فادي الإنسان
وهي الرسَالة
التي وجهَها الحَبْر الأعظمْ
البَابا يوحنَّا بولِسْ الثاني
إلى إخوانهِ في الأسقفيَّة
والكهنة
والعَائلات الرهبَانيَّة
وأبنائه وبنَاته في الكنيسة
وإلى جميع الناس
ذَوي الإرادة الصالحة
في مسْتهّل
خِدمَته الحَبريّة
أيها الإخوَة الأجلاّء، والأبناء الأعزّاء
السَلامْ والبَركة الرسوليّة
-1-
الإرثْ
- في نهاية الألف الثاني
فادي الإنسان المسيح يسوع هو محور الكون والتاريخ: إليه يتّجه منا العقل والقلب في هذه الحقبة الفريدة من نوعها من الزمن التي تمرّ بها الآن الكنيسة والعائلة البشريّة جمعاء. وفي الواقع إنّ هذه الحقبة التي وكل الله فيها إلينا، بمقصاده الخفيّة، بعد سلفنا العزيز يوحنا بولس الأول، الخدمة الشاملة المرتبطة بالسدة البطرسية الرومانية، أصبحت تقترب من سنة الألفين. وإنه ليصعب القول الآن ما ستحمله هذه السنة في مجرى الأحداث البشرية وما سيكون المستقبل بالنسبة إلى كلّ من الشعوب والأمم والقارّات، برغم ما يُبذل من جهود في الوقت الحاضر لاستشفاف بعض الأحداث. لكن هذه السنة ستكون بالنسبة إلى الكنيسة، شعب الله الذي ينتشر – ولو بأعداد متفاوتة – حتى أقاصي الأرض، سنة يوبيل كبير. وإنا نقترب من هذا الزمن الذي – برغم ما يجب من اعتبار لجميع التصحيحات التي تقضي بها الدقة في حساب الزمن – يحمل إلى الذاكرة هذه الحقيقة الأوليّة التي يستند إليها الإيمان ويجدد وعينا لها والتي أشار إليها القديس يوحنا في مستهلّ إنجيله وهي أنّ: “الكلمة صارَ جسداً وحلّ فينا” (1) وفي مكان آخر: “لأنّ الله أحبّ العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد، كي لا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (2).
وإنّا نحن أيضاً نعيش نوعاً ما، في زمن مجيء جديد أي زمن انتظار: “إنّ الله، بعدما كلّم آباءنا قديماً مرّات كثيرة بلسان الأنبياء كلاماً مختلف الوسائل، كلّمنا هذه الأيام الأخيرة بلسان الابن…” (3)، ونقول بالابن الذي هو الكلمة والذي صار إنساناً وولد من مريم العذراء. وبلغ تاريخ البشر ذروته بفضل الفداء هذا وفقاً للقصد الإلهي المشبع بالمحبّة. لقد دخل الله تاريخ الجنس البشري وصار كإنسان “فرداً” من الخاضعين له، وفرداً من جماعة غفيرة ولكنه فرد نسيج وحده.
لقد أضفى الله، بالتجسد، على الحياة البشرية، بعداً كان ينوي منذ البدء أن يخلعه على الإنسان؛ وقد أضفاه إضفاءً ثابتاً ونهائياً بطريقته الخاصة الفريدة وفقاً لمحبته ورحمته الأبديتين، وبحريته الإلهية المطلقة، وقد فعل ذلك بسخاء، إذا نظرنا معه إلى الخطيئة الأصليّة وكلّ مسلسل خطايا البشر، وضلال العقل والإرادة والقلب البشري، لما استطعنا إلاّ أن نردّد بذهول ما تقوله الطقوس المقدسّة: “ما أسعدها خطيئة، هذه التي استأهلت مثل هذا الفادي” (4).
- أولى كلمات الحبريّة الجديدة
لقد وجّهنا عواطفنا وأفكارنا نحو المسيح الفادي، في اليوم السادس عشر من شهر تشرين الأول من السنة الفائتة، عندما سئلنا، بعد أن تمّ الانتخاب القانوني: هل تقبل؟ فأجبنا إذ ذاك: “بطاعة الإيمان نحو المسيح ربي وبما لي من ثقة بأمّ المسيح والكنيسة – وبرغم الصعوبات الجمّة – إني أقبل المهمّة”. وإنّا نريد أن نعلن الآن جوابنا هذا على الجميع دونما استثناء، مشيرين بذلك إلى ما بين حقيقة التجسد الأوليَّة والأساسيّة التي نوّهنا بها وبين خدمتنا التي أصبحت وظيفتنا الخاصّة في سدّة بطرس هذه، من رابطة، بعد أن قبلنا بانتخابنا لمهمة أسقف روما وخليفة بطرس الرسول.
لقد اتخذنا الإسمين اللذين اختارهما لنفسه سلفنا الحبيب يوحنا بولس الأول. وفي الواقع، إنه عندما أعلن في اليوم السادس والعشرين من آب 1978 في مجمع الكرادلة أنه يريد أن يدعى بولس – ولم يسبق في تاريخ الأحبار الأعظمين أن اتّخذ أحدهم اسماً مزدوجاً من قبل – رأينا في ذلك دلالة واضحة على ما سيفيض على الحبريّة الجديدة من نِعم إلهيّة. وما كانت خدمته هذه لم تدم سوى ثلاثين يوماً، بات لزاماً علينا، لا أن نتابعها وحسب، بل أن نستعيدها نوعاً ما منذ البداية. وهذا ما يثبته هذا الإسم المزدوج الذي اخترناه لنفسنا. وإنّا، إذ انتقيناه، نرغب، اقتفاءً لأثر سلفنا المبجّل، في أن نعرب، على مثاله، عن المحبّة التي نخصّ بها ما ترك للكنيسة من إرث فريد، الحبران الأعظمان الرومانيان يوحنا الثالث والعشرون وبولس السادس، وأن نبدي استعدادنا التامّ لرعاية هذا الإرث، بعون الله، وللعمل على ازدهاره.
وإنا بهذا الاسم المزدوج وبكلتا الحبريتين نرتبط بتقليد هذا الكرسي الرسولي الشامل وبجميع أسلافنا الذين عاشوا في القرن العشرين وفي القرون السالفة فنعود، قدر المستطاع – عبر مختلف العصور وحتى أقدمها – إلى ذلك النهج، المتبع في القيام بالمهمة والخدمة، والذي أحلّ كرسي بطرس في الكنيسة محلّ الصدارة. إن يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس يشكلاّن، إذا صحّ التعبير، محطة يطيب لنا أن نرجع إليها عن قرب، متّخذين منها قاعدة نريد مع يوحنا بولس الأوّل أن ننطلق منها في سيرنا نحو مستقبل يسرّنا أن تقودنا إليه ثقة لا حدّ لها وطاعة للروح الذي وعد المسيح به وأرسله إلى كنيسته. وقد قال لرسله بعد أن أزفت ساعة آلامه: “من الخير لكم أن أذهب، فإن لم أذهب، لن يأتيكم البارقليط الذي أرسله إليكم” (5) “وحين يأتي البارقليط الذي أرسله إليكم من عند الأب، روح الحق المنبثق من الأب، فهو يشهد لي، وأنتم أيضاً ستشهدون لأنكم معي من الابتداء” (6). “فحين يجيء ذاك روح الحقّ، يقودكم إلى كلّ الحق، لأنه لا يتكلم من عنده، بل يقول كلّ ما يسمع ويطلعكم على كلّ ما سيكون” (7).
- ثقة بروح الحقّ والمحبّة
وهكذا سندخل، بما لنا من ثقة تامة بروح الحق، على ما لهذه الحبريات الأخيرة، من إرث غني جليل، وهو إرث متأصل في وجدان الكنيسة وبطريقة جديدة لم تُعرف من ذي قبل، وذلك بفضل المجمع الفاتيكاني الثاني الذي دعا إليه وافتتحه يوحنا الثالث والعشرون، واختتمه بعدئذ اختتاماً موفّقاً ودأب في وضعه موضع العمل، بولس السادس الذي راقبنا بذاتنا عن كثب نشاطه وجهاده. وكنا دائماً نعجب بما كان عليه من سموّ حكمة وثبات جنان وصدق عزم وصبر في الفترة الصعبة من حبريته التي عقبت المجمع. لقد حافظ بوصفه رباناً للكنيسة، سفينة بطرس، على رباطة الجأش وطمأنينة النفس حتى في إبّان المحنة الشديدة وفيما كانت السفينة عينها تهتزّ من الداخل، وظلّ ثابتاً على ما كان عليه من وطيد الأمل بصلابتها وتماسكها. ذلك إنّ ما قاله الروح للكنيسة بواسطة المجمع الذي انعقد في أيّامنا، وما قاله لجميع الكنائس بواسطة هذه الكنيسة (8) – وبرغم ما أثير من قلاقل عارضة – لا يمكنه إلا أن يفضي إلى المزيد من تماسك شعب الله بكامله الذي يعي المهمة الخلاصية الملقاة على عاتقه.
وهذا الوعي الذي تشعر به الكنيسة في أيامنا، جعل منه بولس السادس الموضوع الأول للرسالة الأساسيّة التي استهلّها بعبارة: “كنيسته”. وليُسمح لنا، بداءة بدءٍ، بأن نعود إلى هذه الرسالة في هذه الوثيقة الأولى التي ندشّن بها حبريّتنا، إذا جاز التعبير، وأن نرتبط بها. وعي الكنيسة هذا الذي ينيره الروح القدس ويسانده فيتنامى يوماً فيوماً، سواء في ما خصّ سرّها الآلهي أم رسالتها الإنسانية أم ما يعتورها من نواقص بشرية، هذا الوعي، كان ويجب أن يبقى الينبوع الأول الذي تفيض منه محبّة الكنيسة، هذه المحبة التي تعمل بدورها وبالمقابل على ترسيخ هذا الوعي وتعميقه. لقد ترك لنا بولس السادس شهادة عن وعي عميق لهذه الكنيسة. لقد علّمنا من خلال أحداث كثيرة متنوعّة، وفي غالب الأحيان مؤلمة، جرت إبّان حبريته، الجرأة في محبة الكنيسة، التي هي، – على ما أكدّ المجمع – “سرّ أيّ علامة وإرادة للاتحاد الحميم بالله ولوحدة الجنس البشري بكامله” (9).
- عودة إلى رسالة بولس السادس الأولى
ولهذا يجب أن يقترب وعي الكنيسة بانفتاح القلب على الجميع، بحيث يتمكن كلّ الناس من أن يجدوا فيها “غنى المسيح الذي لا يسبر غوره” (10) والذي تحدّث عنه رسول الأمم. هذا الانفتاح الشامل المقترن بوعي الكنيسة طبيعتها الذاتية وبتأكدّها ممّا هي عليه من حقيقة تحدّث عنها المسيح بقوله: “كلمتي هذه ليست لي، بل للأب الذي أرسلني” (11) هو ما يولي الكنيسة هذا الزخم الرسولي أي الإرساليّ، عندما تعترف بالحقيقة كاملة مطلقة التي اقتبلتها من السيد المسيح، والتي تعلنها.
وعليها في الوقت عينه أن تتابع الحوار الذي دعاه بولس السادس في رسالته المبدؤة: كنيسته، “الحوار الخلاصي” وقد عيّن له بدقّة ما يمكن تسميته بالدوائر التي يجب أن يدور فيها (12). وإنّا، إذ نرجع الآن إلى هذه الوثيقة التي تتضمّن المنهج الذي رسمه بولس السادس لحبريته، لا نفتر عن رفع آيات الشكر لله لكون سلفنا هذا الكبير الذي كان أباً حقيقياً لنا قد أظهر “إلى الخارج” وجه الكنيسة الأصيل، برغم ما أصابها في فترة ما بعد المجمع من نكسات داخلية مختلفة. وهكذا أصبح يشعر قسم كبير من العائلة البشرية، على مختلف مستويات الحياة وأنواعها، شعوراً متزايداً – على ما نعتقد – بحاجته إلى كنيسة المسيح ورسالتها وخدمتها.
وقد بدا هذا الشعور أحياناً أقوى من مختلف المواقف التي اتخذها المنتقدون الذين هاجموا من الداخل الكنيسة ومؤسّساتها ونظمها ورجال الاكليروس وما يقومون به من نشاط. وهذا الدأب المتزايد في الانتقاد له أسباب مختلفة وهو بعد، وهذا ما نحن متأكّدون منه، لا يخلو من محبة خالصة للكنيسة. وما من شكّ في أنه يدلّ، بقطع النظر عما سوى ذلك، على إرادة التغلّب على ما يُعرف بروح التعالي الذي كان موضوع جدل طويل إبّان انعقاد المجمع. وإذا صحّ أن من واجب الكنيسة أن تتبع مثل معلّمها الذي كان “وديعاً ومتواضع القلب” (13) وإنها قائمة على التواضع، وأن تتفحّص بعين النقد كلّ ما يمّيزها وما تقوم به من نشاط، وأن تأخذ نفسها بالشدّة، فيجب كذلك أن يوضع حدّ معقول لهذا الإصرار على الانتقاد، وإلاّ بطل أن يكون انتقاداً نافعاً وبناءً وهادفاً إلى إظهار الحقيقة والمحبة وإبداء عاطفة الشكر والاعتراف بالنعمة، التي نصبح فيها شركاء بصورة أساسية تامة، في الكنيسة وبواسطتها. وبالإضافة إلى ذلك إن هذا الدأب في النقد، لا يظهر نية الخدمة بل إرادة جازمة على توجيه رأي الآخرين وفقاً للرأي الذاتي الذي غالباً ما يجاهر به من يجاهر عن طيش وخفة.
