الغني بالمراحم
Dives in Misericordia
وهي الرسالة العامة
التي وجّهها الحبر الأعظم
البابا يوحنّا بولس الثاني
إلى أساقفة الكنيسة الكاثوليكية جمعاء
وكهنتها ومؤمنيها
أيها الإخوة والأجلاّء
والأبناء والبنات الأعزاء
السّلام والبركة الرسولية
-1-
من رآني، رأى الآب
(راجع يو 14 ، 9)
1- الكشف عن الرحمة
“هو الله الغنيّ بالمراحم” (1) الذي كشفه لنا يسوع المسيح أبا: هو ابنه عينه من أظهره لنا بذاته وبرهن عنه بنفسه (2). وإنه لواجب أن نذكر ذاك الزمن الذي توجه فيه فيليبس أحد الرسل الاثني عشر، إلى السيد المسيح بقوله له: “يا سيد، أرنا الآب وحسبنا” فأجابه السيد المسيح بدوره قائلاً: “أنا معكم كل هذا الزمن، وما عرفتني بعد يا فيليبس…؟ من رآني رأى الآب” (3). وقد أورد السيد المسيح هذه الكلمات في خطابه الأخير الذي ودّع به خاصته، إبان العشاء الفصحي الذي عقبته أحداث تلك الأيام المقدسة وهي أيام كان لا بدّ من أن يتأكّد فيها مرة واحدة وإلى الأبد “إن الله الغنيّ بالمراحم، أحياناًَ مع المسيح، بفائق محبته لنا، بعدما كنا أمواتاً بزلاتنا” (4).
وإنّا عملاً بتعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، وتقديراً منا لحاجات عصرنا قد خصصنا رسالتنا العامة التي عنوانها “فادي الإنسان” بحقيقة الإنسان التي انجلت لنا بملئها وعمقها في السيد المسيح. وتدعونا في هذه الأيام الشاقة العصيبة حاجة أخرى، ليست أقلّ شأناً من تلك، إلى اكتشاف وجه الآب مجدداً في المسيح، “الآب الرحيم وإله كل عزاء” (5)، إنّا لنقرأ في الدستور “فرح وأمل” “إن السيد المسيح، آدم الجديد… يظهر الإنسان للإنسان عينه ويكشف له عن سمو دعوته”، وهذا ما يفعله عندما يكشف عن “سرّ الآب ومحبته” (6). وتؤكّد عبارة المجمع من كرامة حق ما لم يرجع بها إلى الله لا رجوعاً نظرياً بل واقعياً وجودياً وحياتياً.
ولهذا يجدر بنا الآن أن نعالج هذا السر معالجة يحملنا عليها ما توفّر للكنيسة ولأناس عصرنا من تجارب واختيارات مختلفة يقتضيها ما تختلج به قلوب كثير من الناس من أمان وآلام وآمال وهموم وتطلّعات. وإذا صح، على ما أعلنّا في رسالتنا العامة “فادي الإنسان” من أن الإنسان أيّا كان هو، على نحو ما، طريق الكنيسة، فإن الإنجيل والتقليد بكامله يعلّمان في الوقت عينه باستمرار أن علينا أن نقطع هذه الطريق مع كل الناس، على ما رسمها السيد المسيح، عندما كشف في ذاته عن الآب ومحبته (7). وكلّما اتجهت هذه الطريق – التي وكل بها إلى الكنيسة يوما وإلى الأبد، على تقلبات الدهر – في المسيح يسوع إلى الإنسان، تقدمت نحو الآب ومحبته، وهذه الحقيقة أكّدها لعصرنا المجمع الفاتيكاني الثاني.
وكلّما تناول عمل الكنيسة الإنسان، أي كلّما اتخذ الإنسان محوراً له، إذا جاز التعبير، وجب أن يتركّز على الله ويتكامل فيه، أعني أن يتجه في المسيح يسوع إلى الآب. وبرغم أن هناك نظريات وآراء مختلفة، ماضياً وحاضراً، كانت ولا تزال تميل إلى الفصل، لا بل إلى المعارضة بين المذهب القائل بجعل الإنسان محور الكون وذاك القائل بجعل الله محوره، فإن الكنيسة تسعى على مثال المسيح إلى الربط بين هذين المذهبين في تاريخ البشر ربطاً وثيقاً محكماً. وهذا هو أول المبادئ ولعله أهمها، التي علّمها المجمع الأخير. وإذا كان يقع على عاتقنا، في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة واجب وضع تعليم هذا المجمع الكبير موضع العمل، فعلينا أن نعود إلى هذا المبدأ بإيمان وتصميم وانفتاح ذهن وقلب. ولقد حاولنا في رسالتنا السابقة المشار إليها أن نبرهن أن ضمير الكنيسة، الذي ترّسخ واغتنى من مختلف الوجوه – وهذا من ثمار المجمع أيضاً – زاد حتما في فتح ضميرنا وقلبنا على السيد المسيح ونريد اليوم أن نعلن مرة جديدة أن ما من أحد يمكنه أن ينفتح على السيد المسيح الذي، بوصفه فادي الإنسان، كشف الإنسان بوضوح للإنسان، إلا بعودة متزايدة إلى الله ومحبته.
2- تجسّد الرحمة
إن الله الذي “مسكنه نور لا يقترب منه” (8) يحدّث الإنسان في الوقت عينه بلغة الكون أجمع “فمنذ خلق العالم، وصفات الله الخفية أي قدرته الأزلية والوهته، واضحة جلية تدركها العقول في مخلوقاته” (9). وهذه المعرفة الجانبية الناقصة الناجمة عن العقل الذي يبحث عن الله عن طريق المخلوقات والمرئيات في العالم ليست بعد “برؤية الآب”. ويقول القديس يوحنا: “ما من أحد رأى الله”، وهو بقوله هذا يزيد هذه الحقيقة وزناً وهي “إن الابن الأوحد في حضن الآب، هو الذي أخبر عنه” (10). وهذا “الاخبار” يكشف الله في سر حياته الذي لا تسبر أغواره – واحد ومثلّث – والذي “يسكن نوراً لا يقترب” (11). وبفضل “أخبار” المسيح هذا، نعرف الله أولاً من خلال محبته للإنسان: أي وفقاً “لمحبته للبشر” (12). وهنا تصبح “خفيّاته” مرئية وتنجلي إنجلاء أوضح بما لا يقاس مما تنجلي عبر سائر مخلوقاته. ذلك أن المرئيّات تنجلي في المسيح وبواسطة المسيح أي بأعماله وأقواله وأخيراً بموته على الصليب وقيامته.
وهكذا يتجلّى الله على الأخص برحمته في المسيح وبواسطة المسيح، أي تبرز صفة الألوهة التي حددها العهد القديم “بالرحمة” معتمداً لها مختلف المفاهيم والعبارات. وقد أعطى السيد المسيح تقليد العهد القديم في الرحمة الإلهية مفهوماً أبدياً، ولم يتحدث عنها ويشرحها بالتشابيه والأمثال وحسب، لكنه جسدّها بذاته، قبل كل شيء وكأنه ألبسها شخصه. وهذا يعني أنه هو نوعاً ما الرحمة ومن رآها ووجدها فيه، تجلّى له الآب بصورة خاصة، على أنه “غنيّ بالرحمة” (13).
إن عقلية هذا العصر الحاضر تبدو ربما أشد رفضاً لرحمة الله من عقلية الأجيال السالفة؛ لا بل إنها تسعى إلى القضاء على فكرة الرحمة واستئصالها من قلب الإنسان. وإن لفظة الرحمة بما لها من مفهوم تبدو وكأنها تزعج الإنسان الذي أصبح اليوم أكثر منه في غابر الأيام سيداً أخضع الأرض وتسلّط عليها (14)، بفضل ما أحرز من تقدم عظيم، لم يعرف من ذي قبل، في حقل العلوم والتقنية. ولم تترك هذه السيادة على الأرض المسّلم بها أحياناً من جهة واحدة تسليماً سطحياً، مجالاً على ما يبدو، للرحمة. ويمكننا في هذا المجال أن نعود – وفي العودة فائدة – إلى صورة “حالة الإنسان في عالم اليوم” التي رسمها دستور: فرح وأمل، في أولى صفحاته. ونقرأ في ما نقرأ هذه الخواطر: “وهكذا يبدو عالمنا الحاضر قويا وضعيفا في وقت معا، قديرا على اتيان خير الأمور وشرها، فيما انفتحت أمامه طريق الحرية والعبودية، طريق التقدم أو التخلف وطريق الإخاء أو الكراهية. وفضلا عن ذلك لقد أدرك الإنسان أن بإمكانه أن يوجّه توجيهاً سليما القوى التي أطلقها والتي يمكنها إما أن تسحقه وإما أن تخدمه” (15).
ولا تشير حالة العالم اليوم إلى مثل هذه التغييرات التي تبعث في قلوب الناس أملاً بمستقبل أفضل على الأرض وحسب، لكنها تنطوي أيضاً على تهديدات كثيرة تنذر بمخاطر تفوق تلك التي كانت معروفة حتى اليوم. وبرغم أن الكنيسة ما فتئت تندد بهذه التهديدات منتهزة مختلف الفرص (مثلا في الخطب الملقاة في منظمة الأمم المتحدة ومؤسسة الاونسكو ومؤسسة التغذية والزراعة وفي غير مكان)، فمن واجبها أن تتفحّصها على ضوء الحقيقة التي تلقّتها من الله.
وهذه الحقيقة المتجلّية في المسيح عن الله “أبي المراحم” (16) تتيح لنا أن “نراه” قريباً كل القرب من الإنسان، وعلى الأخص عندما يتألم هذا الإنسان ويواجه مخاطر تتهدّده في حياته وصميم كرامته. ولهذا السبب فإن الكثيرين من الناس والمجتمعات في حالة الكنيسة والعالم الحاضرة، يتجهون اتجاهاً شبه عفوي، إذا صح التعبير، إلى رحمة الله، بدافع من شعور حي من الإيمان. وما من شك في أن السيد المسيح الذي يعمل في نفوس الناس بواسطة روحه، هو الذي يدفعهم إلى ذلك. وإذا بسرّ الله “أبي المراحم” الذي كشف عنه المسيح وكأنه، نداء موجه إلى الكنيسة، في هذه الظروف الراهنة العصيبة التي تشدّ على خناق الإنسان.
وإننا نريد في هذه الرسالة أن نلبّي هذا النداء فننهل ما نقول من معين لغة الوحي والإيمان الأبدية – على ما فيها من بساطة وعمق لا يضاهيان – ونعرب مجدداً، أمام الله والناس، عمّا يساور أبناء عصرنا من هموم كبيرة. وفي الواقع، إن الوحي والإيمان يعلّماننا لا أن نتأمّل في سر الله بوصفه “أبا المراحم” مجرداً من الوقائع وحسب، بل أن نلجأ باسم المسيح ومع المسيح إلى هذه الرحمة. أفما أكّد السيد المسيح كل التأكيد أن أبانا “الذي يرى في الخفية” (17) ينتظر دائماً أن نتجه إليه في جميع حاجاتنا ونسبر أغوار سرّه باستمرار، سرّ الآب ومحبته” (18)؟
ولهذا إنّا نتمنّى أن تقرّب الخواطر التالية هذا السرّ من أفهام الجميع وأن تكون في الوقت عينه دعوة ملحّة إلى الكنيسة في سبيل الرحمة التي يحتاج إليها الإنسان والعالم اليوم كل الحاجة. أجل إنهما لفي حاجة إليهما، ولو أنهما في الغالب لا يعلمان.
-2-
الرسالة المسيحانية
3- عندما ابتدأ المسيح يعمل ويعلّم
استشهد السيد المسيح في الناصرة، أمام مواطنيه، بما قال أشعيا وهو: “روح… الرب عليّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للأسرى بالحرية وللعميان بعودة البصر إليهم، لأحرر المظلومين وأعلن السنة المقبولة لدى الرب” (19). إن هذه العبارات هي، حسب لوقا، أول إعلان له مسيحاني ستعقبه أعمال وأقوال أطلعنا عليها الإنجيل. وقد جعل المسيح، بهذه الأفعال والأقوال، الآب حاضراً بين الناس. وإنه لمن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن هؤلاء الناس كانوا، على الأخص الفقراء الذين يحتاجون إلى أسباب العيش، وأولئك المسلوبي الحرية، والعميان الذين تتعذر عليهم مشاهدة جمال الكائنات، والذين يعانون نفسياً أو يسامون الظلم الاجتماعي، وأخيراً الخطأة. لقد صار المسيح بالنسبة إلى هؤلاء الناس، على الأخص، علامة لله الذي هو محبة. لقد صار علامة الآب. ويستطيع أناس عصرنا كأناس القرون الخالية، أن يروا الله في علامة منظورة من هذا النوع.
ومن المفيد كذلك أن نلاحظ أنه، عندما دنا من يسوع ذانك الرسولان اللذان أرسلهما يوحنا المعمدان إليه ليسألاه: “أأنت الآتي أم ننتظر آخر”؟ (20) عاد إلى ذلك الاستشهاد الذي دشّن به رسالته التعليمية في الناصرة، فأجابهما قائلاً: “إذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما: العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهّرون والصمّ يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشّرون”، وختم قائلاً: “وطوبى لمن لا يشك فيّ” (21).
وقد أظهر يسوع، على الأخص، بطريقة حياته وأعماله كيف جعل المحبة حاضرة في هذا العالم الذي نعيش فيه: المحبة الفاعلة التي تتجه إلى الإنسان وتشمل كل ما يكوّن إنسانيته. وتتجلّى هذه المحبة، أكثر ما تتجلّى، كلّما كان هناك مرض وظلم وفقر، وحتى كلّما تناول الأمر “الحالة الإنسانية” التاريخية التي تبيّن، بمختلف الطرق، ما يعاني الإنسان من ضيق، ويشكو من ضعف جسدي ومعنوي. وإن ما تتجلّى به المحبة من طريقة وما تتخذه من مجال هو ما يسمّى بلغة التوراة “الرحمة”.
وهكذا كشف المسيح عن الله الذي هو آب، والذي هو “محبة” على ما أعلن القديس يوحنا في رسالته الأولى: (22) لقد أظهر الله “غنياً بالرحمة”، على ما نقرأ لدى القديس بولس (23). وقبل أن تكون هذه الحقيقة مادة تعليم، جعلها السيد المسيح واقعاً ماثلاً للعيان. وإحضار الله محبةً ورحمةً، هذه هي القاعدة التي رسخت في ضمير المسيح وركّز عليها مهمّته ورسالته كمسيح. وهذا ما تؤيّده تلك الأقوال التي فاه به أولاً في مجمع الناصرة ثم أمام تلاميذه والرسولين اللذين بعثهما يوحنا إليه.
واستناداً إلى هذه الطريقة التي أعلن فيها السيد المسيح الله حاضراً، والذي هو آب ومحبة ورحمة، جعل من الرحمة أحد مواضيع تبشيره الرئيسية. وعلّم هنا جرياً على مألوف عادته “بالأمثال”، على الأخص، لأنها أوفى بتوضيح جوهر الأشياء. وحسبنا أن نذكر مثل الابن الشاطر (24) أو مثل السامري (25) أو على سبيل التضاد، مثل عبد السوء (26). وهناك مقاطع عديدة من تعليم المسيح تظهر بطريقة دائماً جديدة، المحبة والرحمة. ويكفي أن نضع نصب أعيننا الراعي الصالح الذي يذهب باحثاً عن النعجة الضالة (27) أو المرأة التي تكنس البيت بحثاً عن الدرهم المفقود (28). ولوقا الإنجيلي هو من عالج على الأخص هذه المواضيع من تعليم السيد المسيح ولهذا سميّ بحق: “إنجيل الرحمة”.
