الكرازة الرسولية للقديس إيرينيوس
كتاب: ” الكرازة الرسولية ” للقديس إيرينيوس مع دراسة عن حياته وتعليمه. هو في الواقع كتابان (1) في مجلد واحد.
الجزء الأول خصصناه لدراسة حياة وتعليم القديس إيرينيوس أسقف ليون (فرنسا)” في القرن الثاني الميلادي نظرًا لأهمية ما علّم به عن الإيمان الرسولي، كما تضمن (الجزء الأول) مقدمة وافية عن كتابه “شرح الكرازة الرسولية” أو “كتاب الكرازة الرسولية” كما اصطلحنا على تسميته عند الترجمة، والذي كتبه القديس إيرينيوس حوالي سنة 180م ليؤكد على عناصر الإيمان المُسلّم من الرسل القديسين.
والجزء الثاني من الكتاب هو نص الترجمة العربية لكتاب “الكرازة الرسولية”.
ويجب الإشارة إلى أن هذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها كتاب “الكرازة الرسولية” باللغة العربية.
النص اليوناني الأصلي لهذا الكتاب – كما سيأتي في المقدمة – قد فُقِد، غير أنه وُجدِت له ترجمة قديمة باللغة الأرمينية وعنها توالت الترجمات إلى اللغات الأخرى.
فهناك ترجمتان فرنسيتان لكل من: Barthoulot, & L. M. Froidevaux, (S.C.62, 1959)ثم ترجمة إنجليزية ل- S.G. Wilson .
وعن هذه الترجمات قام البروفيسور جون كارفيدوبولوس بعمل ترجمة إلى اليونانية.
والنص العربي المنشور هو ترجمة لهذا النص اليوناني بعد مراجعته على الترجمة الإنجليزية للنص الأرمني التي قام بها الدكتور John Bher، أستاذ مساعد علم الباترولوجي -الآبائيات- بمعهد القديس فلاديمير الأرثوذكسي بنيويورك والتي نشرها المعهد سنة 1997م.
وقد زودنا هذه الترجمة العربية باقتباسات من كتابات الآباء بالهوامش وهذه قد جمعناها من مصادر الآباء العديدة لكى نؤكد على أصالة تعليم الإيمان الرسولي والذي بدا توضيحه القديس إيرينيوس منذ القرن الثاني وجاء الآباء في القرون التي تلته ليوضحوا نفس التعليم ونفس الأفكار وأحيانًا بنفس الألفاظ، مما يشهد لأصالة التقليد الرسولي ووحدته منذ الرسل حتى كل الآباء المعلّمين.
فليبارك إلهنا في هذا العمل لأجل بنيان كنيسته المقدسة وثبات الإيمان الصحيح بشفاعة القديسة العذراء مريم، وصلوات الرسل الأطهار، والآباء القديسين والقديس إيرينيوس… آمين
مقدمة:
الهدف الذي من أجله كتب القديس إيرينيوس كتاب “الكرازة الرسولية”، واضحٌ بشكل صريح، إذ يذكر القديس إيرينيوس فى السطور الأولى للكتاب أنه يقصد أن يزود ماركيانوس ب- ” مذكرة مُلخصة” فى شكل نقاط أساسية يستطيع ماركيانوس بواسطتها “فهم كل أعضاء جسد الحقيقة”. وهكذا يكون كتاب “الكرازة الرسولية” هو أقدم ملخص للتعليم المسيحي، نجده معروضًا بطريقة غير جدليةٍ أو دفاعيةٍ بل بطريقةٍ إيجابية. ولهذا السبب فإن اكتشاف هذا الكتاب في بداية القرن العشرين ولّد حماسًا وإثارة كبيرة؛ إذ أصبح بين أيدينا كتاب قام بتأليفه أسقف يعرّفنا عن نفسه بأنه قد عاشر أولئك الذين هم أنفسهم قد عرفوا الرسل، كما أشرنا سابقًا. وهكذا يعرض إيرينيوس فى كتابه مضمون تعليم الرسل.ولقد وُصف هذا الكتاب بأنه مقالة “تعليمية وعظية”، يقدّم المسيحية في خطوط عامة كما كان يشرحها فى ذلك العصر أسقف لرعيته. ولذلك، فإن قيمة مثل هذه الوثيقة تتجاوز ما يمكن أن نعرفه من تقدير وأهمية.
الطريقة التي يعرض بها إيرينيوس المسيحية ليست هي المنهج الذي تعودنا عليه بتقديم المعتقدات اللاهوتية، ولكنه بدلاً من ذلك يتبع منهج العظات الكبيرة المُسجلة في سفر الأعمال التى تروى كل أعمال الله الخلاصية التي تصل إلى ذروتها في تمجيد ابنه المصلوب ربنا يسوع المسيح، وأيضًا انسكاب روحه القدوس وإعطاء قلب جديد، قلب لحم بدلاً من قلب الحجر.
وأهم ما يلفت النظر في كتابه أنه في سرده لهذا التاريخ لا يستعمل كتابات العهد الجديد كمرجع لشرحه[*].
من الواضح أن القديس إيرينيوس يعرف كتابات العهد الجديد، ويعتبرها جزءً من الكتاب المقدس، كما يتضح تمامًا من كتابه الآخر “ضد الهرطقات”، وأيضًا يتضح من كونه فى كتاب “الكرازة الرسولية” حينما يقتبس آية من العهد القديم ويُرجعها إلى المكان التى اقتُبست منه فى العهد القديم، فإنه كثيرًا ما يُعطى هذه الآية في الصورة المكتوبة بها فى العهد الجديد (مثلاً، الآيات المنسوبة إلى إرميا النبي في مت9:27-10 هذا الاقتباس فى فقرة81 من “الكرازة الرسولية”)، لكن من الجهة الأخرى فإنه يتحدث عن ولادة يسوع من العذراء وصُنعه للمعجزات مبينًا ذلك من إشعياء وغيره من الأنبياء، بينما أسماء بيلاطس البنطي وهيرودس مذكورة فى الأناجيل التى تقول إن المسيح قُيد وأُحضر أمامهما كما يبيّن هوشع، وأنه صُلِب وقام وتمجّد كما يشهد بذلك أنبياء آخرون. بل إن كل محتوى “الكرازة الرسولية” مُستقى في نظر إيرينيوس من العهد القديم. وهذه الحقيقة بالتالي تتضمن الاعتراف بأصالة النصوص الكتابية، التي تحمل نفس أصالة الكرازة الرسولية.
التعليم الآبائي في القرن الثاني قبل إيرينيوس:
لكى نحصل على فهم أفضل لكتاب “الكرازة الرسولية” فمن المفيد أن نضع أمامنا باختصار بعض الكتابات المسيحية السابقة على إيرينيوس: إن أقدم كتابات مسيحية وصلتنا من عصر ما بعد الرسل، أي كتابات الآباء الرسوليين تشير بوضوح إلى أنهم كانوا يعرفون بدرجات متفاوتة بعضًا من كتابات الرسل ولكنهم فى أغلب الأحوال لم يكونوا يقتبسون من كتابات الرسل أو يستندون إليها كمصادر وحي يُعتمد عليها، أى باعتبارها أنها هى الكتاب المقدس. فعبارة “الكتب المقدسة” بالنسبة للآباء الرسوليين وهكذا بالنسبة للعهد الجديد نفسه إنما تشير إلى كتابات العهد القديم. فالبشارة الإنجيلية كانت إلى ذلك الوقت لا تزال فى معظم الأحوال فى مرحلة المناداة (أى الكرازة بالفم). فكتاب الديداخى (2:8، 5:9)، وكذلك رسالة اكليمندس الرومانى الأولى (13، 7:46-8) كلاهما يشيران صراحة إلى أقوال يسوع المسيح، ولكن ما يذكرانه وخاصة رسالة اكليمندس هي مجموعة من أقوال متنوعة معروضة بترتيب آخر غير المُدون في الأناجيل. إضافة إلى ذلك فإن اكليمندس الرومانى يحث الكورنثيين أن “يتذكروا” هذه الأقوال، مما يُبيّن أن ما كان يشير إليه اكليمندس من المحتمل جدًا أن يكون تقليد شفهي مُسلّم احتفظ بأقوال الرب.
القديس أغناطيوس الأنطاكي:
حالة القديس أغناطيوس الأنطاكي الذى عاش وكتب فى السنوات الأولى للقرن الثانى هى حالة مُلهمة بنوع خاص. فهو يشير إلى رسائل الرسول بولس (رسالة أغناطيوس إلى أفسس2:12) ولكنه لا يقتبس منها أبدًا، فعند أغناطيوس، المسيح هو محتوى إيماننا كما أنه المصدر المُطلق النهائى لإيماننا، كما سُلِّم إلينا بواسطة الرسل. فالقديس أغناطيوس يذهب بعيدًا جدًا أكثر من كل كُتّاب عصره فى تقديره لدور الرسل. ففي كل الرموز المتقابلة المُغرم بها فى كتاباته، يضع الأسقف والقسوس والشماس فى ناحية ويقابلهم بالآب والمسيح والرسل (انظر الرسالة إلى كنيسة تراليا3). ومن ناحية أخرى فالرسل عنده يُوضعون دائمًا فى المستوى الأرفع، مع المسيح وأبيه. هذا المستوى ينعكس بعد ذلك على الكنيسة، فى وجودها الخاص تاريخيًا وجغرافيًا، وذلك فى الرتب الثلاث: الأسقف، القسوس، الشماس، وتبعًا لذلك فإن أغناطيوس يُصرِّح أو يذكر بتكرار أنه هو كأسقف ليس مثل الرسل، لأنه ليس فى وضع يسمح له بأن يعطى أوامر أو يضع مبادئ أو تعاليم (عقائد) جديدة، فهذه التعاليم والعقائد تأتى فقط من الرب ورسله (انظر مغنيسيا13، رومية3:4، أفسس1:3،… إلخ). لقد كان أغناطيوس متشددًا فى تأكيده لإعلان الرسل والأنبياء عن يسوع المسيح، كأساس لفهمه هو شخصيًا للكتاب المقدس (العهد القديم).
فبحسب أغناطيوس فإننا ينبغى أن نعطى اهتمامًا كبيرًا للأنبياء، لأنهم هم أيضًا عاشوا بحسب يسوع المسيح وقد ألهمهم بنعمته (مغنيسيا2:8). وفى مقطع هام في رسالته إلى كنيسة فلادلفيا فصلي 8و9، يسجل أغناطيوس مناقشة ربما يكون أجراها مع بعض أعضاء تلك الكنيسة. وبعد حثه لسامعيه أن لا يفعلوا شيئًا بعيدًا عما هو “بحسب تعليم المسيح”، فإنه يصف كيف أنه سمع البعض يقولون: “إن كنت لا أجد (هذا الكلام) فى “الكتب المقدسة” فلن أؤمن أنه يكون موجودًا في الإنجيل”، أى أنهم سيقبلون الرسالة المسيحية فقط بمقدار ما تتفق مع “الوثائق المقدسة”، أى تتفق مع ما هو مكتوب قبل ذلك، أى كتاب العهد القديم. فكانت إجابة أغناطيوس أنها “مكتوبة”؛ مشيرًا بذلك ليس إلى نصوص العهد الجديد، بل يشير إلى يقينه الأكيد أن العهد القديم يحتوى بالفعل على الإعلان عن المسيح. ولكن معارضيه لم يقتنعوا بهذا التفسير للعهد القديم المتمركز حول المسيح. وفيما بعد حينما أدرك سبب الاختلاف في الفهم، فإنه شرح موقفه بوضوح أكثر فى رسالته: [الوثائق بالنسبة لى هي يسوع المسيح، الوثائق المقدسة الثانية هى صليبه وموته وقيامته والإيمان الذى بواسطته. بهذا أريد أن أتبرر بصلواتكم… الكهنة مُكرّمون، ولكن رئيس الكهنة هو أعظم لأنه مُؤتمن على قدس الأقداس، وهو وحده أيضًا المؤتمن على أسرار الله. إذ أنه هو الباب المؤدى إلى الآب، الذى دخل منه إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء والرسل والكنيسة… كل هذه تؤدى إلى الوحدة مع الله. ولكن الإنجيل فيه شئ فريد: فيه مجيء المخلّص، ربنا يسوع المسيح، وآلامه وقيامته. فالأنبياء المحبوبون قد تنبأوا مشيرين إليه، أما الإنجيل هو اكتمال عدم الفساد] (فلادلفيا2:8-1:9).
فبالنسبة لأغناطيوس، فإن يسوع المسيح، وآلامه وقيامته هو الإعلان الإلهي الوحيد والكامل؛ هذا الإعلان وحده هو الذي يخلّص. وهكذا فمن خلال هذا الباب وحده، يسوع المسيح صار الدخول للأنبياء، وللرسل وللكنيسة كلها إلى الآب. فحينما يقول أغناطيوس إن “الوثائق بالنسبة لى هي المسيح” فهو لا يعني بذلك أن يسوع المسيح هو سلطة مختلفة تعلو الكتاب المقدس؛ بل بالحرى بالنسبة لأغناطيوس فإن العهد القديم هو ببساطة يسوع المسيح – الكلمة الذى صار جسدًا. فكل كتاب من العهد القديم يختص بإعلان الله هو مُطابق لإعلان الله المُعطَى في المسيح كما كرز به الرسل؛ وبالعكس، فكل ما ينادي به الإنجيل قد سبق وكُتِب فى الكتاب المقدس. لكن هذا لا يقلل من قيمة إعلان المسيح نفسه كما يذكر أغناطيوس هذا بقوله؛ إن الإنجيل فيه شئ “فريد”، لأنه يذكر مجيء المسيح وآلامه وقيامته، بينما الأنبياء أشاروا فقط إليه. فبالنسبة لأغناطيوس والآباء الرسوليين الآخرين، اعتبروا الإنجيل المسيحي، الذى هو الإعلان الخاص بيسوع المسيح، وهو بصفة أساسية يُعتبر قراءة للكتاب المقدس متمركزة حول المسيح كما سُلِّم بواسطة الرسل، رغم أن كتابات هؤلاء الرسل لم يحدث أن اقتُبس منها لإثبات هذا التعليم، ولا تم الاقتباس منها باعتبارها كتاب مقدس.
يوستينوس الفيلسوف والشهيد:
أهم شخصية سابقة على إيرينيوس، وكان له تأثير عميق بنوع خاص عليه هو القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد المدافع عن الإيمان، يوستينوس الذى كتب فى منتصف القرن الثانى هو أول كاتب من الآباء يستشهد بكتابات العهد الجديد، وهو يشير إليها على أنها “مذكرات” الرسل والتى يقول عنها أنها تُسمى “بالأناجيل” (الدفاع الأول3:66).
واستعمال يوستينوس لمصطلح “مذكرات الرسل” لوصف الأناجيل تشير إلى أن هذه الكتابات كان لها بالنسبة له قيمة تاريخية فى المقام الأول، ربما أكثر من كونها إعلانًا مُوحى بها مما كان يقتضى عليه فى هذه الحالة أن يسمى هذه الكتابات “الكتاب المقدس”. ومع ذلك فهذا الاستخدام للمصطلح من جانب يوستينوس يوضح أن مذكرات الرسل المكتوبة كانت قد بدأت تأخذ بالنسبة ليوستينوس مصداقية الرسل أنفسهم، وهذه المصداقية هي التي بها يصير الإعلان أو الوحي المسيحي مُسلّمًا بطريقة فريدة.
والأمر الأكثر أهمية جدًا من جهة فهمنا لكتاب إيرينيوس “الكرازة الرسولية” هو أنه رغم أن يوستينوس قد بدأ بالتأكيد يستخدم بعض الكتابات الرسولية، فهو يقتفى أثر الآباء الرسوليين فى رؤيتهم للإعلان المسيحى باعتباره قد سبق التنبؤ به فى كتب العهد القديم. وهذه النقطة لها عند يوستينوس قيمة دفاعية معينة – فما يؤمن به المسيحيون ليس مجرد إدعاءات حديثة، بل هو النبوات القديمة التى يستطيع أي إنسان أن يقرأها والتى تحققت الآن. هذا الكلام يتضمن تفسيرًا دائريًا للإعلان المسيحى: أى أن يوستينوس يقول إن النبوات قد تحققت فى المسيح وهكذا أيضًا فإن الإعلان المسيحي المُعطى من الرسل، هو المفتاح لفهم الرسالة التى سبق أن بشر بها الأنبياء:
[ نجد في كتب الأنبياء هذه، إذن يسوع مسيحنا يُخبر به على أنه يأتي مولودًا من عذراء وينمو إلى قامة رجل، ويشفى كل مرض وكل ضعف ويقيم الموتى، وأنهم يبغضونه ولا يعترفون به، ويُصلب ويموت، ويقوم ثانية ويصعد إلى السماء، وإذ هو فى كيانه ابن الله ويُدعى ابن الله، وأنه يرسل أشخاصًا معينين إلى كل جنس من البشر مبشرين بهذه الأمور، والناس الذين من الأمم هم الذين يؤمنون به (أكثر من اليهود)] (الدفاع الأول7:31).
أى أن تبشير الرسل ليس شيئًا آخر سوى النبوات التى نطقها الأنبياء، وقد بشر بها الرسل إذ أنها قد تحققت فى يسوع المسيح. وهذا يعنى أن الكرازة الرسولية هى من ناحية المفتاح لفهم العهد القديم، والتأكيد على تحقيقه، بينما من الناحية الأخرى فإن العهد القديم هو الذي يشكّل الإعلان المسيحي كله.
خطورة الغنوسية في القرن الثاني:
مما يساعدنا على تقدير قيمة كتاب إيرينيوس “الكرازة الرسولية” هو أن نبحث فى تعليم أولئك الهراطقة الغنوسيين الذين كشفهم إيرينيوس بكتاباته مما أدى إلى استبعادهم تدريجيًا من جسم الكنيسة الجامعة. وأبرز هؤلاء الغنوسيون هو ماركيون. فهؤلاء الغنوسيون استخدموا أجزاء من العهد القديم وأجزاء من الكتابات الرسولية مع عناصر أخرى عديدة مأخوذة من مصادر مختلفة. وكوّنوا من كل هذه العناصر أساطيرًا مُركبة وألفوا كُتبًا كثيرة، بعض هذه الكتب ادعوا أن لها أصالة تعليم الرسل. ولأن الغنوسيين لم يستطيعوا أن ينكروا الكتابات الرسولية المُعترف بها والتى لا يوجد بها أي أساس واضح لأساطيرهم، لذلك ادعوا أن الرب لم يعّلم هذه التعاليم الموجودة فى كتبهم علانية، بل بدلاً من ذلك علّم عددًا قليلاً من التلاميذ الأكثر جدارة بالثقة، وأعطاهم هذه المعرفة سرًا فى فترة ما بين القيامة والصعود أو فى فترة ما بعد التجلي؛ وأن هذه المعرفة السرّية انتقلت من شخص إلى آخر بالتقاليد الشفهية دون أن تظهر بوضوح في الكتابات الرسولية المُعترف بها فى الكنيسة.
بينما هذه المعرفة السرّية واضحة جدًا فى كتاباتهم الغنوسية. ومن الجدير بالذكر أن الغنوسيين كانوا يفسرون كتابات بولس الرسول وإنجيل القديس يوحنا بطريقة خاطئة ليدعموا أفكارهم. إذ يخبرنا القديس إيرينيوس أن شخصًا يُدعى بطلميوس كان تلميذًا لفلاندينوس الغنوسي الذي كان دائمًا ينادي بأن الإنجيل الرابع قد كتبه “يوحنا تلميذ الرب”، وذلك ليعطي مصداقية لتعاليمه الغنوسية التي كانت تعتمد على التفسير الخاطئ لهذا الإنجيل (AH1:8:5).
وأيضًا هناك تلميذ آخر لفلاندينوس يُدعى هيراكليون هو الذى كتب تفسير لإنجيل يوحنا بين سنتى 170 – 180م تقريبًا. وهذا التفسير يكون بهذا الشكل الغنوسي – على قدر ما نعلم – أول تفسير مكتوب لأي سفر من أسفار العهد الجديد.
وإن كان الخطر الذي مثلته الغنوسية هو الشمولية المتطرفة والجمع المُلفق بين عقائد دينية متعارضة، فإن التحدى الذى اثاره ماركيون هو العكس تمامًا فى تطرفه، وهو الاختصار وحذف بعض الأسفار من الكتب المقدسة. فقد أنكر ماركيون العهد القديم كله، وكذلك رفض معظم الكتابات الرسولية مُدعيًا أن أغلب الرسل قد أساءوا فهم الإعلان الحقيقي الأصلي ليسوع المسيح. فقد استند على تأكيد بولس الرسول في غلاطية (6:1-10) أنه يوجد إنجيل واحد فقط ولكن الإخوة الكذبة غيّروه، وكان ماركيون يؤمن أن الرسل الآخرين قد أساءوا فهم يسوع المسيح باعتباره المسيا المنتظر المُرسل من إله العهد القديم الخالق، وهكذا شوُهوا رسالة الخلاص التي تعطى الحرية الحقيقية. هذا الخلاص الذي هو من الإله الحقيقي. لقد كان ماركيون مقتنعًا أن بولس هو الرسول الوحيد الذي فهم يسوع المسيح فهمًا كاملاً، يسوع المسيح الذي هو إعلان الإله الواحد الحقيقى – ولكن رغم هذا فإن ماركيون أعاد كتابة رسائل بولس وحذف منها وأدخل عليها تغييرات، فمثلاً فيما يخص إبراهيم ونسله عندما يتكلّم الرسول بولس في (غلا16:3-6:4) عن المواعيد التى أُعطيت لإبراهيم وكيف أنها تحققت في نسله أي المسيح نجد أن ماركيون قد قام بحذف هذا الجزء من غلاطية لأنه يتعارض مع اعتقاده بأن العهد القديم غير مُوحى به من الله. كما كان ماركيون لا يثق سوى فى إنجيل واحد هو إنجيل القديس لوقا تلميذ بولس. ولكن هذا لم يمنع ماركيون أيضًا من حذف بعض الأجزاء حتى من هذا الإنجيل.
منهج إيرينيوس فى كتاب ”الكرازة الرسولية”:
يبنى القديس إيرينيوس كتابه على أعمال الكُتّاب المسيحيين السابقين له، وهو يتخذ موقفًا حاسمًا ومدروسًا ضد كل من ماركيون والغنوسيين. فإيرينيوس هو أول أب من آباء الكنيسة يستخدم الكتابات الرسولية ويقول إنها من الكتاب المقدس. فهو يعرف نصوص العهد الجديد كلها التى نعترف بها نحن الآن ويستخدمها بالفعل فى كتاباته. وهو يُصرّ على أن الأناجيل لا يمكن أن تكون أكثر أو أقل من أربعة أو بالأحرى إنجيل واحد له أربعة أوجه. وهو في كتابه الكبير ” ضد الهرطقات” بعد أن يصف أنظمة الغنوسيين فى الجزء الأول من كتاب “ضد الهرطقات”، ثم يوضح تناقضاتهم الموجودة فيها فى الجزء الثانى، ثم ينتقل فى الأجزاء الثالث والرابع والخامس إلى الشرح من الكتاب المقدس، وأيضًا الشرح من الرسل الذين كتبوا الإنجيل، والذين سجلوا فيه التعليم عن الله، مبينين فيه أن ربنا يسوع المسيح هو الحق ولا يوجد فيه غش (ضد الهرطقات AH3:5:1). وبعد ذلك ينسج بمهارة مقاطع من العهد القديم مع مقاطع من العهد الجديد، لكى يوضح أنه لا يوجد سوى إله واحد الذى أعلن عن نفسه للجنس البشرى الواحد فى ابنه الوحيد يسوع المسيح بالروح القدس الواحد، وذلك بواسطة التدبير الإلهى الذى يخيّم على الكل على مدى التاريخ.
وكما سبق أن أشرنا فإن إيرينيوس فى كتابه “الكرازة الرسولية”، لا يستخدم الكتابات الرسولية كثيرًا وبشكل صريح. هو يشير إلى الرسل فى الفصول 3و41و46و47و86و98و99، ويقتبس من الرسول بولس ثلاث مرات، ومرة يشير إليه على أنه رسول المسيح فى فصل 5و8و87، ويقتبس من تلميذ المسيح يوحنا مرتين في فصلى 43و94. وفيما عدا هذه الإشارات القليلة، فإن إيرينيوس يشرح “الكرازة الرسولية” ببساطة ضمن إطار قراءة العهد القديم المتمركزة حول المسيح تلك القراءة التى ميّزت التعاليم المسيحية فى القرن الثاني.
إن منهج القديس إيرينيوس الخاص في كتابه “الكرازة الرسولية” سبق أن أشار إليه بوضوح كل من أغناطيوس الأنطاكي ويوستينوس، ونقصد هنا قراءة العهد القديم المتمركزة حول المسيح. وهذا المنهج في الواقع يُنسب إلى يسوع المسيح نفسه بعد القيامة، الذي ” ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهم الأمور الخاصة به فى جميع الكتب” (لو27:24). وأكثر من ذلك فإن عددًا كبيرًا من النصوص الكتابية التى استخدمها إيرينيوس كان يوستينوس قد سبق باستخدامها لنفس الغرض. وفى أغلب الحالات بنفس تجميع الآيات مع بعضها وبنفس طريقة ترتيبها، فإما أن يكون إيرينيوس قد استقى في كتابته كثيرًا من يوستينوس أو أن يكون كلاهما قد استقى من مصدر مشترك.
