته الرعوية، وعلاقاته مع المؤمنين واتحاده مع إخوته الكهنة، وتعاونه مع الأسقف، وحياة الصلاة عنده، وبكلمة واحدة، إن حياته الكهنوتية كلها تصاب حتماً بالضرر إذا كان عن إهمال أو لأي سبب آخر، لا يلجأ بصورة عادية وبإيمان وتقوى صحيحين إلى سرّ التوبة. إذا كان الكاهن لا يعترف أو يعترف اعترافاً سيئاً، إن كيانه الكهنوتي وعمله الكهنوتي يتأثران حالاً من جرّاء ذلك، ولا تلبث الجماعة التي يرعاها أن تلاحظ هذا الأمر.
ولكنّا نضيف أيضاً أن الكاهن، لكي يكون خادماً حسناً، وخادماً فاعلاً للتوبة عليه أن يلجأ إلى ينبوع النعمة والقداسة الكامن في هذا السرّ. إنّا نحن الكهنة، بما لنا من خبرة شخصية، يمكننا أن نؤكّد أننا على قدر ما نحرص على اللجوء إلى سرّ التوبة، والاقتراب منه بتواتر ونحن على ما يجب من حسن استعداد، نتمّ خدمتنا كمعرِّفين خير إتمام، ونوفّر للتائبين ما فيها من خير. وعلى العكس من ذلك، إن هذه الخدمة تفقد الكثير من فاعليّتها، إذا تقاعسنا بطريقة ما في أن نكون خير التائبين. هذا هو المنطق الداخلي لهذا السرّ الكبير وهو يدعونا جميعاً نحن الكهنة إلى توجيه انتباه خاص إلى اعترافنا الشخصي.
وهذه الخبرة الشخصية تصبح بدورها، ويحب أن تصبح اليوم، حافزاً على مزاولة خدمة هذا السر المقدسة، مزاولة ناشطة مثمرة متأنية حارّة، نحن ملزمون بها بقوّة كهنوتنا ودعوتنا التي تجعل منّا رعاة وخدّاماً لإخوتنا. ولهذا إنّا نوجّه، بهذا الإرشاد، دعوة ملحّة إلى جميع كهنة العالم، وعلى الأخصّ إلى إخوتنا في الأسقفية، وإلى كهنة الرعايا لكي يشجّعوا بكل قواهم المؤمنين على ممارسة هذا السرّ، ولكي يضعوا جميع الوسائل الممكنة والملائمة موضع العمل، ويجرّبوا كل الطرق التي تمكّن من إيصال “النعمة التي أعطيناها” بالتوبة، إلى أكبر عدد من إخوتنا، بغية مصالحة كل إنسان والعالم أجمع مع الله في المسيح.
صيغ الاحتفال
32- إن كتاب التوبة، أمانة منه لتوجيهات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني – قد أعطى ثلاثة طقوس تفسح في المجل مع الإبقاء على العناصر الجوهرية، لتكييف صيغة الاحتفال بسرّ التوبة وفق ظروف رعوية محددة.
الصيغة الأولى – مصالحة التائبين الإفرادية – هي الطريقة الوحيدة، الشائعة العادية للاحتفال بهذا السرّ. ولا يجوز أن تترك لا بل يجب ألاّ تسقط من الاستعمال أو يجب ألاّ تهمل.
الصيغة الثانية – مصالحة عدة تائبين مع الاعتراف والحلّة الإفرادية – وهي ولو فسحت في المجال في الأعمال الإعدادية لتسليط الأضواء على وجوه السر الجماعية، تلتقي والصيغة الأولى في الفعل السرّي الأخير، أعني الاعتراف والحلّة من الخطايا الإفراديين، ويمكن بالتالي مساواتها بالصيغة الأولى في ما خصّ قاعدة السر المشتركة.
والصيغة الثالثة – مصالحة عدة تائبين مع الاعتراف والحلّة الجماعية – وهي بطبيعتها استثنائية ولا يمكن تركها للاختيار الحرّ، بل إن هناك قواعد خاصة تنظّمها.
إن الصيغة الأولى تفسح في المجال لإبراز ما في مسيرة التوبة من نواح هي أكثر شخصية – وجوهرية- ولاستخدامها وتقديرها حق قدرها. فالحوار بين التائب والمعرِّف ومجمل العناصر المستعملة (النصوص الكتابية، اختيار صيغ “الكفارة”، إلخ…) تتيح للاحتفال السرّي الإجابة بطريقة أكثر ملاءمة لحالة التائب الواقعية. وإنّا نتبيّن قيمة هذه العناصر، عندما نفكّر بمختلف الأسباب التي تحمل المسيحي على التوبة السرّية: وهي الحاجة إلى المصالحة الشخصية مع الله والرجوع مجدّداً إلى صداقته، باستعادة النعمة المفقودة من جرّاء الخطيئة، والحاجة إلى تأكّد التائب من مسيرته الروحية وأحياناً، من تبيّن دعوته تبيّناً دقيقاً، وفي حالات كثيرة، الحاجة إلى الخروج أو الرغبة في الخروج من حالة الترهّل الروحية ومن أزمة دينية. وفضلاً عن ذلك، إن صيغة الاحتفال الأولى، بما لها من طابع شخصي، تمكّن من ربط سرّ التوبة بممارسة تتميّز عنه، إنما يمكن ربطها به، أعني الإرشاد الروحي. فمن المؤكّد إذن أن هذه الصيغة الأولى تفسح في المجال للإعراب عن القرار والالتزام الشخصيين، وتدفعهما إلى الأمام.
أما الصيغة الثانية، فتبرز، بطبيعتها الجماعية وطريقة الاحتفال بها، بعض وجوه لها أهميتها: ذلك أن كلام الله المستمَع إليه جمهورياً له أثر رائع بالمقارنة مع القراءة الإفرادية، ويظهر بطريقة أفضل طبيعة الارتداد والمصالحة الشخصية. وله وقع خاص في مختلف فترات السنة الطقسية وفي مناسبة الأحداث التي لها أهمية رعوية خاصة. وتكفي الإشارة هنا إلى أنه، للاحتفال بهذه الصيغة، من المهم أن يتوفّر حضور عدد كاف من المعرِّفين.