وعلينا أن نؤدّي واجب الشكر لبولس السادس لكونه، بمحافظته باحترام على كلّ جزء الحقيقة الكائنة في مختلف الآراء البشرية، قد حافظ في الوقت عينه، بنظرته الثاقبة، على الاتزان ورباطة الجأش فيما كان يقوم بمهمة ربّان السفينة (14). والكنيسة التي آلت إلينا مقاليدها مباشرة تقريباً بعده، على أثر وفاة يوحنا بولس الأول، تعترضها ولا شكّ صعوبات وتعتورها مشادّات داخلية ولكنها في الوقت عينه أشدّ باستطاعتها أن تمارس ما لها من قوة أشدّ على النقد في مقابل ما يوجّه إليها من مختلف الانتقادات الطائشة وأن تجابه مجابهة أقوى “التجديدات” المتعدّدة، وإنها بدت أنضج في ما خصّ روح التمييز وأقدر على إخراج “القديم والجديد” (15) من كنزها الأبدي، وعلى الإكباب على سرّها الخاصّ، وبفضل هذا كلّه، إنها تظهر أكثر استعداداً للقيام بمهمة الخلاص بالنسبة إلى جميع الناس: ذلك أنّ الله “يريد أن يخلّص جميع الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق” (16).
- مشاركة ورسالة
إنّ الكنيسة في هذه الأيام تبدو، برغم جميع المظاهر، أشدّ تماسكاً في الاشتراك في الخدمة وفي وعي الرسالة. وينبع هذا التماسك من مبدأ المشاركة الذي اقترحه المجمع الفاتيكاني الثاني والذي أدخله السيّد المسيح على مجمع الرسل الاثني عشر برئاسة بطرس، والذي يجدّده، دونما انقطاع، في مجمع الأساقفة، بحيث يتنامى في جميع أقطار المسكونة بالارتباط مع خليفة بطرس وبقيادته. ولم يكتف المجمع بالإعراب عن مبدأ مشاركة الأساقفة وحسب، لكنَّه نفحه بالحيوية عندما تمنى على الأخصّ أن يكون هناك مؤسّسة ثابتة أنشأها بولس السادس عندما أسّس مجمع الأساقفة الذي لم يضف عمله على حبريته وزناً جديداً وحسب، بل انعكس أيضاً بوضوح، فيما بعد، ومنذ البداية، على حبرية يوحنا بولس الأوّل وعلى حبرية خلفه الحقير.
وقد بدا مبدأ المشاركة هذا ملائماً لهذه الفترة الصعبة من الزمن التي تلت المجمع، عندما ساهم أساقفة الكنيسة بما أبدو من تضامن ووحدة في التفكير – وبما أعربوا عنه على الأخصّ بواسطة مجمع الأساقفة من اتحاد بخليفة بطرس – في تبديد الشكوك وفي الوقت عينه في رسم السبل المؤاتية لتجديد الكنيسة على نطاق شامل. وقد انطلقت من مجمع الأساقفة، فيما انطلق، هذه الوثبة الهادفة إلى نشر الإنجيل (17) وقد قوبل بموجة من الفرح، باعتباره أنه يصحّ أن يكون منهجاً لتجديد رسولي رعوي. وحافظ مجمع الأساقفة على الخطة عينها في دورته العادية الأخيرة التي انعقدت لسنة مضت تقريباً قبل وفاة بولس السادس والتي عالجت، على ما هو واضح، قضية التعليم الديني. وينبغي للكرسي الرسولي أن يجمع حصيلة أعمال هذه الدورة وينشرها. ولمّا كنا نبحث في ما أحرزته الصيغ التي تعرب عن مبدأ مشاركة الأساقفة من تقدّم ظاهر، وجب علينا أن نذكر على الأقلّ، كيف تركزت المؤتمرات الأسقفية الوطنية في الكنيسة الجامعة وما يشابهها من أشكال مشاركة، سواء أكانت دولية أم قارية. وأمّا ما خصّ تقليد الكنيسة القديم، فلا بدّ من التنويه بأعمال المجامع المحلية. وكان في نية المجمع – وقد وُفّق بولس السادس إلى إخراج هذه النّية إلى حيّز التنفيذ – أن تجهد هذه المؤسّسات التي أقرتها الكنيسة بعد اختبار دام قروناً وتعمل هي وغيرها من صيغ المشاركة بين الأساقفة من مثل ما يدعى بالمقاطعات الكنسية لكيلا نذكر كلّ أبرشية بمفردها، وذلك ضمن وحدة الكنيسة الشاملة، عن وعي تامّ لما لها من هوية وميزة خاصّة. ويتشرب الكهنة هذه الروح عينها التي يشعرون معها بأنهم يشاركون في العمل والمسؤولية، وهذا ما تؤكده المجالس الكهنوتية العديدة التي نشأت بعد المجمع، وقد خالج العلمانيين أيضاً هذا الشعور الذي لم يعمل على ترسيخ المنظمات الرسولية العلمانية وحسب، بل ساعد على إنشاء منظمات جديدة تختلف غالباً عن السابقة بطبيعتها وتبدي نشاطاً خارقاً. وفضلاً عن ذلك إنَّ العلمانيين الذين لا يجهلون ما عليهم من إلزام ضميري نحو الكنيسة يمدّون بطيبة خاطر يد المساعدة للرعاة وللذين يمثلون مؤسسات الحياة المكرّسة لله في نطاق مجامع الأبرشية والمجالس الرعوية في الرعايا والأبرشيات. وعلينا في مستهلّ حبريتنا أن ننعم النظر في هذه الأمور جميعها لنرفع آيات الشكر لله ولنثبّت بقوة جميع إخواننا وأخواتنا، ولنستعيد، بالذاكرة وبحرارة، أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني وأسلافنا العظام الذين نفخوا في الكنيسة نسمة حياة جديدة وهي أقوى بكثير من دواعي الشكّ والخراب والانقسام.
- طريق الوحدة المسيحية
وما القول عن المبادرات التي صدرت عن الحركة المسكونية الجديدة؟ لقد اعتبر يوحنا الثالث والعشرون راعي الكنيسة الأعظم الخالد الذكر والأثر، ببصيرة إنجيلية نافذة، أنَّ مسألة توحيد المسيحيين قد صدرت، على ما هو واضح، عن إرادة يسوع المسيح ربّنا الذي غالباً ما أعلن عنها وقد جاهر بها على الأخصّ في صلاته في العليّة، قبيل موته يوم قال: “أسألك… أيها الآب أن يكونوا جميعاً واحداً” (18)، وقد أجاب المجمع الفاتيكاني الثاني على هذا الطلب باختصار عندما أصدر قراره في المسكونية. وكان الحبر الأعظم بولس السادس، بمعاونة أمانة سرّ وحدة المسيحيين أول من بذل جهوداً شاقّة في سبيل تحقيق هذه الوحدة. ترى هل ذهبنا بعيداً على هذه الطريق؟ يمكننا، دون أن نردّ بالتفصيل على هذا السؤال، أن نؤكّد، على الأقلّ، أننا أحرزنا تقدماً حقيقياً وهاماً. غير أنه من الثابت أننا عملنا دائبين وفي انسجام، كما عمل معنا أيضاً في هذا المجال، من يمثّلون غير كنائس وجماعات مسيحية، وهذا ما نشكره لهم خالص الشكر. ومن الأكيد، فضلاً عن ذلك، أنّه في حالة الكنيسة والعالم الحاضرة، ما من وسيلة يمكن اعتمادها، على ما يبدو، لإتاحة المجال للكنيسة للقيام بوظيفتها سوى التصميم على البحث بأمانة وثبات وتواضع وبجرأة أيضاً عن الطرق المؤدّية إلى التقارب والوحدة، دون أن يثبّط عزائمنا ما يعترض سبيلنا هذا من صعوبات متزايدة، وإلاّ نكون قد فقدنا الثقة بكلام المسيح وتنكرنا لوصيته. أفيجوز أن نقوم بهذه المجازفة؟ وإن هناك إناساً كانوا يريدون أن يعودوا القهقرى بعد أن بحثوا في هذه المسائل العويصة أو بعد أن اعتبروا أنّ حصيلة المبادرات المسكونية الأولى غير مجديّة، وقد قام حتى في وهم بعضهم أنّ هذه المساعي تعود بالضرر على قضية الإنجيل وتُفضي بالتالي إلى إحلال شقاق خطير في الكنيسة، وتؤدي إلى بلبلة الأفكار فيما يتعلق بالمبادئ الإيمانية والأخلاقية وتقود إلى نوع من اللامبالاة في القضايا الدينية. وبرغم أنه من المفيد أن يعلن أصحاب هذه الآراء عن مخاوفهم، غير أنّه، هنا أيضاً يجب الوقوف عند حدّ معقول. وما من شكّ في أنّ هذه الحقبة الجديدة من حياة الكنيسة تقتضينا أن نعتمد على إيمان يمتاز بالوعي والعمق وإدراك المسؤولية. إن التصرف المسكوني الحقيقي معناه الانفتاح والتقارب والاستعداد للحوار والبحث معاً عن الحقيقة بمعناها الإنجيلي المسيحي الأكيد، ولكنّ هذا لا يعني على الاطلاق ولا يمكن أن يعني التنازل عن كنوز الحقيقة الإلهية أو المساس، لأي سبب كان، بهذه الحقيقة التي أثبتتها الكنيسة وعلمّتها باستمرار. علينا أن نسأل مرة ثانية جميع الذين يريدون أياً كان السبب، أن يصدّوا الكنيسة عن الجري وراء وحدة المسيحيين الشاملة: هل يجوز لنا أن نهمل هذا الأمر؟ هل يمكننا – برغم الضعف البشري وأخطاء العصور الغابرة – ألاّ نثق بنعمة ربّنا التي ظهرت في الآونة الأخيرة في كلام الروح القدس الذي سمعناه في المجمع؟ فإذا فعلنا ذلك، أنكرنا حقيقة تتعلّق بنا، وقد امتدحها الرسول ببلاغة فقال “وبنعمة الله ما أنا عليه، ونعمته عليّ لم تكن عقيمة” (19).
وهذا ما يجب قوله – ولو بطريقة مغايرة ومع ما يجب إدخاله من فوارق – عن ذلك النشاط الذي يبذله من يمثلون الأديان غير المسيحية والذي يقوم على الحوار والاتصالات والصلاة معاً والغوص على كنوز الروحانية البشرية التي، على ما نعرف جيداً، لا تعوز أتباع هذه الديانات. وهل إنّ ثبات أتباع الديانات غير المسيحية على دينهم – وهذا نابع من روح الحقّ الفاعل خارج حدود الجسد السرّي المنظور – لا يخجل، ربّما أحياناً، المسيحيين الذين غالباً ما يميلون إلى الشكّ في الحقائق التي أوحاها الله وأعلنتها الكنيسة ويجنحون إلى النيل من مبادئ الأخلاق وفتح الطريق إلى الإباحية؟. جميل أن يكون المرء مستعداً لتفهّم أي كان من الناس وللبحث في كل نظام وللموافقة على كلّ ما هو حقّ وعدل، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن يفقد إيمانه الوطيد (20) أو أن ينال من قاعدة الآداب والأخلاق التي لا يلبث فقدانها أن يترك أثره في حياة المجتمعات بكاملها ويجرّ وراءه، في ما يجرّ، أوخم العواقب.
-2-
سرّ الفداء
- في سرّ المسيح
إذا كانت السبل التي وضع المجمع كنيسة هذا العصر عليها والتي هدانا إليها المثلّث الرحمة الحبر الأعظم البابا بولس السادس في رسالته الأولى، ستكون لمدى بعيد هي التي يجب أن نتبعها، يمكننا بحقّ، مع ذلك، بعد أن بلغنا هذه المرحلة الجديدة، أن نتساءل: كيف؟ بأيّة طريقة يجب أن نتقدّم؟ كيف العمل، لدى زمن مجيء الكنيسة الجديد هذا – المرتبط بالألف الثاني المشرف على النهاية – لنقترب من ذاك الذي يدعوه الكتاب المقدس “الأب الأزلي” أبا العصور الآتية (21)؟ هذا ما يجب أن يبحث عنه البابا الجديد، عندما يقبل بروح طاعة الإيمان، ما أوصى به السيّد المسيح بطرس غير مرّة بقوله: “إرعَ خِرافي” (22) وهذا معناه: كن راعياً لقطيعي، وبعدئذ: “وأنت متى رجعت ثبّت إخوتك” (23). ومن الضرورة هنا، أيها الإخوة والأبناء والبنات الأعزّاء، أن نعطي جواباً جوهرياً أساسياً أي أن نحفز النفس ونوجّه العقل والإرادة والقلب إلى السيّد المسيح وحده فادينا، المسيح فادي الإنسان. نريد أن نتلمّس وجهه لأنّ فيه وحده، بما أنّه ابن الله، الخلاص، قائلين مع بطرس: “إلى من نذهب يا ربّ؟ لديك كلام الحياة الأبدية” (24).