ومع ذلك فإن فرادة إيرينيوس فى كتاب “الكرازة الرسولية” تكمن ليس فى التحليل النظرى للموضوع، بل فى عرضه الشامل والواضح الذى قدّمه. وبينما كان يوستينوس يتجول من موضوع إلى موضوع بدون تنسيق واضح، فإن إيرينيوس كان يعالج أو يقدم شرحًا للكرازة الرسولية بسهولة، بخصوص عمل الله منذ بداية الخليقة حتى يصل إلى تمجيد ابن الله بصعوده إلى المجد.
ومما سبق أن قلناه بخصوص عرض “الإعلان المسيحي” فى كتابات القرن الثاني، يتضّح أنه كان هناك مشروعان مرتبطان معًا: الأول هو توضيح أو كشف محتوى الكتاب المقدس، العهد القديم فيما يختص بإعلان يسوع المسيح كما بشر به الرسل؛ والثانى هو الاعتراف بالإصالة الكتابية لتلك الكرازة الرسولية بإظهار أن كرازة الرسل التي كان مركزها يسوع المسيح كما صيغت فى الكتاب المقدس، قد سبق التنبؤ بها كما هي.
هاتان المهمتان عبّر عنهما القديس إيرينيوس بكلمة واحدة هي ????????? أي شرح أو برهان للكرازة الرسولية.
محتوى كتاب ”الكرازة الرسولية”:
يحتوي كتاب “الكرازة الرسولية” للقديس إيرينيوس:
أولاً: مقدمة قصيرة (فصول 1-3أ).
ثانيًا: قسمان كبيران:
القسم الأول (فصول3ب -42أ).
القسم الثاني (فصول 42ب -97)
ثالثًا: خاتمة (فصول98-100).
أولاً: مقدمة قصيرة:
يبدأ القديس إيرينيوس كتاب “الكرازة الرسولية” بمقدمة قصيرة فى الفصول من (1-3أ)، ويذكر فى هذه المقدمة أنه بهذا الكتاب يرجو أن يقوى إيمان ماركيونوس، الشخص المُرسل له هذا الكتاب. وذلك بواسطة عرض مختصر “لكرازة الحق”. ويذكِّر إيرينيوس ماركيانوس أنه إذا أردنا أن نجتاز الطريق الوحيد نحو حضرة الله فإنه يلزمنا قداسة الجسد، أي الابتعاد عن مخالفة وصايا الله، وكذلك قداسة النفس، أي حفظ الإيمان بالله. وينبغي أن نتجنب الأنواع الثلاثة من الناس المذكورين في (مز1:1):
الأشرار، أي الذين لا يعرفون الله؛ والخطأة، أي الذين يعرفونه ولكنهم لا يطيعون وصاياه؛ والمستهزئون، وهم أولئك الذين يُضّلون أنفسهم والآخرين بواسطة تعاليمهم السامة.
فلكي نخلص، من الضروري أن نحفظ قاعدة الإيمان، وأيضًا أن نطيع وصايا الله، لأن الإيمان يتحقق في العمل، والإيمان نفسه مُؤسس على ما هو حقيقي.
القسم الأول:
وبعد هذه المقدمة القصيرة يأتي القسم الأول، وهو يحوى كما ذكرنا فصول (3ب -42أ). ويعطى إيرينيوس في هذا القسم شرحًا للكرازة الرسولية. وهذا القسم ينقسم بدوره إلى ثلاثة أجزاء.
الجزء الأول: موضوعه “الله والإنسان”، وهو يحوى الفصول (3ب -16). وكما سبق أن أكد إيرينيوس في نهاية المقدمة، فإن الإيمان يتأسس ويُبنى على ما هو صادق حقًا، وبذلك، فإننا يجب أن “نؤمن بما هو حقيقى كما هو في الواقع”، حتى أننا “إذ نؤمن بما هو موجود حقًا كما هو فعلاً[1]، فإننا نحفظ اعتقادنا ثابتًا” (فصل3). والحق الكتابى بخصوص الإله الواحد، الآب: أنه هو خالق الكل؛ فهو يخلص كل الأشياء بكلمته ويزينها بروحه (فصل5). وهذا الاعتراف الثلاثى بالله الآب، والابن يسوع المسيح، والروح القدس، هو أساس إيماننا وسند سلوكنا (فصل6)؛ ومعموديتنا تتم بالاعتراف بهؤلاء الثلاثة، والمعمودية تجددنا لله بابنه بواسطة الروح (فصل7). فإن كان هذا هو الحق عن الله، فإن الحق من جهة الإنسان هو أنه “مخلوق”، “الله يخلق، أما الإنسان فمخلوق” (انظر AH4:11:2).وبعد أن يصف إيرينيوس السموات السبعة مع الجمع غير المُحصى الذى للقوات الملائكية (الفصلان9و10)، فإن إيرينيوس يصف الحق الخاص بالإنسان عن طريق شرح (تك3:1). فالله صنع من الطين مخلوقًا يحمل صورته في جسده وفي روحه نسمة الحياة، كما صنع له معينًا ووضعهما معًا فى الفردوس (فصول 11-14). إن حقيقة العلاقة بين الخالق وخليقته تتضح من الوصية التي أعطاها الله للإنسان، والتي كان القصد منها أن يعلّمه “إن سيده وربه هو رب الكل” (فصل15). وكون أن الإنسان لم يحفظ هذه الوصية فهذه طبعًا هي الحقيقة الأخرى المختصة بالإنسان والتي تحدد حقيقة وضعه خارج الفردوس (فصل16).
الجزء الثاني: فصول (17-30)، يصف فيه القديس إيرينيوس تاريخ إعداد الله البشرية للخلاص الذى تمّ بابنه. فبعد موت قايين انتشر الشر في الأرض كلها وفى أيام نوح لم يكن غيره وحده إنسان بار (فصول 17-18). ثم بعد تطهير الأرض بواسطة الطوفان، فإن ابن نوح الأصغر “حام” لُعن لعدم تقواه، واللعنة امتدت إلى كل نسله، بينما ابنا نوح الآخران سام ويافث، فقد نالا بركة ورثها أحفادهما (فصول19-23). وبركة سام ورثها إبراهيم، الذي طلب الله وتبرر بالإيمان، وبعد ذلك ورث إسحق هذه البركة وبعده ورثها يعقوب (فصل24). ثم أنقذ الله أحفاد إبراهيم من مصر بواسطة موسى، وهكذا كشف لهم سر الفصح، وأعطى الوصايا العشر لموسى (فصول25-26). وقبل دخول أرض الموعد هيأ موسى الشعب بأن أعاد تذكيرهم بأعمال الله العظيمة، ووضع لهم ناموسًا جديدًا وهو التثنية (فصل28). وأخيرًا فإن الله أتى بشعبه من البرية إلى أرض الموعد بواسطة يشوع بن نون الذي سُمى “يسوع”، ” الاسم الوحيد الذى يستطيع أن يُخلِّص” (فصول27 -29). وفى تلك الأرض، سكن داود الملك فى أورشليم؛ وفيها بُنى الهيكل على اسم الله، والأنبياء كانوا يحثون الشعب أن يرجعوا إلى إله آباءهم مُعلنين لهم أيضًا عن الإعلان الآتى الخاص بالرب يسوع المسيح، ابن داود وإبراهيم حسب الجسد، وابن الله بحسب الروح (فصول29-30).
الجزء الثالث فصول (31-40أ)، يواصل الحديث عن الخلاص الذى أتمه ابن الله، فإن الرب بفضل ولادته من عذراء كان له نفس الجسد مثل ابينا الأول آدم، من أرض عذراء، ولكن بينما كان الرب سالكًا بالطاعة فإن آدم كان عاصيًا، وهكذا فإن الرب أتى إلينا بالخلاص وقاد الإنسان إلى الشركة مع الله (فصل31-32)، كما يشير أيضًا للتقابل بين حواء ومريم، وبين الشجرة والصليب (فصلى33-34).
وبواسطة العمل الخلاصي هذا تحققت المواعيد التى أُعطيت لإبراهيم ولداود (فصلى35-36)، ويؤكد إيرينيوس أن المسيح وُلد حقًا، ومات وقام مبينًا تقدمه في كل شئ (فصول37-40أ).
ثم يختم إيرينيوس القسم الأول في الفصول (40ب – 42أ) لكى يلخص كيف أن الذي بُشر به بواسطة الناموس والأنبياء، أي ابن الآب، قد وُلِد من العذراء مريم بالروح القدس. هذه العذراء التي من نسل إبراهيم وداود، وأن يسوع الذي هو مسيح الله هو في الحقيقة ذاك الذى سبق وأنبأ عنه الأنبياء (فصل 40ب). كما أن يوحنا المعمدان السابق له، قد أعدَّ الشعب لنوال كلمة الحياة. وقد أرسل المسيح تلاميذه ورسله والذين عاينوه إلى كل العالم لكي “يدعو الأمم ليسكنوا في مساكن سام” – هذه هي ثمرة بركة يافث التي أُعلنت في الكنيسة أي دعوة الأمم بحسب وعد الله (فصول41-42أ).
القسم الثاني:
بعد أن استعرض القديس إيرينيوس تاريخ عمل الله الخلاصى، فإنه ينتقل إلى القسم الثانى من الكتاب، والذى يشمل كما ذكرنا الفصول (42ب -97). هذا القسم الثانى يختص بشرح “الكرازة الرسولية” عن طريق البرهنة عليها من الكتاب المقدس. وهذا واضحٌ تمامًا فى الفصل الافتتاحى (42ب) الذي يصف فيه إيرينيوس كيف أن كل الأشياء التي تمت فى يسوع المسيح سبق التنبؤ بها بواسطة الأنبياء، وأنها تحققت في النهاية تمامًا كما سبق التنبؤ بها وذلك يجعلنا نوقن أن الله هو الذي أعلن لنا خلاصنا.
ويمكن تقسيم هذا القسم الثاني إلى أربعة أجزاء متميزة:
الجزء الأول الفصول (43-52) يهتم فيه إيرينيوس بتوضيح الوجود الأزلي ليسوع المسيح. وهنا يستند على إصرار أغناطيوس على أن العهد القديم هو يسوع المسيح. فإن كانت الكرازة الرسولية الخاصة بيسوع المسيح هي إعلان الله الحاسم، أي كلمة الله، الذى تطلّع إليه كل رؤساء الآباء والأنبياء، فإنه يمكننا أن نرى الأمر بطريقة عكسية، ونؤكد أن الرب يسوع المسيح هو نفسه الذي ظهر وتحدث إلى إبراهيم وموسى (انظر ضد الهرطقات AH4:9:1). فبالنسبة لإيرينيوس توجد علاقة تبادلية بين رؤساء الآباء، الذين أُعطيت لهم المواعيد، وبين نسلهم الذين رأوا هذا الوعد يتحقق[2].
وتبعًا لذلك ففي هذا الجزء من “الكرازة الرسولية” يوضح إيرينيوس من نصوص الكتاب المقدس كيف أن الابن، الذى نعرفه الآن – كواقع تاريخي – هو يسوع المسيح، وأنه كان فى البدء مع الآب (فصل43)، وكيف ظهر لإبراهيم (فصل44) ويعقوب (فصل45)، وتكلّم مع موسى من العليقة (فصل46)، وكيف يتكلّم داود وإشعياء عن الآب والابن (فصول47-51). ولكن بينما أن الابن بالنسبة لله هو كائن منذ البدء، قبل الخليقة فإنه صار معروفًا بالنسبة لنا الآن فقط، وذلك عندما كُشف لنا باسم يسوع المسيح (فصل43). وهكذا فإن كل الرؤى القديمة هي أحداث نبوية تنبأت بالأمور التى سوف تحدث (فصلى44-45). ويختم إيرينيوس بإعادة التأكيد بأن الكتاب المقدس يقول بوضوح إن المسيح هو ابن الله من قبل وجود العالم، وهو كائن مع الآب ومع الناس. وإنه هو يخلّص جميع الذين يؤمنون به (فصل52).
وفى الجزء الثاني من القسم الثاني (فصول53-66) يتحدث إيرينيوس عن ولادة المسيح بالجسد، مستندًا على شهادات من إشعياء (فصول53-57، 59-61، 65)، وعلى شهادات من موسى (فصلى 57-58)، وعاموس (فصل62)، وميخا (فصل63)، وداود (فصل64)، هذه الشهادات تؤكد أن ابن الله سيُولد، كما أنها تصف كيف يُولد، وأنه هو المسيح، وهو الملك الأبدى الوحيد (فصل66).
وفي الجزء الثالث من القسم الثاني ، فإن إيرينيوس يوضح كيف أنه سبق التنبؤ (عن المسيح) بأنه سيُجرى معجزات وأشفية (فصل67 من مقاطع من سفر إشعياء)، وأنه سوف يُجلد (فصلى68- 69أ، من إشعياء وداود)، وأنه سوف يتألم، وسوف يُحكم عليه، وعن جيله الذي لا يستطيع أحد أن يخبر عنه (فصول69ب – 70، من إشعياء)، وأنه سيحضرونه مُقيدًا إلى الملك (فصل77، من هوشع)، وأن ثيابه ستُقسّم (فصل80، من المزامير)، وأنه سيُباع بثلاثين من الفضة (فصل81، من إرميا)، وأنه سيُعطى مُرًا ليشرب (فصل82، من مزامير داود)، وأنه يموت على الصليب (فصول71-76، 79، من إرميا، وإشعياء، وداود، وزكريا)، وأخيرًا يقوم ويتمجّد ويرتفع إلى يمين الآب (فصول 72ب، 83-85، من مزامير داود).
ويختم إيرينيوس القسم الثاني من “الكرازة الرسولية” بالجزء الرابع (فصول86-97) موضحًا كيف أن دعوة الأمم بواسطة الرسل قد سبق وتنبأ عنها الأنبياء (فصل86). هذه الدعوة تحققت ليس بفرائض الناموس، بل بكلمة الإيمان البسيطة (فصل87). وأولئك الذين خلصوا دُعوا باسم جديد (فصل88)، ولذلك فلا ينبغي أن يعود أحد للوراء مرة أخرى إلى الناموس الذي قد تمَّ تحقيقه بواسطة المسيح (فصل89). إن ناموس الله الآب مكتوب على قلوبهم الجديدة التي من اللحم حتى أن الإنسان يستطيع الآن أن يثق فى خالقه (فصل 90-93). وبواسطة هذه الدعوة وتغيير القلب الذي يتم بالكلمة الصائر جسدًا والساكن بيننا، فإن التي كانت عاقرًا في السابق قد ولدت عددًا كبيرًا من الأولاد أكثر من المجمع القديم (فصل94). فأولئك الذين لم يكونوا شعبًا هم الآن شعب الله الذين يعرفون رب الناموس، ليس لهم حاجة للمؤدب السابق (الناموس) (فصلى95-96) فالمسيح الذي قد ظهر على الأرض وتحدّث مع البشر قد أدمج روح الله مع خليقة الله (صنعة يدي الله) الذين كُوّنوا بحكمة من التراب، لكي يصير الإنسان في النهاية حسب صورة الله ومثاله (فصل97).
الخاتمة:
ويختم إيرينيوس كتابه “الكرازة الرسولية” بأن يكرر النصيحة التى أعطاها فى المقدمة: أننا يجب أن نتمسك بكرازة الحق التى أعلنها الأنبياء، والتى ثبّتها المسيح، والتى سلّمها الرسل ونتجنب كل المعاملات مع أولئك الذين يفكرون في آلهة أخرى لأنفسهم، محتقرين الله الذي هو “الكائن” حقًا، ومنكرين مجيء ابنه وعطية الروح القدس.
منهج القديس إيرينيوس في تفسير الكتاب المقدس:
منهج القديس إيرينيوس فى تفسير الكتاب هو أنه ينبغي أن يُشرح على أساس الكتاب نفسه، وهو يذكر هذا المبدأ صراحة فى كتابه “ضد الهرطقات” بقوله: [تفسيرات نصوص الكتب المقدسة لا يمكن شرحها إلاّ من الكتب المقدسة نفسها] (ضد الهرطقات AH3:12:9)، وفي موضع آخر من نفس الكتاب يقول: [ فإن كانت بعض مقاطع الكتاب تبدو غامضةً، فيجب أن نحاول فهمها بواسطة ما هو واضح وظاهر فى الكتاب نفسه وليس بأي طريقة تفكير خارجية] (ضد الهرطقات AH2:27-28).ولهذا السبب بالتحديد انتقد إيرينيوس الغنوسيين لأنهم أسسوا تفسيرهم للكتب على أساس مبادئ غير كتابية، فبعد أن يفند القديس إيرينيوس بعض أساطيرهم، يقول:
[ هذه هي طريقتهم التي لم يتنبأ بها الأنبياء، ولا الرب علّم لها، ولا الرسل سلّموها إلينا، فهم يفتخرون بصوتٍ عالٍ أنهم يعرفون أكثر من الآخرين. وهم يستندون فى هذا على مصادر خارج الكتاب المقدس، وكما يقول المثل الشعبى فهم يحاولون أن يضفروا حبالاً من الرمل. إنهم يحاولون أن يجعلوا أمثال الرب، أو أقوال الأنبياء، أو كلمات الرسل تتوافق مع أقوالهم بطريقة تجعل الناس يصدقونهم، حتى لا يبدو تلفيقهم أنه بدون مرجع. فهم يتجاهلون نظام الكتب المقدسة وترابطها مع بعضها. وبتجاهلهم لهذا الترابط فى الكتاب الذي يكمن فيه أساس الحق فإنهم يفككون أعضاء الحق] (ضد الهرطقات AH1:8:1).
ويوضح إيرينيوس طريقة استعمال الكتاب، بأن يقارنها بما يفعله بشخص أو إنسان عندما يأخذ صورة جميلة من الفسيفساء لملك صنعها فنان ماهر من أحجار ثمينة، ثم يعيد ترتيب هذه الأحجار الكريمة التى فيها ليصنع منها صورة كلب أو ثعلب، ثم زعم أن هذه الصورة هي الصورة الأصلية التي صنعها الفنان الأول، ويعلّل قائلاً إن الحجارة أصيلة. والحق أن التصميم قد تهدم و”ضاع نموذج الإنسان الموضوع”. هذا بالضبط ما يفعله الهراطقة بالكتاب المقدس “ويقطعون أوصال الحقيقة”. إن كلماتهم وتعبيرهم وأمثالهم أصيلة، ولكن قياسهم (أو تصميمهم) مزاجي وخاطئ، فيقول: ” بنفس الطريقة فإن هؤلاء الناس يرقعون معًا خرافات العجائز ويقتلعون كلمات وأقوال وأمثال من هنا وهناك ويريدون أن يجعلوا كلمات الله تتكيف مع خرافاتهم” (ضد الهرطقات AH1:9:1).
وفي مثال آخر، يصف إيرينيوس كيف أن بعض الناس يأخذون سطورًا متنوعة من كتابان هوميروس ثم يعيدون ترتيبها. وقد تخدع هذه السطور أولئك الذين ليس لهم سوى معرفة عابرة لهوميروس، لكنها لا تخدع أولئك المتمكنين جيدًا من معرفة أشعاره؛ وهؤلاء يستطيعون أن يعرفوا السطور المقتبسة تمامًا ويعرفون مكانها ثم يعيدونها إلى سياقها الصحيح (ضد الهرطقات AH1:9:4).
وبنفس الطريقة يواصل إيرينيوس كلامه فيقول: [.. أي إنسان يحفظ فى نفسه قاعدة الحق غير المتغيّر الذي استلمه بواسطة المعمودية فإنه سيعرف الأسماء والأقوال والأمثال المأخوذة من الكتب المقدسة… لأنه إن عرف الجواهر، فإنه لن يقبل صورة الثعلب على أنها صورة الملك، بل هو سوف يعيد كل مقطع من المقاطع إلى مكانه الصحيح، إذ يكون منسجمًا ضمن جسم الحقيقة، وهكذا هو يفضح تلفيقهم ويبيّن أنهم بلا سند] (ضد الهرطقات AH1:9:4).
وبعد ذلك يعطي إيرينيوس وصفًا شاملاً ل-“قانون الحق المُسلّم فى المعمودية”، الذي له ثلاثة بنود أساسية، وهي: الإيمان المُسلّم من الرسل بإله واحد الله الآب، والرب الواحد المصلوب والمُقام يسوع المسيح، والروح القدس” (انظر AH1:10:1).
وقانون الحق المُعطى في كتاب “الكرازة الرسولية” (فصلى6 و7) رغم أنه مختصر عن ما ورد في كتاب “ضد الهرطقات”، إلاّ أنه مبنى على البنود المحورية الثلاثة: الآب، والابن، والروح القدس، الذين باسمهم تتم معموديتنا.
ومع ذلك، فإن هذه البنود الثلاثة هى جوهر قانون الحق، وليست مجرد عناصر منفصلة لمعتقدات لاهوتية. ولذلك فهى عند إيرينيوس مرتبطة بلا انفصال مع ترتيب وترابط الكتب المقدسة (انظرAH1:8:1). وهذا الترتيب والارتباط هو طبعًا ما يصفه إيرينيوس بطريقة مختصرة فى كتاب “الكرازة الرسولية” لكي: “بواسطة هذا الكتاب الصغير يمكنك أن تفهم كل أعضاء جسد الحقيقة” (فصل1 من الكرازة الرسولية) التى هي الكتاب المقدس نفسه. وبكتابته لكتاب “الكرازة الرسولية” فإن إيرينيوس – الذى هو أكثر من أي كاتب آخر سابق له – حدّد وعرّف الكتاب المقدس كما نعرفه نحن الآن وثبته في مكانه الصحيح والأساسى. وبهذا فإن القديس إيرينيوس قد أعطانا نموذجًا لا مثيل له عن كيف نقترب من الحقائق المُعلنة فى الكتاب وكيف نفهمها. وفي هذا تكمن الأهمية الفائقة لهذا الكتاب المختصر.
النص الأصلي لكتاب ”الكرازة الرسولية” وترجماته:
المخطوطات والطبعات والترجمات:
كتاب “الكرازة الرسولية” هو مقال فى صورة رسالة مُرسلة إلى شخص يُدعى ماركيانوس. وكان هذا المقال معروفًا منذ القديم إذ أن يوسابيوس المؤرخ أشار إليه فى كتابه “تاريخ الكنيسة” (كتاب36:5). ولكن بعد هذه الإشارة منذ القرن الرابع يبدو أن هذا الكتاب اختفى تمامًا، ولم يُعثر على أي آثار له. ولكن فى شهر ديسمبر سنة 1904م عثر الأرشمندريت الأرمني “كارابت تيرمكيرتشيان” (Karapet Ter-Mekerttschian) على مخطوط في مكتبة كنيسة والدة الإله فى إيرفان Erevan بأرمينيا، ثبت فيما بعد أنه يحوى ترجمة أرمينية قديمة للكتابين الرابع والخامس من كتاب “ضد الهرطقات” للقديس إيرينيوس، وأيضًا كتابه “الكرازة الرسولية”. وهذا المخطوط محفوظ الآن فى ماتينا داران بإيرفان (مخطوط رقم 3710). وبحسب ما وُجد مُسجلاً في نهاية المخطوط فإن المخطوط كان مِلكًا لرئيس الأساقفة تير جوهانس Ter Johannes” شقيق الملك المقدس” هذا الملك من المحتمل أن يكون Haïtoun I هايتون الأول (1226-1269م) الذي اشتهر شقيقه الأصغر بأنه كان عالمًا كبيرًا، وكان أسقفًا (1259م) إلى أن توفى سنة 1289م، لذلك يمكن أن يكون تاريخ المخطوط هو حوالى منتصف النصف الثانى من القرن الثالث عشر، رقم أن الترجمة – كما سنرى فيما بعد – قد تمت قبل هذا التاريخ بعدة قرون. ونص هذه المخطوط نُشر لأول مرة سنة 1907م مع ترجمة ألمانية ومُقدمة وملاحظات مختصرة قام بها العالِم اللاهوتى المشهور أدولف هارناك وهو الذي قسّم النص إلى مائة فصل.
وبعد ذلك تُرجم النص الأرمني إلى اللغة اللاتينية بواسطة S. Weber، وحينما أُعيد طبع النص الأرمني سنة 1919م صدرت معه ترجمة إنجليزية وأخرى فرنسية، وتضمنت هذه الطبعة التى صدرت سنة 1919م وصفًا للمخطوط، وتضمنت أيضًا بعض الملاحظات عن وجود تنقيحات فى المخطوط الأرمني. وصدرت بعد ذلك ترجمات أخرى من بينها ترجمة إنجليزية ثانية قام بها J. Armitage Robinson[3].
وبعد فترة ركود لعدة عشرات من السنين ظهرت ترجمتان أخريتان ساهمت كلاهما فى ازدياد فهمنا للنص. الترجمة الأولى إلى الإنجليزية قام بها J.P. Smith واحتوت إلى جانب النص الأرمني، ملاحظات كثيرة جدًا ملأت عدد صفحات أكثر من النص نفسه[4]، الأمر الذي جعل البروفيسورJohn Bher أستاذ علم الآباء بمعهد القديس فلاديمير الأرثوذكسي اللاهوتى بالولايات المتحدة الأمريكية أن يقول إن العالِم سميث قام بجهد كبير في بحث المخطوطة الأرمينية وقيّم كل الترجمات السابقة واقترح تنقيحات للمخطوط.