وبما أن المسألة مسألة تبشير، فإن هناك أمراً هاماً يتعلق بمعنى الألفاظ ومضمون الفكرة ولاسيما مضمون فكرة الرحمة (بالمقارنة مع فكرة المحبة). وما تفهّم هذه المضامين تفهّماً صحيحاً سوى مفتاح لتفهم حقيقة الرحمة. وهذا هو الأهم بالنسبة إلينا. ولكن قبل أن نتوقف في القسم الثاني من خواطرنا على هذا الموضوع، أعني قبل أن نستجلي معاني الألفاظ ومضمون فكرة “الرحمة” الخاص، علينا أن نعرف معرفة اليقين أن السيد المسيح، عندما كشف عن محبة الله التي هي الرحمة، طلب من الناس، في الوقت عينه، أن ينقادوا في حياتهم لما تلهمهم إليه هاتان المحبة والرحمة. وهذا المطلب هو ممّا يميّز الرسالة المسيحانية ويشكل جوهر الآداب والأخلاق الإنجيلية. وقد أعلن المعلّم ذلك، سواء أكان في الوصية التي وصفها بأنها، “أول الوصايا وأعظمها” (29) أم في صيغة بركة، عندما ألقى خطابه على الجبل فقال: “طوبى للرحماء فإنهم يرحمون” (30).
وهكذا فإن للرسالة المسيحانية في الرحمة طبيعة خاصة إلهية وإنسانية. والمسيح، بوصفه تمام النبؤات، عندما جسّد المحبة التي تتناول، أكثر ما تتناول، المعذّبين والتاعسين والخطأة، أحضر الآب وكشف في الوقت عينه كشفا أوفى، عن هذا الآب الذي هو إله “غنيّ بالرحمة”. وعندما صار المسيح للناس مثالاً في المحبة والرحمة تجاه الآخرين، فقد جاهر بأعماله أكثر منه بأقواله، بالدعوة إلى الرحمة التي تعدّ جزءاً لا يتجزأ من مقومات “الآداب والأخلاق الإنجيلية”.
وليس المهم إتمام وصية أو استجابة مطلب له صفة أدبية أخلاقية وحسب، بل العمل بما تقتضيه حالة لها أهمية كبرى يستطيع الله معها أن يكشف عن ذاته رحمة الناس: “الرحماء … يرحمون”.
-3-
الرحمة في العهد القديم
4- لمفهوم “الرحمة” في العهد القديم تاريخه الطويل الغني المتطور، فلا بد من العودة إليه. وهذا ممّا يساعد على استجلاء الرحمة استجلاء أوفى. وعندما أظهر السيد المسيح هذه الرحمة بأعماله وأقواله، كان يتحدّث إلى أناس لا يفهمون معنى الرحمة وحسب، لكنهم كانوا، بوصفهم شعب الله في العهد القديم، قد نهلوا من معين تاريخهم الطويل خبرة خاصة في رحمة الله، وهي خبرة كانت قد تأصّلت عندهم في نفوس الأفراد والجماعات.
وكان إسرائيل، شعب ذلك العهد المبرم مع الله، وهو عهد غالبا ما حنث به. وعندما كان يدرك خيانته – وما أعوز إسرائيل على مدى تاريخه الطويل أنبياء ورجال أيقظوا هذا الضمير – كان يلتمس الرحمة. ولنا على ذلك في العهد القديم عدة شواهد. ويمكننا أن نستذكر، في ما نستذكر من أحداث ونصوص لها أهميتها: بدء تاريخ القضاة (31)، وصلاة سليمان في مناسبة تدشينه الهيكل (32)، وجانبا من نبؤة ميخا (33) وتأكيدات أشعيا المعزّية (34)، وصلوات العبرانيين في الأسر (35)، وتجديد العهد بعد الخروج من الأسر (36).
وأن يكون الأنبياء قد ربطوا في تبشيرهم بين الرحمة – التي غالباً ما تحدّثوا عنها بسبب خطايا الشعب – وصورة محبة الله، فهذا أمر له مدلوله الكبير. لقد أحبّ الله إسرائيل محبة انتخاب خاص أشبه شيء بمحبة زواجية (37). ولهذا فإنه غفر له خطاياه حتى المروق والخيانة. وإذا وجد لديه توبة صادقة وارتدادا مخلصا، تاب على شعبه ورد عليه النعمة (38). وتعني الرحمة في تبشير الأنبياء محبة شديدة خارقة تتغلب على الخطيئة ومروق الشعب المنتخب.
وتظهر المحبة في حالة المجتمع العامة وكأن هناك تلازما بينها وبين ما اكتسبه من خبرة باطنية كل من الناس الذين يتقلّبون في الخطيئة ويقاسون الآلام وكل أنواع المصائب. وقد حمل الشر المادي والأدبي أي الخطيئة أبناء إسرائيل وبناته على الالتجاء إلى الله والتماس الرحمة منه. وهكذا اتجه داود إليه بدافع من شعوره بفظاعة إثمه (39)، وارتد إليه أيضاً أيوب بعد أن عيل صبره في بلواه (40)، وهرعت إليه كذلك استير بعد أن تأكّد لها ما يهدّد شعبها من أخطار قاتلة (41) وهناك أمثلة عديدة نجدها في أسفار العهد القديم (42).
وينبع هذا الاعتقاد المتعدّد الوجوه والراسخ في ذهن الجماعة والأفراد والذي يؤيّده العهد القديم بكامله على مرّ الزمن، من الخبرة القديمة التي اكتسبها الشعب المنتخب وهو في الأسر: لقد نظر الله إلى شقاء شعبه الرازح تحت نير العبودية وأصغى إلى صراخه ورأى ما به من ضيق فعزم على تحريره (43) وقد رأى النبي في عمل الخلاص الذي قام به الرب، محبة الله لشعبه وشفقته عليه (44). وعلى هذا الأساس توطّدت ثقة الشعب بأجمعه وثقة كل كل من أفراده على الرحمة الإلهية التي يمكن التطلّع إليها في كل المحن على اختلاف أنواعها.
وبالإضافة إلى ذلك، إن شقاء الإنسان، إنما هو خطيئته. وقد خبر شعب العهد القديم هذا الشقاء منذ زمن الخروج، عندما نصب العجل الذهبي. لكن الرب تغلّب على هذا الخرق الأثيم للعهد، فخاطب موسى باحتفال قائلا: “الرب الرب إله رحيم ورؤوف، طويل الأناة كثير المراحم والوفاء” (45). وانطلاقاً من هذا الإعلان الهام وبعد كل معصية، كان الشعب المختار وجميع الذين يتألّف منهم، يجمعون قواهم وما يدفعهم إلى اللجوء إلى الرب من أسباب، ليذكّروه بكل ما أفصح لهم عن نفسه ويسألوه الصفح والغفران (46).
وهكذا أظهر الرب بأعماله وأقواله رحمته، منذ نشأة هذا الشعب الذي اختاره له، هذا الشعب الذي وكل أمره باستمرار، وعلى مرّ التاريخ، إلى إله المراحم، سواء أكان في ما حلّ به من مصائب أم لدى إدراكه ما ارتكب من معاص ومآثم (47). وقد ظهرت جميع أنواع المحبة ودقائقها في رحمة الرب بخاصته: فهو أبوهم لأن إسرائيل بكره (48)، وهو أيضاً زوج تلك التي خلع عليها النبي اسما جديداً: مرحومة أي المحبوبة لأنها سترحم (49).
وعندما كان الرب يغتاظ من مروق شعبه ويعقد العزم على تركه وشأنه، كان حنانه وسخاء محبته له، يدفعانه إلى التغلب على غضبه (50). وسرعان ما ندرك بالتالي كيف أن كتبة المزامير، عندما كانوا يطربون لأنشادهم أسمى المدائح للرب، كانت تفيض قرائحهم بالأناشيد لرب المحبة والحنان والرحمة والأمانة (51).
ويُستنتج من هذا كله أن الرحمة ليست صفة من صفات الله وحسب، لكنها تميّز حياة شعب إسرائيل بأُسره وكل من أبنائه وبناته: إنها جوهر مالهم من دالة حميمة على ربهم، وجوهر حوارهم معه. وتظهر الرحمة، على هذا الوجه، في جميع أسفار العهد القديم، ظهوراً غنياً بالمعاني. وإذا كان من الصعب أن نجد في هذه الأسفار جوابا نظريا على هذا السؤال وهو: ما هي الرحمة بحد ذاتها، فإن الألفاظ التي تستعملها هذه الأسفار يمكنها أن تنبئنا الكثير في هذا المجال (52) ويشيد العهد القديم برحمة الرب بعبارات متقاربة المعنى، ولكنها، وإن تمايزت فيما بينها، يمكن القول أنها تصب في مفهوم واحد يرمي إلى الإفصاح عن غنى الرحمة الفائقة الطبيعة وإلى تقريبها، في الوقت عينه، من إفهام الناس، وذلك من عدّة وجوه. ويخصّ العهد القديم البائسين ولاسيما المثقلين بالخطايا – وأيضاً إسرائيل الذي أبرم عهدا مع الله – ليسألوا الرحمة ويعتمدوا عليها – على ما يعدهم به – كل الاعتماد: وهو يذكّر بالرحمة في وقت الشدة والسقوط، ويرفع بالتالي آيات الشكر والحمد لله على هذه الرحمة كلّما ظهرت في حياة الشعب أو في حياة أحد أفراده.
وهكذا تعارض الرحمة، نوعا ما، العدالة الإلهية وتثبت في أغلب الأحيان، إنها الأقوى وحسب بل الأعمق أيضاً. ويعلّم العهد القديم أن العدالة، برغم أنها تعتبر فضيلة حقا لدى الإنسان وكمالا فائق الطبيعة لدى الله، هي دون المحبة التي هي “أسمى”، وأسمى لأنها تبقى الأولى والأهم. فالمحبة، على ما يقال، تلطّف العدالة وتؤدي لها في النهاية خدمة. وتتجلّى أولوية المحبة وسموها بالنسبة إلى العدالة وتقدمها عليها (وهذا ما يميز الوحي كله) في الرحمة، تمام التجلي. وبدا ذلك واضحا لكتبة المزامير والأنبياء بحيث أن لفظة عدالة دلّت على الخلاص الذي أتمه الرب برحمته (53).
فالرحمة إذن تختلف عن العدالة، لكنها لا تضادّها، إذا سلّمنا – على ما يفعل العهد القديم – بوجود الله في تاريخ الإنسان وبارتباطه، بوصفه مكوّن الكائنات، بخلائقه برباط محبة فريد. وتنفي المحبة من طبعها الحقد وشهوة الإساءة إلى من أعطته يوما ذاتها: “لأنك لا تمقت شيئا مما صنعت” (54). وتكشف هذه الألفاظ عن الأساس العميق الذي ترتكز عليه العلاقة القائمة بين عدالة الله ورحمته بالنسبة إلى الإنسان والعالم، وتعلّمنا فضلا عن ذلك أنه يجب البحث عن أصول هذه العلاقة المحيية وأسبابها البعيدة بالعودة إلى “البدء” داخل سرّ الخلق. وتعلن مسبقا، وفقا لظروف العهد القديم، الكشف عن الله الذي “هو محبة” (55).
ويرتبط بسرّ الخلق، سرّ الانتخاب الذي أعطى تاريخ الشعب صيغته، هذا الشعب الذي صار إبراهيم بفضل إيمانه، أباه الروحي. ويعود سرّ الانتخاب هذا، بواسطة هذا الشعب الذي قطع مراحل العهد القديم والحديث، إلى كل رجل وإلى العائلة البشرية الكبيرة جمعاء. “إني أحببتك حبا أبديا، فلذلك اجتذبتك برحمة” (56). “إن الجبال تزول… أما رأفتي فلا تزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع” (57). وهذه الحقيقة المعلنة لإسرائيل في حينها، تحمل معها لتاريخ البشرية رؤية مسبقة زمنية وأخروية في وقت معاً (58). وقد كشف المسيح عن الآب في إطار هذه الرؤية المسبقة وبعد أن استعدّت النفوس لها، كما تثبت ذلك عدّة صفحات من كتب العهد القديم. وتوجّه في نهاية هذا الكشف، عشية اليوم السابق لموته إلى الرسول فيلبس، بقوله: “أنا معكم كل هذا الوقت وما عرفتني… من رآني رأى الآب” (59).
-4-
مثل الابن الشاطر
5- التشبيه
في مستهل العهد الجديد، يردّد إنجيل القديس لوقا، في إيقاع فريد، لفظتين تتناولان الرحمة الإلهية وتعيدان، كرجع صدى، تقليد العهد القديم بأجمعه، وتفصحان عما يميّز الكتب القديمة من تنوّع وخصائص لفظية. وهذه مريم تدخل بيت زكريا، وتعظّم الرب من أعماق قلبها لأجل “رحمته” التي يفيد منها الناس العائشون في مخافة الله، من جيل إلى جيل. وبعد ذلك بقليل، تعلن، فيما تنوّه بانتخاب إسرائيل، الرحمة التي يذكرها دوماً من وقع اختيارها عليه (60). وكذلك، لدى مولد يوحنا المعمدان، يبارك زكريا الآب في البيت عينه، إله إسرائيل، ويمجّد الرحمة التي صنعها إلى “آبائنا ذكراً لعهده المقدس” (61).
وبحسب تعليم المسيح، تتبسّط هذه الصورة الموروثة عن العهد القديم وتتعمّق في الوقت عينه. ولعل هذا ما يظهر جلياً في مثل الابن الشاطر (62) الذي يوضح كل الإيضاح جوهر الرحمة الإلهية، برغم أننا لا نعثر فيه على لفظة “الرحمة”. ولا ينجم ذلك عن اللغة وحدها، كما في العهد القديم، بل عن الشبه عينه الذي يفسح في المجال لاستشفاف سر الرحمة وكأنه مأساة تدور فصولها بين محبة الآب وتبذير الابن والخطيئة.
وهذا الابن الذي تسلّم من أبيه نصيبه من ميراثه وغادر البيت ليبدّد ما ورث في بلاد بعيدة في البذخ والخلاعة، هو، نوعاً ما، رجل كل زمن، ابتداء من ذاك الذي أضاع ميراث النعمة والبرارة الأصلية. ويظهر الشبه جلياً في هذا الموضع، ويتطرّق المثل، مداورة، إلى كل حنث بعهد المحبة، وكل فقدان للنعمة، وكل خطيئة، وهو لا يشدّد على خيانة الشعب الإسرائيلي بأسره تشديد التقليد النبوي عليها، ولو كان بالإمكان تطبيق مثل الابن الشاطر على هذه الخيانة. ولمّا “انفق الابن كل شيء… بدأ يفتقر”، وعلى الأخص لأن الجوع دهم “ذلك البلد” الذي سافر إليه، بعد مغادرته البيت الوالدي. فكان، والحالة هذه، يشتهي أن، “يملأ جوفه” ممّا تقع عليه يده، ولو “خروباً تأكله الخنازير” التي كان يرعاها لحساب “أحد أبناء ذلك البلد”، وحتى هذا كان قد حرمه.
وينتقل التشبيه انتقالاً واضحاًَ إلى داخل الإنسان. ذلك أن الميراث الذي أخذه من والده كان خيوراً مادية. ولكن يبقى هناك ما هو أثمن منها بكثير، وهو كرامته كابن في البيت الوالدي وكان على تلك الحالة التي وصل إليها، بعد أن أنفق ماله، أن توقظه على هذه الكرامة المفقودة. فهو، دونما شك، لم يفكر بها قبلاً، عندما كان يسأل أباه أن يعطيه نصيبه ليتمكن من الذهاب إلى البعيد، ولا بدّ أنه كان يعيها عندما قال في نفسه: “كم لأبي من الأجراء يفضل الخبز عنهم، وأنا هنا أهلك لجوعي”. فهو يقيس حالته بقياس الخيور التي فقدها والتي كان “يملكها” الأجراء في بيته الوالدي. وتدل هذه الكلمات على ذهنيّته بالنسبة إلى الخيور المادية التي تخفي تحت ردائها مأساة كرامة مهدورة، وشعوراً ببنوّة مشتتة.