وبفضل وعي الكنيسة ذاتها الذي عمّقه المجمع وعلى جميع درجات هذا الوعي وفي جميع مناحي العمل التي تعبّر فيها الكنيسة عن ذاتها وتكتشفها، علينا أن نسعى باستمرار إلى من هو الرأس (25) إلى من “منه الكلّ ونحن فيه” (26)، إلى من هو في الوقت عينه “الطريق والحقّ” (27)، وكذلك “القيامة والحياة” (28) إلى من إذا رأيناه رأينا الأب (29) إلى من كان عليه أن يغادرنا (30) أعني بالموت على الصليب ومن ثمّ بالصعود إلى السماء ليأتي إلينا البارقليط ويأتي باستمرار بما أنّه روح الحقّ (31) فيه جميع كنوز الحكمة والمعرفة (32) وجسده الكنيسة (33). والكنيسة في “المسيح كالسرّ، أي هي علامة الاتحاد الحميم مع الله وأداته وعلامة وحدة الجنس البشري بأجمعه” (34) وأداتها، وينبوع هذا كلّه هو عينه هو الفادي. ولا تفتأ الكنيسة تسمع كلامه الذي تردّده باستمرار، فيما تستعيد بخشوع فائق حياته بتفاصيلها وتستذكرها بدقائقها، وهذا الكلام يسمعه كذلك غير المسيحيين. إنّ حياة المسيح تكلّم في الوقت عينه كثيراً من الناس الذين لا يستطيعون بعد أن يردّدوا مع بطرس قائلين: “أنت المسيح ابن الله الحيّ” (35). أجل هو ابن الله الحيّ يكلّم الناس بوصفه إنساناً أيضاً: ذلك أنّ حياته ذاتها تتكلّم وتتكلّم بشريته وأمانته للحقّ ومحبته التي تشمل الجميع. موته على الصليب يتكلّم كذلك، أعني آلامه البشرية التي لا تسبر أغوارها وعزلته. ولا تني الكنيسة تحيا مستذكرة موته على الصليب وقيامته اللذين يشكلاّن حياة هذه الكنيسة اليومية. وفي الواقع أن الكنيسة تحتفل، بناء على أمر المسيح عينه معلّمها وربّها، دونما انقطاع، بالإفخارستيا الذي تجد فيه “ينبوع الحياة والقداسة” (36)، وعلامة فاعلة للنعمة وللمصالحة مع الله وعربون الحياة الأبدية. وتحيا الكنيسة وتستذكر سرّه الذي تنهل منه دونما كَلَل وتدأب في البحث عن طرق تستطيع معها تقريب معلّمها وسيّدها من الجنس البشري: من الشعوب والأمم والأجيال المتعاقبة، من كل إنسان بمفرده، كما لو كانت تردّد دائماً على مثال الرسول: “فأني لم أشأ أن أعرف شيئاً، وأنا بينكم، غير يسوع المسيح بل يسوع المسيح المصلوب” (37). إنّ الكنيسة تدور في فلك سرّ الفداء الذي صار من باب التأكيد المبدأ الأساسي لحياتها وعملها.
- الفداء: خلق جديد
فادي العالم فيه تجلّت بطريقة جديدة، عجيبة، حقيقة الخلق الأساسية التي يثبتها سِفْر التكوين عندما يردّد مراراً: “رأى الله ذلك إنه حسن” (38). إنّ ما هو حسن ينبع من الحكمة والمحبة. والعالم المنظور الذي خلقه الله لأجل الإنسان (39) – هذا العالم الذي عندما دخلته الخطيئة، أُخضع للباطل (40) – استعاد بالمسيح يسوع الرابطة القديمة التي كانت تربطه بمصدر الحكمة والمحبة الإلهي. “إنّ الله بلغ من حبه للعالم أنّه جاد بابنه الوحيد” (41) وكما أنّ هذه الرابطة قد انقطعت بآدم الإنسان، هكذا توثقّت من جديد بالمسيح الإنسان (42). أفلا يقنعنا، نحن أناس القرن العشرين، كلام الرسول، على ما فيه من سحر بلاغة، عن الخليقة التي تئن إلى اليوم من آلام المخاض” (43) وتنتظر بفارغ الصبر تجلّي أبناء الله (44) في الخليقة التي “أُخضعت… للباطل”؟ أفليس هذا التقدّم العظيم الذي لم يُعرف من ذي قبل، والذي تجلّى على الأخصّ في عصرنا الحاضر في مجال سيطرة الإنسان على العالم، هو ما يُظهر، أكثر من أيّ وقت مضى، هذا الإخضاع للباطل؟ وحسبنا أن نذكر بعض وقائع من مثل التلوث الذي يهدّد البيئة، في المناطق التي اكتظّت بالمصانع بسرعة، والصراعات المسلحّة الناشبة باستمرار والآخذة بالتفاقم، والقدرة على التدمير الذاتي من جرّاء استعمال الأسلحة النووية، والهيدروجينية والنيوترونية وما شابهها، وفقدان الاحترام الواجب لحياة من لم يولد بعد. أفليس عالم هذا العصر الحديث عالم الأسفار خارج الفضاء والفتوحات العلمية والفنيّة التي لم يحقّقها الإنسان من قبل، هو، في الوقت عينه، الخليقة التي تئن من ألم المخاض” (45) وتنتظر بفارغ الصبر تجلّي أبناء الله (46)؟ لقد توصّل المجمع الفاتيكاني الثاني في تفحّصّه الدقيق لعالم هذا العصر إلى نقطة لها وزن كبير في العالم المنظور بأجمعه، إلا وهي الإنسان، وذلك عندما نزل مِثْلَ السيّد المسيح، إلى أعماق الضمير الإنساني ولامس سرّ الإنسان الداخلي الذي تسمّيه لغة التوراة (وغير التوراة) القلب. لقد نفذ المسيح عينه، فادي العالم، بطريقة فريدة لا سبيل إلى تكرارها، إلى سرّ الإنسان ودخل “قلبه”، ولهذا يعلّم المجمع الفاتيكاني بحقّ عندما يقول: “إنَّ سرّ الإنسان لا يتضّح إلاّ في سرّ الكلمة المتأنس. لقد كان آدم الإنسان الأول صورة الآتي (روم 5، 14)، في الحقيقة أي المسيح الربّ. إن المسيح آدم الجديد، بإظهاره سرّ الأبّ ومحبته، كشف بجلاء الإنسان للإنسان عينه وأبان له سمّو دعوته”. وقال أيضاً: “ذاك الذي هو صورة الأبّ غير المنظور (كولسي 1، 15) هو عينه الإنسان الكامل الذي أعاد إلى أبنا آدم الشَبَه الإلهي الذي شوهّته منذ ذاك الحين الخطيئة الأولى. ولما كان قد اتخذ الطبيعة البشرية دون أن يذيبها فيه، فقد رفعها بذات الفعل إلى مقام عظيم. لأنّه هو ابن الله الذي بتجسدّه قد انضمّ نوعاً ما إلى كلّ من الناس. لقد اشتغل بيدي إنسان وفكّر بعقل إنسان وعمل بإرادة إنسان وأحبّ بقلب إنسان. لقد وُلِد من عذراء وصار حقاً واحداً منا مشابهاً لنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة” (47). إنه فادي الإنسان!
- البعد الإلهي لسرّ الفداء
وإنّا، إذ نتأمل مجدّداً في هذا الموضوع من تعليم المجمع، لا ننسى، ولو للحظة، أنّ يسوع المسيح ابن الله الحيّ صار مصالحة لنا لدى أبيه (48). إنه هو بعينه وهو وحده أرضى محبّة الأبّ الأزلية، أعني هذه الأبوّة التي تجلّت منذ البدء في خلق العالم وفي منح الإنسان جميع كنوز الأرض، عندما كوّنه فجعله “أنقص قليلاً من الملائكة” (49) أي على صورة الله ومثاله (50)، وأرضى كذلك أبوّة الله هذه ومحبتّه التي تنكّر لها الإنسان نوعاً ما، عندما حنث بالعهد الأوّل (51) مثلما حنث بالعهود التالية التي أبرمها الله مراراً مع الناس (52). إنّ افتداء العالم – سرّ المحبّة هذا الهائل الذي يتجدّد فيه الخلق (53) – هو في أصوله العميقة ملء العدالة في قلب بشري: قلب الابن البكر، لكي، تصبح هذه عدالة قلوب الكثيرين من الناس المعدّين منذ الأزل في هذا الابن البكر ليصبحوا أبناء الله (54) والمدعوين إلى النعمة والمحبّة. وهذا الصليب على الجلجلة الذي “ترك” بواسطته يسوع المسيح الإنسان، ابن مريم العذراء وابن يوسف الناصري بالتربية، هذا العالم إنما هو في الوقت عينه تجلٍّ جديد لأبوّة الله الذي اقترب مجدّداً بالمسيح من الجنس البشري ومن كلّ إنسان أفاض عليه “روح الحقّ” (55) المثلّث القداسة.
وظهور الأبّ وحلول الروح القدس، اللّذان يمهران سرّ الفداء بطابع لا يمحى، يشرحان معنى الصليب وموت المسيح. لقد أظهر إله الخلق عن نفسه، إنه إله الفداء أي الله “الوفيّ (56) لذاته” أعني الوفي لمحبّته التي أظهرها للناس وللعالم يوم الخلق. ومحبتّه هذه لا تحجم عن كلّ ما تقتضيه منه العدالة. ولهذا جعل الله الابن “الذي لم يعرف الخطيئة خطيئة من أجلنا” (57) وإذا كان قد “جعل خطيئة” ذاك الذي لم يعرف يوماً الخطيئة، فقد فعل ذلك ليظهر المحبّة التي هي أكبر من جميع المخلوقات، أجل المحبّة التي هي هو، “لأنّ الله محبّة” (58). ولكنّ المحبّة على الأخصّ هي أكبر من الخطيئة والضعف وأباطيل الخليقة (59). إنها أقوى من الموت، والمحبّة على استعداد دائم للإنهاض وللمسامحة وللذهاب إلى لقاء الابن الضالّ (60) وللبحث عن “تجليّ أبناء الله” (61) المدعوين إلى المجد (62) ويُسمى تجلّي هذه المحبّة أيضاً رحمة (63) وأخيراً قد اتخذ تجلّي هاتين المحبّة والرحمة في تاريخ البشر شكلاً له وإسماً: إنه يدعى يسوع المسيح.
- البعد البشريّ لسرّ الفداء
لا يستطيع الإنسان أن يعيش دون محبّة ويبقى لغزاً لا يُفهم في عين نفسه، ولا معنى لحياته، إن لم تتوفّر له المحبّة، إن لم يجدها، ويختبرها بنفسه ويشارك فيها مشاركة حميمة. ولهذا السبب أظهر المسيح الفادي تماماً، على ما أشرنا إليه، الإنسان للإنسان عينه، وهذا هو البُعد البشري لسرّ الفداء – إذا صحّ التعبير – وهذه هي ميزته. وفي هذا البعد يكتشف الإنسان مجدّداً وشيئاً فشيئاً ما للإنسانية من عظمة وكرامة وقدر خاصّ. وفي سرّ الفداء “يُكوّن” الإنسان من جديد ويُخلق نوعاً ما خلقاً جديداً. أجل إنه يُخلق خلقاً جديداً “لا يهودي ولا يوناني ولا عبد ولا ذكر ولا أنثى. جميعكم واحد في المسيح يسوع” (64). إن الإنسان الذي يتوق إلى معرفة أغوار نفسه، لا وفقاً لمقاييس عابرة ناقصة وفي غالب الأحيان خارجية وحتى ظاهرية، أو وفقاً لقواعد حياته فقط، عليه أن يلوذ بالمسيح حاملاً إليه قلقه وشكّه، ضعفه وخبثه، حياته وموته. عليه أن يدخل فيه بكليّته تقريباً وبكلّ ما هو. عليه أن “يمتلك” ويتّخذ لذاته حقيقة التجسّد والفداء بكاملها، لكي يعود فيجد نفسه. فإذا أتمّ الإنسان هذا التحرّك الحميم في نفسه أثمر لا ثمر العبادة لله وحسب، بل ثمر الإعجاب بنفسه أيضاً. فأيّ قدر عظيم هو قدر الإنسان في عين الخالق إذا كان “استحقّ مثل هذا الفادي” (65) وإذا كان “الله قد جاد بابنه الوحيد” لكيلا “يهلك الإنسان بل ينال الحياة الأبدية” (66)؟
وفي الواقع إنّ هذا الإعجاب الكبير بقدر الإنسان وكرامته يسمّى الإنجيل: النبأ المفرح، ويدعى أيضاً المسيحية. وعن هذا الإعجاب بالذات تنشأ وظيفة الكنيسة في هذا العالم ولربما وعلى الأخصّ في عالم اليوم. وهذا الإعجاب هو في آن معاً إقناع ويقين – وهذا هو في جذوره الأساسيّة يقين الإيمان الذي يحيي كل وجه من وجوه النزعة البشرية الحقّ ولكن بطريقة خفيّة مستترة – هذا الإعجاب يرتبط أوثق الارتباط بالمسيح. ويحدّد له مكانه – إذا جاز التعبير – وحقّه الخاص بالمواطنية، هذا الحقّ الذي يتمتّع به في تاريخ الإنسان والجنس البشري. وتعرف الكنيسة، التي لا تفتأ تتأمّل في سرّ المسيح بكامله، معرفة نابعة من إيمان وطيد بأنّ الفداء الذي تمّ بالصليب أعاد، إلى الإنسان، وإلى الأبد، كرامته ومعنى وجوده في العالم. وكان هذا قد فقد إلى حدّ كبير هذا المعنى بسبب الخطيئة. ولهذا تمّ الفداء في سرّ الفصح بالذات الذي يقوم، عبر الصليب والموت، إلى القيامة.