والترجمة الثانية التي تمت بعد الأولى بسنوات قليلة هي ترجمة فرنسية جديدة أعدّها L.M. Froidevaux وقد نُشرت فى سلسلة المصادر المسيحية بالفرنسية SC. 62 سنة 1959م. وقد أضافت هذه الترجمة ملاحظات كثيرة على ما قدمه سميث، إلاّ أن مساهمتها الهامة جدًا هي الملحق الموجود بها الذى يحوي مقارنة بين الترجمات، أعدّها Charles Mercier. هذه المقارنة موجودة أصلاً في المخطوط P.O. 12:5 (مع ميكروفيلم لمخطوط إيرفان 3710).
وقد اكتُشفت فيما بعد مخطوطتان بهما اقتبسات صغيرة من كتاب “الكرازة الرسولية”. المخطوط الأول يُسمى “ختم الإيمان”، اكتشفه نفس مُكتشف المخطوط الأول Bishop Karapet Ter-Mekerttschian لكن سنة 1911م في دير القديس اسطفانوس بداراشامب Darachamb، وهذا المخطوط يرجع تاريخ كتابته إلى القرن الثالث عشر. والمخطوط الثاني يرجع إلى القرن الرابع عشر ويُعرف باسم “جالاطا54” وُجد فى دير القديس يعقوب للأرمن بأورشليم، وهو الآن محفوظ في مكتبة البطريركية الأرمينية بإسطنبول.
وأخيرًا بعد فترة ركود ثانية قام A. Rousseau بعد أن أكمل نشره لكتاب “ضد الهرطقات” فى سلسلةSC.، نشر ما يجب أن يُعتبر طبعة قياسية لكتاب “الكرازة الرسولية” باللغة الفرنسية طبعًا. وفي هذه الطبعة نشر روسو بالإضافة إلى النص الأرمني نفسه، ترجمتين إحداهما لاتينية والأخرى فرنسية. ويرى روسو صاحب الترجمة الفرنسية أن النص الأرمنى قد تُرجم أصلاً عن اللغة اليونانية بتصرف. وتحتوي أيضًا طبعة روسو التي نُشرت فى SC. سنة 1995، ملاحظات مستفيضة وصلت إلى عدد صفحات أكثر من النص نفسه، كما يختم طبعته هذه بستة ملاحق عن تعاليم القديس إيرينيوس اللاهوتية، ومقارنات بين الترجمات المختلفة للنص الأرمني. وبهذا يكون عمل روسو حسب رأي جون بهر John Behr إنجازًا ملحوظًا فى مجال البحث الآبائي.
تعاليم القديس ايريناؤس
1- تعليم القديس إيرينيوس عن الثالوث:
يتميز تعليم القديس إيرينيوس عن الثالوث بالتأكيد على أن الإله الواحد الحقيقى هو نفسه خالق العالم، وهو نفسه إله العهد القديم، وهو نفسه أبو الكلمة. ورغم أن إيرينيوس لا يبحث فى العلاقات بين الأقانيم الثلاثة أحدها بالآخر، إلاّ أنه مقتنع أن وجود الآب والابن والروح القدس ثابت بوضوح فى تاريخ الجنس البشري. فالآب والابن والروح القدس موجودون قبل خلقة العالم لأنه كما يقول، فإن الكلمات: ” نصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا” (تك26:1س) هي مُوجهة من الآب إلى الابن والروح القدس، هذين الأقنومين اللذين يدعوهما القديس إيرينيوس بلقب: “يدىّ الله” (انظرAH5:19:3، 5:28:1، 5:5:1). ويشرح القديس إيرينيوس بتكرار أن الروح القدس مع الكلمة يملأ الأنبياء بمسحة الوحى وكيف أن الآب هو الذي دبر كل هذه الأمور. ولذلك فإن كل تدبير الخلاص في العهد القديم هو عند إيرينيوس درس ممتاز رائع عن الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد.
2- تعليم القديس إيرينيوس عن المسيح:
ا- بخصوص علاقة الابن بالآب:
يقول القديس إيرينيوس إنه لا يستطيع أحد أن يدرك كيفية ولادة الابن من الآب ولا يستطيع أحد أن يفهم طبيعة هذه الولادة الإلهية، وما هو الاسم الذى يطلقه عليها لأنها أمر يعلو على كل وصف أو شرح. ولا يوجد مَنْ يعرف هذه العلاقة سوى الآب الذى يلد الابن، والابن الذى وُلِدَ من الآب. ولذلك يقول القديس إيرينيوس: ” حيث إن هذه الولادة لا يمكن التعبير عنها بالكلام وتفوق الإدراك، لذلك فإن أولئك الذي يحاولون أن يضعوا ويرتبوا ولادات[2] وتوّلدات لا يمكن أن يكونوا عقلاء لأنهم يحاولون أن يصفوا أمورًا من المستحيل وصفها” (AH2:28:6).
ويقدم لنا القديس إيرينيوس أول محاولة لإدراك العلاقة بين الآب والابن فيقول: ” الله قد أُعلِن من خلال الابن الذي هو فى الآب والذى له الآب فى ذاته” (AH3:6:2). كما يؤكد القديس إيرينيوس أن الآب هو نفسه خالق العالم وذلك ردًا على الغنوسيين. وهو أيضًا يعلّم أنه يوجد مسيح واحد حتى إن كنا نعطيه أسماء عديدة. لذلك فالمسيح هو ابن الله، وهو الكلمة، وهو يسوع الإله المتجسد، وهو مخلصنا وربنا.
ب – جمّع الكل في المسيح:
إن قلب تعليم إيرينيوس عن المسيح بل ومحور وقلب كل تعليمه اللاهوتى هو رؤيته الخاصة ب- ” جمّع الكل فى المسيح”. واضح أن القديس إيرينيوس استعار هذا التعبير من بولس الرسول في رسالته إلى أفسس (10:1) ” لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ في المسيح”. ثم امتد بهذه الفكرة امتدادًا كبيرًا حتى صارت فكرة ” جمع كل شئ في المسيح” تحوي كل تعليمه عن التجسد والفداء وحلول الروح القدس وتأسيس الكنيسة، وكون المسيح رأس الجسد أى “الكنيسة”. فيقول إيرينيوس إن “جمع كل شئ فى المسيح” يشمل أخذ كل الأشياء منذ البداية وجعلها في المسيح. فالله أعاد الخطة الإلهية الأولى الخاصة بخلاص الجنس البشرى التى انقطعت بسقوط آدم، وهو يجمع كل ما عمله منذ البداية لكي يجدّد، ولكى يرد، ولكي يعيد تنسيق كل شئ فى ابنه المتجسد، الذي يصير بهذه الطريقة هو آدم ثانٍ لأجلنا. وحيث إنه بسقوط الإنسان ضاع كل الجنس البشري، فكان يلزم أن يصير ابن الله إنسانًا لكي يتمّم إعادة خلق جنس البشر: [المخلوقات التى هلكت كان لها جسد ودم لأن الرب صنع الإنسان من تراب الأرض، ولأجله حدثت كل تدبيرات مجيء الرب. لذلك أخذ لنفسه جسدًا ودمًا جامعًا في نفسه ليس إنسانًا آخر معينًا بل ذلك الإنسان الأول الذي خلقه الآب، إذ انه كان يطلب ذلك الذي كان قد هلك] (AH5:14:2).
وبهذا “الجمع” للإنسان الأصلي في المسيح قد تم تجدّيد ورد ليس آدم الأول شخصيًا فقط بل وكل الجنس البشري، إذ يقول: [حينما تجسد وصار إنسانًا، جمّع فى نفسه كل تاريخ الإنسان الممتد جامعًا إيانا ومعطيًا لنا الخلاص لكي ننال مرةً أخرى فى المسيح يسوع ما قد فقدناه في آدم، أي صورة الله ومثاله] (AH3:18:1).
وفي نفس الوقت فإن النتائج الشريرة لعصيان آدم الأول قد أُبيدت، إذ يقول: [الله جمّع فى نفسه صورة الإنسان القديمة، لكى يقتل الخطية ويجرد الموت من سلطانه ويحيى الإنسان] (AH3:18:7). وبهذه الطريقة فإن آدم الثاني قد جدَّد الصراع القديم ضد إبليس وهزمه، إذ يقول القديس إيرينيوس: [ لو أن الرب كان قد أتى من أب آخر غير الله الآب لما كان قد جمّع في نفسه تلك العداوة الأولى ضد الحية، ولكن لأنه هو هو نفسه الذى هو واحد، وهو نفسه الذى صنعنا في البداية ثم أرسل إلينا ابنه فى النهاية، فإن الرب تمّم هذا الأمر، مولودًا من امرأة، إذ أباد عدونا كما أنه أكمّل الإنسان على صورة الله ومثاله] (AH5:21:2).
ولهذا جدَّد المسيح كل شئ بجمعه كل شئ فى نفسه. فيقول القديس إيرينيوس: [إذن فما الذى أحضره المخلّص عند مجيئه، اعلم أنه أتى بكل الجدة، بأن حضر بنفسه، وهو نفسه الذى سبق التنبؤ عنه. لأن هذا قد أُعلِن جهارًا، أن هناك جدة سوف تأتي، لتجدّد الإنسان وتعطيه الحياة] (AH4:34:1).
3- تعليم القديس إيرينيوس عن الكنيسة:
ا – تعليم القديس إيرينيوس عن الكنيسة أو ما يسميه العلماء بـ”الإكليسولوجى” مرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرته عن “جمع الكل فى المسيح”. فالله يجمع في المسيح ليس الماضي فقط بل والمستقبل أيضًا. لذلك فقد جعله الآب رأس الكنيسة كلها لكي يواصل بواسطتها عمل التجدّيد إلى نهاية العالم. فيقول: [ لذلك إذ يوجد إله واحد هو الآب كما سبق أن أوضحنا، ومسيح واحد هو المسيح يسوع ربنا، الذي جاء بتدبير جامع وشامل لكى يجمع كل الأشياء في نفسه، ومن ضمن كل هذه الأشياء (المخلوقة) الإنسان الذي هو خليقة الله؛ لذلك فهو يجمع الإنسان أيضًا في نفسه. فغير المنظور صار منظورًا وغير المُدرك صار مُدركًا وغير المتألم صار متألمًا؛ والكلمة صار إنسانًا جامعًا كل الأشياء فى نفسه من جديد. وهكذا، فكما أنه هو الأول بين الكائنات السماوية والروحية غير المنظورة، هكذا أيضًا هو الأول بين الأشياء المنظورة والجسمانية، فهو يأخذ الرئاسة لنفسه وإذ جعل نفسه رأس الكنيسة، فهو سوف يجذب كل الأشياء إلى نفسه في الوقت المحدد] (AH3:16:6).
ب – القديس إيرينيوس كان متيقنًا بثبات تام أن تعليم الرسل مستمر بغير تغيير فى الكنيسة. هذا التعليم أى التقليد هو مصدر الإيمان وقاعدته، فهو قانون الحق، وقانون الحق هذا عند إيرينيوس هو قانون إيمان المعمودية، لأنه يقول إننا نستلمه فى المعمودية (AH1:9:4). ويعطى القديس إيرينيوس وصفًا لإيمان الكنيسة بحسب قانون إيمان الرسل بالضبط، إذ يقول: [ رغم أن الكنيسة منتشرة فى كل العالم، منتشرة في كل المسكونة من أقاصيها إلى أقاصيها، فقد استلمت من الرسل وتلاميذهم الإيمان بإله واحد، الآب ضابط الكل، خالق السماء والأرض والبحار وكل ما فيها؛ والإيمان بالمسيح يسوع الواحد، الذي هو ابن الله، الذي تجسد لأجل خلاصنا؛ والإيمان بالروح القدس الذى أعلن التدبير بواسطة الأنبياء، أي بمجيء المسيح وميلاده العذراوى وآلامه وقيامته من بين الأموات، وصعود ربنا المحبوب المسيح يسوع إلى السماء جسديًا، وظهوره ثانيةً من السماء فى مجد الآب لكي يجمع كل الأشياء في نفسه ولكي يقيم أجساد كل البشر إلى الحياة، لكي تجثو للمسيح يسوع ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا كل ركبة، بحسب مشيئة الآب غير المنظور، ولكى يعترف كل لسان له، ولكي يجري دينونة عادلة للجميع ولكي يطرد أرواح الشر والملائكة الذين تعدوا وصاروا مضادين وكذلك الأثمة والأشرار ومخالفي الناموس والدنسين، يطرح الجميع فى النار الأبدية؛ ولكن في نعمته سوف يهب الحياة ومكافأة عدم الفساد والمجد الأبدي لأولئك الذين حفظوا وصاياه وثبتوا فى محبته سواء منذ بداية حياتهم أو منذ وقت توبتهم. هذه الكرازة وهذا الإيمان تحفظه الكنيسة باجتهاد رغم أنها مُشتتة فى كل العالم، تحفظه بكل اجتهاد كما لو كانت كلها تسكن فى بيت واحد، وهى تؤمن بهذا وكأن لها عقل واحد وتكرز وتعلّم وكأن لها فم واحد، ورغم أن هناك لغات كثيرة فى العالم، إلاّ أن معنى التقليد واحد، وهو هو نفسه. لأن نفس الإيمان تتمسك به وتسلّمه الكنائس المؤسسة فى ألمانيا، وأسبانيا، وقبائل قوط، وفى الشرق، وفى ليبيا، وفى مصر، وفى المناطق الوسطى من العالم. ولكن كما أن الشمس وهى مخلوقة من الله، هي واحدة، وهي هي نفسها فى كل المسكونة، هكذا أيضًا نور كرازة الحق، الذي يضيء على كل الذين يرغبون أن يحصلوا على معرفة الحق] (AH1:10:1-2).
ج – وعلّم القديس إيرينيوس أن الكنائس المُؤسسة من الرسل فقط هي التى يمكن أن يُعتمد عليها في معرفة التعليم الصحيح للإيمان ومعرفة الحق، لأن تسلسل الأساقفة غير المنقطع فى هذه الكنائس هو الذي يضمن أن تعليمها هو الحق: [ أى شخص يريد أن يميز الحق، فإنه يمكن أن يرى التقليد الرسولي واضحًا وظاهرًا في كل كنيسة في العالم كله. ويمكننا أن نحصى أولئك الذين أُقيموا كأساقفة من الرسل فى الكنائس وكذلك خلفائهم حتى إلى يومنا الحاضر والذين لم يعرفوا أبدًا ولم يُعلّموا بتاتًا أى شئ يشبه التعليم الأحمق لهؤلاء (أى الغنوسيين). فلو كان الرسل قد عرفوا مثل هذه الأسرار الخفية التي يعلّمونها على انفراد وسرًا للكاملين لكانوا بالتأكيد قد استودعوا هذا التعليم للرجال الذين أقاموهم كمسئولين عن الكنائس، لأن الرسل كانوا يريدون أن هؤلاء الرجال الذين استلموا منهم السلطان أن يكونوا بلا لوم أو عيب] (AH3:3:1).
4 – تعليم القديس إيرينيوس عن الخلاص:
محور تعليم القديس إيرينيوس عن الفداء هو حقيقة أن كل إنسان محتاج إلى الفداء ومُؤهل للفداء. وهذا نتج عن سقوط الأبوين الأولين الذى جعل كل نسلهم تحت الخطية والموت، وقد فقدوا صورة الله. فالفداء الذي صنعه ابن الله قد حرّر البشر من عبودية الشيطان وعبودية الخطية، وعبودية الموت. إضافة إلى ذلك، إن هذا الفداء استجمع كل البشرية في المسيح، وقد أدى إلى إعادة الاتحاد بالله، وإلى التبني لله، وإلى مشابهة الله. ولكن القديس إيرينيوس يتحاشى لفظة التأليه فى هذا المجال ولكنه يستخدم تعبيرات “الالتصاق بالله”، و”التعلق بالله” و”الاشتراك فى مجد الله”، ولكنه يتحاشى إلغاء الحدود الفاصلة بين الله والإنسان كما كان معتادًا في الديانات الوثنية والهرطقات الغنوسية.
والقديس إيرينيوس يميز بين صورة الله ومثال الله، فالإنسان عنده هو في طبيعته – بروحه غير المادية – هو صورة لله. أما “مثال الله” فهو مشابهة لله من نوع فوق الطبيعة الذي كان آدم حاصلاً عليه بمبادرة من صلاح الله ونعمته. هذه المُماثلة لله تتحقق بفعل روح الله.
فداء الشخص المفرد يتم بواسطة الكنيسة وأسرارها باسم المسيح، فالسر بالنسبة للطبيعة هو يقابل آدم الجديد بالنسبة للقديم. فالمخلوق ينال الكمال بالأسرار. فالسر هو ذروة جمع كل الخليقة فى المسيح. بالمعمودية يُولد الإنسان ثانية من الله. وعندما يتحدث عن المعمودية فإن إيرينيوس يشهد لأول مرة فى الكتابات المسيحية القديمة لمعمودية الأطفال: [ لقد جاء ابن الله ليخلّص الجميع بواسطة نفسه – أقول الجميع الذين يُولدون ثانية بواسطة الله – الرُضع، والأطفال – والصبيان، والشباب، والشيوخ] (AH2:22:4).
5- تعليم القديس إيرينيوس عن الإفخارستيا:
القديس إيرينيوس كان عنده اقتناع تام بالحضور الحقيقي للمسيح بجسده ودمه في الإفخارستيا لدرجة أنه يستنتج حقيقة قيامة الجسد الإنساني من حقيقة كون هذا الجسد قد اغتذى بجسد المسيح ودمه:
[ لذلك، حينما يحصل الكأس الممزوج والخبز المصنوع، على “كلمة الله”، وتصير الإفخارستيا جسد المسيح ودمه، هذه التي تنمى جسدنا وتسنده، فكيف يمكنهم أن يؤكدوا أن الجسد غير مهيأ لنوال موهبة الله، التي هي الحياة الأبدية؛ جسدنا هذا الذي يتغذى من جسد الرب ودمه، والذى هو عضو له؛ ذلك الجسد الذي يغتذى بالكأس التي هي دمه، وينال ازديادًا من الخبز الذى هو جسده. وكما أن الفرع المأخوذ من الكرمة عندما يُغرس فى أوانه، أو كما أن حبة الحنطة التي تسقط في الأرض وتموت وتتحلل؛ تقوم بازدياد بأنواع كثيرة بقوة روح الله، وتصير هى الإفخارستيا التى هى جسد المسيح ودمه، هكذا أجسادنا أيضًا، إذ تتغذى منها، فإنها عندما توضع في الأرض، وتتحلل وتموت، فإنها سوف تقوم في وقتها المعين لها] (AH5:2:3). وفي موضع آخر يقول:
[ وكيف يقولون إن الجسد يصير إلى فساد ولا يشترك فى الحياة، وهو الذي يتغذى على جسد الرب ودمه. فإما أن يغيروا رأيهم، أو فليكفوا أن يقدموا التقدمات التى ذكرتها. أما نحن فإن تعليمنا متفق مع الإفخارستيا، والإفخارستيا بدورها تثبت صحة تعليمنا. ونحن نقدم له التقدمات التي هي له، وبالتالي نكون مظهرين شركتنا واتحادنا، ومعترفين بقيامة الجسد والروح. لأنه كما أن الخبز الذي من الأرض، إذ ينال عطية الله، لا يبقى بعد خبزًا عاديًا بل إفخارستيا مكونة من عنصرين، واحد أرضي والآخر سماوى، هكذا أيضًا أجسادنا، إذ تنال من الإفخارستيا، لا تعود فيما بعد قابلة للفساد، بل يصير لها رجاء القيامة الأبدية] (AH4:18:5).
ومن هذه الكلمات يتضح أن القديس إيرينيوس يؤمن بأن الخبز والخمر يتقدسان بصلاة استدعاء الروح. وكذلك يؤمن بأن الإفخارستيا ذبيحة، لأنه يرى فيها الذبيحة الجديدة التى تنبأ عنها ملاخى:
[وإذ أعطى (الرب) توجيهات لتلاميذه أن يقدموا باكورات من كل الأشياء المخلوقة التي له – ليس كمن هو في احتياج إليها، بل لكي لا يكونوا هم أنفسهم غير مثمرين، ولا غير شاكرين – لذلك أخذ ذلك الشئ المخلوق، أى الخبز، وشكر، وقال: ” هذا هو جسدي” وكذلك الكأس بالمثل، التى هى جزء من تلك الخليقة التى ننتمى نحن إليها، هذه الخمر اعترف بأنها دمه، وعلّم عن القربان الجديد الذى للعهد الجديد، والذي تقدمه الكنيسة لله فى كل العالم كما استلمته من الرسل، وهي تقدمة لذاك الذى يعطينا باكورة عطاياه للعهد الجديد كوسيلة للبقاء والوجود، تلك التقدمة التى تنبأ عنها ملاخى أحد الأنبياء الاثني عشر قائلاً: ” ليست لي مسرة بكم قال رب القوات (الرب القدير)، ولا أقبل تقدمة من يدكم. لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها أسمى عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يُقرّب لأسمى بخور وتقدمة طاهرة لأن أسمى عظيم بين الأمم قال رب القوات (الرب القدير)” مبينًا بأوضح طريقة بهذه الكلمات، أن الشعب القديم (اليهود) سيكف عن أن يقدم تقدمات لله، ولكن سوف تُقدم له (لله) تقدمات فى كل مكان، تقدمات طاهرة، وأن اسمه سوف يتعظم بين الأمم] (AH41:17:5).
6 – تعليمه عن الإنسان:
يتبنى القديس إيرينيوس فكرة تكوين الإنسان من جسد ونفس تنال الروح: فيقول: [ الجميع يعترفون أننا مكونون من جسد مأخوذ من الأرض، ونفس تلك التي تنال الروح من الله] (AH3:22:1).
لذلك فالجسد البشري الذي تحييه نفس طبيعية (أو حيوانية) فقط ليس إنسانًا كاملاً. ويبدو أن القديس إيرينيوس، مثل الرسول بولس، دائمًا يعتبر “الروح” الذى يكمل ويتوج الطبيعة البشرية، هو روح الله شخصيًا. فالمسيح وعد بهذا الروح كعطية لرسله ومؤمنيه، والرسول بولس يقول للمسيحيين مرة بعد مرة إنهم يحملون هذا الروح في داخلهم كما في هيكل. ويتضح تعليم إيرينيوس عن الإنسان من الفقرة التى يصف فيها الإنسان الكامل المخلوق على صورة الله:
[ أنه بيدي الآب، أعني بالابن والروح خُلِق الإنسان – وليس مجرد جزء من الإنسان – خُلِق على مثال الله. فالنفس والروح هما بالتأكيد جزء من الإنسان وبالتأكيد أيضًا ليس هما الإنسان؛ لأن الإنسان الكامل يتكوّن من مزيج واتحاد النفس بنوالها روح الآب، وخليط تلك الطبيعة اللحمية التي جُبلت أيضًا على حسب صورة الله.. لأنه إذا استبعد أحد الجسد من صناعة يدي الله، واعتبر الروح فقط صنعته، فإن هذا لا يكون إنسانًا روحيًا بل يكون روح إنسان أو روح الله. ولكن حينما تتحد الروح المندمجة مع النفس بالجسد، يصير الإنسان روحانيًا وكاملاً بسبب انسكاب الروح عليه، وهذا هو “الإنسان” الذى صُنِع على صورة الله ومثاله. ولكن إن كانت النفس بلا روح، فالذى يكون هكذا هو فى الحقيقة من طبيعة حيوانية وإذ يبقى لحميًا، فسيكون كائنًا ناقصًا حتى إن كان يملك صورة الله فى تكوينه، ولكنه غير حاصل على المماثلة بواسطة الروح؛ ولهذا يكون غير كامل. ولذلك أيضًا، إذا استبعد أحدٌ الصورة ووضع الجسد جانبًا فإنه لا يستطيع عندئذٍ أن يفهم أن هذا الكائن هو إنسان – كما قلت سابقً – أو كشئ ما آخر غير الإنسان. لأن ذلك الجسد الذي قد جُبِل ليس هو إنسانًا كاملاً بذاته، ولكنه جسد إنسان وجزء من إنسان، وكذلك النفس ذاتها إذا اعتُبرت بذاتها فقط (أى بدون الجسد)، فهى ليس إنسانًا بل هي نفس الإنسان وجزء من الإنسان. وكذلك أيضًا فإن الروح ليست إنسانًا، لأنها تُدعى الروح، ولا تُدعى الإنسان؛ ولكن امتزاج الثلاثة معًا واتحادهم يكوّن إنسانًا كاملاً] (AH5:6:1).
وفي موضع آخر من نفس الكتاب يقول: [ إذن، يوجد ثلاثة عناصر – كما سبق أن أوضحت – يتكوّن منها الإنسان “الكامل” وهى: الجسد، والنفس، والروح[3]. أحد هذه الثلاثة هو الذي يُحفظ ويشكِّل، وهذا هو الروح. أما بالنسبة للعنصر الآخر فهو المتحد والمُشَكّل فذلك هو الجسد؛ والعنصر الثالث هو بين هذين الاثنين ذلك هو النفس التي في بعض الأحيان حينما تسير وراء الروح تسمو بواسطة الروح، ولكن فى أحيانٍ أخرى إن مالت ناحية الجسد فإنها تسقط في الشهوات الجسدية. إذن فأولئك الناس الذين ليس عندهم ما يخلِّص ويشكِّل للحياة الأبدية وليس فيهم الوحدة فإنهم يكونوا “لحمًا ودمًا”[4]، وبذلك سيُدعون هكذا “لحمًا ودمًا”. لأن هؤلاء هم الذين ليس لهم روح الله فى أنفسهم ومثل هؤلاء تكلم عنهم الرب بأنهم أموات حين قال ” دع الموتى يدفنون موتاهم” (لو60:10)، لأنه ليس عندهم الروح الذى يحيي الإنسان” (AH5:9:1).