واتفق أخيراً أنه اتخذ قراراً فقال: “أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له: يا أبت، اخطأت إلى السماء وأمامك، ولست أهلاً بعد لأن أدعى لك ابناً. فعاملني كأحد اجرائك” (63). إن هذه الكلمات تكشف عن طبيعة المشكلة الأساسية وأبعادها. عندما ضاقت بالابن الشاطر حالته المادية التي أوقعه فيها طيشه وإثمه، نضج لديه شعوره بكرامته المضاعة. وعندما عزم على العودة إلى البيت الوالدي وعلى الطلب من أبيه أن يقبله بقوة ما له من حق بوصفه أجيراً – بدا ظاهراً أنه يتصرّف بدافع مما أصابه من جوع وشقاء، ولكنه دافع يتداخله إدراك لخسارة جسيمة: لقد أصبح أجيراً في بيت أبيه، وهذا إذلال وعار كبير. ولكن الابن الشاطر كان مستعداً لمواجهة مثل هذين الاذلال والعار، لإدراكه أنه لم يبق له من حق سوى أن يكون أجيراً في البيت الوالدي. فأخذ قراره بملء معرفته لما استحق ولما يمكن أن يكون له حق فيه، وفقاً لقواعد العدالة. ويثبت هذا التفكير نشوء شعور بالكرامة المفقودة في خاطر الابن الشاطر، هذه الكرامة النابعة من علاقة الابن بأبيه. وهكذا عقد العزم على سلوك الطريق.
لم تستعمل لفظة “عدالة” في مثل الابن الشاطر ولو مرّة واحدة، كما لم ترد كلمة “الرحمة” في النص الأصلي، ومع ذلك إن العلاقة القائمة بين العدالة والمحبة التي تتجلّى كرحمة، تندرج بإحكام في الدرس الذي يلقيه مثل الإنجيل، ويبدو واضحاً أن المحبة تتحوّل رحمة، كلّما وجب اجتياز الحدود التي ترسمها العدالة والتي غالباً ما تكون دقيقة ضيقة. وبعد أن بدّد الابن الشاطر الاموال التي أخذها من أبيه، استحق، بعد عودته، أن يكسب معاشه بالقيام بعمل أجير في البيت الوالدي، وأن يجمع مجدداً شيئاً فشيئاً، بعض المال رغم أنه لن يجمع أبداً ما يعادل على الأرجح، ما بدّده. وهذا، على الأقل، ما كانت: تقتضيه العدالة، وعلى الأخص، لأن هذا الولد لم يبذرق نصيبه الخاص به من الميراث وحسب، لكنه، علاوة على ذلك، أهان أباه بسلوكه وصدمه. وما كان هذا السلوك، الذي عرف حق المعرفة أنه سلبه كرامته، ليترك أباه في لا مبالاة، لا بل كان من شأنه أن يؤلم هذا الآب ويشعره، نوعاً ما، بتضامنه معه. وبعد فالقضية تتعلق بابنه، وما من عمل يمكنه إفساد هذه العلاقة أو إزالتها، وكان الابن الشاطر يعي هذا الواقع، وكان وعيه هذا يريه كرامته الضائعة ويستحثه على تقدير المكان، الذي كان باستطاعته أن يستعيده في بيت أبيه، كل التقدير.
6- التركيز على الكرامة الإنسانية
إن حالة الابن الشاطر النفسية التي وصفناها تتيح لنا أن نفهم بدقّة ماهية الرحمة الإلهية. وما من شك في أن صورة الآب في هذا التشبيه البسيط العميق تظهر لنا بالله أباً. وإن سلوك الابن في المثل وطريقة تصرّفه، التي تكشف عن دخيلته، تفسح لنا المجال لنتبيّن، من جميع الوجوه، نظرة العهد القديم إلى الرحمة في ملخّص جديد كل الجّدة، يفيض بساطة وسمواً. ويظهر أبو الابن الشاطر ذاته أميناً لأبوته، أميناً لمحبته التي لم يبخل بها يوماً على ابنه. ولا يعرب عن هذه الأمانة في هذا المثل ما لقى الابن العائد إلى البيت من حسن استقبال، بعد أن بذرق ميراثه، وحسب، بل تفصح عنها ببلاغة هذه الفرحة العارمة وتلك الحفاوة البالغة اللتان قوبل بهما هذا المبذّر العائد، بحيث إنهما أثارتا حفيظة أخيه الأكبر وحسده، وهو الذي ما ابتعد يوماً عن أبيه ولا غادر البيت الوالدي:
وتتأكّد في الوقت عينه أمانة الآب لذاته – وهي صفة تنبع من لفظة “حسد” في العهد القديم – بطريقة خاصة ملؤها المحبة. ولهذا إنّا نقرأ: عندما رأى الابن الشاطر يقترب من البيت “رقّ له وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله” (64). فهو يتصرف، ولا شك، بدافع من محبة شديدة أثارت، فيما بعد، لدى الأخ الأكبر السخط الشديد. ولكن يجب البحث عن أسباب هذا التأثر بحثاً أعمق؛ أجل، لقد أدرك الأب أن هناك خيراً جوهرياً قد أنقذ، وهو خير إنسانية ابنه. وإذا كان ابنه قد بدّد ميراثه، فقد سلمت له إنسانيته، لا بل كأنها قد استعيدت. وهذا ما يؤيّده ما قاله الأب لابنه الأكبر: “علينا أن ننعم ونفرح، لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش وضالاً فوجد” (65). إنّا نجد في الفصل الخامس عشر من إنجيل لوقا مثل النعجة المستعادة” (66)، والدرهم المعثور عليه (67). وفي جميع هذه الحالات نلقى الفرحة عينها التي نجدها في حالة الابن الشاطر. إن أمانة الآب لذاتها تتركز بمجملها على إنسانية ابنه المفقود وعلى كرامته. وهذا ما يفسّر هذا الفرح العظيم لدى عودة الابن إلى البيت.
وأكثر من ذلك، يمكن القول أن المحبة للابن، هذه المحبة النابعة من طبيعة الأبوّة اضطرّت الآب إلى الاهتمام بكرامة ابنه، ذلك أن هذا الاهتمام هو مقياس للمحبة التي أشاد بها القديس بولس بقوله: “المحبة تصبر وترفق… لا تطلب منفعتها ولا تحتد ولا تظنّ السوء… تفرح بالحق… ترجو كل شيء وتصبر على كل شيء” “ولا تزول أبداً” (68). وهذه الرحمة – على ما كشف عنها السيد المسيح في مثل الابن الشاطر – هي باطناً صورة المحبة التي تدعى في العهد الجديد “أغابيه” وباستطاعة مثل هذه المحبة أن تكبّ على كل ابن شاطر، وكل شقاء بشري، وعلى الأخصّ، على كل فقر أدبي، أعني الخطيئة.
وإذا تأتّى ذلك، فإن من يختبر الرحمة لا يشعر بالذل، لا بل كأنه بعث مجدداً “واستعاد ما فقد من قيمة وقدر”. وقبل كل، إن أباه يؤكد له فرحته لأنه “وجده” و”عاش”. وتثبت هذه الفرحة أن هناك خيراً لا يُنتقص، وهو أن الابن، ولو شاطراً، يبقى حقاً ابن أبيه. ويدل الفرح، علاوة على ذلك، على أن هناك خيراً أستعيد وهو، في حالة الابن الشاطر، عودته إلى حقيقة ذاته.
لا يمكننا أن نقدّر “من الخارج” ما حلّ بعلاقة الابن بأبيه، في المثل الذي ضربه السيد المسيح. وإن جميع ما نكوّنه من أفكار مسبقّة عن الرحمة، إنما هو نتيجة حكم “خارجي”. وقد يصدف أحياناً عندما نتبع هذه الطريقة في إصدار الحكم، أن نتبيّن في الرحمة علاقة غير متكافئة بين فاعل الرحمة وقابلها. ولهذا إنّا نميل إلى الأخذ بالرأي القائل بأن الرحمة تذلّ من يقبلها وتصم كرامته. لكن مثل الابن الشاطر يقنعنا بأن الواقع يختلف عن ذلك، وإن الرحمة ترتكز على اختبار مشترك لهذا الخير الذي هو الإنسان، وعلى اختبار شامل لكرامته. ومن مفاعيل هذا الاختبار المشترك أن الابن الشاطر شرع يرى ذاته وأعماله على حقيقتها (ورؤية الحقيقة معناها تواضع حقيقي). ولهذا السبب أصبح الابن، من جهة ثانية، الخير الوحيد لأبيه وأصبح الأب يرى رؤية واضحة ما تمّ من خير بفضل ما للحقيقة والمحبة من إشعاع عجيب بحيث بدا، بفعل هذه المحبة، كأنه نسي ما فعله الابن من شرّ.
إن مثل الابن الشاطر يعرب ببساطة، إنّما بعمق، عن حقيقة الارتداد الذي هو أصدق تعبير عن عمل المحبة والرحمة في المجتمع البشري الحالي. ولا يقوم ما للرحمة من فاعلية أكيدة، صحيحة على توجيه الأبصار، ولو حادة نافذة، رفيقة، إلى شر أدبي أو طبيعي أو جسدي، لأن الرحمة تتجلّى بطبيعتها الأصلية الخاصة، عندما تقدّر وتشجّع وتستخرج الخير مما على الأرض وفي الإنسان من جميع أنواع الشرور. وهي إذا فُهمت على هذا الوجه، جسّدت ما لرسالة المسيح المسيحانية من محتوى أساسي ولعملها من قوة وفعالية. وهكذا فهم تلاميذ المسيح وأتباعه الرحمة ومارسوها. وما انفكّت الرحمة يوماً عن التجلي في قلوبهم وأعمالهم وكأنها برهان صادق على محبة خلاّقة تأبى أن “يغلبها الشر” ولكنها “تغلب الشر بالخير” (69).
ولهذا لا مندوحة لنا عن اكتشاف وجه الرحمة الصحيح اكتشافاً جديداً مستمراً، لأن الرحمة، رغم جميع مختلف الأحكام المسبقة، لا غنى لعصرنا عنها.
-5-
السر الفصحي
7- الرحمة المتجليّة في الصليب والقيامة
إن رسالة المسيح المسيحانية ونشاطها بين الناس ينتهيان مع الصليب والقيامة، فعلينا أن نتعمّق في هذا الحدث الأخير الذي يحدّده المجمع، بلغته الخاصة، بالسرّ الفصحي، إذا أردنا أن نتبيّن حقيقة الرحمة على ما تجلّت أخيراً في تاريخنا. ويجدر بنا، وقد بلغنا هذه النقطة من خواطرنا، أن نلمّ الماما أوفى بمحتوى رسالتنا العامة: فادي الإنسان. وإذا كانت، في الواقع، حقيقة الفداء، ببعدها الإنساني، تكشف عن عظمة الإنسان وسموّه ليستحق مثل هذا المخلّص العظيم (70)، فإن هذا الفداء بما له من بعد إلهي، يفتح لنا الطريق عينه، إذا جاز التعبير، لنكتشف، بطريقة عملية “تاريخية” عمق هذه المحبة التي لا تُحجم عن تضحية الابن الفريدة، إرضاء لما يكنّه الخالق من أمانة للناس الذين خلقهم على صورته واختارهم “منذ البدء” في المسيح، للنعمة والمجد.
إن أحداث اليوم السادس من ذلك الأسبوع، وقبلها تلك الصلاة في بستان الجسمانية، أدخلت تغييراً جوهرياً على مجرى الكشف عن المحبة والرحمة في رسالة المسيح المسيحانية. إن ذاك الذي “اجتاز وهو يحسن إلى الناس” (71) “ويبرئ كل مرض وسقم” (72)، يبدو الآن هو عينه أنه يستأهل الرحمة ويلتمسها فيما يُلقى القبض عليه ويُمتهن ويُحكم عليه ويُجلد ويكلّل بالشوك ويعلّق على الصليب بالمسامير ويلفظ أنفاسه الأخيرة في غمرة عذاب أليم (73). وما أشد ما كان في حاجة إذ ذاك إلى رحمة الناس الذين اصطنع إليهم الخير، ولكنّه لم يلقها منهم؛ لا بل إن أقربهم إليه لا يستطيعون إنقاذه من أيدي ظالميه ليتم في المسيح، في هذه المرحلة الأخيرة من المسيرة المسيحانية، ما قاله الأنبياء، ولا سيما أشعيا، في خادم يهوه “بشدخه شُفينا” (74). ويتجه المسيح، بما أنه إنسان يتألم، في بستان الزيتون وعلى الجلجلة، آلاماً لا تطاق، إلى أبيه، هذا الآب الذي بشرّ بمحبته للناس وأكّد لهم رحمته بمسلكه وجميع أعماله، ولكنه لم يجنبّه في الحقيقة، سكرات الموت على الصليب؛ وهو الذي “لم يعرف الخطيئة، جعله خطيئة من أجلنا” (75) على ما يقول بولس الرسول؛ وقد أوجز عظمة سرّ الصليب، في الوقت عينه، ما لحقيقة الفداء من بعد إلهي؛ هذا الفداء الذي كشف، لآخر مرة وبصورة نهائية، عن قداسة الله التي هي بدورها منتهى الكمال المطلق؛ أعني ملء العدالة والمحبة، لأن العدالة تقوم على المحبة وتنبع منها وتهدف إليها. وتتجلّى العدالة المطلقة في آلام المسيح وموته – إذ أن الآب لم يشفق على ابنه بل “جعله خطيئة من أجلنا” (76) لأن المسيح تألّم ومات من أجل خطايا العالم. وهذا في الحقيقة “فيض” العدالة، لأن ذبيحة الإنسان الإله “عوّضت” عن خطايا الإنسان. وبعد، فإن عدالة من هذا النوع لهي عدالة على “مقياس الله” تنبع كلها من المحبة، محبة الآب والابن، وتستمر كلها في المحبة. ولهذا السبب، إن العدالة الإلهية التي تجلّت على صليب المسيح، هي على “مقياس” الله، لأنها تنبع من المحبة وتكتمل في المحبة، فيما تثمر ثمر الخلاص. ولا يتحقق بعد المحبة الإلهي بالتكفير عن الخطايا وحسب، بل بإعادة هذه الطاقة الخلاقة في الإنسان إلى المحبة التي تمكّن هذا الإنسان مجدّداً من الاقتراب من الحياة والقداسة الناشئين عن الله. وهكذا يحمل الفداء معه الكشف عن الرحمة في ملئها.
إن سر الفصح هو قمّة هذا الكشف عن الرحمة، وقمة تحقيقها؛ هذه الرحمة التي يمكنها أن تبرر الإنسان، وتعيد العدالة، بما أنها نظام خلاصي أراده الله منذ البدء في الإنسان، بواسطة الإنسان في العالم.
ويتّجه المسيح المتألم، على الأخص، إلى الإنسان، لا إلى المؤمن فقط، لأن غير المؤمن يمكنه أن يجد فيه ما يشدّه إلى الحالة الإنسانية من علاقة صريحة وأن يكشف فيه أيضاً ما يبديه نحو قضية الإنسان والحق والمحبة من تفان وتجرّد وغيرة تامة. لكن السرّ الفصحي، بما له من بعد إلهي، يذهب إلى أعمق من ذلك؛ لأن الصليب المركوز على الجلجلة حيث أجرى المسيح آخر حوار له مع الآب، ينبثق من صميم هذه المحبة التي ينعم بها الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، وفقا لقصده تعالى الأزلي. ولا تشدّ الله، على ما كشف عنه المسيح، إلى العالم روابط وثيقة وحسب، بوصفه خالقاً وينبوع الحياة الأول، بل يشدّه أيضاً إلى الإنسان الذي دعاه إلى الحياة في العالم المنظور، رباط الخلق، أي رباط المحبة التي لم تخلق الخيور وحسب، بل تعمل أيضاً على الإشراك في حياة الله: الآب والابن والروح القدس. ومن أحب تاق إلى هبة ذاته.
