إرشَاد رسولي
للحَبْر الأعظَمْ
البابا يوحنّا بولس الثاني
إلى الأساقفة والكهنة
ومؤمني الكنيسة الكاثوليكية جمعاء
في
وظائف العائلة المسيحيّة
في عالم اليوم
Familiaris consortio
أيها الإخوة الأجلاّء والأبناء الأحبَّاء
السَّلام والبركة الرسوليّة
مقـَدّمة
الكنيسة في خدمة العيلة
1- لقد طرأ على العيلة في عصرنا، أكثر ربما من أيّة مؤسسة أخرى، ما طرأ على المجتمع والثقافة من تغييرات واسعة، عميقة، سريعة. وهناك عائلات كثيرة تعيش هذه الحالة وهي باقية على أمانتها للقيم التي تشكّل أساس المؤسسة العائلية. لكن هناك عائلات سواها تشكو الحيرة والقلق أمام ما عليها من واجبات ويساورها الشكّ حتى، وربما يعتريها الجهل في ما يتعلّق بحقيقة الحياة الزوجية والعائلية وما لها من معنى عميق. وهناك أخيراً عائلات تعوقها عن التمتّع بحقوقها الأساسية حالات من الظلم مختلفة.
والكنيسة، إذ تدرك أن الزواج والعائلة يشكلان إحدى أغلى القيم الإنسانية، تريد أن تُسمع صوتها فتساعد أولئك الذين يدركون قيمة الزواج والعائلة وقدرهما ويسعون إلى أن يعيشوا بمقتضى هذه القيمة بأمانة، وأولئك الذين يبحثون في حيرة وقلق عن الحقيقة، وأولئك الذين يُمنعون ظلماً من أن يعيشوا بحريّة عيشة العائلة. وإن الكنيسة، فيما تساند أولئك وتنير هؤلاء وتساعد الباقين، تضع ذاتها في خدمة كل إنسان يهمّه مصير الزواج والعائلة (1).
وهي تتَّجه بصورة خاصة إلى الشبان والشابات الذين يتأهبّون لسلوك طريق الزواج والحياة العائلية، لتفتح لهم آفاقاً جديدة وتساعدهم على اكتشاف ما في دعوتهم إلى الحب وخدمة الحياة من جمال وعظمة.
مجمع 1980
استمرار للمجامع السابقة
2- لقد كان مجمع الأساقفة الأخير الذي انعقد في روما من 26 أيلول حتى 25 تشرين الأول سنة 1980 دليلاً على اهتمام الكنيسة العميق بالعائلة، واستمراراً طبيعياً للمجمعين السابقين (2). وفي الواقع إن العائلة المسيحية هي الجماعة الأولى المدعوة إلى تبشير الشخص البشري، في طور نموّه بالإنجيل، وإلى قيادته، بفضل تربية وثقافة دينية متدرّجة، إلى بلوغ ملء نضجه الإنساني والمسيحي.
ويمكن القول، فضلاً عن ذلك، إن المجمع الأخير يرتبط نوعاً ما، من حيث الفكرة والقصد، بالمجمع الذي بحث في كهنوت الخدمة والعدالة في العالم المعاصر. وفي الواقع، إن العائلة، بوصفها جماعة مربّية، يجب أن تساعد الإنسان على تبيّن دعوته والاضطلاع بمسؤوليته في البحث عن المزيد من العدالة، فتربّيه منذ نعومة أظفاره على إقامة علاقات شخصية مع الناس تتصف بالعدالة والمحبة.
وقدّم لنا آباء المجمع، في ختام اجتماعاتهم، لائحة طويلة بمقترحات ضمّنوها ثمرة ما نضج لديهم من تفكير، طوال أيام عملهم المكثّف، وسألونا بالاجماع أن نعرب أمام البشرية عن اهتمام الكنيسة البالغ بالعائلة، وأن نعطي التوجيهات المؤاتية من أجل بذل مجهود رعوي متجدّد في هذا الحقل الأساسي من حقول الحياة البشرية والكنسية.
وإنّا إذ نقوم بهذه المهمّة بنشرنا هذا الإرشاد، مؤدّين بذلك، بصورة خاصة، الخدمة الرسولية التي وكلت إلينا، نودّ أن نشكر لجميع أعضاء المجمع ما مدّونا به من مساهمة قيّمة بعملهم وخبرتهم، وعلى الأخص من خلال “المقترحات” التي دفعنا نصّها إلى مجلس العائلة الحبري، وسألناه أن يتعمّق في درسه ويبرز كل وجه من وجوه ما يحتويه من كنوز.
ما للزواج والعائلة من قيمة غالية
3- إن الكنيسة، وقد استنارت بالإيمان الذي يُفهمها كل الحقيقة المتعلّقة بما للزواج والعائلة من قيمة غالية ومعنى عميق، لتشعر مجدّداً بالحاجة الملّحة إلى أن تبشّر بالإنجيل أي “بالخبر المفرح”، جميع الناس دونما تمييز، وخاصة المدعوّين إلى الزواج والذين يستعدّون له، وجميع الأزواج وجميع الوالدين في العالم.
وهي موقنة كل اليقين أن ما يضعه الإنسان بحقّ في الزواج والعائلة من آمال لا يتحقّق إلاّ بالقبول بالإنجيل. وإن الله، إذ أراد الزواج والعائلة، عندما أراد الخلق (3) قد أعدّهما اعداداً باطنياً ليدركا كمالهما في المسيح (4) الذي يحتاجان إلى نعمته ليشفيا من جرح الخطيئة (5) ويعودا إلى “أصالتهما” (6)، أي إلى فهم قصد الله وتحقيقه بصورة كاملة.
وفي هذه الفترة التاريخية التي تتعرّض فيها العائلة لضغوط عديدة تحاول تحطيمها، أو على الأقل تشويهها، تعرف الكنيسة أن خير المجتمع وخيرها الخاص مرتبطان ارتباطاً عميقاً بخير العائلة وتشعر شعوراً متزايداً ملحّاً بما عليها من رسالة تدعوها إلى الإعلان للجميع عن قصد الله من الزواج والعائلة (7)، فيما تؤمّن لهما تمام الحيوية والتقدّم البشري والمسيحي، وتساهم هكذا في تجديد المجتمع وشعب الله.
القسم الأول
أضواء وظلال
عن عـَائلة اليوم
الحاجة إلى تفّهم الحالة
4- لمّا كان قصد الله في الزواج والعائلة يتناول الرجل والمرأة في واقع وجودهما اليومي في هذه أو تلك من الحالات الاجتماعية والثقافية، بات لزاماً على الكنيسة أن تكبّ، إتماماً لخدمتها، على تفهّم الحالات التي يتحقّق فيها الزواج والعائلة اليوم (8).
ولا غنى عن هذا التفهّم للقيام بعمل التبشير، ذلك أن على الكنيسة أن تحمل الإنجيل الذي لا يعروه تغيير والذي هو دائماً جديد، إلى العائلات، هذه العائلات المتقلّبة في ظروف العالم الحاضر والمدعوّة لكي تقبل ما رسم الله تعالى لها من قصد وتحيا بمقتضاه. وفضلاً عن ذلك إن دعوة الروح ونداءاته تردّدها أحداث التاريخ، ولهذا تستطيع الكنيسة أن تتفهّم تفهمّاً أعمق سرّ الزواج والعائلة الذي لا ينضب له معين انطلاقاً ممّا يعيشه الشبان والأزواج والوالدون اليوم من ظروف ومشاكل وقلق وآمال (9).
ولا بدّ من إضافة فكرة أخرى لها أهمية خاصة في عصرنا الحاضر، وهي أنه لا يندر أن يتلّقى الرجال اليوم والنساء، الذين يبحثون بإخلاص وجدّية عن أجوبة لما يعرض لهم في حياتهم الزواجية والعائلية من قضايا يومية خطيرة، أفكارا وحلولاً قد تكون مغرية، لكنها تشوّه، في كثير أو قليل، حقيقة الشخص البشري وتمَسّ كرامته. وغالباً ما تساند هذه الأفكار أجهزة وسائل إعلام اجتماعي قادرة وفاعلة تهدّد بدهاء تهديداً خطيراً حريّة إبداء الحكم الموضوعي والقدرة عليه.
وهناك كثيرون ممّن تنّبهوا لهذا الخطر الذي يهّدد الشخص البشري فراحوا يعملون على نصرة الحقيقة. والكنيسة، بما لها من قدرة على الحكم في ضوء الإنجيل، تنضمّ إليهم وتؤازرهم لدى قيامها برسالتها، في خدمة الحقيقة والحريّة وكرامة كل رجل وامرأة.
الحكم على ضوء الإنجيل
5- وتعرض الكنيسة، بما تبديه من رأي وحكم على ضوء الإنجيل، توجيهاً يرمي إلى المحافظة على كل ما يتعلق بالزواج والعائلة من حقيقة وكرامة ويعمل على تحقيقها.
ويتم إبداء الحكم بفضل حسّ الإيمان (10) الذي هو هبة الروح للمؤمنين (11)، وهو بالتالي عمل الكنيسة جمعاء، وفقاً لمختلف الهبات والعطايا الخاصة التي تعمل معاً، ووفقاً للمسؤوليات الخاصة بكل من المؤمنين، في سبيل تفهّم أعمق لكلمة الله ووضعها موضع العمل. وهكذا لا تبدي الكنيسة هذا الحكم على ضوء الإنجيل بواسطة الرعاة الذين يعلّمون باسم المسيح وسلطانه وحسب، بل أيضاً بواسطة العلمانيين الذين جعل المسيح منهم “شهوداً سلّحهم بروح الإيمان ونعمة الكلمة (راجع أعمال 2، 17 – 18؛ رؤيا 19، 10) لتسطع قوّة الإنجيل في الحياة اليومية والعيلية والاجتماعية” (12). وللعلمانيين، فضلاً عن ذلك، وبحكم دعوتهم الخاصة، مهمة مميّزة تقوم على ترجمة تاريخ هذا العالم في ضوء الإنجيل، لأنهم مدعوون إلى إنارة شؤون الدنيا وتنظيمها وفقاً لقصد الله الخالق والفادي.
ولا يرتكز “حسّ الإيمان الفائق الطبيعة” (13) فقط أو بالضرورة على إجماع المؤمنين. والكنيسة التي تقفو خطى السيد المسيح تبحث عن الحقيقة التي لا تكون دائماً متوافقة ورأي الأكثرية، وتستمع إلى الضمير لا إلى السلطة والقوّة، وتدافع بهذه الطريقة عن الفقراء والمسحوقين، وتقدّر البحث الاجتماعي والإحصائي، إذا ما بدا مفيداً لفهم الإطار التاريخي الذي يجب أن يدور فيه العمل الرعوي، وإذا ما أسعف على التعمّق في فهم الحقيقة. ولكن، يجب ألاّ نعتبر أن مثل هذا البحث هو بحد ذاته تعبير عن حسّ الإيمان. ولمّا كانت مهمّة الخدمة الرسولية تقوم على إبقاء الكنيسة في حقيقة السيد المسيح وترسيخها فيها ترسيخاً متزايداً، وجب على الرعاة أن ينمّوا حسّ الإيمان لدى جميع المؤمنين، ويتفحّصوا بما لهم من سلطان صحّة التعبير عنه ويربّوا المؤمنين على تفهّم الحقيقة الإنجيلية تفهّماً ينضج يوماً بعد يوم (14).
وباستطاعة الأزواج والوالدين المسيحيين ومن واجبهم أن يساهموا مساهمة فريدة لا غنى عنها في تكوين حكم إنجيلي أصيل في مختلف الحالات والثقافات التي يعيش فيها الرجل والمرأة زواجهما وحياتهما العيلية؛ ويؤهّلهم للقيام بهذا الدور ما أوتوا من هبة مميّزة أو نعمة خاصة هي نعمة سرّ الزواج (15).
وضع العائلة في عالم اليوم
6- إن للحالة التي تتقلّب فيها العائلة وجهين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي: فالأول يدلّ على خلاص المسيح الذي يعمل في العالم، والثاني يدّل على الرفض الذي يقابل به الإنسان محبة الله.
وفي الواقع هناك، من جهة، وعي أشدّ للحريّة الشخصية واهتمام أكبر بنوعية العلاقات بين الأشخاص في الزواج، وبالعمل على توفير المزيد من الكرامة للمرأة، وبالإنجاب المسؤول، وبتربية الأولاد. وهناك أيضاً وعي للحاجة إلى تطوير العلاقات بين العائلات وإلى المساعدة المتبادلة على الصعيدين الروحي والمادي، ولاكتشاف الرسالة الكنسية الخاصة بالعائلة ومسؤوليتها عن بناء مجتمع أكثر عدالة. ولكن لا تعوزنا الدلائل، من جهةٍ ثانية، على تدنّي بعض القيم الأساسية تدنّياً يثير القلق من مثل سوء فهم استقلال الأزواج في ما بينهم من الناحيتين النظرية والعملية، وسوء التفاهم الخطير بشأن علاقة السلطة بين الآباء والبنين، والصعوبات العملية التي تلقاها العائلة في نقل القيم، وتزايد الطلاق، وآفة الإجهاض، واللجوء المتكاثر دونما انقطاع إلى التعقيم، وظهور عقلية تقول بصراحة باستعمال وسائل منع الحمل.
ويقوم غالباً في أساس هذه الظواهر السلبية مفهوم خاطئ وممارسة غير صحيحة للحرية التي لا ينظر إليها على أنها طاقة تمكن من تحقيق قصد الله من الزواج والعائلة، بل على أنها قوّة مستقلة لتأكيد الذات تأكيداً غالباً ما يكون ضد الآخرين، ومن أجل إرضاء الذات بدافع من الأنانية.
وهناك واقع آخر يستدعي انتباهنا وهو أن العائلات في بلدان العالم الثالث غالباً ما تحتاج، من جهة، إلى الوسائل الضرورية للعيش والبقاء، كالطعام والعمل والمسكن والأدوية، ومن جهة ثانية، إلى الحريات الأولية. أما في البلدان الأكثر غنى، خلافاً لذلك، فإن الازدهار الوفير والذهنيّة الاستهلاكية التي تصاحبها وتثير، على النقيض، بعض القلق والخوف على المستقبل، يحرمان الأزواج ما يحتاجون إليه من سخاء وشجاعة للإنجاب. وهذا ما يؤدي غالباً إلى النظر إلى الحياة لا على أنها بركة، بل خطر يجب اتقاؤه.
فالحالة التاريخية التي تعيش فيها العائلة تبدو كأنها مزيج من ظلال وأضواء. وهذا يظهر أن التاريخ ليس حتماً مسيرة صاعدة نحو الأفضل، بل إطلالة حرية، وحتى صراع بين حريات متنافرة أي، وفقاً لعبارة القديس أغسطينوس الشهيرة، نزاع بين حبين: حب الله حتى احتقار الذات وحب الذات حتى احتقار الله (16).
ويستتبع ذلك أن التربية على المحبة المتأصلة في الإيمان باستطاعتها وحدها أن تؤدّي إلى إحراز القدرة على شرح “علامات الأزمنة” التي هي تعبير تاريخي عن هذا الحب المزدوج.
أثر الظروف على ضمير المؤمنين
7- ولم يبق دائماً المؤمنون العائشون في عالم كهذا تحت التأثير الناجم، على الأخص، عن وسائل الإعلام، في منأى عن تعمية بعض القيم الأساسية، ولا استطاعوا أن يجعلوا من نفوسهم ضميراً نقّاداً لهذه الثقافة العائلية، ولا أن يكونوا عملة ناشطين لبناء حضارة إنسانية عائلية.
وقد شدّد آباء المجمع بنوع خاص، في ما شدّدوا عليه من دلائل هذه الظاهرة، على شيوع الطلاق ولجوء المؤمنين أنفسهم إلى عقد قران جديد، والتسليم بالزواج المدني الذي يتعارض ودعوة المعمّدين على “الزواج في المسيح” والاحتفال بالزواج – السر دونما إيمان حي، إنّما من أجل أغراض أخرى، ونبذ القواعد الأدبيّة التي تهدي إلى ممارسة الجنس في الزواج ممارسة إنسانية مسيحية، وتعمل على ترقيتها.
حاجة عصرنا إلى الحكمة
8- من واجب الكنيسة جمعاء أن تُعمل الفكر وتلتزم التزاماً عميقاً يؤديّ إلى طبع الحضارة الجديدة الناشئة بطابع الإنجيل، وإلى الاعتراف بالقيم الحقيقية، ورعاية حقوق الرجال والنساء، وتطوير العدالة في بُنى المجتمع ذاتها. وبهذه الطريقة لا تنحرف “الحضارة الإنسانية الجديدة” بالناس عن علاقتهم بالله، بل تقودهم إلى توثيق هذه العلاقة خير توثيق. ويوفّر العلم وتطبيقاته التقنية إمكانات جديدة هائلة في بناء مثل هذه الحضارة، لكن العلم، تبعاً لاختيارات سياسية تحدّد وجهة البحث وتطبيقاته، يُستخدم، في غالب الأحيان، في عكس هدفه الأساسي الرامي إلى ترقية الشخص البشري. ولذلك بات من الضروري بمكان أن يعي الجميع مجدداً أولوية القيم الأدبية التي هي قيم الشخص البشري بحد ذاته. والمعضلة الكبرى التي يجب مواجهتها اليوم، لدى العمل على تجديد المجتمع، إنما هي العودة إلى اكتناه معنى الحياة الأخير وقيمتها الأساسية، لأن وعي أولوية هذه القيم وحده هو ما يمكّن الإنسان من استخدام الإمكانات الهائلة التي يضعها العلم في متناوله استخداما يؤدّي إلى ترقية الشخص البشري، ترقية صحيحة في حقيقته الكاملة وحريّته وكرامته. إن العلم مدعوّ إلى محالفة الحكمة.
ويمكن بالتالي تطبيق ما قال المجمع الفاتيكاني الثاني على قضايا العائلة وهو أن “عصرنا يحتاج، أكثر من أي عصر مضى، إلى مثل هذه الحكمة، ليجعل اكتشافاته، مهما كان نوعها، ذات طابع إنساني، وأن مستقبل العالم يتعرّض للخطر إذا لم يقم في عصرنا حكماء” (17).
وتصبح تربية الضمير الأدبي واجباً لازماً يستحيل إهماله، وهي التربية التي تجعل كل رجل قادراً على أن يحكم على الوسائل الكفيلة بتمكينه من تحقيق ذاته وفقاً لحقيقته الأصيلة، وعلى أن يمّيز بين هذه الوسائل.
ويجب حمل الثقافة العصرية على إبرام عهد جديد مع الحكمة الإلهية إبراماً محكماً. وقد ظفر كل من الناس بنصيب من هذه الحكمة بفعل الخلق الذي قام به الله عينه. ولا تستطيع عائلات اليوم أن تؤثّر إيجابياً في بناء عالم أكثر عدالة وأخوّة إلاّ بوفائها لهذا العهد.
تدرّج وارتداد
9- علينا جميعاً أن نقاوم الظلم الناشئ عن الخطيئة – التي تسرّبت إلى أعماق بُنى العالم اليوم – والحائل، في غالب الأحيان، دون تحقيق العائلة ذاتها تحقيقاً كاملاً وممارسة حقوقها؛ وذلك بالاعتماد على ارتداد العقل والقلب، واتّباع السيّد المسيح المصلوب، والكفر بالذات على مثاله: ولا يمكن مثل هذا الارتداد إذ ذاك إلاّ أن يكون له أثره التجديدي المفيد حتى في بنى المجتمع.
وتدعو الحاجة إلى ارتداد متواصل مستمرّ يفرض إعراضاً باطنياً عن كل شرّ وإقبالاً على كل خير ويترجم بخطوات عملية تقود دائماً إلى الأمام. وهكذا تتوفّر خطّة كلها حيوية تتقدّم تدريجياً وتترسّخ شيئاً فشيئاً بموجبها هبات الله ومقتضيات محبته النهائية المطلقة في مجمل حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية. ولهذا كان لا بدّ من خطّة تربوية متنامية تتيح للمؤمنين والعائلات والشعوب وحتى للمدنية، انطلاقاً مما تقبّلوا من سرّ المسيح، السير بتؤدة إلى الأمام، متعمّقين في فهم هذا السرّ وعاملين على إدخاله كلياً في حياتهم.
غرس في الثقافات
10- تتقبّل الكنيسة، عملاً بتقليدها المستمر، من مختلف أشكال الثقافات كل ما يصلح للتعبير تعبيراً صحيحاً عن غنى المسيح الذي لا حدّ له (18). ولا يمكن هذا الغنى ان يتجلّى بوضوح متزايد ولا للكنيسة أن تسير قدماً كل يوم نحو وعي أكمل وأعمق للحقيقة التي أعطاها إيّاها الرب كاملة، إلاّ إذا استعانت بجميع الثقافات.
وعلى المجالس الأسقفية ودوائر الكوريا الرومانية المعنيّة بصورة خاصة – مع التمسّك الشديد بالمبدأين القائلين باستساغة الإنجيل مختلف الثقافات التي يقبل عليها وبالاشتراك مع الكنيسة الجامعة – أن تواصل، الدرس والعمل الرعوي الناشط لكي يتحقّق تحقيقاً واسعاً غرس الثقافات في الدين المسيحي، حتى في إطار الزواج والعائلة.
وبفضل “غرس الثقافات” هذا، يبدأ العمل على ترميم العهد مع حكمة الله التي هي المسيح عينه ترميماً تاماً. وتغنى الكنيسة جمعاء أيضاً بجميع الثقافات التي، وإن افتقرت إلى التكنولوجيا، فهي غنيّة بالحكمة البشرية وبما يحييها من قيم أدبية أخلاقية عميقة.
ولكي يكون هدف هذه المسيرة واضحاً ولكي يكون الطريق إليه بالتالي مرسوماً تماماً، كان من حقّ المجمع أن يُنعم، بداءة بدء، النظر في قصد الله الأول من الزواج والعائلة: لقد أراد أن “يقود إلى البدء” احتراماً منه لتعليم المسيح (19).
القسم الثاني
قصْد الله
من الزواج والعائلة
الإنسان، صورة الله الذي هو محبّة
11- خلق الله الإنسان على صورته ومثاله: (20) وعندما دعاه إلى الوجود حباً به، دعاه في الوقت عينه إلى الحبّ. إن الله محبة، (21) وهو يعيش في ذاته سر مشاركة شخصية في المحبة. وعندما خلق الجنس البشري على صورته ومثاله وواصل حفظه في الوجود، طبع في كيان الرجل والمرأة البشري الدعوة إلى الحبّ والمشاركة فيه وبالتالي القدرة عليه والمسؤولية تجاهه. (22) فالحبّ إذن هوالدعوة الأساسية لكل كائن بشري يولد معه عندما يولد.
ولما كان الإنسان روحاً متجسّداً، أعني نفساً تعبّر ع ذاتها في جسد، وجسداً تحييه نفس خالدة، دعي إلى الحبّ بكليته الموحّدة. فالحبّ يشمل الجسد البشري، الذي جُعل شريكاً في الحب الروحي.
ويقرّ الوحي المسيحي طريقتين خاصتين بتحقيق دعوة الشخص البشري، بكليّته، إلى الحبّ، وهما الزواج والبتولية، وكلاهما يجهر بطريقة خاصة، بحقيقة الإنسان السامية، حقيقة كونه “مخلوقاً على صورة الله”.
وليس، بالتالي، الجنس الذي يتبادل الرجل والمرأة بواسطته هبة الذات، بأعمال خاصّة بالأزواج ومقصورة عليهم، شأناً بيولوجياً، خاصاً، لكنّه يتناول أعماق كيان الشخص البشري، بما أنّه شخص بشري؛ ولا يتحقق بصورة إنسانية فعلاً إلاّ إذا كان جزءاً لا يتجزأ من الحبّ الذي يلتزم به التزاماً تاماً الرجل والمرأة أحدهما تجاه الآخر حتى الموت. وتكون هبة الذات الجسدية كذبا إن لم تكن علامة وثمرة لهبة الذات الشخصية الكاملة التي يكون معها الشخص البشري، بما فيه بعده الزمني، حاضراً: وإذا تحفّظ الشخص من أي شأن أو احتفظ لنفسه بإمكانية اتّخاذ قرار مغاير في المستقبل، فلا يكون قد وهب ذاته هبة كاملة.
وهذه الهبة الكليّة التي يقتضيها الحب الزواجي تتجاوب أيضاً ومقتضيات الإخصاب المسؤول. ولما كان هذا الإخصاب موجّهاً نحو إيلاد كائن بشريّ، فهو يفوق بطبعه النظام البيولوجي البحت ويشمل مجموعة قيم شخصية لا بدّ لها، لكي تنمو بانسجام، من مساهمة الوالدين مساهمة مستمرة موحدة.
و”المكان” الوحيد الذي يمكن أن تتمّ فيه هبة الذات هذه بكامل حقيقتها، إنما هو الزواج، أي هو عهد الحبّ الزواجي أو الخيار الواعي الحرّ الذي يرتضي الرجل والمرأة بموجبه ما أراده الله لهما من اشتراك حميم في العيش والحبّ، (23) والذي لا يتجلّى معناه الحقيقي إلاّ في هذا الضوء. وليست مؤسسة الزواج تدخّلاً في غير محلّه من قبل المجتمع أو السلطة، ولا فرضاً آتياً من الخارج لصيغة، بل بالأحرى مقتضى داخلي يفرضه عهد الحب الزواجي الذي يثبت علنا ما يتميّز به من وحدة وفرادة بحيث أنه يحيا في أمانة تامّة لقصد الله الخالق. وما كانت هذه الأمانة لتقيّد حرية الشخص، بل على العكس، إنها تجعله في منأى عن كل تأثّرات شخصية ومزاجية وتشركه في الحكمة الخلاّقة.
الزواج والمشاركة بين الله والناس
12- إن شراكة المحبة بين الله والناس التي هي جزءٌ أساسي من الوحي واختيار إيمان لدى إسرائيل، يجد تعبيراً له ذا معنى في عهد الزواج المبرم بين الرجل والمرأة.
ولهذا السبب يُعبَّر عن الكلمة الجوهرية: أي “إن الله يحب شعبه” بألفاظٍ حيّة واقعية يُعرب بها الرجل والمرأة عن محبتهما الزوجية. ويصبح رباط المحبة بينهما صورةً ورمزاً للعهد الذي يُوحّد بين الله وشعبه. (24) وتصبح الخطيئة ذاتها التي تؤذي العهد الزوجي، صورة لخيانة الشعب إلهه: فعبادة الوثن دعارة، (25) والخيانة زنى، والخروج على الشريعة تخلّ عن محبة الرب الزوجية. لكن خيانة إسرائيل لا تقضي على أمانة الرب الأبدية، وتُعرض، بالتالي، محبة الله الأمينة كمثال على علاقات المحبة الأمنية التي يجب أن تقوم بين الأزواج (26).
يسوع المسيح، عروس الكنيسة وسر الزواج
13- إن الشراكة بين الله والناس تجد تمامها النهائي في يسوع المسيح العروس الذي يحبّ ويقدّم ذاته مخلّصاً للبشرية بضمّها إليه واتّحاده بها اتّحاده بجسده.
وهو يكشف عن حقيقة الزواج الأصلية، حقيقة “البدء” (27)، ويمكّن الإنسان بتجرّده من قساوة القلب، من تحقيقها تحقيقاً كاملاً.
ويبلغ هذا الكشف تمامه النهائي في المحبة التي يجود بها كلمة الله على البشرية باتخاذه طبيعة البشر، وفي ذبيحة السيد المسيح وتضحية ذاته على الصليب من أجل عروسته، الكنيسة. ويتجلى في هذه الذبيحة كلّ التجلي القصدُ الذي طبعه الله في طبيعة الرجل والمرأة البشرية منذ الخلق (28).
وهكذا يصبح زواج المعمّدين رمزاً واقعياً للعهد الجديد الأبدي المختوم بدم المسيح، ويعطيهم الروح الذي يفيضه الرب قلباً جديداً، ويمكّن الرجل والمرأة من التحاب كما أحبّنا المسيح. ويبلغ الحبّ الزواجي هذا التمام الموجّه إليه داخلياً فيصبح محبةً رفيقةً وهي الطريق الخاصة المميّزة التي يشترك بفضلها الزوجان في محبة المسيح الذي بذل ذاته على الصليب، وهي المحبة التي هما مدعوان إلى أن يعيشاها معاً.
لقد أعرب ترتليانوس في صفحة شهيرة بحق عن عظمة الحياة الزوجية في المسيح وجمالها فقال: “أين تراني أجد القوة لوصف سعادة الزواج وصفاً مُرضياً، الزواج الذي تعقده الكنيسة، وتوطّده التقدمة، وتختمه البركة، وتعلنه الملائكة، ويُبرمه الآب السماوي… وأيّ رباط عجيب هذا الذي يشدّ مؤمنين أحدهما إلى الآخر، فيجمعهما رجاءٌ واحد، ورغبةٌ واحدة، وخضوعٌ لنظامٍ واحد، وخدمة واحدة، كلاهما ابنان لأب واحد، وخادمان لسيّد واحد. لا شيء يفصل بينهما لا في الجسد ولا في الروح، لا بل بالعكس من ذلك، إنهما في الواقع اثنان في جسد واحد. ومتى كان الجسد واحداً كان الروح واحداً” (29).
والكنيسة، إذ تقبل بأمانة كلمة الله وتتأمّل فيها، علّمت بصورة احتفالية وتعلّم أن زواج المعمّدين هو أحد أسرار العهد الجديد السبعة (30).
وفي الواقع يندرج الرجل والمرأة نهائياً بالعماد في العهد الجديد الأبدي، عهد المسيح الزواجي مع الكنيسة. وبسبب هذا الاندراج الثابت رُفعت شركة الحياة والحب الزوجي الحميمة التي أسّسها الخالق (31)، وأُدمجت في محبة المسيح الزواجية التي تُثبتها وتُغنيها قوّته، قوة الفداء.
ويشدّ الزوجين أحدهما إلى الآخر، بقوّة وسم سر زواجهما، رباطٌ غير قابل للانفصام. واستخصاص أحدهما الآخر إنما هو، بفضل العلامة الأسرارية، خير تمثيل لعلاقة المسيح بالكنيسة.
فالأزواج إذن، بالنسبة إلى الكنيسة، تذكيرٌ مستمرّ بما حدث على الصليب. إنهم شهود أحدهم للآخر وللأولاد على الخلاص الذي يجعلهما السرّ شريكين فيه. فالزواج، ككلّ سرّ، استذكارٌ لحدث الخلاص وتنفيذ ونبوءة. “فالسرّ كاستذكار يوليهم النعمة ويوجب عليهم ذكر عظائم الله والشهادة لها أمام أبنائهم، وكتنفيذ، يوليهم النعمة ويوجب عليهم وضع أحدهم تجاه الآخر وتجاه أولادهما، حاضراً، ما تقتضيهما المحبة التي تسامح وتفتدي، وكنبؤة، يوليهم النعمة ويوجب عليهم أن يعيشوا رجاء لقائهم المسيح، مستقبلاً، وأن يشهدوا له” (32).
والزواج أيضاً، ككلّ من الأسرار السبعة، يرمز واقعاً إلى حدث الخلاص، على طريقته الخاصة. “فالأزواج يشاركون فيه كأزواج، معاً كاثنين بحيث تكون نتيجة الزواج الأولى والمباشرة (الشيء والسر) لا النعمة الفائقة الطبيعة ذاتها، بل الوثاق الزواجي واتحاد شخصين اتحاداً مسيحيا نوعيا، لأنه يمثل سر تجسّد المسيح وسرّ عهده. وعناصر المشاركة في حياة المسيح هي أيضاً فريدة في نوعيتها: فالحب الزواجي يتضمن مجموعة تدخل فيها كل عناصر الشخص – نداء الجسد والغريزة، قوّة الإحساس والمشاعر، توق الروح والإرادة – ويرمي إلى وحدة شخصية عميقة، تلك الوحدة التي تقود إلى أبعد من الاتحاد في جسد واحد، إلى تكوين قلب واحد ونفس واحدة، وهو يتطلّب الديمومة والأمانة في هبة الذات المتبادلة النهائية، وينفتح على الإخصاب (راجع الحياة البشرية، 9). وبكلمة، فالمسألة مسألة ميزات خاصة بكل حب زواجي طبيعي، لكن مع ما له من مفهوم جديد لا يطهره ويوطده وحسب، بل يسمو به إلى حدّ أنه يجعل منه تعبيراً عن قيمٍ مسيحية أصيلة” (33).
البنون أثمن هبات الزواج
14- إن الزواج، وفقاً لقصد الله، هو أساس الجماعة الأوسع التي هي العائلة لأن تأسيس الزواج، والحبّ الزواجي يهدفان إلى الإنجاب وتربية البنين الذين يجدان فيهم تتويجهما (34).