فمهمة الكنيسة الأساسية إذن، في كلّ عصر وفي هذا العصر، هي أن نوّجه عقل الإنسان وتهدي البشر أجمعين وخبرتهم نحو سرّ المسيح وتساعد جميع الناس ليشاركوا في حياتهم اليومية في سرّ الفداء الذي تمّ في يسوع المسيح وتنفذ في الوقت عينه إلى عمق الإنسان: أعني قلوب البشر وضمائرهم ومشاكلهم.
- سرّ المسيح في أساس رسالة الكنيسة والمسيحية
لقد قام المجمع الفاتيكاني الثاني بعمل عظيم لكي يثقّف ضمير الكنيسة فتعي ذاتها وعياً كاملاً شاملاً، وهذا ما تحدّث عنه الحبر الأعظم بولس السادس في رسالته الأولى. هذا الضمير أو بالأحرى وعي الكنيسة ذاتها تتمّ عن طريق “الحوار” الثنائي الذي قبل أن يصبح حديثاً يجب أن يتجه نحو “الآخر” أي نحو الذي نريد أن نحادثه. لقد قام المجمع المسكوني بمجهود أساسي هامّ ليصوغ ضمير الكنيسة فتعي ذاتها عندما أعطانا، بطريقة مؤاتية وافية نظرة عن الكرة الأرضية تشبه “خريطة” جغرافية عن مختلف الأديان. فأبان فوق ذلك كيف جاء يتراكب الإلحاد على خريطة أديان العالم هذه – بمختلف أشكاله – وهذا لم يُعرف من ذي قبل، وقد تفرّد به عصرنا ولا سيّما الإلحاد المنهجي المبرمج والمترابط عضوياً والمنظّم في شكل بنية أو نظام سياسي.
أما في ما خصّ الدين فإن المجمع قد عالج قضيته كظاهرة شاملة ملازمة منذ البدء لتاريخ الإنسان، ثم تناول مختلف الأديان غير المسيحية وأخيراً الدين المسيحي. وأفاضت وثيقة المجمع المتعلقة بالأديان غير المسيحية بالتقدير البالغ للقيم الروحية السامية لا بل لأولوية الروحيات التي أكدّ عليها، في حياة الجنس البشريّ، الدين والقاعدة الخلقية التي تؤثّر في الحضارة الإنسانية كلّها. لقد رأى آباء الكنيسة عن صواب في ما في مختلف الأديان من صور لحقيقة واحدة وكأنها “زرع الكلمة” (67) وهو زرع يشهد على ما في قلب الإنسان من توق شديد يحفزه، ولو تباينت الطرق، إلى هدف واحد يتجلّى في البحث عن الله، وفي البحث في وقت معاً – عبر اتجاه واحد نحو الله – عما للجنس البشري من بُعد شامل أو للحياة البشرية من معنى كامل. ووجّه المجمع عناية خاصّة إلى الديانة اليهودية مذكرّاً بما بين المسيحيين واليهود من كنز روحي جليل مشترك وأظهر كذلك تقديره لأتباع الديانة الإسلامية الذين يرجع بهم إيمانهم إلى إبراهيم (68).
بعد هذا الانفتاح الذي حققّه المجمع، استطاعت الكنيسة والمسيحيون بمجملهم أن يعوا وعياً أعمق سرّ المسيح الذي ظلّ “مكتوماً طوال الدهور والأجيال” (69) في الله ليُنشر في الزمن في الإنسان يسوع المسيح، وليُكشف دونما انقطاع لكلّ العصور. لقد تجلّى الله تماماً في المسيح وبالمسيح للناس واقترب منهم بصورة نهائية فوعى الإنسان وعياً تاماً ما له من سموّ قدر وكرامة وقيمة تفوق الطبيعة وما لإنسانيته ووجوده من معنى.
فعلينا إذن جميعاً، نحن أتباع المسيح، أن نلتفّ حوله وننضمّ إليه، ولا يمكن أن يتحققّ ذلك في مختلف مجالات الحياة والتقليد والبنى والنظم في كلّ من الكنائس والجماعات الكنسيّة إلاَّ عن طريق عمل دائم يدفع إلى التعارف ويزيل العقبات التي تقف في طريق الوحدة الكاملة، ولكن يمكننا منذ الآن، لا بل علينا، أن نحقّق وحدتنا ونعرضها على العالم فيما نعلن سرّ المسيح ونظهر ما يميّز الفداء من بُعد إلهي وإنساني ونكافح دونما هوادة من أجل هذه الكرامة التي حظي بها كلّ إنسان ويمكنه أن يحظى بها دائماً في المسيح وهي كرامة نعمة التبنّي الإلهي وفي الوقت عينه كرامة الحقيقة الباطنية للجنس البشري. وإذا كانت هذه الكرامة قد اتخذت، وفقاً للمفهوم العامّ في عالم اليوم، أهمية سياسية، فإنها قد ازدادت وضوحاً على ضوء هذه الحقيقة التي هي يسوع المسيح.
ويسوع المسيح هو المبدأ الثابت والمحور الدائم الذي ترتكز عليه هذه الرسالة التي وكلها الله إلى الإنسان، وعلينا أيضاً أن نشارك جميعنا في هذه الرّسالة ونوجّه إليها كلّ ما عندنا من قوى لأنّ أناس عصرنا يحتاجون إليها كلّ الحاجة. وإذا كان يبدو أنّ هذه الرسالة تلقى في عصرنا الحاضر، أكثر من أي وقت آخر مقاومات متفاقمة فإنّ هذا يدلّ على أنّ الحاجة إلى هذه الرسالة تتزايد اليوم، مثلما يتزايد انتظار الناس لها أكثر من ذي قبل، ولو لقيت منهم المقاومة. ونلامس هنا مداورة سرّ التدبير الإلهي الذي قرن الخلاص بنعمة الصليب. وما قال السيّد المسيح عبثاً: “ملكوت السماوات يغصب ويخطفه الغاصبون” (70) ثم أضاف “إنّ هذا العالم هم أكثر فطنة مع جيلهم من أبناء النور” (71) فلنتقبّل بنفس طيبة هذا التأنيب لنتمكن من أن نكون مثل هؤلاء “الغاصبين الله” الذين طالما رأيناهم في تاريخ الكنيسة ونجدهم أيضاً في عصرنا، فنرصّ الصّفوف عن وعي وتصميم قياماً بهذه الرسالة فنظهر المسيح للناس ونعاون كلّ إنسان على اكتشاف نفسه في المسيح ونساعد أناس عصرنا، إخواننا وأخواتنا، الشعوب والأمم، وكلّ البشر والدول المتخلّفة والغنية، وعلى الجملة الجميع، ليعرفوا “غنى المسيح الذي لا يُسبر له غور” (72) والذي هو في متناول كلّ إنسان ومجلبة خير لكلّ إنسان.
- رسالة الكنيسة وحرية الإنسان
وفي هذه المشاركة في الرسالة التي قرّرها السيّد المسيح، ينبغي لجميع المسيحيين أن يهتدوا إلى ما يجمعهم قبل أن تتمّ وحدتهم الكاملة. وهذه الوحدة هي رسولية وإرسالية وإرسالية ورسولية. وبفضلها نتمكن من الاقتراب من هذا التراث الفكري الإنساني الرائع الذي ظهر في جميع الأديان، على ما علّم المجمع الفاتيكاني في بيانه “في عصرنا” (73) وبفضلها أيضاً نتعرّف إلى جميع أنواع الثقافات الإنسانية وجميع العقائديات وكلّ من الناس ذوي الإرادة الصالحة، ونفعل ذلك بما ينبغي من احترام وتقدير ونفاذ بصيرة، تميّز بها منذ عهد الرسل المسلك الإرسالي ومسلك المرسل. وحسبنا أن نذكر بولس الرسول وخطابه مثلاً أمام محفل أثينا (74). وينشأ المسلك الرسولي دائماً عن شعور باحترام عميق نحو “كلّ ما في الإنسان” (75) وبتقدير لكلّ ما فكّر به في أعماق صدره من قضايا سامية وخطيرة. فالمسألة إذن مسألة احترام لكلّ ما فعله فيه “الروح الذي يهب حيث يشاء” (76). فالرسالة لا تهدم شيئاً على الاطلاق، لكنها تبني كلّ ما هو حسن وتعلي فوقه البناء. وإنّا لنعرف أنّ ارتداد القلب الذي يجب أن ينبع من هذه الرسالة إنما هو عمل النعمة التي يجب على الإنسان أن يكتشف ذاته فيها مجدّداً.
ولهذا السبب تولي الكنيسة اليوم أهمية كبرى كلّ ما عرض المجمع الفاتيكاني الثاني في بيانه عن الحرية الدينية، سواء أكان في الجزء الأوّل أم في الجزء الثاني من هذه الوثيقة (77). وإنّا لنشعر شعوراً عميقاً بما تلزمنا به الحقيقة التي أوحاها الله إلينا من واجب وندرك تمام الإدراك على الأخصّ ما علينا من إلزام ضميري تجاه الحقيقة التي أقام السيّد المسيح الكنيسة، يوم أسّسها، قيّمة عليها ومعلّمة فخصّها بحماية الروح القدس لتتمكّن من المحافظة على هذه الحقيقة وتعليمها على سلامتها وصفائها (78). وإنّا إذ نقوم بهذه الرسالة نتطلع إلى السيّد المسيح، أوّل معلّم للإنجيل (79) وإلى رُسُله وشهدائه ومعترفيه. ويظهر لنا بيان في الحرية الدينية، بما لا يقبل الجدل، كيف أنّ المسيح ورسله من بعده عندما علّموا الحقيقة الآتية لا من الناس بل من الله “ليس تعليمي من عندي بل من عند الذي أرسلني” (80) وعلّموا بكلّ ما أوتوا من قوة تفكير، حافظوا دائماً على احترام كبير للإنسان ولعقله وإرادته وضميره وحريته (81). وهكذا أصبحت كرامة الإنسان جزءاً من مضمون هذه البشارة ولو لم يُفصح عنها، بل دلّ عليها فقط التصرّف تجاه الإنسان. ويبدو أن هذا المسلك يلبي حاجات عصرنا الخاصّة. ذلك إنّ حريّة الإنسان ليست في كلّ ما تحسبه مختلف الأنظمة وحتى الأفراد، حرية وتنادي به على أنّه حرية. ولهذا فإنّ الكنيسة بما لها من رسالة إلهية هي قيّمة على هذه الحرية التي هي شرط لكرامة الإنسان الحقيقية وأساس لها.
ويذهب يسوع المسيح إلى لقاء الإنسان في كلّ عصر، وعلى الأخصّ في عصرنا، بهذه العبارة عينها: “تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم” (82) وتنطوي هذه العبارة على واجب وتحذير: واجب الإخلاص للحقيقة كشرط للحرية الحقّ وتحذير للإعراض عن كلّ حرية مزيفة سطحية تعاضد حزباً واحداً فقط ولا تنفذ إلى صميم الحقيقة حول الإنسان والعالم. واليوم كذلك وبعد مرور ألفي سنة، يبدو لنا أنّ المسيح هو من يحمل إلى الإنسان الحرية القائمة على الحقيقة، وهو من يحرّر الإنسان من كلّ ما يقيد هذه الحرية وينتقص منها انتقاصاً يكاد يستأصلها من نفس الإنسان وقلبه وضميره. ولكم أكّد هذا الأمر تأكيداً يستدعي الإعجاب، ولا يزال يؤكده، أولئك الذين أدركوا، بالمسيح وفيه، الحرية الحقّ وشهدوا لها ولو ذاقوا الأمرين.
والسيّد المسيح عندما سيق أسيراً أمام محكمة بيلاطس وسأله هذا عن الشكاوى التي وجّهها إليه أعضاء مجلس الشيوخ، أما أجاب بقوله: “إني ولدت لهذا وأتيت إلى العالم لأشهد للحقّ” (83)؟ لكأنّ السيّد المسيح بهذه العبارة التي فاه بها أمام القاضي في أحرج ساعات حياته، قد جدّد ما قاله سابقاً: “تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم” أفما مَثَل السيد المسيح مراراً، على مرّ العصور و الأجيال منذ عهد الرسل، إلى جانب من يحاكمون من أجل الحقّ؟ أفما قاسى الموت غالباً مع من حُكم عليهم من أجل الحق؟ أفبطل أن يكون دائماً ترجماناً ومحامياً عمّن يحيون “في الروح والحقّ” (84)؟ فكما أنّه لم ينقطع عن أن يكون ما كان أمام الآب، فسيكون دائماً بالنسبة إلى تاريخ الإنسان. والكنيسة بدورها برغم ما يعتور تاريخها البشري من نقائص عديدة لن تنقطع عن اتباع ذاك القائل: “ولكنّ السّاعة تأتي وهي الآن هنا، حيث السّاجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحقّ، لأن الآب يطلب هؤلاء الساجدين له. إنّ الله روح، فيجب على الساجدين أن يسجدوا بالروح والحقّ” (85).