ويُفهم من تعليم القديس إيرينيوس عن الإنسان أن قبول العنصر الثالث وحفظه – أى الروح – والذي يتوقف عليه كمال الإنسان الجوهري هو مشروط بإرادة الإنسان وسلوكه الروحي والأخلاقي. فحتى الوجود الأبدي للنفس يعتمد على سلوكها هنا على الأرض، لأن النفس ليست خالدة بطبيعتها. فإن خلودها أمر متصل بالنمو الروحي والأخلاقي. فالنفس يمكنها أن تصير خالدة إن كانت شاكرة لخالقها؛ وفي هذا يقول القديس إيرينيوس:
[ لأنه كما أن السماء التي هي فوقنا، أى الجلد والشمس والقمر وبقية الكواكب، وكل عظمتها، ورغم أنها ليس لها وجود سابق، قد دُعيت إلى الوجود، وتستمر موجودة لفترة طويلة من الزمن بحسب إرادة الله، هكذا أيضًا فكل إنسان يفكر هكذا من جهة النفوس والأرواح وفي الواقع من جهة كل المخلوقات لن يضل فى تفكيره بأى حال. إذ أن كل الأشياء التى قد خُلقت لها بداية وذلك حينما صُنعت وتستمر موجودةً مادام الله يريد أن يكون لها وجود واستمرار … لأن الحياة لا تُنشأ منا ولا من طبيعتنا الخاصة، بل تُمنح لنا حسب نعمة الله. ولذلك فالإنسان الذي يحافظ على الحياة الممنوحة له ويشكر خالقه الذي وَهَبه إياها سوف ينال طول أيام إلى الأبد وإلى أبد الآبدين. أما ذلك الذى يرفض العطية (الحياة) ويبرهن على أنه غير شاكر لخالقه – إذ أن هذا الإنسان مخلوق – ولم يُقدِّر ذلك الذى منحه الحياة ولم يعرفه، فهذا الإنسان يحرم نفسه من امتياز الدوام إلى الأبد وأبد الآبدين] (AH2:34:3).
ومن الجدير بالملاحظة كما يقول Massuet[5] إن عبارة القديس إيرينيوس “لذلك فهذا الإنسان يحرم نفسه من امتياز الدوام إلى الأبد”، ينبغي أن تُفهم بما يتفق مع تأكيدات القديس إيرينيوس المتكررة أن الأشرار سيكونون في تعاسة إلى الأبد. فهذه العبارة إذن لا تشير إلى ملاشاة الأشرار كليةً بل الحرمان من السعادة.
عن كتاب شرح الكرازة الرسولية للقديس ايريناؤس , الكتاب الأول , ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية
________________________________________
[1] Quasten, Patrology Vol. I, 294.
[2] يقصد الغنوسيين الذين كانوا يؤمنون بوجود عدة ولادات للدهور والأزمنة.
[3] يشدد القديس إيرينيوس على أن الإنسان الكامل يتكون من الجسد والنفس والروح، والروح عنده تناله النفس من الله.
[4] 1كو5:15، وهنا يرد القديس إيرينيوس على الغنوسيين الذين نادوا بأن الجسد لا يخلص لأنه شرير فى ذاته بتفسيرهم الخاطئ لهذه الآية ” فإن لحمًا ودمًا لا يرث ملكوت السموات”.
[5] ملاحظة Massuet هذه أوردها ناشر المجلد رقم 1 من مجموعة A.N.F الذى يحوى كتاب “ضد الهرطقات” للقديس إيرينيوس وجاءت الملاحظة فى هامش صفحة 412 من المجلد رقم 1 تعليقًا على العبارة المقتبسة أعلاه من الكتاب الثانى من ضد الهرطقات (AH2:34:3)
القديس إيرينيوس أو صانع السلام – كما يعني اسمه – هو أشهر آباء القرن الثاني في شهادته للإيمان الرسولي ودفاعه عن العقيدة المسيحية فى مواجهة البدع الغنوسية. ولذلك يستحق أن يُلقب بمؤسس علم اللاهوت المسيحي، ولُقب أيضًا بـ”أبو التقليد”.
نشأته:
من الصعب تحديد تاريخ ميلاد إيرينيوس بالضبط، ولكن علماء الآباء يرجحون أنه وُلد ما بين 135 – 145م، إذ يخبرنا إيرينيوس نفسه أنه في شبابه المبكر عرف القديس بوليكاربوس الذي كان تلميذًا ليوحنا الرسول، وأن القديس يوحنا الرسول هو الذى أقام بوليكاربوس أسقفًا على كنيسة سميرنا أو أزمير[1]، إذ سجل لنا يوسابيوس المؤرخ من بين ما سجل من كتابات القديس إيرينيوس الرسالة التى كتبها القديس إيرينيوس إلى فلورينوس:
[ لأننى لما كنت صبيًا رأيتك فى آسيا السفلى مع بوليكاربوس تتحرك فى عظمة الحاشية الملكية، ومحاولاً أن تنال رضاه. وإننى أتذكر حوادث ذلك الوقت بوضوح أكثر من حوادث السنوات الأخيرة. لأن ما يتعلّمه الصبيان يرسخ فى عقولهم. كذلك ففى إمكانى وصف نفس المكان الذي كان يجلس فيه المغبوط بوليكاربوس وهو يلقى أحاديثه، ودخوله وخروجه، وطريقة حياته، وهيئة جسمه، وأحاديثه للشعب، والوصف الذى قدمه عن عِشرته ليوحنا، والآخرين الذين رأوا الرب، ولأن بوليكاربوس كان متذكرًا كلماتهم، وما سمعه منهم عن الرب وعن معجزاته وتعاليمه لاستلامها من شهود شهدوا بأعينهم كلمة الحياة، فقد روى كل شئ بما يتفق مع الأسفار المقدسة. وإذ أصغيت إلى هذه الأمور برحمة الله بانتباه كبير مسجلاً إياها ليس على ورقٍ بل فى قلبي صرتُ أرددها على الدوام بأمانة بنعمة الله][2].
ومن هذه الكلمات يتضح تمامًا أن إيرينيوس اتصل بالعصر الرسولى عن طريق القديس بوليكاربوس، وهذا ما أعده لكى يكون شاهدًا أمينًا للتقليد الرسولى الذي استلمه بواسطة بوليكاربوس الذى كان تلميذًا وصديقًا للقديس يوحنا الرسول وآخرين غيرهم من الذين رأوا الرب. وبعد عدة سنوات من استشهاد القديس بوليكاربوس فى سنة 156م، رحل إلى الغرب متجهًا إلى بلاد الغال (فرنسا حاليًا)، وربما يكون قد مكث بعض الوقت فى روما وهو في الطريق إلى فرنسا، وقد يكون تتلمذ لبعض الوقت لمعلّمين مثل يوستينوس الذي كان في روما فى تلك الفترة قبل استشهاده. ثم بعد ذلك انتهى به المطاف إلى الغال.
وفي سنة 177م أرسله شهداء كنائس ليون وفيينا، الذين كانوا فى السجن، إذ كان قسيسًا لكنيسة ليون، للتوسط فى الصراع الذى نشأ بخصوص بدعة مونتانوس في آسيا الصغرى. وكان يحمل رسالة كنائس فيينا وليون إلى كنائس آسيا وفريجية، والتي يرى بعض العلماء أنها من قلم إيرينيوس نفسه، وقد حُفظت أجزاء من هذه الرسالة في تاريخ يوسابيوس الكتاب الخامس: 1-3.
كما أن كنائس ليون وفيينا أرسلت رسالة أخرى إلى إليفثريوس أسقف روما (175-189) بواسطة إيرينيوس، وقد شهد هؤلاء المعترفون من السجن الشهادة التالية عن إيرينيوس في هذه الرسالة:
[ أيها الأب إليفثريوس إننا مرة أخرى نرجو لك السلام من الله على الدوام. ولقد طلبنا من أخينا ورفيقنا إيرينيوس أن يحمل هذه الرسالة إليك، ونتوسل إليك أن توقره وقارًا كبيرًا لأنه مملوء غيرةً على وديعة المسيح وعهده. فلو كان المركز يُضفى برًا على أى واحد لكنا أوصينا، فهو به أول من يستحقون التوصية لكونه قسيس الكنيسة وهذا هو مركزه][3].
وبعد أن رجع إيرينيوس من روما، فإن أسقف ليون المُسن فوتيوس توفى شهيدًا، وصار إيرينيوس أسقفًا لليون خلفًا له.
إيرينيوس ومشكلة الأربعشرية (أى تعييد الفصح يوم 14 نيسان العبرى):
في سنة 190م حدث خلاف بين كنائس آسيا الصغرى وبين فيكتور الأول أسقف روما حول ميعاد تعييد الفصح المسيحى. وعقد فيكتور مجمعًا فى روما حرّم فيه أساقفة آسيا بسبب تعييدهم عيد القيامة يوم 14 نيسان. وطلب أسقف روما من كل كنائس العالم أن تتبع تقليد كنيسة رومية بخصوص عيد الفصح وهو أن يكون العيد المسيحى في الأحد التالى للفصح اليهودي، فى حين أن كنائس آسيا الصغرى كانت تُعيّد عيد القيامة مع اليهود فى اليوم الرابع عشر من نيسان العبري، في أي يوم اتفق من أيام الأسبوع. قائلين إنهم تسلموا هذا التقليد من بوليكاربوس، وأنه بدوره استلمه من يوحنا الرسول.
وفي هذا الموقف الصعب فى هذا العصر برز إيرينيوس وقام بدور هام لحفظ سلامة الكنيسة، فكتب عددًا من الرسائل إلى الأساقفة فى آسيا وإلى فيكتور أسقف روما نفسه، يحث فيها الجميع على السلام أو بحسب تعبير يوسابيوس المؤرخ فإنه قال: [ إن سر قيامة الرب يجب أن يُحفظ فقط فى يوم الرب]. ويضيف يوسابيوس قائلاً: [حقًا فعل (إيرينيوس) إذ نصح فيكتور بألاّ يقطع كنائس الله برمتها وهى حافظة تقليد عادة قديمة… وهكذا صار إيرينيوس صانعًا للسلام، وهذا هو معنى اسمه، إذ قدم النصائح وأرسل الرسائل اللازمة على هذا الوجه من أجل سلام الكنائس][4].
بعد هذا الموقف الذي ظهر فيه دور إيرينيوس الرسولى فى إعادة السلام بين الكنائس مما جعل جيروم يسميه “الأسقف الرسولي والشهيد” وذلك فى سياق تفسيره لسفر إشعياء. ويذكر كواستن[5] أنه بعد هذا الدور البارز لصانع سلام الكنيسة كلها لم يرد ذكر لإيرينيوس في المصادر التاريخية إلى أن ذكره غريغوريوس أسقف تور (573-594)[6]، الذي ذكر أنه مات شهيدًا سنة 202م. وهكذا يكون القديس إيرينيوس قد شهد خراب مدينة ليون الذي حدث سنة 197م.
كتابات إيرينيوس:
بالإضافة إلى عمل إيرينيوس الرعائى كأسقف لإيبارشية، فإنه كرّس جزءً كبيرًا من وقته لمهمة دحض الهرطقات الغنوسية بواسطة الكتابات الكثيرة التي كتبها لهذا الغرض. وتظهر براعته وموهبته فى دحض التعاليم المنحرفة بنوع خاص فى الكتاب المشهور والضخم الذي كتبه القديس إيرينيوس وعُرِف باسم “ضد الهرطقات” في خمس كتب. هذا ولقد جمع إيرينيوس بين معرفة واسعة وشاملة لمصادر الإيمان والتقليد مع روح جادة وحماس ديني كبير. فإن معرفته الشاملة بالتقليد الكنسي التي يدين بها لعلاقته بالقديس بوليكاربوس وغيره من تلاميذ الرسل الآخرين، هذه المعرفة بالتقليد الكنسي كانت مصدر قوة عظيمة جدًا في كفاحه ضد الهراطقة.
ومما يُؤسف له أن كتاباته باللغة اليونانية فُقدت فى وقت مبكر. ولم يتبق من كتاباته وأعماله الكثيرة التي كتبها بلغته اليونانية سوى كتابان:
1 – أحد هذين الكتابين هو كتابه الذي يفوق كل الكتب الأخرى في أهميته من جهة الإيمان. وهذا الكتاب هو ما اشتهر باسم “ضد الهرطقات”، ولكنه لم يصلنا في لغته اليونانية الأصلية التى كُتب بها بل في ترجمة لاتينية وهي ترجمة حرفية. وهذا الكتاب يتكون من جزءين رئيسيين. الجزء الأول يكشف أصول وتفاصيل الهرطقة الغنوسية. ويذكر فيه أسماء الهراطقة الغنوسيين ويعتبره العلماء أفضل مصدر لمعرفة الغنوسية وتاريخها. والجزء الثاني يدحض فيه تعاليم الغنوسيين خاصة فالنتينوس وماركيون، كما يوضّح عقيدة الكنيسة عن الآب والابن، وكل عقائد الإيمان الأساسية المُسلّمة من الرسل.
2 – والكتاب الثاني الهام الذى كتبه القديس إيرينيوس هو “شرح الكرازة الرسولية” ولسهول الاستعمال سنذكره بعنوان “الكرازة الرسولية”. هذا الكتاب كان أصله اليوناني مفقودًا طوال القرون الماضية. ولم يكن لدينا سوى اسمه فقط، وقد حُفظ اسمه فى كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس (الكتاب الخامس فصل26)، وفى سنة 1904م أراد الله أن يُكتشف هذا الكتاب الهام كاملاً فى ترجمة باللغة الأرمينية، والذي اكتشفه هو “تيرمكيرتشيان” (Ter -Mekerttschian) الذي قام بنشره للمرة الأولى سنة 1907م.
[1] انظر Against The Heresies (=AH) 3:3:4، وأيضًا يوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة.
[2] يوسابيوس القيصرى: تاريخ الكنيسة، ترجمة القمص مرقس داود، ك5 فصل5:20-7، الطبعة الثانية، مكتبة المحبة القاهرة 1970، ص272-273.
[3] يوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة، 2:4:5، ص 247.
[4] يوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة11:24:5، 18.
[5] Quasten, Patrology Vol. I, 288.
[6] انظر Historia Francorum, !, 27، وانظر Murray Dictionary of Christian Biography, Vol. 2, p. 771, London 1880.
مقدمة:
1- اعرف أيها المحبوب ماركيانوس[1] غيرتك وتقواك نحو الله، التي هي الطريق الوحيد الذي يقود الإنسان نحو الحياة الأبدية، كما أشاركك فرحك وأتمنى أن دخولك للإيمان وثباتك فيه يجعلك حسن القبول عند الله خالقك. ويا ليتنا كُنا معًا لكي يساعد الواحد منا الآخر ونتقاسم أمور هذه الحياة بالأحاديث اليومية في الموضوعات المفيدة. لكن طالما الواحد منا بعيد عن الآخر – فى الوقت الحاضر – ولا يمكن أن نتواصل معًا إلاّ بواسطة الكتابة، لهذا أنوي أن أعرض لك كرازة الحق، بإيجاز، لكى تعضدك في الإيمان. وأرسل إليك “مذكرة ملخصة” فى شكل نقاط أساسية حتى تفهم أمورًا كثيرة بواسطة هذا القليل. وهذا العرض الموجز سوف يمدك بمحصلة “عن كل أعضاء جسد الحقيقة”[2] وبراهين العقائد الإلهية. أيضًا سيمكنك أن تقتنى ثمار الخلاص وتُفحم من يعيشون في الضلال. وبواسطة هذا العرض هنا ستتمكن من أن تنقل بأمانٍ تام كلمة مقدسة وبلا لوم إلى أولئك المشتاقين لمعرفة إيماننا.
سِر في الطريق بالإيمان:
ولا يوجد سوى طريق واحد[3] فقط منير بواسطة النور الإلهي، لأولئك الذين يبصرون، أما الذين لا يبصرون، فهم يواجهون طُرقًا مُظلمة متعارضة فيما بينها. إذن، الطريق الأول يقود إلى ملكوت السموات بواسطة اتحاد الإنسان بالله، والطرق الأخرى تؤدى إلى الموت لأنها تُبعد الإنسان عن الله. وبالتالي فمن الضروري لك ولكل الذين يعتنون بأمر خلاص نفوسهم أن يستمروا في مسيرتهم نحو نور الإيمان بتمسكهم بالإيمان بلا انحرافات وبغيرة وثبات. وإذا تكاسلتم وتوقفتم في الطريق فإنكم تسقطون في شهوات جسيمة وتضلون وتبتعدون عن الطريق المستقيم[4].
قداسة الإنسان : النفس والجسد معًا:
2 – إن الإنسان كائن حى مكوّن من: النفس والجسد، لهذا يجب أن يأخذ المرء في اعتباره هذا التكوين، لأنه يمكن أن يأتي السقوط من الاثنين[5]. فقداسة الجسد تتحقق بطرد الرغبات الوضيعة والابتعاد عن الأعمال الشريرة، بينما قداسة النفس تتحقق بسلامة الإيمان[6] بالله بدون إضافة أو حذف. لأن التقوى تذبل وتفسد بواسطة دنس الجسد ونجاسته، كما أن الضلال عندما يتسلّل إلى النفس يُجمّدها ويلوثها وتفقد سلامتها. وعلى العكس فإن التقوى تحفظ بهائها وجمالها طالما أن النفس تُوجد في الحق والجسد يحتفظ بالنقاوة[7].
فما الفائدة أن يعرف الإنسان الحق بالكلام وهو يلوث الجسد ويسُلّمه إلى الأعمال الشريرة؟ وما الفائدة من قداسة الجسد لو أن الحق غير موجود في النفس؟ لأن هذان الاثنان (النفس والجسد) يفرحان معًا ويحاولان معًا أن يقودا الإنسان إلى حضرة الله. لذا يقول الروح القدس على فم داود: ” طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار”[8]، أي مشورة الأمم الذين لا يعرفون الله. فالأشرار هم الأمم الذين لا يعبدون الله الكائن الحقيقى، إذ أن الكلمة أيضًا يقول لموسى: ” أنا هو الكائن”[9]. إذن كل الذين لا يعبدون الله الكائن هم “أشرار”. ويكمل فى المزمور قائلاً: ” وفي طريق الخطاة لم يقف”. الخطاة هم الذين، بالرغم من أنهم يملكون معرفة الله، فإنهم لا يحفظون وصاياه بل يستهينون بها. ” وفي مجلس المستهزئين لا يجلس”، وهم الناس المملؤون من الكذب والتعليم الضال وينشرون المرض (الطاعون) ويفسدون لا ذواتهم فقط بل الآخرين أيضًا. إذ أن كلمة “مجلس” تعنى مدرسة أو مكان للتعليم. فكلام المزمور ينطبق على الهراطقة أيضًا الذين “يجلسون في مجلس المستهزئين” ينفثون سموم تعاليمهم فى الذين يسمعونهم.
حافظ على قانون الإيمان:
3 – ولكى لا نتعرّض لمثل هذه الأمور لابد أن نتمسك بقانون الإيمان[10] الثابت ونحفظ فى إيمان وصايا الله، ونخافه كرب ونحبه كأب[11].
إذن فإن حفظ الوصايا يأتى نتيجة للإيمان، لأن ” إن لم تؤمنوا – يقول إشعياء – فلا تفهموا”[12]. فالحق يمنح الإيمان لأن الإيمان مؤسس على الأمور الموجودة حقًا، حتى إننا نؤمن بما هو حقيقى كما هو في الواقع، وإذ نؤمن بما هو موجود حقًا كما هو فعلاً، فإننا نحفظ اعتقادنا ثابتًا من جهة هذه الأشياء.
إذن، طالما أن خلاصنا يعتمد على الإيمان، فمن الضرورى أن نبذل كل اهتمام لحفظ هذا الإيمان، وأيضًا كي يكون فهمنا لهذا الإيمان فهمًا صحيحًا وحقيقيًا.
الله والإنسان
إذن ما الذي يخبرنا عنه الإيمان كما سُلم لنا من الشيوخ تلاميذ الرسل[13]. فإن الإيمان أول كل شئ يحثنا أن نتذكر أننا قبلنا المعمودية باسم الله الآب ويسوع المسيح ابن الله، الذي تجسد وصلب وقام، وروح الله القدوس، لغفران خطايانا، وأن هذه المعمودية هي ختم[14] الحياة الأبدية وميلادنا الثاني[15] من الله، حتى لا نكون بعد أولاد البشر المائتين، بل أولاد الله الأبدي وعلينا دائمًا باستمرار أن نعمل لأجل أن نتسامى فوق كل الأشياء المخلوقة، فالكل موجود تحت سلطان الله، وكل ما هو موجود تحت سلطانه عليه أن يعمل لأجله، لأن الله هو رب الكل والكل ينتمي إليه. الله هو ذو السلطان المطلق والكل يأتي منه.
الله خلق الكل بكلمته وحكمته:
4 – في الحقيقة، إن كل المخلوقات تستمد بالضرورة بداية وجودها من علة أولى عظيمة، وعلة كل الأشياء هو الله. الكل يأتى منه، أما هو فلم يُوجِده أحد. لذا فإنه من الاستقامة والحق أن نؤمن بأنه يوجد إله واحد، الآب، الذي خلق الكل[16]، وصنع كل ما لم يكن موجودًا من قبل، وهو يحوى “الكل”، هذا الذي هو نفسه غير المحوى من أي شئ. كما أن العالم يدخل في نطاق ذلك “الكل” الذي يحويه الله ومن بين هذا “العالم” الإنسان أيضًا، وبالتالي فإن الله خلق هذا العالم كله.
5 – ويتضح تعليم إيماننا في الآتي: واحد فقط هو الله، الآب، غير مولود، غير منظور خالق الجميع، فوقه لا يوجد إله آخر[17]. ولأن الله هو ناطق فقد خلق كل الأشياء بكلمته. ولأن الله روح ولذلك فقد زيّن كل الأشياء بروحه، كما يقول النبي ” بكلمة الرب صُنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها”[18]. وبينما الكلمة يؤسس أي يعطى الكائن جوهره ويمنحه الوجود، فإن الروح يمنح الشكل والجمال لهذه القوات المختلفة، لذا فإنه من الصواب أن يُدعى الابن كلمة الله، بينما يُدعى الروح حكمة الله[19]. لذلك بالصواب أيضًا يقول بولس: ” إله وآب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم”[20]. فالآب هو ” فوق الجميع”، والكلمة “بالكل” “ di£ p£ntwn “، طالما أن كل الأشياء بواسطته[21] خُلقت من الله. الروح هو فينا جميعًا ” في كلنا ἐn pάsin hm‹n ” وهو يصرخ ” يا أبا الآب”[22].
كما أنه يمنح الإنسان أن يكون على صورة الله. والروح أيضًا يُظهر الكلمة[23]، لذلك تنبأ الأنبياء عن ابن الله. والكلمة أيضًا متحد بالروح. لذلك فهو يفسر[24] كتب الأنبياء ويُدخل الإنسان إلى الآب.
ثلاثة بنود لقانون الإيمان والمعمودية:
6- إن البند الأول من قانون إيماننا، وقاعدة البناء وأساس الخلاص هي أن: ” الله الآب غير المولود، غير المُحوى، غير المرئي[25] إله واحد خالق الجميع”.
والبند الثاني: هو أن كلمة الله ” ابن الله، يسوع المسيح ربنا، الذي تنبأ عنه الأنبياء[26]، الذي كل شئ به كان[27] وبتدبير الآب في الأيام الأخيرة صار إنسانًا بين البشر[28] وتراءى للكل[29] لكى يُبطل الموت[30] ولكي يجمّع[31] كل شئ ويُظهر الحياة ويصنع شركة بين الله والإنسان”.
والبند الثالث هو أن: “الروح القدس هو الذي بواسطته تنبأ الأنبياء وتعلّم الآباء بأمور الله، والذي بواسطته دخل الأبرار إلى طريق البر، كما أنه انسكب في الأيام الأخيرة[32] بطريقة جديدة على جنس البشر مجددًا الإنسان لله”[33].
7 – لأجل هذا، فإن المعمودية التي هى ميلادنا الثانى[34] تُجرى على اسم الثالوث[35]، وهى التى تضمن لنا الميلاد الثانى من الله الآب بابنه في الروح القدس[36]. لأن الذين يعتمدون ينالون روح الله الذي يقودهم نحو الكلمة، أى نحو الابن، بينما الابن يأتى بهم إلى الآب الذى يمنحهم عدم الفساد[37]. إذن فبدون الروح لا يمكن أن يرى هؤلاء كلمة الله وبدون الابن لا يمكن لأحد أن يصل إلى الآب، لأننا ننقاد إلى الآب من خلال معرفة الابن[38]، بينما معرفة ابن الله الكلمة تصير بواسطة الروح القدس. كما أن الابن يمنح الروح بحسب ما يريد الآب[39].