والحبّ في واقعه الأعمق وجوهره هبة. والحبّ الزواجي، فيما يُفضي بالأزواج إلى “المعرفة” المتبادلة التي تجعل منهم “جسداً واحداً” (35)، لا ينتهي عند حدّ الزوجين، لأنه يجعل الأزواج قادرين على القيام بأكبر هبة ممكنة يصبحون معها معاونين الله في إضفائهم الحياة على شخص بشريّ آخر. وهكذا يهب الزوجان، فيما يتبادلان هبة الذات، الوجود للولد الذي هو صورة حيّة لحبهما، ورمز دائم لوحدتهما الزوجية، واكتناه حيّ قائم أبداً لحالتهما التي يصبحان معها أباً وأماً.
وعندما يصبح الزوجان أبوين، يتقبّلان من الله هبة واجب ضميري جديد، لأنه لا بدّ لحبّهما الوالدي من أن يصبح، بالنسبة إلى أولادهما، علامة منظورة لمحبة الله ذاتها الذي “منه كل أبوّة في السماء والأرض” (36).
لا يغيبنّ عن البال، أنه ولو تعذّر الإنجاب، لا مجال، لهذا السبب، إلى تجربة الحياة الزواجية من فضلها وسموّها. وقد يكون العقم الطبيعي، في الواقع، سانحةًَ للزوجين ليؤدّيا خِدما أخرى هامة لحياة الشخص البشري كالتبنيّ، ومختلف الأعمال التربوية، ومساعدة عائلات أخرى، وأولاد فقراء أو معاقين.
العائلة اتحاد أشخاص
15- وتنشأ في الزواج والعائلة مجموعة علاقات بين الأشخاص – الحياة الزوجية، الأبوّة والأمومة، البنوّة والأخوة – يندمج بواسطتها كل شخص في “العائلة البشرية” وفي “عائلة الله” التي هي الكنيسة.
والزواج المسيحي والعائلة المسيحية يبنيان الكنيسة: لأن الشخص البشري لا يولد في العائلة ويندمج شيئاً فشيئاً، بفضل التربية، في الجماعة البشرية وحسب، بل يندمج أيضاً، بفضل الميلاد الجديد في العماد والتنشئة على الإيمان، في عائلة الله التي هي الكنيسة.
والعائلة البشرية التي فكّكتها الخطيئة، يعيد بناء وحدتها ما لموت المسيح وقيامته من قوّة فداء (37). والزواج المسيحي الذي يشترك في ما لهذا الحدث من فعاليّة خلاصيّة، يشكّل المكان الطبيعي الذي فيه يتم اندماج الشخص البشري في عائلة الكنيسة الكبرى.
وتدرك الوصية المعطاة، منذ البدء، للرجل والمرأة بالنموّ والتكاثر، بهذه الطريقة، حقيقتها الكاملة وتتحقق على أكمل وجه. وهكذا تجد الكنيسة في العائلة المولودة من السر مهدها والمكان الذي باستطاعتها فيه الاندماج في الأجيال البشرية، وباستطاعة هذه الأجيال الاندماج بدورها في الكنيسة.
الزواج والبتولية
16- ما كانت البتولية والعزوبة من أجل ملكوت الله لتتعارض وكرامة الزواج، بل العكس من ذلك، إنهما تفترضان وجود الزواج وتؤكّدانه. والزواج والبتولية طريقتان للتعبير عن سر العهد الوحيد المبرم بين الله وشعبه، وعن الحياة به، وكلّما امتُهن الزواج، تعذّر وجود بتولية مكرّسة لله. وكلّما كان الجنس لا يعتبر خيراً سامياً جاد به الخالق على الإنسان، فقد الكفر به، من أجل ملكوت السماء، معناه. ويقول مار يوحنا فم الذهب بحق: “من احتقر الزواج، انتقص من مجد البتولية، ومن امتدحه زاد في شأن البتولية والإعجاب بها، لأن ما يبدو خيراً بالمقارنة بما هو أسوأ منه، فليس بخير، لكن ما هو، في رأي الجميع، أحسن من الخيور، فهو الخير الأسمى” (38).
وينتظر الإنسان في البتولية عينها، حتى في الجسد، زواج المسيح من الكنيسة في اليوم الأخير، عندما يهب ذاته كلياً للكنيسة، أملاً أن يهب المسيح ذاته للكنيسة أيضاً في ملء حقيقة الحياة الأبدية. وهكذا يدرك الشخص المتبتّل في جسده مسبقاً العالم الجديد، عالم القيامة المقبلة (39).
وبفضل شهادة الزواج هذه، تحتفظ البتولية في الكنيسة بوعي تام لسر الزواج وتذود عنه في وجه كل ما ينتقص من قدره ويحطّ من شأنه.
والبتولية، إذ تحرّر قلب الإنسان تحريراً فريداً (40)، “ليزداد اضطراماً بمحبة الله وجميع الناس” (41)، تشهد أن ملكوت الله وبرّه هما تلك الجوهرة الكريمة التي يجب تفضيلها على كل خير سواها، مهما غلا، والتي يجب اقتناؤها بوصفها الخير الأوحد الأكيد الباقي. ولهذا ما انفكّت الكنيسة، على مرّ تاريخها، تدافع عن فضل البتولية على الزواج، بسبب هذا الوثاق الفريد الذي يشدّها إلى ملكوت الله (42).
والبتول، ولو كفر بالخصوبة الطبيعية، يصبح خصيباً روحياً، وأبا وأما للكثيرين، ويساعد هكذا على تحقيق العائلة وفقاً لقصد الله.
فمن حقّ الأزواج المسيحيين إذن أن ينتظروا من المتبتّلين المثل الطيّب وشهادة الأمانة لدعوتهم حتى الموت، كما أن الأمانة قد تصبح أحياناً شاقّة على المتزوجين، فتقتضيهم تضحية وأمانة ونكران ذات. وهذا ما قد يتأتّى أيضاً للمتبتّلين الذين عليهم حتما، في ما يلقون من محن، أن يساندوا بأمانتهم، أمانة الأزواج (43).
وباستطاعة هذه الخواطر في البتولية أن تنير وتساعد أولئك الذين لم يتمكنّوا، لأسباب خارجية عن إرادتهم، من الزواج وارتضوا حالتهم بروح الخدمة.
القسم الثالث
دَور العـائلة المسيحيّة
أيتها العائلة، عليك أن تصبحي ما أنت!
17- لا تكتشف العائلة في مخطّط الله الخالق والفادي “هويتها” و”ماهيتها” وحسب، بل “رسالتها”، وما بإمكانها ومن واجبها أن “تفعل”. إن الدور الذي يدعو الله العائلة إلى القيام به في التاريخ، ينبع من كيانها الخاص ويعرب عن تطوّرها الكياني الحيوي. وتجد كل عائلة في ذاتها نداءً ملحّاً لا يمكنها أن تتجاهله، وهو يحدّد لها، في وقت معاً، كرامتها، ومسؤوليتها: أيتها العائلة، “عليك أن تصبحي ما أنت”.
فعلى العائلة بالتالي أن تعود إلى “بدء” فعل الخالق الذي قام به الله، إذا كانت تريد أن تعرف ذاتها وتحققها وفقاً لا لحقيقة كيانها الباطنية وحسب، بل لعملها في التاريخ أيضاً. وما دام مخطّط الله قد جعل العائلة “شركة حياة وحب عميقة” (44) فإن لهذه العائلة رسالةً قوامها أن تصبح أكثر فأكثر ما هي، أعني شركة حياة وحب عن طريق جهد يجد كماله – شأن كل كائن مخلوق ومفتدى – في ملكوت الله. ولا بدّ لنا، إذا ما نظرنا إلى العائلة نظرة تذهب بنا إلى جذورها، من القول أن الحب هو الذي يحدّد، في آخر المطاف، جوهر العائلة ودورها. ولهذا كان للعائلة رسالةٌ تقوم على صيانة الحب وكشفه ونقله على أنه انعكاس حيّ لمحبة الله للإنسانية ومحبة المسيح الرب للكنيسة عروسه، واشتراك حق في هاتين المحبتين.
وإن كل دور خاص بالعائلة، إنما هو تعبير في الواقع عن حقيقة هذه الرسالة الأساسية، ومواصلة أكيدة محدّدة لها، فبات لزاماً علينا، والحالة هذه، أن نغوص على ما لرسالة العائلة من غنى فريد ونبرز عناصرها التي هي، في وقت معاً، متعدّدة وواحدة.
ولهذا شدّد المجمع الأخير، انطلاقاً من الحب، وبالعودة المستمرّة إليه، على أربعة أدوار تضطلع بها العائلة وهي:
1- إنشاء شركة أشخاص.
2- خدمة الحياة.
3- المساهمة في تطوير المجتمع.
4- المشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها.
أولاً- إنشاء شركة أشخاص
الحب مبدأ الشركة وقوّتها
18- العائلة التي تقوم على المحبة وتحيا بها، هي شركة أشخاص: رجل وامرأة يقيّدهما زواج، والدين وأولاد، وذوي قربى؛ وتقوم مهمّة العائلة على أن تحيا بأمانة واقع الشراكة وحقيقتها في جهد متواصل لتطوير شركة أشخاص أصيلة.
والمبدأ الباطني لهذه المهمة وقوّتها الدائمة وهدفها الأخير إنما هي المحبة: وكما أن العائلة دون محبة ليست شركة أشخاص، هكذا لا يمكن العائلة دون محبة أن تحيا وتنمو وتتكامل بوصفها شركة أشخاص. وإن ما كتبناه في الرسالة العامة: فادي الإنسان، ينطبق أول ما ينطبق وعلى الأخص، على العائلة كعائلة: “لا يستطيع الإنسان أن يعيش دون محبة ويبقى لغزاً لا يفهم في عين نفسه، ولا معنى لحياته، إن لم تتوفر له المحبة، إن لم يجدها، ويختبرها بنفسه ويشارك فيها مشاركة صحيحة” (45).
وتحيا المحبة بين الرجل والمرأة في الزواج، وبالتالي وعلى نطاق أوسع، بين أعضاء العائلة الواحدة – بين الوالدين والأولاد، بين الإخوة والأخوات، بين الأقارب والأنسباء – وتنتعش بقوّة حميمة باطنية مستمرة تفضي بالعائلة إلى شراكة تتوطّد وتتأصّل يوماً بعد يوم فتكون من الشراكة الزواجية العائلية الأساس والمحرّك.
وحدة الشراكة الزواجية التي لا تنقسم
19- إن الشراكة الأولى هي تلك التي تقوم وتتطوّر بين الرجل والمرأة: وبقوّة عهد الحبّ الزواجي لم يعد الرجل والمرأة “اثنين، بل جسد واحد” (46)، وهما مدعوان لينموا باستمرار في شراكتهما عبر أمانتهما اليومية لوعدهما الزوجي بهبة الذات المتبادلة التامة.
وتمدّ هذه الشراكة الزوجية جذورها في ما بين الرجل والمرأة من تكامل طبيعي، وتتغذّى بإرادة الزوجين وبعزمهما على تقاسم أثقال الحياة كاملة، أعني ما لهما وما هما: ولهذا إن مثل هذه الشراكة هي ثمرة وعلامة لمطلب إنساني عميق. لكن الله يأخذ في المسيح الرب هذا المطلب ويثبتّه وينقيّه ويرفعه ويكمّله بواسطة سر الزواج: إن الروح القدس المفاض في أثناء الاحتفال بالسر يقدّم للزوجين شراكة جديدة، شراكة محبة هي صورة حيّة واقعية للوحدة الفريدة التي تجعل من الكنيسة جسد المسيح الرب السري الذي لا ينقسم. وهبة الروح هي قاعدة حياة للزوجين المسيحيين، وهي في الوقت عينه دافع يحفزها على التقدّم كل يوم نحو وحدة أكثر غنى بينهما على كل الأصعدة – أي صعيد الجسد والأخلاق والقلب والعقل والإرادة والروح (47) – وعلى الإعراب للكنيسة، بهذه الطريقة، وللعالم عن شراكة المحبة الجديدة المعطاة بنعمة المسيح.
ويعارض كليّاً مثل هذه الشراكة تعدّد الزوجات الذي يتنافى مباشرةً ومخطّط الله على ما يتجلّى لنا منذ البدء، لأنه يتنافى والمساواة في الكرامة الشخصية بين الرجل والمرأة اللذين يتبادلان هبة الذات في الزواج عن حبّ تامّ، وبالتالي فريد، مانع. وقد جاء في المجمع الفاتيكاني الثاني: “إن المساواة في الكرامة الشخصية التي يجب الاعتراف بها للرجل والمرأة في ممارسة الحبّ الكامل الذي يخصّ به أحدهما الآخر، تظهر بجلاء وحدة الزواج التي ثبّتها الرب” (48).
شراكة دائمة لا تنحلّ
20- لا تتميز الشراكة الزوجية بالوحدة وحسب، بل بعدم الإنحلال أيضاً: إن هذا الاتحاد الوثيق القائم على هبة الذات المتبادلة بين شخصين يقتضي، كما يقتضي خير الأولاد، الزوجين، الأمانة الكاملة وعدم انحلال وحدتهما (49).
ومن واجب الكنيسة أن تثبّت مجدّداً العقيدة القائلة بعدم انحلال الزواج وتشدّد عليها، كما فعل آباء المجمع، في وجه جميع أولئك الذين يعتقدون في أيامنا أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الاقتران مدى الحياة، بشخص واحد، وأولئك الذين ينساقون في تيار ثقافي يرفض عدم انحلال الزواج ويسخر علنا من واجب محافظة الأزواج على الأمانة. ولا بدّ من الإشادة مجدّداً وبطيبة خاطر، بطبيعة الحبّ الزواجي الجائم الذي يستند إلى المسيح الرب كأساس له ويتقوى به (50).
ويجد عدم انحلال الزواج المتأصل في هبة الأزواج ذاتهم هبة شخصية كاملة، والقاضي به خير الأولاد، حقيقته الأخيرة في المخطّط الذي كشف عنه الله في الوحي: إنه هو من يريد عدم انحلال الزواج ويقدّمه ثمرةً وعلامة ومطلباً تفرضه المحبة البالغة الأمانة التي يحيط بها الله الإنسان ويخصّ بها المسيح الرب كنيسته.
ويجدّد المسيح المخطّط الأول الذي طبعه الله الخالق في قلب الرجل والمرأة، ويعطي لدى الاحتفال بسر الزواج “قلباً جديداً”: وهكذا يستطيع الأزواج لا التغلب على “قساوة القلب” وحسب (51)، بل المشاركة على الأخصّ، في محبة المسيح الكاملة الدائمة، المسيح، العهد الجديد الأبدي الذي صار جسداً. وكما أن الرب يسوع هو “الشاهد الأمين” (52)، و”النعم” لمواعيد الله (53)، وبالتالي التحقيق النهائي للأمانة السامية التي يحبّ الله معها شعبه، هكذا يدعى الأزواج المسيحيون إلى المشاركة حقاً في عدم الانحلال الذي لا عودة عنه، والذي يشدّ المسيح إلى الكنيسة عروسته التي يحبّها حتى النهاية (54).
إن هبة السر دعوة، وفي الوقت عينه، وصية للأزواج المسيحيين ليحافظوا في ما بينهم على الأمانة، ولو عصفت بهم المصاعب والمحن، ثابتين، بطيبة خاطر، على الطاعة لإرادة الرب: “ما جمعه الله، لا يفرّقه إنسان” (55).
ومن أهمّ واجبات الأزواج المسيحيين وأشدّها إلحاحاً في أيامنا الشهادة لما لعدم الانحلال والأمانة الزواجية من أهمية وقدر كبير. ولهذا، إنّا وجميع إخواننا الذين اشتركوا في المجمع، نمتدح ونشجّع أولئك الأزواج الكثر الذين يحافظون، برغم ما يعترضهم من مصاعب كبرى، على ما في عدم الانحلال من خير وفائدة، ويولونه الرعاية: إنهم، هكذا، يقومون، بتواضع وشجاعة، بالمهمة الموكولة إليهم، وهي أن يكونوا في العالم “علامة” – وضيعة ولكن فاعلة، معّرضة أحياناً للتجربة، ولكن مجدّدة – تدّل على الأمانة غير المتزعزعة التي يحبّ الله والسيد المسيح بها كل الناس وكلاّ منا. ولهذا يجب تقدير قيمة الشهادة التي يؤدّيها أولئك الأزواج الذين، برغم تخلّي قرينهم عنهم، لم يعقدوا زواجاً جديداً، بقوّة ما لديهم من إيمان ورجاء مسيحيين؛ إنهم يؤدون أيضاً للأمانة شهادة أصيلة يحتاج إليها العالم اليوم أشدّ الحاجة. ولهذا يجب على رعاة الكنيسة ومؤمنيها أن يثبّتوهم ويساندوهم.
شراكة العائلة الموسّعة
21- إن الشراكة الزواجية هي الأساس الذي تنهض عليه شراكة أوسع، هي شراكة العائلة، التي تشمل الوالدين والأولاد، الإخوة والأخوات في ما بينهم، ذوي القربى وسائر أعضاء العائلة. وتتغذّى هذه الشراكة في روابط اللحم والدم الطبيعية، وتتوطّد وتتكامل تكاملاً إنسانياً بإنشاء روابط روحية أغنى وأعمق، وبالعمل على إنضاجها: والمحبة التي تغذّي العلاقات الشخصية التي تقوم بين مختلف أعضاء العائلة، هي القوّة الداخلية التي تحقق الشراكة العائلية والمجتمع وتبعث فيها الحياة.
والعائلة المسيحية مدعوّة أيضاً لتختبر نوعاً من شراكة جديدة، فريدة، تثّبت وتكمّل الشراكة الطبيعية الإنسانية. وفي الواقع إن نعمة يسوع المسيح الذي هو “بكر إخوة كثيرين” (56) هي بطبيعتها وحيوتها الداخلية “نعمة أخوّة”، على ما يدعوها مار توما الأكويني (57). والروح القدس المفاض لدى الاحتفال بالأسرار هو ينبوع حيّ وغذاء دائم للشراكة الفائقة الطبيعة التي تشدّ المؤمنين إلى المسيح، وبعضهم إلى بعض، في وحدة كنيسة الله. وتظهر العائلة المسيحية الشراكة الكنسية وتحققها، ولهذا يمكن ويجب أن تدعى “كنيسة منزلية” (58).
وقد أعطي جميع أعضاء العائلة، كل حسب مواهبه الخاصة، النعمة، وفرض عليهم واجب بناء شراكة الأشخاص يوماً بعد يوم، بحيث تكون “العائلة مدرسة أوفر إنسانية” (59).
وهذا يتمّ، سواء أكان بإحاطة الأولاد والمرضى والشيوخ بالعناية والمحبة، أم بتبادل الخدمات اليومية، أم بالمشاركة في الخيور والأفراح والاتراح.
ولبناء مثل هذه الشراكة الأساسية، لا بدّ من قيام تبادل تربوي بين الوالدين والأبناء، يعطي فيه كل منهم ويأخذ (60). ويعمل الأبناء فعلاً وبإخلاص، على بناء عائلة إنسانية مسيحية، أصيلة، بما يبدون من محبة واحترام وطاعة لوالديهم، وهذا عمل يستحيل على سواهم القيام مقامهم فيه (61). وإنهم ليعملون ذلك بطيبة خاطر، إذا مارس الوالدون سلطتهم التي لا يجوز لهم التخلّي عنها، على أنهم يقومون “بوظيفة” خاصة، أي بخدمة ترمي إلى خير أبنائهم الإنساني والمسيحي، وتساعدهم، على الأخص، على التمتّع بالحريّة وبما يستتبعها من واجب ومسؤولية، هذا إذا ظلّ الوالدون في الوقت عينه واعين تماما “الهبة” التي يأتيهم بها أبناؤهم باستمرار.
ولا تستمرّ الشراكة العائلية وتتكامل إلاّ إذا صاحبها عزم وتصميم على التضحية والتفاني. وهذا يتطلّب في الواقع، من الجميع ومن كل منهم، إرادة مصممّة، سمحاء، ميّالة إلى الرفق والسماح والغفران والاتفاق والمصالحة. وما من عائلة تجهل كيف أن الأنانية العمياء والخلافات والمشاحنات والخصومات تمزّق الشراكة العائلية وتقضي أحياناً عليها: من هنا تنشأ، في حضن العائلة، أسباب خصام كثيرة مختلفة. لكن الله، صانع السلام، يدعو دائماً، في الوقت عينه، كل عائلة لإجراء “المصالحة”، ولاختبارها بفرح يجدّد، ورعاية الشراكة المستعادة والوحدة المسترجعة. والاشتراك، على الأخص، في سر المصالحة، وفي وليمة جسد المسيح الأوحد، يعطي العائلة المسيحية ما تحتاج إليه من نعمة وما يقيّدها من حقيقية يريدها الله، وإذا فعلت ذلك أرضت الرب الذي يرغب رغبة حارة في “أن يكونوا واحداً” (62).
حقوق المرأة ودورها
22- إن العائلة، بما أنها – ويجب أن تصبح دائماً – شراكة وشركة أشخاص، تجد في المحبة سبباً يجفزها على تقبّل كل من أعضائها واحترامه وتطويره لما يتميّز به من كرامة سامية، هي كرامة الأشخاص الذين هم صور الله الحيّة. والمقياس الأدبي، على ما أكدّ بحق آباء المجمع، العلاقات الزواجية والعائلية الأصيلة، يقوم على تنمية كرامة كل من الناس وتطوير دعوته، وهذا لا يتحقق تماماً إلا بهبة الذات هبة خالصة (63).
ولهذا شاء المجمع أن يولي المرأة، على الأخص، عناية خاصة مع ما لها من حقوق وعليها من واجبات في العائلة والمجتمع. ويجب للسبب عينه، إيلاء الردل، سواء أكان زوجاً وأبا، والأولاد والأطفال والشيوخ ما يستحقّون من التقدير.
أما في ما خصّ المرأة، فتهمّ، قبل كل، المجاهرة بأنها كالرجل تنعم بذات الحقوق وتتقيّد بذات الواجبات: وتتحقق هذه المساواة بطريقة فريدة، في هبة الذات المتبادلة بين الزوجين، وهبة كليهما ذاتيهما لأبنائهما. وكلتا الهبتين من خصائص الزواج والعائلة. وإن ما يدركه العقل البشري ويعرضه، أعلن بكلمة الله إعلاناً تاما: ويشهد تاريخ الخلاص، في الواقع، شهادة ثابتة، صريحة، على كرامة المرأة.
عندما خلق الله الناس “رجلاً وامرأة” (64)، خلع على الرجل والمرأة كرامة شخصية، متساوية، ومتّعهما بحقوق يستحيل انتزاعها، وحمّلهما مسؤوليات خاصة بالشخص البشري. وقد أظهر الله ما للمرأة من كرامة فائقة باتخاذه هو عينه جسدا بشريا من العذراء مريم التي تكرّمها الكنيسة أما لله، فتدعوها حواء الجديدة، وتنصبها مثالاً للمرأة المفتداة. وإن أحاطة السيد المسيح النساء باحترام ودعوته إياهن إلى اتّباعه ومصادقته، وظهوره صباح يوم القيامة لامرأة قبيل ظهوره لسائر التلاميذ بعد قيامته من الموت، وإيكاله إلى النسوة مهمة إذاعة خبر قيامته المفرح على التلاميذ، إن كل هذه أدلّة تثبت ما خص به الرب يسوع المرأة من تقدير. ويقول بولس الرسول: “فأنتم كلّكم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع… ولا فرق الآن بين يهودي وغير يهودي، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة، فأنتم كلّكم واحد في المسيح يسوع” (65).
المرأة والمجتمع
23- برغم أنه لا مجال هنا إلى معالجة قضية علاقات المرأة بالمجتمع وما لها من تشعبّات وتعقيدات، وأن الحديث يقتصر الآن على بعض نقاط يجدر التوقّف عندها، لا يمكننا إلاّ أن نلاحظ أنه لا يزال في الإطار العائلي الخاص، تقليد اجتماعي وثقافي واسع الانتشار يقضي بأن تضطلع المرأة فقط بدور الزوجة والأم وإلاّ تسند إليها، بطريقة خاصة، وظائف عامة تُحفظ عادة للرجال.
وما من شك في أن الرجل والمرأة متساويان في الكرامة والمسؤولية، وهذا ما يبرّر اضطلاع المرأة بالوظائف العامة، كل التبرير، غير أن تقدّم المرأة الصحيح يوجب الاعتراف بوضوح بأهمية الدور الوالدي والعائلي الذي تضطلع به، إذا ما قورن بسائر الوظائف العامة وباقي المهمّات في الحياة. ويبقى أنه من الواجب أن تتكامل هذه الوظائف والمهمّات في ما بينها، إذا كانت ترمي إلى تطوير اجتماعي وثقافي يكون حقاً إنسانياً.
ويتمّ ذلك بسهولة، إذا أوضح، على ما تمنّى المجمع “لاهوت عمل” مجدّدٌ مفهوم العمل في الحياة المسيحية وحدّد الرباط الأساسي الذي يشدّ العائلة إلى العمل، وأبان ما للعمل المنزلي ولتربية الأولاد من معنى أصيل لا يستغنى عنه (66). ومن واجب الكنيسة وحقها أن تساعد المجتمع المعاصر، مفرغة جهد الطاقة، لكي تطالب باعتراف الجميع، بحق، بعمل المرأة في البيت وبإيلائه ما يجب له من احترام وتقدير لما له من قيمة خاصة لا بديل عنها. وهذا له شأن كبير في ممارسة فن التربية: وتزول إذ ذاك الفوارق من أساسها بين مختلف الأعمال والوظائف في الحياة، ويتضح في الوقت عينه أن الجميع يكبّون، في كل القطاعات، على العمل بما لهم من حقوق وعليهم من واجبات متساوية. وهكذا تزداد صورة الله ومثاله سطوعاً في الرجل والمرأة.
وإذ كان من الضروري الاعتراف للنساء، مثل الرجال، بحق الاضطلاع بمختلف الوظائف العامة، فمن واجب المجتمع أن يتنظّم تنظيماً لا يجبر الزوجات في الواقع والأمهات على العمل خارج البيت، بل يتيح لعائلاتهن أن تعيش وتزدهر في كرامة، فيما تنصرف كل منهن، إلى العناية بعائلتها الخاصة. ولا بدّ، فضلا عن ذلك، من التغلّب على الذهنية التي تعتقد أن شرف المرأة ينجم عن العمل الذي تقوم به خارج البيت لا داخله. وهذا يقضي من جهة على الرجال بتوقير المرأة وإحاطتها بالمحبة حقا، والمحافظة على ما لها من كرامة كشخص، مع كل ما يجب للشخص من احترام، ويقضي من جهة ثانية على المجتمع بتهيئة ظروف مؤاتية تشجّع على العمل في البيت.
وعلى الكنيسة التي تحترم، على ما ينبغي، اختلاف الدعوة لدى الرجل والمرأة، أن تعمل، قدر المستطاع، على تطوير ما لهما في الحياة من حقوق متساوية وكرامة: وذلك لمصلحة الجميع العامة، أعني العائلة والمجتمع والكنيسة.
وإنه لواضح بعد كلّ، إن هذا كلّه يهدف لا إلى حمل المرأة على التخلّي عن طبيعتها الأنثوية، أو التمثّل بأطباع الرجل، بل إلى المجاهرة بما للمرأة من طبيعة إنسانية أنثوية حق، يجب أن تتجلّى في التصرّف في البيت وخارجه، دون إهمال مختلف العادات والثقافات في هذا المجال.
امتهان كرامة المرأة
24- وتبتعد ويا للأسف هذه الذهنية المتأصّلة عن المفهوم المسيحي لكرامة المرأة، وهي تعتبر الإنسان لا شخصا بل شيئاً أو سلعة تباع وتشترى وتستخدم للمصالح الخاصة وتوفير اللذة ليس إلاّ: والمرأة هي أولى ضحايا هذه الذهنية.
وهذه الفكرة الراسخة في الذهن تثمر ثماراً مرّة جدا من مثل: احتقار الرجل والمرأة، والاستعباد، والاستبداد بالضعفاء، والكتابات والصور الخلاعية، والدعارة – وعلى الأخص إذا كانت منظّمة – وجميع أشكال التفرقة، على اختلافها، التي تتجلّى في قطاع التربية والمهنة والأجور وما شابه.
ولا يزال هناك، بالإضافة إلى ذلك، في قسم كبير من مجتمعنا، عدّة أشكال للتفرقة المخزية توقع أذى كبيراً بفئات خاصة من النساء، مثل الزوجات اللواتي لا أولاد لهن، والأرامل، والمنفصلات عن أزواجهن، والمطلّقات والأمهات غير المتزوجات.
وقد شكا آباء المجمع، بكل ما لديهم من قوة، من هذه الفوارق. ولذلك إنّا نسأل الجميع أن يبذلوا قصارى الجهد ليقوموا بعمل رعوي، خاص، جاد وفعّال لاستئصال هذه الفوارق المشار إليها، بغية الوصول إلى تقدير صورة الله الساطعة في جميع الناس، دونما استثناء، حق قدرها.
الرجل زوج وأب
25- وفي داخل هذه الشراكة والشركة العائلية والزواجية يدعى الرجل إلى القيام بوظيفته زوجاً وأباً فيعيشها فيما يعيش هبة ذاته. وهو يرى في زوجته إتماما لقصد الله الذي قال: “لا يحسن أن يكون الإنسان وحده، فأصنع له عوناً بإزائه”، وقد تبنّى آدم الزوج الأول، هذا الكلام فقال: “ها هذه المرّة عظم من عظامي ولحم من لحمي” (68).
ومن المفترض أن يقضي الحب الزواجي الحق على الرجل بإحاطة المرأة، لما لها من كرامة متساوية، باحترام كبير: “لست سيّدا، قال القديس امبروسيوس في إحدى كتاباته، بل زوجا: لم تتخذ خادمة، بل زوجة… بادلها العناية وقابل الحب بالامتنان” (69).
وعلى الرجل أن يعيش مع قرينته “نوعا من صداقة شخصية… خاصة (70). وعلى المسيحي بالتالي أن يرعى مشاعر حب جديد يخصّ به امرأته ويظهر لها ما يظهره المسيح للكنيسة من محبة خالصة شديدة (71).
ومحبة القرينة التي أصبحت أمّا، وكذلك محبة الأولاد، هي الطريق الطبيعية التي تقود الزوج إلى تفهم أبوتّه تحقيقها. وحيثما تدفع الظروف الاجتماعية والثقافية الوالد بسهولة إلى التغيّب أحياناً عن العائلة أو على الأقل إلى التراخي في القيام بواجب التربية، يجب العمل على اقناع المجتمع مجدّداً بما للآب في العائلة ومن أجلها من دور فريد، بالغ الأهمية، لا يمكن الاستغناء عنه (72). ويعلّم الاختبار أن غياب الأب يحدث اضطرابات نفسية وأدبية ومصاعب خطيرة في العلاقات العائلية، وكذلك القول أيضا، ولو بطريقة مخالفة، عن وجود أب مستبّد حيثما لا يزال، على الأخص، سلطان الرجال طاغيا، وهذا ما يدعى “مازوشية” أو حيثما تسيء السلطة الوالدية استخدام صفات الرجولة التي تحتقر المرأة وتحول دون تطوّر علاقات عائلية سليمة.
ويندفع الرجل، فيما يظهر مجدداً أبوّة الله على الأرض ويعيشها (73) إلى تأمين تطوّر منسجم لجميع أعضاء العائلة: وهذا يتحقق عن طريق وعي عميق لما تفرضه الحياة الناشئة إلى جانب قلب الأم من مسؤولية، وعن طريق تربية جادّة رصينة يقوم بها الزوج بالاشتراك مع زوجته (74)، وعمل لا يفرّق العائلة بل يساعد على توطيدها واستقرارها، وأداء شهادة حياة مسيحية ناضجة تدخل الأولاد، بطريقة فاعلة، في اختبار حيّ مع المسيح والكنيسة.
حقوق الولد
26- من الضروري أن توجّه في العائلة، التي هي شركة أشخاص، عناية خاصة إلى الولد بحيث تحاط كرامته الشخصية بتقدير خاص وتحظى حقوقه باحترام كبير ورعاية أكيدة سمحاء. وهذا ما يجب قوله في كل ولد وعلى الأخص إذا كان قاصراً ومعوزا أو مريضا، متألما، أو معاقا.
والكنيسة، إذ تنادي بوجوب العناية بكل ولد يبصر النور، عناية رفيقة شديدة، وإذ تخصّه بمثل هذه العناية، إنما تقوم بأوجب واجباتها، وهي في الواقع مدعوّة لكي تثبت وتجدّد في التاريخ مثل السيد المسيح ووصيته بشأن الأطفال الذين أراد أن يجعلهم في وسط ملكوت الله يوم قال: “دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأن أمثال هؤلاء ملكوت الله” (75).