فمن الطبيعي إذن أن تؤخذ قواعد تقرير اللجوء إلى إحدى صيغتي الاحتفال، لا من أسباب، ظرفية عاطفية بل من الرغبة في تأمين فائدة المؤمنين الروحية الصحيحة مع التقيّد بالقواعد التي وضعتها الكنيسة للتوبة.
ويجب أيضاً التذكير بأنه، ليكون هناك إرشاد روحي ورعوي متوازن في هذا المجال، من الأهمية بمكان مواصلة اللجوء إلى سر التوبة حتى من أجل الخطايا العرضية فقط – وتثقيف المؤمنين في ذلك، جرياً على تقليد عقائدي وعادة ترقى إلى عدة قرون.
إن الكنيسة على الرغم من أنها تعرف وتعلّم أن الخطايا العرضية تغفر أيضاً بطرق أخرى – مثل أفعال الندامة وأعمال المحبة والصلاة وطقوس التوبة – لا تفتأ تذكّر الجميع بما في الفعل السرّي من غنى روحي، حتى بالنسبة إلى مثل هذه الخطايا. إن اللجوء بتواتر إلى السر – الذي تلتزم به فئات عديدة من المؤمنين – يعزّز الوعي بأن الخطايا حتى الصغيرة تهين الله وتسيء إلى الكنيسة جسد المسيح. والاحتفال بالسرّ يوفّر للمؤمنين “فرصة وحافزاً ليتطابقوا والمسيح تطابقاً أعمق وينقادوا لصوت الروح انقياداً أطوع” (194). ويجب التأكيد على الأخص أن للنعمة الخاصة بالاحتفال بالسرّ قوة شفائية وأنها تساهم في استئصال جذور الخطيئة.
إن إيلاء الاحتفال ما ينبغي من العناية (195)، والانتباه الخاص إلى أهمية كلام الله الذي يقرأ، ويذكّر به، ويشرح للمؤمنين ومع المؤمنين، عندما يكون ذلك ممكناً ومناسباً، يساعد المؤمن على أن يدرك أنه يحيا حدثاً خلاصيّاً بإمكانه أن يبعث في نفسه نفحة حياة جديدة وسلاماً أكيداً. وهذه العناية بالاحتفال بالسرّ يحمل أيضاً – فيما يحمل – كلّ كنيسة على تحديد أوقات معيّنة للاحتفال بالسرّ، وعلى المسيحيين التقيّد بهذه الأوقات بطريقة عادية، إلاّ إذا حدثت ظروف طارئة وجب على راعي النفوس أن يكون دائماً فيها مستعداً لاستقبال من يلجأ إليه بطيبة خاطر.
الاحتفال بالسرّ مع الحلّة العامة
33- تحدد القواعد الطقسية الجديدة، ومؤخراً، مجلة الحق القانوني الجديدة (196) الشروط التي تجعل استعمال “طقس مصالحة عدد من التائبين مع الاعتراف والحلّة العامة” استعمالاً مشروعاً. ويجب قبول هذه القواعد والترتيبات التي أقِرَّت في هذا المجال، وجاءت ثمرة تفكير ناضج متوازن، وتطبيقها تطبيقاً يجانب أي نوع من أنواع الشرح الاعتباطي.
ويجدر التبصر مليّاً بالأسباب التي تفرض الاحتفال بالتوبة وفقاً لإحدى الصيغتين الأوليتين، والتي تجيز استعمال الصيغة الثالثة. إن هناك، قبل كل، سبب أمانة لإرادة الرب يسوع التي نقلتها عقيدة الكنيسة، وأيضاً سبب طاعة لشرائع الكنيسة. لقد ذكّر المجمع في أحد اقتراحاته بالتعليم الذي لم يتغيّر والذي نهلته الكنيسة من معين أقدم تقليد، وبالشريعة التي نظمت بموجبها الممارسة القديمة الخاصة بالتوبة: وهي أن الاعتراف الإفرادي الكامل بالخطايا مع الحلّة الإفرادية أيضاً هما الطريقة الوحيدة العادية التي تتيح للمؤمن الذي يعي أن عليه خطيئة ثقيلة، مجال المصالحة مع الله ومع الكنيسة. ومن هذا التأكيد الجديد لتعليم الكنيسة، يتضّح جليّاً أنه يجب الإعلان دائماً عن كل خطيئة ثقيلة، بظروفها المحددة في اعتراف إفرادي.
وهناك سبب رعوي. فإذا صحّ أنه عندما تتحقق الشروط التي تقتضيها القاعدة القانونية، يمكن استعمال صيغة الاحتفال الثالثة، فلا يجوز مع ذلك أن ننسى أن هذه الصيغة لا يمكن أن تصبح صيغة عادية، ولا يمكن استعمالها لا بل لا يجب استعمالها – على ما ذكّر به المجمع مراراً – إلاّ في حالات الضرورة الخطيرة، مع الاحتفاظ بواجب الاعتراف الإفرادي بالخطايا الثقيلة، قبل اللجوء مجدداً إلى حلّة أخرى عامة. فللأسقف إذن، الذي يعود إليه وحده، في نطاق أبرشيته، تقدير ما إذا كانت الظروف التي وضعتها الشريعة القانونية لاستعمال الصيغة الثالثة، قد توفّرت عملياً، أن يحتكم في الأمر – وضميره مثقل كل الثقل – مع التقيّد كليّاً بشريعة الكنيسة وممارستها، وأخذه بالاعتبار، فضلاً عن ذلك، المقاييس والتوجيهات التي توافق عليها – بالاستناد إلى الاعتبارات العقائدية والرعوية المعروضة آنفاً – سائر أعضاء المجلس الأسقفي. وكذلك يجب دائماً، بدافع من العناية الرعوية الأصيلة، عرض الشروط وضمانها، هذه الشروط التي تمكّن استعمال الصيغة الثالثة من إعطاء الثمار الروحية التي من أجلها أنشِئت. ولا يجوز استعمال الصيغة الثالثة بدلاً من كلتا الصيغتين الآخريين. لأن أمر الاختيار بين الصيغ المشار إليها ليس متروكاً لحرية الرعاة والمؤمنين. وعلى الرعاة واجب تسهيل ممارسة الاعتراف الكامل، والإفرادي بالخطايا على المؤمنين ولي هذا واجباً وحسب، بل حقّ لا يجوز انتهاكه ولا انتزاعه، فضلاً عن أية حاجة روحية. وأما بالنسبة إلى المؤمنين، فإن استعمال صيغة الاحتفال الثالثة يفرض واجب التقيّد بجميع القواعد التي تنظم هذا الاستعمال، بما فيها تلك التي توجب الامتناع عن اللجوء مجدداً إلى الحلّة العامة، قبل الاعتراف الكامل والإفرادي بالخطايا، الذي يجب القيام به في أقرب وقت ممكن. وعلى الكاهن أن ينبّه المؤمنين إلى هذه القاعدة وإلى واجب التقيّد بها وأن يفقّههم فيها، قبل الحلّة.