ويرتفع صليب المسيح في الجلجلة على طريق “المبادلة”، أي هذه المشاركة الرائعة التي يجريها الله مع الإنسان والتي تتضّمن في الوقت عينه دعوة إلى الإنسان للمشاركة في الحياة الإلهية، بعد أن يكون قد سلّم ذاته وكل الكون المنظور معه إلى الله – وللمشاركة – بصفته ابنا بالتبني – في الحقيقة والمحبة التي هي في الله ونابعة من الله. وهكذا ينتصب في التاريخ – على طريق اختيار الإنسان منذ الأزل لكرامة ابن الله التبني – صليب المسيح الابن الوحيد الذي جاء “كنور من نور وإله حق من إله حق” (77) يؤدي آخر شهادة على العهد العجيب الذي أبرمه الله مع الجنس البشري، أي عهد الله مع الإنسان ومع كل إنسان. وهذا العهد القديم قدَم الإنسان الذي يرقى إلى سرّ الخلق والذي غالباً ما تجدّد مع شعب واحد مختار، إنما هو الآن عهد جديد نهائي، أُبرم على الجلجلة لا ليقتصر على شعب واحد هو إسرائيل، بل لينفتح على جميع الناس وعلى كل منهم.
ماذا يعلّمنا إذن صليب المسيح الذي هو، على نحو ما، آخر عرض لبشارته المسيحانية ولمهمته؟ ولكنه ليس آخر كلمة من كلمات إله العهد: هذه الكلمة قالها في ذلك الفجر، عندما تقدّمت النسوة أولاً ثم الرسل من قبر المسيح المصلوب، فوجدوه فارغا وسمعوا، لأول مرة، هذه البشارة القائلة “لقد قام”. وهذا ما راحوا يردّدونه على المسامع فأصبحوا شهوداً للمسيح القائم من الموت. ويبقى الصليب، حتى يوم تمجّد ابن الله، يتكلّم من خلال الشهادة المسيحانية التي أدّاها الإنسان – الابن الذي مات على الصليب، وما انقطع يوماً عن الكلام عن الله – الآب الذي كان دائماً أميناً لمحبته للإنسان: “هكذا أحب الله العالم” – وبالتالي الإنسان في العالم – “حتى وهب ابنه الوحيد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (78).
فالإيمان بالابن المصلوب، معناه “رؤية الآب” (79)، ومعناه الإيمان بوجود المحبة في العالم وبأن المحبة أقوى من كل شرّ – أيّاً كان نوعه – ينغمس فيه الإنسان والجنس البشري والعالم.
والإيمان بمحبة من هذا النوع معناه الإيمان بالرحمة التي هي جزء لا يتجزّأ من المحبة، وكأنها اسمها الآخر، وهي في الوقت عينه الطريقة الخاصة التي تتجلّى بها المحبة وتتحقق لتناهض الشرّ الذي ينتشر في العالم ويجرّب الإنسان ويستغويه ويتسرّب إلى أعماقه ليتمكّن من “إهلاكه في حهنم” (80).
8- المحبة أقوى من الموت، أقوى من الخطيئة
وفضلاً عن ذلك، إن صليب المسيح في الجلجلة يشهد أيضاً على قوة الشر المتطاول على ابن الله ذاك الذي كان وحده بين أبناء الناس أجمعين، بارّاً من طبعه، بريئاً من الخطيئة، والذي كان مجيئه إلى العالم معصوما من معصية آدم ومن الخطيئة الأصلية المتوارثة. وإذا به، أي بالمسيح، ينتقم من الخطيئة فيدفع ثمناً لها تضحيته بذاته وطاعة “حتى الموت” (81). وهو الذي لم يعرف الخطيئة، “جعله الله خطيئة من أجلنا” (82)، وانتقم من الموت الذي ارتبط منذ فجر التاريخ البشري، بالخطيئة. وعندما صار الانتقام من الموت، صار بموت ذاك الذي ما وصمته خطيئة والذي كان وحده باستطاعته أن يميت الموت بموته (83). وهكذا كشف صليب المسيح، الذي أرضى به الابن المساوي للآب في الجوهر، عدالة الله، كشفا “عميقا” عن الرحمة، أو بالأحرى عن المحبة التي تناصب الشرّ المتغلغل في تاريخ الإنسان: أي الخطيئة والموت.
فالصليب إذن هو انعطاف الألوهة العميق إلى الإنسان وإلى كل ما يسميّه الإنسان، أبان المحن والشدائد، بسوء المصير. والصليب مسحة محبة أبدية على أشد الجراح إيلاما في حياة الإنسان الدنيا، وتمام المنهج المسيحاني الذي أعلنه السيد المسيح يوماً في مجمع الناصرة (84) وردّده أمام رسولي يوحنا المعمدان (85)؛ ويرمي هذا المنهج، على ما قال أشعيا في نبؤته (86)، إلى كشف المحبة الرحيمة للفقراء والمتألمين والأسرى والعميان والمظلومين والخطأة. وفي السر الفصحي، تُتخطى حدود الشر، على أنواعه، الذي يشترك فيه الإنسان في الحياة الدنيا؛ لأن صليب المسيح يدفعنا إلى الغوص على أصول الشر الضاربة في الخطيئة والموت، ويصبح هكذا علامة أخروية. ولدى انتهاء الأزمنة وتجديد العالم الآخر مرة تتغلب المحبة، في قلوب جميع المختارين، على بؤر الفساد والشر لتفضي إلى ملكوت الحياة والقداسة والخلود السعيد وكأنه ثمرة لها ناضجة. وينهض أساس النهاية الأخروية على صليب المسيح وموته. وأن يكون المسيح “قد قام في اليوم الثالث”، فهذه آخر علامات الرسالة المسيحانية، وهي تكّمل الكشف التام عن المحبة الرحمية في عالم يخضع للشر، وهذا ما يشكّل أيضاً في الوقت عينه علامة تبشرّ مسبقا “بسماء جديدة وأرض جديدة” (88)، عندما “يمسح الله كل دمعة من عيونهم. ولا يبقى موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع، لأن الأشياء القديمة زالت” (89).
وعندما يحلّ اليوم الأخير، تتجلّى الرحمة محبة، فيما يجب في الحالة الحاضرة، في تاريخ البشر – تاريخ الخطيئة والموت معا – أن تتجلّى المحبة رحمة على الأخص وأن تتحقق على هذا الوجه. ويصبح قصد المسيح المسيحاني – قصد الرحمة – منهج شعبه وكنيسته. وفي وسط هذا المنهج يتعالى دائما الصليب لأن تجلّي الرحمة يبلغ فيه القمة. وما لم تَزل “الأشياء القديمة” (90)، يبقى الصليب ذاك “المكان” الذي يمكن أن تنطبق عليه أقوال يوحنا في سفر الرؤيا: “ها أنا واقف على الباب أدقّه، فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب، دخلت إليه وتعشّيت معه وتعشّى هو معي” (91). ويظهر الله أيضاً رحمته، بطريقة خاصة، كلمّا استحث الإنسان على اصطناع “الرحمة” إلى ابنه، أعني إلى المصلوب.
إن المسيح المصلوب هو الكلمة التي لا تزول (92)؛ وهو من يقف على الباب يدّق على قلب كل إنسان (93)، دون أن يخنق حريته، لكنه يسعى إلى أن يستخرج من هذه الحرية محبة لا تكون فعل رضى وتضامن مع ابن الإنسان المتألم وحسب، بل تكون أيضاً رحمة، نوعا ما، يبديها كل منا لابن الآب الأزلي. وفي كل عمل مسيحاني يقوم به المسيح، وفي كل بادرة رحمة تتم بواسطة الصليب، أفلا تمكن المحافظة على كرامة الإنسان محافظة أشدّ وإحاطتها بتكريم أوفر، عندما يختبر الإنسان الرحمة، و”يظهر هذه الرحمة” في الوقت عينه؟
أفلا يُظهر المسيح للإنسان مثل هذا الاستعداد الباطني عندما يقول: “كلّما صنعتم ذلك لأحد هؤلاء… فلي صنعتموه”؟ (94). أفلا توجز عبارة خطاب الجبل “طوبى للرحماء، فإنهم يرحمون” (95)، نوعا ما، كل البشارة الطيبة، وكل ما تنطوي عليه من “مبادلة عجيبة”، هي القاعدة البسيطة، الصحيحة، “العذبة” للتدبير الخلاصي؟ وعبارات خطاب الجبل هذه التي تظهر منذ البدء ما يقوى عليه القلب البشري – وهو القدرة على الرحمة – أفلا تكشف، وفق هذه النظرة، عن عمق سرّ الله: أي عن هذه الوحدة التي لا يسبر غورها والتي هي قائمة بين الآب والابن والروح القدس، والتي تعانق فيها المحبة العدالة وتفسح الطريق للرحمة التي تكشف بدورها عن كمال العدالة؟ وسر الفصح هو المسيح في قمة الكشف عن سرّ الله الذي لا يدرك. ويتمّ إذ ذاك، على أكمل وجه ما قيل في العلّية: “من رآني رأى الآب” (96)، لأن المسيح الذي لم يشفق (97) عليه الآب من أجل الإنسان والذي لم يحظ في غمرة ما قاسى من آلام مبّرحة على الصليب، برحمة البشر، أظهر في قيامته ملء هذه المحبة التي يكنّها له الآب، ومن خلاله، لجميع الناس: “وما كان إله أموات، بل إله أحياء” (98). وأبان السيد المسيح بقيامته إله المحبة الرحمية، لأن ارتضى الصليب طريقاً إلى القيامة. ولذا عندما نذكر صليب المسيح وآلامه وموته يتركّز إيماننا ورجاؤنا على القائم من الأموات: على المسيح الذي “في ذلك اليوم الذي هو أول أيام الأسبوع… وقف بينهم” في العلّية، حيث كان التلاميذ… ونفخ وقال لهم: “اقبلوا الروح القدس. من غفرتم له خطاياه تغفر له، ومن امسكتموها عليه أمسكت” (99).
وهو ذا ابن الله قد أحسّ إحساساً عميقاً، لدى قيامته، بما ظهر له من رحمة أي بمحبة الآب التي هي أقوى من الموت. وهو ذا أيضاً المسيح عينه، ابن الله الذي، عندما انتهت رسالته المسيحانية وحتى بعد انتهائها، أظهر ذاته ينبوعا للرحمة التي لا تنضب وللمحبة عينها التي – على ما يدل عليه فيما بعد تاريخ الخلاص في الكنيسة – لا بد من أن تبقى أقوى من الخطيئة. فالمسيح الفصحي هو تجسيد أخير مستمرّ للرحمة وعلامتها الحية: التاريخية الخلاصية والأخروية أيضاً. وبهذه الروح تضع طقوس الزمن الفصحي المقدسة على شفاهنا ما يقول المزمور: “بمراحم الرب أرنّم إلى الأبد” (100).
9- أم الرحمة
هذا النشيد الفصحي الذي تنشده الكنيسة يرددّ العبارات – بما فيها من أصداء نبوية – التي فاهت بها العذراء لدى زيارتها اليصابات قرينة زكريا: “ورحمته من جيل إلى جيل” (101). وتأتي هذه العبارات، منذ بدء التجسد، برؤية جديدة لتاريخ الخلاص. وهذه الرؤية الجديدة هي، بعد قيامة السيد المسيح، في وقت معا، تاريخية وأخروية. ومنذ ذلك الحين، تتعاقب أجيال الناس وتتزايد في العائلة البشرية الكبرى، وتتبعها كذلك أجيال جديدة من شعب الله المطبوع بطابع الصليب والقيامة “والموسوم بوسم” (102) سرّ المسيح الفصحي، أعني سرّ تجلّي هذه الرحمة التي نادت بها مريم على عتبة بيت نسيبتها قائلة: “ورحمته من جيل إلى جيل” (103).
ومريم، فضلاً عن ذلك، هي التي عرفت بطريقة فريدة خارقة – لم يعرفها أحد سواها – الرحمة، وتمكنت في الوقت عينه، وكذلك بطريقة خارقة، بتضحية قلبها، من أن تشارك في الكشف عن الرحمة الإلهية. وترتبط هذه التضحية ارتباطاً وثيقاً بصليب ابنها الذي استظلته على الجلجلة. وتضحيتها هذه هي اشتراك فريد في نشر الرحمة، أي اشتراك أمانة الله المطلقة لمحبته وللعهد الذي شاءه منذ الأزل، والذي أبرمه في الزمن مع الإنسان والشعب والجنس البشري، وهو اشتراك في الكشف عن الرحمة الذي تمّ نهائياً بواسطة الصليب. وما من أحد اختبر كمريم، أم المصلوب، سرّ الصليب، أي هذا اللقاء المذهل بين العدالة الإلهية السامية والمحبة: هذه “القبلة” التي طبعتها الرحمة على جبين العدالة (104) وما من أحد تقبّل في نفسه، كمريم، هذا السرّ، سرّ الفداء الإلهي الذي تحققّ بموت الابن على جبل الجلجلة، تواكبه تضحية قلبها، قلب الأم، وقولها الحاسم الجازم “فليكن”.
مريم هي إذن تلك التي عرفت معرفة عميقة سرّ الرحمة الإلهية، وعرفت أيضاً ما له من ثمن وأدركت كم هو عظيم. وأنّا، بهذا المعنى، ندعوها أم الرحمة وسيدة الرحمة أو أم الرحمة الإلهية. ويتضمّن كل من هذه الألقاب معنى لاهوتياً عميقاً، لأنها تعرب عن استعداد نفسها وذهنها وشخصها بكامله استعدادا خاصا لاكتشاف هذه الرحمة – أولاً من خلال ما جرى لإسرائيل من أحداث معقّدة ثم من خلال الأحداث التي تتأتّى لكل من الناس ولكل الناس – التي صار الاشتراك فيها من “جيل إلى جيل” (105)، وفقاً لقصد الثالوث الأقدس منذ الأزل.
وهذه الألقاب، التي نخلعها على أم الله، تتحدّث، على الأخص، عنها بوصفها أم المصلوب والقائم من الموت، وبوصفها تلك التي “تستحق” – بعد أن خبرت الرحمة بطريقة خارقة – هذه الرحمة بالقدر عينه طوال حياتها على الأرض، ولا سيما، عندما كانت على أقدام صليب ابنها، وهي تحدّثنا أخيراً عنها كتلك التي دُعيت بطريقة خاصة، باشتراكها بمهمة ابنها المسيحانية اشتراكا خفياً لا مثيل له، لكي تحمل إلى الناس هذه المحبة التي جاء ابنها يعلنها: هذه المحبة التي تجد خير تعبير لها في العناية بالمتألمين والفقراء والأسرى والعميان والمظلومين والخطأة، على ما قال السيد المسيح، حسبما جاء في نبوءة أشعيا، أولا في مجمع الناصرة (106)، ثم عندما أجاب على السؤال الذي وجهّه إليه رسولا يوحنا المعمدان (107).
واشترك قلب هذه الأم، التي أصبحت أم المصلوب والقائم من الموت، اشتراكاً فريداً خارقاً في هذه المحبة “الرحمية” التي تتجلّى خاصة أمام السرّ الطبيعي والأدبي. أجل لقد اشتركت مريم في هذه المحبة، وفيها وبواسطتها لا تنقطع هذه المحبة عن التجلّي في تاريخ الكنيسة والبشر، وهو تجلّ مثمر، على الأخص، لأنه يرتكز، لدى أم الله، على ما في قلبها، قلب الأم، من شعور خاص، وعلى ما لها من إحساس فريد وقدرة على الوصول إلى كل الذين يرضون بسهولة بمحبة الأم الرحمية. وهذا سرّ من أسمى أسرار الدين المسيحي وأخصبها للحياة، وهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسرّ التجسدّ.
ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا المجال: “وإن أمومة مريم هذه في تدبير الخلاص لتستمرّ دونما انقطاع منذ الرضى الذي أبدته بأمانة في البشارة وحافظت عليه بلا تردد تحت الصليب، حتى بلوغ جميع المختارين الدائم وإنها لم تتخلّ عن هذا الدور الخلاصي بانتقالها إلى السماء، لكنها لا تزال باستشفاعاتها الكثيرة تنال لنا نعم الخلاص الأبدي. وإنها تسهر بمحبتها الوالدية على إخوة ابنها المسافرين وسط المخاطر والضيقات، حتى يبلغوا الوطن السعيد” (108).