وإنّا نكرر هنا ما قلناه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من تشرين الأول سنة 1979: “بودّنا أن نعرب عن الفرحة التي يحملها إلى كل منا الأولاد الذين هم ربيع الحياة واستباق للتاريخ الآتي لكلّ من الأوطان الأرضية. وما من بلد في العالم، وما من نظام سياسي يمكنه أن يفكر بمستقبله إلا من خلال صورة هذه الأجيال الطالعة التي تتلّقى، وهي تتأثر خطى الآباء، التراث المتعدد الأشكال القائم على قيم الأمة التي ينتمون إليها، وعلى ما عليها من واجبات ولها من تطلّعات، وهي تتلّقى، في الوقت عينه، تراث العائلة البشرية جمعاء. والعناية بالطفل قبل مولده، ومنذ اللحظة الأولى من الحبل به، وبعدئذ طوال فترة الطفولة والمراهقة، إنما هي المقياس الأولي والأساسي لمعرفة الإنسان ما يقيم من علاقة مع الناس. وبعد، ماذا يمكننا أن نتمنّى لكل شعب، وللبشرية جمعاء، ولكل أولاد العالم، غير مستقبل أفضل يصبح فيه احترام حقوق الإنسان واقعاً ملموساً في إطار سنة الألفين التي تقترب” (76).
وإن ما يجب أن يميّز دائما المسيحيين، وعلى الأخص العائلات المسيحية تمييزاً جوهرياً، إنما هو قبولهم كل ولد يبصر النور ومحبته وتقديره والعناية به عناية موحّدة ومتعدّدة الأشكال: مادية وعاطفية وتربوية وروحية. وهكذا يسهم الأولاد، فيما ينمون “في القامة والحكمة والنعمة عند الله والناس” (77)، إسهاماً قيّماً في بناء الشركة العائلية وفي تقديس والديهم (78).
الشيوخ في العائلة
27- هناك ثقافات تحيط الشيوخ الطاعنين في السن باحترام فريد ومحبة كبيرة: فهي بدلاً من أن تسلخ الشيخ عن العائلة أو أن تسلّم بوجوده تسليمها بعبء لا فائدة منه، فإنها تبقيه مندمجاً في الحياة العائلية ليواصل القيام فيها بدور ناشط مسؤول – فيما يلتزم باحترام ما يسموّنه استقلالية العائلة الجديدة – ويقوم على الأخص بمهمة سامية، مهمة الشهادة على الزمان الماضي ومدّ الشبان والأجيال الآتية بالحكمة.
غير أن هناك ثقافات سواها أدّت وتؤدّي، تحت تأثير التقدّم الصناعي الآلي وتطوّر المدن المكتظة بالسكان، بطريقة غير منتظمة، إلى نبذ الشيوخ نبذاً غير مقبول يتسبّب لهم أنفسهم بآلام مبرّحة، وفي الوقت عينه لعائلات كثيرة، بفقر روحي.
فمن واجب عمل الكنيسة الرعوي أن يستحثّ جميع الناس على اكتشاف دور الشيوخ في الشركة المدنيّة والكنسيّة وعلى الأخص في العائلة، وعلى تقييم هذا الدور. وفي الواقع “إن حياة الشيوخ تساعد على توضيح سلّم القيم البشرية وتثبت تسلسل الأجيال وتظهر ما يقوم من ترابط رائع في شعب الله. غالباً ما يؤتى الشيوخ نعمة خاصة تمكّنهم من ردم الهوة التي تفصل بين الأجيال قبل أن تحفر: وكم من الأولاد الذين قد وجدوا التفهّم والمحبة في عيون الشيوخ وأقوالهم ومداعباتهم. وكم من الشيوخ الذين سلّموا بطيبة خاطر بصحّة هذه الآية من سفر الأمثال: “إكليل الشيوخ بنو البنين” (أمثال 17، 16)!” (79).
ثانياً – خدمة الحياة
1) نقل الحياة
معاونون في محبة الله الخالق
28- عندما خلق الله الرجل والمرأة على صورته ومثاله، انجز عمل يديه وتوّجه بأن دعاهما إلى المشاركة بصورة خاصة في محبته، وفي سلطانه أيضاً بوصفه خالقاً وأبا، وذلك بمعاونتهما الحرّة المسؤولة في نقل هبة الحياة البشرية “وباركهم الله وقال لهم: انموا أكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها” (80).
فوظيفة العائلة الأولى هي إذن خدمة الحياة، وتحقيق بركة الخالق الأولى، عبر الأجيال، عن طريق نقل الصورة الإلهية من إنسان إلى إنسان بواسطة الإيلاد (81).
والخصوبة ثمرة المحبة الزوجية وعلامتها وشهادة حيّة على تبادل هبة الذات التامة بين الزوجين: “إن الحبّ الزوجي الصحيح المفهوم على حقيقته، وتكوين الحياة العائلية النابعة منه، إنما يرميان إلى إعداد الزوجين للمشاركة بشجاعة في حب الخالق والمخلص الذي يريد بواسطتهما، وبدون انقطاع إنماء أسرته الذاتية وتعزيزها، على أن لا يغفل ما تستحقّه سائر أهداف الزواج من اعتبار” (82).
وخصوبة الحب الزواجي لا تقتصر على إيلاد البنين، ولو فهم الإيلاد بمعناه البشري الخاص: لأنها تشمل جميع ثمار الحياة الأبدية والروحية والفائقة الطبيعة وتغتني بها، وهذه الثمار ينقلها الأب والأم، وفقاً لدعوتهما، إلى أبنائها وبواسطة هؤلاء إلى الكنيسة والعالم.
عقيدة الكنيسة وقاعدتها القديمتان والجديدتان أبداً
29- ولما كان حب الأزواج مشاركة فريدة في سر الحياة ومحبة الله عينه، فإن الكنيسة تعرف أن قد أسندت إليها وظيفة خاصة تقوم على المحافظة على كرامة الزواج السامية ورعايتها، وعلى القيام بواجب خطير هو واجب نقل الحياة البشرية.
ولهذا، وجريا على تقليد الجماعة الكنسية الحيّ على مرّ التاريخ، نقل إلى عصرنا المجمع الفاتيكاني الثاني الأخير والتعليم الذي أعلنه سلفنا بولس السادس على الأخص في رسالته العامة: الحياة البشرية، خبرا نبوياً حقاً يثبت مجدّداً ويعرض بوضوح ما تعلّم الكنيسة من عقيدة وتتمشّى عليه من قاعدة – وهما عقيدة وقاعدة قديمتان، جديدتان أبداً – بشان الزواج ونقل الحياة.
ولهذا أعلن آباء المجمع، في اجتماعهم الأخير، ما حرفيته: “إن هذا المجمع المقدس الملتئم في وحدة الإيمان مع خليفة بطرس يتمسّك تمسّكاً شديداً بما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني (راجع فرح وأمل، عدد 50) وبعده بما ورد في الرسالة العامة: الحياة البشرية، وعلى الأخص، بما يتعلّق بالحب الزوجي الذي يجب أن يكون إنسانياً تماماً ومقصوراً على ذاته ومنفتحاً على حياة جديدة (الحياة البشرية، عدد 11 وراجع 9 و 12)” (83).
الكنيسة تقف إلى جانب الحياة
30- وتندرج عقيدة الكنيسة اليوم في إطار اجتماعي وثقافي بجعلها صعبة الفهم على العقول، ويظهر، في الوقت عينه، الحاجة الملحّة إليها لتمكين الرجل والمرأة من إحراز تقدّم حقيقي.
وفي الواقع إن التقدّم العلمي والتقني الذي يزيد باستمرار في سلطان إنسان اليوم على الطبيعةن لا يغذّي الأمل بخلق بشرية جديدة أفضل وحسب، بل يولّد أيضاً قلقاً عميقاً على المستقبل. وهناك من يتساءلون عمّا إذا كان من الخير للإنسان أن يحيا أم من الخير له ألاّ يكون قد ولد، وهم يشكّون في ما إذا كان يجوز لهم أن يستدعوا إلى الوجود أناساً قد يلعنون حياة سيحيونها في عالم قاس لا يستطيعون فيه معرفة ما يخبّئ لهم من أهوال. وهناك من يعتقدون أن ما تقدّمه التقنية من فوائد، إنما هو مقصور عليهم فيحرمونها سواهم ويفرضون عليهم وسائل منع الحبل أو ما هو شرّ منها. وهناك آخرون أسرى عقلية الاستهلاك، ولا همّ لهم سوى الاستكثار من الخيور المادية وتكديسها باستمرار، لا يفهمون، لا بل يرفضون ما تأتي به حياة إنسانية جديدة من خيور روحية، والسبب الأخير لهذه العقلية خلّو قلوب الناس من الله الذي بإمكان محبته وحدها، لا أن تقوى على كل ما يمكن أن يكون في العالم من مخاوف، بل أن تتغلب عليها أيضاً.
وهكذا نشأت عقلية تقاوم الحياة، على ما اتضح في كثير من القضايا الحالية ولنأخذ مثلاً هذا الخوف الناشئ عن الدروس التي يقوم بها علماء البيئة وعلماء التخطيط المستقبلي بشأن الضغط السكاني، ويبالغون أحياناً في الحديث عمّا يهدّد نوعية الحياة من خطر من جراء تكاثر الولادات.
أما الكنيسة فتعتقد راسخ الاعتقاد أن الحياة البشرية، ولو هزيلة ومتألمة، هي دائماً عطية رائعة من كرم الله وجوده. وهي تقف إلى جانب الحياة في وجه ما يلّف به التشاؤم الأسود والأنانية العمياء، العالم، من ظلام، وتكتشف في كل حياة بشرية روعة “الأمين” الذي هو المسيح (84). وتضع في مقابل السلبية التي تجتاح العالم وترهقه، الإيجابية الحيّة، وتدافع عن الإنسان والعالم، ضد الذين ينصبون الإشراك للحياة للإيقاع بها.
والكنيسة مدعوّة للإعراب مجدّداً للجميع – انطلاقاً من اعتقاد لها راسخ ثابت – عن إرادتها في دفع الحياة البشرية إلى الأمام بكل ما لديها من قوة وصيانتها من كل ما ينصب لها من إشراك أيا يكن الحالة التي توجد فيها مرحلة التطوّر التي بلغتها.
ولهذا ترذل الكنيسة، رذلها لامتهان خطير للكرامة الإنسانية والعدالة، جميع النشاطات التي تقوم بها الحكومات وغيرها من السلطات العامة للحدّ من حرية الأزواج في ما يتعلّق بالقرار الذي يتخذونه بشأن البنين. ولهذا يجب رفض كل عنف تلجأ إليه أمثال هذه الحكومات لمنع الحبل ونبذ ما يسمّى بالتعقيم والإجهاض المفتعل، بمنتهى الشدة. ويجب أيضاً تقبيح ما يقيّد، في العلاقات العامة بين الأمم، المساعدات الاقتصادية الممنوحة للشعوب بنيّة منع الحمل والتشجيع على التعقيم والإجهاض المفتعل، كما يقبّح ظلم كبير (85).
لكي يتحقق دائماً قصد الله أكثر فأكثر
31- وما من شك في أن الكنيسة تدرك أيضاً ما يواجه الأزواج، اليوم، في كثير من البلدان، من قضايا عديدة معقّدة تتعلّق بوظيفتهم الخاصة بنقل الحياة، وفقاً لما يمليه عليهم واجب الحالة والضمير. وهي تعترف كذلك بخطورة مشكلة التزايد السكّاني، على ما تطرح في مختلف أنحاء العالم، مع ما ينجم عنها من موجبات أدبية.
وهي مع ذلك تعتقد أن إنعام النظر في هذا الأمر من جميع وجوهه، يؤكد مجددّاً كل التأكيد أهميّة العقيدة الأصيلة الخاصة بتنظيم الولادات التي عرضها مرة جديدة المجمع الفاتيكاني الثاني والرسالة الباباوية العامة في “الحياة البشرية”.
ولهذا نشعر مع آباء المجمع أن من واجبنا أن نستحثّ اللاهوتيين ونلحّ عليهم لكي يضافروا جهودهم لاستجلاء الأسس الكتابية والدوافع الأدبية والأسباب المتعلقة بالشخص البشري، الكامنة وراء هذه العقيدة. وهكذا يمكن، في إطار عرض متناسق مستساغ، وضع عقيدة الكنيسة، في هذا المجال الهام، في متناول جميع الناس من ذوي الإرادة الصالحة، وتوضيح مفهومها وتعميقه يوما بعد يوم: ويمكن، بهذه الطريقة، أن يتحقق قصد الله دائماً أكثر فأكثر من أجل خلاص الإنسان ومجد الله.
وعلى اللاهوتيين خاصة، في هذا المجال، أن ينسّقوا الجهود مستلهمين ما رسخ في نفوسهم من طاعة للسلطة الكنسية التعليمية التي لها وحدها أن ترشد بطريقة أكيدة شعب الله إلى ما يجب سلوكه من طريق، وذلك لما بين العقيدة الكاثوليكية بهذا الشأن والنظرة التي تعرضها الكنيسة عن الإنسان، من رباط وثيق: فالشك أو الضلال بشأن الزواج والعائلة يفضي إلى إسدال ستار من الظلام خطير على الحقيقة الشاملة المتعلقة بالإنسان، على الأخص في حالة ثقافية بات يلفّها الإبهام والتناقض في غالب الأحيان. إن اللاهوتيين، فيما يقومون بوظيفتهم الخاصة بهم، مدعوون إلى توضيح هذه القضية والتعمق فيها، وهذا عمل له قيمة لا تضاهى وخدمة فريدة للعائلة والبشرية، لها أجر كبير.
نظرة شاملة عن الإنسان ودعوته
32- وتشعر الكنيسة، في إطار ثقافة تشوّه معنى الجنس تشويها خطيراً يذهب إلى حدّ إضاعته بفصله عمّا له من علاقة جوهرية بالشخص البشري، شعوراً متزايداً ملحاً بما عليها من واجب لا بديل عنه في إظهار الجنس على أنه قيمة ومهمّة تتناول مجمل الشخص المخلوق، رجلاً وامرأة، على صورة الله.
وقد أكثر المجمع الفاتيكاني الثاني، بوضوح، في هذا المجال أنه: “عندما يحاول الإنسان التوفيق بين الحب الزوجي والتناسل الواعي، فإن قيمة تصرّفه من الناحية الخلقية، لا تعتمد فقط على صدق النيّة وعلى تقدير سليم للبواعث، بل يجب أن تحدّد وفقاً للمقاييس الموضوعية المتخذة من طبيعة الإنسان وأفعاله. وهي مقاييس تراعي، في إطار الحب الصحيح، المعنى الكامل لهبة الذات المتبادلة بين الزوجين وللإنجاب على مستوى الإنسان. وهذا لا يتحقق ما لم تمارس فضيلة الطهارة الزوجية بقلب صادق” (86).
وقد أكدّ بولس السادس، الحبر الأعظم، انطلاقاً “من رؤية شاملة للإنسان ودعوته لا الطبيعية والأرضية وحسب، بل الفائقة الطبيعة والأبدية أيضاً” (87)، إن تعليم الكنيسة “يستند إلى ما بين مفهوم الاتحاد ومفهوم الإيلاد – وكلاهما كامن في الفعل الزوجي – من رابطة غير قابلة للانفصام وضعها الله ولا يجوز للإنسان أن يفكّها (88). وختم أخيراً بالقول أنه قبيح من طبعه “ومرذول كل فعل يسبق العلاقة الزوجية أو يرافقها أو يفضي إلى نتائجها الطبيعية ويرمي، غاية كان أو وسيلة، إلى منع الايلاد” (89).
وكلَّما فصل الأزواج، بلجوئهم إلى وسائل منع الحمل، هذين المفهومين اللذين طبعهما الله الخالق في طبيعة الرجل والمرأة، وفي ما يوحّد بينهما من فعل جنسي ناشط، يتصرفون “كحكم” تجاه قصد الله، “ويزوّرون” الجنس، وينحدرون به وبنفوسهم وبالزوج إلى درك تفسد معه قيمة هبة الذات “الكاملة”. وهكذا يعارض منع الحبل اللغة الطبيعية التي تعرب عن هبة الأزواج المتبادلة الكاملة، بلغة مناقضة موضوعياً تنفي هبة الذات كاملة للآخر. وينجم عن ذلك، لا رفض ثابت أكيد للانفتاح على الحياة وحسب، بل تزييف لحقيقة الحب الزوجي الباطنية الموجّه إلى هبة الذات هبة شخصية تامة.
وعلى العكس من ذلك، عندما يحترم الأزواج، بلجوئهم إلى الفترات غير الخصيبة، الرابطة القائمة بين مفهومي الاتحاد والايلاد المطبوعين في الجنس، يتصرّفون “كخدّام” لقصد الله، و”يستعملون” الجنس وفقاً لما يقتضيه ما في هبة الذات الأصيلة “الكاملة” من حيوية، دونما تزوير أو تزييف (90).
وبإمكان البحث اللاهوتي، على ضوء ما توفّر من اختبار للكثير من الأزواج، ومن معطيات لمختلف العلوم الإنسانية، أن يكتنه – وعليه أن يتعمق في الاكتناه – الفرق الإنساني الشامل (الانتروبولوجي) والأدبي معاً، الكائن بين منع الحبل واللجوء إلى الفترات الزمنية: فالمسألة مسألة فرق أكبر وأعمق ممّا يظن عادة، وهو يتناول في آخر المطاف مفهومين لا يتوافقان للشخص والجنس. فاستعمال الفترات الدورية الطبيعية يعني القبول بفترة الشخص أي المرأة، والقبول أيضاً بالحوار، والاحترام المتبادل، والمسؤولية المشتركة، والسيطرة على الذات. ولكن القبول بالفترات وبالحوار معناه الاعتراف بما للاتحاد الزوجي من طبيعة روحية وجسدية معا، ومعناه أيضاً المحافظة على حياة الحب الشخصي مع ما يفرضه من أمانة. وهكذا يختبر الأزواج ما في الاتحاد الزوجي من غنى قائم على قيم الحنان والمودّة التي تشكل طبيعة الجنس الحميمة حتى في بعده الجسدي. وبهذه الطريقة يُحترم الجنس ويسمو وفقاً لما له من طبيعة حقا وتماما بشرية، ولا “يستخدم” على الاطلاق “كسلعة” تنال، عندما تقضي على وحدة الروح والجسد، من خليقة الله عينها في ما يشدّ الطبيعة إلى الشخص من رباط حميم وثيق.
الكنيسة معلّمة وأم
للأزواج الذين يواجهون صعوبات
33- والكنيسة كذلك معلمة وأم في حقل الآداب الزواجية وهي تتصرّف بهذه الصفة. فهي كمعلّمة ما انفكّت تعلن قاعدة الآداب الزواجية التي يجب الاسترشاد بها في نقل الحياة نقلاً مسؤولا، بيد أنها ليست هي من أوجد القاعدة ولا هي حكم فيها. لكنها، إذعاناً منها للحقيقة التي هي المسيح الذي تنعكس صورته في طبيعة الشخص البشري وكرامته، تشرح القاعدة الأدبية وتعرضها على جميع الناس من ذوي الإرادة الصالحة دون أن تخفي أن هذه القاعدة تأتي انصاف الحلول وتتطلّب الكمال.
وهي كأم تبقى إلى جانب الكثيرين من الأزواج الذين يواجهون صعوبات في ما خص هذا الشأن الخطير من الحياة الأدبية: وهي تعرف جيداً وضعهم الذي غالباً ما يكون في غاية الحرج وتعتوره أحياناً صعوبات من كل نوع، فردية أو اجتماعية. وهي تعرف أيضاً أن هناك أزواجاً عديدين تعترض سبيلهم مثل هذه العوائق ليس فقط من حيث الالتزام في الواقع بالقاعدة الأدبية، بل من حيث تفهّم ما فيها من خير لهم.
وهذه الكنيسة الواحدة عينها هي في وقت معاً معلّمة وأمّ. ولهذا فهي لم تفتأ ترسل النداءات والدعوات لحلّ ما قد ينشأ من مشاكل زواجية دونما تشويه للحقيقة أو انتقاص منها: وهي موقنة أنه لا يمكن أن يكون هناك تناقض حقيقي بين الشريعة الإلهية الخاصة بنقل الحياة، والشريعة الخاصة بواجب تعزيز الحب الزوجي الأصيل (91). ولهذا يجب أن تنسجم دائماً طريقة تعليم الكنيسة الواقعية وعقيدتها، ولا يجوز الفصل بينهما. ولذلك أنّا نكرّر بنفس اليقين ما أعرب عنه سلفنا بقوله: “رفض الانتقاص من عقيدة المسيح الخلاصية هو نوع سام من أنواع المحبة للنفوس” (92).
ومن جهة ثانية إن طريقة تعليم الكنيسة الحقيقية لا تظهر ما فيها من واقعية وحكمة إلاّ ببذل جهود متواصلة، سخيّة لإيجاد جميع الشروط الإنسانية – النفسية والأخلاقية والروحية – ورعايتها، وهي شروط لا بدّ منها لتفهّم الخير الأدبي والقاعدة الأدبية والعيش بمقتضاهما.
وما من شك في أنه يجب، من بين هذه الشروط، ذكر الثبات والصبر والتواضع وشدة المراس والثقة البنوية بالله وبنعمته، واللجوء المتواتر إلى الصلاة وسرّي الإفخارستيا والمصالحة (93). فإذا ما تقوّى الأزواج المسيحيون بهذه الوسائل استطاعوا الاحفتاظ بشعور حيّ بما لنعمة سرّ الزواج من تأثير فريد على الحياة الزوجية من جميع وجوهها، وبالتالي على الجنس: ونعمة الروح القدس التي يتقبلّها الأزواج، ويحافظون عليها، تساعدهم على استعمال الجنس وفقاً لقصد الله، وكعلامة للحبّ الموحّد الخصيب الذي يشدّ المسيح إلى الكنيسة.
ولكن تدخل في هذه الشروط أيضاً معرفة الطبيعة الجسدية وما تتميّز به من فترات زمنيّة خصيبة. ويجب العمل، في هذا المجال، على وضع مثل هذه المعرفة في متناول جميع الأزواج، وقبل كل، في متناول البالغين من الشبان، بما يمدّهم به من معلومات واضحة وتربية رصينة، أزواج وأطباء وخبراء، في الوقت المناسب وبطريقة جدّية.
وبعد، فإنّ من شأن هذه المعرفة أن تفضي إلى التربية على مراقبة الذات والسيطرة عليها: ومن هنا الحاجة الماسة إلى فضيلة الطهارة، وإلى التربية المستمرة عليها. والطهارة، وفقاً للنظرة المسيحية، لا تعني البتّة رفض الجنس أو احتقاره، بل هي تعني بالأحرى مناعة روحية بإمكانها أن تقي الحبّ أخطار الأنانية والشهوة الهجومية وتؤدّي به إلى تحقيقه كاملاً.
وقد ترك بولس السادس، بحدس منه غنيّ بالحكمة والمحبة، الكلام للكثيرين من الأزواج ليعربوا عن اختباراتهم: عندما كتب في رسالته العامة يقول: “ما من شك في أن كبح جماح الطبيعة، بفعل العقل والإرادة الحرّة، يفرض حتما التقشّف وقهر الذات لكي يتبع التعبير عن الحبّ الخاص بالحياة الزوجية نظاماً قويما، وهذا ما تتطلّبه، على الأخص، المحافظة على العفّة، في الفترات الزمنية المحدّدة. ولكن هذا الانضباط الذي تتجلّى معه طهارة الأزواج لا يمنع الحبّ الزوجي ولا يعوقه، بل يضفي عليه معنى إنسانياً أسمى. وإذا كان هذا الانضباط يفرض جهداً متواصلاً، فإن الأزواج، لما له من أثر مفيد، يصقلون به ذواتهم ويجنون منه الفوائد الروحية: وهو يمدّ الحياة العائلية بثمار وفيرة من الطمأنينة والسلام ويسهّل حلّ مشاكل أخرى، ويستحث كلا من الزوجين على تعهّد الآخر بالعناية والاحترام، ويساعد الأزواج على نبذ حبّ الذات المفرط الذي تأباه المحبة الاصيلة ويحفزهم على وعي مسؤولياتهم والقيام بها. وهو أخيراً يولي الوالدين سلطة أعمق وأفعل لتربية البنين” (94).
مسيرة الأزواج الأدبية
34- من بالغ الأهمية دائماً معرفة النظام الأدبي وقيمه وقواعده معرفة صحيحة، وتتعاظم هذه الأهمية بتعاظم الصعوبات وتكاثرها في مجال واجب احترام هذا النظام.
ولمّا كان النظام الأدبي يكشف عن قصد الله الخالق ويبسطه، فلا يمكنه بالتالي أن يكون أمراً يؤذي الإنسان أو أن يمتهن كرامة الشخص، بل على العكس من ذلك، إن النظام الأدبي يتجاوب، من جهة، وما في أعماق الإنسان الذي خلقه الله من متطلّبات، ويخدم، من جهة ثانية، إنسانيته خدمة كاملة، بمحبّة رفيقة ملزمة يحرّك الله بها كل خليقة ويعضدها ويقودها إلى سعادته.
لكن الإنسان المدعو لكي يعيش وفقاً لقصد الله الحكيم المحب بطريقة واعية، هو كائن تاريخي يبني ذاته يوماً فيوماً باختياراته العديدة: فهو إذن يدرك ويحبّ ويفعل الخير الأدبي وفقاً لدرجات نموّه.
والأزواج معدّون أيضاً، في نطاق حياتهم الأدبية، لمسيرة مستمرّة تعضدهم رغبة خالصة فاعلة في المزيد من معرفة الخيور التي تحافظ عليها وتطوّرها الشريعة الإلهية، بالإضافة إلى إرادة مستقيمة سمحاء في تجسيد هذه الخيور باختياراتهم الواقعية. فلا يجوز بالتالي أن ينظروا إلى الشريعة نظرتهم إل مثل أعلى يتمّ إدراكه في الآتي من الأيام، بل عليهم أن ينظروا إليها على أنها وصية السيد المسيح تدعوهم إلى العمل جاهدين على تذليل الصعاب. “ولهذا فإن ما يدعى “بشريعة التدرّج”، أو الطريق المتدرّج لا يمكن أن يكون هو عينه “تدرج الشريعة”، كما لو كان في الشريعة الإلهية درجات أو صيغ وصايا تختلف باختلاف الأشخاص والظروف. جميع الأزواج هم مدعوون إلى القداسة في الزواج بحسب قصد الله. وتتحقّق هذه الدعوة السامية على قدر ما يستطيع الشخص البشري أن يتجاوب والوصية الإلهية، وهو طيبّ النفس، واثق من نعمة الله ومن إرادته الذاتية” (95).
وعلى الأسلوب التعليمي في الكنيسة أن يعمل أيضاً على اطلاع الأزواج على عقيدة الرسالة الباباوية المعروفة باسم “الحياة البشرية” وعلى اتخاذها قاعدة لهم في ممارسة الجنس، باذلين جهد الطاقة لوضع الشروط اللازمة للمحافظة على هذه القاعدة.
ويتناول هذا الأسلوب التعليمي، مجمل الحياة الزوجية، على ما أشار إليه مجمع الأساقفة. فلذلك يجب أن تدخل مهمّة نقل الحياة في إطار مهمّة الحياة المسيحية الشاملة التي لا يمكنها أن تبلغ القيامة دون الصليب. ومن المفهوم أيضاً أنه لا يمكن الاستغناء في الحياة العائلية عن واجب التقشف والتضحية، بل على العكس من ذلك، يجب التسليم به بنفس طيبّة ليتعمق الحب الزوجي ويصبح ينبوع فرح حميم.
وتتطلّب هذه المسيرة العامة التبصّر والاطّلاع وتربية مؤاتية من الكهنة والرهبان والعلمانيين العاملين في حقل الرسالة من أجل العائلة: “إن هؤلاء جميعاً باستطاعتهم مساعدة الأزواج في مسيرتهم الإنسانية والروحية التي تحمل معها شعوراً بالخطيئة وعزماً صادقاً على التقيّد بالشريعة الأدبية وخدمة المصالحة. ولا بدّ كذلك من الاعتراف بوجود ارادتين، في علاقة الأزواج الحميمة، تتداخلان، هما إرادتا شخصين مدعوين، مع ذلك، إلى التوفيق بين ما لكليهما من عقلية وعادات: وهذا ما يقتضي له الكثير من الصبر والرفق والوقت. ومن المهمّ جداً، في هذا المجال، توحيد النظرة والرأي في ما خصّ الشؤون الأدبية والرعوية، لدى الكهنة: ومن الضرورة أن يكون هناك سعي جاد إلى توفير هذا الإنسجام في الرأي والإبقاء عليه لكيلا يعاني المؤمنون من تعب الضمير (96).
وتسهل المسيرة على الأزواج، فيما لو اكتشفوا واختبروا ما في الحبّ الحقيقي الذي يقدّمه الإنجيل وتعرضه وصيّة الرب من طاقة تحرّر وتدفع إلى الأمام، بعد أن يكونوا قد قدّروا عقيدة الكنيسة حق قدرها ووثقوا بنعمة المسيح واعتمدوا على ما يمدّهم به رعاة النفوس والجماعة الكنسية بمجملها من مساعدة ورعاية.
ترسيخ قناعات وتقديم مساعدات عملية
35- في ما خصّ صعوبة تنظيم الولادات تنظيماً مشروعاً، على الجماعة الكنسية أن تقوم، في هذه الأيام، بواجب ترسيخ قناعات وتقديم مساعدات عملية لجميع الذين يرغبون في أن يرعوا في الحياة الأبوّة والأمومة، بطريقة حقاً مسؤولة.
وإن الكنيسة، إذ تفرح، في هذا المجال، بما أحرز البحث العلمي من تقدّم في معرفة الأوقات الخصبة لدى المرأة معرفة أدق، وتشجّع على تعميق مثل هذه الدروس وتوسيعها، لا يمكنها إلاّ أن تحضّ مجددا وبقوة جميع الذين – أطباء كانوا أم خبراء أم مستشارين زواجيين، أم مربّين والمتزوّجين – باستطاعتهم مساعدة الأزواج، على تعزيز حبهم في الحياة متقيدين في الوقت عينه بما للفعل الزوجي الذي يعرب عن هذا الحبّ من بنية وغايات. وهذا معناه العزم على بذل المزيد من الجهد واعتماد خير الأساليب للتعريف بالطريقة الطبيعية لتنيظم الإخصاب وتقديرها وتطبيقها (97).
وإنها لغالية جداً الشهادة التي يمكن ويجب أن يؤدّيها هؤلاء الأزواج الذين اعتزموا مشتركين التزام العفّة في أوقات محدّدة، فكوّنوا لهم عن الحبّ والحياة رأيا ناضجاً راجحاً. وهذا ما كتبه بهذا المعنى بولس السادس، فقال: ” لقد وكل الله إليهم مهمة إظهارهم للناس ما في هذه الشريعة من قداسة وعذوبة، وهي شريعة تشدّ حبّهم إلى مساندتهم حبّ الله صانع الحياة البشرية” (98).
2) التربية
واجب الوالدين وحقهم في ما خصّ التربية
36- وتغرس مهمّة التربية جذورها في دعوة الأزواج الأساسية إلى الاشتراك في عمل الله الخلاق: ذلك أن الوالدين، بايلادهم في الحبّ ومن الحبّ إنساناً جديداً يحمل في ذاته دعوة إلى النموّ والتطوّر، يأخذون على عاتقهم مهمّة مساعدته مساعدة فعّالة على أن يحيا حياة إنسانية كاملة. وهذا ما ذكّر به المجمع الفاتيكاني الثاني بقوله: “بما أن الوالدين، قد أعطوا أولادهم الحياة، فيقع على عاتقهم الواجب الخطير جداً بأن يربّوهم، ويجب، بهذه الصفة، الاعتراف بأنهم المربّون الأولون والرئيسيون لأولادهم. ومهمة الوالدين التربوية هي من الأهمية بحيث يعسر الاستعاضة عنها، إذا ما تقاعسوا هم عن القيام بها. فمن واجب الوالدين خلق الجو العائلي الذي تسوده المحبّة والاحترام تجاه الله والناس والذي يساعدهم على تربية أولادهم تربية كاملة، شخصية واجتماعية. فالأسرة إذن هي المدرسة الأولى للفضائل الاجتماعية الضرورية لكل مجتمع” (99).
ويتحدّد حق الأزواج وواجبهم في التربية بأنه جوهري لعلاقته بنقل الحياة البشرية، وبأنه أساسي وأولي بالنسبة إلى واجب الآخرين التربوي ولارتباط الوالدين والأبناء برباط محبة فريد من نوعه، وبأنه لا بديل ولا غنى عنه، لأنه لا يجوز تكليف الآخرين القيام به بكامله ولا انتزاع الآخرين هذا الواجب.