وإنّا إذ نذكّر بعقيدة الكنيسة وشريعتها، نريد أن نغرس في قلوب الجميع الشعور الحي بالواجب المسؤولية الذي يجب أن نهتدي به لدى تعاطي الأشياء المقدسة، التي كالأسرار، ليست ملكاً لنا أو كالضمائر التي من حقها ألاّ تُترَك فريسة الإبهام والغموض والالتباس. إن الأشياء المقدسة نقولها تكراراً هي هذه وتلك: الأسرار والضمائر التي تقتضينا أن نخدمها في الحق.
ولهذا كانت شرائع الكنيسة.
بعض الحالات الصعبة
34- إنّا نعتبر أن من واجبنا أن نشير، في هذا المكان ولو بإيجاز إلى حالة رعوية شاء المجمع أن يعالجها – على قدر ما استطاع أن يفعل – بعرضه إياها في أحد اقتراحاته. نريد أن نتحدّث عن بعض حالات ليست بالنادرة يجد فيها بعض المسيحيين أنفسهم، وهم الذين يرغبون في الاستمرار في الممارسة الدينية للأسرار ولكنهم يمنعون من ذلك بسبب حالتهم الشخصية التي تتنافى والتزاماتهم التي أخذوها بحريتهم أمام الله والكنيسة. حالات صعبة في الواقع وغير قابلة للحلّ تقريباً.
لقد عبّرت في المجمع عدة مداخلات عن فكرة الآباء العامة وأبانت أن هناك مبدأين بالغي الأهمية يتفاعلان في ما خصّ هذه الحالات. الأول مبدأ الشفقة والرحمة الذي بموجبه تسعى الكنيسة – التي تواصل عمل المسيح ولا تريد موت الخاطئ بل ارتداده وحياته (197)، – وتحرص على ألاّ تكسر القصبة المرضوضة ولا تطفئ السراج المدخّن (198) – دائماً إلى الإرشاد إلى طريق العودة إلى الله والمصالحة معه. والثاني هو مبدأ الحقيقة والانسجام الذي لا ترضى الكنيسة بموجبه بأن تدعو الخير شرّاً والشرّ خيراً. وبالاستناد إلى هذين المبدأين المتكاملين لا يسع الكنيسة إلاّ أن تدعو أبناءها المتقلّبين في هذه الحالات الصعبة، إلى التقرّب من الرحمة الإلهية بغير طرق، وليس عن طريق الأسرار ولاسيما سرّي التوبة والافخارستيا، إلى أن تتوفر لهم الاستعدادات النفسية المفروضة.
وقد بدا لنا أنه من واجبنا أن نقول، بشان هذه المسألة التي تفطّر قلوبنا أيضاً كرعاة، كلاماً صريحاً في الإرشاد الرسولي في وظائف العائلة المسيحية، في ما يتعلّق بحالة المطلّقين والمتزوجين ثانية (199)، وكذلك بحالة المسيحيين المتساكنين مساكنة غير شرعية.
وإنّا نشعر في الوقت عينه، مع المجمع، بأن من واجبنا أن نستحثّ الجماعات الكنسية، وعلى الأخص الأساقفة، على أن يمدّوا بكل مساعدة ممكنة الكهنة الذين، بعد أن تخلّفوا عن القيام بالواجبات التي تعهّدوا بالقيام بها لدى سيامتهم، يتقلّبون في حالات غير شرعية. فلا يجوز أن يشعر أحد من هؤلاء الإخوة بأن الكنيسة قد تركته.
وإن ما تظهره الكنيسة من علامات العطف الوالدي، والمساندة الناتجة عن أعمال التقى، المختلفة عن الأسرار والسعي المخلص لإقامة علاقة مع الله، وسماع القداس، وتكرار أفعال الإيمان والرجاء والمحبة، والندامة الكاملة على قدر المستطاع، إن هذا كله يمكن أن يمهّد السبيل إلى المصالحة التامة التي ستتم في الوقت الذي تعرفه العناية وحدها لجميع الذين، في الوقت الحاضر، لا يتمّون الشروط الوضعية التي يفترضها سرّ التوبة.
التمني الأخير
35- في ختام هذه الوثيقة، إنّا نشعر بأننا نسمع صدى الإرشاد الذي وجهه أسقف روما الأول، في ساعة حرجة، في بدء الكنيسة، يتردد في داخلنا، وإنّا لنرغب في أن نردده على مسمع كل منكم، وقد وجهه “إلى المغتربين المشتتين…. الذي بسابق معرفة الله الآب انتخبوا (200)… مناشداً الذين بساق معرفة اله الآب انتخبوا (200)… مناشداً إياهم بقوله إن:”تكونوا على وفاق، تتألمون مع المتألمين، محبّين بعضكم بعضاً، رحماء متواضعين…” ولكنه لا يلب أن يشير إلى الخطايا التي تناقض الوحدة والسلام والتي يجب اجتنابها قائلاً: “لا، فلا تجازوا أحداً سيئة بسيئة، ولا شتيمة بشتيمة، بل على العكس باركوا، لأنكم إلى هذه دعيتم لترثوا البركة”، وينهي بكلمة تشجيع ورجاء بقوله: “من ذا الذي يسيء إليكم ، إذا كنتم على الخير غيارى”؟(201).