8 – والروح القدس يدعو الآب كلّى القدرة ورب القوات، لكي يعلّمنا أن الله هو مبدع السماء والأرض والكون كله، خالق الملائكة والناس ورب الكل، ذاك الذي به توجد وتُحفظ كل الأشياء، إنه الرحوم، والرؤوف، والصالح، والبار، والكامل في المحبة، إله الجميع؛ اليهود والأمم والمؤمنين. ومع ذلك هو أب للمؤمنين أيضًا لأنه في آخر الأزمنة أعطى لهم عهد[40] التبنى. بينما لليهود هو سيد ومُشرِّع، لأنه عبر الأزمنة تناسى البشر الله وابتعدوا عنه وتمردوا عليه فساقهم للعبودية، ونير الناموس يعلّمهم أن لهم رب واحد، خالق وصانع كل شئ، الذي يمنح نسمة الحياة، وله يجب أن نقدم العبادة صباحًا ومساءً. هو البداية الخالقة وهو السيد. هو المعتنى بالكل وفي نفس الوقت هو المُربى، والملك والديَّان، لأنه لا يوجد أحد يمكنه أن يفلت من دينونته سواء يهودى أو أممى ولا خاطئ ولا ملاك. لكن الذين – في الوقت الحاضر – يرفضون الإيمان بصلاحه فسوف يعرفون قوته في يوم الدينونة، وفق كلمات بولس الطوباوي: ” غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة الذي سيجازى كل واحد حسب أعماله”[41]. هذا هو الله الذي يدعوه الناموس إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، إله الأحياء. وعلى الرغم من ذلك فإن عظمة وسمو هذا الإله لا تُوصف.
عالم الملائكة:
9- والعالم[42] مُحاط بسبعة سموات، هناك تسكن قوات لا تُحصى، وملائكة، ورؤساء ملائكة الذين يتممون واجب العبادة لله كُلى القدرة وخالق الجميع. ليس لأن الله في احتياج[43] (لعبادة الملائكة)، لكن حتى لا يظلوا بلا عمل وبلا فائدة وبلا نفع. وروح الله له فعل متعدد الوجوه، وإشعياء النبي يحصى سبعة أشكال لخدمة الروح عندما يتحدث عن الروح الذي سوف يحل على ابن الله أي على الكلمة في زمن تجسده، لذا ” ويحل عليه روح الرب روح الحكمة روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب”[44]، فالسماء الأولى، العليا المحاطة بالسموات الأخرى، هي سماء الحكمة، الثانية هي للفهم، والثالثة للمشورة – والرابعة من فوق إلى أسفل – هي للقدرة، الخامسة للمعرفة، والسادسة للتقوى، والسابعة – التي تمثل قبتنا الزرقاء – هي مملوءة من مخافة الروح الذي ينير السموات.
10 – هذا الإله يُمجد بواسطة كلمته الذي هو ابنه الأزلى وبالروح القدس الذي هو حكمة[45] الآب الذى هو أب الجميع. هذان الأقنومان الإلهيان، الكلمة والحكمة لهما في خدمتهما طغمة من الأرواح الملائكية تُدعى الشاروبيم والسيرافيم الذين يمجدون الله بتسابيحهم التي لا تنقطع، وكل ما فى السموات المخلوقة يعطى مجدًا لله، آب الجميع، الذي بكلمته خلق العالم – بما فيه – الملائكة وأعطى قوانين (نواميس) لكل العالم، حتى أن الجميع يظلون في مكانهم ولا يتجاوزن حدودهم المرسومة لهم بواسطة الله، بل إن كل واحد منهم يتمم العمل المحدد له من قِبَل الله.
خلق الإنسان:
11 – أما الإنسان، فقد خلقه بيديه[46] نفسها، آخذًا جزءً رقيقًا ونقيًا من الأرض ثم وحّده بجزء من قوته. بعد ذلك طبع صورته على خليقته[47] حتى يكون مميزًا تمييزًا واضحًا، بأنه مخلوق على صورة الله. ثم وضع الإنسان المخلوق على الأرض لكي يمثل صورة الله فيها[48]. ولكي ينقل الله الحياة إلى الإنسان نفخ في وجهه نسمة الحياة[49]، وهذه جعلت الإنسان شبيهًا بالله[50].
لقد خُلق الإنسان حرًا وسيدًا[51] وعُين من قِبَل الله لكي يتسلط على كل ما على الأرض. وهذا العالم العظيم المخلوق من قِبَل الله، والذي أُعد قبل خلق الإنسان، أُعطى للإنسان كمسكن له، حتى يحيا متنعمًا فيه[52] ووضع الله، خالق الجميع، داخل هذا العالم خُدامًا، وحدَّد لكل واحد منهم خدمة خاصة. حارس هذا العالم هو الرئيس المدبر رئيس الربوات، ورئيس لأعوانه الآخرين. الخُدام كانوا الملائكة ورئيس الربوات كان رئيس الملائكة.
12 – وإذ جعل الإنسان (آدم) سيدًا على الأرض وكل شئ فيها، فإنه جعله كذلك سيدًا على الكائنات التي كان ينبغى أن تخدمه. ولكن بينما كانت هذه الكائنات الأخيرة في قمة قوتها، كان سيدها أي الإنسان لا يزال صغيرًا، كان طفلاً عليه أن ينمو لكي يحقق كماله[53]. ولكي يمكنه أن يحيا في فرح وهناء، أعدّ الله له أفضل مكان في العالم من حيث توفر الهواء والجمال والنور والغذاء والنبات والثمار والمياه، لم ينقصه شيئًا من مستلزمات الحياة، لذا دُعى هذا المكان الفردوس. هذا الفردوس كان جميلاً وحسنًا، كلمة الله (ابن الله) كان يتمشى هناك باستمرار يتحدث مع الإنسان عن الأمور العتيدة، بل حاول بالحرى أن يوضح له أنه سيكون رفيقًا له ويتحدث ويتحاور معه، وأنه سوف يسكن مع البشر لكي يعلّمهم البر. لكن الإنسان كان طفلاً، لم يكن لديه بعد إرادة ناضجة، لذا خُدع بسهولة من المضلّل.
خلق المرأة:
13 – بينما كان آدم يتمشى في الفردوس، أحضر الله أمامه كل الحيوانات وأمره بأن يعطى اسمًا لكل واحد منها، وأعطى آدم اسمًا لكل من الكائنات الحية[54]. وقرر الله أيضًا أن يعطى معينًا للإنسان، إذ يقول: ” ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينًا نظيره”[55]، لأنه من كل الكائنات الحية لم يكن هناك مُعين مساوٍ لآدم ونظير وشبيه له. فمن ثمَّ أوقع الله آدم في سُبات وأنامه. هكذا لكى يكمل الله خليقته، سمح الله لآدم بأن ينام مع أن النوم لم يكن يوجد سابقًا في الفردوس. ثم أخذ الله واحدة (ضلع) من جنب آدم، وأكمل المكان الذي أُخذ منه باللحم، ومن هذا الجنب خلق المرأة وأحضرها أمام آدم. عندما رآها آدم قال: ” هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي هذه تُدعى امرأة لأنها من امرءٍ أُخذت”[56].
14 – كان آدم وحواء – وهذا هو اسم المرأة – عريانين ولا يخجلان[57]، لأنهما كانا بريئين وأفكارهما كانت طاهرة كأفكار الأطفال، ولم يكن شئ يدخل في روحهما وعقلهما يسبّب لهما شهوات دنسة ومخزية في النفس، وحَفِظا نقاء وسلامة طبيعتهما، لأنه فى لحظة الخلق نُفخ فيهما نسمة الحياة[58]. ومن ثمَّ، فطالما هذه النسمة كانت باقية تسرى فيهم بقوة، كانت تحمى فكرهما وروحهما من الشر. لذا فقد كانا لا يخجلان عندما يتعانقان ويداعبان الواحد الآخر كالأطفال.
ناموس للحياة:
15 – لكن لكي لا يتعاظم الإنسان ولا يهاجمه الغرور[59]، كأن لا رب له، ولكي لا يتصور تصورات خاطئة في علاقاته مع الله، خالقه، بسبب القوة والحرية المحيطين به ويتجاوز حدوده المعينة له، ولكي لا ينزلق بسبب أفكار التعالي ويتمرد على الله، أُعطى إليه ناموس من الله، لكى يعلّمه أن سيده وربه، هو رب الكل. الله وضع له حدودًا معينة، حتى يمكنه أن يظل دائمًا في هذه الحالة، أى غير مائت، لو حفظ وصايا الله، بينما لو ظل غير مؤمن، فسيدركه الموت وسيرجع إلى الأرض التي أُخذ منها. وكانت الوصية هي: “من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت”[60].
التعدي:
16 – ولكن الإنسان لم يحفظ هذه الوصية، ولا أطاع الله، لكن خُدع من الملاك (الساقط)[61] الذي حسده بسبب العطايا الكثيرة التي أعطاها الله للإنسان، وجلب له الدمار وجعله خاطئًا، مقنعًا إياه أن يخالف وصية الله. بنفس الطريقة، إذ صار الملاك (الساقط) بواسطة الأكاذيب أبًا ومدبرًا للخطية، فإنه طُرد لأنه كان مضادًا لله وصار سببًا في طرد الإنسان من الفردوس. وبواسطة هذا التصرف تمرد وانفصل عن الله ، دُعى في اللغة العبرية شيطان الذي يعني المتمرد، وقد دُعى أيضًا إبليس. ثم لعن الله الحية التي كانت إناءً لإبليس، وحلت اللعنة على الحيوان نفسه (الحية) كما على الملاك الذي اختفى فيها أي الشيطان. أما بالنسبة للإنسان، فطرده الله من حضرته، وأسكنه بالقرب من الفردوس، لأن الخطاة لا يُقبلون داخل الفردوس[62].
قايين وهابيل:
17 – طُرد آدم من الفردوس وكذلك امرأته حواء، فأتت عليهما أحزان ومصاعب، وحياتهما في هذا العالم سادها حزن شديد وتطلبت عملاً شاقًا. حقيقةً، لقد أفلح آدم الأرض تحت أشعة الشمس، ولكنها أنبتت له شوكًا وحسكًا كعقاب للخطية. بعد ذلك نقرأ ” وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين. وقالت اقتنيت رجلاً من عند الرب. ثم عادت فولدت هابيل”[63]. لكن الملاك المتمرد (الشيطان)، الذي قاد الإنسان إلى العصيان وجعله خاطئًا وكان هو سبب طرده من الفردوس، لم يكتفِ بهذا الشر الأول، إذ ملأ روح الشر قايين وجعله يقتل أخيه. هكذا مات هابيل، مقتولاً من أخيه، وهذه إشارة بأنه منذ ذلك الوقت فإن بعض الناس سوف يُضطهدون ويُقهرون ويُقتلون، بينما الظالمون سوف يطردون ويقتلون الأبرار[64]. عندئذٍ غضب الله ولعن قايين ونتيجة لهذا، صارت قبيلته من جيل إلى جيل مثل أبيهم (يقصد صاروا قتلة مثل أبيهم قايين). وعوضًا عن هابيل المقتول أعطى الله ابنًا آخر إلى آدم[65].
تكاثر الشر:
18 – واتسع الشر وانتشر[66] بلا انقطاع حتى سيطر على كل الجنس البشري، لدرجة أنه لم يبقِ إلاّ القليل جدًا من الأبرار بينهم. حقيقةً صار هناك زيجات مخالفة على الأرض، ملائكة صنعوا علاقات زيجة مع بنات الناس وأنجبوا منهم أبناء، الذين بسبب قامتهم غير المعتادة (في الطول) دُعوا جبابرة[67]. والملائكة أعطوا لزوجاتهم دروسًا للشر، لأنهم علّموهم عن كيفية استخدام الجذور والأعشاب في أعمال السحر، واستخدام الألوان وتزيين الوجوه، واكتشاف طريقة البحث عن الكنوز، والسحر، والكراهية، والزنى، والشهوات، والإبداعات الشريرة، وأسرار السحر، وكل أنواع التنجيم وعبادة الأوثان، التي هي عداوة لله. كل هذا تفاقم داخل العالم فتزايد تيار الشر بينما البر كان يتناقص.
نوح والطوفان:
19- بعد عشرة قرون من خلق الإنسان الأول أرسل الله الطوفان لكي يعاقب العالم، لأنه لم يجد إلاّ بارًا واحدًا فقط هو نوح[68]. وبسبب بره خلّصه مع امرأته وثلاثة من أبنائه وزوجاتهم الثلاثة[69]. وأغلق عليهم داخل الفلك مع كل الحيوانات التي أراها الله لنوح لكي تدخل معه. وعندما سقط هذا السوط المدمر على كل البشر والحيوانات التي وُجدت على الأرض، فإن بذرة الحياة حُفظت في الفلك. وبواسطة الثلاثة أبناء سام وحام ويافث، تكاثر الجنس البشري من جديد ومنهم أخذ البشر بدايتهم بعد الطوفان.
لعنة حام:
20 – أحد الثلاثة وقع تحت اللعنة بينما الاثنين الآخرين نالوا بركة بسبب أعمالهم. فالأصغر منهم المدعو حام أهان أبيه[70] وبسبب السلوك المشين تجاه أبيه أُدين لعدم تقواه واستحق اللعنة التي انتقلت إلى أحفاده، وهؤلاء كانوا يزدادون لعنة كلما انغمسوا في الخطية. وعلى العكس، فإن سام ويافث أخواه بسبب تقواهما كابنين وفيّين تجاه أبيهما أخذا بركة عظيمة. وكانت لعنة الأب نوح الموجهة إلى حام كالآتي: ” فقال ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لإخوته”[71]. فكان له أبناء وأحفاد كثيرون على الأرض، حتى أربعة عشر جيلاً في منطقتهم، حتى عاقبهم الله وأدانهم. فالكنعانيون والحثيون والفرزيون والحوريون والأموريون واليبوسيون، والجرجاسيون والسدوميون، والعرب والساكنون في فينيقية، والمصريون واللوديميون انحدروا من قبيلة حام[72]، كل هؤلاء وقعت عليهم لعنة الله التي استمرت لمدة طويلة على غير الأنقياء.
البركة لسام ويافث:
21 – وكما أن اللعنة تعاقبت على هذه الأجيال الشريرة هكذا أيضًا استمرت البركة للأحفاد المُباركين، كل واحد بدوره. سام، الأول منهم نال بركة بالكلمات الآتية: ” مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبدًا له”[73]. نتيجة هذه البركة صار سام يعبد الله سيد الكل. هذه البركة الممتدة ازدهرت حين وصلت إلى إبراهيم، الحفيد المطيع لسام في الجيل العاشر. ولذلك فإن الله أبو الجميع قَبِل أن يُدعى ” إله إبراهيم واسحق ويعقوب”[74]، لأن بركة سام امتدت واتسعت ووصلت حتى إبراهيم. بالنسبة لبركة يافث كانت هكذا: ” ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدًا لهم”[75]. وقد حقق الرب هذه البركة في نهاية الأزمنة، إذ امتدت دعوته حتى الأمم بظهور الرب حسب المكتوب: ” في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم”[76]. ليفتح الله ليافث يعني دعوة الأمم أى الكنيسة، وعبارة ” فيسكن في مساكن سام” تعني أن يسكن (الأمم) في إرث البطاركة في المسيح يسوع، ويحصلون على حقوق البكورية. هكذا كل واحد نال البركة بنفس الترتيب إذ قَبِل بواسطة أحفاده ثمار البركة[77].
العهد مع نوح:
22 – قطع الله عهدًا بعد الطوفان مع كل الكون خاصةً الحيوانات والبشر ووعد بأنه سوف لا يدمر بالطوفان كل قائم على وجه الأرض مرة أخرى، وأعطاهم علامة: ” فيكون متى أنشر سحابًا على الأرض ويظهر القوس في السحاب. أني أذكر ميثاقي الذي بينى وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد. فلا تكون أيضًا المياه طوفانًا لتهلك كل ذي جسد”[78]. ثم غيّر غذاء البشر، إذ سمح بأكل اللحم، إذ أنه منذ خلق آدم حتى الطوفان تغذي البشر فقط بالخضروات وثمار الأشجار، ولم يكن مسموحًا لهم بأكل اللحم. ولأن الأبناء الثلاثة لنوح يمثلون جذور الجنس البشري، باركهم الله قائلاً: ” وبارك الله نوحًا وبنيه وقال لهم اثمروا واكثروا واملأوا الأرض. ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء مع كل ما يدب على الأرض وكل أسماك البحر قد دُفعت إلى أيديكم. كل دابة حية تكون لكم طعامًا. كالعشب الأخضر دُفعت إليكم الجميع. غير أن لحمًا بحياته دمه لا تأكلوه. وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط. من يد كل حيوان أطلبه. ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان. من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يُسفك دمه. لأن الله على صورته عمل الإنسان”[79]. صورة الله هي الابن[80]، والذي على صورته خُلِق الإنسان. لذلك ظهر الابن في الأيام الأخيرة[81] لكى يجعل الإنسان، الذى خُلِق على صورته، مشابهًا له[82].
تكاثر الجنس البشري المنحدر من الثلاثة أبناء بعد الطوفان، وكانت الأرض لها شفاه واحدة أي لسانًا واحدًا[83].
برج بابل:
23- ارتحل البشر وابتعدوا من أرض المشرق ووصلوا إلى بقعة في أرض شنعار[84]. هناك شرعوا في بناء برج، وكان قصدهم أن يرتفعوا بواسطته حتى السماء، تاركين هكذا هذا البرج إلى الأجيال الآتية نصبًا تذكاريًا دائمًا لهم[85]. وعملوا البناء من اللبِن والحُمِر. ومما زاد تهورهم وجرأتهم أنه كان لهم فكر واحد وإرادة واحدة وساعدتهم وحدة اللغة أن يحققوا ما قصدوه. لكن الله إذ لم يَرِد أن يستمر هذا العمل، فإنه بلبل ألسنتهم[86]، بطريقة لا تُمكِّن الواحد من أن يفهم الآخر. هكذا انفصل الواحد عن الآخر وتبدَّدوا على كل وجه الأرض مرتحلين لينزلوا في أماكن مختلفة. وسكنوا في مجموعات حسب لغة كل مجموعة، ومن هنا صارت شعوب كثيرة ولغات مختلفة على الأرض. ثلاث قبائل (أجناس) من البشر سكنوا الأرض: واحدة منها حلّت عليها اللعنة، والاثنين الآخرين نالتا البركة، أعطيت البركة أولاً لسام الذي سكن أحفاده في الشرق وامتلكوا أرض الكلدانيين.
إبراهيم واسحق ويعقوب:
24 – بعد مرور سنين كثيرة، في الجيل العاشر بعد الطوفان، أراد إبراهيم أن يعلم ما سوف يعود عليه من تحقيق النبوة المعطاة إلى جده، متشوقًا لمعرفه الله الذي ينتظره. وبسبب رغبة نفسه هذه طاف كل العالم باحثًا لعله يجد الله، وعندما نَفَدت محاولات البحث، رحمه الله. إذ بينما كان يطلبه في صمت ظهر الله له معلنًا نفسه بالكلمة كشعاع نور. إذ تحدث إليه من السماء وقال:” اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك”[87]. آمن إبراهيم بصوت السماء وبالرغم من أنه كان متقدمًا في العمر إذ كان له سبعون عامًا وكان متزوجًا، خرج من بلاد ما بين النهرين مع امرأته، آخذًا معه لوط ابن أخيه المتوفى. عندما وصل إلى المكان المًسمى اليوم اليهودية والذي كانت تسكنه سبع قبائل من نسل حام، ظهر الله له وقال: ” لنسلك أعطى هذه الأرض”[88]، وأخبره بأن نسله سوف يتغرّب في بلاد غريبة، وسوف يكابد شرًا فيها، ويعاني في عذاب وعبودية أربعة قرون وأنه في الجيل الرابع سوف يعود إلى الأرض، التي وُعد بها إبراهيم. وسوف يعاقب الله الأمم التي استعبدت نسله. ولكى يجعل الله إبراهيم عارفًا بمقدار كثرة نسله، دعاه في الليل وقال له: ” انظر إلى السماء وعِد النجوم إذ استطعت أن تعدها. هكذا يكون نسلك”[89] ورأى الله أن إبراهيم لم يشك لكن آمن من كل نفسه فشهد له بواسطة الروح القدس قائلاً في الكتاب المقدس: ” فآمن بالرب فحسبه له برًا”[90]. كان (إبراهيم) غير مختون، عندما أخذ هذه الشهادة، ثم أُعطِى له الختان كختم للبر الذي حققه بالإيمان إذ كان بعد غير مختون[91]. بعد هذا فإن سارة – التي كانت عاقرًا – ولدت اسحق، بحسب وعد الله لها وقام إبراهيم فختن إسحق، حسب العهد الذي قطعه الله معه، وإسحق ولد يعقوب[92].
وهكذا البركة القديمة، المعطاة من البداية إلى سام، انتقلت من إبراهيم إلى اسحق ومن اسحق إلى يعقوب كميراث مُعطى لهم من الروح. لذا دُعى الله ” إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب”. ثم أن يعقوب ولد اثنى عشر ابنًا الذين بأسمائهم سُميت أسباط إسرائيل الاثنى عشر.
موسى والفصح والتحرر من العبودية:
25 – لقد اجتاح الجوع في كل الأرض ولم يوجد بعد طعام إلاّ في مصر فقط. عندئذٍ هاجر يعقوب مع عائلته وأتى ليسكن في مصر[93]، وكان عدد المهاجرين خمسة وسبعون. وبعد مرور أربعمائة عام وبحسب النبوة التي أعطيت من قبل[94]، أصبح عددهم ستين ألفًا وستمائة نسمة. ولأنهم كانوا مقهورين[95] من المعاملات السيئة تحت نير العبودية القاسية تنهدوا وصرخوا إلى الله، إله البطاركة إبراهيم واسحق ويعقوب، فأخرجهم الله من مصر بواسطة موسى وهارون[96]، وضرب المصريين بعشرة ضربات. وأرسل فى الضربة الأخيرة الملاك المُهلك الذي قتل كل أبكار البشر والحيوانات[97]، لكنه أنقذ أبناء إسرائيل من الهلاك، معلنًا آلام المسيح فى سرٍ[98]، إذ أمرهم أن يذبحوا حملاً بلا عيب، ويدهنوا بدمه[99] أبواب بيوتهم لينجوا من العقاب. هذا السر يُدعى “فصح”[100]، وهو سبب التحرر. وقد شق الله البحر الأحمر، وقاد أبناء إسرائيل إلى الصحراء بكل أمانة. بينما حكم بالموت غرقًا في البحر على المصريين الذين أرادوا أن يلحقوا بهم[101]. وبهذه الطريقة عاقب الله هؤلاء الذين استعبدوا أبناء إبراهيم ظلمًا.
البرية والناموس:
26 – استلم موسى الناموس من الله في الصحراء، أي الوصايا العشرة مكتوبة بإصبع الله على لوحى حجر[102]- بإصبع الله أي الروح القدس[103]- ثم بعد ذلك سُلّمت وصايا الناموس بواسطته إلى أبناء إسرائيل (ليحفظوها). وصنع موسى بأمر الله خيمة الشهادة وفق المثال الذي رآه وهى شبيهة بالأشياء الروحية وغير المنظورة التي في السموات وهى رمز لصورة الكنيسة[104] ونبوءة عن الأمور العتيدة. وتحتوى الخيمة أوانى للعبادة، والمذابح وتابوت العهد الذي وُضع داخله لوحا الشريعة. وعُيّن هارون وأولاده ككهنة وأُعطِى الكهنوت إلى السبط المنحدر من لاوى. وقد دعى هذا السبط بحسب أمر الله لكي توضع على عاتقه واجبات العبادة داخل هيكل الله، وأُعطى لهم شريعة اللاوي لكي يُظهر لهم الطريقة التي يجب أن يحيا بها الذين يقومون بخدمة الله داخل هيكل الله باستمرار[105].
تجسس الأرض، وتذمر الشعب:
27 – عندما اقترب العبرانيون إلى الأرض التي وعد الله بها إبراهيم ونسله، فإن موسى اختار واحدًا من كل سبط وأرسلهم لكى يتجسسوا الأرض والمدن والساكنين فيها. عندئذٍ كشف الله له الاسم العتيد الذي يستطيع وحده أن يخلّص المؤمنين باسمه. ثم عمل موسى كل الترتيبات، واختار هوشع بن نون ودعاه يشوع[106]. ثم بعد ذلك أرسله بكل قوة الاسم مقتنعًا بأنه بقيادة هذا الاسم سوف يرجع إليه المُرسلون سالمين. وعندما رجع المُرسلون من مهمة التجسس حاملين معهم عناقيد العنب، فإن البعض من هؤلاء الاثنى عشر[107] أرعبوا كل الجماعة قائلين لقد رأينا مدنًا عظيمةً محصنةً بأسوارٍ وسكان هذه الأرض هم أبناء عمالقة[108]، لذا من المستحيل أن نأخذ هذه الأرض. عندئذٍ بدأ كل الشعب في البكاء وفقدان الأمل في أن يعطيهم الله القوة، وأن يُخضِع الكل تحت سلطانهم. وأضافوا قائلين بأن هذه الأرض لا تستحق المخاطرة لأجل الاستيلاء عليها. لكن اثنين من الاثنى عشر، يشوع بن نون وكالب بن يفُنّة، وهما ينظران النتيجة السيئة لهذه الأقوال، مزقا ثيابهما متوسلين إلى الشعب ألاّ يفقد شجاعته، لأن الله دفع كل شئ فى أيديهم، وأن هذه الأرض فائقة الخصوبة. لكن بسبب أن الشعب لم يصدقهما وبقي في يأسه، فإن الله غيّر مسارهم وسمح بأن يتوهوا داخل الصحراء كعقاب لهم. ولأن الجواسيس قد ظلوا يتجسسون الأرض لمدة أربعين يومًا، فإنه بالمثل أتاههم أربعين سنة، إذ استبدل الله كل يوم بسنة. حيث لم يكن أحد من المتقدمين في العمر والناضجين عقليًا كان مستحقًا أن يدخل هذه الأرض بسبب عدم إيمانهم، إلاّ الاثنين اللذين شهدا بحق عن الميراث الموعود، وهما يشوع بن نون وكالب بن يفُنّة، أما الذين كانوا صغارًا بعد، فلم يكونوا يميزون بعد يمينهم من شمالهم. وهكذا فإن كل الشعب غير المؤمن انقرض وهلك ومات فى الصحراء تدريجيًا. لكن خلال فترة الأربعين عامًا نما الأطفال وكبروا حتى وصلوا إلى الحد الذي يمكنهم أن يملأوا الفراغ الناتج عن موت آبائهم.