وفضلا عن هذه الميزات، لا يمكن أن ننسى أن العنصر الأساسي الذي يحدّد دور الوالدين التربوي إنما هو حب الأب والأم الوالدي الذي يكتمل بالعمل التربوي فيما يقوم بخدمة الحياة ويكمّلها: إن حب الوالدين الذي كان ينبوعاً يصبح روحاً وقاعدة تحرّك وتسيّر كل نشاط تربوي عملي وتغنيه بهذه القيم وهي الرقة والثبات والطيبة والخدمة والتجرّد وروح التضحية التي هي أثمن ثمار الحب.
التربية على ما في الحياة الإنسانية من قيم جوهرية
37- برغم أن الوالدين يواجهون في عملهم التربوي صعوبات متزايدة كل يوم، فعليهم أن ينشئوا أبناءهم، بثقة وشجاعة، على ما في الحياة الإنسانية من قيم ضرورية. ولا بدّ من أن يكبر الأبناء وهم ينعمون بقدر من الحرية في استخدام الخيور الدنيوية، وأن يتخذوا من البساطة والقناعة نمط حياة، موقنين “أن قيمة الإنسان بما هو أكثر ممّا هي بما له” (100).
وفضلاً عن ذلك، وفي مجتمع تعصف به التوترات وتمزّقه النزاعات، بسبب ما بين الناس من نزعات مختلفة إلى الفردية والأنانية، ينبغي أن يتفّهم الأولاد معنى العدالة الحق التي تحمل الناس وحدها على احترام ما لكل منهم من كرامة شخصية، وأن يتفهموا على الأخص معنى الحب الصحيح الذي يقوم على العناية الخالصة والخدمة المجرّدة للآخرين، ولاسيما أشدهم فقراً وحاجة. والعائلة هي، في الحقيقة، المدرسة الأولى ومنبع الفضائل الاجتماعية: إنها بوصفها شراكة حب تجد في هبة الذات قاعدة تقودها وتعمل على نموّها. وتبدو هبة الذات، التي تلهم الأزواج المحبة فيما بينهم، وكأنها المثل والقاعدة لهبة الذات التي يجب أن تتحقق في العلاقات بين الإخوة والأخوات، وبين مختلف الأجيال التي تعيش معاً في العائلة. ويشكّل الاتحاد والمشاركة اللذان يمارسان كل يوم في العائلة، أيام الفرح والشدّة، أثبت أسلوب تعليمي وأنجعه، يدخل معه الأبناء بطريقة فاعلة واعية، مثمرة، في عالم المجتمع الأوسع.
والتنشئة على الحب، كهبة ذات، هي أيضاً شرط لا بدّ منه للوالدين المدعوين إلى توفير تربية جنسية واضحة فطنة لأبنائهم. وأمام حضارة تنحدر انحداراً كبيراً بالجنس إلى مستوى “السوقة”، ما دامت تقبله وتمارسه بطريقة ضيقة مخزية تربطه بالجسد، وبما توفّره من لذة فيها أنانية، يجب أن تعتمد خدمة الوالدين التربوية على ما يسمّى بثقافة جنسية تكون حقاً وفعلاً شخصية: فالجنس في الواقع كنز للإنسان بكامله – جسداً ونفساً – ويتجلّى معناه العميق عندما يحمل الإنسان على هبة ذاته في الحب.
ويجب أن تتحقّق التربية الجنسيّة التي هي للوالدين حق أولي وواجب، تحت رعاية هؤلاء الوالدين وبسهرهم، سواء أكان في البيت أم في المراكز التربوية التي يختارونها ويسهرون عليها. وتذكر الكنيسة مجدّداً، في هذا المجال، بقاعدة الاستطراد التي ينبغي للمدرسة أن تتقيد بها، عندما تقوم بالمساعدة على التربية الجنسية مستلهمة الروح عينها التي تلهم الوالدين.
ولا يجوز على الإطلاق، في هذا المجال، إهمال التربية على الطهارة كفضيلة تعمل على تطوير النضج الأصيل لدى الشخص وتؤهله لاحترام ما للجسد من “معنى زواجي” وللتسامي به. وعلى الوالدين المسيحيين، علاوة على ذلك، عندما يلاحظون علامات الدعوة الإلهية، أن يولوا انتباها خاصاً وعناية وافية، التربية على البتولية، على أنها أسمى صيغة لهبة الذات هذه التي تجعل للجنس معناه.
ونظراً إلى الروابط الوثقى القائمة بين مفهوم جنس الشخص والقيم الأدبية، وجب أن تؤدي التربية بالأولاد إلى تفهّم القواعد الأدبية واحترامها كضمانة ثمينة لا غنى عنها لنموّ شخصي مسؤول في شؤون الجنس.
ولهذا السبب تعارض الكنيسة أشدّ المعارضة نوعاً كثير الانتشار من التربية الجنسية يتجاهل المبادئ الأدبية، وإن هو إلاّ إعداد لاختبار اللذة وحافز يقود – حتى من لا يزالون في سنّ البراءة – إلى فقدان الصفاء وفتح طريق الاثم أمامهم.
الرسالة التربوية وسر الزواج
38- إن مهمّة الوالدين المسيحيين التربوية المتأصلة، على ما أشرنا إليه آنفاً، في مشاركتهم في عمل الله الخلاّق، تجد لها ينبوعاً جديداً خاصاً في سر الزواج الذي يكرّسهم لتربية أبنائهم تربية مسيحية فريدة، وهذا يعني أن هذه المهمّة تدعوهم إلى مشاطرة الله الآب والمسيح الراعي السلطة والمحبة، ومشاطرة الكنيسة الأم محبتها الوالدية، وهذا سرّ يغنيهم بالحكمة، والمشورة، والقوّة وسائر هبات الروح القدس، ليساعدوا أبناءهم على إدراك نضجهم الإنساني والمسيحي.
وينهل واجب التربية من معين سرّ الزواج ما له من كرامة وكونه دعوة إلى “خدمة” الكنيسة، خدمة حقيقية خاصة تعمل على بنيان أعضاء هذه الكنيسة، وأن هذه الخدمة التي يقوم بها الوالدين المسيحيون هي من السموّ والجمال بحيث أن القديس توما لم يتردد في مقابلتها بالخدمة الكهنوتية، فقال: “إن بعض الناس ينشر الحياة الروحية ويحافظ عليها بحسب الخدمة الروحية فقط، وهذا من اختصاص سرّ الدرجة، وبعضهم بحسب الخدمة الجسدية والروحية معاً، وهذا يتم بواسطة سر الزواج الذي يتفّق فيه الرجل والمرأة على ايلاد البنين وتربيتهم على عبادة الله” (101).
وإن الشعور الحيّ اليقظ بالرسالة التي يتسلّمها الوالدون المسيحيون عندما يقتبلون سر الزواج، يساعدهم على الانصراف بطمأنينة بال وثقة كبيرة إلى القيام بخدمة تربية أبنائهم، وهم في الوقت عينه، شاعرون بما عليهم من مسؤولية تجاه الله الذي يدعوهم ويرسلهم لكي يبنوا الكنيسة في أبنائهم. وهكذا تصبح عائلة المعمودين، كأنها كنيسة منزلية تجمعها الكلمة والسر، معلّمة وأماً، في وقت معاً، على مثال الكنيسة الكبرى.
اختبار الكنيسة الأول
39- إن المهمة التربوية تقضي على الوالدين المسيحيين بمدّ أبنائهم بجميع العناصر التي لا غنى عنها لكي تنضج شخصياتهم تدريجيا، سواء أكان من الناحية المسيحية أم الكنسية. فعليهم إذن أن يعودوا إلى العناصر التربوية التي سبق ذكرها ويحرصوا على أن يظهروا لأبنائهم إلى أية مفاهيم سامية يمكن الإيمان ومحبة المسيح أن يقوداهم. وفضلاً عن ذلك، إن إدراك الوالدين المسيحيين المهمّة التي وكلها الله إليهم في السهر على نموّ ابن الله، وأخ للمسيح وهيكل للروح القدس، وعضو للكنيسة، يساندهم في القيام بواجب ترسيخ هبة النعمة الإلهية في نفوس أبنائهم.
وقد وصف المجمع الفاتيكاني الثاني مفهوم التربية المسيحية بهذه العبارات: “لا تهدف التربية فقط إلى تأمين نضج الشخص البشري… بل على الأخص، إلى جعل المعمّدين الذين يدخلون تدريجياً في معرفة سر الخلاص، يزدادون كل يوم وعياً لعطية الإيمان هذه التي نالوها، ويعبدون الله الآب بالروح والحق (راجع يو 4، 23)، ولا سيمّا في العمل الطقسي، ويتطوّرون على نحو يمكّنهم من توجيه حياتهم الشخصية بحسب الإنسان الجديد، في البرّ وقداسة الحق (أفسس 4، 22 – 24)، وهكذا، إذا ما بلغوا إلى مستوى الإنسان الكامل، إلى ملء قامة المسيح (أفسس 4، 13)، ساهموا في نمو الجسد السرّي. وهم، فضلاً عن ذلك، بوعيهم دعوتهم، يتعوّدون أداء الشهادة للرجاء الذي فيهم (راجع 1 بطرس 3، 15)، والمساهمة في تطوير العالم تطويراً مسيحياً” (102).
ومجمع الأساقفة أيضاً، وقد أخذ مبادئ عقيدة المجمع الفاتيكاني وتوسّع بها، أعلن رسالة العائلة المسيحية التربوية، خدمة حقاً ينتقل الإنجيل بواسطتها وينتشر بحيث تصبح الحياة العائلية مسيرة إيمان، ونوعا ما، تلقينا أوليا للمبادئ المسيحية، ومدرسة للسير في خطى المسيح. وعلى حدّ ما كتب بولس السادس: “إن العائلة التي تعي هذه المهمّة، جميع أعضائها يبشِّرون ويبشَّرون بالإنجيل” (103).
ويكون الوالدون، بسبب هذه الخدمة التربوية، وبفضل شهادة الحياة عينها، أول من يبشِّرون أبناءهم بالإنجيل. وإذا ما رفعوا الصلوات مع أبنائهم، فوق ذلك، وانصرفوا معهم إلى قراءة كلام الله، وأدخلوهم في صميم جسد المسيح الإفخارستي والكنسي، بتلقينهم المبادئ المسيحية الأولية، كانوا والدين حقا، أعني لا يكونون قد ولدوا الحياة الجسدية وحسب، بل أيضاً تلك الحياة التي تجري، بواسطة التجدّد بالروح، من صليب المسيح وقيامته.
ولكي يتمكّن الوالدون المسيحيون من إتمام مهمتهم على أحسن وجه، تمنّى آباء المجمع وضع كتاب تعليم مسيحي لاستعمال العائلة، يكون ملائما، واضحاً، مختصراً وسهل المتناول على الجميع. ويرغب بإلحاح إلى المجالس الأسقفية أن تكبّ جاهدة على إعداد هذا التعليم.
العلاقات بسائر المؤسسات التربوية
40- العائلة هي الجماعة التربوية الأولى، لكنها ليست الجماعة الوحيدة ولا تنفي وجود سواها: ذلك أن ميزة الإنسان المجتمعية والمدنية والكنسية عينها تقضي بالقيام بعمل أوسع وأدق تنظيما يكون نتيجة تعاون منظّم يقوم به مختلف أنواع المرّبين، ولا غنى عن هؤلاء جميعاً، ولو كان من حق كل منهم وواجبه أن يعمل وفق ما له من صلاحية ويساعد على قدر طاقته (104).
ولمهمّة العائلة المسيحية التربوية أهمية خاصة خطيرة في الرسالة الرعوية المنظمة: وهذا يقضي بإيجاد صيغة تعاون جديدة تقوم، من جهة بين الأهل والجماعات المسيحية، ومن جهة ثانية، بين مختلف الفئات المعنية بالشؤون التربوية والرعاة. ولهذا يجب أن يولي تجديد المدرسة الكاثوليكية عناية خاصة أولياء الطلبة، ومن جهة ثانية، إنشاء جماعة تربوية ممتازة.
ويجب قبل كل، ضمان حق الأهل في اختيار التربية التي تتلاءم ومعتقدهم الديني. فعلى الدولة والكنيسة إذن أن تمدّا العائلات بجميع المساعدات الممكنة، لكي تقوم، على ما ينبغي، بواجبها التربوي. ولهذا على الدولة كما على الكنيسة، أن تنشئ وتطوّر تلك المؤسسات والنشاطات التي تتطلبّها، بوجه مشروع، العائلات: ويجب أن تتوافق هذه المساعدات وحاجات العائلات. فلا ينسينّ إذن البتّة جميع الذين يتولّون في المجمع مسؤولية مدارس أن الله جعل الأهل أوّل المربّين لأولادهم وأهمّهم شأنا، ولا يمكن، على الإطلاق، انتزاع هذا الحق منهم.
غير أنه في مقابل هذا الحق وكتتمّة له، يقع على عاتق الأهل واجب خطير، وهو أن يبذلوا ما باستطاعتهم لإقامة علاقات ودّية، بنّاءة مع معلمي المدارس والمسؤولين عنها. وإذا كانت تعلّم، في الواقع، في المدارس عقائد تناهض الإيمان المسيحي، فمن واجب العائلة نفسها، بالاتفاق مع سائر العائلات، وعن طريق اتحاد العائلات، إذا أمكن، أن تبذل قصارى الجهد، وبطريقة حكيمة لمساعدة الأحداث لكيلا يبتعدوا عن الإيمان. وتحتاج العائلة، في هذه الحالة، إلى مساعدة خاصّة يجب أن يقوم بها رعاة النفوس الذين لا يجوز لهم أن يتناسوا أن للأهل حقا لا ينتزع في إيكال أولادهم إلى الجماعة الكنسية.
خدمة الحياة المتعدّدة الأشكال
41- يتجلّى الحبّ الزوجي الخصيب بخدمة الحياة، على اختلاف الطرق، وأقربها وأخصّها الإيلاد والتربية، وما من شيء يمكنه أن يقوم مقامها. وفي الواقع، إن كل فعل حب صحيح يوجّه إلى الإنسان يشهد على خصب العائلة الروحي ويكمّله، لأنه ينصاع لما في الحبّ، الذي هو هبة الذات للآخرين من باطنية حيّة.
وبوحي هذه النظرة البالغة الأهمية والملزمة للجميع، على الأزواج ولاسيّما الذين اختبروا العقرة الجسدية، أن يتصرّفوا ويعملوا.
وعلى العائلات المسيحية التي ترى، بعين الإيمان، في جميع الناس، أبناء للأب السماوي الواحد، أن تسارع بطيبة خاطر إلى مساعدة أولاد عائلات أخرى، وتخصّهم بالمحبة لا كغرباء، بل كأعضاء عائلة أبناء الله الواحدة. وهكذا يستطيع الوالدون المسيحيون توسيع دائرة محبتهم إلى ما وراء حدود روابط اللحم والدم، برعايتهم الوشائج المتأصلة في النفس والتي تعرب عنها في الواقع الخدمة المؤداة لأبناء عائلات أخرى، غالباً ما يكونون في أمسّ الحاجة إلى ضروريات العيش.
وعلى العائلات المسيحية أن تظهر في حياتها أنها أكثر استعداداً لتبنّي أولاد فقدوا أهلهم أو تركهم أهلهم، ولتعهّدهم، بحيث إذا ما اكتشف هؤلاء مجدداً ما في العائلة من دفء ومحبة، استطاعوا أن يختبروا ما يظهر لهم أهل مسيحيون ما في أبّوة الله من محبة وعناية، وهكذا يشبّون بطمأنينة وثقة بالحياة، وتغتني العائلة، في الوقت عينه، بما في هذه الإخوّة الموسّعة، من فوائد روحية.
ويجب أن يكون لخصب العائلات “طاقته الخلاّقة” المستمرة، أعني ثمرة روح الله العجيبة، هذا الروح الذي كأنه يفتح عيون القلوب لترى ما في مجتمعنا من حاجات جديدة ومشقّات، والذي يشدّد العزائم على تحمّلها ومواجهتها. وفي ما خصّ هذا الأمر، ينفسح أمام العائلات مجال واسع جداً تمارس فيه نشاطها: ذلك أن ما يقلق البال في الواقع، أكثر من إهمال العناية بالأولاد، إنما هو اليوم هذا التمييز الاجتماعي والثقافي الذي يصيب بقسوة العجزة والمرضى، والمعاقين، والمدمنين، والمساجين سابقاً وسواهم من أمثالهم.
وهذا يوسّع كثيراً حدود الأبوّة والأمومة لدى العائلات المسيحية: ذلك أن حاجات عصرنا هذه والكثير سواها يشكل تحدّيا روحيا لمحبتها الخصيبة. إن الرب يسوع، لا يزال، مع العائلات وبواسطتها، يوالي رحمته على الجماهير.
ثالثاً- المشاركة في تطوير المجتمع
العائلة، خلية المجتمع الأولى، الحيّة
42- “لما كان الخالق قد جعل من الشركة الزوجية أصل المجتمع البشري وأساسه… كانت الأسرة…. الخليّة الأولى الحيّة للمجتمع” (105).
وترتبط العائلة بالمجتمع ارتباطاً حياًُ عضوياً، لكونها أساسه وهي تغذيه باستمرار بقيامها بوظيفتها في خدمة الحياة. ففي العائلة يولد المواطنون، وفي العائلة يجدون أول مدرسة لتلك الفضائل الاجتماعية التي تنعش حياة المجتمع وتعمل على تطويره.
وهكذا فإن العائلة بطبيعتها ودعوتها لا تنطوي على ذاتها، لكنها تنفتح على غيرها من العائلات وعلى المجتمع، فيما تقوم بوظيفتها الاجتماعية الخاصة.
الحياة العائلية اختبار اتحاد ومشاركة
43- إن اختبار الاتحاد والمشاركة عينه، الذي يجب أن يطبع حياة العائلة اليومية، يشكل أول مساهمة أساسية تقوم بها العائلة في سبيل خير المجتمع.
وتطوّر العلاقات بين أعضاء الجماعة العائلية وتسيّرها قاعدة “مجانية العطاء” التي تتجسّد ضيافة سمحاء، ولقاء، وحوارا، ومحبة تتعالى على المصلحة الخاصة، وخدمة سخيّة وتضامنا وثيقا، فيما تحافظ هذه القاعدة على كرامة الجميع وكلّ منهم وترعاها بوصفها الأساس الوحيد للقيم.
وهكذا يصبح تطوير اتحاد الأشخاص تطويراً أصيلاً ناضجاً في العائلة، المدرسة الأولى الأساسية للحياة الاجتماعية، ومثلاً يحفز على إقامة علاقات موسّعة تتميّز بالاحترام والعدالة والحوار والمحبة.
من هنا إن العائلة، على ما أشار إليه آباء المجمع، هي المهد والوسيلة الفعّالة لجعل المجتمع أكثر إنسانية ولاضفاء سمة شبه شخصيّة عليه: وهي تسهم إسهاماً فريداً عميقاً في بناء العالم، بالعمل على التمكّن من حياة تعاش بطريقة إنسانية حقا وعلى المحافظة، خاصة، على الفضائل “والقيم” ونقلها إلى الخَلَف. وفي العائلة على ما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني “تلتقي عدّة أجيال وتتبادل التعاون لاكتساب حكمة أوسع وللتوفيق بين حقوق الأفراد وسائر مقتضيات الحياة الاجتماعية” (106).
وأمام مجتمع يهدّده خطر فقدانه المتزايد الطابع الشخصي، ليضحي جماعة نكرات لا إنسانية وتجرّد الناس من إنسانيتهم، لما يجرّه عليهم من عواقب وخيمة غير شكل من أشكال الضياع – كالعنف، وعادة تعاطي المخدرات، واستخدام الإرهاب – لا تزال العائلة اليوم تملك وتنشر من الطاقات الهائلة ما يمكّنها من انتشال الإنسان ممّا يشبه ظلام التجهيل والإغفال، وتوعيته باستمرار على ما له من كرامة شخصية، وإغنائه بإنسانية عميقة، وادخاله، بطريقة حيّة فاعلة، بما يتفرّد به من طبيعة هي نسج وحدها، ويتميّز به من طبع خاص، في إطار المجتمع.
دور العائلة الاجتماعي والسياسي
44- لا يجوز على الإطلاق أن يقتصر دور العائلة الاجتماعي على عمل الإيلاد والتربية، وأن كان يجد فيها صيغته الأولية التي لا غنى عنها للتعبير عن ذاته.
وباستطاعة العائلات منفردة ومجتمعة، لا بل من واجبها أن تهتم بالكثير من أعمال الخدمة الاجتماعية، وعلى الأخص في جانب الفقراء، وعلى كل حال، بجميع الناس والحالات التي لا تتمكن مؤسسات الرعاية والاسعاف التابعة للسلطات العامة من أن تنفذ إليها.
والعمل الذي تقوم به العائلة في سبيل المجتمع له ميزته الخاصة التي يجب أن تلقى المزيد من التعريف والتشجيع الأكيد، ولاسيّما عندما يأخذ الأولاد يكبرون ويشبّون شيئاً فشيئاً وهو عمل يجب أن يندفع إلى القيام به، على قدر المستطاع، جميع أفراد العائلة (107).
ولابدّ، في هذا المجال، من التشديد على ما للضيافة في مجتمعنا في جميع أشكالها، من أهمية متعاظمة: من فتح أبواب بيتنا، وعلى الأخص، قلبنا لمن يطرقه من إخواننا، إلى الالتزام بمسؤولية تمكين كل عائلة من بيت لها تستخدمه كمنزل طبيعي تأوي إليه وتنمو فيه وتزدهر. والعائلة المسيحية مدعوة، على الأخص، إلى تقبّل ما ينبّه إليه الرسول بقوله: “داوموا على ضيافة الغرباء” (108)، مقتدين بالتالي بمثل السيد المسيح، ومشاركين في محبّته، وعاملين على إحاطة الأخ الفقير المعوز بالعناية: “ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد لأنه تلميذي، فأجره، الحق أقول لكم: لن يضيع” (109).
وعلى العائلة كذلك أن تقوم بدور اجتماعي من حيث التدخّل السياسي: فمن واجب العائلات أن تبذل طاقة الجهد، قبل كل، ليس فقط لكيلا تمسّ شرائع الدولة ومؤسساتها بحقوق العائلة وواجباتها، بل لكي تساند هذه الحقوق والواجبات وتدافع عنها بطريقة جازمة. ولذلك يجب أن تعي العائلات وعياً متزايداً أن عليها أن “تقوم بالدور الأول” في ما يسمّى “بالسياسة العائلية” وأن تضطلع بمسؤولية تطوير المجتمع، وإلاّ كانت العائلات أولى الضحايا هذه الأضرار التي تكون قد اكتفت بالنظر إليها دون أن تعبأ بها. وأن ما نبّه إليه المجمع الفاتيكاني الثاني بشأن واجب تخطّي قاعدة الخُلُق الفردي، يشمل أيضاً العائلة بما هي عائلة” (110).
المجتمع في خدمة العائلة
45- وكما أن العلاقات الوثقى بين العائلة والمجتمع تقضي بانفتاح العائلة على المجتمع واشتراكها في تطوّره وتقدّمه، فهي تفرض كذلك على المجتمع ألا يتخلّى عن أول واجب له وهو احترام العائلة ومساعدتها.
وما من شك في أن وظائف العائلة والمجتمع تتكامل في رعاية مصالح جميع الناس، وكلّ منهم، وفي تطويرها، لكن من واجب المجتمع، ولاسيّما الدولة، أن تعترف بالتالي بالعائلة بوصفها “مجتمعا يتمتع بحق ذاتي، أساسي” (111)، وأن تلتزم التزاماً خطيراً بالعمل، نظرا إلى ارتباطها بالعائلة، بمبدأ الاستطراد.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، لا تستطيع الدولة ولا يجوز لها أن تنتزع من العائلات الأدوار التي يمكنها القيام بها على السواء، منفردة كانت أم مجتمعة، لكن عليها أن ترعى، قدر الإمكان، ما تقوم به العائلات من مبادرات مسؤولة وتشجعها عليها. وعلى السلطات العامة، يقينا منها أن في العائلة فائدة أكيدة لا غنى عنها للجماعة المدنية، أن تقدم للعائلات، على قدر الطاقة، المساعدات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية والثقافية التي تحتاج إليها لتنهض بما عليها من مسؤوليات.
شرعة حقوق العائلة
46- إن أفضل مثال للعمل المتبادل بين العائلة والمجتمع في مجال التعاضد والتطوير، غالباً ما ينقضه نقضاً خطيراً ما بينهما من تباعد ونزاع.
وفي الواقع إن حالة العائلات في كثير من البلدان، على ما أكده المجمع باستمرار، إنما هي حالة صعبة وحتى سيئة: فالمؤسسات والشرائع تهمل، دونما وجه حق، الاعتراف بما للعائلة وللشخص البشري من حقوق لا تنتهك، والمجتمع لا يكتفي بألاّ يخدم العائلة، لكنه يهاجمها بعنف في قيمها ومتطلّباتها الأساسية. من هنا إن العائلة التي هي، وفقاً لقصد الله، خليّة المجتمع الأساسية وذات حقوق وواجبات خاصة بها قبل الدولة وأية جماعة كانت، ترى ذاتها وكأنها ضحية المجتمع وتسويفه ومماطلته في القيام بواجب المساعدة وحتى ضحية ظلمه الفاضح.
ولهذا السبب تدافع الكنيسة علناً وبقوة عن حقوق العائلة في وجه المجتمع والدولة وما يرتكبانه من تجاوزات لا تطاق. وقد ذكّر على الأخص آباء المجمع في ما ذكّروا به، بحقوق العائلة التالية:
– حق الوجود والتطور، أعني حق كل إنسان، ولاسيمّا الفقراء في تأسيس عائلة وإعالتها بالوسائل المناسبة.
– حق ممارسة وظيفتها في نقل الحياة وتربية البنين.
– حق الحياة الزوجية والعائلية الحميمة.
– الحق في ثبات الوثاق الزوجي والمؤسسة الزواجية.
– حق تربية البنين وفقاً للتقاليد الخاصة والقيم الدينية والثقافية، باعتماد الأدوات والوسائل والمؤسسات اللازمة.
– حق التمتع بالأمن الطبيعي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي وعلى الأخص للفقراء والمرضى.
– الحق في مسكن يتلاءم وحياة عائلية لائقة.
– حق التعبير والتمثيل أمام السلطات العامة، الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية وأمام السلطات الخاضعة لها، سواء أكان ذلك مباشرة أم بواسطة اتحادات.
– حق إنشاء اتحادات مع عائلات ومؤسسات أخرى بغية قيام العائلة بوظيفتها على أنسب وجه وأفضله.
– حق حماية القاصرين، بواسطة مؤسسات وتشريعات مؤاتية، من العقاقير المضرّة، والخلاعة، والكحول، الخ.
– حق التسلية السليمة التي ترعى في الوقت عينه قيم العائلة.
– حق العجزة في حياة لائقة وميتة لائقة.
– حق الهجرة كعائلة بحثا عن حياة فضلى (112).
وسيعنى الكرسي الرسولي، الذي استجاب إلى مطلب المجمع الصريح بتفحّص هذه الاقتراحات بإمعان، وبوضع “شرعة حقوق العائلة” لتعرض على المراجع والسلطات العامة المختصّة.
ما للعائلة المسيحية من نعمة وما عليها من مسؤولية
47- إن الوظيفة الاجتماعية الخاصة بكل عائلة تتناول بصورة جديدة أصيلة العائلة المسيحية المؤسسة على الزواج. وبعد فالسر، إذ يشمل ما في الزواج، بكل أبعاده، من حقيقة بشرية، يؤهل الأزواج والوالدين المسيحيين ويستحثهم لكي يحيوا دعوتهم كعلمانيين ويتمكنوا من أن “يطلبوا ملكوت الله، فيما يتعاطون الأمور الزمنية وينظّمونها وفقاً لشريعة الله” (113).
أما الوظيفة الاجتماعية والسياسية فتتعلّق بالرسالة الملوكية، أي الرسالة التي يشترك فيها الأزواج المسيحيون بقوّة سرّ الزواج، فيما يتلقّون، في الوقت عينه، وصيّة لا يجوز لهم أن يتجاهلوها، ونعمة تساندهم وتستحثهم.
وهكذا تدعى العائلة المسيحية لتأدية الشهادة أمام الجميع، بنفس طيبّة رضيّة، منصرفة إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية، “مفضّلة بالأولوية” الفقراء والهامشين. ولهذا يجب ، وهي تسير في خطى السيد المسيح، أن تخصّ بالمحبة جميع الفقراء، ولاسيّما من يتضوّرون جوعاً، والبائسين، والطاعنين في السن، والمرضى، والمدمنين تعاطي المخدّرات، ومن لا عائلة لهم.
من أجل نظام دولي جديد
48- نظراً لما تأخذه في أيامنا، مختلف القضايا الاجتماعية، من أبعاد عالمية، ترى العائلة وظيفتها المتعلقة بتطوير المجتمع تتسع اتساعاً جديداً: فعليها أن تساهم في تحقيق نظام دولي جديد، ما دام لا مجال، إلاّ عن طريق تضامن عالمي وثيق، إلى مواجهة القضايا الكبيرة الخطيرة المتعلقة بالعدالة في العالم، وحرية الشعوب وسلام البشرية، وبالعمل على حلّها. والاتحاد الروحي بين العائلات المسيحية الراسخة في الإيمان والرجاء المشتركين والتي تحييها المحبة، يشكل طاقة داخلية تولّد العدالة والمصالحة والإخوة والسلام بين الناس وتنشر هذه القيم وتنميها. وبما أن العائلة المسيحية هي “الكنيسة الصغرى”، فهي مدعوّة، على مثال “الكنيسة الكبرى” لتكون علامة وحدة للعالم، ولتمارس بهذه الصفة، وظيفتها النبوية، فتشهد للملكوت ولسلام المسيح اللذين يسعى إليهما العالم بأسره.
وهذا ما بإمكان العائلات المسيحية أن تسعى إلى تحقيقه بما تقدّم من خدمة تربوية، أي بإعطاء الأولاد مَثَل حياة تعتمد الحقيقة والحريّة والعدالة والمحبّة قاعدة لها، سواء بالتزامها التزاماً ناشطاً مسؤولاً تنمية المجتمع ومؤسساته، بطريقة إنسانية، أم بمساعدتها، بشتى الطرق، المنظمات المعنيّة خاصة بقضايا النظام الدولي.
رابعاً- المشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها
العائلة في سر الكنيسة
49- من أهم وظائف العائلة المسيحية، وظيفتها الكنسية: أعني تلك التي تضعها في خدمة بناء ملكوت الله، على مرّ العصور، بمشاركتها في حياة الكنيسة ورسالتها.
ولاحسان فهم أساس هذه المشاركة وماهيتها وخصائصها، لابدّ من التعمّق في بحث ما يشدّ الكنيسة إلى العائلة المسيحية من روابط عديدة حميمة تجعل من العائلة شبه “كنيسة مصغرة” (كنيسة منزلية) (114)، بحيث تكون هذه العائلة بدورها صورة حيّة وتمثيلاً تاريخياً لسر الكنيسة. وقبل كلّ، إن الكنيسة الأم تولّد العائلة المسيحية وتنشئها وتبنيها بقيامها نحوها بالرسالة الخلاصية التي تلقتها من سيّدها. وتكشف الكنيسة، بإعلانها كلمة الله، للعائلة هويتها الحقيقية، أي ما هي وما يجب أن تكون، بحسب قصد الرب، والكنيسة هي التي، عندما تحتفل بالأسرار، تغني العائلة المسيحية وتقوّيها بنعمة السيد المسيح لتتقدس في مجد الله. والكنيسة هي التي، بتجديدها إعلان وصية المحبة الجديدة، تدفع العائلة المسيحية وتقودها إلى خدمة المحبة لكي تقتدي بهذه الخدمة، وتجدّد في الحياة محبة هبة الذات والتضحية التي خصّ بها يسوع المسيح البشرية جمعاء.
وتدخل العائلة المسيحية، بدورها، في سر الكنيسة لتشارك، على طريقتها، في القيام برسالة الخلاص الخاصة بالكنيسة: فللأزواج والوالدين المسيحيين بقوّة السر، “في حالتهم ووضعهم، هبة خاصة بهم في شعب الله” (115).
ولهذا فهم لا يتقبلون محبة المسيح ليصبحوا جماعة “مخلَّصة” وحسب بل ليُدعوا إلى “نقل” محبة المسيح هذه إلى إخوانهم، ليصبحوا أيضاً جماعة “مخلِّصة”. وهكذا تكون العائلة المسيحية – التي هي ثمرة خصب الكنيسة الفائق الطبيعة وبرهانه – رمزاً وشهادة ومشاركة في أمومة الكنيسة (116).