-6-
“رحمة… من جيل إلى جيل”
10- صورة جيلنا
في اعتقادنا، وهو اعتقاد حقّ، أن ما قالته العذراء، وهي تمتدح هذه الرحمة التي يشارك فيها “من جيل إلى جيل” الذين تسيرّهم مخافة الله، يشمل أيضاً جيلنا. وأن لعبارات “تعظّم” المريمية مضمونا نبويا لا يتناول ماضي إسرائيل وحسب، بل مستقبل شعب الله على الأرض، لأننا نحن الذين نسكن الأرض حاليا نؤلّف الجيل الذي نعرف أنه يقترب من الألف الثالث ونشعر شعوراً عميقا بما يحدث من تحوّل اليوم في التاريخ. إن عصرنا هذا يعرف أنه سعيد بما يضع التقدم في متناوله من إمكانيات لا تحصى، ما كان ليحلم بها لسنوات مضت. لقد أحدث نشاط الإنسان الخلاّق وذكاؤه وأعماله تغييرات هائلة في حقل العلم والتقنية وفي حقل الاجتماع والثقافة. لقد بسط الإنسان سلطانه على ما في الطبيعة واكتسب معرفة واسعة بقوانين تصرفه الاجتماعي، ورأى كذلك الحواجز والمسافات تسقط وتضيق بين الناس والشعوب بفضل الشعور المتزايد بالشمولية والإحساس المتناهي بوحدة الجنس البشري والتسليم بالترابط القائم على التضامن الصحيح والرغبة في إقامة العلاقات مع الإخوة والأخوات والقدرة على ذلك رغم ما يقام من حواجز جغرافية وحدود وطنية وعرقية. ويعرف شبان اليوم، على الأخص، أن التقدم العلمي والتقني بإمكانه، لا أن يأتي بخيور مادية جديدة فقط، بل أن يفسح في المجال لاشتراك أوسع في المعرفة الإنسانية. فتقدّم وسائل نشر الأنباء والمعلومات، مثلا، يضاعف طاقات الإنسان الخلاّقة ويتيح له الإفادة مما لدى الشعوب الأخرى من غنى عقلي وثقافي.
وأسباب الاتصال الجديدة تساعد على اشتراك متزايد في الأحداث وتبادل أوسع للمعارف. وما توصلت إليه العلوم البيولوجية والنفسانية والاجتماعية تسعف الإنسان على الغوص على ما في كيانه من كنوز. وبالرغم من أن تقدّما كهذا لا يزال، في الغالب، وقفا على الشعوب المتقدّمة صناعيا، فلا نكير أن جميع الشعوب والأمم يمكنها، في الآتي من الأيام، أن تشترك في فوائد هذا التطوّر، وأن ذلك ليس بحلم جميل، على أن تعمل على تحقيقه إرادة سياسية مخلصة.
ولكن علاوة على ذلك، أو بالأحرى دون ذلك، صعوبات يبدو أنها في تزايد مستمرّ. فالقلق والعجز يحولان دون جواب صريح مخلص يعرف الإنسان أن عليه أن يعطيه. وفي صورة عالم اليوم ظلال واختلال في التوازن لا يبقى دائما من الأشياء على السطح. وليس الدستور الرعوي الذي أصدره المجمع الفاتيكاني الثاني بالوثيقة الوحيدة التي عالجت موضوع حياة جيلنا، ولكنها وثيقة لها وزن كبير. وإليك ما جاء فيها:
“والحق يقال أن عدم التوازن الذي يسود العالم الحاضر مرتبط بعدم توازن آخر أكثر عمقا نبتت جذوره في قلب الإنسان. ففي أعماق الإنسان تتصارع عوامل كثيرة إذ أنه، من جهة، بوصفه مخلوقا، يدرك أنه محدود في الكثير من إمكانياته، ومن جهة أخرى، يشعر بأن رغباته لا حدّ لها وبأنه مدعوّ إلى حياة أسمى، فهو بين هذه العوامل المتصارعة، مضطر باستمرار أن يختار بين هذا وذاك. وأن يتخلّى عن هذا وذاك، والأسوأ من هذا أنه كمخلوق ضعيف وخاطئ يفعل ما لا يريد، ويحجم عن فعل ما يودّ أن يفعل، وبالاختصار فهو يشكو من انقسامه على نفسه. وهذا هو مصدر ما ينشأ في أحضان الجامعة البشرية من خلافات عديدة وجسيمة” (109) وإليك أيضا ما جاء في نهاية المقدمة: “حيال التطور المعاصر، هناك عدد متزايد من الناس يلقون على أنفسهم أسئلة أساسية أو يشعرون بها شعوراً غير مألوف. ومن هذه الأسئلة: ما هو الإنسان؟ وما هو معنى الألم، والشرّ، والموت؟ وهي كلها وقائع لا تزال قائمة رغم ما أحرزه العالم من تقدّم. وما فائدة كل هذه الانتصارات التي ندفع ثمنها غاليا” (110).
بعد انقضاء هذه السنوات الخمس عشرة على اختتام المجمع الفاتيكاني الثاني، ترى هل باتت هذه التوتّرات والتهديدات التي تطبع عصرنا، أقل ازعاجاً لنا منها في ما مضى؟ يبدو أن العكس هو الأصح. ذلك أن هذه التوترات والتهديدات التي بدت في وثيقة المجمع تذرّ قرنها إذ ذاك، دون أن تكشف عن كل ما كانت تخفيه في أعماقها من أخطار، توضّحت في هذه الفترة الأخيرة، وأكدّت بطريقة مختلفة هذه الأخطار، وهي لا تجيز لنا أن نؤخذ بعد بالأوهام.
11- مبعث قلق
لهذا يتعاظم في عالم اليوم الشعور بالخطر ويشتدّ هذا الخوف على الحياة اليومية الذي يرتبط قبل كل – على ما المحنا إليه في رسالتنا العامة فادي الإنسان – باحتمال وقوع نزاع مسلحّ قد يؤدي، على الأقل، بقسم من الجنس البشري إلى إبادة ذاته لما تكدّس في العالم اليوم من أسلحة نووية. ولا يقتصر هذا الخطر المداهم فقط على ما باستطاعة الناس أن يفعلوه بالناس، فيما لو استعملوا هذه الأدوات الحربية، لكنه ينطوي أيضا على تهديدات كثيرة أخرى ناشئة عن هذا النوع من المدنيّة المطبوعة بطابع المادة التي، – برغم ما تطلع به من تأكيدات “إنسانية” – تؤثر الأشياء على الشخص البشري. ويخشى الإنسان المعاصر إذا ما استعملت هذه الأدوات التي اخترعها هذه المدنية، أن يتمكّن أفراد من الناس وفئات وجماعات ومجتمعات وأمم من مهاجمة أفراد آخرين من الناس والفئات والمجتمعات ظلما وعدوانا. ولنا على ذلك في تاريخنا المعاصر أمثلة عديدة. وبالرغم من كل التصريحات بشأن حقوق الإنسان النابعة من طبيعته المركبة من نفس وجسد، لا يمكننا القول أن هذه الأمثلة ترقى إلى الزمن الغابر.
ويخشى إنسان اليوم بحق أن يقع ضحية اعتداء يسلبه حريته الداخلية وقدرته على المجاهرة بالحقيقة التي يكون قد اقتنع بها، والإيمان الذي يعترف به، والقوة على تلبية صوت الضمير الذي يرشده إلى الطريق القويم الذي عليه أن يسلكه. وأن ما في متناول المجتمع اليوم من وسائل تقنية لا يخفي قدرة محتملة على تدمير هذا المجتمع ذاته بذاته وحسب، إذا ما نشب نزاع مسلح، بل ينطوي أيضاً على إمكانية إخضاع الأفراد والبيئات والمجتمعات وبلدان بكاملها إخضاعا “سلميّا” لنيره، وذلك إذا ما تبّين أن هؤلاء أصبحوا، لسبب ما، يزعجون أولئك الذين يملكون هذه الأدوات ويكونون على استعداد لاستخدامها دونما رادع من ضمير. ولنفكرّ في ما لا يزال يُمارس في عالم اليوم من تعذيب تلجأ إليه السلطة عن قصد وتصميم، وتستخدمه وسيلة للسيطرة وللضغط السياسي، ويقوم به، دونما عقاب، الزبانية والأتباع.
وبالإضافة إلى الإحساس بما يتهدّد الحياة، هناك وعي متعاظم لخطر آخر قد يقضي قضاء مبرما على ما هو من صميم كيان الإنسان، أي كرامته وحقه في الحقيقة والحرية. ويجري ذلك كله في غمرة من الألم الشديد الناشئ عن وجود أفراد وفئات اجتماعية في العائلة البشرية تتضوّر جوعاً إلى جانب أناس وجماعات يسعدون ويتّمتعون بفيض الخيور ويشكون التخمة مما لديهم من مواد استهلاكية ويسترسلون إلى الملذات. وهناك أطفال يموتون جوعا تحت نظر أمهاتهم، وهناك مناطق واسعة تعاني من الفاقة والشقاء والتخّلف في شتى أنحاء العالم، وفي ظلّ مختلف الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية. وهذا ظاهر للعيان في كل مكان. وما كانت هذه الحالة من الفوارق الكبيرة بين الناس لتبقى على ما هي عليه، لكنها تتسع وتتفاقم. وقد يتأتّى لنا أن نجد اليوم أيضا – إلى جانب من توفّر لهم الغنى وبسطة العيش – أناسا يعيشون في فقر مدقع وشقاء مقيم، وغالبا ما يموتون جوعا، وعم يحصون بعشرات الملايين، لا بل بمئات الملايين. ولهذا السبب إن القلق المستبد بالنفوس لا يمكنه إلا أن يشتدّ ويتعاظم. وواضح أن هناك خطأ أساسيا لا بل مجموعة أخطاء، أو بالأحرى نظاما فاسدا في أساس الاقتصاد المعاصر والمدنية الحاضرة، وهذا ما يحول دون خروج العائلة البشرية من هذه الحالة المخزية الظالمة.
إن هذه الصورة، صورة عالم اليوم – الذي يطغى عليه الشر الطبيعي والأدبي بحيث يبدو معقداً لما فيه من تناقضات ونزاعات، ومليئا في الوقت عينه بالأخطار التي تهدّد الحرية الإنسانية والضمير والدين – تفسّر هذا الاضطراب المستولي على الإنسان المعاصر. ولا نلاحظ هذا القلق فقط لدى المحرومين والمظلومين، بل أيضا لدى الذين يتمتعّون بما يوليه الغنى والتقدّم والسلطان من امتيازات. وبرغم كثرة الذين يبحثون جاهدين عن أسباب هذا القلق، أو يحاولون القضاء عليه بما تضعه التقنية والمال والسلطان في متناولهم من وسائل زمنية، فإنه يبقى قلقا متأصّلاً في نفوس الناس لا تنجع فيه جميع الأدوية. ذلك أنه، على ما أشارت إليه، بحق، شروح المجمع الفاتيكاني الثاني، يمتّ بصلة وثقى إلى قضايا الحياة البشرية الأساسية، ويرتبط بمعنى حياة الإنسان في العالم. إنه قلق على مستقبل الإنسان والبشرية جمعاء، وهو يقتضي له قرارات حاسمة لا بدّ، على ما يبدو، من أن يبادر الجنس البشري إلى أخذها.
12- هل تكفي العدالة؟
من السهل أن نتحقّق أن معنى العدالة قد استيقظ في مجتمعنا الحالي، على أوسع مدى. وهذا شعور يُشدّد، ولا شك، على كل ما يضادّ العدالة في العلاقات التي تقوم، سواء أكان بين الناس والجماعات و”الطبقات”، أم بين الأمم والبلدان والأنظمة السياسية، وحتى، على ما يقال، بين جميع “العوالم”. وهذه النزعة الأصيلة المتعدّدة الأشكال التي يضع ضمير الناس اليوم العدالة في أساسها، تشهد على ما للنزعات والصراعات التي تجتاح العالم من طابع أدبي.
وتشاطر الكنيسة أناس اليوم رغبتهم العميقة الحّارة في حياة عادلة من جميع الوجوه، وما انفكّت تبسط ما يجب له التقدير من مختلف مظاهر العدالة وفقا لما تقتضيه حياة الناس والمجتمعات. وهذا ما يثبه تطور العقيدة الاجتماعية الكاثوليكية التي توضحت تمام خلال هذا القرن وهي تعتمد مبادئ هذه العقيدة، حينا في التربية وفي تثقيف ضمائر الناس بروح العدالة، وحينا آخر في المبادرات الخاصة، ولا سيما في نطاق رسالة العلمانيين التي تدفع إليها هذه الروح.
ومن السهل أن نلاحظ أن المشاريع والأعمال التي يدفع إليها مفهوم العدالة والتي يجب أن تعمل على تحقيق العدالة في حياة الجماعات والمجتمعات الإنسانية، غالبا ما تتشوّه في الواقع وتنحرف عن قصدها. وبالرغم من أنها ترمي دائما إلى تحقيق مفهوم العدالة هذا، فإن الاختبار يدّل على أن قوى أخرى سلبية كالحقد والبغض وحتى الشراسة، تتغلّب عليها، وتصبح إذ ذاك الرغبة في تحطيم العدو واحتجاز حريته وحتى دفعه إلى حالة يكون فيها تحت رحمة سواه، هي الدافع الأول إلى العمل. وهذا ما ينأى عن جوهر العدالة التي ترمي من طبعها إلى إقامة المساواة والتوازن بين الفئات المتخاصمة. وهذه الطريقة في إساءة استعمال مفهوم العدالة وفي تشويهها الواقعي، تظهر كم يبتعد العمل البشري عن العدالة ولو بوشر به باسمها. وما عاب السيد المسيح، دونما سبب، على سامعيه المتمسكّين بتعاليم العهد القديم، موقفهم المستوحى من المثل القائل: العين بالعين والسن بالسن (111).
وكان هذا، في ذلك الزمن، شكلا من أشكال تشويه العدالة. وهو مثل لا تزال تحتذيه أشكال عدالة اليوم. وواضح أنه، استنادا إلى هذه العدالة الموهومة (التاريخية مثلا أو “الطبقية” يُقضى أحيانا على الإنسان ويُقتل ويُسلب حريته ويُجرد من حقوقه الإنسانية الأولية. وعلّم الاختبار، ماضيا وحاضرا، إن العدالة وحدها لا تكفي، إن لم ينفسح المجال لفضيلة أخرى هي المحبة لتكيّف الحياة البشرية على اختلاف وجوهها. وهذا الاختبار التاريخي هو ما أدى، إلى هذا القول المأثور: “منتهى العدالة منتهى الظلم”. ولا ينتقص هذا القول من قدر العدالة ولا يقلّل في شيء من شأن النظام القائم عليها، لكنه، من ناحية أخرى، يشدّد على ضرورة الغوص على قوى روحية أعمق من تلك التي يقوم عليها نظام العدالة.
إن الكنيسة، وهي تضع نصب عينيها صورة العصر الذي نحن فيه، تشاطر الكثيرين من الناس المعاصرين ما يساورهم من قلق، وهي، فضلا عن ذلك، تشعر بالأسى لتدهور كثير من المبادئ السليمة التي تشكّل، ولا شك، لا كنز الآداب المسيحية وحسب، بل كنز الآداب العالمية والثقافة الأخلاقية كاحترام الحياة البشرية منذ بدء تكوينها، واحترام الزواج ووثاقه غير المنفصم، واحترام العائلات. فالإباحية تضرب أول ما تضرب هذه المواقع الحساسة من الحياة البشرية والمجتمع. وتسير مع ما تقدّم، على قدم المساواة، أزمة الحقيقة في العلاقات بين الناس، واللامبالاة بقول الحق والصدق، وطغيان المصلحة الخاصة على ما يعالج الناس في ما بينهم من قضايا، وتضاؤل الشعور بالخير العام الصحيح، والسهولة المتزايدة في تجاوزه. وأخيراً إن هذا كله قد فقد ماله من طابع مقدّس، فأصبح غير إنساني: إن الإنسان والمجتمع اللذين، برغم الظواهر، لم يبق لها ما هو “مقدّس”، قد تنكّرا للأخلاق.