-3-
الإنسان المفتَدى
ووضعه في العالم المعاصرْ
- لقد اتحد المسيح بكلّ إنسان
عندما ننفذ إلى سرّ المسيح، بعد أن تعلّمنا ما تعلّمنا من اختبار العائلة البشرية الآخذة بالتزايد المستمرّ السريع، نفهم بوضوح أكبر أنّ في أساس هذه السبل التي يجب أن تسلكها كنيسة اليوم، وفقاً لتوجيهات البابا بولس السادس (86)، طريقاً وحيداً خبرته العصور وهو أيضاً طريق المستقبل. وقد دلّ المسيح الربّ على هذا الطريق، عندما “اتّحد نوعاً ما ابن الله بتجسّده بكل إنسان”، على ما يعلم المجمع (87). وترى الكنيسة أنّ من أولى واجباتها أن تسعى دائماً إلى تحقيق هذه الوحدة وإلى تجديدها. وهذا ما ترغب الكنيسة في السعي إليه، ليهتدي كلّ إنسان إلى المسيح، ويقطع المسيح أشواط الحياة مع كلّ إنسان، بقوّة الحقّ التي تحرّك الإنسان والعالم والتي تكمن في سرّ التجسّد والفداء وبقوة المحبّة التي تشعّ منه. وبين التطورات التي تطرأ على مجرى الأحداث البشرية وتتزايد باستمرار وتتكاثر في عصرنا في نطاق مختلف الأنظمة والمفاهيم والعقائد حول العالم والسلطات العامّة في الدول، يحضر السيّد المسيح نوعاً ما مجدّداً، برغم أنّه يبدو غائياً، وبرغم ما يواجه الكنيسة من مضايقات مختلفة تمنعها من أن تنعم تماماً بالحضور والعمل الخاصّين بها منذ نشأتها. إنَّ المسيح حاضر بقوّة الحقّ والمحبّة التي بلغت فيه ملئاً فريداً لا سبيل إلى تكراره، برغم حياته القصيرة على الأرض ونشاطه العام الأقصر.
وطريق الكنيسة الأساسي هو يسوع المسيح وهو طريقنا إلى “الآب” (88) والطريق إلى أيّ إنسان. وفي هذا الطريق الذي يؤدّي من المسيح إلى الإنسان، في هذا الطريق الذي ينضّم فيه المسيح إلى كلّ من الناس، ما من أحد يمكنه أن يوقف الكنيسة. هذا ما يقتضيه خير الإنسان الزمني وخيره الأبدي، ومن أجل المسيح وسرّه الذي تتوقف عليه حياة الكنيسة لا يمكن صدّ الكنيسة عن كلّ ما يعود على الإنسان بالخير ولا يمكنها هي أن تتغاضى عمّا يصيبه من ضرر. ولقد أكدّ المجمع الفاتيكاني الثاني في مواضع مختلفة من وثائقه هذه العناية الخاصّة التي تبذلها الكنيسة لكي تزداد الحياة في العالم ملائمة لما للإنسان من كرامة فائقة (89)، من جميع الوجوه، ولتصبح الحياة أكثر إنسانية (90). وهذه هي عناية المسيح عينه الراعي الصالح بجميع الناس. وبفضل هذه العناية، على ما نقرأ في دستور رعوي من المجمع، لا يمكن الكنيسة بحكم رسالتها وصلاحيتها أن تتلبس بأيّ حال من الأحوال بالجماعة السياسية ولا أن ترتبط بأيّ نظام سياسي وهي دليل على ما يمتاز به الشخص البشري من سموّ، و ضمانة له (91).
فالقضيّة هنا تتناول الإنسان في حقيقته الكاملة وفي بُعده الشامل، ولا تتناول الإنسان “المجرّد” بل الإنسان الحقيقي كما هو، الإنسان “الواقعي” “التاريخي”، كما يقال. هي قضية كلّ إنسان، لأنّ سرّ الفداء شمل كلاً من الناس، إذ إن المسيح، عبر سرّ الفداء، انضمّ إلى كلّ إنسان في كلّ زمان. فكلّ إنسان آتٍ إلى الحياة، بعد أن حبلت به أمه وولدته، ينعم برعاية الكنيسة بفضل سرّ الفداء. وتتناول هذه الرعاية الإنسان بكامله وتتركّز بطريقة خاصّة عليه وتتوجه إليه في وجوده الواقعي المحسوس الذي لا يتكرّر والذي تبقى فيه كاملة صورة الله ومثاله (92). وقد أشار المجمع إلى هذا الأمر عندما تحدّث عن هذا الشَبَه، فذكر بأنّ الإنسان هو الخليقة الوحيدة التي “أرادها الله لذاتها” (93) والإنسان الذي “أراده” الله هكذا “واختاره” منذ الأبد ودعاه وأعدّه للنعمة والمجد إنما هو كلّ إنسان، الإنسان “الواقعي” على أكبر قدر من الواقعية، و”الموجود” على أكبر قدر من الوجود، هذا هو الإنسان المزيّن بملء السرّ الذي يشارك فيه المسيح يسوع، هذا السرّ الذي يشارك فيه كلّ من الأربعة مليارات من الناس الموجودين على الأرض منذ اللحظة التي حُبل فيها به كلّ منهم في جوار قلب أمّه.
- جميع طرق الكنيسة تقود إلى الإنسان
لا يجوز للكنيسة أن تتخلّى عن الإنسان الذي يرتبط “مصيره” بالمسيح ارتباطاً وثيقاً لا ينفصم، أي اختياره ودعوته، ولادته وموته، خلاصه أو هلاكه، ونعني أيّ إنسان وُجد على سطح الكرة الأرضية التي أعطاها الخالق للإنسان الأوّل، للرجل والمرأة يوم قال: “اخضعوها (الأرض) وتسلّطوا” (94). ونقول مطلق إنسان إذا ما اعتبرنا واقع وجوده بكامله الذي لا يتكرّر، واقع عمله، واقع عقله وإرادته، ضميره وقلبه. وللإنسان في واقعه الفريد، بما أنه “شخص”، أطوار حياته، ولا سيّما تاريخ نفسه، وكأنّ الإنسان المفكّر الخاضع لمختلف حاجات الجسد و الحياة الزمنية، يكتب حياته هذه بما يشدّه إلى مختلف الناس من روابط وعادات وظروف حياة وبُنى اجتماعية، ويبدأ بهذه الكتابة منذ بدء وجوده على الأرض أي منذ الحَبَل به وولادته. إن الإنسان في كامل حقيقة وجوده أي في شخصه وحياته الجماعية و الاجتماعية، أعني في نطاق عائلته ومجتمعه ومختلف ظروفه وفي نطاق أمته أو شعبه (ولربما في نطاق ما يشدّه من رباط خاص بعائلته وبقبيلته) وفي نطاق الجنس البشري بأجمعه، هذا الإنسان هو بمثابة الطريق الأوّل الذي يجب على الكنيسة أن تسلكه لدى قيامها برسالتها. إنه طريق الكنيسة الرئيسي الأوّل الذي شقّه السيّد المسيح، إنّه الطريق الذي يمرّ دائماً بسرّ التجسّد والفداء.
إنّ هذا الإنسان بالذات، في كامل حقيقة حياته وفي ضميره وميله المستمرّ إلى الخطيئة وتوقه أيضاً المستمرّ إلى الحقيقة والخير والجمال والعدالة والحبّ، هو ما راقبه المجمع الفاتيكاني الثاني، عندما وصف حالة الإنسان في عالم اليوم منطلقاً من حالته وشؤونه وقضاياه الخارجية إلى اكتشاف حقيقة الجنس البشري الباطنية: “ففي أعماق الإنسان تتصارع عوامل كثيرة إذ إنّه من جهة بوصفه مخلوقاً يدرك إنه محدود في الكثير من إمكانياته، ومن جهة أخرى، يشعر بأنّ رغباته لا حدّ لها، وبأنّه مدعو إلى حياة أسمى، فهو، بين هذه العوامل المتصارعة، مضطّر باستمرار إلى الاختيار بين هذا وذاك، والتخلّي عن هذا وذاك. والأسوأ من هذا كلّه إنّه كمخلوق ضعيف وخاطئ يفعل غالباً ما لا يريد ويحجم عن فعل ما يودّ أن يفعل وبالاختصار فهو يشكو انقساماً على نفسه وإلى هذا مردّ ما ينشب في المجتمع البشري من خلافات عديدة خطيرة” (95).
هذا الإنسان بالذات هو طريق الكنيسة الذي تكاد ترتكز عليه كلّ الطرق التي يجب أن تسلكها الكنيسة، لأنّ السيّد المسيح افتدى الإنسان، كلّ إنسان، دون استثناء، ولأنّ السيّد المسيح قد انضّم نوعاً ما إلى كلّ إنسان، دونما استثناء، ولو لم يعرف الإنسان ذلك. “إنّ المسيح الذي “مات وقام من أجل الجميع يهب الإنسان”، أيّ إنسان، وجميع الناس من “النور والقوّة ما يمكنه من أن يتجاوب مع دعوته السامية” (96).
ولما كان الإنسان إ ذن هو طريق الكنيسة وطريق حياتها وخبرتها اليومية، طريق جهادها وعملها، فمن الواجب أن تتجدّد كنيسة عصرنا دائماً وتقف على الحالة التي يعيش فيها الإنسان أي أن تطّلع على طاقاته التي تظهر وفقاً لما تتخذ دائماً من اتجاه جديد، وكذلك يجب على الكنيسة أن تتنبّه لما يهدّد الإنسان من أخطار وأن تعرف أيضاً كلّ ما يمنع “حياة الإنسان” من أن تصبح يوماً فيوماً “أكثر إنسانية” (97)، بحيث تتفق ومقوّمات الحياة وكرامة الإنسان الحقّ وعلى الجملة عليها أن تعرف كلّ ما يعرقل هذا السير.
- ما يخشاه إنسان اليوم
إنّا سنسعى إلى تطبيق الصورة، التي رسمها المجمع الفاتيكاني الثاني بدّقة ورصانة والتي لا تزال راسخة في الأذهان، على علامات الأزمنة وظروف الحالة التي تتغيّر باستمرار وتتبع اتجاهات معينة أكيدة. إن إنسان اليوم يرزح على ما يبدو، تحت وطأة ما ينتجه أي ما تصنعه يداه وعلى الأخصّ ما يستنبطه عقله وتميل إليه إرادته. ونتاج صناعته البشرية المتعدّدة الأشكال عرضة – وبسرعة فائقة وبطريقة لا يمكن استباقها والتحسّب لها – للفقدان، يعني أنّ المنتج يُنتزع منه انتاجه وليس هذا وحسب، بل أنّ هذا النتاج، على الأقل في جانب من مفاعيله وبطريقة غير مباشرة، يرتدّ على الإنسان عينه. هذه هي المأساة الخانقة التي يعيشها إنسان اليوم بما لها من شمول وأبعاد، ذلك أنّ إنسان اليوم يعيش في خوف متزايد. فهو يخشى أن يرتّد عليه، ليس طبعاً، كلّ ما استنبط ولا معظمه، بل بعضه ولا سيّما ما ينطوي على جانب كبير من ذكائه ومهارته. وبخشى أن يصبح أدوات وأسلحة للتدمير الذاتي يتضاءل حياله ما يحدّث عنه التاريخ من آفات وكوارث حتى لتبدو وكأنها لا شيء. ولهذا يجب أن نتساءل: لماذا هذه الطاقة التي أُعطيها الإنسان منذ البدء ليخضع بها الأرض (98)، ترتّد عليه فتبعث فيه – وهذا ما لا يصعب فهمه – القلق، والخوف الواعي واللاواعي والشعور بالتهديد الذي يتولّى العائلة البشرية اليوم، بطرق مختلفة، ويتجلّى بأشكال متباينة؟ وتتخّذ هذه الحالة من الخوف التي تثيرها في الإنسان اختراعاته اتجاهاتٍ مختلفة ودرجات متفاوتة. وإنّا لنلاحظ أكثر فأكثر إن استغلال الأرض التي نعيش عليها يقضي بتوزيع خيورها توزيعاً محدّداً نزيهاً معقولاً وفق تخطيط مدروس. وفضلاً عن ذلك، إنّ استغلال الأرض الذي لا ينحصر في غايات اجتماعية بل يتناول أغراضاً حربيّة، وإن التقدّم التقني الذي لا يخضع لرقابة ولا لتنظيم إنسانيّ شامل، غالباً ما يفضيان إلى تهديد البيئة الإنسانية الطبيعية ويُفسدان علاقة الإنسان بالطبيعة ويُبعدانه عنها. وليس للبيئة الطبيعية في نظر الإنسان، على ما يبدو، من معنى إلاّ أن يستغلّها لأغراضه الآنية ويستخدمها للاستهلاك المباشر، بيد أنّ الخالق أوجدها ليتعامل الإنسان مع الطبيعة “كسيّد” لها و”حارس” عاقل وشريف لا “كمستغل” و”مخرّب” غير مبالٍ بشيء.