وظيفة كنسيّة خاصة وفريدة
50- على العائلة المسيحية أن تقوم بدور واع فعّال في رسالة الكنيسة، وبطريقة خاصة فريدة، وذلك بوضعها ذاتها في خدمة الكنيسة والمجتمع، في حياتها وعملها، بوصفها “جماعة حياة ومحبة متماسكة”.
وإذا كانت العائلة المسيحية جماعة جدّد المسيح روابطها بالإيمان والأسرار فيجب أن يتمّ اشتراكها في رسالة الكنيسة على “صعيد جماعي”: فعلى الزوجين إذن في وقت معاً “وكزوجين”، وعلى الوالدين والأولاد “كعائلة” أن يقوموا بخدمتهم للكنيسة وللعالم. ويجب أن يكونوا بالإيمان “قلبا واحداً ونفساً واحدة” (117)، سواء أكان بالروح الرسولية المشتركة التي تنقصهم، أم بتعاونهم الذي يحفزهم على القيام بأعمال الخدمة من أجل الجماعة الكنسيّة والمدنيّة.
وفضلاً عن ذلك، إن العائلة المسيحية تبني ملكوت الله في التاريخ بهذه الوقائع اليومية التي تتناول “وضع حياتها” وتحدّده: وهكذا “في المحبة الزوجية والعائلية – التي تتجسد بما فيها من غنى حافل بالقيم والموجبات من مثل الشمول والفرادة والأمانة والخصب (118) – يتمّ اشتراك العائلة المسيحية ويتحقق في رسالة يسوع المسيح الكهنوتية، والنبوية، والملوكية: فالمحبة إذن والحياة تشكّلان نقطة الدائرة من رسالة العائلة المسيحية الخلاصية في الكنيسة ومن أجل الكنيسة.
وهذا ما يذكّر به المجمع الفاتيكاني الثاني، عندما يورد أن: “على الأسر أن تتبادل بسخاء ثرواتها الروحية. وحينئذ يتاح للأسرة المسيحية المنبثقة من الزواج الذي هو صورة لعهد المحبة القائم بين المسيح والكنيسة، واشتراك في هذا العهد، أن تظهر للبشر جميعاً وجود المخلّص حياً في هذا العالم، كما تظهر طبيعة الكنيسة الحقيقية، سواء عن طريق الحب المتبادل بين الزوجين وسخائهما في إنجاب النسل ووحدتهما وأمانتهما الزوجية، أو عن طريق التعاون الودّي بين كل أعضاء الأسرة” (119).
وبعد أن أرسيت قواعد مشاركة العائلة المسيحية في رسالة الكنيسة، حان الوقت الآن لتوضيح عناصر هذه المشاركة على ضوء ارتباطها، المثلث والأوحد في الواقع، بيسوع المسيح النبي والكاهن والملك، وإظهار العائلة بالتالي بمظهر:
1- جماعة تؤمن وتنشر الإنجيل.
2- جماعة تقيم حواراً مع الله.
3- جماعة تخدم الناس.
1) العائلة المسيحية، جماعة تؤمن وتنشر الإنجيل والإيمان
اكتشاف لقصد الله حيال العائلة وإعجاب به
51- إن العائلة المسيحية المشتركة في حياة الكنيسة ورسالتها – هذه الكنيسة التي تصغي بخشوع إلى كلمة الله وتعلنها بثقة أكيدة (120) – تقوم بوظيفتها النبوية بقبولها كلمة الله وإعلانها إياها: وهكذا تضحي، يوماً بعد يوم، جماعة تؤمن وتنشر الإنجيل. ويطلب أيضاً من الأزواج والوالدين المسيحيين “طاعة الإيمان” (121) : فهم مدعوون إلى قبول كلمة الرب التي تكشف لهم جدّة عجيبة – الخبر المفرح – أي جدّة حياتهم الزوجية والعائلية التي جعلها السيد المسيح مقدَّسة ومقدِّسه. غير أنه بالإيمان فقط يمكنهم أن يكتشفوا بنفس طيبة وفرح وإعحاب، المقام السامي الذي رفع الله إليه الزواج والعائلة، فجعلهما علامة وملتقى لعهد المحبة بين الله والناس، وبين يسوع المسيح وعروسته الكنيسة. والاستعداد للزواج المسيحي يعتبر بحد ذاته مسيرة إيمان، لأنه فرصة ثمينة تفسح للخطيبين في المجال ليستجليا ويتفهّما تفهّماً عميقاً الإيمان الذي قبلاه بالعماد وغذّته التربية المسيحية. وهكذا يعترفان بدعوتهما ويتقبلانها بحرية، وهي دعوة إلى اقتفاء آثار السيد المسيح وخدمة ملكوت الله عن طريق العيش في حالة الزواج.
إن أهمّ فترة زمنية يظهر فيها الخطيبان إيمانهما، إنما هي الاحتفال بسرّ الزواج الذي هو بطبيعته وجوهره إعلان الخبر المفرح في الكنيسة عن الحبّ الزوجي: فهو كلمة الله التي “تعلن” و”تحقق” قصد الله الحكيم المحب، حيال الأزواج الذين أدخلهم في شراكة محبة الله للناس، وهي محبة حقاً عجيبة واقعية. وإذا كان الاحتفال السرّي بالزواج هو بحدّ ذاته إعلان لكلمة الله، فيجب أن يتضح لجميع الذين يصنعون السر ويحتفلون به، على اختلاف الأدوار، إنه “اعتراف بالإيمان” يتمّ في الكنيسة ومع الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين.
ويجب إبراز هذا الاعتراف بالإيمان، على مدى حياة الأزواج والعائلة: فالله الذي دعا الخطيبين “إلى” الزواج، لا يزال يدعوهما “في” الزواج (122). وهو يأتي إليهما في الأحداث وبواسطة الأحداث والمشاكل والمصاعب وظروف الحياة اليومية، ويظهر لهما ويقترح عليهما ما “يتطلّبه” عمليا اشتراكهما في محبة المسيح للكنيسة في الحالة الخاصة – العائلية، والاجتماعية، والكنسية – التي يتقلّبون فيها.
و”في الوقت معاً”، يجب أن تهتدي الجماعة الزوجية والعائلية إلى قصد الله، وتخضع له من خلال اختبارها البشري للحبّ الذي يمارس بروح المسيح بين الأزواج، وبين الوالدين والبنين.
ولهذا يجب أن تُبشِّر بالإنجيل الكنيسة الصغرى المنزلية، على غرار الكنيسة الكبرى وذلك بعناية واستمرار: من هنا واجبها في الاهتمام المتواصل بالتربية على الإيمان.
خدمة العائلة المسيحية في نشر الإنجيل
52- على قدر ما تعتنق العائلة المسيحية الإنجيل وتنضج في الإيمان، تصبح جماعة تنشر الإنجيل. ولنستمع مجدّداً إلى بولس السادس: “يجب أن تكون العائلة، كالكنيسة، المكان الذي ينقل إليه الإنجيل ويشع منه الإنجيل. وفي العائلة التي تعي هذه الوظيفة، يُبشِّر جميع أعضائها ويبشَّرون بالإنجيل. ولا ينقل الوالدون الإنجيل إلى أبنائهم وحسب، لكن باستطاعتهم أن يتلقوا منهم هذا الإنجيل معبراً عنه في الحياة تعبيراً عميقاً، فتضحي هذه العائلة تبشّر بالإنجيل سواها من العائلات الكثيرة والوسط الذي تندرج فيه” (123).
إن مستقبل التبشير بالإنجيل، على ما أورد المجمع مجدّدا، بالاستناد إلى ما أعلناه في خطابنا في مدينة بوابلا، يتوقّف إلى حدّ كبير على الكنيسة المنزلية (124). وتتخذ هذه المهمّة الرسولية المتأصلة في العماد، من نعمة سرّ الزواج دفعا جديداً لنقل الإيمان وتقديس المجتمع وتغييره وفقاً لقصد الله.
ومن أهمّ واجبات العائلة المسيحية، خاصة في هذه الأيام، الشهادة لعهد المسيح الفصحي بنشرها المستمرّ فرح المحبة والرجاء الوطيد الذي يجب أن تؤدي عنه الحساب: “إن العائلة المسيحية تعلن، بأعلى الصوت، من جهة فضائل ملكوت الله الحاضرة، ومن جهة ثانية رجاء الحياة الطوباوية” (125).
وتظهر، بقوّة، الحاجة القصوى إلى التعليم المسيحي العائلي في بعض الظروف التي، ويا للأسف، تمرّ فيها الكنيسة في بعض الأماكن: “حيثما تمنع القوانين، المناوئة للدين، التربية في الإيمان، وحيثما يتعذّر النموّ الحقيقي في الدين، بسبب انتشار الإلحاد وطغيان العلمنة، تبقى هذه (العائلة) التي تشبه “معبدا بيتيا” المكان الوحيد الذي يتمكّن الأولاد فيه والشبّان من تلّقي التعليم المسيحي الأصيل” (126).
خدمة كنسية
53- لا يمكن استبدال خدمة نشر الإنجيل الخاصة بالوالدين المسيحيين بما سواها: فهي ترتدي معاني الحياة العائلية المميّزة، حتى لكأنها على ما يجب أن تكون، نسج حب وبساطة وفعالية وشهادة يومية (127).
وعلى العائلة أن تنشئ الأولاد على الحياة تنشئة تتيح لكل منهم القيام بمهمته خير قيام، وفقاً للدعوة التي تقبلّها من الله. ذلك أن العائلة التي تنفتح على القيم السامية وتخدم الإخوة بفرح، وتؤدي واجباتها بأمانة وسخاء، وتشعر باشتراكها اليومي في سرّ صليب المسيح المجيد، تصبح أول منبت وأفضله للدعوة إلى الحياة المكرّسة لملكوت الله.
ويجب أن ترافق خدمة الوالدين التبشير بالإنجيل والتعليم المسيحي، حياة الأبناء حتى في سنّي المراهقة والشباب، عندما يتحدّون – على ما يحدث غالباً – أو يرفضون الإيمان المسيحي الذي تقبّلوه في سنيّ حياتهم الأولى. وكما أن مهمة نشر الإنجيل في الكنيسة لا تنفصل أبداً عمّا يقاسيه الرسول من آلام، هكذا على الوالدين أن يقابلوا، برباطة جأش وطول أناة، المصاعب التي تعترض أحياناً سبيل رسالتهم في نقل الإنجيل إلى أبنائهم.
ولا يجوز أن ننسى أن الخدمة التي يؤديها الأزواج والوالدون المسيحيون للإنجيل هي، في طبيعتها، خدمة كنسية، أي إنها تدخل في إطار الكنيسة جمعاء بوصفها جماعة تُبشِّر وتُبشَّر بالإنجيل. ولمّا كانت خدمة التبشير بالإنجيل والتعليم المسيحي التي تقوم بها الكنيسة المنزلية، تنبع من رسالة الكنيسة الواحدة وتلازمها وتهدف إلى بناء جسد المسيح الواحد (128)، وجب أن ترتبط ارتباطا وثيقاً بسائر الخدم وتأتلف معها ائتلافاً واعياً مسؤولاً، وهي خدم تهدف إلى نشر الإنجيل والتعليم المسيحي وتتمّ في الجماعة الكنسية سواء أكان على صعيد الأبرشية أم الرعية.
تبشير كل خليقة بالإنجيل
54- الشمول اللامحدود هو الحق المفتوح الخاص بنشر الإنجيل الذي تحييه من الداخل غيرة رسولية لاهبة. وهذا هو الجواب على أمر السيد المسيح الصريح الواضح: “اذهبوا إلى العالم، ونادوا بالإنجيل في الخليقة كلّها” (129).
فإيمان العائلة المسيحية ومهمّة التبشير بالإنجيل الملتزمة بها ينطويان أيضاً على هذا الدفع الرسولي الكاثوليكي. إن سر الزواج يجدّد واجب الدفاع عن الإيمان ونشره ويستحث عليه – وهو واجب راسخ في العماد والتثبيت (130) – ويجعل من الأزواج والوالدين المسيحيين شهوداً للمسيح “حتى أقاصي الأرض” (131)، و”رسلاً” حقيقيين للحب والحياة.
وهناك نوع من النشاط الرسولي يمكن القيام به في داخل العائلة. وهذا يتأتى عندما يفقد أحد أعضاء العائلة الإيمان، أو عندما لا يتصرّف بمقتضاه. ففي هذه الحالة يجب أن يظهر له سائر أعضاء العائلة شهادة إيمانهم مؤيدة بواقع حياتهم، بحيث تدفعه وتشدد عزيمته في الطريق التي يسعى إلى سلوكها حتى يسلّم أمره كليا للمسيح المخلّص (132).
وتندفع الكنيسة المنزلية بروح رسولي باطني لكي تكون علامة نيّرة لحضور السيد المسيح ولمحبته حتى “للأبعدين”، وللعائلات التي لا تؤمن بعد، وللعائلات المسيحية التي تنكّف عن العيش بمقتضى الإيمان الذي تقبّلته: وهي مدعوة لكي تنير “بمثلها وشهادتها” الذين “يبحثون عن الحقيقة” (133).
وكما أن أكويلا وبريسكلة، أظهرا، في بدء المسيحية، عن نفسيهما أنهما زوجان رسوليان (134)، هكذا تشهد الكنيسة اليوم على جدّتها المستمرة وازدهارها بوجود الأزواج والعائلات المسيحية التي تذهب، لبعض الوقت، على الأقل، للعمل في بلدان الرسالات للتبشير بالإنجيل وخدمة الناس بمحبة المسيح يسوع.
وتسهم العائلات المسيحية اسهاماً خاصاً في القضية الإرسالية التي تتعهدها الكنيسة برعايتها الدعوة الإرسالية (135) بين أبنائها وبناتها، وبوجه عام، بتشديدها على العمل التربوي الذي بأمكانه “أن يعدّ أبناءها منذ حداثتهم، للاعتراف بمحبة الله لجميع الناس” (136).
2) العائلة المسيحية، جماعة في حوار مع الله
مخدع الكنيسة المنزلي
55- يبلغ التبشير بالإنجيل واقتباله بإيمان ملئهما في الاحتفال بالأسرار. فالكنيسة التي هي جماعة مؤمنة تبشّر بالإنجيل، وهي كذلك شعب كهنوتي، أي مزدان بكرامة سلطان المسيح، الكاهن الأسمى للعهد الأبدي، ومشارك في مفاعيل هذا السلطان (137).
وتندرج العائلة المسيحية أيضاً في الكنيسة، الشعب الكهنوتي: ففي سرّ الزواج الذي تتأصّل فيه وتغتذي منه، تحيا دائماً بالرب يسوع الذي يستحثها على الحوار مع الله ويأمرها به، وذلك عن طريق حياة تمارس فيها الأسرار، وبواسطة تقدمة الذات والصلاة.
هذا هو الدور الكهنوتي الذي بإمكان العائلة المسيحية ومن واجبها أن تقوم به بالإتحاد الوثيق مع الكنيسة الجامعة في جميع الأحداث اليومية التي تطرأ على الحياة الزوجية والعائلية. وهكذا تدعى العائلة المسيحية إلى تقديس ذاتها وتقديس الجماعة الكنسية والعالم.
الزواج سرّ تقديس متبادل
وفعل عبادة
56- إن سرّ الزواج، الذي يستعيد نعمة العماد المبرّرة، ويستكملها، هو ينبوع خاص وأداة فريدة لتقديس الأزواج والعائلة المسيحية. وبفضل سرّ موت السيد المسيح وقيامته الذي يُدخل الزواج فيه الناس مجدّدً، يتطهّر الحب الزوجي ويتقدّس. “لقد تنازل الرب فطّهر هذا الحب من شوائبه وكمّله ورفعه بجود خاص من نعمته ومحبته” (138).
ولا تنحصر هبة المسيح يسوع كلّها في الاحتفال بسرّ الزواج، لكنها تعضد الأزواج مدى الحياة. وهذا ما يذكّر به المجمع الفاتيكاني الثاني، عندما يعلّم أن السيد المسيح: “يستمر في البقاء مع (الأزواج)، لكي يستطيعوا بهبة ذاتهم المتبادلة أن يتحابوا في أمانة دائمة كما أحب هو نفسه الكنيسة وبذل ذاته لأجلها… ولهذا فإن الأزواج المسيحيين يتخذون قوّة وشبه تكريس من سرّ مقدس خاص، ليقوموا، كما ينبغي، بالواجبات المترتبة على حالتهم الزوجية. فإذا ما اضطلعوا برسالتهم الزوجية والعائلية بقوّة هذا السرّ المقدس، متشبّعين من روح المسيح الذي يملأ حياتهم كلها إيماناً ورجاء ومحبة، حينئذ يتاح لهم أكثر فأكثر أن يحققوا كمالهم الشخصي وتقديسهم المتبادل، وهكذا يساهمون معا في تمجيد الله” (139).
والدعوة الشاملة إلى القداسة تتوجّه إلى الأزواج كما تتوجّه إلى الوالدين المسيحيين: فهي يحدّدها بالنسبة إليهم الاحتفال بالسرّ وتنتقل عملياً إلى الشؤون الخاصة بالحياة الزوجية والعائلية (140). ومن هنا تولد النعمة والحاجة إلى الروحانية الزوجية والعائلية الحق السامية التي تستوحي مواضيع الخلق، والعهد، والصليب، والقيامة، والعلامة السرّية التي توقّف عليها الجميع مراراً عديدة.
فالزواج المسيحي كسائر الأسرار التي “جعلت لتقديس الناس، وبنيان جسد المسيح، وأخيراً لعبادة الله” (141)، هو عمل طقسي بحد ذاته يمجّد الله في المسيح يسوع وفي الكنيسة: ولدى الاحتفال به، يعترف الأزواج المسيحيون، بنفس طيبّة، لله بما أفاض عليهم من هبة فائقة يتمكنون معها من أن يعيشوا مجدداً في حياتهم الزوجية والعائلية من محبة الله لجميع الناس، ومحبة الرب يسوع للكنيسة، عروسته.
وكما أن هذا السرّ يفيض على الأزواج هبة ويلزمهم بواجب ليختبروا في حياتهم اليومية التقديس الذي اقتبلوه، فهو يجري أيضاً عليهم نعمة ويلزمهم بواجب أدبي يحوّلون معه حياتهم “إلى قرابين حيّة” دائمة (142). وكذلك تنطبق على الأزواج والوالدين المسيحيين، خاصة في الشؤون الدنيوية والزمنية التي يتميّزون بها، كلمات المجمع: “وعلى هذا المنوال يقدّم العلمانيون لله العالم عينه بما هم عبدة يعملون في كل مكان عملاً مقدساً” (143).
الزواج والإفخارستيا
57- لواجب التقديس، الملزمة به العائلة المسيحية، جذوره الأولى في العماد وتعبيره الأسمى في الإفخارستيا الذي يرتبط به الزواج المسيحي ارتباطاً وثيقاً. وقد استرعى المجمع الفاتيكاني الثاني الانتباه إلى الرابطة الخاصة القائمة بين الإفخارستيا والزواج فطلب “أن يُحتفل عادة بالزواج في أثناء القداس” (144): لذلك على من كان يرغب في تفهّم نعم الزواج والعائلة المسيحية وما عليهما من واجبات ويعبّر عن ذلك في واقع الحياة أن يكتشف مجدّداً هذه الرابطة ويتعمق فيها.
فالإفخارستيا ينبوع الزواج المسيحي. وذبيحة الإفخارستيا، في الواقع، ترجع إلى عهد محبة المسيح مع الكنيسة الذي ختم بدم الصليب (145) وفي ذبيحة العهد الجديد الأبدي هذه، يجد الأزواج المسيحيون الأصل الذي يتفرّعن منه عهدهم الزواجي ويتكيّف به باطنياً، ويحيا باستمرار. والإفخارستيا، بما أنها تمثيل لذبيحة محبة المسيح في الكنيسة هي ينبوع محبة. وفي المحبة النابعة من الإفخارستيا تجد العائلة المسحية أساسها وما يشبه روح “اتحادها” و”رسالتها”: فخبز الإفخارستيا يجعل من مختلف أعضاء الجماعة العائلية جسداً واحداً تتجلّى فيه وحدة الكنيسة والاشتراك الأوسع فيها. ويصبح بالتالي تناول الجسد “المسلّم” والدم “المهراق” ينبوعاً لا ينضب لنشاط العائلة المسيحية الإرسالي والرسولي.
سرّ الارتداد والمصالحة
58- إن قبول الدعوة الإنجيلية إلى الارتداد، الموجّهة إلى جميع المسيحيين الذين لا يكونون دائماً أمناء “لجدّة” عمادهم الذي أصبحوا فيه قديسين، إنما هو جزء مهم، لا غنى عنه، من وظيفة التقديس. ولا تنسجم العائلة المسحية دائماً وما للنعمة وقداسة العماد من شريعة معلن عنها مجدّداً في سرّ الزواج.
وإن الندامة والمغفرة المتبادلة اللتين غالباً ما تمارسان في الحياة اليومية، تجدان في العائلة المسيحية زمنهما الأسراري الخاص في التوبة المسيحية. وقد كتب بولس السادس عن الأزواج في رسالته العامة “الحياة البشرية” ما يلي: “إذا كانت الخطيئة لا تزال تكبّلهم، فيجب ألاّ يتخاذلوا، بل فليضرعوا دائماً بتواضع إلى رحمة الله التي يفيضها سر التوبة بغزارة” (146).
ويكتسب الاحتفال بهذا السر قوّة خاصة بالنسبة إلى الحياة العائلية. ففيما يدرك الأزواج وجميع أعضاء العائلات بالإيمان كيف أن الخطيئة تضاد لا العهد المبرم مع الله وحسب، بل أيضاً عهد الأزواج واتحاد العائلة، فإنهم ينقادون إلى ملاقاة الله “الغني بالرحمة” (147) الذي، بافاضته حبه الأقوى من الخطيئة (148)، يعيد بناء العهد الزوجي والاتحاد العائلي ويكمّلهما.
الصلاة العائلية
59- إن الكنيسة تصلّي من أجل العائلة المسيحية وتنشئها على القيام بما قبلته من السيد المسيح، الكاهن الأسمى، من هبة وواجب كهنوتيين، وعلى العيش في انسجام سخيّ معهما. وفي الواقع أن كهنوت المؤمنين الناشيء عن “العماد والمعبّر عنه في الحياة بالزواج كسرّ، يشكّل للأزواج وللعائلة أساس الدعوة والرسالة اللتين تتحول عبرهما حياتهم اليومية “قرابين روحية مقبولة لدى الله، بيسوع المسيح” (149): وهذا يتمّ ليس بالاحتفال بالإفخارستيا وسائر الأسرار وتقدمة الذات لمجد الله وحسب، بل أيضاً بالمواظبة على الصلاة والحوار المشفوع بمناجاة الآب بواسطة يسوع المسيح في الروح القدس.
وللصلاة العائلية خصائصها. فهي صلاة جماعية يقوم بها الزوجان معاً، والأهل والأبناء معا. والاتحاد في الصلاة هو، في الوقت عينه، ثمرة هذا الاتحاد الذي يوفّره سرا العماد والزواج، وهو ما يقتضيه هذا الاتحاد الأخير، وبالإمكان تطبيق هذه العبارات، التي أعرب بها الرب يسوع عن وجوده، على أعضاء العائلة المسيحية خاصة. وقد قال: “وأقول لكم: إذا اتفق اثنان منكم في الأرض أن يطلبا حاجة، حصلا عليها من أبي الذي في السماوات. فأينما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هناك بينهم” (150).
والموضوع الخاص لصلاة هذه العائلة، إنما هو حياة العائلة نفسها التي تبدو في جميع ظروفها، على اختلافها، كأنها دعوة من الله وتأتي كجواب بنوي على ندائه: فالأفراح والأتراح، الآمال والأحزان، الولادات وذكراها السنوية، يوبيل زواج الوالدين، الغيابات والعودات، الاختبارات الخطيرة الحاسمة، وفاة الأحباء، وأمثال هذه الحوادث تظهر محبة الله التي تتدخّل في مجرى أحوال العائلة، ويجب كذلك أن تشير إلى الوقت المناسب لتأدية أفعال الشكر والابتهال وتسليم العائلة ذاتها للآب المشترك الذي في السماء. ولا يمكن التعبير عن كرامة العائلة المسيحية وواجبها، بوصفها كنيسة منزلية، إلاّ بمساعدة الله المستمرة التي يجود بها، ولا شك، إذا سئلت بتواضع وثقة في الصلاة.
معلّمو صلاة
60- من أخصّ واجبات الأهلين المسيحيين النابعة من كرامتهم ومن الرسالة الخاصة بالمعمّدين، تربية أبنائهم على الصلاة واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى اكتشاف سرّ الله وإلى الحوار الشخصي معه: “وفي الأسرة المسيحية، بصفة خاصة، وهي الغنية بنعم سرّ الزواج ومقتضياته، يجب أن يتعلّم الأولاد، منذ نعومة أظفارهم، وتجاوباً مع الإيمان الذي قبلوه في العماد، كيف يكتشفون الله ويكرمونه وكيف يحبّون القريب” (151).
إن العنصر الأهم الذي لا غنى عنه في التربية، إنما هو مثل الأهل الواقعي والشهادة التي تؤيّدها حياتهم: إن الأب والأم اللذين يصلّيان مع أبنائهما، فيما يمارسان كهنوتهما الملوكي، ينفذان إلى أعماق قلوب أبنائهما ويتركان آثاراً لا تقوى على إزالتها أحداث الحياة المتعاقبة. ولنستمع مجدّداً إلى بولس السادس يحضّ الوالدين بقوله: “أيتها الأمهات، هل تعلّمن أولادكن صلاة المسيحي؟ هل تعددن أبناءكن مع الكهنة لأسرار عهد الصبا: التوبة والإفخارستيا؟ هل عوّدتنّهم، إذا مرضوا، التفكير بالمسيح المتألم؟ والاستعانة بالعذراء مريم والقديسين؟ هل تتلون في العائلة صلاة الوردية المريمية؟ وأنتم أيها الآباء، هل تعرفون أن تصلّوا، أحياناً على الأقل، مع أبنائكم وكل جماعتكم البيتية؟ إن مثلكم، إذا صاحبته تفكير سليم وعمل مستقيم، وساندته صلاة مشتركة، له ما للمدرسة المفيدة للحياة من قيمة، وما لفعل العبادة من استحقاق عظيم. هكذا تدخلون السلام إلى بيوتكم: “السلام لهذا البيت”. تذكّروا: هكذا أنكم تبنون الكنيسة” (152).
صلاة طقسية وخاصة
61- بين تضرّعات الكنيسة وصلوات أفراد المؤمنين علاقة عميقة حيوية، على ما أكدّ بوضوح المجمع الفاتيكاني الثاني (153). والغاية الأولى من الصلاة في الكنيسة المنزلية إدخال الأبناء بطريقة طبيعية، في الصلاة الطقسية التي تمارسها الكنيسة جمعاء، ليألفوها ولتشمل محيط حياتهم الشخصية، والعائلية والاجتماعية. من هنا الحاجة إلى اشتراك جميع أعضاء العائلة المسيحية، شيئاً فشيئاً، في الإفخارستيا، وعلى الأخص، أيام الآحاد والأعياد، وفي سائر الأسرار، ولا سيّما ما يتعلق منها بمباشرة الأولاد حياتهم وفقاً للمبادئ المسيحية. وتوفّر القواعد التوجيهية التي أعطاها المجمع فرصة جديدة للعائلة المسيحية التي أحصيت في عداد الفئات التي ينصح لها بتلاوة الفرض الإلهي تلاوة جمهورية (154). وعلى العائلة المسيحية أن تهتمّ أيضاً بالاحتفال في البيت، وبطريقة تناسب أعضاءها، بأزمنة السنة الطقسية وبأيام الأعياد فيها.
واستعداداً للاحتفال بالعبادة في الكنيسة ومواصلة هذه العبادة في البيت، تلجأ العائلة المسيحية إلى الصلوات الخاصة التي يتوفّر منه صيغ كثيرة متنوّعة: وهذا التنوّع يدّل على غنى عظيم يوجّه الروح القدس بحسبه الصلاة المسيحية، ويتجاوب هذا التنوّع وما يحيط بحياة من يتّجه بعقله إلى الرب من ظروف وما لها من مقتضيات. وفضلاً عن صلوات الصبح والمساء، ينصح آباء المجمع بواضح العبارة، على ما نبّهوا إليه: بقراءة كلمة الله والتأمل فيها، والاستعداد للأسرار، وعبادة قلب يسوع الأقدس، وتكريس الذات له، وأنواع التكريم الخاصة بالطوباوية مريم البتول، ومباركة المائدة، والممارسات التقوية الشعبية.
والكنيسة، مع احترامها لحرّية أبناء الله احتراماً تاماً، ما فتئت تعرض، بعناية خاصة وبإلحاح، على المؤمنين، بعض صيغ تقوية لا بدّ من أن نذكر منها تلاوة الوردية المريمية: “ويسرّنا الآن، ونحن نتابع ما أعرب عنه أسلافنا من نيّات، أن نوصي، بحرارة، بتلاوة الوردية المريمية داخل البيت… وما من شك في أن سبحة الطوباوية مريم العذراء تعدّ بين أسمى ” الصلوات الجمهورية” وأفعلها وتدعى العائلة المسيحية إلى تلاوتها. ويطيب لنا حقاً أن نعتقد – وهذه هي رغبتنا الشديدة – إن أعضاء العائلة عندما يجتمعون للصلاة، سيتلون، في ذلك الوقت، الوردية بتواتر وطيبة خاطر (155).
وهكذا تكون التقوى المريمية الأصيلة، التي يعبّر عنها ارتباطها الوثيق بالعذراء القديسة، والاقتداء السخي بمشاعرها الروحية، أداة لتغذية اتحاد المحبة في العائلة، وتطوير الروحانية الزوجية والعائلية. وتلك التي هي أم المسيح والكنيسة، هي في الواقع، وبطريقة خاصة، أم العائلات المسيحية، أعني الكنائس المنزلية.
الصلاة والحياة
62- ومن غير الانصاف أن ننسى أن الصلاة جزء لا يتجزأ من الحياة المسيحية بمفهومها الطبيعي التام البحت. فهي تتعلق حتماً “بإنسانيتنا”: فهي “أول تعبير عن حقيقة الإنسان الباطنية، وأول شرط من شروط حرية الروح الحق” (156).
ولهذا لا تعني الصلاة نوعاً من الهروب يصرف الإنسان عن واجباته اليومية، بل إنها تحفز العائلة المسيحية بشدّة لكي تحمل مسؤولياتها كاملة وتقوم بها بوصفها أولى خلايا المجتمع البشري الأساسية. ومن ثم فالاشتراك الفعلي بحياة الكنيسة ومسؤولياتها في العالم، إنما هو جواب على المواظبة الأمينة على الصلاة التي تتّحد العائلة المسيحية بواسطتها بالكرمة الخصيبة التي هي المسيح الرب (157).
وينبع خصب العائلة المسيحية في خدمتها الرامية إلى التطور البشري الذي يسهم بحدّ ذاته في تغيير العالم، من الاتحاد الحيوي بالمسيح الذي يغتذي من الطقوس المقدسة ومن تقدمة الذات والصلاة (158).
3) العائلة المسيحية، جماعة في خدمة الإنسان
وصية المحبة الجديدة
63- من واجب الكنيسة، أي الشعب النبوي – الكهنوتي – الملوكي، أن تقود جميع الناس بالإيمان إلى اقتبال كلمة الله، والاحتفال بها والإعلان عنها في الأسرار والصلوات، وأخيراً بالبرهنة عنها في شؤون الحياة الواقعية بحسب هبة المحبة، ووصية المحبة الجديدة.
وتجد العائلة المسيحية شريعتها لا في كتاب قانون، بل في عمل الروح القدس الشخصي الذي يستنهض همة المسيحي ويقوده؛ وهذه “شرعة روح الحياة في يسوع” (159): “إن الله يكسب محبته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا” (160).
وهذا ما يجب قوله أيضاً في الأزواج والعائلة المسيحية: إن دليلهم وقاعدتهم إنما هو روح يسوع المفاض في القلوب لدى الاحتفال بسرّ الزواج. وهذا الزواج الذي يأتي بعد العماد بالماء والروح، يعرض مجدّداً شريعة المحبة الإنجيلية ويحفرها حفراً عميقاً، بهبة الروح، في نفوس الأزواج المسيحيين: فحبهم المطّهر والمفتدى هو ثمرة الروح الذي يعمل في نفوس المؤمنين ويظهر ذاته، في الوقت عينه، إنه هو الوصية الأساسية، في الحياة الأدبية، المفروضة على حريتهم المسؤولة.