وفي ساعة ليست أقل حراجة من التاريخ، إنّا نجرؤ على ربط إرشادنا بإرشاد رئيس الرسل الذي كان أول من جلس على سدّة روما كشاهد للمسيح وراع للكنيسة والذي “يشرف على المحبة” أمام العالم أجمع. وإنّا نحن أيضاً بالاتحاد مع الأساقفة خلفاء الرسل وبالاعتماد على المباحثات التي خصّ بها كثير من بينهم، وهم مجتمعون في المجمع، مواضيع المصالحة وقضاياها، أردنا أن نفضي إليكم بروح صيّاد الجليل ومشاعره، بما قاله لإخوتنا في الإيمان البعيدين عنا في الزمن وإنما القريبين بالقلب: “كونوا على وفاق ……لا تجازوا أحداً سيئة بسيئة…. غيارى على الخير” (202) وأضاف قائلاً: “خير لكم أن تحتملوا الشر، إذ كان في ذلك مشيئة الله، وأنتم تفعلون الصالحات، من أن تحتملوه وأنتم تفعلون السيئات” (203).
إن هذا الإرشاد بكامله إن هو إلاّ نسيج من الكلمات التي سمعها بطرس من يسوع ذاته ومن المفاهيم التي تنطوي عليها “بشارته الجديدة” وهي : وصية محبة القريب الجديدة، والرغبة الحارّة في الوحدة وواجب المحافظة عليها، تطويبات الرأفة والصبر على الاضطهاد من أجل البرّ، مبادلة الشر بالخير، الصفح عن الإساءة، محبة الأعداء. هذه الكلمات وهذه المفاهيم هي خلاصة أصيلة سامية للمبادئ الأخلاقية المسيحية، أو لنقل بطريقة أفضل وأعمق، للعقيدة الروحية، عقيدة العهد الجديد بيسوع المسيح.
إنّا نكل إلى الآب الغني بالرحمة وإلى ابن الله الذي صار إنساناً وفادياً لنا ومصالحاً، وإلى الروح القدس، ينبوع الوحدة والسلام، نداءنا هذا نداء الأب والراعي إلى التوبة والمصالحة. ولينبت الثالوث الأقدس المسجود له، في الكنيسة والعالم، هذا البذار الصغير الذي أودعه الآن التربة الخصيبة، تربة الكثير من القلوب البشرية.
إنّا بغية اجتناء ثمار وفيرة في مستقبل غير بعيد، من هذا النداء، ندعوكم جميعاً إلى الاتجاه معنا إلى قلب يسوع المسيح، الذي هو علامة صريحة للرحمة الإلهية، و”الكفارة عن خطايانا” و”سلامنا ومصالحتنا” (204)، لننهل منه القوة الباطنية على احتقار الخطيئة، والعودة إلى الله، فنجد فيه العطف الإلهي، جواباً محبّاً على الندامة البشرية.
وإنّا ندعوكم أيضاً إلى توجيه عقولكم معنا إلى قلب مريم الطاهر، مريم أم يسوع التي “تمت فيها مصالحة الله مع الجنس البشري… واكتمل عمل المصالحة، لأنها قبلت من الله ملء النعمة، بفضل ذبيحة المسيح، ذبيحة الفداء” (205). إن مريم في الحقيقة هي بأمومتها الإلهية حليفة الله في عمل المصالحة (206).
إنّا، بين يدي هذه الأم التي صار قولها “فليكن” بدءاً “لملء الزمن” الذي تمّت فيه بالمسيح مصالحة الإنسان مع الله، وإلى قلبها الطاهر – الذي وكلنا إليه مراراً البشرية جمعاء، التي أقلقتها الخطيئة وفرّقتها الصراعات والنزاعات الكثيرة – نلقي بطريقة خاصة، بهذه النيّة وهي: أن تكتشف البشرية بشفاعتها طريق الارتداد وأن تسير فيها، وهي الطريق التي يمكنها وحدها أن تقودها إلى المصالحة الكاملة.
وإنّا نمنحكم جميعاً بطيبة خاطر – أنتم الذين تتقبّلون بروح الاتحاد الكنسي، بالطاعة والإيمان (207)، التنبيهات والإرشادات والتوجيهات التي أودعناها هذه الوثيقة، وتبذلون جهدكم لترجمتها في ممارسة رعوية حيّة – بركتنا الرسولية.
أعطي في روما، قرب مار بطرس في 2 كانون الأول سنة 1984، الأحد الأول من زمن الميلاد، في السنة السابعة من حبريتنا.
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) مر 1/15
2) راجع يوحنا بولس الثاني، الخطاب الذي افتتح به قداسته المؤتمر الثالث العام لأساقفة أمريكا اللاتينية، 3، عدد 1- 7: مجلة أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979) ص 198 -204.
3) تتجلّى صورة العالم “المحطّم” من خلال مؤلفات عدة كتبه معاصرين، مسيحيين وغير مسيحيين، يشهدون حالة الناس في هذه الحقبة المضطربة من التاريخ.
4) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي، فرح وأمل، حول الكنيسة في عالم اليوم، 43- 44، قرار درجة الكهنة، في خدمة الكهنة وحياتهم، 12، البابا بولس السادس، رسالة عامة، كنيسته: مجلة أعمال الكرسي الرسولي 56 (1964)، 609 -659.
5) عن هذه الانقسامات في جسم الكنيسة كتب بولس الرسول بعبارات نارية، منذ فجر الكنيسة، في المقدمة الشهيرة التي وضعها لرسالته الأولى إلى أهل كورنتوس، 10/ 16. وإلى هؤلاء المسيحيين توجه، بعد بضع سنوات، القديس اقليموس الروماني مقبّحاً ما في هذه الجماعة من مشادّات: راجع 1كو3/ 6، 57: الآباء الرسوليون، طبعة فونك، 1، 103- 109، 171- 173. نعرف عن الآباء الأقدمين أن قميص المسيح غير المخاطة التي لم يمزّقها الجند، أصبحت صورة لوحدة الكنيسة: راجع القديس قبريانوس، في وحدة الكنيسة الكاثوليكية، 7:مجموعة المسيحيين – القسم اللاتيني 3/1، 254- 255، القديس أغوسطينوس، بحث في إنجيل يوحنا 118، 4: مجموعة المسيحيين – القسم اللاتيني 36، 656-657، القديس بادا الطوباوي، شرح إنجيل القديس مرقس، 4، 15: مجموعة المسيحيين – القسم اللاتيني 120، 630، شرح إنجيل القديس لوقا 6، 23: مجموعة المسيحيين – القسم اللاتيني 120، 403، شرح إنجيل القديس يوحنا، 19: آباء لاتين 92، 911- 912.