إنّ التقدّم التقني والتقدّم الحضاري الإنساني في عصرنا الذي يتميّز بسيطرة التقنية يتطلبان تقدماً متوازياً في حقل الأخلاق والحياة الأدبيّة، ولكن هذا التقدّم يبدو دائماً، ويا للأسف، متخلّفاً عن ذاك. أجل إن التقدّم المشار إليه، برغم ما فيه من روعة وبرغم أنّه يدلّ دلالة واضحة على عظمة الإنسان التي وصفها سِفْر التكوين في معرض كلامه عن الخلق (99) بأنها بذار خصب، هذا التقدّم لا يمكنه إلاّ أن يثير الكثير من المخاوف. وتتناول هذه المخاوف أوّل ما تتناول مسألة أساسية وهي هل يجعل هذا التقدم الذي أحرزه الإنسان ويدافع عنه، حياة الإنسان على الأرض، “أكثر إنسانية” من جميع الوجوه، و”ألْيَق بالإنسان”؟ ما من شكّ في أنّه يجعلها هكذا من وجوه مختلفة. ولكنّ هذا السؤال يعود علينا بإلحاح في ما يتعلّق بمسألة جوهرية وهي: هل الإنسان بما أنّه إنسان قد أصبح، في إطار هذا التقدّم، أحسن ممّا كان؟ أي هل أصبح أنضج روحياً، وأكثر وعياً لكرامته الإنسانية وتلبية لداعي الضمير وأحنى على الغير ولا سيّما الذين يعانون من حرمان ومرض؟ هل هو أكثر استعداداً للعطاء ولمد يدّ المساعدة للجميع؟ هذا هو السؤال الذي يجب على المسيحيين أن يطرحوه، بعد أن جعلهم السيّد المسيح يتحسّسون كلّ ما يتعلّق بالإنسان تحسّساً شاملاً، وهذا ما يجب أن يبحث عنه جميع الناس ولا سيّما الذين ينتمون إلى الأوساط الاجتماعية التي وقفت جهودها على العناية بشؤون التطوّر في أيامّنا. لا يجوز لنا، نحن الذين نراقب هذا التطوّر ونشترك فيه، أن ننساق في تيّار الهَوَس ونؤخذ بالإعجاب أمام ما حقّقناه من منجزات باهرة. ولكن علينا أن نطرح على أنفسنا في منتهى الصدق والواقعية والشعور بالمسؤولية الادبية هذه الأسئلة الجوهرية التي تدور حول وضع الإنسان اليوم وفي المستقبل. هل كلّ الاختراعات التي توصّل إليها العقل البشري، حتى اليوم، وتلك التي يحلم بها أرباب التقنية في المستقبل، تنسجم مع تقدّم الإنسان على الصعيد الأدبيّ و الأخلاقيّ؟ هل إنّ الإنسان بما أنّه إنسان، ينمو ويتقدّم في هذا المحيط، أم إنه يتراجع ويخفض من قدر إنسانيته؟ هل لدى الناس وفي “محيط الإنسان أياً كان” الذي ينطوي على الخير و الشرّ الأدبي، يتغلّب الخير على الشرّ؟ هل لدى الناس وبين الناس تتنامى محبّة البشر واحترام حقوق الغير، أياً كان هذا الغبر، إنساناً أم أمّة أم شعباً، أم هل على العكس من ذلك تتزايد الأنانية والعنصرية بدلاً من محبّة الوطن الحقيقيّة وتزداد شهوة السيطرة على الناس بتجاوز حقوقهم وتجاهل أفضالهم ويتوطّد العزم على استغلال المزيد من الخيور المادية الناتجة عن التقنية إمّا بغية السيطرة على الآخرين وإمّا قصد تملّق مختلف الرغبات في التسلّط على الشعوب؟
هذه هي التساؤلات الأساسية التي لا يسع الكنيسة إلاّ أن تطرحها، فيما يطرحها بطريقة تتفاوت وضوحاً مليارات الناس العائشين على الأرض. إن موضوع التطور والتقدّم أصبح حديث الناس وتعالجه جميع الجرائد والنشرات في كلّ لغات العالم المعاصر تقريباً. ويجب أن نضع، نصب أعيننا، أنّ هذا الموضوع لا ينطوي فقط على وقائع ثابتة بل أيضاً على أسئلة واهتمامات تقلق النفوس ولا تقلّ أهمية عن تلك الوقائع وهي تتوافق وطبيعة المعرفة الإنسانية لا بل تلبّي الحاجة الأساسية إلى اهتمام الإنسان بالإنسان وبإنسانيته وبمصير الناس على الأرض. وتعتبر الكنيسة التي تستلهم إيمانها بالآخرة أنّ من صميم رسالتها الاهتمام بالإنسان وبإنسانيته وبمستقبل الناس على الأرض وبما يتّخذه التقدم والتطور من اتجاهات وهذا ممّا يرتبط أوثق الارتباط بهذه الرسالة، وهي تجد في يسوع المسيح مبدأ هذا الاهتمام على ما يشهد به الإنجيل. ولهذا فهي ترغب دائماً في أن توسّع في المسيح دائرة هذا الاهتمام فيما تقيّم على أساس جديد، وضع الإنسان وفقاً لأهمّ ما في عصرنا من دلائل وعلامات.
- تقدّم أم تهديد؟
إذا كان زمننا أي زمن جيلنا يقترب من الألف الثاني، يبدو رائعاً بما أحرز من تقدّم، فإنّه في الوقت عينه يبدو حافلاً بأخطار من كل نوع تهدّد الإنسان، وهي أخطار لا بدّ للكنيسة من أن تحدّث عنها جميع الناس من ذوي الإرادة الصالحة وتحاورهم بشأنها. إنّ حالة الإنسان اليوم تبتعد على ما يبدو عمّا يقتضيه النظام الأدبي “الوضعي” وتتطلبه العدالة ولا سيّما المحبّة الاجتماعية الواجبة للناس، وهذا يعني ما أعلن عنه الخالق في الرسالة الأولى التي وجّهها إلى الإنسان عندما سلّمه الأرض “ليخضعها” (100). وقد أثبت السيّد المسيح هذه الرسالة في سرّ الفداء، وهذا ما أعرب عنه المجمع الفاتيكاني الثاني في هذه الفصول الرائعة في العقيدة وهي فصول تتناول كرامة الإنسان “الملوكية” أي دعوته إلى مشاركة السيد المسيح في “الوظيفة الملوكية” (101). وماذا تعني هذه “الوظيفة الملوكية” هذه “السيادة” على العالم المتطوّر، التي أولاها الخالق الإنسان وظيفة، سوى إيثار قاعدة الأخلاق على التقنية وتفضيل الشخص على الأشياء وتعليب الروح على المادّة؟
ولهذا يجب التدقيق في جميع أطوار التقدّم المعاصر، أي، بعد أخذ ما قلناه سابقاً بعين الاعتبار، تصوير جميع مراحل هذا التقدّم على الأشّعة، إذا جاز التعبير. فالمسألة مسألة تطوير الأشخاص وليس فقط تكثير الأشياء التي يتمكن الناس من استخدامها. والقضية، على ما قال أحد الفلاسفة المعاصرين وأكدّه المجمع (102)، ليست هي أن “نتملّك أكثر” بقدر ما أن “نكون أكثر”. وفي الواقع أنّ هناك خطراً أكيداً ملموساً وهو خشية الإنسان، فيما هو يوطّد سيادته على عالم الأشياء، أن يفقد أسباب هذه السيادة الأساسية فتخضع إنسانيته، بمختلف الأشكال، لهذه ويطوّقه التنظيم العضوي للحياة الجماعية، بمختلف الطرق – ولو لم يفطن لهذا الأمر حالاً – وتقيّده نُظُم الانتاج والاستثمار وضغط وسائل الإعلام. ولا يمكن الإنسان أن يتخلّى عن نفسه ولا عن مكانه الخاصّ به في هذا العالم المتطور، ولا يجوز له أن يكون عبداً للأشياء، عبداً للأنظمة الاقتصادية، عبداً للانتاج والمنتجات. إنّ هذه الحضارة التي تركّز كل شيء على المادّة تفضي بالإنسان إلى هذا النوع من العبودية، ولو حصل ذلك دون علم من يروّجون لها أو برغم إرادتهم. وهذا هو سبب ما يساورنا من قلق حيال الإنسان اليوم. وليس المهمّ أن نجيب جواباً في المطلق عن هذا السؤال: من هو الإنسان؛ ذلك إنّ القضية تتناول زخم الحياة وحيويتها في مجملها، وتتناول الحضارة المدنية. والقضية قضيّة مبادرات مختلفة تتعلّق بالحياة اليومية وفي الوقت عينه تتعلّق بما يجب أخذه من وسائل لنشر الحضارة وتتعلق بالشؤون السياسية والاقتصادية وما سوى ذلك من شؤون تختصّ بالدولة. وإنّا لنرى أنّ ظروف الإنسان المعاصر تنأى به عما تفرضه القاعدة الأدبية والعدالة من متطلبات موضوعية لأن الأعمال والأمثلة المعروفة تؤكد ذلك، وغالباً ما عالج هذا الموضوع الأحبار الأعظمون والمجمع ومجالس الأساقفة في ما أصدروا من رسائل (103). وما من شكّ في أنّ حالة الإنسان اليوم ليست من نوع واحد بل هي مختلفة الأنواع ومردّ هذه الفوارق إلى أسباب تاريخية كان لها أثرها على صعيد القاعدة الادبية، وإنّا نعرف حقّ المعرفة أيّ مقام تحتل حضارة الاستهلاك هذه، القائمة على توفير الخيور التي يحتاج إليها الإنسان والمجتمعات بكاملها وهي مجتمعات غنية ومتطورة فيما يظل سواها من المجتمعات، وعلى الأقلّ قسم كبير منها، يعاني من جوع، وفيما يموت كلّ يوم من حرمان وقلّة غذاء عدد غير يسير من الناس، وهناك كثيرون ممّن يسيئون استعمال الحرية فيسرفون في الاستهلاك اسرافاً يبتعد بهم عن القاعدة الأدبية، وهذا ما يضيّق على سواهم، في الوقت نفسه، مجال الحرية أي على الذين، لشدّة ما يعانون من فاقة، يقعون في هوّة البؤس والشقاء. وهذا المَثَل الذي يعرفه الجميع، وهذا التناقض الذي أشار إليه الأحبار الأعظمون في عصرنا وآخرهم عهداً يوحنا الثالث و العشرون وبولس السادس (104)، يظهران في شكل مضخّم ما رواه الإنجيل في مَثَل الغني الذي يولم الولائم ولعازر الفقير (105).
وإنّ تفاقم هذا الأمر يضع موضع الاتهام البنى المالية والنقدية والإنتاجية والتجارية، التي تعتمد على مختلف الضغوط السياسية لتدير الاقتصاد العالمي. وهي تعجز عن القضاء في المجتمع على الظلم الموروث عن العهود الغابرة، وعن مواجهة مقتضيات العصر الحاضر وحاجاته المعنوية. وفيما توقع هذه البنى الإنسان تحت وطأة ما أوجد لنفسه من حاجات، وقيما تبدّد بسرعة خيور الأرض وطاقاتها، وفيما تُفسد البيئة الطبيعية، فإنها تتسبب دونما انقطاع بتوسيع مناطق البؤس، وفي الوقت عينه بتمديد دائرة القلق وخيبة الأمل والمرارة (106). وإنّا نواجه حالة مخيفة يستحيل الوقوف حيالها موقف اللامبالاة، ذلك أنّ من يبذل من جهةٍ جهده ليجني أضخم الأرباح، ومن يدفع من جهة ثانية ثمن الأضرار والأخطاء، إنما هو دائماً الإنسان. ويشتدّ خطر هذه الحالة على الأخصّ بوجود طبقات اجتماعية في المحيط عينه تنعم بالامتيازات وأسباب الرفاه وشعوب غنية متطورة تكدّس الخيور إلى درجة يصبح غالباً معها غناها الفاحش مدرجة لاضطرابات مختلفة، وهذه هي عوارض هذه الفوضى الأخلاقية التي تجتاح العالم بأجمعه والتي تستدعي اتخاذ تدابير جريئة ناجعة تتفق وكرامة الإنسان (107)، وهذا أمر لا يفوق طاقة الإنسان، ويجب أن يدفع ما يسمّى بمبدأ التضامن بمعناه الواسع، إلى إعداد مؤسّسات وأجهزة خاصّة إعداداً فعّالاً، سواء في ما يتعلّق بتبديل الأحوال وهو قطاع يجب أن تنظّمه قوانين تفتح المجال لمناقشة سليمة، أو في ما يتعلّق بمراقبة الخيور وتوزيعها توزيعاً أوسع يلبّي الحاجات المباشرة لتتمكّن الشعوب المتخلّفة اقتصادياً، لا من أن تؤمّن حاجاتها الضرورية وحسب، بل أن تتطور شيئاً فشيئاً تطوراً أكيداً.
ويصعب التقدّم على هذا الطريق الشاق، طريق تبديل البنى الاقتصادية، ما لم يتمّ التبديل في التفكير والإرادة والقلب. وهذا يتطلب عملاً حاسماً يقوم به أناس أحرار وشعوب حرّة متضامنة. وغالباً ما تختلط الحرية بالاهتمام الطبيعي بالمصالحة الخاصّة والعامّة، وحتى بالميل الطبيعي إلى القتال والسيطرة، أيّاً كانت ألوان العقائد التي تتلبّس بها هذه المطامع. ومن الثابت أنّ هذه النوازع موجودة وفاعلة، وما من سبيل إلى إقامة اقتصاد إنساني سليم ما لم تحتوها وتكبح جماحها القوى العليا الكامنة في الإنسان، والمبادئ التي تقوم عليها حضارة الشعوب الأصيلة. فمن هذه الينابيع يجب أن تفيض الجهود التي تعرب عن الحرية الإنسانية الحقيقية وتؤمّن هذه الحرية حتى في القطاع الاقتصادي وترعاها. ويجب دائماً تنظيم النمو الاقتصادي وتحقيقه، هو وكلّ ما يتعلّق بطريقة العمل الخاصّ به ضمن نطاق مخطّط يتناول تطور جميع الناس والشعوب تطوراً كاملاً مترابطاً على ما نبّه إليه، بعزم وقوة، سَلَفنا البابا بولس السادس في رسالته “ترقّي الشعوب”، وإلاّ طغى هذا النظام وحده المتعلّق “بالتطور الاقتصادي” بحيث ينتهي إلى إخضاع الحياة الاقتصادية بمجملها لفئة واحدة أعني للمصالح الصغيرة الخاصّة فيَسحق الإنسان ويفكّك المجتمعات، ويتعثر أخيراً بأزماته وأخطائه. ويمكن القيام بهذه المهمة، ويشهد على ذلك بعض أعمال وأحداث يطول تعدادها بالتفصيل، غير أنّ هناك أمراً راهناً وهو أنّه يجب في أساس هذا القطاع الفسيح إرساء الشعور بالمسؤولية الأدبية التي يجب على كلّ إنسان أن يتحمّلها، كما يجب تعميق هذا الشعور وترسيخه. وهوذا مجدّداً ودائماً وأبداً الإنسان عينه. أما بالنسبة إلينا نحن معشر المسيحيين فالواجب الضميري حيال هذه الأمور يصبح واضحاً كلّ الوضوح، إذا نظرنا بالبصيرة – ويجب أن ننظر دائماً – إلى لوحة الدينيونة الأخيرة وفقاً لعبارات السيّد السميح التي أوردها إنجيل متى (108).