وهكذا تحيا العائلة المسيحية، ودليلها شريعة الروح الجديدة، ودعوتها – بالاتحاد الحميم مع الكنيسة، الشعب الملوكي – ممارسة خدمة المحبة في حياتها تجاه الله والإخوة. وكما أن المسيح يمارس سلطانه الملوكي ويتفانى في خدمة الناس (161)، هكذا يدرك المسيحي ما لمشاركته في الكرامة الملوكية الخاصة بسيّده، من معنى صحيح، فيما هو يشترك بروحه، وعلى طريقته، في خدمة الناس: “وقد خوّل تلاميذه هذا السلطان لكي يتمتعوا بالحريّة الملوكيّة، ويكسروا بكفرهم بذواتهم وقداسة سيرتهم شوكة الخطيئة فيهم (راجع روم 6، 12)، وليقودوا بتواضعهم وصبرهم، فيما يخدمون المسيح في غيرهم، إخوتهم إلى ذلك الذي من دان له ملك. أن الرب يريد أن يوسّع ملكوته، أي ملكوت الحق والحياة، ملكوت القداسة والنعمة، ملكوت العدل والمحبة والسلام، على يد العلمانيين المؤمنين. وفي هذا الملكوت ستعتق الخليقة من عبودية الفساد إلى حرية مجد أبناء الله (راجع روم 8، 21) (162).
اكتشاف صورة الله في كل أخ
64- إن العائلة المسيحية تقوم، بدافع من وصية المحبة الجديدة وبمساندتها، باستضافة كل إنسان وتحترمه وتخدمه وتقبله دائماً من أجل ما له من كرامة بوصفه شخصاً وابناً لله. ومن الضرورة أن يتمّ ذلك، على الأخص، بين الأزواج والعائلة، لخير كليهما، أي بالعمل اليومي على تطوير جماعة أشخاص صحيحة تستند إلى ما يوحّدها من محبة داخلية تسهم في تنميتها.
وهذا ما يجب أن يتحقق بإطراد ضمن دائرة الجماعة الكنسية الأوسع التي تندرج فيها العائلة المسيحية: وبإمكان الكنيسة ومن واجبها بفضل محبة العائلة، أن ترتدي طابعاً يكون أكثر فأكثر بيتياً، أي عائلياً، بالتزامها نوعاً من العلاقات يكون أكثر إنسانية وأخوّة.
وتتعدى المحبة، في الحقيقة، نطاق الإخوّة في الإيمان، لأن “كل إنسان إنما هو أخ لي”، وتكتشف المحبة في كل إنسان ولاسيّما المعوز والفقير والمتألم والمظلوم، وجه المسيح والأخ الذي يجب أن يحاط بالمحبة والخدمة.
ولكي تقوم العائلة بخدمة الإنسان، على الطريقة الإنجيلية، لابدّ لها من أن تعمل عملاً ناشطاً بما يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني: “وإذا شئنا أن تكون ممارسة المحبة على الدوام بمنأى عن كل انتقاد، وأن تبدو كذلك، ينبغي أن نرى صورة الله في القريب الذي خلق على مثاله، وصورة السيد المسيح ربنا، الذي نقدّم في الحقيقة لشخصه كل ما تقدّمه للفقير” (163).
والعائلة المسيحية، إذ تبني الكنيسة بالمحبة، تضع ذاتها في خدمة الإنسان والعالم عاملة، حقاً، على تحقيق “هذا التطوير الإنساني” الذي أوجزت رسالة المجمع إلى العائلات وصف طبيعته، بهذه الكلمات: “هناك وظيفة أخرى للعائلة تقوم على تنشئة الناس على المحبة وإشاعتها أيضاً في جميع العلاقات التي تربط ما بينهم، بحيث لا تنغلق العائلة على ذاتها، بل تنفتح على الجماعة بدافع من الشعور بالعدالة واحترام الآخرين، وبوعيها لما عليها من واجب تجاه المجتمع البشري بكامله” (164).
القسم الرابع
العناية الرعَويّة بالعائلة
مَراحلها، بنَاها، المسؤولون عنها
وحالاتها
أولاً- مراحل العناية الرعوية بالعائلة
الكنيسة ترافق العائلة المسيحية في مسيرتها
65- لابدّ للعائلة، ككّل حيّ، من أن تتطور وتنمو. فبعد أعداد الخطبة والاحتفال بسرّ الزواج يبدأ الأزواج مسيرتهم اليومية الهادفة إلى تمكينهم شيئاً فشيئاً من الإفادة من خيور الزواج والنهوض بمسؤولياته.
وتشترك العائلة المسيحية أيضاً – بعد أن تكون قد استنارت بالإيمان وتقوّت بفضيلة الرجاء، بالاتحاد مع الكنيسة – في اختبار الحجّة الأرضية التي تبتغي استجلاء ملكوت الله استجلاء تاما، وظهوره كاملاً.
ولهذا كان لا بدّ من التشديد أيضاً على استعجال تدخل الكنيسة الرعوي لمساندة العائلة. ومن الضروري بذل أقصى الجهود لتأمين الاهتمام الرعوي بالعائلة وتطويره. وهذا عمل يجب تقديمه في الواقع، على ما سواه، لأنه ما من شك في أن نشر الإنجيل في مستقبل الأيام سيتوقّف على الكنيسة المنزلية (165).
ولا يقتصر اهتمام الكنيسة الرعوي على أقرب العائلات، لكنه يوسع حدوده سعة قلب المسيح، ويبدي المزيد من النشاط تجاه جميع العائلات على وجه العموم، وتجاه التي تعاني صعوبة أو حالة شاذّة، على وجه الخصوص. وعلى الكنيسة أن توجّه إلى جميع العائلات كلمات ملؤها الحقيقة والرفق والطيبة والأمل، والمشاركة العميقة في الصعوبات الشديدة التي تضيّق أحياناً عليها الخناق. وعليها أن تساعدها جميعاً متناسية ذاتها ومصالحها، لكي تتمكن العائلات من الاقتراب من مثل العائلة الذي أراده الله منذ “البدء”، والذي جدّده السيد المسيح بنعمته الفادية.
ويجب أن يتمّ عمل الكنيسة الرعوي تدريجيا بحيث يرافق العائلة ويتابعها خطوة خطوة في مختلف مراحل تنشئتها وتقدّمها.
الإعداد
66- تدعو الحاجة في هذه الأيام، أكثر من أي وقت آخر، إلى أعداد الشبان للزواج والحياة العائلية. ولا تزال العائلات في بعض البلدان، عملاً بالعادة القديمة، تنقل إلى الشبّان القيم الخاصة بالحياة الزوجية والعائلة، عن طريق التربية وتلقين المعرفة تدريجياً. لكن ما طرأ من تغييرات داخل جميع الجماعات، تقريباً، في أيامنا، يقضي، لا على العائلة وحدها، بل على المجتمع البشري والكنيسة، ببذل طاقة الجهد لإعداد الشبان إعداداً لائقاً ليقوموا بمسؤولياتهم المقبلة. وهناك عقبات كثيرة تعترض سبيل الحياة العائلية اليوم، وهي ناشئة في الأحوال المستجدّة، لا عن تناسي الشبان وحسب، سلّم القيم الصحيح، بل عن جهلهم كيفية مواجهة الصعوبات الجديدة وحلّها، لافتقارهم إلى قواعد ثابتة يتصرفّون بموجبها. لكن الاختبار يعلّم أن الشبان الذين توفّر لهم إعداد جيد للحياة العائلية، يتقدّمون على وجه العموم، أكثر من سواهم.
وهذا ينطبق خاصة على الزواج المسيحي الذي يؤثر على قداسة العديدين من الرجال والنساء. ولهذا بات لزاماً على الكنيسة أن تعمل على وضع برامج إعدادية للزواج تكون أوفى بالمقصود من أجل تذليل الصعوبات – على قدر المستطاع – التي تعترض سبيل الكثيرين من الأزواج، وعلى الأخص من أجل رعاية ما يعقد من زواجات، رعاية أكيدة تضمن لها النضج والنجاح.
وينبغي اعتبار الإعداد للزواج ووضعه موضع العمل عملية تتمّ تدريجياً وباستمرار. وهذا يقتضي له في الواقع ثلاث مراحل: الإعداد البعيد، والقريب، والمباشر.
يبدأ الإعداد البعيد منذ عهد الطفولة وفق النهج التعليمي العائلي الحكيم الذي يهدف إلى استدراج الأولاد إلى معرفة ذواتهم بوصفهم أناساً يتمتعون بنفسية غنية، مركبّة، وبميزة شخصية، فريدة، مع ما يصاحبها من طاقات خاصة ونواقص. وهذه هي المرحلة التي يجب تلقينهم فيها تقدير كل قيمة إنسانية حق، في ما يقوم بين الأشخاص من علاقات شخصية أو اجتماعية، بالإضافة إلى ما لذلك من أهمية بالنسبة إلى تهذيب الأخلاق وكبح جماح الأهواء، وسلامة استخدام الميول، وطريقة الحكم على الأشخاص من الجنس الآخر، والاجتماع بهم، وما شابه من الأمور. وفضلاً عن ذلك، لابدّ على الأخص للمسيحيين، من تنشئة روحية، مسيحية، متينة، بإمكانها أن تظهر أن الزواج دعوة حقيقية ورسالة، وذلك دون انتفاء القدرة على نذر الذات لله في الدعوة الكهنوتية أو الرهبانية.
وعلى هذا الأساس، تأتي، فيما بعد، مرحلة الإعداد القريب التي تستوجب بحثاً عميقاً مسهباً. وهي تفضي – ابتداء من السن المناسبة ومع تلقين المبادئ المسيحية المؤاتية، على طريقة تعليم الموعوظين – بإعداد المعنيين إعداداً نوعياً خاصاً لقبول الأسرار، بحيث يكونون كأنهم يكتشفونها مجدّداً. ومن الضرورة تلقين الشبان وكل الذين يستعدون للزواج المسيحي هذا التعليم المسيحي المجدّد، لكي يصير الاحتفال بالسرّ بما يقتضي له من استعدادات أدبية وروحية، وبالتالي لكي يعيشه الزوجان. ويجب أن يكتمل تثقيف الشبان الديني، في الوقت المناسب، ووفقاً لمختلف الحاجات العملية، بالإعداد للحياة المشتركة بين الزوجين. وهذا الإعداد يظهر الزواج على أنه علاقة شخصية بين الرجل والمرأة، وهي علاقة يجب تطويرها باستمرار. ويحمل هذا الإعداد المعنيين على تفهم القضايا الجنسية الزواجية، والأبوة المسؤولة، تفهّماً عميقاً، هذا بالإضافة إلى المبادئ الأساسية الطبيعية إلى استعمال الطرق المؤاتية لتربية البنين والعناية بتوفير العناصر الأساسية التي تسعف على تدبير العائلة على ما ينبغي من مثل: العمل المستقر، وتوفير المال الكافي، والإدارة الفطنة، ومعرفة مبادئ الاقتصاد المنزلي وما شابه.
ويجب أخيراً ألاّ يهمل الإعداد للرسالة العائلية والتعاون الأخوي مع العائلات الأخرى، والاشتراك الناشط في الجمعيات والمنظمات والحركات والمبادرات التي تعود بالخير على العائلة من الناحيتين الإنسانية والمسيحية.
ويحسن أن يتمّ الإعداد المباشر للاحتفال بسرّ الزواج في الأشهر أو الأسابيع الأخيرة التي تسبق حفلة العرس، لكي يتخذ ما يسمّى بالتحقيق الذي يفرضه الحق القانوني قبل الاحتفال بالزواج، مفهوماً جديداً، وصيغة جديدة. وهذا الإعداد الذي لا بدّ منه في كل حال، يحتاج إليه، على الأخص، المتعاهدون على الزواج الذين لا يزالون يعانون من نقص أو صعوبات حيال العقيدة المسيحية والمسلك المسيحي.
وبين المبادئ التي يجب تلقينها في ما يشبه مسيرة الإيمان هذه، المماثلة للموعوظية، يجب التعمق في بحث سرّ المسيح والكنيسة، ومعنى النعمة، وواجبات الزواج المسيحي، والإعداد للاشتراك الناشط، الواعي، في رتبة العرس الطقسية.
وعلى العائلة المسيحية والجماعة الكنسية بأجمعها أن تشعر بأنها معنيّة في مختلف المراحل الإعدادية للزواج التي وصفناها بخطوطها الكبرى فقط، ويؤمل من المجالس الأسقفية أن تعمل على إصدار “دليل في العناية الرعوية بالعائلة” بصفتها معنيّة بشأن اتخاذ المبادرات الكفيلة بمساعدة أزواج المستقبل، لكي يعوا وعياً متزايداً أهمية اختيارهم، وبمساعدة رعاة النفوس، لكي يتحققوا من حسن استعداد هؤلاء. ويجب قبل كل أن يتضمن هذا الدليل الحدّ الأدنى من مواد الدروس الإعدادية ومواقيتها وطرقها بحيث تتوازن مختلف الأجزاء فيما بينها – سواء ما تناول منها العقيدة أم فن التربية أم الناحية القانونية أم الناحية الطبيعية – وتنتظم تنظيماً يحمل من يتأهبون للزواج، فضلاً عن التعمق في المعرفة العقلية، على الاندماج في الجماعة الكنسية.
وبرغم أنه لا يجوز التقليل من أهمية واجب الإعداد القريب الخاص بالزواج ولا من ضرورته – وهذا ما قد يحدث فيما لو فسّح منه بسهولة – فإن هذا الإعداد يجب أن ينسّق ويوضع موضع العمل بحيث لا يشكّل إهماله، فيما لو حدث، مانعاً من الاحتفال بالعرس.
الاحتفال
67- إن الزواج المسيحي، بحسب القاعدة الطقسية، يتطلّب الاحتفال به احتفالاً يظهر من الناحيتين الاجتماعية والجماعية ما لعهد الزواج بين المعمدين من طبيعة هي جوهرياً كنسية، أسرارية.
فالاحتفال بالزواج – كعمل تقديس بواسطة السرّ – المرتبط بالطقس الذي هو قمة عمل الكنيسة، وينبوع قوّة التقديس لديها (166)، يجب أن يكون بحدّ ذاته صحيحاً، لائقاً، مثمراً. وهنا ينفسح المجال واسعاً للعناية الرعوية لكي يصير إتمام المقتضيات الناشئة عن طبيعة العهد الزواجي الذي رفع إلى مقام سرّ، والتقّيد في الوقت عينه، من وجه الضبط، بقوانين الكنيسة، في ما خصّ الرضى الحرّ، والموانع، والصيغة القانونية، ورتبة الاحتفال عينها. ويجب أن تكون هذه الرتبة بسيطة، لائقة، شيقة، وفقاً للقواعد التي وضعتها السلطات الكنسية المختصّة التي يعود إليها – بحسب ظروف الزمان والمكان الراهنة المحدّدة، وذلك بالإنسجام والقواعد التي وضعها الكرسي الرسولي – (167) إذا ما دعت الحال، أمر إدخال بعض العناصر الخاصة بكل حضارة على هذا الاحتفال الطقسي، وهي عناصر من شأنها أن تعبّر تعبيراً أوضح عمّا للعهد الزواجي من مفهوم إنساني وديني عميق، شرط ألاّ يكون فيها ما لا يتوافق والإيمان والآداب المسيحية.
والاحتفال الطقسي، كعلامة يجب أن يتمّ بحيث يكون، حتى في ما خصّ حقيقته الخارجية، إعلاناً لكلمة الله واعترافاً بالإيمان تبرزه جماعة المؤمنين. ويتجلّى الواجب الرعوي، في هذا المجال، بالعناية الفطنة، الناشطة، “بليتورجيا الكلمة” وبتلقين الإيمان أولئك الذين يحضرون الاحتفال، وخاصة العروسين.
والاحتفال الطقسي بالزواج، كعمل أسراري كنسي، يجب أن يجمع الجماعة المسيحية بمشاركة جميع الحضور مشاركة كاملة، فاعلة، واعية، كل حسب مقامه وواجبه: العروسين، والكاهن، والشهود، والأنسباء، والأصدقاء، وسائر المؤمنين الذين يندمجون كلّهم في الحفل الذي يظهر سرّ المسيح وكنيسته ويعبّر عنه بعيشه إياه.
أما في ما يتعلق بالاحتفال بالزواج المسيحي في أماكن تتميز بصيغ حضارية و تقاليد موروثة، فيجب التقيد بالمبادئ المشار إليها آنفاً.
الاحتفال بالزواج
وتبشير المعمّدين غير المؤمنين بالإنجيل
68- وبما أنه ينبغي، في الاحتفال بالسرّ، إعارة استعدادات العروسين الأدبية والروحية، وعلى الأخص إيمانهما، اهتماماً خاصاً، تجب هنا معالجة صعوبة غالباً ما تحدث وقد يتأتّى لرعاة النفوس مواجهتها في مجتمعنا هذا الذي يرتدي طابعاً علمانياً. وفي الواقع، إن إيمان من يطلب من الكنيسة مباركة زواجه، قد يكون على درجات متفاوتة. فمن أهم واجبات الرعاة أن يسعوا إلى اكتشاف هذا الإيمان مجدّداً وتغذيته وإنضاجه. لكن ينبغي أيضاً أن يفهم هؤلاء الرعاة الأسباب التي تحمل الكنيسة على قبول من قد لا يكون مستعداً استعداداًَ كاملاً للاحتفال.
ويتميّز سرّ الزواج عن سائر الأسرار بالخصائص التالية: إن سرّ لشيء كان جزءاً من تدبير الخلق ونظامه، إنه العهد الزواجي الذي أنشأه الخالق “منذ البدء”. وعزم الرجل والمرأة على عقد الزواج وفقاً لقصد الله هذا، أي وفقاً لقصد تقييد حياتهما بالرضى الزواجي الذي لا رجعة عنه، وبالحب غير المنفصم، وبالأمانة غير المشروطة، يتطلب، في الحقيقة، ولو بطريقة غير واعية، نيّة الطاعة التامة لإرادة الله، وهي نيّة لا يمكن أن تتوفّر دون نعمته تعالى، فهذان قد بدأا، واقعاً وحقاً، مسيرة الخلاص التي يقدر الاحتفال بالسرّ والإعداد القريب له أن يكمّلاها ويصلا بها إلى نهايتها، شرط أن تكون نيّتهما.
إن لصحيح، من جهة ثانية، أن هناك، في بعض المناطق، أسباباً اجتماعية أكثرمنها، في الواقع، دينية، تدفع الخطيبين إلى طلب الاحتفال بالزواج في الكنيسة ولا عجب، لأن الزواج حدث لا يتعلّق فقط بالذين يتزوّجون، فهو، من طبيعته، شأن اجتماعي يلزم الزوجين بالنظر إلى المجتمع. وكان الاحتفال به في كل زمن، ولا يزال يوم عيد تجتمع فيه العائلات والأصدقاء فيما بينهم. فواضح إذن أن الأسباب الاجتماعية تتضافر مع الأسباب الخاصة في طلب عقد الزواج في الكنيسة.
ويجب ألاّ ننسى أن من يعقدون زواجاً، على هذا الوجه، فقد ارتبطوا بقوّة عمادهم، ارتباطا حقيقياً بعهد المسيح الزواجي مع الكنيسة، وقبلوا، بنيّة سليمة، بقصد الله من الزواج، وهم يرضون بالتالي، ضمناً على الأقل، بما تقصد الكنيسة فعله عندما تحتفل بالزواج. ولهذا إن مجرّد وجود أسباب اجتماعية أيضاً في مثل هذا الطلب، لعلّه لا يبرّر رفض الرعاة الاحتفال بالزواج. هذا وإن الأسرار، على ما علّم المجمع الفاتيكاني الثاني، تغذّي الإيمان (168) وتقوّيه بالكلام والعناصر الطقسية: نعني الإيمان الذي بات العازمون على الزواج يسعون إليه بقوّة نيّتهم الطيّبة التي ترعاها، ولاشك، نعمة المسيح وتثبتها.
وفضلاً عن ذلك، إذا وضعت قواعد أخرى بشأن قبول الاحتفال الكنسي بالزواج، بحثاً عن درجة إيمان من يرغبون في الزواج، فقد ينشأ عن ذلك أخطار كبيرة: أولاً خطر إصدار أحكام لا أساس لها، تفرّق بين الناس، ثم خطر إثارة الشكوك حول صحة الزواجات التي تمّ الاحتفال بها، مع ما ينجم عن ذلك من أضرار للجماعة المسيحية، ومن تعب ضمير جديد للأزواج لا يمكن إثباته، وخطر مناقشة ما لزواجات كثيرة عقدها إخوة منفصلون عن الاشتراك التام مع الكنيسة الكاثوليكية، من طابع أسراري، أو وضع هذا الطابع موضع الشك، وهذا ما لا يتوافق والتقليد الكنسي.
لكن، على العكس من ذلك، وبعد أن تبوء جميع المساعي بالفشل، عندما يجاهر، علنا وصراحة، الراغبون في عقد الزواج، بأنهم يرفضون ما تقصده الكنيسة من الاحتفال بزواج المعمّدين، لا يجوز إذ ذاك لراعي النفوس أن يقبل بمباركة زواجهم. وعليه، برغم ما في ذلك من صعوبة ولو على كره منه، أن يأخذ علماً بهذا الأمر، ويقنع المعنيين به بأن الكنيسة، في هذه الحالة، ليست هي التي تمنع الاحتفال الذي يطلبونه، بل هم عينهم.
وتظهر هنا أيضاً، وبطريقة ملحّة، الحاجة إلى العمل على التبشير بالإنجيل وتأمين التعليم المسيحي، قبل الزواج وبعده، وهي حاجة يجب أن تسدّها الجماعة المسيحية بأجمعها، بغية أن يحتفل كل رجل وامرأة يعقدان زواجاً، بسرّ الزواج، لا بطريقة صحيحة وحسب، بل أيضاً بطريقة مثمرة.
العناية الرعوية بعد الزواج
69- العناية الرعوية بالعائلة المؤسسة شرعاً تعني، في الواقع، قيام جميع من يؤلفون الجماعة الكنسية المحلية بتقديم المساعدة للأزواج، لكي يتفهموا دعوتهم ورسالتهم الجديدتين ويعيشوهما. ولكي تصبح العائلة، يوماً بعد يوم، جماعة محبة حقاً تجب مساعدة جميع أعضائها وإفهامها واجباتهم بالنسبة إلى ما يعترض سبيلهم من صعوبات جديدة، وما يلتزمون به من خدمة متبادلة، وواجب مشاركة فعالة في الحياة العائلية. وهذا يتعلق خاصة بالعائلات الجديدة التي وهي تعيش في جوّ جديد من القيم والمسؤوليات الجديدة، قد تتعرض في أولى سنوات الزواج على الأخص، للصعوبات كتلك التي تنشأ عن التكيف مع الحياة المشتركة وولادة البنين. وعلى الأزواج الجدد أن يتقبلوا بطيبة خاطر، المساعدة الفطنة، الإنسانية، السخية التي يقدمها لهم غيرهم من الأزواج الذين اختبروا منذ زمن بعيد، الحياة الزوجية والعائلية، وأن يعرفوا كيف يستفيدون من هذه المساعدة. وهكذا يقوم ضمن الجماعة الكنسية – العائلة الكبرى المؤلفة من العائلات المسيحية – تبادل حضور ومساعدة بين جميع العائلات، فيما تضع كل منها في خدمة العائلات الأخرى خبرتها الإنسانية وما وهبت أيضاً من إيمان و نعمة. وهذه المساندة بين العائلات، إذا ما أنعشتها روح رسولية صحيحة، كانت إحدى أبسط الطرق وأسلمها وأقربها منالاً على الجميع، لنشر هذه القيم المسيحية السامية التي هي البداية والنهاية لكلّ خدمة رعوية. وعلى هذا الأساس، لا تتلقى العائلات الجديدة المساعدة وحسب، لكنها تصبح بدورها، بعد أن تتلقى المساعدة ينبوع غنى لغيرها من العائلات التي تأسست منذ زمن، بما تقدمه من شهادة حياة وتتقنه من أعمال.
وعلاوة على ذلك، على الكنيسة أن تبذل جهد الطاقة، في ما تقدم للعائلات الجديدة من خدمة رعوية، لكي تربي هذه العائلات خاصة على العيش في حب زواجي معروف بوعي للمسؤولية التي تفرضها المشاركة وخدمة الحياة. وعليها أن تعلمها أيضاً كيف توفق بين عادة الحياة المنزلية الحميمة والعمل المشترك في سبيل بناء الكنيسة والمجتمع البشري. وعندما يصبح الزوجان، بعد ولادة البنين، عائلة بحصر المعنى، تكون الكنيسة إذ ذاك إلى جانب الوالدين حرصاً منها على أن يتقبلوا أبناءهم ويحبّوهم كعطية تلقّوها من رب الحياة، وأن يتحملوا بفرح ما يلقون من مشقة في مساعدتهم على التقدم على الصعيدين الإنساني والمسيحي.
ثانياً- بنى العناية الرعوية بالعائلة
يظهر العمل الرسولي دائماً، بطريقة حية ناشطة، طبيعة الكنيسة الحقّ التي تلتزم رسالتها الخلاصية وتجد العناية الرعوية بالعائلة – وهي إحدى أخص أنواع الخدمة الرعوية وأهمها – مبدأها الفاعل وعاملها الأهم في الكنيسة عينها بما فيها من بنى، وبمن يعمل فيها.
الجماعة الكنسية وعلى الأخص الرعية
70- يجب النظر هنا إلى الكنيسة، الجماعة المخلَّصة والمخلِّصة، في وقت معاً، من وجهيها العام الخاص: وهذا الوجه الأخير يعرب عن ذاته ويأتي بمفعوله ضمن نطاق الأبرشية المقسمة، رعوياً، إلى جماعات صغيرة، تبرز من بينها الرعية لما لها من وزن كبير.
ولا ينال الاشتراك مع الكنيسة الجامعة من استقرار مختلف الكنائس المحلية ومن ميزتها الخاصة، بل على العكس من ذلك، أنه يضمن لها هذين الاستقرار والميزة ويطوّرها. وتبقى هذه الكنائس خير من يعمل على وضع العناية الرعوية بالعائلة، موضع العمل، وأقرب من يعمل أنجع عمل في هذا السبيل. وهكذا يجب أن تزداد كل كنيسة محلية، وبطريقة خاصة، كل جماعة رعوية، شعوراً بالنعمة والمسؤولية اللتين تلقتهما من الرب لكي تضطلع بالعناية الرعوية. ويحسن بأية خطة موضوعة، بطريقة مؤاتية للعناية الرعوية، ألاّ تهمل النظر، على جميع المستويات، في العناية الرعوية بالعائلة.
وفي ضوء هذه المسؤولية، تدرك أيضاً أهمية تثقيف من يلتزمون بطريقة أخص، هذا النوع من الرسالة تثقيفاً مناسباً، ويجب توجيه الكهنة والرهبان والراهبات، وتثقيفهم تدريجياًن بالطريقة المناسبة، منذ سني دراستهم، ليضطلعوا كلّ بوظيفته. ويطيب لنا أن ننوّه، من بين مختلف المبادرات، بإنشاء المعهد العالي الجديد، لدى الجامعة اللاتران الحبرية، في روما، المخصص لدرس قضايا العائلة. وهناك أيضاً معاهد مماثلة قد أنشئت في بعض الأبرشيات. فعلى الأساقفة أ، يعنوا بأن يتابع أكبر عدد من الكهنة هذه الدروس الخصوصية، قبل تقلّدهم وظائفهم في الرعية. وفي غير أمكنة، تلقى دروس تثقيفية، دورية، في معاهد الدروس اللاهوتية والرعوية العليا، فيجب تشجيع هذه المبادرات ومساندتها وتكثيرها وفتحها، طبعا، حتى للعلمانيين الذين يساهمون في العمل على ما فيه فائدة العائلة في حقل اختصاصهم (الطبي، والقانوني، والنفساني، والاجتماعي، والتربوي).
العائلة
71- ولكن رسالة الأزواج والعائلات المسيحية الخاصة، في هذا المجال، تحتل المكان الأول، بقوة النعمة المقتبلة في السر. ومن الضرورة القيام بهذه الرسالة من أجل بنيان الكنيسة وملكوت الله في التاريخ. وهذا مطلوب كفعل طاعة عفوية للمسيح الرب، فالمسيح هو الذي يولي بقوة زواج المعمدين الذي رفع إلى مقام سرّ، الأزواج المسيحيين مهمة رسل. وهو من يرسلهم بموجبها كعملة في كرمه وعلى الأخص، إلى حقل العائلة.
والأزواج المسيحيون، إذ يقومون بهذا النشاط يعملون بالاشتراك مع سائر أعضاء الكنيسة الذين يعاونونهم ويتفانون في سبيل خير العائلة مستثمرين، في الوقت عينه، هباتهم وخدماتهم. وهم يمارسون هذه الرسالة، قبل كل، داخل عائلتهم الخاصة، بتأديتهم شهادة حياة يحيونها وفقاً لشريعة الله من جميع وجوهها، وبتثقيفهم أبناءهم ثقافة مسيحية، ومساعدتهم على البلوغ بإيمانهم مرحلة النضج وتربيتهم على الطهارة، وإعدادهم للحياة والسهر عليهم لتجنيبهم الأخطار العقائدية والأدبية التي غالباً ما يتعرّضون لها، وإدخالهم تدريجيا، وبطريقة يعون معها مسؤوليتهم، في الجماعة الكنسية والمدنية ومساعدتهم وإرشادهم في إختيارهم دعوتهم، وبتبادل أعضاء العائلة المساعدة من أجل نموهم المشترك الإنساني والمسيحي، وما سوى ذلك من شؤون. ويتسع نطاق رسالة العائلة بما تصطنعه من خير روحي وجسدي إلى عائلات أخرى، ولاسيما تلك التي هي أشد حاجة إلى العون والمساعدة وإلى الفقراء، والمرضى، والشيوخ والمعاقين، والأيتام، والأرامل، والأزواج المهملين، والأمهات غير المتزوجات واللواتي تساورهن في الحالات الصعبة، تجربة افتعال الإجهاض وما شابه.
اتحادات العائلات في خدمة العائلات
72- وعلاوة على ما تقدم، لابدّ من التنويه، في الكنيسة التي هي المسؤولة عن العناية الرعوية بالعائلة، بمختلف تجمعات المؤمنين التي يتجلى فيها سرّ كنيسة المسيح والتي تحيا، نوعاً ما، منه. فلا بدّ إذن من الإقرار بمختلف الجماعات الكنسية والفئات والحركات المتعددة، المهتمّة، على اختلاف الأسماء والدرجات، بالعناية الرسولية بالعائلة ومن الاستفادة من أعمالها، مع مراعاة ما لكلّ منها من خصائص، وغايات، وفعالية وطرائق عمل.
ولهذا السبب اعترف المجمع، صراحة بما تقوم به من نشاط مثمر مثل هذه الرابطات المعنية بالشؤون الروحية، والتربوية، والرسولية. ومن واجبها أن تبعث لدى المؤمنين شعوراً صادقاً بما يشدّهم إلى سواهم من الناس من روابط متينة وتشجّع على نمط حياة يستلهم الإنجيل وإيمان الكنيسة، وتهذّب الضمائر وفقاً للفضائل المسيحية، وليس وفقاً لأحكام الرأي العام ومقاييسه، وتحض على تبادل أعمال الرحمة واصطناعها إلى الآخرين، بروح منفتحة تجعل من العائلات المسيحية ينبوع نور حقاً وخميرة صالحة لباقي العائلات.
ومن المرغوب فيه أيضاً أن تعمل العائلات المسيحية، وعياً منها للفائدة المشتركة، بنشاط، على جميع المستويات، في جمعيات أخرى غير كنسية. وهناك من بينها جمعيات هدفها المحافظة على ما للشعوب التي يهمها أمرها من قيم أخلاقية وحضارية، ونقل هذه القيم ورعايتها، وتقدم الشخص البشري، وحماية الأم والطفل من الناحية الطبيّة والقانونية والاجتماعية، وترقي المرأة العادل، ومكافحة كل ما يمسّ بكرامتها، وتوطيد الروابط المتبادلة، والاطلاّع على القضايا المرتبطة بتنظيم الولادات تنظيماً واعياً مسؤولاً، وفقاً للأساليب الطبيعية التي تتفق والكرامة الإنسانية وعقيدة الكنيسة. وهناك جمعيات سواها تسعى إلى بناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية، وإلى تطوير شرائع عادلة ترعى النظام الاجتماعي السليم، مع ما يجب من احترام تام لما لكل إنسان وعائلة من كرامة وحريّة مشروعة، سواء أكان على الصعيد الوطني أم الدولي، والتعاون مع المدرسة وباقي المعاهد التي تكمل تربية الأولاد، وإلى ما سوى ذلك من هذا النوع عينه.