6) إن رسالة الحبر الأعظم يوحنا الثالث والعشرين “السلام على الأرض” وهي وصيته الروحية (راجع مجلة أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963)، 257- 304)، تعتبر على الأغلب “وثيقة اجتماعية” وحتماً “رسالة سياسية”، وإنها لكذلك، إذا أخذنا هذه الألفاظ بمعناها الواسع. وفي الواقع أن هذه الوثيقة – على ما تبدو بعد مرور أكثر من عشرين سنة على نشرها – هي أكثر من طريقة مدروسة لمصالحة الأمم والشعوب. إنها نداء صالح لصيانة القيم العليا التي يصبح السلام على الأرض بدونها حلماً. ومن بين هذه القيم المصالحة بين الناس، وقد تحدّث يوحنا الثالث والعشرون عن هذا الموضوع مرات عدة. أما بولس السادس، فنكتفي بأن نذكر أنه بدعوته الكنيسة والعالم أجمع إلى الاحتفال بالسنة المقدسة سنة 1975 قد رسم بأن يشكّل “التجدد والمصالحة” الفكرة الأساسية لهذا الحدث الهام، وهذا ما لا ينسى. ولا يمكن أن ننسى التعاليم المسيحية التي خصّ بها هذا الموضوع الرئيسي، عندما كان يشرح هذا اليوبيل.
7) “وبعد يجب التأكيد على أن هذا الزمن الهام الذي يدعى فيه كل مسيحي إلى تحقيق دعوته التي يتصالح بموجبها مع الآب بواسطة الابن، يدرك هدفه إذا التزم الجميع وكل منهم بواجب خدمة المصالحة ليس فقط بين جميع تلامذة المسيح، بل بين الناس أجمعين”. هذا ما كتبناه في الرسالة التي افتتحنا بها اليوبيل العام، يوبيل عمل فداء البشر، براءة: “افتحوا الأبواب للفادي”، عدد 3: مجلة أعمال الكرسي الرسولي 75 (1983)، ص 93.
8) كان موضوع المجمع، على الأصحّ: المصالحة والتوبة في مهمّة الكنيسة.
9) راجع متى 4/17، مر1/14- 15.
10) راجع لو 3/8.
11) راجع متى 16/ 24- 26، مر8/ 34- 36، 9/ 23- 25.
12) راجع أفسس 4/23 وما يلي.
13) راجع 1كو 3/1- 20.
14) راجع كول 3/1 وما يلي.
15) “فنسألكم الآن، باسم المسيح، أن تصالحوا الله” :2كو 5/20.
16) “ونفتخر بالله، بواسطة ربنا يسوع المسيح، الذي به نلنا المصالحة” روم 5/11، راجع كول 1/20.
17) وقد أورد المجمع الفاتيكاني الثاني بهذا المعنى ما يلي: “إن التخلخل الذي يعمل في العالم الحديث لمرتبط حقاً بتخلخل يتأصل في قلب الإنسان نفسه، الذي تتصارع فيه عناصر متعددة. فمن جهة يختبر كخليقة أنه محدود جداً، ومن جهة ثانية يشعر بأن رغباته لا حدّ لها وهو مدعو إلى حياة أسمى. تتجاذبه غوايات متعددة فهو مرغم دوماً على أن يختار وعلى أن يرفض. وبما أنه خاطئ وضعيف يتمم غالباً ما لا يريد، وما يريد لا يتمم. وبالنتيجة إنه يتألم من الانقسام في داخله، الذي يولّد داخل الجماعات الخصومات الكثيرة والقوية” : دستور رعوي، فرح وأمل، حول الكنيسة في عالم اليوم، 10.
18) راجع كولوسي 1/19 وما يلي.
19) راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة: غني بالرحمة، 4 عدد 5- 6: أعمال الكرسي الرسولي 72، (1980) ص 1193- 1199.
20) راجع لو 15/ 11- 32.
21) لقد سبق يونان في العهد القديم أن وصف هذا القسم من المثل. وكانت خطيئة يونان أن “الأمر ساءه مساءة عظيمة وغضب” لأن الله “رؤوف” رحيم طويل الأناة وكثير الرحمة ونادم على الشر” وأنه “أشفق على الخروعة… التي نشأت بنت ليلة ثم هلكت بنت ليلة” ولم يفهم لماذا “رحم الرب نينوى” ” راجع يونان 4.
22) روم 5/10 وما يلي: راجع كولوسي 1/ 10- 22.
23) 2كو 5/ 18- 20.
24) يو 11/52.
25) راجع كولوسي 1/ 20.
26) راجع سيراخ 44/17.
27) راجع أفسس 2/ 14.
28) صلاة الإفخارستيا 3.
29) متى 5/23 وما يلي.
30) متى 27/46، مر15/34، مز 22 (21)/2.
31) راجع أفسس 2/14- 16.
32) القديس لاوون الكبير، المسألة 63 (في آلام المسيح 12)، 6، مجموعة المسيحيين، القسم اللاتيني 138/1، 386.
33) 2كو 5/18 وما يلي.
34) دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، عدد1.
35) “لا تفتأ الكنيسة بطبيعتها تصالح، فتنقل إلى الآخرين الهبة التي تقبّلتها، وهي هبة المغفرة التي حصلت عليها، وهبة الاتحاد بالله”: يوحنا بولس الثاني، خطاب في ليفربول (30 أيار 1982)، عدد 3: تعاليم 5، 2 (1982)، 1992.
36) راجع أعمال 15/ 2- 33.
37) راجع إرشاد رسولي في وجوب التبشير بالإنجيل، 13: أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976)، 12 وما يلي.
38) راجع يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي في وجوب تلقين التعليم المسيحي، 24: أعمال الكرسي الرسولي، 71 (1979) 1297.
39) راجع بولس السادس، رسالة عامة، كنيسته: أعمال الكرسي الرسولي، 56 (1964)، ص 609- 659.