ويجب دائماً تطبيق هذا المشهد عن اليوم الأخير على تاريخ الإنسان ليصبح أبداً مقياساً للأعمال البشرية أو شبه خطوط أولية ينطلق منها جميع الناس، وكلّ منهم، لمعرفة الذات: “لأني كنت جائعاً فما أطعمتموني. وعرياناً فما كسوتموني… ومحبوساً فما أفتقدتموني” (109). وترتدي هذه العبارة طابعاً بارزاً من التحذير، عندما نرى أنّه بدلاً من أن يُقدّم الخبز والمعونة الثقافية للدول والشعوب الناشئة المستيقظة على بعض أشكال الحرية، تُقدّم لها أحياناً، بكثرة، أسلحة جديدة وأدوات تدمير تستخدم في النزاعات المسلّحة و الحروب، لا للدفاع عن الحقوق المشروعة والسيادة، بل في سبيل تأكيد التعصّب الوطني المتطرّف و شهوة التسلّط واعتماد شكل جديد من مختلف أشكال الاستعمار. وكلّنا نعرف جيداً أنّ المناطق التي تشكون الجوع والفقر في العالم، لأصبحت في وقت قصير مناطق خصب وازدهار، لو أنّ المبالغ الضخمة التي استخدمت لتكديس الأسلحة المعدّة للحروب والانقلابات والخراب، قد وُظفّت في مجالات التغذية أعني فيما يخدم الحياة.
قد تظلّ هذه الفكرة من بعض الوجوه فكرة “مجرّدة”. وقد توفّر لكلتا “الفئتين”، بعد أن تناستا أخطاءهما، مجال التراشق بالتهم وقد تكون سبباً لسَوق شكاوى جديدة على الكنيسة التي لا يمكنها، ما دام ليس لها سلاح غير سلاح الروح والكلمة والمحبة، إلاّ أن “تجهر بالكلام بوقته وغير وقته” (110). ولهذا إنها لا تفتأ تستحلف كلتا الفئتين وتسأل جميع الناس باسم الله والإنسان أن: لا تقتلوا، لا تهيؤا للناس الخراب والمجازر. فكّروا بأخوانكم المتضوّرين جوعاً والمتقلّبين في أحضان الشقاء! احترموا كرامة كلّ من الناس وحريته.
- حقوق الإنسان: “حرف” أم “روح”
حمل عصرنا حتى اليوم إلى الإنسان المصائب والنكبات لا المادية وحسب، بل المعنوية ولا سيّما المعنوية. ليس من السهل طبعاً في هذا المجال أن نقارن بين العصور والأجيال، لأنّ ذلك يخضع لأحكام التاريخ المتغيّرة. ولكن بالرغم من تعذّر اللجوء إلى هذه المقارنات، لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذا العصر كان عصراً أعدّ فيه الناس لنفوسهم الكثير من المظالم والمحن والآلام. ترى هل أُوقف مجرى هذه الأحداث بطريقة جازمة؟ لا يمكننا على كلّ حال إلاّ أنّ نذكر هنا بعاطفة التقدير وبأمل كبير بالنسبة إلى المستقبل، المجهودر الخيّر الذي بذل لأجل تأسيس منظمة الأمم المتحدة وتحديد حقوق الإنسان الموضوعية التي لا تُمسّ، وتنظيمها، بعد أن تعهدت الدول أعضاء هذه المنظمة، بعضها تجاه البعض الآخر، بالمحافظة التامّة على هذه الحقوق. وقد أقرّ تقريباً جميع الدول اليوم هذا التعهد. وهذا ما يحمل على الأمل بأنّ حقوق الإنسان ستكون في جميع أنحاء الأرض، المبدأ الأساسي الذي يوجّه العمل لخير الإنسان.
ليست الكنيسة بحاجة إلى تأكيد المدى الذي ترتبط معه هذه القضية برسالتها في العالم، وهي قضية يقوم عليها السلام الاجتماعي والدولي، على ما أعلن يوحنا الثالث والعشروين والمجمع الفاتيكاني الثاني وبعدئذ بولس السادس في ما نشروا من وثائق خاصّة بهذا الصدد. وعلى الجملة أنّ السلام يقوم على احترام حقوق الإنسان التي لا تُمسّ – السلام صنع العدالة – بينما على العكس من ذلك تندلع الحرب من جرّاء خرق هذه الحقوق فتحمل معها خرقاً أشدّ لهذه الحقوق بالذات. وإنّه لمن المؤلم حقاً أن تُخرق حقوق الإنسان في زمن السلم. وأمّا في مجالات التقدّم فيستحيل التصديق بأنّ الإنسان يقاتل الإنسان ويعرقل كلّ منهج يدّعي إنّه “إنساني”. وأيّ منهج اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي يرضى بألاّ يُحدّد على هذا الوجه؟ وإنّا لعلى أرسخ يقين أنّه ما من منهج في عالم اليوم منه هذا النوع لا يحتلّ فيه الإنسان المقام الأوّل، برغم ما هناك من عقائد تتصارع حول مفهومها للشؤون الإنسانية وللعالم.
وإذا كنا نرى برغم هذه المقدّمات أنّ حقوق الإنسان تخرق بأشكال متنوعّة، وإذا كنّا نقف وقفة شهود أمام المعتقلات والعنف والتعذيب والإرهاب، وإذا كنا نرى التّمييز البغيض يمارس ممارسة بشعة، فإنّ هذا كلّه يتأتى عن أسباب أخرى أو على ما يقال عن “مقدّمات” تنتقص من فعالية “المقدّمات الإنسانية” التي تتضمنها مناهج العالم المعاصر وأنظمته وغالباً ما تقضي عليها، لذلك يجب إعادة النظر باستمرار في مثل هذه المفاهيم، انطلاقاً مما يتعلّق بحقوق الإنسان “الوضعية” التي لا تُمسّ.
وما كان إعلان هذه الحقوق وإنشاء منظمة الأمم المتحدة يهدف إلى منع الجرائم النكراء التي ارتكبت أبان الحرب الكونيّة الأخيرة وحسب، بل إلى إرساء أساس صالح لإعادة النظر باستمرار في المفاهيم والأنظمة وأساليب الحكم لدى الدول، وهذا ما يجب القيام به انطلاقاً من قاعدة واحدة أساسية تسمّى خير الإنسان – أو الشخص في الجماعة – ويجب، بما أنّه عنصر أساسيّ للخير العامّ، أن يكون معياراً رئيسياً لجميع المفاهيم والأنظمة وأساليب الحكم. وإذا لم يتمّ ذلك فإنّ الحياة البشرية تخضع، ولو في زمن السلم، لمختلف أنواع المحن والمصائب التي يتفاقم معها التسلّط و الاستبداد والاستعمار الجديد، والرغبة الجامحة في إخضاع الشعوب وهذا يعمل على إفساد العلاقات بين الأمم ولا سبيل، وهذا غالباً ما تثبته التواريخ، إلى الفصل بين خرق حقوق الإنسان وخرق حقوق الأمة التي يرتبط بها الإنسان بروابط عضوية كما لو بعائلة كبرى.
في النصف الأول من هذا القرن، بعد أن طغى التسلّط وتفاقم الاستبداد الذي تسبّب على ما هو معلوم بكارثة الحرب الكونية الهائلة، كانت الكنيسة قد أ وضحت رأيها في هذا النوع من الأنظمة المستبدّة التي كانت تعمل ظاهراً لمصلحة عليا هي مصلحة الدولة فيما كانت القضية فعلاً – والتاريخ شاهد – قضية مصلحة حزب كان يحاول أن يجعل نفسه والدولة واحداً (111). وقد ضيّقت هذه الأنظمة الخناق على المواطنين فأنكرت عليهم حقوق الإنسان التي لا تُمسّ والتي تأكدت حوالي منتصف هذا القرن في مقرّ المنظمة الدَّولية. والكنيسة، إذ تشاطر جميع الناس ذوي الإرادة الصالحة وجميع محبّي العدالة والسلام حقاً الفرحة بهذا التقدّم، وإذ تعرف أنّ “الحرف وحده يقتل” وأنّ “الروح وحده يحيي” (112) لا بدّ لها من البحث باستمرار مع جميع ذوي الإرادة الصالحة عمّا إذا كان إعلان حقوق الإنسان والتسليم بحرفها يعني في كل مكان على الأرض تحقيق “روحها”. ومن دواعي الخوف أنّنا ما زلنا أبعد من أن نحقّق هذا الأمر وأنّ “روح” الحياة العامّة الاجتماعية تختلف أحياناً تمام الاختلاف عن “الحرف” الذي يؤكد حقوق الإنسان. والذين عملوا على خلق حالة من هذا النوع خطيرة بالنسبة إلى مجتمعاتهم يتحملّون مسؤولية خاصّة تجاه المجتمعات عينها وتاريخ الإنسان.
ويقوم مفهوم الدولة الأساسي بوصفها جماعة سياسية على أن يكون المجتمع ومن يتألف منه، وهو الشعب، سيد مصيره وصانعاً له. ولا يتجسّد مفهوم دولة من هذا النوع في الواقع إذا قام نفر من الناس مقام سلطة يشترك فيها المجتمع أو الشعب معنوياً ويمارسها، ويخضعون لسلطانهم وتسلّطهم باقي المواطنين في هذا المجتمع. وهذا من الأهمية بمكان في عصرنا الحاضر الذي نما فيه إلى حدّ كبير وعي الناس الاجتماعي ورغبة المواطنين، في الوقت عينه، في الاشتراك في الحياة السياسية، بعد أخذ وضع كلّ شعب على حقيقته بعين الاعتبار وضرورة قيام سلطة عامّة قوية (113). وهذه قضايا شديدة الأهمية بالنسبة إلى تقدّم الإنسان وتطور إنسانيته الشامل.
وقد علّمت الكنيسة دائماً واجب العمل من أجل المصلحة العامّة وهكذا نشّأت لكل دولة مواطنين صالحين، ونبّهت فضلاً عن ذلك إلى أنّ من أولى واجبات السلطات العامّة، رعاية مصالح المجتمع العامّة، وإلى هذا مرّد ما تتمتع به من حقوق أساسية. وبفضل ما اقترحناه “كمقدّمات” تتعلّق بالنظام الأدبي “الوضعي”، لا سبيل إلى تفهّم حقوق السلطة العامّة إلاّ إذا أخذنا بعين الاعتبار حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تُمسّ. وتتحقّق على أكمل وجه المصالحة العامّة التي تقف السلطة العامّة في الدولة ذاتها على خدمتها، عندما يطمئن المواطنون إلى حقوقهم، وإلاّ تفكّك المجتمع وثار المواطنون على السلطة، ونشأت حالة من المضايقات والترويع والعنف والإرهاب، ولنا على ذلك عدة أمثلة قدّمتها لنا في هذا العصر حكومات جائرة مستبدّة. وهكذا أصبح مبدأ حقوق الإنسان مرتَكَزاً للعدالة الاجتماعية، ومقياساً يُعتمد عليه لمعرفة ما إذا كان يُحافظ على هذه الحقوق في حياة المؤسّسات السياسية. ولا بدّ لنا في معرض الكلام عن هذه الحقوق من أن نلمّح إلى الحق في الحرية الدينية وحرية الضمير. وقد رأى المجمع الفاتيكاني الثاني من الضرورة القصوى أن يُصدر بياناً مفصّلاً في هذا الموضوع. فكانت الوثيقة التي عنوانها “الكرامة الإنسانية” (114) والتي عالجت هذه القضية، لا من الناحية اللاهوتية وحسب، بل من ناحية الحقّ الطبيعي، أي من ناحية “إنسانية محض” وفقاً لهذه المقدّمات المستقاة من خبرة الإنسان وعقله والشعور بكرامته. وممّا لا شكّ فيه أنّ الانتقاص من الحرية الدينية سواء أكان بالنسبة إلى الأفراد أو الجماعات، هو تجربة قاسية جداً بالنسبة إلى هؤلاء ولكنهم يعتبرونها على الأخصّ طعنة نجلاء في صميم كرامة الإنسان، بقطع النظر عن رأيهم في الدين والعالم. والحدّ من الحرية الدينية وخرقها يتنافيان وكرامة الإنسان وحقوقه “الوضعية”، وقد أعلنت بصراحة وثيقة المجتمع التي أشرنا إليها سابقاً ما يعني هذان الحدّ والخرق للحرية الدينية. وهذا ما يؤذي الإنسان في صميم كيانه.