ثالثاً- المسؤولون عن العناية الرعوية بالعائلة
ما عدا العائلة – أي موضوع العناية الرعوية العائلية على الأخص، ومنطلقها – يجب التنويه بأبرز من يعملون في هذا الحقل الخاص.
الأساقفة والكهنة
73- أبرز من يهتم بالشأن الرعوي العائلي في الأبرشية، إنما هو الأسقف. فمن واجبه، بصفته أباً وراعياً، أن يولي اهتماماً خاصاً هذا القطاع من خدمته الرعوية الذي يفوق قدراً دونما شك، سائر ما سواه. وعليه أن يقف على ذلك العناية والرعاية، والوقت، والأشخاص، والأموال، وأن يخصّ، قبل كل، بمساعدته العائلات وجميع الذين يعانونه، في مختلف قطاعات الأبرشية ودوائرها، في العناية الرعوية بالعائلة. وليُعنَ عناية خاصة بأن يجعل من أبرشيته، يوماً بعد يوم، “عائلة” حقيقية ومثلاً وينبوع رجاء للعديد من العائلات المنتمية إليها. وإنشاء المجلس الحبري للعائلة يرمي إلى هذه الغاية، وهي أن يكون دليلاً على الأهميّة التي نعلّقها على العناية الرعوية بالعائلة في العالم، وأن يكون، في الوقت عينه، أداة فعالة لتطوير هذه العناية على جميع المستويات.
ويستعين الأساقفة خصوصاً بالكهنة الذين يشكّل القسم الأهم من وظيفتهم – على ما أوضح المجمع – خدمة الكنيسة لما فيه فائدة الزواج والعائلة. ويصح القول عينه في أولئك الشمامسة الذين قد تسند إليهم العناية بهذا القطاع الرعوي.
وتشمل مسؤوليتهم لا القضايا الأدبية والطقسية وحسب، بل أيضاً القضايا الشخصية والاجتماعية. فعليهم أن يساندوا العائلة في تواجهه من صعوبات وضيقات متضامين مع أعضائها، ويساعدوهم لكي يروا حياتهم على ضوء الإنجيل.وليس من النافل أن نلاحظ أن خادم الكنيسة يتّخذ من هذه الرسالة، إذا مارسها بما ينبغي من الفطنة والروح الرسولية، دفعاً جديداً، وقوى روحية حتى لممارسة دعوته وأيضاً خدمته.
وعلى الكهنة والشمامسة، بعد أن يكونوا قد استعدوا، في الوقت المناسب، استعداداً جدياً، لهذه الرسالة، أن يتصرفوا باستمرار تجاه العائلات تصرّف آباء وإخوة ورعاة ومعلّمين، فيمدّوها بعون النعمة وينيروها بنور الحقيقة. ويجب بالتالي أن يكون التعليم الذي يوفّرونه والنصائح التي يسدونها متوافقة وتعليم الكنيسة الأصيل بحيث يمدّون شعب الله بالمساعدة ليدرك معنى الإيمان الصحيح ويطبقه لاحقاً على الحياة عينها. ومن شأن هذه الأمانة لتعليم الكنيسة أن تحمل الكهنة على بذل الجهد للتوفيق بين آرائهم ليتمكّنوا من تجنيب المؤمنين قلق الضمير.
ويشارك الرعاة والعلمانيون في رسالة المسيح النبوية: العلمانيون بتأدية شهادة الإيمان بالأقوال والحياة المسيحية، والرعاة بتمييزهم في هذه الشهادة بين ما هو ناشئ عن الإيمان الصحيح، وما لا يتوافق ونور الإيمان، والعائلة، كجماعة مسيحية، بمشاركتها الخاصة في الإيمان والشهادة. وهكذا يبدأ الحوار بين الرعاة والعائلات وباستطاعة اللاهوتيين والخبراء في الشؤون العائلية أن يساعدوا كثيراً في هذا الحوار بشرحهم الدقيق لما لتعليم الكنيسة واختبار الحياة العائلية من مفاهيم. وهكذا يفهم تعليم الكنيسة فهماً صحيحاً وينفتح الطريق أمامه ليتنامى تدريجياً. ويجدر مع ذلك التنبيه إلى أن القاعدة الأقرب، الملزمة في ما خص عقيدة الإيمان، – وحتى في قضايا العائلة – تعود إلى ما تعلّمه السلطة الكنسية. وأن ما يقوم بين اللاهوتيين والخبراء في القضايا العائلية وسلطة التعليم في الكنيسة من علاقات واضحة، يساعد كثيراً على فهم الإيمان فهماً صحيحاً، وعلى تطوير ما يسمى بالتعددية ضمن حدود الإيمان.
الرهبان والراهبات
74- إن المساهمة التي يستطيع الرهبان، والراهبات، والمؤمنون المكرسون لله، على وجه العموم، القيام بها، في ما يتعلق برسالة العائلة تتجلّى، على الأخصّ وبطريقة إنسانية فريدة، في تكريسهم لله، هذا التكريس الذي يجعلهم كأنهم يوحون إلى جميع المؤمنين بالمسيح بذلك… “القران العجيب الذي عقده الله، والذي سيظهر في الدهر الآتي، وقد اتخذت الكنيسة به المسيح عروساً لها أوحد” (169).
ويجعلهم هذا التكريس أيضاً شهوداً للمحبة التي تشمل جميع الناس وتجعلهم بفضل ما يرتضون من طهارة من أجل ملكوت السماوات أكثر استعداداً لنذر ذواتهم بسخاء للخدمة الإلهية وأعمال الرسالة.
وهذا دليل على ما يستطيع الرهبان والراهبات، وأعضاء المؤسسات العلمانية وسائر مؤسسات الكمال أن يؤدوا من خدمة، منفردين أو مجتمعين، تعود بالخير على العائلات، منصرفين إلى العناية الدائبة بالأطفال، ولاسيما المهملين، وغير المرغوب فيهم، والأيتام، والفقراء، والمعاقين. وباستطاعتهم أن يزوروا العائلات ويعنوا بالمرضى، ويقيموا علاقات احترام ومحبة مع العائلات التي فجعت بأحد الوالدين، وتواجه صعوبات أو أصابها التفكك. وباستطاعتهم أيضاً أن يوفروا بنشاطهم الخاص للشبان من التثقيف والنصائح ما يعدهم للزواج، وأن يساعدوا الأزواج في ما خصّ قضايا الأبوة المسؤولة حقاً، ويفتحوا أديرتهم للضيافة البسيطة السمحاء، التي تتيح للعائلة المجال لتختبر فيها معنى الله، وتتذوّق طعم الصلاة الروحي والاختلاء بالله، وترى خير مثل عن الحياة التي يعيشها الإنسان في المحبة والفرح الأخوي، على ما يليق بأعضاء، عائلة الله الكبرى.
وبودنا أن نشفع ما قلناه بخضّنا، بإلحاح، المسؤولين عن مؤسسات الحياة المكرسة لله، على اعتبار الرسالة التي يقومون بها في جانب العائلة – مع محافظتهم دائماً على جوهر ما لكل مؤسسة من مؤسساتهم من ميزة خاصة وهبة فريدة – إحدى الخدمات، وأشدّها إلحاحاً، في الأحوال الحاضرة.
العلمانيون الأخصائيون
75- يستطيع العلمانيون الأخصائيون (الأطباء، رجال القانون، علماء النفس، المساعدون الاجتماعيون، المستشارون وأمثالهم) أن يقدّموا أجل خدمة للعائلات، سواء أكان إفرادياً أم بوصفهم منضوين إلى اتحادات أو مبادرات، وذلك بمساهمتهم في تنويرها، وإسداء النصح لها، وتوجيهها، ومساندتها. وتنطبق عليهم هذه العبارات التي أتيحت لنا الفرصة لكي نوجهها إلى اتحاد مستشاري العائلات الذين يعملون بوحي الروح المسيحية: “تستحق وظيفتكم أن تسمى رسالة، لسموّ الأهداف التي تتوخّاها ولأهمية النتائج الناجمة عنها لخير المجتمع والجماعة المسيحية عينها… وأن كل ما تستطيعون عمله لدعم العائلة، يكون له، على وجه التأكيد، أثره الفعّال الذي يتجاوز نطاقه الخاص، ليشمل أناساً آخرين ويؤثر في المجتمعات. إن مستقبل العالم والكنيسة يمرّ بالعائلة” (170).
المنتفعون بوسائل الإعلام والعاملون فيها
76- لابدّ من أن نقول كلمة في من ينتفعون بالإعلام الاجتماعي ويعملون فيه، لما له من أهمية في حياة عالم اليوم. فمعلوم أن وسائل الإعلام الاجتماعي “تؤثر، في غالب الأحيان، تأثيراً عميقاً بنفوس من ينتفعوب بها، سواء أكان من الناحية العاطفية الفكرية، أم من الناحية الأخلاقية والدينية، “وعلى الأخص لدى المراهقين (171). ولهذا يمكن أن يكون لها تأثيرها المفيد على حياة العائلة وعاداتها وحتى على تربية الأولاد، كما يمكن أن تخفي إشراكاً ومخاطر لا يستهان بها” (172). ويمكنها أن تصبح – بطريقة خبيثة، فنيّة مدبرّة، على ما يحدث، ويا للأسف في مختلف بلدان العالم – أدوات لنقل عقائد هدّامة تحلّ الخلاف بين الناس، وأفكار وآراء مشوهة عن الحياة والعائلة وعن الدين والأخلاق لكونها لا تحترم ما للإنسان من كرامة حق ومصير.
وهذا خطر محدق، في الواقع، لأن “نمط حياة اليوم، على الأخص لدى الأمم المصنّعة، يحمل، في أغلب الأحيان، العائلات على أن تتخلى عن مسؤوليتها التربوية، وتكتشف في فرص الهروب السهلة (التي يتيحها لها خاصة في البيت جهاز التلفزة وبعض النشرات المبتذلة) سبيلاً تشغل فيه وقت أطفالها وأولادها ونشاطهم” (173). ومن هنا ينشأ “واجب … حماية الأطفال والأولاد، على الأخص، من “الغزوات” التي يتعرّضون لها من جراء وسائل الإعلام هذه”، وواجب السهر على تنظيم استعمال هذه الوسائل تنظيماً دقيقاً جداً. وهكذا على العائلة أن تعمل على توفير تسليات أخرى لأبنائها تكون أسلم وأنفع وأفيد تربوياً للجسد والخلق والروح، “لكي يصرف وقت الفراغ لدى أولادهم بطريقة أفضل ويحظى بتقدير أوفر، ولكي توجّه قواهم خير توجيه” (174).
وبما أن وسائل الإعلام الاجتماعي – وبالتالي المدرسة والبيئة الحياتية – تؤثر غالباً تأثيراً كبيراً في تربية الأولاد أيضاً، فمن واجب الوالدين، ما داموا ينتفعون بهذه الوسائل، أن يضطلعوا بدور ناشط في استعمالها استعمالاً معتدلاً، ناقداً، يقظاً، فطناً، وذلك باكتشاف ما لها من أثر على أبنائهم وبتوجه استعمالها توجيهاً من شأنه “تهذيب ضمير أبنائهم لكي يبدوا فيها رأياً صافياً يتّفق والواقع، ويرشدهم إلى ما يجب أن يختاروه أو ينبذوه من المشاهد المعروضة” (175).
وعلى الوالدين أن يعملوا، بدافع من هذا الواجب عينه، على اختيار ما يجب اختياره، وإعداد ما يجب إعداده، من المشاهد، بإقامتهم علاقات – عن طريق ما يناسب من المبادرات – مع المعنيين بمختلف مراحل الإنتاج والإذاعة والنقل ليتأكد لهم أن ليس هناك تجاهل طائش ولا رفض مقصود للقيم الإنسانية الأساسية التي تتضمن ما فيه الخير الأكيد المشترك للمجتمع، بل، على العكس، أن هناك بث مشاهد كفيلة بعرض قضايا العائلة وما لها من حلول صحيحة، عرضاً وافياً لائقاً. وقد كتب سلفنا السعيد الذكر البابا بولس السادس بهذا الشأن، فقال: “على المنتجين أن يتعرفّوا إلى مطالب العائلات ويحترموها، وهذا يفترض لديهم، أحياناً شجاعة كبرى، ودائماً شعوراً حاراً بما عليهم من واجبات. فعليهم بالتالي أن يجتنبوا كل ما يؤذي العائلة في حياتها، واستقرارها، واتزانها، وسعادتها، لأن كل انتهاك لما للعائلة من قيم أساسية – سواء تناول الإباحية أو العنف، أم الدفاع عن الطلاق أو ما يتّخذه الشبان من عادات تضادّ المجتمع – إنما هو في الحقيقة مسّ بخير الإنسان الصحيح (176).
وإنّا في مناسبة مماثلة قد ألقينا هذه الكلمة: “من الضرورة أن تتمكّن العائلات من أن تثق كل الثقة بحسن نية محترفي وسائل الإعلام ونزاهتهم وأمانتهم الواعية لواجبهم، أعني: الناشرين، والمؤلفين، والمخرجين، والمديرين، والمسرحيين والمذيعين والمعلقين، والممثّلين” (177). ولهذا أن من واجب الكنيسة أن توالي ما تحيط به من بالغ العناية هذه الفئات من الفنانين، وتستحث في الوقت عينه الكاثوليك الذين يشعرون بأنهم مدعوون إلى العمل في هذا القطاع الدقيق الحسّاس ويتوفّر لهم ما يقتضي له من مواهب، وتساعدهم لكي ينصرفوا إلى العمل الجدّي فيه.
رابعاً- العناية الرعوية بالعائلة في الحالات الصعبة
الظروف الخاصة
77- لا بدّ من توجيه عناية تتميّز بالمزيد من السخاء والحكمة والفطنة، على مثال الراعي الصالح، إلى العائلات التي تضطّر إلى مواجهة ظروف صعبة بحدّ ذاتها، وذلك على كره منها في غالب الأحيان، أو بسبب ما تتعرّض له من ضغوط أخرى من كل نوع. وفي هذا المجال يجب، على الأخص، إعارة الانتباه بعض فئات خاصة تحتاج، لا إلى مساعدات وحسب، بل إلى عمل يكون له أثر أفعل في الرأي العام، وخاصة، في البنى الثقافية، والاقتصادية، والقانونية لإزالة الأسباب البعيدة، في أقرب وقت، لما تعاني منه.
ومن هذه الفئات مثلاً: عائلات المهاجرين بحثاً عن عمل، وعائلات من يضطّرون إلى التغيب مدّة طويلة، كالجنود، والبحّارة، والمسافرين من كل نوع، وعائلات الأسرى والمساجين، واللاجئين، والمنفيين، والعائلات التي تعيش معزولة في الواقع، في المدن الكبرى، والعائلات المفتقرة إلى مسكن، أو إلى أعضائها أو إلى أحد الوالدين، والعائلات التي لها أولاد معاقون أو مدمنو مخدّرات، وعائلات السكيرين، والعائلات المقتلعة من محيطها الثقافي والاجتماعي والمهددة بفقدانه، والعائلات التي تعاني من التفرقة لأسباب سياسية أو سواها، والعائلات المنقسمة عقائدياً والعائلات التي لا يسهل عليها إقامة علاقة مع الرعية، والعائلات المستهدفة للعنف وللمعاملة الظالمة بسبب إيمانها، والعائلات المؤلّفة من أزواج لا يزالون قاصرين، والعجزة الذين غالباً ما يضطّرون إلى الإقامة وحدهم، دون أن تتوفر لهم أسباب العيش اللائق.
وعائلات المهاجرين، وخاصة، عندما يتعلّق الأمر بالعمّال والمزارعين، فمن الواجب أن يتمكنوا من أن يجدوا، حيثما كانوا، في الكنيسة وطناً لهم. وهذه وظيفة نابعة من جوهر الكنيسة، التي هي علامة الوحدة في التنوع. ويجب أن يوكل أمر الاهتمام بشأنهم، على قدر المستطاع، إلى كهنة من طقسهم، وحضارتهم، ولغتهم. وفضلاً عن ذلك، أن من واجب الكنيسة أيضاً أن تهزّ الضمير العام وأولياء الأمر والسلطان في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، لكي يجد العمال في مناطقهم ووطنهم أسباب العمل، ويتأمن لهم الأجر العادل، فيلتئم مجدداً شمل العائلات في أسرع وقت ممكن، وتؤخذ هويتها الحضارية بعين الاعتبار، وتعامل معاملة سواها من العائلات، وتتاح الفرصة أخيراً لأبنائها ليتعلموا مهنة ويمارسوها، وليتملكوا أيضاً قطعة أرض لا بدّ منها لعملهم ومعاشهم وحياتهم.
وإنها لصعبة مشكلة العائلات المنقسمة عقائدياً، وهي تتطلب، في بعض الحالات، عناية رعوية خاصة. فقبل كل يجب الإبقاء، بما ينبغي من الفطنة، على العلاقة الشخصية بمثل هذه العائلات. ويجب تثبيت المؤمنين من أفرادها في الإيمان وترسيخ أقدامهم في الحياة المسيحية. وبالرغم من أنه لا يجوز للفريق المخلص لمذهبة الكاثوليكي أن يتراخى، فيجدر به أني يبقى دائماً في حوار مع الفريق الآخر. ولا بد له من أن يدأب في إحاطته بمجالي المحبة والاحترام، ما دام هناك أمل وطيد بإمكانية الإبقاء على الوحدة. وهذا يتوقف، إلى حدّ بعيد، على العلاقات التي تشدّ الآباء إلى أبنائهم. وبعد فباستطاعة العقائد الغريبة عن الإيمان أن تحفز أعضاء العائلة المؤمنين على تنمية إيمانهم والشهادة للمحبة.
وهناك أوقات أخرى صعبة تحتاج فيها العائلة إلى مساعدة الجماعة الكنسية ورعايتها من مثل هذه: سن المراهقة القلقة، الرافضة، وأحياناً الصاخبة لدى الأولاد، زواج الذين يبعدهم زواجهم عن عائلتهم الأصلية، قلّة العطف والمحبة الصادرة عن أقرب الناس وأحبهم، هجر الزوجين أحدهما الآخر، أو وفاته التي يصاحبها اختيار الترمل القاسي، أو فقد أحد الأقارب الأدنين الذي يفسد ما يشبه نواة العائلة أكثر، ويحدث فيها تغييراً عميقاً.
ولا يمكن الكنيسة، كذلك، أن تهمل طور الشيخوخة مع كل ما يرافقه من سوء أحوال وحسن أحوال من مثل: تعميق الحب الزوجي الذي يزداد دائماً صفاء ونبلاً بفضل أمانة طويلة غير منقطعة، والعزم على تكريس ما أكسبت السنون من طيبة وحكمة وما أبقت الأيام من قوى، لخدمة الغير، ولو اتخذت هذه الخدمة شكلاً جديداً، والعزلة الشديدة الوطأة، من الناحية النفسية والعاطفية، أكثر في غالب الأحيان، منها من الناحية الجسدية، الناشئة ربما عن أعراض الأبناء والأنسباء، أو إهمال العناية، والأوجاع والأمراض الناجمة عن تضاؤل القوى تدريجياً، أو عن الإذلال الحاصل عن الاضطرار إلى الاعتماد على الآخرين، أو عن الشعور بالمرارة لرؤية الإنسان نفسه عالة، ربما، على أحبائه، وعن اقتراب الأيام الأخيرة من العمر. هذه هي الظروف التي – على ما أشار إليه آباء المجمع – يمكن أن يتوضح فيها بالمزيد من السهولة، ما للزواج وللعائلة من مفاهيم روحية يجب الإعراب عنها عملياً بطريقة الحياة، وهي مفاهيم نابعة من فعالية الصليب والقيامة أي من ينبوع القداسة والفرحة الكبرى في الحياة اليومية، في ضوء ما للحياة الأبدية من حقائق كبرى أخروية.
وفي جميع هذه الشؤون، على اختلافها، لا يجوز على الإطلاق، إهمال الصلاة التي هي مصدر تعزية وقوة، وغذاء الرجاء المسيحي.
الزواجات المختلطة
78- إن تكاثر عدد الزواجات المختلطة بين الكاثوليك ومسيحيين معمّدين غير كاثوليك، وكذلك بين الكاثوليك وغير المعمّدين، يتطلب عناية رعوية خاصة، وفقاً للتوجيهات والقواعد المتضمّنة في الوثائق الصادرة مؤخراًَ عن الكرسي الرسولي والمجالس الأسقفية، ليمكن تطبيقها كما يجب في مختلف الظروف والأحوال.
يحتاج الأزواج الذين عقدوا زواجات مختلطة إلى ثلاثة أمور يمكن ردها إلى ثلاث فئات مهمّة:
يجب، قبل كل، أن يوضع نصب عيني الفريق الكاثوليكي ما عليه من واجبات ناشئة عن الإيمان، في ما خصّ ممارسة هذه الواجبات ممارسة حرّة، وما ينجم عن ذلك من واجب اهتمام، على قدر ما يستطاع من الجهد، بأمر عماد الأولاد وتربيتهم في الإيمان الكاثوليكي (178).
ولابدّ أيضاً من ذكر الصعوبات الخاصة الملازمة للعلاقة القائمة بين القرين وقرينته، في ما خصّ حرية كليهما الدينية التي قد تنتهك، أمّا من جراء ما يستهدف له القرين (أو القرينة) من ضغوط ظالمة لحمله على تغيير معتقده الديني الخاص، وأما من جرّاء وضع عراقيل تمنعه من المجاهرة بهذا المعتقد عن طريق الممارسة الدينية.
أما في ما يتعلّق بصيغة الزواج الطقسيّة والقانونية، فللأساقفة أن يستعملوا، ما طاب لهم ذلك، صلاحياتهم الخاصة، تلبية لمختلف الحاجات.
ويجب، لدى معالجة هذه الحالات، أن يؤخذ بعين الاعتبار الآتي:
– لدى إعداد مثل هذا النوع من الزيجات، يجب بذل كل جهد معقول لإفهام العقيدة الكاثوليكية بشأن خصائص الزواج ومقتضياته، ولاجتنان ما قد يحصل، مستقبلاً، من ضغوط وعوائق سبقت الإشارة إليها.
– من الأهمية بمكان أن ترسخ قدم الفريق الكاثوليكي بالإيمان، بفضل معاونة جماعته، وأن يلقى المساعدة ليتفهم هذا الإيمان تفهّماً ناضجاً، وليمارسه، ليصبح، في حضن العائلة، شاهداً جديراً بالتصديق من خلال حياته ونوعية الحبّ الذي يبديه نحو القرين والأولاد.
إن الزواجات المختلطة المعقودة بين الكاثوليك وغيرهم من المعمّدين، برغم أن لها طبيعتها الخاصة، فهي تتضمّن عدّة عناصر، في رعايتها وتطويرها فائدة سواء أكان لما لها من أهمية ذاتية، أم لما تستطيعه من مساهمة في الحركة المسكونية. وهذا يتضح، خاصة عندما يكون كلا الزوجين أمينين لواجباتهما الدينية. وبعد فالعماد المشترك، وقوة النعمة وحيويتها، توفر للزوجين، في هذه الزيجات، المبدأ والسبب لما يجب أن يعربا عنه من اتحاد في مجال القيم الأخلاقية والروحية. وادراكاً لهذه الغاية، ولتبيان ما لمثل هذا الزواج المختلط من أهمية مسكونية أيضاً، وهو زواج يعيشه كلا الزوجين المسيحيين بملء الإيمان، يجب البحث – وإن لم يكن ذلك، دائماً، في الواقع، بالأمر السهل – عن تعاون مخلص بين الخادم الكاثوليكي وغير الكاثوليكي منذ المباشرة بالإعداد للزواج وللعرس.
أما في ما يتعلّق بمشاركة الزوج غير الكاثوليكي في تناول القربان المقدس، فيجب التقيّد بالقواعد التي أصدرتها أمانة سرّ وحدة المسيحيين (179).
ويلاحظ أن عدد الزيجات المعقودة بين الكاثوليك وغير المعمّدين قد تكاثر في مختلف أنحاء العالم، ومن بينها زيجات كثيرة يدين معها الزوج غير المعمّد بدين آخر. ففي هذه الحالة، يجب أن يشعر هذا الزوج بأن دينه محاط بالاحترام عملاً بالإعلان الذي عنوانه “عصرنا” الصادر عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بشأن علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية.
وهناك أيضاً زواجات كثيرة من هذا النوع، وخاصة في المجتمعات المعروفة بطابعها العلماني، لا يعترف فيها الزوج غير المعمّد بأي دين. ففي ما يتعلّق بهذه الزيجات، لا بدّ للمجالس الأسقفية ولكل من الأساقفة من اتخاذ تدابير رعوية ملائمة، بغية النظر في أمر الدفاع عن إيمان الزوج الكاثوليكي، وضمان ممارسة إيمانه ممارسة حرّة، على الأخصّ، بغية القيام بواجبه في بذل ما بوسعه لتعميد الأولاد وتربيتهم في الدين الكاثوليكي.
وعلاوة على ذلك، تجب مساعدة الزوج الكاثوليكي، في كل حال، لكي يقوم، ضمن إطار العائلة، بتأدية شهادة صادقة عن إيمانه وعن الحياة الكاثوليكية.
العمل الرعوي في بعض الحالات الشاذّة
79- إن مجمع الأساقفة، عندما بحث ملياً في أمر حماية العائلة من جميع الوجوه، وليس فقط من الناحية الدينية، ما أغفل التدقيق، بكل انتباه، في بعض الحالات الشاذّة من الناحية الدينية، وغالباً أيضاً من الناحية المدنية. وهذه الحالات – نظراً إلى ما يطرأ من تغييرات سريعة على حضارة اليوم – تكاثرت، ويا للأسف، حتى بين الكاثوليك، وهذا ما ينزل ضرراً فادحاً في المؤسسة العائلية والمجتمع الذي تشكل العائلة أولى خلاياه.
أ) زواج التجربة
80- إن أول حالة شاذّة تنشأ عما يسمّى “بزواج التجربة” الذي يريد الكثيرون اليوم أن يدافعوا عنه بإعطائه بعض القيمة. لكن العقل البشري عينه يظهر أنه زواج لا يمكن التسليم به، عندما يشير إلى أنه لا يليق أن يصبح موضوع “تجربة” الأشخاص الذين تقضي بالأحرى كرامتهم بأن يكونوا، دائماً وحدهم، الغاية التي يهدف إليها الحب المتبادل القائم على هبة الذات، دونما حدود زمنية أو ما عدا ذلك.
والكنيسة من جهتها لا يمكنها أن تسلّم بهذا النوع من الزيجات لأسباب أخرى فريدة نابعة من الإيمان. فمن جهة أولى، إن هبة الجسد في العلاقة الجنسية هي علامة واقعية لهبة الذات بكاملها. وهبة الذات هذه، وفقاً للتدبير الخلاصي القائم، لا يمكن أن تتحقق، بملء حقيقتها، ما لم تعضدها المحبة التي يجود بها السيد المسيح. ومن جهة ثانية، إن زواج شخصين معمّدين هو رمز واقعي لوحدة المسيح والكنيسة التي ليست موقتة ولا “للتجربة” لكنها ثابتة، أمينة إلى الأبد. لذلك لا يمكن أن يقوم بين شخصين معمّدين زواج غير “دائم”، أو قابل للانضمام.
ولا يمكن التغلب على هذه الحالة، في غالب الأحيان، ما لم يتربَّ الشخص البشري، منذ نعومة أظفاره، بمعونة نعمة المسيح ودونما وجل، على كبح جماح الشهوة الناشئة، وإقامة علاقة حب أصيل مع الآخرين. وهذا لا يتوفّر دون تربية صحيحة على الحب الصادق وحسن ممارسة الجنس، وهي تربية من شأنها أن تستدرج الشخص البشري بكل أبعاده، وبالتالي بكل ما يتعلق بجسده، إلى ملء سرّ المسيح.
ومن الفائدة بمكان أن يصير البحث في أسباب هذه الظاهرة حتى من الناحية النفسية والاجتماعية لإيجاد دواء لها ناجع.
ب) المساكنة الحرّة
81- وهناك أيضاً مساكنات حرّة لا تتقيّد بأي رباط تعترف علناً به مؤسسة دينيّة أو مدنيّة. وهذا أمر أصبح من الشيوع بحيث لا يمكنه إلاّ أن يسترعي انتباه رعاة النفوس، على الأخص لما قد يخفي من أسباب مختلفة، إذا ما أنعم النظر فيها، أمكن ربما تدارك نتائجها.
فهناك، في الواقع، من يعتقدون بأن ظروفاً صعبة اقتصادية، وحضارية، ودينية تلجئهم عادة إلى هذه الحالة، على أساس أنهم فيما لو عقدوا زواجاً وفقاً للشرع، لتعرضوا للأذى، ولفقدان فوائد اقتصادية، واستهدفوا لإجراءات ظالمة بحقهم. وهناك من تراهم يتخذون مواقف تنم عن مشاعر احتقار واحتجاج ورفض حيال المجتمع، والمؤسسة العائلية، والنظام الاجتماعي السياسي، أو ينجرفون في تيّار الأهواء والشهوات والملذات. وهناك أخيراً من ينساقون إلى ذلك بسبب الجهل المطبق والفقر المدقع، وأحياناً بسبب ما جرّتهم إليه ظروف حقّاً ظالمة أو عدم النضج النفساني، من حالة ولّدت لديهم الحيرة والخوف من التقيّد برباط ثابت دائم نهائي. وهناك في بعض البلدان تقاليد متوارثة تقضي بعقد الزواج بمفهومه الصحيح الخاص، بعد انقضاء فترة على المساكنة وولادة أول ولد.
ويطرح كل من هذه الحالات على الكنيسة قضايا رعوية شائكة ينجم عنها نتائج خطيرة، سواء أكان من الناحية الدينية أو الأخلاقية (من مثل فقدان الحس الديني في ما خصّ الزواج، إذا ما نظر إليه في ضوء العهد الذي أبرمه الله مع شعبه، وحرمان نعمة السرّ: العثار الخطير) أم من الناحية الاجتماعية (مثل انتفاء مفهوم العائلة، وتضاؤل الشعور بالأمانة حتى تجاه المجتمع، والاضطراب النفساني المحتمل لدى الأولاد، وطغيان الأنانية وحب الذات).
وعلى الرعاة والجماعة الكنسيّة أن يتعرفّوا إلى كل من هذه الحالات بمفردها وأسبابها الحقيقية، ليجتمعوا، بما ينبغي من الفطنة والاحترام، بهؤلاء الذين يعيشون معاً في هذه الحالة، ليعملوا على تنويرهم بطول أناة، وإصلاحهم بمحبة، وبما يؤدّون لهم من شهادة حياة عائلية مسيحية من شأنها أن تفتح لهم الطريق الذي يقودهم إلى تشريع وضعهم. لكن خير ما يعتمد عليه من وسائل لتدارك هذه الحالة، إنما هو، قبل كلّ، تنمية مفهوم الأمانة عن طريق تربية الشبان تربية أخلاقية، دينية شاملة، وتفقيههم في الشروط والبنى التي تساعد على هذه الأمانة التي بدونها لا حرية صحيحة، وبمعاونتهم لكي ينضجوا روحياً، فيما ينكشف لهم ما في سرّ الزواج من غنى إنساني وروحي حق.
ومن واجب شعب الله أيضاً أن يبذل قصارى الجهد لدى السلطات العامة، لتقف في وجه هذه النزعات التي تعمل على تفكيك المجتمع، والنيل من كرامة كل من المواطنين، وسلامته وسعادته وتسعى إلى تجنيب الرأي العام الإنزلاق إلى الانتقاص من قدر هاتين المؤسستين: الزواج والعائلة. وبما أن الشبان في كثير من المناطق، لا يستطيعون أن يعقدوا زواجاً، على ما ينبغي، من جراء ما تتسبب به أوضاع اجتماعية واقتصادية، إما ظالمة، وإما غير كافية، من فقر مدقع، فبات لزاماً على المجتمع والسلطات العامة أن ترعى الزواج الشرعي باتخاذها التدابير الكفيلة بتأمين أجر عائلي، ومسكن لائق بالحياة العائلية، وخلق فرص وظروف للعمل والحياة.
ج) كاثوليك متزوّجون مدنياً
82- غالباً ما يتأتّى أن يفضّل كاثوليك عقد زواج مدني فقط، أو إرجاء الزواج الديني، إلى ما بعد، على الأقل، وذلك بدافع من أسباب عقائدية أو عملية. فلا يمكن إذن مساواة وضعهم بوضع من يتساكنون دون أي وثاق زواجي، ذلك لأن، لديهم على الأقل، قصداً في اتباع نمط حياة محدّد، ومستقر، على الأرجح، ولو بقي لديهم، على الغالب، مجال لطلاق محتمل. وبما أن الزوجين يطلبان من الدولة الاعتراف علناً بهذا الوثاق، فإنهما يظهران استعدادهما للقبول، في وقت معاً، بما في هذا الزواج من فوائد والزامات. لكن الكنيسة لا يمكنها أن تسلّم بهذا الوضع.