التثنية:
28 – بعد مرور أربعون عامًا، وصل الشعب بالقرب من الأردن وعسكروا أمام أريحا. هناك جمعّهم موسى وقصّ عليهم تاريخ كل ما حدث، إذ روى لهم كل الحوادث المعجزية التي صنعها الله بينهم، وكيف قاد أولئك الذين ترعرعوا في الصحراء حتى أرشدهم إلى مخافة الله وحفظ وصاياه، مستخدمًا تجاه هذا الشريعة التى أُعطيت لهم أولاً بالإضافة إلى ما يمكن أن يُسمى شريعة ثانية. وما يسمى بسفر التثنية الذي يحتوى أيضًا على نبوات كثيرة تشير إلى ربنا يسوع المسيح، وإلى الشعب، وإلى دعوة الأمم وإلى ملكوت الله.
أرض الموعد:
29 – عندما وصل موسى إلى نهاية حياته، قال له الله ” اصعد إلى جبل… وانظر أرض كنعان التي أعطيتها لبنى إسرائيل… ومُت في الجبل الذي تصعد إليه وانضم إلى قومك…”[109]. مات موسى بحسب كلام الرب، وخلفه يشوع بن نون، الذي عبر الأردن وقاد الشعب إلى أرض الميعاد، الذى طرح ودمر واستعبد الشعوب السبعة التي كانت تسكن هناك. وهناك كانت أورشليم التي صار داود ملكًا عليها وابنه سليمان الذي بنى الهيكل لتكريم الله على مثال خيمة الشهادة، التي صنعها موسى وفق صورة الأشياء السماوية الروحية.
الأنبياء:
30 – هنا أرسل الله الأنبياء الذين بإلهام الروح القدس قادوا الشعب إلى إله الآباء، الكلى القدرة، وتنبأوا عن مجيء ربنا يسوع المسيح، ابن الله معلنين أنه سوف يأتي من نسل داود، بحسب الجسد وهكذا يكون المسيح هو ابن داود، الذى هو من خلال سلسلة من الأنساب من نسل إبراهيم، أما حسب الروح فهو ابن الله الكائن أزليًا، مولود من الآب قبل (كل الدهور) وكل الخليقة، ثم ظهر كإنسان في العالم في الأزمنة الأخيرة، فهو كلمة الله الذي يجمع في ذاته كل الأشياء ما في السماء وما على الأرض[110]
التجسد:
31 – وهكذا وَحّدَ (اللوغوس المتجسد) الإنسان مع الله وصنع شركة بين الله والإنسان. فلو لم يكن قد أتى إلينا لكان من غير الممكن أن نشترك في عدم الفساد، لأنه لو كان عدم الفساد ظل غير منظور ومخفى عن أعيننا، لما كنا قد انتفعنا بأي شئ. لذلك فإن اللوغوس بواسطة تجسده جعل عدم الفساد منظورًا حتى يمكننا بكل الطرق أن نشترك فيه[111]. ولأن الجميع اقتيدوا إلى الموت بسبب عصيان أبونا الأول، آدم، كان مناسبًا وضروريًا أن يَبُطل نير الموت بواسطة طاعة ذاك، الذي صار إنسانًا من أجلنا. وبسبب أن الموت ساد على الجسد، كان من الضرورى أن يُهزم الموت بواسطة الجسد ويَخلُّص الإنسان من سطوته. وهكذا صار الكلمة جسدًا لكى بواسطة الجسد الذى استعبدته الخطية، يُخلّصنا (المسيح) من الخطية كى لا نعود نُستعبد من الخطية. لذلك أخذ ربنا جسدًا شبيهًا بجسد أبينا الأول، لكي بجهاده – عوضًا عن أبوينا الأولين – ينتصر على ذاك الذي في آدم جرحنا جرحًا مميتًا[112].
الميلاد العذراوي:
32- لكن من أين يكون جسد أبينا الأول؟ ومن أين وُجِد؟ من إرادة وحكمة الله ومن الأرض البكر (العذراء) ” كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض وكل عشب البرية لم ينبت بعد. لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض. ولا كان إنسان ليعمل الأرض”[113]. أخذ إذن الله طينًا من الأرض، التي كانت بعد عذراء[114]، خلق الإنسان، كبداية للجنس البشري. وهكذا إذ أراد الرب أن يُعيد الإنسان، اتبع بتجسده هذا التدبير، بأن وُلِدَ من العذراء بإرادة وحكمة الله، لكي يوضح أنه أخذ جسدًا مشابهًا لجسد آدم، وليكون هو الإنسان، الذي كُتب عنه في البداية بأنه خُلِق بحسب “صورة الله ومثاله”.
33 – وكما أنه بسبب عذراء عاصية (حواء) جُرِح الإنسان وسقط ومات، هكذا أيضًا بسبب عذراء مطيعة لكلمة الله أُعيد الإنسان ثانيةً إلى الحياة (الولادة الثانية). الإنسان كان هو الخروف الضال الذي جاء الرب ليبحث عنه على الأرض. لأجل هذا أخذ جسدًا مشابهًا به البشر، مِن هذه (العذراء) التي من نسل داود. حقيقةً، كان ضروريًا أن يتجدّد آدم في المسيح لكي يُبتلع الموت من عدم الموت (الخلود)، وهكذا تصير العذراء (مريم) شفيعة لعذراء أخرى (حواء)[115] وتَمحِى عصيان العذراء الأولى بواسطة طاعتها العذراوية[116].
الموت على الصليب:
34 – الخطية التي حدثت بواسطة الشجرة[117]، أُزيلت بواسطة الطاعة على الشجرة التي صُلِب عليها ابن الإنسان، مطيعًا لله، مبطلاً بهذا معرفة الشر ومُعطيًا للبشر معرفة الخير. لأن الشر يتمثل في عصيان الله، أما الخير فهو طاعة الله. لذا يتحدث الكلمة على فم إشعياء النبى معلنًا مسبقًا الأمور العتيدة التي سوف تحدث – فالنبي هو الذي يتنبأ بالمستقبل – ولهذا فإن الكلمة يقول ” وأنا لم أعاند إلى الوراء لم أرتد، بذلت ظهرى للضاربين وخدي للناتفين وجهي لم أستر عن العار والبصق”[118]. هكذا بواسطة الموت، موت الصليب[119] وطاعته غفر العصيان الأول الذي حدث بواسطة الشجرة[120]. لأن كلمة الله كُلّى القدرة، والذي حضوره غير المنظور، هو يمتد حتى يملأ كل العالم، ويستمر تأثيره على العالم كله طوله وعرضه وعلوه وعمقه – لأنه بواسطة كلمة الله يوجد الكل تحت تأثير التدبير الخلاصي – لقد صُلب ابن الله لأجل الجميع، وطبع علامة الصليب على كل الأشياء. لأنه كان من الضروري لذاك الذي صار منظورًا أن يُظهر علامة الصليب فى كل الأشياء. وهكذا بواسطته شكله المنظور (على الصليب) يصير تأثيره محسوسًا في كل الأشياء المنظورة. لأن هو الذي ينير “الأعالي” أي السماويات، ويضبط “الأعماق” أى ما تحت الأرض، وهو يمد “الطول” العظيم من المشرق إلى المغرب، ويجمع “العرض” الهائل من الشمال حتى الجنوب، داعيًا البشر[121] المشتتين من كل الأنحاء إلى معرفة أبيه.
تحقيق الوعد المُعطى لإبراهيم
35 – المسيح هو ذاك الذي حقق الوعد المُعطى لإبراهيم من قِبَل الله، بأن نسله سيكون كنجوم السماء[122]. فإن المسيح هو الذي حقق الوعد بميلاده من العذراء التي من نسل إبراهيم، وبإظهاره للمؤمنين به “كأنوار في العالم”، وأعطى البر للأمم بالإيمان مثل إبراهيم. لأن إبراهيم ” آمن بالله فحسب له برًا”[123]. هكذا نحن تبررنا بالإيمان لأن ” البار بالإيمان يحيا”[124]. فإن الوعد أُعطى إلى إبراهيم بالإيمان وليس بواسطة الناموس. وحيث إن إبراهيم تبرّر بالإيمان “والناموس لم يُوضع للبار”، هكذا بالمثل نحن لا نتبرر بالناموس، بل بالإيمان الذى شُهِد له من الناموس والأنبياء[125]، هذا الإيمان الذي أعطاه لنا كلمة الله.
تحقيق الوعد المُعطى لداود:
36 – هكذا أيضًا حقق الوعد لداود. الله وعده بأنه سيقيم من نسله مَلِكًا أبديًا، ليس لملكه نهاية[126]. هذا الملك هو المسيح، ابن الله، الذي صار إنسانًا، إذ أنه وُلِد من العذراء التي من نسل داود[127]. إذن الوعد المُعطى قد تحقق بواسطة ثمرة رحم العذراء. الملمح الخاص والفريد لهذه الولادة يتمثل في أن الطفل يمثل ثمرة حبل خاص وفريد لامرأة وليس ثمرة مشيئة رجل أو باختلاط دم[128]، بطريقة حتى يُعلن هذا الحدث الفريد والخاص أنه حُبِل ووُلِد بواسطة العذراء، التي من بيت داود، وأنه يملك على بيت داود إلى الأبد وأن ملكه ليس له نهاية.
37 – هكذا دبّر خلاصنا بمجدٍ عظيم، وحقق الوعد المُعطى لآبائنا وأصلح العصيان القديم. إذن ابن الله صار ابن داود وابن إبراهيم وجمع الكل في ذاته، لكي يمنح لنا الحياة. كلمة الله صار جسدًا من العذراء، حتى يُبطل الموت ويُحيي البشر[129]. لأننا (قبله) كُنا مقيدين بالخطية، وكنا خطاة وخاضعين تحت سلطان الموت.
38 – هكذا، فإن الله الآب، الغنى فى الرحمة، أرسل لنا الكلمة[130] لكي يخلّصنا. فجاء في نفس المكان ونفس الوضع الذى كنا فيه، حينما فقدنا الحياة وحطم القيود. أشرق علينا بنوره، فبدّد ظلام السجن وقدَّس ميلادنا وحياتنا، وأبطل الموت، إذ حطّم القيود التي كُنا مقيدين بها. وبقيامته صار البكر بين الأموات[131]، وأقام الإنسان الساقط فى ذاته ورفّعه إلى أعالي السموات، إلى يمين مجد الآب. هكذا سبق ووعد الله بالأنبياء قائلاً: “وأقيم خيمة داود الساقطة”[132]، أي الجسد الذي من داود. هذا ما حققه ربنا يسوع المسيح متممًا خلاصنا بصورة مجيدة، إذ أقامنا بالحقيقة وخلّصنا للآب[133]. وإذا لم يقبل المرء وُلادته من عذراء، فكيف يمكن أن يقبل قيامته من بين الأموات؟ لأنه ليس بعجيب ولا غريب على الاطلاق أنه بدون أن يُولد، لا يقوم من الأموات، لأنه في هذه الحالة سيكون من المستحيل أن نتكلّم عن قيامته، طالما أنه لم يولد وبالتالي لم يمت حتى يقوم، فمَن ليست له ولادة زمنية لا يمكن أن يموت. لأن ذاك الذي لم تكن له بداية كإنسان كيف يمكن أن تصير له نهاية كإنسان؟
المسيح متقدِّم في كل شئ:
39 – إذن، فإن كان لم يُولد، فإنه لم يمت، وإن كان لم يمت، فإنه لم يقم من الأموات[134]، وإذا كان لم يقم من الأموات، فلا يكون الموت قد غُلِب[135]، ولا تكون مملكته قد أُبيدت، فإن كان الموت لم يُهزم فكيف يكون ممكنًا أن نرتفع إلى الحياة، نحن الذين من البداية قد خضعنا للموت؟ وهكذا فأولئك الذين يرفضون خلاص الإنسان ولا يؤمنون أن الله سيقيمهم من الأموات، هؤلاء يحتقرون ولادة ربنا، كلمة الله الذي تجسد لكي يُظهر لنا قيامة الجسد ولكى يكون متقدمًا في كل شئ. ففى السماء هو البكر في مشورة الآب و“الكلمة” الكامل، الذي يضبط ويحكم الكل، بينما على الأرض، هو بكر[136] العذراء، الإنسان البار، القدوس، الصالح، المُرضِى لله، الكامل في كل شئ، والذي أنقذ جميع الذين تبعوه من الهاوية، إذ هو بكر[137] بين الأموات وهو رئيس الحياة التي من الله[138].
40 – وهكذا فإن كلمة الله متقدم في كل شئ لأنه هو الإنسان الحقيقي، وهو في نفس الوقت ” عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا”[139]، وهو الذي يدعو الإنسان من جديد ليكون له شركة قوية مع الله، لكي بهذه الشركة معه ننال شركة في عدم فساده[140].
الناموس والأنبياء والرسل:
من ثمَّ فإن ذاك الذي تنبأ عنه الناموس بواسطة موسى وأنبياء الله العلى والقدير، ابن أبي الجميع، الذى به كان كل شئ، وهو الذي تحدّث مع موسى، هذا أتى إلى اليهودية، وحُبِل به بواسطة الروح القدس ووُلِد من مريم العذراء، التي هي من نسل داود وإبراهيم، هو يسوع المسيح الذي تبرّهن أنه هو الذي تنبأ عنه الأنبياء.
41 – يوحنا المعمدان[141]، السابق ومهيئ الطريق، الذي أَعدّ الشعب لقبول كلمة الحياة، شَهَد بأن الذي يستقر عليه روح الله بطريقة منظورة هو المسيح[142]. والرسل بصفتهم تلاميذ للمسيح وشهود لجميع أعماله وتعاليمه، وشهود لآلامه، وموته وقيامته وصعوده إلى السموات، هؤلاء أرسلهم المسيح إلى العالم بعد قيامته – مُعضَدين بقوة الروح القدس – لكي يدعوا الأمم، ويُظهروا للبشر طريق الحياة، ولكي يحوّلوهم من عبادة الأوثان، والزنى والشراهة والدعارة، ويطهروا نفوسهم وأجسادهم بمعمودية الماء والروح القدس[143]. لقد نقل الرسل الروح القدس إلى المؤمنين، ذلك الروح الذي أخذوه هم أنفسهم من الرب، وبهذه الطريقة أسسوا الكنائس[144].
دعوة الأمم:
كرز الرسل بالإيمان والمحبة والرجاء، وحققوا ما تنبأ به الأنبياء عن دعوة الأمم[145]. هكذا بواسطة عملهم ساهموا في ظهور رحمة الله التي تتمثل في قبول الأمم ليشتركوا في الموعد الذى أُعطى إلى البطاركة. لقد علّموا الذين قَبلوا كلمة الحق، أن يحبوا الرب ويحيوا في النقاوة والبر والصبر، وهكذا فإن الله سيمنحهم الحياة الأبدية بقيامتهم من الأموات، بفضل ذاك الذي صُلب وقام، يسوع المسيح، الذي أُعطيت له السيادة والمُلك على كل الأشياء، والسلطان على الأحياء والأموات والدينونة. لقد كرز الرسل بكلمة الحق، وعلّموا المؤمنين أن يحفظوا أجسادهم طاهرة لأجل القيامة ويحفظوا أرواحهم من كل دنس.
42 – ولكى يفلح المؤمنون في هذا، يجب أن يبقى الروح القدس[146] متحدًا بهم اتحادًا قويًا، الروح القدس، المُعطى من الله بالمعمودية، ويظل الروح في الذي يأخذه، طالما هو يحيا في الحق، والقداسة والبر والصبر[147]. لأنه بواسطة هذا الروح سوف ينال المؤمنون القيامة، عندما يتحد الجسد من جديد مع النفس بقوة الروح القدس ويدخل إلى ملكوت الله. هكذا تكون ثمرة بركة يافث، أي دعوة الأمم، المُعلنة بواسطة الكنيسة التي تُدخِلهم لكي “يسكنون في بيت سام”، وفق وعد الله.
شرح الكرازة حسب الأنبياء:
تنبأ الروح القدس بواسطة الأنبياء، أن كل هذا سوف يصير هكذا، لكى يؤكد إيمان أولئك الذين يعبدون الله بالحق. لأن كل ما هو غير ممكن إطلاقًا لطبيعتنا وهذا ما يثير عدم الإيمان بين البشر، سبق الله فتنبأ عنه بواسطة الأنبياء. ومن هذه الحقيقة: أن كل ما سبق التنبؤ عنه قبل حدوثه بأزمنة كثيرة تحقق أخيرًا، كما تنبأوا به بدقة مسبقًا، نستنتج أن الله هو الذي أعلن كل هذا مسبقًا لأجل خلاصنا.
الابن كان في البدء مع الآب:
43 – يجب أن نؤمن بالله في كل شئ لأنه صادق فى كل شئ. ويجب أن نؤمن بابن الله الذي هو كائن ليس فقط قبل زمن مجيئه إلى العالم، بل وقبل خلق العالم. فموسى، الذي هو الأول تنبأ، مُعبِّرًا باللغة العبرية قائلاً: “في البدء كان الابن، ثم خلق السماء والأرض”[148]. هذا ما يؤكده النبي قائلاً: ” قبل نجمة الصبح ولدتك واسمك قبل الشمس”[149] أى قبل خلق العالم، طالما أن النجوم خُلقت في نفس الوقت مع العالم. هذا النبي يقول: ” طوبى، للذي كان قبل أن يصير إنسانًا”[150]. فبالنسبة لله كان الابن موجودًا في البدء، فهو الذي خلق العالم، أما بالنسبة لنا فهو يُعتبر موجودًا الآن منذ اللحظة التي أُعلن فيها لنا، لأنه قبل ذلك لم يكن موجودًا بالنسبة لنا نحن الذين لم نكن نعرفه. لذلك فإن تلميذه يوحنا يخبرنا عن من هو ابن الله، الذي كان عند الله قبل خلق العالم، وأن به خُلق الكل، إذ يقول: ” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان”[151]، مظهرًا بوضوح، أن الكلمة الذى كان في البدء[152] عند الآب والذي به خُلِقت كل الأشياء، هذا هو ابنه.
إبراهيم سبق فرآه:
44 – وأيضًا يقول موسى، إن ابن الله نزل بالقرب من إبراهيم وتكلّم معه ” وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار. فرفع عينيه ونظر وإذا ثُلثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض. وقال يا سيد أن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك”[1]. وبعد ذلك تكلّم مع الرب والرب تحاور معه. اثنين من هؤلاء الأشخاص كانا ملاكين، لكن واحد كان ابن الله[2]، الذي تحدّث معه إبراهيم وهو يتوسط بأن لا يُدمر سكان سدوم، لو وجد فيها حتى عشرة أبرار على الأقل. وبينما هما يتحدثان، انتقل الملاكان إلى سدوم حيث قبلهما لوط، ثم بعد ذلك يضيف الكتاب: ” فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء”[3]، أي أن الابن[4]، الذي تحدّث مع إبراهيم، وهو “الرب” أخذ سلطانًا أن يعاقب سكان سدوم وعمورة من رب السماء، الآب الذي هو سيد الكل. هكذا، كان إبراهيم نبيًا، ورأى[5] تلك الأمور التي سوف تحدث في المستقبل، أي أن ابن الله سيأتي في الشكل البشري وأنه سوف يتحدّث مع البشر[6]، ويأكل معهم، وبعد ذلك يجلس ديّانًا لهم، هذا هو الذي أخذ من الآب ورب الكل سلطانًا ليعاقب سكان سدوم وعمورة.
يعقوب سبق فرآه:
45- كذلك يعقوب وهو ذاهب إلى ما بين النهرين رآه في حلم واقفًا على سُلّم[7]، وكان السلم منتصبًا من الأرض إلى السماء، الذى هو كمثال الصليب. إذ يصعد المؤمنون به إلى السماء، حيث إن آلام ربنا هي بمثابة طريق صعودنا إلى فوق. كما أن الرؤى المتعددة تشير إلى ابن الله وهو يتحدّث مع البشر ويحيا بينهم. لأن الآب الذي لم يره أحد من العالم وخالق الكون ليس هو الذي قال: ” السموات كرسي والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنون لى وأين مكان راحتى”[8]. والذي ” كال بكفه المياه وقاس السموات بالشبر وكال بالكيل تراب الأرض ووزن الجبال بالقبان والآكام بالميزان”[9]. وليس هو الذي نزل إلى ذلك الركن من الأرض لكى يتحدّث مع إبراهيم، بل إن كلمة الله، هو الذي كان دائمًا مع جنس البشرى، قد أعلن مسبقًا ما سوف يحدث في المستقبل وعلَّم البشر أمور الله[10].
الابن تحدّث مع موسى:
46 – هكذا تحدث في العليقة المشتعلة[11] مع موسى قائلاً: ” إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخرينهم. إني علمت أوجاعهم”[12]. هذا هو الذي صعد ونزل لخلاص الحزانى (المتألمين)، لكى ينقذنا من استعباد المصريين، أى من كل عبادة للأوثان ومن كل فجور، لكى ينقذنا من البحر الأحمر، أى لكى يحفظنا من معارك الأمم الدامية، ومن عثرة تجديفاتهم المرّة. هكذا أتى كلمة الله[13] لكى يعايش ظروفنا، وأظهر لنا مسبقًا ما سوف يحدث في المستقبل، وهو نفسه الآن قد حرَّرنا من عبودية الأمم القاسية وفجَّر ماء بوفرة من الصخرة فى الصحراء، والصخرة كانت هو نفسه (المسيح)[14]. وأعطانا أيضًا اثنى عشر ينبوعًا، أي تعليم الرسل الاثني عشر. فالذين لم يؤمنوا به قد ماتوا في الصحراء، أما الذين آمنوا، وكانوا أطفالاً في الشر، هؤلاء صاروا مقبولين في ميراث الآباء. هذا الميراث الذي أعطاه لنا يسوع – وليس موسى هو الذي حرَّرنا من عماليق – ببسط ذراعيه على الصليب، وهو أيضًا الذي يقودنا إلى ملكوت أبيه[15].
الآب والابن كلاهما ربٌ وإله:
47 – فالآب إذًا رب والابن رب، الآب إله والابن هو إله، لأن الذي يُولد من إله هو إله[16]. هكذا إذن فبحسب كيانه وقوته وجوهره هو إله واحد. ولكن بحسب تدبير خلاصنا يوجد آب واحد وابن واحد. وحيث إن أبا الجميع هو غير منظور وغير مدرك من المخلوقات، فمن الضروري على من يريدون أن يقتربوا إلى الله أن ينالوا نعمة القدوم إلى الآب بالابن[17].
الابن هو الله:
ويتحدّث داود بوضوح عن الآب والابن فيقول: ” كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الاثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك”[18]. طالما أن الابن هو إله بالحقيقة فهو يأخذ عرش الملكوت الأبدي من الآب أي من الله ويُمسح بدهن الابتهاج أكثر من رفقائه. “ودهن الابتهاج” أو زيت المسحة هو الروح الذي مُسح به، ورفقائه هم الأنبياء، والأبرار والرسل وجميع الذين ينالون شركة في ملكوته، أي تلاميذه.
الابن هو الرب:
48 – ويقول داود أيضًا: ” قال الرب لربي[19] اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك. يرسل الرب قضيب عزك من صهيون. تسلط في وسط أعدائك. شعبك منتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك. أقسم الرب ولن يندم. أنت كاهن إلى الأبد على رُتبة ملكى صادق. الرب عن يمينك يُحطم في يوم رجزه ملوكًا. يدين بين الأمم. ملأ جثثًا أرضًا واسعة سحق رؤوسها. من النهر يشرب في الطريق لذلك يرفع الرأس”[20]. بهذه الكلمات يتضح تمامًا أن المسيح كائن قبل الكل، وأنه يسود على الأمم وأنه يدين كل البشر والملوك الذين يضطهدون اسمه الآن، لأن هؤلاء هم أعدائه، وإذ يدعوه كاهن الله الأبدي، فهذا إعلان بأنه الحي الذي لا يموت. وعندما يقول: “من النهر يشرب في الطريق لذلك يرفع رأسه” فهو يشير إلى تمجيد ناسوته وصعوده بعد المهانة والذل.