-7-
رحمة الله في رسالة الكنيسة
هذا المشهد الذي يقدّمه لنا عصرنا والذي لا يمكنه إلا أن يثير في نفوسنا القلق العميق، يذكّرنا بالكلمات التي رنّ بها نشيد مريم، منذ أن تجسّد ابن الله، والتي تشيد بالرحمة “من جيل إلى جيل”. وعلى كنيسة هذا العصر، فيما تحتفظ في قلبها بما في هذه الكلمات الموحاة من السماء من بلاغة، وتطبّقها على ما أحرزت العائلة البشرية الكبرى من اختبارات وقاست من آلام، أن تعي وعيا أعمق وأدقّ ضرورة الشهادة لله في كل ما تقدم عليه من أعمال، جرياً على تقليد العهدين القديم والجديد، وتأثّرا، على الأخص، بمثل يسوع المسيح ورسله. وعلى الكنيسة أن تشهد لرحمة الله التي ظهرت في المسيح من خلال ما قام به من أعمال بوصفه المسيح، وعليها أيضا أن تجاهر بهذه الرحمة أولا، وتعلنها حقيقة إيمان خلاصية لا غنى عنها للحياة التي تأتلف والإيمان، وعليها من ثم أن تعمل على إدخالها وتجسيدها، إذا صح التعبير، في حياة أبنائها، وعلى قدر المستطاع، في حياة جميع الناس ذوي الإرادة الصالحة. ومن حق الكنيسة وواجبها أخيرا، إذ تعترف بالرحمة وتبقى أمينة لها على الدوام، أن تستمطرها، أي أن تسأل الله هذه الرحمة في كل حالة يحدث فيها شرّ طبيعي وأدبي، وكلّما هدّد جو الحياة لدى أناس اليوم بالاكفهرار.
13- الكنيسة تعترف برحمة الله وتنادي بها
فمن واجب الكنيسة إذن أن تعترف بالرحمة الإلهية وتنادي بها على حقيقتها على ما تسلّمناها من التقليد. ولقد بذلنا الجهد في الصفحات الأولى من هذه الرسالة لكي نرسم الخطوط الكبرى على الأقل، لهذه الحقيقة التي تتجلّى، بما فيها من غنى، في الكتاب المقدس بمجمله وفي التقليد. ولحقيقة رحمة الله هذه، على ما أعلنتها الكتب المقدسة، صداها الدائم في الكثير من قراءات الليتورجيا المقدسة، وفي حياة الكنيسة اليومية. ويستشعر شعب الله، بما لديه من حسّ إيمان صادق، هذه الرحمة، على ما تدلّ عليه مختلف الممارسات التقوية الفردية والجماعية. وما من شك في أنه يصعب إحصاء جميع هذه الوثائق واختصارها، وهي في مجملها محفورة في أعماق القلوب والضمائر. وإذا كان هناك بعض لاهوتيين يؤكد أن الرحمة أعظم صفات الله وكمالاته، فهذا ما يثبته الكتاب المقدس والتقليد وحياة الإيمان بكاملها لدى شعب الله. ولا يدور الحديث هنا على كمال جوهر الله الذي لا يسبر غوره، في إطار سرّ ألوهته، بل عن كماله وصفته اللتين غالبا ما يقترب الإنسان معهما كل القرب من الله الحي، وفقا لحقيقة حياته الباطنية. وانسجاما مع ما قاله السيد المسيح لفيلبس (112) تجد “رؤية الله” – أي رؤيته عن طريق الإيمان – في هذا اللقاء مع رحمته لحظة فريدة من بساطة داخلية لا تختلف عن تلك التي نجدها في مثل الابن الشاطر.
“من رآني، رأى الآب (113)، إن الكنيسة تبشرّ برحمة الله وتيحا منها في ما اكتسبت من خبرة إيمان واسعة، وما لها من عقيدة، فيما تتأمّل، دونما انقطاع، في المسيح، مركزّة عليه وعلى حياته وإنجيله وصليبه وقيامته وسرّه بكامله. وإن كل ما يكوّن “رؤية” المسيح في إيمان الكنيسة الحي وتعليمها، يقودنا إلى “رؤية الآب” في قداسة رحمته. وتبدو الكنيسة أنها تعترف برحمة الله وتحترمها كل الاحترام، عندما تتجه إلى قلب يسوع. لأننا عندما نقترب من المسيح في سرّ قلبه، يتسنّى لنا أن نتوقّف على هذه النقطة – التي هي نقطة ارتكاز نوعا ما وفي الوقت عينه في متناول الناس – أي نقطة تجلّي محبة الآب الرحيمة التي تشكّل الجزء الأساسي من مهمة ابن الإنسان المسيحانية.
وتحيا الكنيسة حياة حقيقية، عندما تعترف بالرحمة وتنشرها – وهي صفة من أدعى صفات الخالق والفادي إلى الإعجاب – وعندما تقود الناس إلى ينابيع رحمة المخلص التي تختزنها وتوزعها. وللتأمّل المتواصل، في هذا المجال، في كلمة الله، وعلى الأخص، في الاشتراك في الإفخارستيا وسرّ التوبة أو المصالحة، اشتراكا واعيا، فائدة كبرى. وتقرّبنا الإفخارستيا دائما من تلك المحبة التي هي أقوى من الموت: “كلّما أكلنا من هذا الخبز وشربنا من هذه الكأس”، لا نعلن موت الفادي وحسب، بل ننادي بقيامته “حتى مجيئه” في المجد (114)، وتؤكّد ليتورجيا الإفخارستيا – التي يحتفل بها لذكر ذاك الذي أظهر من خلال رسالته المسيحانية الآب بكلمته وصلبه – محبته التي لا تنضب والتي يرغب دائما بواسطتها أن يتّحد بنا وحتى أن يكون حاضرا فينا، ويذهب إلى لقاء جميع قلوب البشر. ويمهّد سر التوبة والمصالحة الطريق لكل إنسان، ولو مثقلا بالخطايا. وهكذا باستطاعة كل إنسان أن يختبر في هذا السرّ، بطريقة فريدة، الرحمة، أعني المحبة التي هي أقوى من الخطيئة. وقد تطرّقت الرسالة العامة. فادي الإنسان، إلى هذا الموضوع الذي تجدر العودة إليه لما له من أهمية.
ولأن الخطيئة موجودة في العالم “هكذا… أحب الله… حتى أنه بذل ابنه الوحيد (115). إن الله الذي “هو محبة” (116)، لا يمكنه إلا أن يظهر نفسه أنه رحمة. وهذا لا يتجاوب والحقيقة السامية، حقيقة مبحة ذاك الذي هو الله، وحسب، بل وحقيقة الإنسان الباطنية الشاملة وحقيقة العالم الذي هو وطنه المؤقت.
والرحمة، بما أنها كمال من كمالات الله غير المتناهي، فهي مثله غير متناهية. ولهذا إن عزم الآب الفوري على استقبال أبنائه العائدين إلى بيته ولو “شاطرين” هو عزم غير متناه، لا ينضب له معين. وإنها غير متناهية أيضا مبادرته إلى الصفح وقدرته عليه، وهما تنبعان باستمرار ممّا لذبيحة ابنه من ثمن عجيب. وما من خطيئة بشر يمكنها أن تتغلّب على هذه القدرة أو تحدّ منها. ولا يطوّقها لدى الإنسان سوى فقدان الإرادة الصالحة وحده، أي فقدان إرادة الارتداد والتوبة، وهذا معناه الإصرار باستمرار على مقاومة النعمة والحقيقة، وعلى الأخص، بعد التنكّر لشهادة صليب المسيح وقيامته.
ولهذا تعترف الكنيسة بالارتداد وتدعو إليه. ويقوم الارتداد إلى الله على اكتشاف رحمته، أعني هذه المحبة التي تصبر وترفق (117)، على مقياس الخالق الآب، وهي محبة يظلّ “الله أبو سيدنا يسوع المسيح” (118)، أمينا لها حتى نهاياتها في تاريخ العهد مع الإنسان: حتى الصليب، أي حتى موت ابنه وقيامته. ولا يمكن الارتداد إلى الله إلا أن يكون ثمرة “اكتشاف” هذا الآب الغني بالرحمة.
ومعرفة إله الرحمة والمحبة السمحاء، معرفة خالصة، هي ينبوع دائم عظيم لارتداد لا يكون فعلا باطنيا عابرا، بل شعورا دائما وحالة نفسية. والذين يعرفون الله بهذه الطريقة، و”يرونه” على هذا الوجه، لا يمكنهم أن يعيشوا إلا وهم يسعون باستمرار إلى الارتداد إليه. إنهم يعيشون إذن في حالة ارتداد، وتحدّد هذه الحالة الشطر الأهم من مسيرة كل الناس على الأرض الذين هم في حالة سفر. وواضح أن الكنيسة تعلن رحمة الله في المسيح المصلوب والقائم من الموت ليس فقط بالإعراب عن عقيدته، بل بالأحرى بنبض الحياة العميق لدى شعب الله بأسره. وبشهادة الحياة هذه، تتابع الكنيسة مهمتها الخاصة، مهمة شعب الله التي تقاسم المسيح رسالته وتواصلها على نحو ما.
وتعي الكنيسة اليوم كل الوعي أنها، على أساس رحمة الله فقط، تستطيع القيام بالمهمة الناتجة عن تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، وفي مقدمتها العمل المسكوني الرامي إلى جمع كل أتباع المسيح. وتقرّ الكنيسة بتواضع، فيما تبذل في هذا السبيل جهودا حثيثة، أن هذه المحبة وحدها التي تتغلّب على ضعف خلافات البشر، يمكنها أن تحقق نهائيا الوحدة التي سألها السيد المسيح أباه والتي لا يفتأ الروح القدس يلتمسها لنا “بانّات لا توصف” (119).
14- الكنيسة تسعى إلى ممارسة الرحمة
علّم السيد المسيح أن الإنسان لا يقبل الرحمة ويختبرها فقط، لكنّه مدعو أيضاً إلى ممارسة هذه الرحمة تجاه الآخرين: “طوبى للرحماء فإنهم يرحمون” (120) وترى الكنيسة في هذا الكلام دعوة إلى العمل، وحافزا على ممارسة الرحمة. وإذا كانت “تطوبيات” خطاب الجبل ترشد إلى طريق الارتداد وتبديل الحياة فإن الطوبى المتعلقة بالرحماء هي، في هذا المجال، بليغة جدا. ذلك لأن الإنسان يبلغ محبة الله الرحيمة وبالتالي، رحمته، على قدر ما يبدّل ما في نفسه وفقا لما تتميزّ به طبيعة محبة القريب.
وما كانت هذه الطريقة الإنجيلية تبديلاً روحيا يتمّ مرة واحدة وإلى الأبد، لكنه نمط حياة وصفة لا غنى عنها تميّز الحياة المسيحية وتلازمها. وهذا يقوم على اكتشاف مستمرّ وممارسة دائمة للمحبة بوصفها فضيلة تجمع وترفع في آن – وذلك برغم جميع الصعوبات النفسية والاجتماعية – لأن الأمر يتعلق بالمحبة الرحيمة التي هي من طبعها محبة خلاّقة. وليست المحبة الرحيمة في العلاقات المتبادلة بين الناس عملا وطريقة تقتصر على طرف واحد، لكن حتى عندما يبدو أن كل ما هنالك يدل على أن هناك طرفا يعطي وحده ويقدم، وأن هناك طرفا آخر يأخذ وحده ويقبل (مثلا الطبيب الذي يعالج، والاستاذ الذي يعلّم والوالدين الذين يعولون أولادهم ويربونهم والمحسن الذي يجود بالمساعدة على المحتاجين)، ففي هذه الحالة، وفي الواقع حتى الذي يعطي، يجني فائدة. وعلى كل حال، إن المعطي عينه قد يجد نفسه في حالة من يقبل أو من يطلب مساعدة أو من يختبر المحبة الرحيمة أو من يسأل الرحمة.
والمسيح المصلوب هو لنا في هذا المجال مثل أعلى وينبوع إلهام علوي، وحافز كبير. وإنا باحتذائنا هذا المثل المؤثّر، نستطيع بكل تواضع أن نبدي الرحمة للآخرين، يقينا منا أن المسيح يتقبّلها وكأنها موجّهة إليه (121)، وعلينا وفقا لهذا المثل عينه، أن ننقّي جميع أعمالنا. ونصفّي جميع نياتنا التي تدخل الرحمة في نطاقها ويمارسها طرف واحد على أنها خير يصطنع إلى الآخرين؛ لأنها تكون إذ ذاك فعل محبة رحيمة، نعتقد راسخ الاعتقاد، عندما نمارسها، أننا نقبلها في آن من أولئك الذين يقبلونها منا؛ وإذا أنجحت التعاطف أنتفت طريقة المبادلة هذه، فلا تكون أعمالنا رحمة، ولا يكون الارتداد الذي تم فينا كاملا – والذي دلّنا المسيح على طريقه بقوله ومثله حتى على الصليب – ولا نكون مشاركين حقا في الينبوع العظيم، ينبوع المحبة الرحيمة الذي هدانا إليه.
وهكذا فإن الطريق التي أرشدنا إليها السيد المسيح في خطاب الجبل، وما ورد فيه من تطويبات، إنما هي أغنى بكثير ممّا يمكننا أن نلاحظه في أراء الناس وأحكامهم العامة في موضوع الرحمة؛ وهم يعتقدون أن الرحمة فعل يقوم به طرف واحد، أو طريقة تعتمدها جهة واحدة، وهي تفترض أو تبقي مسافة بين من يفعل الرحمة وبين من يستفيد منها، بين من يصنع الخير وبين من يقبله. وإلى هذا مردّ الإدعاء القائل بتحرير علاقات الناس والمجتمع من قيود الرحمة، وبتوطيدها على العدالة ليس إلا. ولكن هذه الأحكام في الرحمة لا ترى الرباط الدقيق القائم بين الرحمة والعدالة، والذي يتحدّث عنه التقليد الكتابي، وعلى الأخص، أعمال المسيح المسيحانية. إن الرحمة الصحيحة، إذا جاز القول، أعمق ينابيع العدالة. وإذا كانت العدالة بحد ذاتها صالحة للقيام بدور الحكم بين الناس في توزيع الخيور المادية في ما بينهم، بطريقة متوازنة، فإن المحبة وحدها خلافا لذلك (وأيضا هذه المحبة السمحاء التي نسميها رحمة) تستطيع أن تعيد الإنسان إلى نفسه.
فالرحمة المسيحية الحق هي إذن، نوعا ما، أكمل تجسيد “للمساواة” بين الناس، وبالتالي أكمل تجسيد للعدالة، بما أن هذه العدالة ترمي في نطاقها إلى الغاية عينها. والمساواة التي تقرّها العدالة تنحصر في حدود الخيور المادية الخارجية، فيما المحبة والرحمة تحملان الناس على التلاقي على هذا الخير الذي هو الإنسان، مع ما له من كرامة خاصة به. وأن “مساواة” الناس، في الوقت عينه، عن طريق المحبة “التي تصبر وترفق” (122) لا تزيل الفوارق: من يعط يصبح أكثر سخاء، عندما يشعر في الوقت نفسه أنه جنى فائدة ممّن قبل هذا العطاء، وبالعكس إن من يعرف أن يقبل عطاء، وهو يعي أنه بقبوله إياه يحسن صنعا، فإنه يخدم قضية نبيلة هي قضية كرامة الإنسان؛ وهذا ما يحمل الناس على توثيق عرى الترابط فيما بينهم.