فعلى العمل الرسولي، في هذه الحالة، أن يسعى إلى إفهام الزوجين واجب التوفيق بين ما اختاراه من حياة ويعترفان به من إيمان، وأن يبذل ما في الطاقة ليعمل أمثال هؤلاء الأزواج على تصحيح وضعهم وفقاً للمبادئ المسيحية. وبرغم على ما يجب على رعاة الكنيسة أن يعاملوهم به من محبة بالغة ويحثّوهم على الاشتراك في حياة جماعتهم الخاصة، فلا يجوز، ويا للأسف، أن يسمحوا لهم باقتبال الأسرار.
د) أزواج مهجورون، ومطلّقون لم يعقدوا زواجاً جديداً
83- هناك أسباب مختلفة من مثل سوء التفاهم واستحالة إقامة علاقات شخصية صحيحة متبادلة، وما شابه، قد تؤدّي إلى تفكيك زواج صحيح تفكيكاً لا مجال إلى إصلاحه. فواضح، في هذه الحالة، أن يكون الهجر آخر دواء، بعد أن تكون قد باءت بالفشل جميع محاولات المصالحة. وغالباً ما تكون العزلة، وغيرها من الصعوبات، نصيب الزوج المهجور، وخاصة إذا كان بريئاً. فعلى الجماعة الكنسية، في هذه الحالة، أن تساند كل المساندة هذا الزوج وتحيطه بالتقدير، وتتضامن معه وتتفهمه، وتساعده عملياً، ليتمكن وسط ما يتخبّط فيه من صعوبات، من المحافظة على الأمانة. وعليها علاوة على ذلك، أن تساعد هذا الزوج على ممارسة فضيلة المسامحة التي يفرضها الحب المسيحي، وعلى الاستعداد لاستئناف محتمل للحياة الزوجية السابقة.
وشبيهة بهذه الحالة، حالة الزوج الذي أجبر على الطلاق، لكنه يدرك تمام الإدراك أن وثاق الزواج الصحيح هو دائم وغير قابل للانفصام، ويأبى عقد زواج جديد، لكنه ينصرف إلى القيام بمسؤولية في العائلة وإلى ممارسة واجبات الحياة المسيحية، فإن ما يعطيه من مثل في الأمانة والثبات المسيحي له قيمة شهادة خاصة أمام العالم والكنيسة. وهذا ما يفرض على الكنيسة واجباً نحوه وهو أن تمدّه باستمرار بالمحبة والمساعدة، وتزيل من أمامه كل عائق يمنعه من التقرب من الأسرار.
هـ) المطلّقون الذين تزوّجوا ثانية
84- يعلّم الاختبار اليومي، ويا للأسف، أن من يطلّق، غالباً ما ينوي عقد زواج جديد، دون أن يلجأ، على ما يبدو، إلى الطقس الديني الكاثوليكي. وبما أن هذه آفة، كسائر الآفات، تنتشر فتصيب حتى الأوساط الكاثوليكية عينها، لذلك يجب التصدّي لهذه المشكلة بما ينبغي من الاهتمام، ودونما إبطاء. وقد بحثها آباء المجمع بحثاً وافياً. ذلك أن الكنيسة المنشأة لتقود جميع الناس، ولاسيما المعمّدين، إلى الخلاص، لا يمكنها أن تترك، الذين سعوا إلى عقد زواج جديد، وشأنهم، بعد أن كانوا قد تقيّدوا سابقاً بوثاق زواج سرّي. فمن واجب الكنيسة أن لا تألو جهداً لتضع في متناول هؤلاء وسائل الخلاص.
وعلى الرعاة أن يعرفوا، حباً بالحقيقة، أن من واجبهم أن يميّزوا بين مختلف الحالات. إن هناك في الواقع، فرقاً بين الذين سعوا مخلصين إلى المحافظة على زواجهم الأول، بعد أن هجروا ظلماً، دونما وجه حق، وبين الذين قضوا، لذنب منهم خطير، على زواج صحيح من الناحية القانونية. وهناك أخيراً الذين عقدوا زواجاً جديداً، من أجل تربية أبنائهم، فيما هم متأكّدون، في قرارة ضميرهم، أن زواجهم السابق الذي فسخ بصورة نهائية، ما كان يوماً صحيحاً.
فإنّا مع المجمع، نحضّ، بشدّة الرعاة وكل جماعة المؤمنين، على أن يساعدوا المطلّقين، ويحوطوهم بالعناية والمحبة، لكيلا يحسبوا نفوسهم منفصلين عن الكنيسة، إذ أن باستطاعتهم، لا بل من واجبهم أن يشتركوا، كمعمّدين، في حياتها. فينبغي بالتالي حثّهم على سماع كلام الله، وحضور ذبيحة القداس والمواظبة على رفع الصلاة، والمساهمة في أعمال الرحمة ومشاريع الجماعة في سبيل العدالة، وتربية أبنائهم في الإيمان المسيحي، والتحلّي بروح التوبة وممارسة أعمالها، استمطاراً، بهذه الطريقة، كل يوم، لنعمة الله. وعلى الكنيسة أن تصلّي من أجلهم، وتثبّتهم، وتظهر ذاتها إنها أم لهم حنون، وتساندهم هكذا بالإيمان والرجاء.
بيد أن الكنيسة تؤكّد ما ألفته من عادة، مبنيّة على الكتب المقدسّة، وهي أنها لا تسمح بأن يشترك في الإفخارستيا المؤمنون الذين، بعد أن طلّقوا، عقدوا زواجاً جديداً، لأنهم هم نفوسهم، من منعوا، في الواقع، من السماح لهم بهذا الاشتراك، لما هناك من تعارض بين وضعهم وحالة حياتهم، موضوعياً، وبين اتحاد المحبة القائم بين المسيح والكنيسة، هذا الاتحاد الذي يعبّر عنه سرّ الإفخارستيا ويحققه. ويبقى هناك، فضلاً عن ذلك، سبب رعوي آخر، خاص، وهو أنه لو سمح لهؤلاء الناس بالاشتراك في الإفخارستيا، لوقع المؤمنون في الضلال ولأساؤا فهم عقيدة الكنيسة بشأن دوام الزواج وعدم انفصامه.
غير أنه يمكن منح المصالحة في سرّ التوبة – التي تفتح الطريق لسرّ الإفخارستيا – لأولئك الذين ناموا على انتهاكهم علامة العهد والأمانة للمسيح، وهم مستعدون بإخلاص لاتباع نمط حياة لن يتناقض بعد وديمومة الزواج. وهذا يقضي في الحقيقة، على الرجل والمرأة – كلما تعذّر عليهما، لأسباب خطيرة، كتربية الأولاد مثلاً، تلبية داعي الانفصال – “بالتعهّد بأن يعيشا عيش التعفف أعني الامتناع عن الأعمال الخاصة بالأزواج” (180).
إن واجب الاحترام لسرّ الزواج، وللأزواج عينهم، ولأنسبائهم، ولجماعة المؤمنين، يمنع على أي راع، لأي سبب كان أو داع ولو رعويا، إقامة احتفالات طقسية، أيّاً يكن نوعها، للمطلّقين الذين عقدوا زواجاً جديداً. ذلك أن مثل هذه الاحتفالات قد تظهر أن قد احتفل بزواج سرّي جديد صحيح، وتوقع بالتالي الناس في الضلال بشأن ديمومة الزواج الأول المعقود صحيحاً.
والكنيسة، إذ تفعل ذلك، تجاهر بأمانتها للمسيح وحقيقته. وهي في الوقت عينه، تتصرّف تصرّف أم حنون تجاه أبنائها، وخاصة تجاه الذين من بينهم، دونما ذنب منهم، قد هجرهم قرينهم الشرعي.
وفضلاً عن ذلك، إن الكنيسة تعتقد راسخ الاعتقاد أن الذين لا يزالون يعيشون في هذه الحالة، ولو كانوا قد ابتعدوا عن وصية الله، يمكنهم أن ينالوا منه تعالى نعمة الارتداد والخلاص، إذا ثابروا على الصلاة والتوبة والمحبة.
الذين لا عائلة لهم
85- بودّنا أن نضيف أخيراً كلمة عن فئة من الناس نعتقد أنهم – بسبب ما يعيشون فيه عملياً من ظروف – وغالباً دونما قصد منهم أو إرادة – قريبون كل القرب من قلب المسيح، وأهل المحبة الكنيسة ورعاتها ولعنايتهم الناشطة. فهناك كثيرون من الناس، على وجه الأرض، لا يستطيعون إطلاقاً، ويا للأسف، العودة إلى الارتباط بما نسميّه، بالمعنى الصحيح، عائلة. وهناك أعداداً كبيرة من الناس يعيشون في حالة فقر مدقع لا يترك فيها اختلاط العلاقة بين الرجال والنساء، وقلة المساكن، والعلاقات الشاذة غير المستقرة، والنقص الكبير في التربية والثقافة، مجالاً، في الواقع، للحديث عن العائلة الصحيحة. وهناك أخيراً غيرهم من ظلّوا وحدهم بين الناس، لأسباب مختلفة. فلهؤلاء، أيضاً، “يطيب الحديث عن العائلة”.
وقد تحدثنا عن الذين يعانون من الفقر الشديد، وأكّدنا وجوب العمل الدائب لإيجاد حلول، حتى على الصعيد السياسي، تساعدهم على التغلّب على هذه الحالة المخزية التي يتخبّطون فيها. وتقع هذه المهمة، بالتضامن، على المجمع بكامله، وخاصة على السلطات العامة لما عليها من الزامات وما ينجم عن ذلك من مسؤوليات، وعلى العائلات التي يجب أن تبرهن عن مشاعر إنسانية عميقة ورغبة في المساعدة.
أمّا الذين يفتقرون، أخيراً، إلى عائلة طبيعيّة، فيجب أن تنفتح أمامهم، واسعة، أبواب العائلة الكبرى التي هي الكنيسة، والتي تتجسّد في الأبرشية، وعائلة الرعية، والجماعات الكنسيّة المدعوة “أساسية”، أو في الحركات الرسولية. فما من إنسان في الدنيا دون عائلة: إن الكنيسة هي بيت الجميع، وهي على الأخص، عائلة “المتعبين والمثقلين” (181).
ختام
86- إنّا، إذ نختم هذا الإرشاد الرسولي، نتّجه إليكم، بعاطفة المحبة، أيها الأزواج، ويا آباء العائلات وأمّهاتها، إليكم أنتم، أيها الشبان من كلا الجنسين، الذين يتوقف عليكم مصير الكنيسة والعالم ويعقد عليكم أملهما، أنتم الذين ستكونون من العائلة النواة الأساسية النابضة بالحياة والنشاط، على مشارف الألف الثالث.
إليكم أنتم، أيها الإخوة الأجلاّء، الأحباء، في الأسقفية والكهنوت، وأيها الأبناء الأعزاء، الرهبان والراهبات المكرّسين لله، الذين تشهدون أمام الأزواج، لحقيقة المحبة التي موضوعها الله. إليكم أنتم أيها الناس جميعاً من ذوي النية السليمة، الذين تهتمون، أيّاً يكن الدافع، بمصير العائلة.
إن مستقبل البشرية يتوقّف على العائلة!
فمن اللازم إذن، وبصورة ملحّة، أن يلتزم كل إنسان ذي إرادة صالحة بواجب المحافظة على ما للعائلة من قيم سامية ومتطلبّات، ويعمل على تطويرها.
وإنّا لنراه واجباً علينا أن نطلب من أبناء الكنيسة أن يبذلوا جهداً خاصاً في هذا المجال. فهم، فيما يكتشفون، بالإيمان، قصد الله العجيب، يجدون بالتالي دافعاً أكبر يحملهم على إعارة العائلة، في واقعها، ما ينبغي من الاهتمام في هذه الأيام، أيّام الشدّة والنعمة. فعليهم أن يندفعوا، على الأخصّ، إلى محبة العائلة. وهذه وصية أكيدة عليهم الالتزام بها عملياً.
فمحبة العائلة معناها تقدير ما لها من قيم سامية والعمل الدائم على تطويرها. ومحبة العائلة معناها اكتشاف ما يتهدّدها من أخطار وشرور ، بغية التغلّب عليها. ومحبة العائلة هي بذل جهد الطاقة لخلق الظروف والأجواء التي تساعد على تنميتها وتقدّمها. وإنه، فضلاً عن ذلك، لنوع سام جداً من أنواع المحبة أن تعطى مجدداً عائلات اليوم المسيحية، التي غالباً ما تعصف بها رياح اليأس والقلق من جرّاء تكاثر المصاعب، من الأسباب ما يبعث فيها بالنفس، وبما حبتها الطبيعة والنعمة من وسائل، وبالرسالة التي وكلها الله إليها. “أجل، من الواجب أن تعود عائلات عصرنا إلى سابق عهدها! من الواجب أن تسير في خطى المسيح” (182).
ويقع على عاتق المسيحيين أن يحملوا بفرح ويقين “الخبر المفرح” عن العائلة التي يتوجّب عليها أن تصغي مجدّداً، ودونما انقطاع، إلى الكلام الصحيح الذي يظهر لها هويتها، وقواها الباطنية، وأهمية رسالتها في مدينة الناس، ومدينة الله، وأن تتفهّم هذا الكلام تفهّماً عميقاً.
وتعرف الكنيسة الطريق التي تنفذ منها إلى صميم حقيقتها العميقة. وهي تتعلّم هذه الحقيقة في مدرسة المسيح وفي مدرسة التاريخ، على ضوء ما يعطيه عنها الروح من شروحات، ولا تفرضها، لكنها تجدها مدفوعة، دونما كلل، إلى عرضها على الجميع، دونما خوف، لا بل إلى إظهارها برجاء وطيد مؤمنة أن في “الخبر المفرح” أيضاً لغة الصليب. لكن العائلة تستطيع عبر الصليب الوصول إلى ملئها، أي إلى جوهرها وكمال محبتها.
وبودّنا أخيراً أن نسأل جميع المسيحيين أن يتعاونوا بإخلاص وشجاعة مع جميع الناس، من ذوي الإرادة الصالحة الذين، شعوراً منهم بمسؤوليتهم، يتفانون في خدمة العائلة. فالذين يعملون لخيرها في حضن الكنيسة، وباسمها وبتوجيهها، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات، حركات أم اتحادات، غالباً ما يجدون إلى جانبهم أناساً أو مؤسسات مختلفة يهدفون إلى الغاية عينها. وبإمكان هذا التعاون أن يساعد على تطوير العائلة تطويراً أسرع وأكمل، شرط التقيّد بالأمانة للقيم الإنجيلية والإنسانية، ولما يسمّى بتعدّدية المبادرات.
وإنّا، إذ نختم الآن هذه الرسالة الرعوية التي تبتغي لفت انتباه الجميع إلى وجوب معالجة قضايا العائلة المسيحية، وهي قضايا خطيرة، ولكنها رائعة جذابة، بما ينبغي من الاهتمام، نريد أن نطلب حماية عائلة الناصرة المقدسة. ففي هذه العائلة، بقصد من الله عجيب، قد عاش ابن الله في الخفاء طوال عدة سنوات. فهي إذن مثال جميع العائلات المسيحية وأول نوع لها. وهي العائلة الوحيدة في العالم التي عاشت عيشة مغمورة صامتة في قرية صغيرة من فلسطين. وهي التي عانت من فقر واضطهاد وأسر، غير أنها مجّدت الله تمجيداً سامياً، خالصاً، لا قياس له. فلا يمكن هذه العائلة، بالتالي، إلاّ أن تساعد العائلات المسيحية، لا بل جميع عائلات العالم، لتقوم بمسؤولياتها اليومية بأمانة، وتتحمّل متاعب الحياة ومشقاتها، وتهتم بسخاء بحاجات الآخرين، وتتمّ بفرح مقاصد الله بشأنها.
وليحمِ القديس يوسف “الرجل الصدّيق”، العامل، الذي ما عرف الكلل، وحفظ بمنتهى الأمانة ما عهد به إليه، هذه العائلات، ويدافع عنها، وينيرها دائماً.
ولتكن العذراء مريم، التي هي أمّ الكنيسة أمّاً “للكنيسة المنزلية” أيضاً، لتصبح، في الواقع، بمعونتها الوالدية، كل عائلة مسيحية “كنيسة صغيرة” يسطع فيها سرّ كنيسة المسيح، وتعبّر عنه بطريقة الحياة.
ولتكن هي، خادمة الرب، مثالاً للنفس التي ترتضي، بتواضع وسخاء، ما يريده لها الرب. ولتكن هناك، وهي آلام التي تألمت على إقدام الصليب، لتخفّف من آلام جميع الذين يعانون من مشقات عائلاتهم، ولتمسح دموعهم.
وليكن المسيح الرب، ملك الكون، وملك العائلات، حاضراً مثله في قانا، في كل منزل مسيحي، ليجود عليه بالنور والفرح، بالطمأنينة والقوة.
وإنّا نسأله، في هذا اليوم الاحتفالي المكرّس لعظمته الملوكية، أن تعرف كل عائلة كيف يجب أن تساهم في العمل على إتيان ملكوته بين الناس، “ملكوت الحق والحياة، ملكوت القداسة والنعمة، ملكوت العدالة والمحبة والسلام” (183) الذي يسعى إليه كل البشر.
وإنّا نعهد إليه، وإلى مريم، وإلى يوسف بكل عائلة. ونضع بين أيديهم وفي قلبهم هذا الإرشاد: فلينقلوه إليكم، أيها الإخوة الأجلاء، والأبناء الأعزاء، ويفتحوا قلوبكم على هذا النور الذي يفيضه الإنجيل على كل عائلة.
وإنّا، إذ نؤكّد لكم صلواتنا المتواصلة، نمنحكم من صميم القلب، منفردين ومجتمعين، بركتنا الرسولية، باسم الآب، والابن، والروح القدس.
أعطي في روما قرب مار بطرس، في اليوم الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني،
يوم الاحتفال بعيد المسيح ربنا يسوع، ملك الكون، 1981، وهي الرابعة لحبريتنا
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 52
2) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، عظة في مناسبة افتتاح مجمع الأساقفة السادس، 26 أيلول 1980، عدد2: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، ص. 1008
3) راجع تك 1 – 2
4) راجع أفسس 5
5) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 47؛ البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة: لقد اقترب، 15 آب 1980، 1 : أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، 791
6) راجع متى 19، 4
7) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 47
8) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى مجلس أمانة سرّ مجمع الأساقفة العام، 23 شباط 1980: تعليم البايا يوحنا بولس الثاني، 23، 1 (1980)، ص. ص. 472 – 476
9) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني، دستور رعوي الثاني في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 4
10) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 12
11) راجع 1 يو 2، 20
12) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 35
13) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 12؛ مجمع عقيدة الإيمان المقدس، إعلان: سر الكنيسة، 2: أعمال الكرسي الرسولي 65 (1973)، ص. ص. 398 – 400
14) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 12؛ دستور عقائدي في الوحي الإلهي: كلمة الله، 10
15) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، عظة في قداس افتتاح مجمع الأساقفة السادس، 26 أيلول 1980، عدد 3: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، ص. 1008
16) راجع مار أغوسطينوس، في مدينة الله، 14، 28: مجموعة الكتابات الكنسية اللاتينية 40، 2، 25، وما يلي.
17) دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 15
18) راجع أفسس 3، 8؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 44؛ قرار في نشاط الكنيسة الرسولي: إلى الأمم، 15، 22
19) راجع متى 19، 4 وما يلي.
20) راجع تك 1، 26 ومايلي
21) ا يو 4، 8
22) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 12
23) الموضع عينه، 48
24) راجع مثلاً هوشع 2، 21؛ ارميا 3، 6 – 13؛ اشعيا 54
25) راجع حزقيال 16، 25
26) راجع هوشع 3
27) راجع تك 2، 24؛ متى 19 ، 5
28) راجع أفسس 5، 33 ومايلي.
29) ترتليانوس، إلى الزوجة، 2، 8، 6 – 7: مجموعة الكتابات المسيحية، القسم اللاتيني 1، 393؛ الينابيع المسيحية 273 ص. 49
30) راجع المجمع المسكوني التريدنتيني، جلسة 24 قانون 1 – أ. د. مانسي مجموعة المجامع المقدسة الجديدة الموسعة، 33، 149 – 150
31) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة وفي عالم اليوم: فرح وأمل، 48
32) البابا يوحنا بولس الثاني، خطب إلى مندوبي مركز ارتباط فرق البحث، 3 تشرين الثاني 1979، عد 3: تعليم يوحنا بولس الثاني 2، 2 (1979)، 1032
33) في الموضع عينه، 4: المكان المذكور، 1032
34) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 50
35) راجع تك 2، 24
36) أفسس 3، 15
37) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 87
38) يوحنا فم الذهب، البتولية، 10، 1: الآباء اليونان 48، 540؛ الينابيع المسيحية 125، ص 123
39) راجع متى 22، 30
40) 1 كور 7، 32 – 35
41) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في الحياة الرهبانية: المحبة الكاملة، 12
42) راجع البابا بيوس ا12، رسالة في البتولية المقدسة، 2: أعمال الكرسي الرسولي 46 (1954)، ص. ص. 174 وما يلي.
43) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، كتاب البادئ مجدّداً في 8 نيسان (1979) عد 9: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص ص 410 – 411
44) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 48
45) عدد 10: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص 174
46) متى 19، 6، راجع تك 2، 24
47) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب للأزواج، كنشاسا، 3 أيار 1980، عدد 4: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، ص. ص. 426 – 427
48) دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 49؛ راجع البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب للأزواج، كنشاسا، 3 أيار 1980، عدد 4: الموضع المذكور.
49) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 48
50) راجع أفسس 5، 25
51) متى 19، 8
52) رؤيا 3، 14
53) راجع 2 كور 1، 20
54) راجع يو 13، 1
55) متى 19، 6
56) روم 8، 29
57) مار توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية ثانية الثانية 14، 2 إلى 4
58) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور العالم، 11؛ راجع قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، 11
59) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 52
60) راجع أفسس 6، 1 – 4 كولسّي، 3، 20 – 21
61) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 48
62) يو 17، 21
63) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 24
64) تك 1، 27
65) غلا 3، 26 – 28
66) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة: العمل البشري، 19: أعمال الكرسي الرسولي 73 (1981)، ص 625
67) تك 2، 18
68) الموضع عينه 2، 23
69) مار امبروسيوس، اكزاميرون، 5، 19: مجموعة الكتابات الكنسية اللاتينية 32، 1، 154
70) البابا بولس السادس رسالة عامة: الحياة البشرية، 9: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص 486
71) راجع أفسس 5، 25
72) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، عظة إلى مؤمني ترني، 19 آذار 1981، أعداد 3 – 5: أعمال الكرسي الرسولي 73 (1981)، ص. ص. 268 – 271
73) راجع أفسس 3، 15
74) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 52
75) لو 18، 16؛ راجع متى 19، 14؛ مر 15، 14
76) البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، 2 تشرين الأول 1979، عد 21: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص. 1159
77) لو 2، 52
78) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 48
79) البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى المشتركين في المؤتمر المدعو “الندوة الدولية عن الشيخوخة الناشطة”، 5 أيلول 1980، عد 5: تعليم البابا يوحنا بولس الثاني 2، 3، 2 (1980)، ص 549
80) تك 1، 28
81) راجع الموضع عينه 5، 1 – 3
82) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 50
83) اقتراح 22 ختام عدد 11 من الرسالة العامة: الحياة البشرية: “يؤكد أن الكنيسة فيما تذكّر الناس بوجوب التقيّد بالشريعة الطبيعية، التي تشرحها بعقيدتها باستمرار، تعلم أنه من الضروري أن يبقى كل فعل زواجي منفتحاً بحدّ ذاته على نقل الحياة”: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص 488
84) راجع 2 كور 1، 19؛ رؤيا 3، 14
85) راجع رسالة مجمع الأساقفة السادس إلى العائلات المسيحية في عالم اليوم، 24 تشرين الأول 1980، عد 5
86) دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 51
87) رسالة عامة: الحياة البشرية، 7: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص 485
88) الموضع عينه، 12: المكان المذكور، ص ص. 488 – 489
89) الموضع عينه، 14: المكان المذكور، ص 490
90) الموضع عينه، 13: المكان المذكور، ص 489
91) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 51
92) رسالة عامة: الحياة البشرية، 29: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص 501
93) الموضع عينه: 25: المكان المذكور، ص 498 – 499
94) الموضع عينه، 21: المكان المذكور، 496
95) البابا يوحنا بولس الثاني في قداس اختتام مجمع الأساقفة السادس، 25 تشرين الأول 1980: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، ص 1083
96) راجع البابا بولس السادس، رسالة عامة في الحياة البشرية 28: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص 501
97) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى مندوبي مركز ارتباط فرق البحث، 3 تشرين الثاني 1979، عدد 9: تعليم البابا يوحنا بولس الثاني 2، 2 (1979)، 1035؛ راجع أيضاً خطاب إلى المشتركين في أول مؤتمر من أجل عائلة افريقيا وأوروبا، 15 كانون الثاني 1981: الرقيب الروماني، 16 كانون الثاني 1981، ص. ص 1، 2
98) رسالة عامة: الحياة البشرية، 25: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص. 499
99) إعلان في التربية المسيحية: شأن التربية الخطير، 3
100) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 35
101) مار توما الأكويني، خلاصة ضد الخوارج، 4، 58
102) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إعلان في التربية المسيحية: شأن التربية الخطير، 2
103) إرشاد في وجوب التبشير بالإنجيل، 71: أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976)، ص. ص 60 – 61
104) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إعلان في التربية المسيحية: شأن التربية الخطير، 3
105) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، 11
106) دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 52
107) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، 11
108) روم 12، 13
109) متى 10، 42
110) راجع دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 30
111) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إعلان في الحرية الدينية: الكرامة الإنسانية، 5
112) راجع اقتراح 42
113) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 31
114) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 11؛ قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، 11؛ البابا يوحنا بولس الثاني، عظة في قداس افتتاح مجمع الأساقفة السادس، 26 أيلول 1980، عد 3: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، ص 1008
115) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 11
116) راجع الموضع عينه، 41
117) أعمال 4، 32
118) راجع البابا بولس السادس: الحياة البشرية، 9: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص. ص. 486 – 487
119) دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 48
120) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي: كلمة الله، 1
121) راجع روم 16، 26
122) راجع البابا بولس السادس، رسالة عامة: الحياة البشرية، 25: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص 498
123) إرشاد في وجوب التبشير بالإنجيل، 71: أعمال الكرسي الرسولي 68 (1976)، ص ص 60 – 61
124) راجع خطاب في الجمعية العمومية الثالثة لأساقفة أميركا اللاتينية، 28 كانون الثاني 1979، 4، أ: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص 204
125) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 35
126) يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي في واجب تلقين التعليم المسيحي، 68: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص 1334
127) راجع الموضع عينه، 36: المكان المذكور، ص 1308
128) راجع 1 كور 12، 4 – 6؛ أفسس 4، 12 – 13
129) مر 16، 15
130) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الامم، 11
131) أعمال 1، 8
132) راجع 1 بطر 3، 1 – 2
133) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 35؛ قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، 11
134) راجع أعمال 18؛ روم 16، 3 – 4
135) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في نشاط الكنيسة الإرسالي: إلى الأمم، 39
136) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، 30
137) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة: نور الأمم، 10
138) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 49
139) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 48
140) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 41
141) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور في الليترجيا المقدسة: المجمع المقدس، 59
142) راجع 1 بطر 2، 5؛ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 34
143) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 34
144) دستور في الليتورجيا المقدسة: المجمع المقدس، 78
145) راجع يو 19، 34
146) عد 25: أعمال الكرسي الرسولي 60 (1968)، ص 449
147) أفسس 2، 4
148) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة: في الرحمة الإلهية، 13: أعمال الكرسي 72 (1980)، ص ص. 1218 – 1219
149) راجع 1 بطر 2، 5
150) متى 18، 19 – 20
151) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، إعلان في التربية المسيحية: شأن التربية الخطير، 3؛ راجع البابا يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي في واجب تلقين التعليم المسيحي، 37: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص 1308
152) خطاب في المقابلة العامة في 11 آب 1976: تعليم البابا بولس السادس، 14 (1976)، 640
153) راجع دستور في الليترجيا المقدسة: المجمع المقدس، 12
154) القاعدة العامة بشأن ليتورجيا الساعات، 27
155) البابا بولس السادس، إرشاد رسولي في العبادة المريمية، 52 – 54: أعمال الكرسي الرسولي 66 (1974)، ص ص. 160 – 161
156) البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب في معبد مانتورلا، 29 تشرين الأول 1978: تعليم البابا يوحنا بولس الثاني، 1 (1978)، 78 – 79
157) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، 4
158) راجع البابا يوحنا بولس الأول، خطاب إلى الإقليم الرعوي الثاني عشر من الولايات المتحدة الأميركية، 21 أيلول 1978: أعمال الكرسي الرسولي 70 (1978)، ص 767
159) روم 8، 2
160) الموضع عينه 5، 5
161) راجع مر 10، 45
162) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 36
163) قرار في رسالة العلمانيين: النشاط الرسولي، 8
164) رسالة مجمع الأساقفة السادس إلى العائلات المسيحية، 24 تشرين الأول 1980، عد 12
165) راجع البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب في الجمعية العمومية الثالثة لأساقفة اميركا اللاتينية، 28 كانون الثاني 1979، 4، أ: أعمال الكرسي الرسولي 71 (1979)، ص 204
166) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور في الليتورجيا المقدسة: المجمع المقدس، 10
167) راجع رتبة الاحتفال بالزواج، عد 17
168) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور في الليتورجيا المقدسة، المجمع المقدس، 59
169) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قرار في الحياة الرهبانية: المحبة الكاملة، 12
170) خطاب إلى اتحاد المستشارين العائليين الذين يستوحون الروح المسيحية، 29 تشرين الثاني 1980، أعداد 3 – 4: تعليم البابا يوحنا بولس الثاني، 3، 2 (1980)، 1453 – 1454
171) البابا بولس السادس، رسالة في مناسبة يوم وسائل الإعلام الاجتماعي العالمي الثالث، 7 نيسان 1969: أعمال الكرسي الرسولي 61 (1969)، ص 455
172) البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة في مناسبة يوم وسائل الإعلام الاجتماعي العالمي لسنة 1980، أول أيار 1980: تعليم البابا يوحنا بولس الثاني، 3، 1 (1980)، 1042
173) البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة في مناسبة يوم وسائل الإعلام لسنة 1981، 10 أيار 1981، عد 5: الرقيب الروماني، 22 أيار 1981، ص 2
174) البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة في مناسبة يوم وسائل الإعلام الاجتماعي لسنة 1981، 10 أيار 1981، عد 5: الرقيب الروماني، 22 أيار 1981، ص 2
175) البابا بولس السادس، رسالة في مناسبة يوم وسائل الإعلام الاجتماعي العالمي الثالث: أعمال الكرسي الرسولي 61 (1969)، ص 456
176) الموضع عينه.
177) رسالة في مناسبة يوم وسائل الإعلام الاجتماعي لسنة 1980: تعليم البابا يوحنا بولس الثاني، 3، 1 (1980)، 1044
178) راجع البابا بولس السادس، إرادة خاصة في الزواجات المختلطة 4 – 5: أعمال الكرسي الرسولي 62 (1970)، ص 261؛ راجع أيضاً البابا يوحنا بولس الثاني، خطاب إلى المشتركين في الاجتماع العام لأمانة سر وحدة المسيحيين، 13 تشرين الثاني 1981: الرقيب الروماني، 14 تشرين الثاني 1981
179) تعليمات: في هذه الظروف، 15 حزيران 1972: أعمال الكرسي الرسولي 64 (1972)، ص ص. 518 – 525؛ تعميم 17 تشرين الأول 1973: أعمال الكرسي الرسولي 65 (1973)، ص ص. 616 – 619
180) البابا يوحنا بولس الثاني، عظة في قداس اختتام مجمع الأساقفة السادس، 25 تشرين الأول 1980، عدد 7: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، ص 10820
181) راجع متى 11، 28
182) البابا يوحنا بولس الثاني، كتاب: قد اقترب، 15 آب 1980، عد 1: أعمال الكرسي الرسولي 72 (1980)، ص 791
183) مقدمة قداس عيد المسيح، ملك الكون.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post