40) 2كو 5/ 20.
41) 1 يو 4/8.
42) راجع حكمة 11/23- 26، تك1/27، مز 8/4- 8.
43) راجع حكمة 2/24.
44) راجع تك 3/12 وما يليه 4/ 1- 16.
45) أفسس 2/4.
46) أفسس 1/10.
47) يو 13/34.
48) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، فرح وأمل، عدد 38.
49) راجع مر 1/15.
50) 2كو 5/ 20.
51) أفسس 2/ 14- 16.
52) راجع القديس أغسطينوس – في مدينة الله، 22، 17: مجموعة المسيحيين – القسم اللاتيني، 48، 835- 836، القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية3، مسألة 64، 2 إلى الثالث.
53) راجع بولس السادس، خطاب اختتام الدورة الثالثة للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (21 تشرين الثاني 1964): أعمال الكرسي الرسولي، 56 (1964)، ص 1015- 1018.
54) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، عدد 39.
55) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في المسكونية، استعادة الوحدة، عدد 4.
56) 1 يو 1/ 8- 9.
57) 1يو 3/20، راجع خطابنا في المقابلة العامة بتاريخ 14 آذار سنة 1984 الذي رجعت فيه إلى هذا المقطع: تعاليم 7، 1 (1984)، 683.
58) راجع 2 صموئيل 11/12.
59) مز 51 (50)/ 5- 6.
60) لو 15،18، 21.
61) القديسة كاترينا السيانية – رسائل ، فلورنسا 1970، 1 ص 3- 4 حوار العناية الإلهية، روما 1980، مختلف.
62) راجع روم، 3/23- 26.
63) راجع أفسس 1/18.
64) راجع تك11/1- 9.
65) راجع مز 127 (126)/1.
66) راجع 2 تسا 2/7.
67) راجع روم 7/7- 25، أفسس 2/2، 6/12.
68) إن الألفاظ المستعملة في الترجمة اليونانية السبعينية وفي العهد الجديد في ما يتعلق بالخطيئة لها مدلولها الخاص. وغالباً ما تستعمل لفظة “هامارتيا” أو ما يضاف إليها من مشتقاتها، وهذه تدل على إساءة كبيرة أو صغيرة إما إلى قاعدة أو شريعة، وإما إلى إنسان أو حتى أحد الآلهة. ولكن الخطيئة تدعى أيضاً “أديكيا” ومفهومها يدل على ممارسة الظلم. ونجد في الوقت “باراباسيس” أي خرقاً و”أسبايا” أي زندقة وما سوى ذلك من مفاهيم. وهذه كلها تشكل معاً صورة الخطيئة.
69) تك 3/5: ” ….. وتصيران كآلهة عارفي الخير والشر”، راجع أيضاً الآية 22.
70) راجع تك3/12.
71) راجع تك4/2- 16.
72) العبارة لإليزابيت لاسور، جريدة وخواطر كل يوم، باريس، 1918 ص 31.
73) راجع متى 22/39، مر 12/31، لو10/27- 28.
74) راجع مجمع عقيدة الإيمان، تعليمات بشأن بعض وجوه “لاهوت التحرير، رسول الحرية، (6 آب 1984)ـ 4/4- 15: أعمال الكرسي الرسولي، 76 (1984)، ص 885- 886.
75) راجع عدد 15/30.
76) راجع أحبار 18/26-30 .
77) راجع أحبار 19/4.
78) راجع أحبار 20/1- 7.
79) راجع خروج 21/17.
80) راجع أحبار 4/22 وما يلي، 5/1 وما يلي، عدد15/22- 29.
81) راجع متى 5/28، 6/23، 12/31-33، 15/9، مر3/28- 30، روم 1/29- 31، يعقوب 4.
82) راجع متى 5/17، 15/1- 10، مر 10/19، لو 18/20.
83) راجع 1يو 5/16- 17.
84) يو 17/3.
85) 1يو2/22.
86) راجع 1ي 5/21.
87) راجع 1يو 5/16- 21.
88) متى 12/31- 32.
89) راجع القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، 2/2، مسألة 14، إلى 1-3.
90) راجع 1يو 3/20.
91) القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية 2/2، مسألة 14، إلى 3 أولاً.
92) راجع فيلبي 2/12.
93) راجع القديس أغسطينوس، في الروح والحرف، 28: مجموعة المسيحيين القسم اللاتيني 38/441، موجز إلى لورانس في الإيمان والرجاء والمحبة 19، 71: مجموعة المسيحيين القسم اللاتيني 46/88، في مسألة إنجيل يوحنا، 12، 13، 14: مجموعة المسيحيين القسم اللاتيني 36،129.
94) القديس توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية، 1-2، مسالة 72، إلى 5,
95) راجع المجمع التريدنتيني المسكوني، الجلسة السادسة، في التبرير، فصل 2 وقانون 23، 25، 27: قرارات المجامع المسكونية، بولونيا 1973،671،680، 681 (دس 1573، 1575، 1577).
96) راجع المجمع التريدنتيني المسكوني، الجلسة السادسة، في التبرير فصل 14 قرارات المجامع المسكونية بولونيا 1973، 677، (دس 1544).
97) يوحنا بولس الثاني، تبشير 14 آذار 1982: تعاليم 5/1 (1982)، 861.
98) دستور رعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، فرح وأمل، عد 16.
99) يوحنا بولس الثاني، تبشير 14 آذار 1982: تعاليم ، 5، 1 (1982)، 860.
100) بيوس الثاني عشر، رسالة مذاعة إلى المؤتمر الوطني بشأن التعليم المسيح في الولايات المتحدة في بوسطن (26 تشرين الأول 1946): خطاب ورسائل مذاعة، 8 (1946)، 288.
101) راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة، فادي الإنسان، عدد 15: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص 286- 289.
102) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، فرح وأمل، عدد 3، راجع 1يو3/9.
103) يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى أساقفة المنطقة الشرقية من فرنسا (أول نيسان 1982)، عدد 2: تعاليم 5، 1 (1982)، 1081.
104) 1 تيمو 3/15- 16.