وهكذا تصبح الرحمة عنصرا لا غنى عنه لإنشاء العلاقات المشتركة بين الناس، بروح الاحترام العميق لكل ما هو إنساني وللإخوّة المتبادلة. ويتعذّر إنشاء هذا الرباط بين الناس، إذا أرادوا أن يرسوا علاقاتهم المشتركة فقط على قاعدة العدالة. وفي كل حقل من حقول العلاقات بين الناس يجب إخضاع العدالة، إذا صح التعبير، “لإصلاح” كبير تقوم به المحبة التي، على ما يعلّم القديس بولس، “تصبر وترفق” أو بعبارة أخرى، تتضمن خواص المحبة الرحيمة التي لا غنى عنها للإنجيل وللدين المسيحي. ولنتذكّر، فضلا عن ذلك، إن المحبة الرحيمة تستصحب هذه الرقة وهذا الإحساس الرهيف الذي أبرزه ببلاغة مثل الابن الشاطر (123)، ومثل النعجة والفلس المفقود (124)؛ وهكذا، لا بد من المحبة الرحيمة، على الأخص، للذين تقوم بينهم وشائج قربى: الأزواج، والآباء والأبناء، والأصدقاء. ولا يجوز أن تغيب البتة عن جو التربية والعمل الرسولي.
ولا يقتصر مدى المحبة الرحيمة على هذا المجال. وإذا كان الحبر الأعظم البابا بولس السادس قد أشار، في عدة مناسبات، إلى أن “حضارة المحبة” (125) هي كهدف يجب أن توجّه إليه كل الجهود في الحقل الاجتماعي والثقافي وفي القطاع الاقتصادي والسياسي، فتجدر الإضافة أنه يستحيل بلوغ هذا الهدف ما دمنا نقرّ في تفكيرنا وأعمالنا، التي تتناول قطاعات واسعة صعبة في الحياة المشتركة، مبدأ “العين بالعين، والسن بالسن” (126)، ولا نسعى إلى تحويره وإكماله بروح مغايرة. ومن الثابت أن المجمع الفاتيكاني الثاني يقودنا في هذه الطريق، عندما يشدد، المرة تلو المرة، على ضرورة جعل العالم “أكثر إنسانية” (127)، ويعتمد على الكنيسة اليوم للقيام بهذا الواجب. ولن يصبح عالم الناس “أكثر إنسانية”، إلا إذا أدخلنا في ما للعلاقات الاجتماعية بين الناس من نطاق متعدد الأشكال، بالإضافة إلى العدالة، هذه “المحبة الرحيمة” التي تشكل رسالة الإنجيل المسيحانية. ولا يمكن عالم الناس أن يصبح “أكثر إنسانية” إلا إذا فسحنا في المكان والزمان – في جميع العلاقات المتبادلة التي تكوّن وجهه الأدبي – للمغفرة التي لا بد منها وفقا للإنجيل. ويشهد الصفح على أن المحبة في العالم أقوى من الخطيئة. وفضلا عن ذلك، إن المغفرة شرط هام للمصالحة ليس فقط في العلاقة بين الله والإنسان، بل أيضا في العلاقات المتبادلة بين الناس. وإن عالما تنتفي منه المسامحة يصبح عالم عدالة باردة جافة يسعى كل بموجبها إلى المحافظة على حقوقه في وجه سائر الناس، فيما يفلح ما يسمى بالأنانيات – على اختلاف أنواعها – الهاجعة في أعماق الإنسان في تحويل الحياة الإنسانية المشتركة إلى نظام مستبدّ يرهق فيه الأقوياء الضعفاء أو إلى ساحة صراع دائم بين هؤلاء وأولئك من الناس.
ولهذا، على الكنيسة أن تعتبر أن من أهم واجباتها – في كل مرحلة من مراحل التاريخ، وعلى الأخص، في مرحلتنا هذه – أن تبشّر وتدخل في الحياة سر الرحمة المعلن عنه، على أسمى درجة، بيسوع المسيح. وهذا السر هو، لا للكنيسة وحدها كجماعة مؤمنين، بل على نحو ما، لجميع الناس، ينبوع حياة تختلف عن تلك التي يمكن أن يبنيها الإنسان المعرّض لما يعمل فيه من قوى عاتية تغير بها عليه الشهوة المثلّثة (128). وبقوة هذا السر يعلّمنا المسيح أن نصفح دائما. وكم من مرة ردّدنا كلمات الصلاة التي علّمناها، فسألناه قائلين: “اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا” أعني لمن ارتكب إثما تجاهنا فأساء إلينا (129)؛ إنه يصعب جدا أن نعلن ما للمشاعر التي تحدّدها وتلقّنها هذه الكلمات من قيمة خارقة. وما أكثر ما تقوله هذه العبارات لكل إنسان عن أمثاله من الناس وعن ذاته؛ ويتمشّى الشعور بأن جميع الناس مذنبون بعضهم إلى بعض، على قدم المساواة، مع الدعوة إلى التضامن الأخوي الذي أشار إليه القديس بولس، عندما خصّ بوضوح المؤمنين على “تحملّ بعضهم بعضا بمحبة” (130). وأية أمثولة تواضع نجدها هنا، تجاه الإنسان، وفي الوقت عينه، تجاه القريب والذات. وأية مدرسة إرادة طيبة للتعايش اليومي وفي مختلف الظروفّ وإذا تخطّينا هذا التعليم وتجاهلناه، ماذا ترى يبقى من أي منهج “إنساني” خاص بالحياة والتربية؟
لقد شدّد السيد المسيح كل التشديد على ضرورة المغفرة للآخرين، بحيث أنه، عندما سأله بطرس كم مرة عليه أن يغفر لقريبه خطيئته، أجاب بعدد رمزي: “سبعين مرة سبع مرات” (131)، مشيرا بذلك إلى ما يجب أن يجد في نفسه من القوة على المغفرة لكل من الناس وفي كل وقت. ولكنه واضح إن الوصية السمحاء بالمغفرة لا تقضي على مستلزمات العدالة الحق؛ ذلك أن العدالة في مفهومها الصحيح، تشكّل، إذا جاز التعبير، غاية المغفرة. وما من موضع في الرسالة الإنجيلية تعني فيه المغفرة – والرحمة ينبوعها – التغاضي عن الشر والشكوك والإهانة والإساءة المرتكبة، لأن التفكير عن الشر والشكوك والتعويض عن الإساءة والاهانة شرط للغفران.
وهكذا إن أساس العدالة وتكوينها يدخلان دائما في نطاق الرحمة. وباستطاعة الرحمة أن تعطي العدالة معنى جديدا يتجلّى تماما وببساطة في المغفرة، لأن المغفرة تظهر أنه ما عدا مفهوم “التعويض” “والهدنة” الخاص بالعدالة، لا غنى عن اللجوء إلى المحبة ليثبت الإنسان أنه إنسان. ولا بدّ من أن تتوفّر شروط العدالة، لكي تكشف المحبة عن وجهها المشرق. وعندما أنعمنا النظر في مثل الابن الشاطر، وجّهنا انتباها إلى هذا، وهو: أن من يغفر ومن يُغفر له يلتقيان على نقطة أساسية، أي على الكرامة التي هي خير طبيعي للإنسان، وهو خير لا تجوز إضاعته، وأن التشبّث به أو استعادته هما مصدر فرح عظيم (132).
وترى الكنيسة بحق أن من واجبها، وأن الغاية من مهمتها، المحافظة على طابع المغفرة الأصيل، سواء أكان في الحياة والمسلك، أم في التربية والعمل الرعوي. وهي لا تحافظ عليها إلا بالمحافظة على ينبوعها أي سر رحمة الله الذي أعلن عنه في يسوع المسيح.
ولا نجد أساسا لعمل الكنيسة في جميع الحقول التي تحدّث عنها المجمع الأخير في عدة مواضع، والاختبار الرسولي طوال عدة قرون، غير “النهل من ينابيع المخلص” (133). من هنا هذه القواعد التوجيهية العديدة الخاصة بمهمّة الكنيسة وعملها في حياة كل من المسيحيين، وكل من الجماعات، وحتى في كل شعب الله. ولا يمكن أن يتم “النهل من ينابيع المخلص” إلا بروح الفقر التي دعانا السيد المسيح إليها بالقول والمثل: “مجانا أخذتم، مجانا أعطوا” (134). وهكذا على مختلف طرق الحياة ورسالة الكنيسة – ومن خلال الفقر الإنجيلي الذي يتميّز به خدمتها وموزعو أسرارها وكل شعبها الذي يشهد “لعظائم” ربه – يظهر، على أحسن وجه، الله “الغني بالرحمة”.
-8-
صلاة كنيسة عصرنا
15- الكنيسة تستعين بالرحمة الإلهية
تنادي الكنيسة بحقيقة رحمة الله المعلنة في المسيح المصلوب والقائم من الموت، وتعترف بهما بأشكال مختلفة، وتسعى دائما، فضلا عن ذلك، إلى ممارسة الرحمة تجاه الناس بواسطة الناس؛ وهي ترى في ذلك شرطا لا بد منه لتتمكّن من الاهتمام بعالم أفضل “وأكثر إنسانية”، سواء أكان اليوم أم غدا. ولا تستطيع الكنيسة أن تنسى، في أي زمن كان، ولا في أية مرحلة تاريخية – وعلى الأخص إبّان الشدائد كالتي نشهدها في أيامنا – الصلاة التي تسأل بها الله في وجه مختلف أشكال الشرور التي تضيّق الخناق على الجنس البشري وتتهدّده. وهذا من أهم حقوق الكنيسة التي تحيا في المسيح وواجباتها. وهما حق وواجب تجاه الله والناس. وبقدر ما يفقد الضمير الإنساني، تحت تأثير العلمنة، معنى كلمة “الرحمة”، وبقدر ما يبتعد عن الله وينأى بالتالي عن سر الرحمة، فإن للكنيسة بالقدر عينه، الحق والواجب في التوجّه إلى رحمة الله “بصراخ شديد” (135). وهذا الصراخ الشديد الذي تتميّز به كنيسة عصرنا، تتجه به إلى الله لتسأله الرحمة التي تعترف بها، وتجاهر بأنها ظهرت ظهورا أكيدا في المسيح المعلّق على الصليب والقائم من بين الأموات، أي في السر الفصحي. ويتضمن هذا السر، فضلا عن ذلك، الكشف التام عن الرحمة، أي هذه المحبة الأقوى من الموت والأقدر من الخطيئة ومن أي شرّ، المحبة التي ترفع الإنسان من الدرك الذي انحدر إليه، وتحرّره في الوقت عينه من أشد المخاطر.
ويشعر الناس في أيامنا بهذه المخاطر. وإن ما قلناه سابقا في هذا المجال، لا يرسم عن الحالة الحاضرة إلا خطوطها الكبرى، وغالبا ما يتساءل إنسان اليوم في قلق عظيم: كيف السبيل إلى حلّ النزعات الرهيبة التي تراكمت في العالم وتعقّدت بين الناس. وإذا كان لا يجرؤ على التلفّظ بكلمة “رحمة” أو إنه لا يجد في ضميره الفارغ من الشعور الديني، لفظة بالمعنى عينه، فعلى الكنيسة، بالأحرى، أن تذيع هذه اللفظة لا باسمها وحسب، بل باسم جميع أناس عصرنا.
ويجب أخيرا أن يتحوّل كل ما قلناه في هذه الصفحات عن الرحمة، صلاة حارة: أن يتحوّل صراخا يسأل الرحمة، وفقا لحاجة الناس في عالم اليوم. وليكن هذا الصراخ مثقلا بالحقيقة الشاملة عن الرحمة التي عبّرت عنها بإسهاب الكتب المقدسة، والتقليد، وحياة الإيمان الحقيقية لدى العديد من أجيال شعب الله. ولنبتهل بهذا الصراخ، على مثال الأنبياء، إلى الله الذي لا يمكنه أن يمقت شيئاً من خلقه (136)، إلى الله عينه الأمين لذاته ولأبوته ولمحبته. ولنتجه، على مثال هؤلاء الأنبياء، إلى محبته التي تحمل طابع الأمومة وتتابع، على مثال الأم، كلا من أبنائها، وكل نعجة ضائعة، ولو كان عدد الضائعين آلاف الآلاف، ولو طغى الشر في العالم على الخير، ولو استأهل الناس في أيامنا بسبب الخطايا، “طوفانا جديدا”، مثلما استأهله جيل نوح في غابر الأيام. فلنهرع إلى هذه المحبة الأبوية، التي كشفها لنا السيد المسيح بعمله المسيحاني، والتي بلغت ذروتها بموته على الصليب وقيامته. ولنلذ بحمى الله في المسيح مستذكرين نشيد مريم “لنعظم” الذي مجّد الرحمة “من جيل إلى جيل”. ولنستمطر الرحمة الإلهية على أناس عصرنا. ولتعلن الكنيسة التي تسعى، على مثال مريم، إلى أن تكون أما في الله للناس، في هذه الصلاة، اهتمامها، وفي الوقت عينه، محبتها الواثقة التي تتفتّق عن أمسّ الحاجة إلى الصلاة.
فلنرفع إذن ابتهالاتنا، بدافع من الإيمان والرجاء والمحبة التي أفرغها السيد المسيح في نفوسنا. وما هذه الملكة الذهنيّة سوى محبة الله الذي استبعده أحيانا إنسان اليوم، لا بل تنكّر له مؤكدا، بشتى الطرق، أنه “بغنى عنه”. إنها إذن محبة الله الذي، شعورا منا عميقا بإهانة الناس إياه، وأعراضهم عنه، نريد أن نهتف إليه قائلين: “اغفر لهم، يا أبتاه، لأنهم لا يدرون ما يصنعون” (137). وهي، في الوقت عينه، محبة للناس، ولجميع الناس، دونما استثناء أو تفرقة: دونما نظر إلى عرق وثقافة ولغة ونظرة إلى العالم، دونما تمييز بين أصدقاء وأعداء. هذه المحبة للناس تتمنّى كل خير لكل منهم، ولكل جماعة بشرية، ولكل عائلة، ولكل أمة ولكل فئة اجتماعية، للشبان والبالغين، للأهل والشيوخ والمرضى، محبة للجميع دونما شرط. هذه المحبة هي الاهتمام الخاص بتوفير كل خير صحيح لكل من الناس وتجنيبه كل شر وإبعاده عنه.
وإذا كان أحد الناس من معاصرينا لا يشاطرنا الإيمان والرجاء اللذين يحملان، نحن خدام المسيح وموزعي أسرار الله (138)، على التماس رحمته تعالى، في هذه الفترة من التاريخ، للجنس البشري بأجمعه، فليحاول على الأقل أن يتفهّم ما يدعونا إلى هذا الاهتمام الذي تمليه علينا محبتنا للإنسان، ولجميع ما هو إنساني، وهو في اعتقاد الكثيرين من معاصرينا، معرّض لخطر كبير. لقد دفعنا سرّ المسيح، الذي كشف لنا دعوة الإنسان السامية، إلى التشديد في رسالتنا العامة: فادي الإنسان، على كرامته الإنسانية المنقطعة النظير، وهو يحدونا، في الوقت عينه، إلى إعلان الرحمة، بوصفها محبة الله الرحيمة، التي تجلّت في سر المسيح هذا. ويدعونا هذا السر أيضاً إلى الارتداد إلى الرحمة، والتماسها في هذه الفترة العصيبة الحاسمة من تاريخ الكنيسة والعالم، ونحن نشرف على نهاية سنة الألفين.
وإنّا باسم يسوع المسيح المصلوب والقائم من الموت، وبروح عمله الرسولي المستمر في تاريخ الجنس البشري، نرفع الصوت بالصلاة، ملتمسين مجدّدا، في هذه الفترة من التاريخ، تجلّي المحبة، وإحضارها، بالابن والروح القدس في عالم اليوم، احضارا يكون أقوى من الشر: أعني أقوى من الخطيئة والموت. وإنّا نبتهل بوساطة تلك التي ما فتئت تعلن “الرحمة من جيل إلى جيل”ن وبشفاعة أولئك الذين تمتّ فيهم أخيرا عبارة خطاب الجبل القائلة: “طوبى للرحماء فإنهم يرحمون” (139).