المسيح هو الابن والملك:
49 – إشعياء النبي يقول: ” هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا”[21]، وأما كيف أن المسيح يُدعى ابن الله وملك الشعوب (الأمم)، أي ملك كل البشر، وأنه يُسمى – كما أنه هو فعلاً وبالحق – ابن الله وملك الأمم فهذا ما يتكلم عنه داود هكذا: ” الرب قال لي أنت ابني أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا وأقاصي الأرض مُلكًا لك”[22]. هذه الأقوال لم تُوجه لداود، لأنه لم يملك على الأمم وعلى أقاصي الأرض، بل على اليهود فقط. إذن من الواضح أن الوعد المُعطى “للممسوح” بأن يملك حتى أقاصي الأرض إنما هو لابن الله الذي يعترف به داود نفسه قائلاً: ” قال الرب لربي اجلس عن يميني…”. فهو يقول إن الآب يتحدث مع الابن، كما رأينا ذلك سابقًا في إشعياء، الذي تكلّم هكذا قائلاً: “هكذا يقول الرب لمسيحه… الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا”. إن النبوءتين تتحدّثان عن نفس الوعد بأنه يكون ملكًا، وبالتالى فكلام الله مُوجه إلى شخص واحد بعينه، أى إلى المسيح ابن الله. وعندما يقول داود: ” قال الرب لربي”، فيلزم أن نعترف بأنه لا داود ولا غيره من الأنبياء، يتحدّث عن ذاته. لأن الإنسان لا ينطق بالنبوات، إنما روح الله، يتكلّم في الأنبياء بكلمات تخص أحيانًا المسيح وأحيانًا أخرى الآب[23].
عبد الرب مجبول من البطن:
50 – وهكذا فإن المسيح يقول بطريقة ملائمة جدًا بواسطة فم داود، إن الآب يتحدّث معه، ويكرز أيضًا بحقائق عن نفسه بواسطة الأنبياء. وهذا ما نقرأه على سبيل المثال في إشعياء: ” والآن قال الرب جابلي من البطن عبدًا له لإرجاع يعقوب إليه فينضم إليه إسرائيل فأتمجد في عينى الرب، وإلهي يصير قوتي. فقال قليل أن تكون لى عبدًا لإقامة أسباط يعقوب ورد محفوظى إسرائيل. فقد جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض”[24].
51 – إن الوجود الأزلي للابن يُستنتج من حقيقة أن الآب يتحدث معه وبهذا أُعلن عنه للبشر قبل ولادته. ثم بعد ذلك نستنتج أنه لابد له أن يولد إنسانًا بين الناس، طالما أنه سوف ينحدر من البشر[25] والله نفسه سيجبله من البطن، أي أنه سيُولد من العذراء بروح الله، وأنه سيكون رب جميع الناس ومخلّص المؤمنين به، اليهود والأمم. لأن الشعب اليهودى في اللغة العبرية يُدعى إسرائيل نسبة ليعقوب أب الآباء الذي كان هو أول من دُعى إسرائيل[26]، أما كل البشر فيدعوهم “الأمم”. وقد دُعى الابن “خادم” الآب، بسبب طاعته للآب، فهذا هو نفس ما يحدث بين البشر، أن كل ابن هو خادم لأبيه.
52 – فَلنَر بعد ذلك ما تشهد به الكتب: أن المسيح الكلمة ابن الله الكائن أزليًا عند الآب، والذي لا يزال كائنًا عند الآب؛ قد ظهر بين البشر وكوَّن علاقة معهم، وهو ملك الكون كله، حيث إن الآب أخضع الكل تحت سلطانه وأنه هو مخلّص الذين يؤمنون به. كما أنه من الصعب أن نُحصى كل نصوص الكتاب المقدس التي تشير إلى هذا الموضوع، وهي كلها متشابهة، فينبغي عليك أن تؤمن بالمسيح وتطلب من الله فهمًا وحكمةً لكى تفهم ما قيل بواسطة الأنبياء.
53 – المسيح الذي هو كلمة الله والذي كان عند الله، كان مزمعًا أن يتجسد، ويصير إنسانًا ويخضع لظروف الولادة البشرية، وأن يُولد من عذراء وأن يحيا وسط الناس[27]، وقد دبّر أبو الكل تجسده. إذ تنبأ إشعياء قائلاً: ” ويعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل، زبدًا وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير”[28]. وهو يؤكد أنه سيُولد من عذراء، لأن قوله “يأكل” يشير إلى أنه سوف يكون إنسانًا حقيقيًا، وأيضًا بأنه سوف يأتي طفلاً[29] ويُعطى له اسم لأن هذه هي العادة بالنسبة للأطفال. وسيحمل اسمًا مزدوجًا، “فالمسيا” فى اللغة العبرية معناها المسيح، أما “يسوع” فمعناها المخلّص، والاثنان يُستخدمان في التعبير عن الأعمال التي سوف يتممها. لقد دُعى مسيحًا؛ لأن الآب مسح (قدَّس) به الكل ولأنه في تأنسه قد مَسحه روح الله أبيه، كما يقول هو نفسه في موضع آخر على فم إشعياء ” روح الرب علىَّ لأنه مَسحنى لأبشر المساكين”[30]. وقد دُعي مخلّص لأنه سبب خلاص لأولئك الذين حرَّرهم هو نفسه في تلك الأزمنة من كل أنواع الأمراض ومن الموت، كما أنه هو مُعطِى الخيرات العتيدة والخلاص الأبدي لأولئك الذين آمنوا به بعد ذلك.
54 – إذن فلأجل هذا دُعى مخلّص. أما بالنسبة لكلمة عمانوئيل فهي تعني: الله معنا، وإذا قيلت من النبى فهى تأتى في صيغة التمنى أى: فليكن الله معنا! وفي هذه الحالة تكون شرحًا وإعلانًا للوعد الإلهي ” ها العذراء تحبل وتلد ابنًا”، ولأنه هو الله فسيكون الله معنا. وأمام هذا الحدث يتنبأ النبى بدهشة كاملة، بأن الله سيكون معنا. ويشير النبي نفسه في مكان آخر إلى الميلاد بقوله: ” قبل أن يأخذها الطلق ولدت، قبل أن يأتي عليها المخاض ولدت ذكرًا”[31]. وبهذه الطريقة، فهو يشير إلى الولادة العجيبة الفائقة الوصف من العذراء.
”يُولد لنا ولد”:
نفس النبى يقول أيضًا: ” لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا”[32].
55 – فهو يدعوه ” عجيبًا مشيرًا” للآب، لأنه بمشورته وبه خلق الآب كل شئ، كما هو مكتوب في سفر موسى الذي يُدعى التكوين: ” نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا”[33]. هنا يبدو أن الآب يتحدث مع الابن الذي هو ” المشير العجيب” للآب[34]. لكن في نفس الوقت هو مشيرنا الخاص لأنه يظل معنا، ينصحنا بدون أن يجبرنا[35] بسلطانه (كإله)، بالرغم من أنه “إله قدير”. فهو ينصحنا بأن نتخلى عن ظلام الجهل ونقبل نور المعرفة، وأن نبتعد عن الضلال ونأتي إلى الحق، وأن نطرح الفساد ونكتسب عدم الفساد[36].
56 – ويقول إشعياء أيضًا: ” لأن كل سلاح المُتسلح في الوغى وكل رداء مُدحرج في الدماء يكون للحريق مأكلاً للنار. لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمًا عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام. لنمو رئاسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد”[37]. من هذه الأقوال يتضح أن ابن الله سوف يُولد (كإنسان) وسوف يُدعى ملكًا أبديًا. أما تعبير “يكون للحريق مأكلاً للنار” فيشير إلى أولئك الذين لم يؤمنوا به وفعلوا ضده ما فعلوه. هؤلاء سوف يصرخون في يوم الدينونة: ” كان الأفضل لنا أن نكون مأكلاً للنار قبل ميلاد ابن الله، عن أن نكون غير مؤمنين به”، لأنه يوجد رجاء للذين ماتوا قبل مجىء المسيح أن ينالوا الخلاص وذلك بعد قيامتهم أى في الدينونة. وينطبق ذلك على الذين كانوا يخافون الله وقد ماتوا في البر وكان عندهم روح الله فى داخلهم مثل البطاركة والأنبياء والأبرار. أما أولئك الذين لم يؤمنوا بالمسيح بعد مجيئه فإن عقابهم في يوم الدينونة سيكون بلا رحمة.
أن تعبير ” وتكون الرياسة على كتفه” يشير رمزيًا إلى الصليب الذي سُمِرت عليه يداه. فالصليب الذي كان له عارًا وبسببه كان عارًا لنا أيضًا، هذا الصليب نفسه يشهد لرياسته، وهو راية مملكته. وأنه كان بالنسبة للآب هو: ” ملاك المشورة العظمى”، كما يقول النبي، وهو الذي أعلن لنا الآب.
57 – أما كون ابن الله سوف يُولد والطريقة التى بها سوف يُولد وعن ظهوره كمسيح، فهذا ما تحدث عنه الأنبياء الذين تنبأوا عنه، فأخبروا عن ولادته، وعن العائلة التي سيولد منها.
رئيس من يهوذا:
فموسى يتحدّث في سفر التكوين قائلاً: ” لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتى شيلون وله يكون خضوع شعوب. رابطًا بالكرمة جحشه وبالجفنة ابن أتانه غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه”[38]. يهوذا جد اليهود كان ابن ليعقوب، ومنه أخذ اليهود التسمية[39]. ولم يحدث في أية فترة أنهم كانوا بدون رئيس أو قائد حتى مجىء المسيح[40]. لكن بعد مجىء المسيح فإن رجال حرب مقتدرون احتلوا بلادهم بالسلاح، وخضعت أرض اليهود للرومان، ولم يعد لديهم كأمة رئيس ولا ملك. لأنه أتى ذاك الذي له الملكوت في السموات، ذاك الذي غسل ” في الخمر لباسه وبدم العنب ثوبه”. اللباس والثوب هما هؤلاء الذين آمنوا به والذين غسلهم، عندما خلّصنا بدمه. الذى هو “دم عنب”[41] لأنه، كما أن دم العنب لا يصير بواسطة إنسان، لكن من الله الذي صنعه وهو يُفرِّح مَنْ يشربه، بنفس الطريقة فإن جسد المسيح ودمه ليسا من صنع إنسان، بل من الله.
الرب نفسه أعطى نبوة عن ميلاده العذري (نبوة إشعياء 11:7-14)، أي أن هذا هو الذي وُلد من العذراء، عمانوئيل الذي أبهج هؤلاء الذين يشربون منه، أى يأخذون روحه، وبذلك ينالون الفرح الأبدي. لذلك فهو يُمثل مشتهى الأمم، للذين يأملون فيه وينتظروا تأسيس ملكوته.
كوكب من يعقوب:
58 – ويقول موسى أيضًا: ” يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل”[42]. هذا يعلن بوضوح أن تدبير ميلاده بحسب الجسد سيكون بين اليهود، وأن ذاك الذي سوف يولد من بيت يعقوب ويهوذا، سوف ينزل من السماء، هو الذي سيُتمم هذا التدبير. فقد ظهر “نجم” في السماء. و”قضيب” تعني “ملك”[43] إذ هو ملك جميع المخلَّصين. وعند ميلاده ظهر النجم للمجوس الذين جاءوا من المشرق. وبظهور النجم عرفوا أن المسيح قد وُلِد، فأتوا إلى اليهودية منقادين بواسطة هذا النجم، إلى أن وصل إلى بيت لحم، حيث وُلِد المسيح. وعندما أتوا إلى البيت حيث كان الطفل مُقمطًا، توقف النجم فوق رأسه لكي يعلن للمجوس أن هذا الطفل المولود هو المسيح ابن الله[44].
قضيب من جذع يسى:
59 – يعبّر إشعياء عن هذا قائلاً: ” ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله. ويحل عليه روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب. ولذته تكون في مخافة الرب فلا يقضى بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع اذنيه. بل يقضى بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائس الأرض ويضرب الأرض بقضيب فمه ويُميت المنافق بنفخة شفتيه. ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه. فيسكن الذئب مع الخروف. ويربض النمر مع الجدى، والعجل والشبل والمسمّن معًا ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان فلا يؤذيه… ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم ليسود على الأمم، وعليه يكون رجاء الأمم، ويكون قيامه مجدًا”[45]. يتنبأ إشعياء بواسطة هذه الأقوال، إن المسيح سوف يُولد من العذراء التي هي من بيت داود وإبراهيم. لأن يسى كان من نسل إبراهيم وهو أبو داود. والعذراء التي حملت بالمسيح أتت من نفس العائلة. إذن هو المُشار إليه بـ”القضيب”. لذلك يستخدم موسى “العصا أو القضيب” لكي يصنع المعجزات أمام فرعون. والعصا في الشعوب الأخرى هي علامة السيادة. أما كونها قد أنبتت كقول إشعياء فهذا يشير إلى جسد المسيح الذي “نبت” بواسطة فعل الروح القدس كما قُلنا سابقًا.
60 – الكلمات ” فلا يقضى بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه. بل يقضى بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائس الأرض” تُظهر بالأكثر ألوهيته. لأن برّ الله وحده هو الذى يحكم بالعدل، بدون تمييز للأشخاص وبدون محاباة للأشراف (العظماء)، ويعطى العدل للفقراء بالتساوي وبالحق وفق أوامر العلي وعدله الإلهي. لأن الله لا يخضع لأي تأثير ولا يعمل سوى عدل وحق. والرحمة هي أيضًا تليق بالله نفسه الذي في صلاحه يريد أن يقدِّم الخلاص. وتعبير ” بل يقضي بالعدل للمساكين… ويُميت المنافق بنفخة شفتيه”[46]. يشير أيضًا إلى الله الذي خلق الكل بكلمة. ويقول: “ويكون البر منطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه” فهو يشير إلى الشكل البشري للمسيح، وإلى بره الحقيقي والفائق.
عندما يملك على الجميع:
61 – كل ما يؤمن به الشيوخ (الحاملون التقليد الرسولي)[47] عن سيادة الوفاق والوحدة والسلام بين الحيوانات المعادية بعضها لبعض بحسب طبيعتها سيتحقق عند مجىء المسيح عندما يملك على الجميع. ويستخدم النبي صورًا رمزية لكي يُعلّم بأن جموع البشر من مختلف الأمم بالرغم من اختلاف عاداتهم سوف يعيشون في سلام ووفاق باسم المسيح. فقد شبّه الأبرار بالأبقار والحملان والجداء مع صغارها حيث لا أحد يؤذي الآخر، بينما الرجال والنساء فى العصور السابقة قد تشبّهوا بالحيوانات المتوحشة بسبب شهواتهم، حتى أنهم مثل الذئاب والأسود يفتكون بالضعفاء ويجرّون ويشعلون بينهم معارك عنيفة. وهذا سوف يحدث بالنسبة للنساء اللاتي هن أخطر من الدروع والمركبات، إذ هنّ قادرات أن يسكبن سُمًا مُميتًا على من يحبون ويميتونهم بسبب الغيرة. أما الناس المجتمعون في مكان واحد باسم الرب، سوف يكتسبون بواسطة نعمة الله سلوكًا مستقيمًا وسيقتلعون من ذواتهم النزعات الوحشية الطبيعية. وهذا قد حدث بالفعل لأن كل الذين كانوا سابقًا أشرارًا جدًا، حتى أنهم كانوا يفعلون كل شر عندما تعلّموا عن المسيح آمنوا به تغيّروا، حتى أنهم يتممون كل بر. ما أعظم التغيير الذي يعمل في المؤمنين بواسطة الإيمان بيسوع المسيح ابن الله!. ويضيف النبي، أن المسيح عندما يقوم سوف يسود على الأمم، لذلك كان يجب أن يموت ويقوم لكي يعترف الجميع ويؤمنون بأنه هو ابن الله والملك. كذلك يقول النبي بعد ذلك: “ويكون قيامه كرامه”، أي المجد، لأنه عندما قام مُجد كإله.
خيمة داود:
62 – وأيضًا يقول نبي آخر: ” وفي ذلك اليوم أقيم خيمة داود الساقطة”[48]، أي جسد المسيح، المنحدر من داود، كما قلنا سابقًا، أن المسيح بعد موته سيقوم من الأموات، لأن الجسد يُدعى خيمة. كل شهادات الكتاب تتنبأ بأن المسيح الذي أتى من نسل داود بحسب الجسد، سيدعى ابن الله، وأنه بعد موته سوف يقوم، وأنه فى الشكل سيكون إنسانًا[49] ولكنه هو الله ذو القدرة، وأنه هو نفسه سوف يدين العالم كله، كما كان هو وحده صانع البر والخلاص.
بيت لحم اليهودية:
63 – وقد تنبأ النبى ميخا أن المسيح سيولد في بيت لحم اليهودية، قائلاً: ” وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا لست الصغرى بين رئاسات يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل”[50]. ولأن بيت لحم هي مدينة داود، فهذا برهان على أن المسيح هو ابن داود، ليس فقط لأنه وُلد من العذراء لكن لأنه وُلد في بيت لحم، مدينة داود.
ثمرة بطن ” داود ”:
64 – وداود تنبأ بأن المسيح سوف يُولد من نسله، هكذا: ” من أجل داود عبدك لا ترد وجه مسيحك. أقسم الرب لداود بالحق لا يرجع عنه. من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك إن حفظ بنوك عهدي وشهاداتي التي أعلّمهم إياها فبنوهم إلى الأبد يجلسون على كرسيك”[51]. لكن ولا واحد من أولاد داود مَلَك مُلكًا أبديًا، ولا كانت إلى الأبد مملكتهم لأنها قد تلاشت. ولكن المسيح وحده، المنحدر من نسل داود هو الملك الأبدي. كل هذه الشواهد تُظهر مرارًا وبوضوح نسل ابن داود بحسب الجسد وتظهر المكان الذى سيُولد فيه. فلا ينبغي البحث عن مجيء ابن الله بين الأمم أو في أي مكان آخر، إلاّ في بيت لحم اليهودية، ومن نسل إبراهيم وداود.
65 – ويصف إشعياء دخوله إلى أورشليم، عاصمة اليهودية ومركز رؤسائها والتى يوجد فيها هيكل الله قائلاً: ” قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك آتِ وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان”[52]. فهو قد دخل إلى أورشليم راكبًا على جحش ابن أتان وفرش له الجموع ثيابهم. وقد دعا النبي أورشليم “ابنة صهيون”.
66 – إذن، فطريقة ولادة ابن الله، ومكان ولادته وأنه هو المسيح الملك الأبدي – كل هذا قد تنبأ عنه الأنبياء. كما قالوا أيضًا، إن ابن الله سوف يشفى المرضى وحقًا قد شفاهم، إنه سيكون مكروهًا ومهانًا وسيُعذب، وسيُصلب ويموت، وبالفعل صار مكروهًا ومُحتقرًا وحُكِم عليه بالموت[53].
معجزات المسيح وآلامه وتمجيده:
67 – دعونا نتحدّث عن معجزات شفائه. فإشعياء يقول: ” هو أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا”[54] أى سيأخذ عنا خطايانا وسيحملها في ذاته. عادةً ما يتحدّث روح الله على فم الأنبياء عن الأمور العتيدة كأنها قد حدثت بالفعل. لأن الله يضع الخطة في ذهنه وقد اتخذ قرارًا للتنفيذ، ولكن الكتاب يذكرها على أنها حدثت بالفعل، والروح القدس وكأنه يرى زمن التحقيق، يستخدم كلمات إعلانية، بأن النبوة قد تحققت بالفعل. بالنسبة لمعجزات الشفاء يقول: ” ويسمع في ذلك اليوم الصُم أقوال السفر وتنظر من القتام والظلمة عيون العُمى”[55]. وأيضًا يقول: ” شددوا الأيادي المسترخية والرُكب المرتعشة ثبتوها. قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا هوذا إلهكم. الانتقام يأتى. جزاء الله. هو يأتي ويخلّصكم. حينئذٍ تتفتح عيون العمى وآذان الصُم تتفتح. حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيل ويترنم لسان الأخرس”[56]، وعن الموتى يقول: ” تحيا أمواتك، تقوم الجثث، استيقظوا ترنموا يا سكان التراب”[57]. فالذي يعمل كل هذه الأمور يستحق أن نؤمن به أنه ابن الله[58].
68- وإشعياء يتنبأ بأنه سيُهان ثم يموت إذ يقول: ” هوذا عَبدي يَعقِلُ يتعالى وَيَرتَقي ويتسامَى جِداً. كَمَا اندَهش منكَ كَثِيرُون. كَان منظَره كَذَا مُفسدًا أكثَرَ مِن الرَّجُلِ وَصُورَته أكثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ. هَكذَا يَنضِحُ أُمَمًا كَثِيرِينَ. مِنْ أَجلِهِ يَسُدُّ ملوكٌ أَفوَاهَهُم لأنهم قَد أَبصَروا مَا لَم يُخْبَُوا بِهِ وَمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ فَهِمُوهُ مَنْ صَدَّقَ خَبَرنا وَلِمَن استُعلِنَت ذِرَاعُ الربِّ؟. نَبَت قُدامَهُ كَفرخٍ وَكعِرقٍ مِنْ أَرضٍ يَابِسَةٍ لا صُورَة لهُ ولا جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِليه وَلاَ منظَرَ فَنَشتَهيه. محتَقَرٌ وَمَخذُولٌ مِنَ الناسِ رَجلُ أَوجَاعٍ وَمُختَبِرُ الحُزنِ وَكَمُستَّرٍ عَنهُ وُجُوهنَا مُحتَقرٌ فَلَم نَعتد به. لكن أَحزاننا حَمَلَهَا أوجاعنا تحمّلها. ونحنُ حسبنَاه مُصَابًا مَضروبًا مِنَ اللهِ ومذلولاً. وهو مَجروحٌ لأجل معاصينا مَسحوقٌ لأجل آثامنا. تَأدِيبُ سَلاَمِنَا عليه وبحُبُرهِ شُفِينَا”[59].
نرى هنا أن المسيح خضع للآلام التي سبق وقال عنها داود: ” كنت مصابًا اليوم كله”[60]، ليس داود بل المسيح هو ذاك الذي خضع للعذابات، عندما صدر الأمر بالصلب. وأيضًا يقول الله على فم إشعياء: ” بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين وجهي لم أستر عن العار والبصق”[61]. وهذا يقوله النبي إرميا ” يعطى خده لضاربه، يشبع عارًا”[62]. وقد تحمَّل المسيح كل هذا.
69 – ويقول إشعياء: ” وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا”[63]. إذن من الواضح أنه بمشيئة الآب حدث هذا لأجل خلاصنا ” ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه”[64]. هنا يكرر بأنه خضع طوعًا للموت.
الدينونة:
كلمات النبي ” من الضُغطة ومن الدينونة أُخذ”[65] تعلن مدى تعرضه للإهانة ولأنه أخلى نفسه فقد قَبِلَ الدينونة. لقد صارت الدينونة مقبولة إذ أنها للبعض صارت للخلاص وللبعض الآخر صارت عذابًا للهلاك. وهكذا تظل الدينونة عقابًا للبعض ، بينما البعض الآخر تكون للخلاص. فالذين صلبوه جلبوا الدينونة على أنفسهم، وفعلوا هذا، لأنهم لم يؤمنوا به. لذلك بسبب هذه الدينونة هلكوا في العذاب، بينما كل الذين آمنوا رُفعت عنهم الدينونة ولم يخضعوا لها. الدينونة التي ستصير بالنار سوف تجلب هلاكًا لغير المؤمنين في نهاية هذا العالم.
70 – إذا كان النبي يقول: ” وفي جيله مَنْ كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي”[66]، فإنه يقول هذا من خوفه أننا بسبب آلامه نكون شهود أحقاد ونعتبره نحن إنسانًا محتقرًا ومرذولاً. إن ذاك الذي عانى كل هذا له أصل ونسب لا يُوصف، أي أصله الذي هو أبوه، والذى لا يُوصف ولا يمكن التعبير عنه. اعرف إذن أن ذاك الذى خضع لهذه الآلام يمكن أن يسترد مجده الإلهي، فلا تحتقره بسبب العذابات التي تحملها لأجلنا، بالحرى فلنوقره ونكرّمه لأنه إله حقيقي بحسب طبيعته.
71 – يقول إرميا في سياق آخر: ” نفس أنوفنا مسيح الرب أُخذ في حُفرهم الذي قلنا عنه في ظله، نعيش بين الأمم”[67]. والكتاب يشهد بأن المسيح إذ هو روح (الله روح) سوف يصير إنسانًا متألمًا، وأيضًا إذ تعجب النبى لآلامه وللعذابات الكثيرة التي سيعانيه – شهد له قائلاً إننا سنحيا تحت ظله. فهو يدعو جسده “ظل”، لأنه كما أن الظِلّ يأتي من الجسد هكذا جسد المسيح يأتى من روحه. والظِلّ أيضًا يشير إلى التواضع وإلى تعرض جسده للاحتقار: لأنه كما أن ظِلّ الجسد المنتصب يكون على الأرض ويُداس تحت الأقدام، هكذا جسد المسيح، سقط على الأرض وقت آلامه وداسته الأقدام. وأيضًا ربما دعا النبى جسد المسيح “ظلاً” وكأنه كان يخفى مجد الروح ويغطيه. وأيضًا مرات كثيرة كانوا يوضعون المرضى على الطريق حيث يمر الرب والذين سقط ظله عليهم نالوا الشفاء[68].