105) لهذا إن في هذا النص بعض الصعوبة في القراءة لأن ضمير الوصل الذي يفتتح الاستشهاد الحرفي لا يتوافق والاسم “سرّ” الذي ليس هو بمذكّر ولا بمؤنث بل “حيادي”. وهناك بعض مخطوطات متأخرة قد صححت هذا النص من الناحية الغراماطيقية، لكن بولس أراد أن يضع في مقابل نصه نصاً قديماً يوضح في نظره، تماماً هذا الأمر.
106) تعترف الجماعة المسيحية الأولى بإيمانها بالمسيح المصلوب، الممجد الذي يعبده الملائكة والذي هو الرب ولكن أهم ما في هذه البشارة المؤثرة هذه العبارة وهي “ظهر في الجسد”: أي أن ابن الله الأزلي صار إنساناً، وهذا هو السر العظيم.
107) 1يو 5/18- 19.
108) 1يو 3/9.
109) 1تيمو 3/15.
110) 1يو 1/8.
111) 1يو5/ 19.
112) راجع مز 51 (50)/7.
113) راجع أفسس 2/4.
114) راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة غني بالرحمة، عدد 8، 15: أعمال الكرسي الرسولي، (1980) ص 1203- 1207، 1231.
115) 2 ملوك 12/13.
116) مز 51 (50)/5.
117) مز 51 (50)/9.
118) 2 ملوك 12/13.
119) راجع 2 كو 5/18.
120) راجع 2 كو 5/19.
121) دستور رعوي، فرح وأمل، حول الكنيسة في عالم اليوم، 92.
122) قرار المسيح الرب في مهمة الأساقفة الرعوية في الكنيسة 13، راجع إعلان: مهمة خطيرة في التربية المسيحية، 8، قرار إلى الأمم، في نشاط الكنيسة الإرسالي،11- 12؟
123) راجع بولس السادس، رسالة عامة، كنيسته، 3: أعمال الكرسي الرسولي، 56 (1964)، ص 639- 659.
124) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، عدد 1، 9، 13.
125) بولس السادس إرشاد رسولي، بعناية أبوية، أعمال الكرسي الرسولي، 67 (1975)، ص 5- 23.
126) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في المسكونية، استعادة الوحدة، عد 7- 8.
127) المرجع عينه، عد4.
128) القديس أغسطينوس، عظة 96، 7: آباء لاتين 38، 588.
129) راجع يوحنا بولس الثاني، خطاب لأعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، (15 كانون الثاني 1983)، عد 4، 6، 11: أعمال الكرسي الرسولي، 75 (1983)، ص 376- 378- 379- 381.
130) يوحنا بولس الثاني، عظة القداس ليوم السلام العالمي السادس عشر (1 كانون الثاني 1983)، عد 6: تعاليم 6، 1 (1983)، 7.
131) بولس السادس، إرشاد رسولي، وجوب التبشير بالإنجيل، عد، 70: أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976) ص 59- 60.
132) 1تيمو 3/15.
133) راجع متى 5/ 23- 24.
134) راجع متى 5/ 38- 40.
135) راجع متى 6/12.
136) راجع متى 5/43 وما يلي.
137) راجع متى 18/21- 22.
138) راجع مر 1/ 4، 14، متى 3/2، 4/17، لو 3/8.
139) راجع لو 15/17.
140) لو 17/3- 4.
141) راجع متى 3/2، مر1/ 2- 6، لو 3/ 1-6.
142) راجع دستور رعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، فرح وأمل، عد 8، 16، 19، 26، 41، 48.
143) راجع إعلان عن الحرية الدينية، كرامة الإنسان، عد 2، 3، 4.
144) راجع في ما تراجع خطب في المقابلات العامة 28 آذار 1974: تعاليم 12 (1974)، 230 وما يلي، 8 أيار 1974: الموضع عينه 402 وما يلي، 12 شباط 1975: تعاليم 13 ( 1975 154 وما يلي، 9 نيسان 1975: الموضع عينه 290 وما يل، 13 تموز 1977: تعاليم 15 (1977)، 710 وما يلي.
145) راجع يوحنا بولس الثاني، تبشير 17 آذار 1982، تعاليم 7، 1 (1982)، 860- 861.
146) راجع يوحنا بولس، خطاب في المقابلة العامة 17 آب 1983، عد1- 3: تعاليم 6، 2 (1983)، 256- 257.
147) عبر 4/15.
148) راجع متى 4/ 1-11، مر 1/12-13، لو4/1- 13.
149) راجع 1كو 10/13.
150) راجع متى 6/13، لو 11/4.
151) 1 بطر3/ 21.
152) راجع روم 6/3- 3، كولوسي 2/12.
153) راجع متى 3/11، لو 3/16، يو1/ 33، أعمال 1/5 ، 11/16.
154) راجع متى 3/15.
155) القديس أغسطينوس، مسألة في القديس يوحنا 26، 13، مجموعة المسيحيين، القسم اللاتيني.
156) مجمع الطقوس المقدس، توجيه خاص بعبادة سر الإفخارستيا، (25 أيار 1967)، عد 35: أعمال الكرسي الرسولي 59 (1967)، ص 560- 561.
157) مز 78 (77)/38- 39.
158) راجع يو 1/ 29، أش 53/7، 12.
159) يو 5/27.
160) متى 9/2- 7، لو5/18- 25، 7/47- 49، مر 2/3- 12.
161) يو3/17.
162) يو 20/22، متى 18/18، راجع أيضاً، في ما خص بطرس، متى 16/19، إن الطوباوي اسحق النجم يشدد في خطاب له على ملء اتحاد المسيح بالكنيسة في مغفرة الخطايا: “إن الكنيسة لا يمكنها أن تغفر شيئاً دون المسيح، والمسيح لا يريد أن يغفر شيئاً دون الكنيسة. والكنيسة لا يمكنها أن تغفر شيئاً إلا لمن يرتد أي لمن مسّه المسيح أولاً. والمسيح لا يريد أن يمنح مغفرته لمن يحتقر الكنيسة”: عظة 11 ( الأحد الثالث بعد الغطاس، 1): آباء لاتين 194،1729.
163) متى 12/49- 50، مر 3/33- 34، لو 8/20-21، روم 8/29، “……بكر لإخوة كثيرين”.
164) راجع عب 2/17، 4/15.