وعلى الكنيسة، وهي تواصل مهمتها الكبيرة في وضع المجمع الفاتيكاني الثاني موضع العمل – ويمكننا أن نرى في هذا المجمع بحق، مرحلة جديدة تسعى فيها الكنيسة إلى تحقيق ذاتها، وفقا لمقتضيات العصر الذي تأتى لنا أن نعيش فيه – أن تسير دائما بهدي هذه الفكرة، وهي أنه لا يجوز لها البتة، لدى قيامها بمهمتها هذه، أن تنطوي على نفسها. إن الغاية من حياتها الكشف عن الله، أي الآب الذي منّ علينا بأن “نراه” في المسيح (140). ومهما اشتدّت مقاومة التاريخ البشري، ومهما تباينت حضارات هذا العصر، ومهما تعاظم الكفر بالله بين الناس، يجب الاقتراب، كل الاقتراب، من هذا السر الذي كان خفيّا في الله منذ الدهور والذي أصبح يشارك فيه الإنسان في الزمن بيسوع المسيح.
وإنّا نمنحكم من صميم القلب البركة الرسولية.
صدر عن روما، قرب القديس بطرس في الثلاثين من تشرين الثاني، أول أحد للمجيء، 1980، وهي الثالثة لحبريتنا.
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) راجع أفسس 2، 4
2) راجع يو 1، 18، وعبر 1، 1 – 2
3) راجع يو 14، 8، 9
4) راجع أفسس 2، 4، 5
5) 2 كور 1، 3
6) دستور رعوي: فرح وأمل، 22: أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966). ص 1042
7) راجع المرجع عينه.
8) 1 تيمو 6، 16
9) روم 1، 20
10) يو 1، 18
11) 1 تيمو 6، 16
12) فيلا نتروبيا: تيطس 3، 4
13) راجع أفسس 2، 4
14) راجع تك 1، 28
15) دستور رعوي: فرح وأمل، 9: أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966). ص 1032
16) 2 كور 1، 3
17) متى 6، 4، 6، 18
18) راجع أفسس 3، 18؛ أيضاً لو 11، 5 – 13
19) لو 4، 18 – 19
20) لو 7، 19
21) لو 7، 22 – 23
22) 1 يو، 4، 16
23) راجع أفسس 2، 4
24) لو 15، 11 – 32
25) لو 10، 30 – 37
26) متى 18، 23 – 35
27) متى 18، 12 – 14؛ لو 15، 3 – 7
28) لو 15، 8 – 10
29) متى 22، 38
30) متى 5، 7
31) راجع قضاة 35، 7 – 9
32) راجع 1 ملوك 8، 22 – 53
33) راجع ميخا 7، 18 – 20
34) راجع أشعيا 1، 18، 51، 4 – 16
35) راجع باروك 12، 11؛ 3، 8
36) راجع نحميا 9
37) راجع مثلا هوشع 2، 21 – 25؛ اشعيا 54، 6 – 8
38) راجع ارميا 31، 20؛ حزقيال 39، 25 – 29
39) راجع 2 صموئيل 11، 12؛ 24 ، 10
40) راجع أيوب في مختلف المواضع.
41) استير 4، 17 وما يلي.
42) راجع مثلا نحميا 9، 30- 32؛ طوبيا 3، 2 – 3، 11 – 12؛ 8، 16 – 17؛ 1 مكابيون 4، 24
43) راجع خروج 3، 7 – 8
44) راجع اشعيا 63، 9
45) خروج 34، 6
46) راجع عدد 14، 18؛ تثنية 30، 9؛ نحميا 9، 17؛ مز 86 (85) حكمة 15، 1 سيراخ؛ 2، 11؛ يوئيل 2، 13
47) راجع اشعيا 63، 16
48) راجع خروج 4، 22
49) راجع هوشع 2، 3
50) راجع هوشع 1، 7 – 9؛ ارميا 31، 20؛ اشعيا 54، 7 – 8
51) راجع مزمور 103 (102) و 145 (144)
52) عندما تحدد أسفار العهد القديم الرحمة، فهي تستعمل على الأخص، تعبيرين لكل منهما معنى يختلف اختلافا دقيقا عن الآخر من حيث علم معاني الألفاظ. فهناك أولا لفظة “حسد” التي تدل على مشاعر “طيبة” عميقة. وكلما نشأت هذه المشاعر بين اثنين من الناس أراد الخير أحدهما للآخر، وكانا في الوقت عينه، أمينين وفيين. وإذا كانت لفظة “حسد” تعني “نعمة” أو “محبة” أيضا، فإن ذلك ناشيء عن هذه الأمانة. وإذا كان من طبيعة هذا الالتزام المشار إليه ألا يكون أدبيا وحسب، بل موجبا من باب الحق والعدل، فما كان ذلك ليبدّل من الواقع شيئا. وكلما استعملت لفظة “حسد” في العهد القديم للحديث عن الرب، فإنها تشير دائما إلى العهد الذي أبرمه الله مع إسرائيل. وكان ذلك العهد عطية من الله ونعمة لإسرائيل. ولما كان لا بد من تنفيذ هذا العهد المبرم مع الله كان من الواجب، اتماما لذلك، أن ترتدي لفظة “حسد” طابعا، نوعا ما، قانونيا. ولكن الله لم يكن ليتقيد بالزام قانوني، عندما كان إسرائيل يحنث بالعهد ولا يتم شروطه. ولكن عندما تفقد “حسد” رباطها القانوني، كان ينكشف مضمونها الأسمى: كانت تتفتّق، كما كانت في البدء، عن معنى المحبة التي تعطي، المحبة الأغلب من الخيانة، والنعمة الأقوى من الخطيئة. (راجع مرائي 4، 3، 6).
هذه الأمانة “لبنت شعبي” الغير الأمينة هي في النهاية أمانة الله لذاته. وهذا ما يظهر جليا على الأخص في استعمال الثنائي “حسد وامت” (أي نعمة وأمانة) الذي يمكن اعتباره صورة بيانية تعبر بلفظتين عن شيء واحد. (راجع مثلا خروج 34، 6؛ 2 صموئيل 2، 6؛ 15، 20؛ مز 25 * 24″، 10؛ 40 * 39″ 11 – 12؛ 85 * 84″، 11؛ 138 (137) 2، ميخا 7، 20). “ليس لأجلكم أنا فاعل، يا آل اسرائيل، لكن لأجل اسمي القدوس” (حزقيال 36، 22). ولهذا لا يستطيع إسرائيل المكبّل باثم حنث العهد أن يجرؤ على طلب “حسد” الله من باب العدالة (الشرعية)، ولكن يمكنه ويجب عليه أن يثبت على الأمل والثقة بأنه سيظفر بذلك، لأن إله العهد مسؤول في الواقع عن محبته. وثمرة هذا النوع من المحبة إنما هو الغفران واستعادة النعمة وتجديد العهد الباطني.
واللفظة الثانية التي يستعملها العهد القديم لوصف الرحمة هي “رحاميم” ولا يختلف معناها إلا قليلاً عن لفظة ” حسد”. وفيما “حسد” توضح ميزات الأمانة للذات، ومسؤولية الإنسان عن محبته الخاصة (وهي صفات الذكر نوعاً) فإن “رحاميم” تدّل أصلاً على محبة الأم (الرحم – حشاء الأم). وتنشأ عن الرباط الأوثق الأصيل، لا بل عن الارتباط القائم بين الأم والطفل، علاقة خاصة أعني محبة فريدة. ويمكن القول عن هذه المحبة أنها مجانية وليست ثمرة أي استحقاق. وهي لهذا السبب تحدث ضرورة باطنية: إنها من متطلبات القلب. وهذا تنوّع شبه “أنثوي” لتلك الأمانة “الذكرية” للذات المشار إليها بلفظة “حسد”. إن لفظة “رحاميم” وفقاً لهذه القاعدة النفسية تولّد عدة مشاعر من بينها الطيبة والحنان وطول الأناة والشفقة والمسارعة إلى الغفران.
ويعزو العهد القديم إلى الرب مثل هذه الصفات، عندما يستعمل للحديث عنه لفظة “رحاميم”. إنّا نقرأ في أشعيا: “أتنسى المرأة مرضعها فلا ترحم ابن بطنها، لكن ولو أن هؤلاء نسين، لا أنساك أنا”. (أشعيا 49، 15). وقد أعربت نصوص العهد القديم بصور مختلفة، عن هذه المحبة الأمينة التي لا تغلب بفضل ما للأمومة من قوة عجيبة: حيناً كالانقاذ من المخاطر، وعلى الأخص من الأعداء، وحيناً آخر الصفح عن الخطايا، سواء أكانت خطايا الأفراد أم خطايا إسرائيل بأجمعه، وأخيراً كالإسراع في تحقيق الوعد والأمل (الأخروي) برغم عدم الأمانة البشرية على ما نقرأ في هوشع: “إنيّ أشفي ارتدادهم، وأحبهم تبرعاً (هوشع 14، 15).
وعلاوة على ذلك، نجد في لغة العهد القديم، تعابير أخرى تعرب، بطرق مختلفة، عن هذه الفكرة الأساسية. لكن اللفظتين المشار إليهما آنفاً تستحقان اعتباراً خاصاً، لكونهما توضحان وجهيهما القديمين اللذين، يعيران الله صفات بشرية، على مذهب المشبّهة: ذلك أن كتبة العهد القديم كانوا، عندما يتوقّفون على الرحمة الإلهية، يستعملون أقوالاً تتوافق ووجدان أبناء عصرهم واختبارهم. والألفاظ اليونانية المستعملة في النص السبعيني أقل غنى من الألفاظ المستعملة في النص العبراني، فهي لا تؤدي جميع دقائق المعاني التي تؤديها الألفاظ الخاصة بالنص الأصلي. وعلى كل، أن العهد الجديد ينطلق من هذين الغنى والعمق اللذين نجدهما في العهد القديم. وهكذا نتلّقى في صيغة مختصرة، لا هذه التعابير وحسب التي تستعملها هذه الكتب لتجديد الرحمة الإلهية وكأنها أشبه بارث، بل أيضاً “علم نفس” خاصاً بالله يأخذ ولا شك بطريقة مذهب المشبّهة: أعني صورة محبته النابضة التي عندما تناهض الشر، وعلى الأخص خطيئة الإنسان والشعب، تكشف عن ذاتها أنها رحمة. وتتركّب هذه الصورة، لا من معنى لفظة “حنان” العام وحسب، بل أيضاً من محتوى لفظة “حسد” ولفظة “رحاميم”. وتعرب لفظة “حنان” عن مضمون أوسع لأنها تعني تأكيد النعمة التي تحمل معها، إذا صح التعبير، استعداداً دائماً طبياًَ لفعل الخير والسماح.
وما عدا هذه العناصر الأساسية النابعة من معنى اللفظة، يتضمن محتوى الرحمة في العهد القديم معنى لفظة “حمل” التي تعني كتابتها الحرفية “أبقى على (عدو مغلوب)” وتعني أيضاً “أبدى الرحمة والشفقة” وبالتالي فهي تشير إلى الصفح عن الخطيئة والغفران. وتعني كذلك لفظة “حدس” الرحمة والشفقة، إنما بمعنى عاطفي على الأخص. لكن هذه الألفاظ لا تترّدد إلا نادراً في الكتب المقدسة، لتعرب عن الرحمة. وفضلاً عن ذلك يجب أن نلاحظ أن لفظة “أمت” التي أشرنا إليها سابقاً والتي تعني أولا “ثباتاً وأمناً” أو في النص السبعيني اليوناني: “حقيقة” ومن ثم “أمانة” تبدو هكذا مرتبطة من حيث المعنى بمضمون لفظة “حسد” الخاص.
53) راجع مز 40 (30)، 11: 98 (97) 2 – 3؛ اشعيا 45، 21؛ 51، 5، 8؛ 56، 1
54) حكمة 11، 25
55) 1 يو 4، 16
56) ارميا 31، 3
57) اشعيا 54، 10
58) راجع يونان 4، 2، 11؛ مز 145 (144) 9؛ سيراخ 18، 8 0 14، حكمة 11، 23 – 12 ، 1
59) يو 14، 9
60) تجب العودة في كلتا الحالتين إلى لفظة “حسد” أي الأمانة التي يظهرها الله لمحبته الخاصة به التي يجب بها شعبه، وأمانته لمواعيده التي تجد تحقيقها التام في أمومة والدة الله “راجع لو 1، 49 – 50).
61) لو 1، 72 وفي هذه الحالة أيضاً، تجب العودة إلى الرحمة بمعنى “حسد” لأن المعنى الآخر أي “رحاميم” (في الترجمة اللاتينية: أحشاء الرحمة) الذي يدلّ على الرحمة الإلهية دلالته على المحبة الخاصة بآلام، نجده في العبارات التالية يتحدّث فيه زكريا عن “جودة إلهنا الرحومة”.
62) راجع لو 15، 11 – 32
63) لو 15، 18 – 19
64) لو 15، 20
65) لو 15، 32
66) راجع لو 15، 3 – 6
67) راجع لو 15، 8 – 9
68) 1 كور 13، 4 – 8 – أغابيه: كلمة يونانية معناها وليمة أخوية غايتها توثيق روابط الأخوة بين المؤمنين ومساعدة الفقراء.
69) راجع روم 12، 21
70) راجع ليتورجيا اليوم السابق للفصح: لترنم.
71) أعمال 10، 38
72) متى 9، 35
73) راجع مر 15، 37؛ يو 19، 30
74) اشعيا 53، 5
75) 2 كور 5، 21
76) المكان عينه.
77) راجع قانون الإيمان النيقاوي – القسطنطيني.
78) يو 3، 16
79) راجع يو 14، 9
80) متى 10، 28
81) فيلبي 2، 8
82) كور 5، 21
83) راجع 1 كور 15، 54 – 55
84) راجع لو 4، 18 – 21
85) راجع لو 7، 20 – 23
86) راجع اشعيا 35، 5؛ 61، 1 – 3
87) 1 كور 15، 4
88) رؤيا 21، 1
89) رؤيا 21، 4
90) راجع رؤيا 21، 4
91) رؤيا 3، 20
93) راجع رؤيا 3، 20
94) متى 25، 40
95) متى 5، 7
96) يو 14، 9
97) روم 8، 32
98) مر 12، 27
99) يو 20، 19 – 23
100) مز 89 (88)، 2
101) لو 1، 50
102) راجع 2 كور 1، 21 – 22
103) لو 1، 50
104) راجع مز 85 (84)، 11
105) لو 1، 50
106) راجع لو 4، 18
107) راجع لو 7، 22
108) دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم 62: أعمال الكرسي الرسولي 57 (1965) ص 63
109) دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم. فرح وأمل، 10: أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966)، ص 1032
110) الموضع عينه.
111) متى 5، 38
112) راجع يو 14، 9 – 10
113) الموضع عينه.
114) راجع 1 كور 11، 26؛ دعوة في كتاب القداس الروماني.
115) يو 3، 16
116) 1 يو 4، 8
117) راجع 1 كور 13، 4
118) 2 كور 1، 3
119) روم 8، 26
120) متى 5، 7
121) راجع متى 25، 34 – 40
122) راجع 1 كور 13، 4
123) راجع لو 15، 11 – 32
124) راجع لو 15، 1 – 10
125) راجع تعليم بولس السادس، 13 (1975)، ص 1568، خطاب اختتام السنة المقدسة، 25 كانون الأول 1975
126) متى 5، 38
127) دستور رعوي فرح وأمل، 40: أعمال الكرسي الرسولي 58 (1966) ص ص 1057 – 1059؛ بولس السادس؛ إرشاد رسولي: مع إرادة طيبة أبوية، على الأخص عدد 1 و 6: أعمال الكرسي الرسولي 67 (1975) ص ص 7 – 9؛ 17 – 23
128) راجع 1 يو 2، 16
129) متى 6، 12
130) أفسس 4، 2؛ راجع غلا 6، 2
131) متى 18، 22
132) راجع لو 15، 32
133) راجع اشعيا 12، 3
134) متى 10، 8
135) راجع عبر 5، 7
136) راجع حكمة 11، 24؛ مز 145 (144)، 9؛ تك 1، 31
137) لو 23، 34
138) راجع 1 كو 4، 1
139) متى 5، 7
140) راجع يو 14، 9
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post