72 – يقول النبي بخصوص آلام المسيح : ” باد الصديق وليس أحد يضع ذلك في قلبه ورجال الإحسان يُضمون وليس من يفطن بأنه من وجه الشر يُضم الصديق. دفنه يكون سلامًا. يستريحون في مضاجعهم. السالك بالاستقامة”[69]. مَنْ هو الصديق البار والكامل إلاّ ابن الله الذي يقود إلى البر التام. وأولئك الذين يؤمنون به والذين يُضطهدون ويموتون مثله. عبارة “دفنه يكون”[70] يشير إلى الكرازة بموته لأجل خلاصنا. ” سلامًا ” تعني “خلاصنا”. حقًا، بواسطة موته، كل مَنْ كانوا قبلاً أعداء بعضهم لبعض، فإنهم بإيمانهم به يحيون في سلام فيما بينهم، فالإيمان المشترك به يجعلهم أصدقاء. أما قوله “رُفع من الوسط” أي أنه يعلن قيامته من بين الأموات، لأنه بعد قبره لم يره أحد ميتًا.
”حياة سألك”:
كان لابد أن يقوم ويظل عديم الموت، هذا ما يعبّر عنه النبي قائلاً: ” حياة سألك فأعطيته. طول الأيام إلى الدهر والأبد”[71]. فلماذا يقول ” حياة سألك” مادام مزمعًا أن يموت؟ إذن فالنبى يتكلّم هنا عن أنه سيقوم من الأموات وسيظل عديم الموت لأنه أُعطى حياة حتى يقوم، ” وطول الأيام إلى الدهر” لأنه سيكون في عدم فناء.
” اضجعت ونمت، ثم استيقظت ”:
73 – وداود يتحدّث عن موت وقيامة المسيح هكذا: ” أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت لأن الرب عضدني”[72]. وداود لم يقل هذا عن نفسه، فهو لم يقم بعد موته، لكن روح المسيح – كما تحدث بواسطة الأنبياء الآخرين – يتحدّث الآن أيضًا عن المسيح بواسطة داود: ” أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت لأن الرب عضدني”، هو يدعو الموت “نومًا” لأنه قام.
74 – ويقول داود أيضًا عن آلام المسيح: ” لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب في الباطل. قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه”[73]. تحققت هذه النبوءة إذ أن هيرودس ملك اليهود وبيلاطس البنطي وكيل الإمبراطور الروماني قد اتفقا على الحكم عليه بالصلب.
إذ أن هيرودس خاف أن يصير المسيح ملكًا على الأرض فيأخذ منه عرشه. وأيضًا بيلاطس، فبتحريض من هيرودس واليهود المحيطين به، قد أُجبِر بالإكراه على تسليم المسيح للموت، على أساس أنه لو لم يفعل هذا لاعتبُرَ عدوًا لقيصر بتبرأته إنسانًا نصّبَ نفسه ملكًا.
رُفضت ورذلت:
75 – ويقول النبي أيضًا عن آلام المسيح: ” لكنك رفضت ورذلت. غضبت على مسيحك. نقضت عهد عبدك، طرحت مقدسه في التراب، هدمت كل جدرانه، جعلت حصونه خرابًا. أخذه كل عابرى الطريق. صار عارًا عند جيرانه. رفعت يمين مضايقيه فرحت جميع أعدائه. أيضًا رددت حد سيفه ولم تنصره في القتال. أبعدته عن النقاوة، وألقيت عرشه إلى الأرض. قصرت أيام شبابه غطيته بالخزي”[74]. فالنبى يعلن بوضوح أن المسيح سيتحمل هذه الآلام وأنها ستكون بحسب مشيئة أبيه، فبالحقيقة أن كل ما تحمله إنما قد تحمَّله بمشيئة الآب.
” اضرب الراعي”:
76 – تنبأ زكريا: ” استيقظ يا سيف على راعىّ وعلى رجل رفقتي يقول رب الجنود اضرب الراعي فتتشتت الغنم”[75]، وقد تحقق هذا عندما قُبض على المسيح بواسطة اليهود، فقد تركه تلاميذه، لخوفهم من الموت، فإيمانهم لم يكن قد تثبّت بعد إلى أن رأوه قائمًا من بين الأموات.
” أحضروه مقيدًا”:
77 – ويقول في الأنبياء الاثني عشر: ” وأحضروه مقيدًا كهدية للملك”[76]. فقد كان بيلاطس هو والى اليهودية وكان يكن عداوة لهيرودس ملك اليهودية، فلما أحضروا يسوع مقيدًا أمامه، أرسله إلى محكمة هيرودس بقصد استجوابه لكي يحققوا فيمَنْ يكون هو. وهذه كانت فرصة مناسبة لمصالحة الوالى الروماني مع هيرودس الملك[77].
النزول إلى الجحيم:
78 – نجد في إرميا التنبؤ بموته ونزوله إلى الجحيم (الهاوية) إذ يقول: ” الرب قدوس إسرائيل تذّكر أمواته الراقدين في التراب ونزل إليهم مبشرًا إياهم بخلاصه”[78]. هنا يبيّن بوضوح سبب موته، وأن نزوله إلى الجحيم هو خلاص للأموات.
” بسطت يدىَّ”
79 – وأيضًا إشعياء يقول عن صلبه: ” بسطت يدي طول النهار إلى معاند ومقاوم”[79]. هذه الكلمات تشير إلى الصليب. ويتحدث داود بأكثر وضوح: ” لأنه أحاطت بى كلاب جماعة من الأشرار اكتنفتنى. ثقبوا يدىّ ورجلى”[80]، ثم يقول: ” صار قلبي كالشمع. قد ذاب وسط أمعائي. انفصلت كل عظامي”[81] ويقول أيضًا: ” أنقذ من السيف نفسى قد اقشعر لحمى من رعبك لأن جماعة الأشرار قاموا علىَّ”[82]. بهذه الكلمات يُعلن أن المسيح سوف يُصلب، وهذا ما سبق وقاله موسى للشعب: ” وتكون حياتك معلّقة قدامك وترتعب ليلاً ونهارًا ولا تأمن على حياتك”[83].
”اقتسموا ثيابي”:
80 – وأيضًا داود يقول: ” اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون”[84]. وهذا ما حدث بعد الصلب فقد اقتسم الجنود ثيابه فيما بينهم، بينما القميص (الرداء) الذى كان منسوجًا ألقوا عليه قرعة لكى يأخذه من تقع عليه القرعة[85].
” أخذوا الثلاثين من الفضة”:
81 – ويقول النبى أيضًا: ” وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل وأعطوها عن حقل الفخارى كم- أمرنى الرب”[86]. حقًا كان يهوذا واحد من تلاميذ المسيح، ولأنه عَرِف أن اليهود يريدون أن يقبضوا على المسيح، اتفق معهم لكى يسلّمه إذ كان يحمل بغضة تجاهه، لأنه قد توبخ منه، استلم الثلاثين من الفضة وسلّمهم المسيح، لكنه ندم لأجل خيانته، وألقى الثلاثين من الفضة عند أقدام رؤساء اليهود، وشنق نفسه. أما الرؤساء فقد اعتبروا أنه ليس من اللائق أن يضعوا هذه (الفضة) في خزانتهم لأنها كانت ثمن دم، فاشتروا بها حقل الفخارى مقبرة للغرباء[87].
” أعطوه خلاًّ”:
82 – وعندما رُفعوه على الصليب، عطش وأعطوه خلاًّ ممزوجًا بمرارة وهذا ما قد سبق أن قاله داود: ” ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يسقونني خلاًّ”[88].
موت المسيح وقيامته وصعوده:
83 – وعن أنه سيقوم من الأموات ويصعد إلى السموات، فقد سبق وتنبأ عنه داود بقوله: ” مركبات الله ربوات ألوف مكررة. الرب فيها. صهيون في القدس. صعدت إلى العلاء. سبيت سبيًا. قبلت عطايا من الناس”[89]. و”السبى” يشير إلى إبطَال سلطة الملائكة الساقطين. كما أنه أظهر المكان الذي سيصعد منه على الأرض نحو السماء. لأن الرب يقول: ” من صهيون صعد إلى العلاء”، أي من الجبل الذي هو مقابل أورشليم ويُدعى جبل الزيتون. عندما قام الرب جمّع تلاميذه وتحدث إليهم عن ملكوت السموات، حيث صعد أمام أنظارهم ورأوا السموات تنفتح لكي تستقبله[90].
” ارفعوا أبوابكم”:
84 – عن هذا يقول داود ” ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد”[91]. الأبواب الدهرية هي السموات. ولكن لأن الكلمة الذي تجسد لم يكن منظورًا بالنسبة للمخلوقات، عندما نزل على الأرض، إلاّ أنه بسبب تجسده، قد صعد منظورًا في الأعالي، فقد رأته الملائكة وصاحوا إلى نظرائهم الذين في الأعالي: ” ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، وارتفعى أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد”، وعندما اندهشت الملائكة الذين في الأعالى وقالوا: ” مَنْ هو ملك المجد؟”، صرخ كل الذين سبق أن شاهدوه: ” الرب القدير الجبار هو ملك المجد”[92].
85 – ويتحدّث داود عن قيامته وجلوسه عن يمين الآب وانتظاره لليوم المُعيّن من أبيه الذي فيه سيدين الكل ويخضع له أعدائه. أعداؤه هم كل أولئك الذين تمردوا: الملائكة رؤساء الملائكة، السلاطين والكراسي، الذين استهانوا بالحق، فيقول: ” قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك”[93]. ويتحدّث داود عن صعوده إلى المكان الذي نزل منه: ” من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيها”[94]، وبعد ذلك يشير إلى الدينونة فيقول: ” ولا شئ يختفي من حَرارته”[95].
دعوة الأمم: شعب الله الجديد:
86 – كل ما تنبأ به الأنبياء عن ابن الله، بأنه سوف يظهر على الأرض، أي في مكان محدد وكيف وفي أية ظروف سوف يظهر، جميع هذه الأمور تحققت في شخص ربنا. لذا فإيماننا به يستند على أساسات لا تتزعزع إذ أن تقليد الكرازة صادق وحق، الذي هو شهادة الرسل الذين أرسلهم الرب، وكرزوا في كل العالم، أن ابن الله أتى على الأرض وتحمل الألم لكي يبيد الموت ويمنح لنا الحياة[96].
فهو إذ قد أبطل العداوة التي أوجدتها الخطية بيننا وبين الله، فإنه صالحنا مع الله وجعلنا أحباء له[97].
” ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام”:
وهذا ما تنبأ عنه الأنبياء: ” ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام المبشرين بالخيرات”[98]. بعد ذلك يتنبأ إشعياء، عن الرسل أنهم سوف يخرجون من اليهودية ومن أورشليم لكي يُعلنوا لنا كلمة الله التي هي قانون لنا بقوله: ” لأن من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب”[99]، وداود يقول، إنهم سوف يكرزون في كل العالم: ” في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم”[100].
قضاء الرب في كل الأرض:
87 – أيضًا يتنبأ إشعياء بأن البشر سوف لا يكونوا تحت نير فرائض الناموس، بل سوف يحيون في بساطة الإيمان والمحبة ” قد قضى بفناء فائض بالعدل. لأن السيد رب الجنود يصنع فناء وقضاء في كل الأرض”[101]، لذلك يقول الرسول بولس: ” لأن من أحب غيره فقد اكمل الناموس. المحبة هي تكميل الناموس”[102]. وأيضًا عندما سُئل الرب عن أعظم وصية أجاب: ” تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك هذه هي الوصية الأولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك بهاتين الوصيتين يتعلّق الناموس كله والأنبياء”[103]. فبإيماننا به ازدادت محبتنا نحو الله وللقريب، وجعلنا أتقياءً وأبرارًا وصالحين، لأجل هذا صنع الرب “قضاء في كل الأرض”.
يُدعون باسم جديد
88 – ويشير إشعياء، إلى أنه بعد صعوده سوف يتمجد مجدًا عاليًا فوق الكل ولن يكون هناك مَنْ يُقارن به: ” من هو صاحب دعوى معى، ليتقدم مقابلى. مِنْ هو الذى يسير مبررًا. فليقترب من ابن الله! ويل لك، لأن الكل كالثوب يبلون يأكلهم العث”[104]. وأيضًا ” توضع عينا تشامخ الإنسان وتخفض رفعة الناس ويسمو الرب وحده”[105]. ويشير إشعياء أنه في النهاية، الذين يخدمون الله سوف يخلصون باسمه إذ يقول: ” والذين خدموني سوف يُدعون باسم جديد. فالذي يتبرك في الأرض يتبرك بإله الحق”[106]. أخيرًا، فإن هو نفسه وفي شخصه تتحقق هذه النبوة إنه يفدينا بدمه إذ يقول إشعياء: ” ليس شفيع ولا ملاك بل الرب نفسه، لأنه خلّصهم وأحبهم وقد أشفق عليهم وفداهم بنفسه”[107].
” هاأنذا صانع أمرًا جديدًا”:
89 – وأيضًا يعرفنا إشعياء، أن الرب لا يريد للمؤمنين أن يرتدوا إلى ناموس موسى، لأن الناموس قد تحقق بالمسيح، لكن بواسطة الإيمان والمحبة نحو ابن الله نخلّص بجدة الحياة بمعونة الكلمة، بقوله: ” لا تذكروا الأوليات والقديمات لا تتأملوا بها. هأنذا صانع أمرًا جديدًا. الآن ينبت. ألاَ تعرفونه. اجعل في البرية طريقًا في القفر أنهارًا. يمجدني حيوان الصحراء الذئاب وبنات النعام لأني جعلت في البرية ماء أنهارًا في القفر لأسقي شعبي مختاري. هذا الشعب جبلته لنفسي، يُحدّث بفضائلي”[108]. قبل دعوة الأمم، كانت حياتهم مثل صحراء جرداء، لأن الكلمة لم يكن أتى إليهم ولا الروح القدس قد سقاهم، فالكلمة الذى مهّد طريقًا جديدًا للتقوى نحو الله والبر، هو أيضًا جعل الأنهار (النعمة) تفيض بغزارة ويُسكب الروح القدس بوفرة على الأرض، كما وعد بواسطة الأنبياء، بأنه سوف يسكب الروح القدس في الأيام الأخيرة على الأرض[109].
اكتب شريعتي على قلوبهم:
90 – دعوتنا، إذن، هي في ” جدة الروح القدس وليس في حفظ عتق الحرف”[110]، وفق نبوة إرميا ” ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا. ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب. اجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لى شعبًا، ولا يعلّمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين: اعرفوا الرب، لأن الجميع سيعرفونني من كبيرهم إلى صغيرهم، لأنى أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد”[111].
” يثق الإنسان بصانعه”:
91 – سبق لإشعياء أن أشار إلى أن الأمم سوف يُدعون لكي يرثوا هذه الوعود ويأخذوا مكانًا في العهد الجديد، بقوله: ” في ذلك اليوم يثق الإنسان بصانعه وتنظر عيناه إلى قدوس إسرائيل. ولا يلتفت إلى المذابح صنعة يديه ولا ينظر إلى ما صنعته أصابعه”[112]. هذه الأقوال قيلت بوضوح عن الذين هجروا عبادة الأصنام وآمنوا بالله خالقنا قدوس إسرائيل. وقدوس إسرائيل هو المسيح، الذي ظهر للبشر، والذي إليه تنظر عيوننا، إذ نحن لا نثق بذبائح الأصنام ولا بأعمال أيدينا.
” صرت ظاهرًا للذين لم يسألوا عني”:
92 – الكلمة نفسه كرز بواسطة إشعياء، بأنه سوف يظهر بيننا، وأنه هو نفسه ابن الله، سيصير ابن الإنسان، وأنه سوف يُوجد بيننا نحن الذين لم نكن نعرفه بعد، بقوله: ” صرتُ ظاهرًا لمِنْ لم يسألوا عني، وُجدتُ من الذين لم يطلبونني. قلت هاأنذا لأمة لم تسمَ باسمي”[113].
” أعطيهم قلب لحم”:
93 – وكون أن هذا الشعب سيكون شعبًا مقدسًا فهذا ما تنبأ به هوشع الذى هو من الأنبياء الاثني عشر: ” سأدعو الذي ليس شعبي شعبي والتي ليست محبوبة محبوبة ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي أنه هناك يدعون أبناء الله الحي”[114]. ونفس الأمر قاله يوحنا المعمدان أيضًا: ” إن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولاد لإبراهيم”[115]. فإن قلوبنا تحرّرت من عبادة الأوثان ورُفعنا بواسطة الإيمان إلى رؤية الله، وبذلك صرنا أبناء إبراهيم، الذي تبرر بالإيمان. ولذلك يقول الله على فم حزقيال: ” وأعطيهم قلبًا واحدًا وأجعل في داخلكم روحًا جديدًا وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم لكى يسلكوا في فرائضي ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها ويكونون لي شعبًا فأنا أكون لهم إلهًا”[116].
94- إذن، بواسطة الدعوة الجديدة تغيّرت قلوب الأمم بواسطة الكلمة الذي تأنس وحلّ بيننا، كما يقول تلميذه يوحنا: ” الكلمة صار جسدًا وحلّ فينا”[117]. لهذا فالكنيسة تضم عددًا كبيرًا من المُخلّصين، لأن الذي يخلّصنا ليس شفيعًا مثل موسى ولا ملاكًا (مرسلاً) مثل إيليا بل هو الرب نفسه[118]، وهو الذي أعطى الكنيسة أبناءً أكثر من أبناء المجمع (اليهودي)، كما يقول إشعياء: ” ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قال الرب”[119]، ” العاقر التي لم تلد” هي الكنيسة التي لم يكن لديها أبناء من قبل، ولهذا ينطبق عليها النبوة: ” اهتفي واصرخي أيتها التي لم تتمخض فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج “[120]، أما المجمع القديم فله زوج وهو الناموس.
” بأمة غبية أغيظكم”:
95 – ويقول موسى في سفر التثنية، إن الأمم سيصبحون هم “الرأس”، والشعب غير المؤمن هو “الذنب”[121]، ويضيف: ” أهم أغاروني بم ليس إلهًا أغاظوني بأباطيلهم فأنا أغيّرهم بما ليس شعبًا بأمة غبية أغيظهم”[122]. حقيقةً لقد هجر اليهود الله الكائن لكى يسجدوا للآلهة الغريبة غير الموجودة، قتلوا الأنبياء وتنبأوا بواسطة بعل[123]، الذي إليه يقدّم الكنعانيون الأصنام، مُهينين ابن الله، الكائن، وأنكروه وفضلوا عليه باراباس، الذي كان لصًا مُدانًا بجريمة القتل، رفضوا الملك الأبدي، لكى يُنادوا بملك وقتى هو قيصر. لأجل هذا سُرَّ الله أن يهب الأمم أن يكونوا شركاء في الميراث، وهم الذين لم يكونوا منتمين لله ولم يكونوا يعرفون مَنْ هو الله. وحيث إن الله منح الحياة بواسطة هذه الدعوة ووهب لنا إيمان إبراهيم، فلا ينبغي أن نرتد إلى الناموس القديم، طالما قبلنا ابن الله الذي هو رب الناموس. وبواسطة الإيمان به علّمنا أن نحب الله بكل قلوبنا وقريبنا كنفسنا. لكن المحبة لله هي بعيدة عن كل خطية، والمحبة للقريب لا تصنع شًرا للقريب[124].
” كان الناموس مؤدبًا لنا”:
96 – لذلك فنحن لا نحتاج للناموس كمُربى[125]. نحن أطفال من جهة الشر، لكن أقوياء في كل بر وطهارة، وها نحن نقف أمام الآب ونتحدّث معه. الناموس لا يمكن أن يقول ” لا تزن” لذاك، الذي لا يشتهى حتى امرأة آخر[126]، أو ” لا تقتل” لذاك، الذي نزع من قلبه أى شعور بالغضب والعداوة، و” لا تشتهى حقل قريبك أو ثوره أو حماره” لأولئك الذين لا يهتمون بالأمور الأرضية، بل يكنزون كنوزًا في السماء. ولا يمكن أن يقول ” عين بعين وسن بسن” لذاك، الذي ليس له عدو أبدًا، إنما يعتبر الجميع إخوة، وبالتالي من المستحيل أن يرفع يده للانتقام. الناموس سوف لا يطلب العشور من ذاك الذي كرّس كل خيراته لله وترك الأب والأم والإخوة والأخوات، لكي يتبع الكلمة. الناموس لن يفرض بأن يُحفظ يومًا معينًا لذاك، الذي عنده كل يوم هو كيوم السبت ويحيا في هيكل الله، الذي هو الجسد البشري، مشغولاً بعبادة الله وممارسًا للبر. فالله يقول: ” أريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة الله أكثر من محرقات”[127]، أما الإنسان المتعدي على الشريعة ” الذي يذبح ثورًا لي فهو كمن ينحر كلبًا، ومن يُصعد تقدمة دقيق فهو كمن يُصعد دم خنزير”[128]. ولكن ” كل مَنْ يدعو باسم الرب يخلص”[129].
يسوع المسيح خلاصنا:
” وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطى بين الناس به ينبغي أن نخلص”[130] إنه اسم يسوع، ابن الله الذي يخضع له حتى الشياطين والأرواح الشريرة والقوات المعادية.
97 – بدعاء اسم يسوع المسيح، المصلوب على عهد بيلاطس البنطى[131]، يهرب الشيطان من البشر. يسوع المسيح يأتى ويبعد الشيطان عن البشر أينما وُجدوا. وحيث إنهم يؤمنون به ويحفظون إرادته ويدعون باسمه، فإنه يحضر معهم ويسمع توسلاتهم وطلباتهم المُوجهة إليه بقلب طاهر. وهو الذي بحكمته غير المتناهية وغير الموصوفة خلّصنا وبشرنا من السماء بالخلاص، بمجيئه بيننا، أي نعمة تجسده. فالبشر لا يستطيعون من أنفسهم أن يحصلوا على هذه النعمة، ولكن غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله. لذا يصرخ إرميا: ” مَن صعد إلى السماء فأمسكها ونزل بها من الغيوم؟ مَن عبر البحر فوجدها وحصل عليها بالذهب الابريز؟ ليس أحد يعرف طريقها ويرغب في سبيلها لكن العالِم بكل شئ يعلمها وبعقله وجدها، وهو الذي جهز الأرض للأبد، وملأها حيوانات من ذوات الأربع. والذي يُرسل النور فيذهب دعاة فأطاعه مُرتعدًا. أن النجوم أشرقت في محارسها وتهللت. دعاها فقالت: ” هاأنذا ” وأشرقت متهللة للذي صنعها. هذا هو إلهنا، ولا يُحسب غيرة تجاهه. اهتدى إلى كل طريق للمعرفة، وجعله ليعقوب عبده وإسرائيل حبيبه. وبعد ذلك رُئيت على الأرض وعاشت بين البشر. هى كتاب أوامر الله والشريعة القائمة للأبد. كل مَن تمسك بها فله الحياة والذين يُهملونها يموتون”[132]. ويقصد بيعقوب وإسرائيل، ابن الله الذي أخذ من الآب السلطان لينزل على الأرض لكى ينقل لنا الحياة ويُصاحب البشر البعيدين عن الآب. لقد وَحّد روح الله بخليقة الله حتى أن الإنسان يظل على صورة الله ومثاله (أي التشبه بالله)[133].
98 – أيها الصديق الحبيب، هذه هي كرازة الحق، وهذا هو قانون خلاصنا وهذا هو طريق الحياة. هذه الحقيقة تنبأ عنها الأنبياء، وقد ثبّتها المسيح ونقلها الرسل إلينا وقدّمتها الكنيسة إلى أبنائها[134]. ينبغى أن نحافظ عليها بحرص عظيم، مُرضين الله بأعمال صالحة وبذهن سليم.
99 – لا ينبغي أن يُفهم بأنه يوجد إله آخر غير الله خالقنا، كما يظن الهراطقة[135]، الذين يحتقرون الله، الكائن، ويصنعون من الأصنام آلهة غير حقيقية، ويتمسكون “بأب” آخر أسمى من خالقنا. كل هؤلاء هم غير أتقياء ويجدفون على خالقهم وأبيهم، أيضًا برهنا على هذا في كتابنا ” نقد ودحض المعرفة الكاذبة”[136]. وهراطقة آخرون ينكرون مجيء ابن الله وتدبير تجسده، هذا الإيمان الذي سُلّم بواسطة الرسل وتنبأ عنه الأنبياء من أجل خلاص البشرية، كما أوضحنا هنا بإيجاز[137]. آخرون أيضًا لم يقبلوا عطايا الروح القدس وينكرون الموهبة النبوية، التي بواسطتها يصير الإنسان حاملاً الحياة الإلهية كثمرة. هؤلاء الذين يقول لهم إشعياء: ” لأنكم تصيرون كبطمة قد ذبل ورقها وكجنة ليس لها ماء”[138]، هؤلاء لا نفع منهم عند الله إذ أنهم لا يحملون ثمارًا.
100 – إذن، فالضلال المتعلق بالفهم المنحرف للبنود الأساسية لمعموديتنا[139]، يقود الكثيرين بعيدًا عن الحق، لأنهم إماَّ يحتقرون الآب أو لم يقبلوا الابن، رافضين تدبير تجسده، أو لم يقبلوا الروح القدس، أى أنهم احتقروا النبوة. وعلى كل حال ينبغي أن نحترس من هؤلاء الهراطقة ونهرب من أفكارهم والشركة معهم، إذا أردنا أن نُرضى الله حقًا ونحصل على الخلاص.
لإلهنا كل مجد + كرامة + عزة + سجود إلى الأبد آمين
No Result
View All Result
Discussion about this post