165) راجع متى 18/12- 13، لو 15/4- 6,
166) راجع لو 5/31- 31.
167) راجع متى 22/17.
168) راجع أعمال 10/42.
169) راجع ي 8/16.
170) راجع خطابي إلى الكهنة المعرفين ورافعي العقوبات الكنسية في كنائس البازيليك في روما، في اختتام يوبيل الفداء (9 تموز 1984) اوسارفاتوري رومانو: 9-10 تموز 1984.
171) يو 8/11.
172) راجع تيطس 3/4.
173) راجع المجمع المسكوني التريدنيتيني، جلسة 14، في سر التوبة، فصل 1 وقانون 1: مراسيم المجامع المسكونية الطبعة المشار إليها، 703-704، 711 (دنزنغرس 1668- 1670، 1701).
174) دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم، عد 11.
175) راجع المجمع المسكوني التريدنيتيني، جلسة 14، في سر التوبة، فصل 1 وقانون 1: مراسيم المجامع المسكونية الطبعة المشار إليها، 703-704، 711 (دنزنغرس 1668- 1670، 1701).
176) راجع دستور في الليتورجيا المقدسة، المجمع المقدس، عد 72.
177) الكتاب الروماني المجدد بالاستناد إلى مرسوم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني المقدس، والمنشور بأمر بولس السادس. كيفية توزيع سر التوبة. المطبعة الفاتيكانية، المتعددة اللغات سنة 1974.
178) إن المجمع التريدنتيني يستعمل العبارة المخفضة “مثل عمل قضائي” (جلسة 14، في سر التوبة، فصل 6: مراسيم المجامع المسكونية، الطبعة المشار إليها، 707 (دنزنغر.س 1685)، للدلالة على الفرق بينها وبين المحاكم البشرية. إن كتاب الطقوس الجديد يلمح إلى هذه الوظيفة في الأعداد 6 باء و10 ألف.
179) راجع لو 5/31- 32: “ليس الأصحاء هم بحاجة إلى طبيب بل المرضى”، مع الخاتمة “أتيت لأدعو….الخطأة إلى التوبة”، لو 9/2: “وأرسلهم ليبشروا بملكوت الله ويشفوا المرضى”. إن صورة المسيح الطبيب تتخذ وجوهاً جديدة مؤثرة إذا قارناها بوجه “خادم يهوه” الذي قال فيه كتاب أشعيا، متنبئاً: “أنه أخذ أوجاعنا وحمل آلامنا” وأنه “بجراحه شفينا” (اش 53/4- 5).
180) القديس أغسطينوس، عظة 82، 8: لآباء لاتين 38، 511.
181) راجع القديس أغسطينوس، عظة 352، 3، 8، 9: آباء لاتين 39، 1558- 1559.
182) راجع نظام التوبة، عد 6 ج,
183) سبق للوثنيين – كسوفوكل (1 أنتيغون بيت 450- 460) وأرسطو (كتاب 1، فصل 15، 1375 أ – ب) أن اعترفوا بوجود قواعد أدبية “إلهية” قائمة “منذ دائماً”، ومكتوبة في أعماق قلب الإنسان.
184) في ما يتعلق بدور الضمير، راجع ما قلناه في أثناء المقابلة العامة في 14 آذار 1984، عد 3: تعاليم 8، 1 (1984)، 683.
185) راجع المجمع المسكوني التريدنيتيني، جلسة 14، في سر التوبة، فصل 4 في الندامة: مراسيم المجامع المسكونية الطبعة المشار إليها، 705 (دنزنغرس 1676- 1677). معلوم أنه يكفي للاقتراب من سر التوبة، الأسف الشديد، أي ندامة غير كاملة، يحفز عليها الخوف أكثر من محبة الله، ولكن المؤمن، في إطار السر، وتحت تأثير النعمة التي يقبلها، يتحول من “آسف إلى نادم” فتعمل إذن التوبة حقاً في من كان مستعداً للارتداد بالمحبة، راجع المجمع التريدنتيني المسكوني – الموضع عينه، الطبعة المشار إليها، 705 (دنزنغرس 1678).
186) كتاب التوبة، عد66، ج.
187) راجع مز 51 (50)، 14.
188) لقد تسنى لنا أن نتحدث عن هذه النواحي من التوبة – وكلها أساسية – في أثناء المقابلات العامة في 19 أيار 1982: تعاليم 5، 2 (1982)، 1758 وما يلي، 28 شباط 1979: تعاليم 2 (1979)، 475- 478، 21 آذار 1984: تعاليم 7، 1 (1984)، 720-722. ويجب فضلاً عن ذلك التذكير بأحكام مجلة الحق القانوني المتعلقة بمكان توزيع سر الاعتراف وكراسي الاعتراف (قانون 964، بند 2- 3).
189) عالجنا باختصار هذا الموضوع في أثناء المقابلة العامة في 7 آذار 1984: تعاليم 7، 1 (1984) 631- 633.
190) راجع تك 4/7 ، 15.
191) راجع 2 صمو 12.
192) راجع لو 15/ 17- 21.
193) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في خدمة الكهنة وحياتهم: درجة الكهنوت عد 18.
194) كتاب التوبة، عد 7 ب.
195) راجع كتاب التوبة، عد 17.
196) قوانين 961- 963.
197) راجع حزقيال 18/23.
198) راجع أشعيا 42/3 ، متى 12/20.
199) راجع إرشاد رسولي: في وظائف العائلة المسيحية، عد 84: أعمال الكرسي الرسولي (1982) ص 184- 186.
200) راجع 1 بطر 1/1 وما يلي ، 3/8.
201) 1بطر 3/9، 13.
202) 1بطر3/8 ، 9، 13.
203) 1بطر 3/17.
204) طلبة قلب يسوع، راجع 1يو2/ 2، أفسس 2/14، روم 3/25 ، 5/11.
205) يوحنا بولس الثاني، خطاب في المقابلة العامة في 7 كانون الأول 1983، عد 2: تعاليم 6، 2 (1983)، 1264.
206) راجع يوحنا بولس الثاني، خطاب في المقابلة العامة في 4 كانون الثاني 1984: تعاليم 7، 1 (1984)، 16- 18.
207) راجع روم 1/5، 16/26.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post