ولا سبيل إلى فهم الكفر والإهمال الديني والإلحاد، بما أنها شؤون بشرية، إلا بالنسبة إلى الدين والإيمان. ولهذا تصعب الموافقة حتى من ناحية “إنسانية محض” على الرأي القائل بحقّ الإلحاد وحده في المواطنية، إذا جاز التعبير، في الحياة العامّة والمدنية، فيما يكاد المؤمنون على العكس من ذلك، ومن ناحية مبدئية، لا يحظون بالسماح لهم بالوجود أو هم يعتَبرون مواطنين من درجة دنيا، يحرمون – وهذا ما حدث – حتى من الحقوق المدنية.
وهذا موضوع تجب معالجته، ولو باختصار، لأنه يتناول أوضاع الإنسان المتعدّدة في العالم المعاصر ويشهد على مدى اشتداد وطأة الأحكام المسبقة ومختلف أنواع الظلم في مثل هذه الحالة. وإذا كنا نحجم عن الدخول في التفاصيل في هذا المجال، برغم أنّ من حقنا وواجبنا أن نفعل ذلك، فلأنّا نستهدي، نحن وجميع من يعانون من التفرقة والاضطهاد من أجل اسم الله، بالإيمان بقوة الفداء الكامنة في صليب المسيح. ولكننا بحكم وظيفتنا نناشد بإلحاح باسم جميع المؤمنين بالله على كلّ الأرض، من يتولّون بشكل، أو بآخر، تنظيم الحياة الاجتماعية و العامَّة أن يحترموا حقوق الدين ونشاط الكنيسة.
لسنا نطالب بأيّ امتياز بل باحترام حق أولي بسيط، وممارسة هذا الحقّ إنما هو خير برهان على تقدّم الإنسان في كلّ مجتمع وفي كلّ نظام وأسلوب حكم ومحيط.
-4-
رسالة الكنيسة
وَمصير الإنسَان
- اهتمام الكنيسة بدعوة الإنسان في المسيح
هذه النظرة، ولو خاطفة حتماً، إلى حالة الإنسان في عالم اليوم، تحمل على رفع العقول والقلوب إلى يسوع المسيح، إلى سرّ الفداء الذي تندرج فيه قضية الإنسان بقوة خاصة، هي قوة الحقّ والمحبة. إذا كان المسيح قد “اتحد نوعاً بكلّ إنسان” (115)، فالكنيسة، وقد نفذت إلى صميم سرّ هذا الاتحاد وأبعاده الغنيّة الشاملة، تحيا حياة أعمق عبر طبيعتها ورسالتها. ولا يتحدث الرسول عبثاً عن جسد المسيح الذي هو الكنيسة (116). وإذا كان جسد المسيح السرّي هذا هو شعب الله على ما أكّد، فيما بعد، المجمع الفاتيكاني الثاني، وبالاستناد إلى تقليد الكتب المقدسّة والآباء القديسين فيتضح أن أيّ إنسان من هذا الشعب هو ممتلئ من روح الحياة هذا النابع من المسيح. وهذا يعني أنّ الكنيسة، عندما تنعم النظر في الإنسان وقضاياه الحقيقية، في آماله وآلامه، نجاحه وإخفاقه، تتلقّى بوصفها جسداً ومجموعة ووحدة اجتماعية، الإلهامات الإلهية وأنوار الروح وقواه النابعة من المسيح المعلّق على الصليب والقائم من بين الأموات: ولهذا السبب تحيا الكنيسة حياتها الخاصّة، وهي لا حياة لها إلاّ تلك التي وهبها إياها عروسها وسيّدها، ذلك أنّه بات لزاماً عليها بما أنّ المسيح اتحد بها في سرّ الفداء أن ترتبط بكلّ من الناس ارتباطاً وثيقاً.
وارتباط المسيح هذا بالإنسان إنما هو في حدّ ذاته سرّ يولد منه الإنسان الجديد المدعو إلى المشاركة في حياة الله (117) والذي خلقه المسيح مجدّداً ليقبل ملء النعمة والحقّ (118). وارتباط المسيح بالإنسان قوة للإنسان وينبوع قوّة على ما قال جازماً القديس يوحنا في مستهلّ إنجيله: (الكلمة) “أعطاهم سلطاناً ليصيروا أبناء الله” (119). هذه هي القوة التي تغيّر الإنسان من الداخل كمبدأ حياة جديدة لا تتلاشى ولا تزول، بل تبقى للحياة الأبدية (120). وهذه الحياة التي وعد بها الآب كلّ إنسان ووهبه إيّاها يسوع المسيح ابن الله الأزلي الوحيد المتجسّد والمولود، عندما جاء ملء الزمن (121)، من العذراء مريم، هي التمام النهائي لدعوة الإنسان. إنها نوعاً ما تمام هذا “المصير” الذي أعدّه الله للإنسان منذ الأزل. ويشق هذا “المصير” الإلهي طريقه فيجتاز أحاجي “المصير البشري” في هذا العالم الزمني وما فيه من خفايا وتعاريج ومنعطفات. وإذا كان كلّ هذا الذي يؤول إلى الحياة الخاضعة للزمن والفائضة بالخيور يقود حتماً إلى تخوم الموت وإلى الحدّ الذي يتحطم عنده الجسد البشريّ، فإنّ المسيح يتجلّى لنا عبر هذا الحدّ: “أنا القيامة والحياة من يؤمن بي.. لا يمت إلى الأبد” (122). وفي يسوع المسيح المعلّق على الصليب، الموضوع في القبر، والقائم منه يشعّ لنا الأمل بقيامة مجيدة “والوعد بالخلود الآتي” (123) الذي يسعى وراءه الإنسان من خلال موت الجسد مشاطراً الكون أجمع هذه الحتمية التي تخضع لها المادّة. وإنّا لنرغب في الاستزادة يوماً بعد يوم من التعمّق في معنى هذه الحقيقة التي ضمنّها فادي الإنسان في هذه العبارة: “الروح هو الذي يحيي، أمّا الجسد فلا يغني شيئاً” (124). وتعرب هذه العبارة، ولو لم يبد ذلك جلياً، عن أسمى تأكيد للإنسان، تأكيد الجسد الذي يحييه الروح.
وتختبر الكنيسة هذه الحقيقة فيما تحياها، وهي تحيا من هذه الحقيقة الخاصّة بالإنسان. وهذا ما يتيح لها أن تجتاز هذه المسافة الزمنية القصيرة وأن تخصّ كذلك بمحبّتها واهتمامها، ضمن نطاق الزمن المحدود، جميع الأمور التي لها شأن كبير بالنسبة إلى حياة الإنسان وإلى حياة الروح البشرية التي تعاني من قلق دائم أعرب عنه القديس اغسطينوس بهذه العبارة: “يا ربّ خلقتنا لك وسيظلّ قلبنا حتى يستقرّ فيك” (125) وكأنما يخفق في هذا القلق الخّلاق وينبض كلّ ما هو إنساني حقاً: البحث عن الحقيقة، الحاجة الدائمة إلى الخير، التوق إلى الحرية، الشوق إلى الجمال، صوت الضمير. والكنيسة، إذ تقبل على التأمل في الإنسان، وكأنها تتأمله “بعيني المسيح بالذات”، تعي أكثر فأكثر أنها قيّمة على كنز ثمين لا يحقّ لها أن تبدّده، بل عليها أن تكثّفه دائماً وأبداً، لأنّ السيّد المسيح قال: “من لا يجمع معي فهو يبدّد” (126). وكنز الإنسانية هذا الذي زاده غنىً السرّ الفائق الوصف الذي بواسطته يُعطى الناس أن يصيروا أبناء الله (127) ويتقبلوا نعمة تبني الأبناء (128) بابن الله الوحيد الذي ندعو بواسطته الله: “أباً، أيها الأبّ” (129) إنما هو طاقة كبيرة تجمع الكنيسة من الداخل على الأخصّ وتُعطى كلّ عملها ما له من معنى. وبفضل هذه الطاقة ترتبط الكنيسة بروح المسيح بالروح القدس الذي وعد به الفادي، والذي يهبه دونما انقطاع والذي يحلّ دائماً كما في يوم العنصرة. وهكذا تظهر في الناس قوات الروح (130) وهبات الروح (131) وثمار الروح القدس (132). وإذا بالكنيسة في عالم اليوم تبدو كأنها تردّد بحرارة متزايدة يوماً بعد يوم، وبإلحاح مقدّس، قائلة: هلّم، “أيها الروح القدس”، هلّم! هلمّ! “اغسل ما كان قذراً، رطّب ما كان جافاً، أشفِ ما كان مريضاً، ليّن ما كان صلباً، أضرم ما كان بارداً، قوّم ما كان معوّجاً” (133).
هذه الدعوة إلى الروح التي نلتمس فيها هذا الروح هي دحض للعقائد الماديّة المنتشرة في هذا العصر والتي تولّد في قلب الإنسان كثيراً من الأهواء التي يستحيل إشباعها. وهي دعوة تصغي إليها جهات كثيرة، ويبدو أنها تؤتي ثمارها بطرق مختلفة. وهل يمكن التأكيد أنّ هذه الدعوة لا توجّهها الكنيسة وحدها؟ أجل، لأنّ الكثيرين ممّن هم خارج حدود الكنيسة المنظورة، يعربون هم أيضاً عن “الحاجة” إلى شؤون الروح (134). أو ليس هذا ما تؤكده هذه الحقيقة التي شرحها بوضوح المجمع الجديد في الدستور الرسولي الذي بدؤه: “نور العالم” حيث يعلم أن الكنيسة هي “سرّ أو علامة وأداة اتحاد مع الله ووحدة الجنس البشريّ بكامله” (135)؟ وتمكّننا هذه الدعوة إلى الروح وبالروح من ولوج ما في سرّ الفداء من بُعد كامل يعطينا المسيح المتّحد بأبيه وبكلّ من الناس، بواسطته ودونما انقطاع، هذا الروح الذي يفيض فينا مشاعر الابن ويوجّهنا نحو الأب (136) ولهذا السبب يجب على كنيسة عصرنا – عصرنا المتعطّش إلى الروح والعدالة والسلام والمحبة والسماح والقوة والمسؤولية والكرامة الإنسانية – أن تلتفّ، إذ جاز التعبير، وتجمع ذاتها حول هذا السرّ لتنهل من معينه ما تحتاج إليه من النور والقوة للقيام بمهمتها. وإذا كان الإنسان، على ما قلنا سابقاً، هو طريق حياة الكنيسة اليومية، فعلى الكنيسة أن تعي دائماً كرامة هذا التبني الإلهي الذي يدركه الإنسان بالمسيح بواسطة نعمة الروح القدس (137)، وأن تعي أنها مدعوّة إلى النعمة والمجد (138). والكنيسة إذ تفكّر دائماً بهذا كلّه وتتقبّله بإيمان أوعى ومحبّة أرسخ تصبح أكثر جدارة للقيام بخدمة الإنسان ليُخدّم بل لِيَخدِم” (139). وتمارس الكنيسة مهمّتها هذه بمجرد اشتراكها مع معلّمها الفادي في وظيفته المثلّثة. وقد أوضح المجمع الفاتيكاني الثاني هذه العقيدة المسندة إلى أساس كتابي لما في ذلك من فائدة كبرى لحياة الكنيسة. ولما كنّا ندرك أنّا نشترك في خدمة المسيح المثلّثة، أعني مهمّته الكهنوتية والنبوية والملكية (140)، فإنّا نصبح أشدّ إدراكاً لخدمة الكنيسة بوصفها شركة أو جماعة شعب الله على الأرض، كما ندرك أيضاً في الوقت عينه كيف يجب على كلّ منّا أن يشارك في هاتين الرسالة والخدمة.
- الكنيسة مسؤولة عن الحقيقة
وهكذا تبدو لنا الكنيسة، في ضوء عقيدة المجمع الفاتيكاني الثاني المقدّسة، مسؤولة اجتماعياً في ما يتعلق بواجب الضمير تجاه الحقيقة الإلهية. وإنّا لنصغي بتأثّر بالغ إلى السيّد المسيح يقول: “كلمتي هذه ليست لي بل للآب الذي أرسلني” (141). أفلا يتجلّى، من خلال ما أكدّه المعلّم الإلهي، واجب الضمير هنا تجاه الحقيقة التي هي “ملك الله بالذات” الذي يحيا “في حضن الأب” (142) ما دام هو ذاته، عندما ينقل هذه الحقيقة، بوصفه نبياً ومعلّماً، يشعر بالحاجة إلى التأكيد بأنّه يتصرّف بأمانة تجاه ينبوع الحقيقة الإلهي؟ ويجب أن تكون هذه الأمانة عينها الصفة الأساسية التي تميّز إيمان الكنيسة، سواء أكانت تعلم الإيمان أم تعلنه.
وهذا الإيمان، بما أنه فضيلة خاصّة فائقة الطبيعة مفاضة في روح الإنسان، يشركنا في معرفة الله بحيث نجيب على كلمته الموحاة. وهذا ما يقضي على الكنيسة، عندما تعلن الإيمان وتعلّمه، بأن تعتنق الحقيقة الإلهية اعتناقاً تاماً (143) بحيث يظهر ذلك في واقع الحياة “بالطاعة المعقولة” (144). وقد وعد السيّد المسيح عينه الكنيسة، حرصاً منه على الأمانة للحقيقة الإلهية، بتأييد خاصّ من روح الحقّ وجمّل بهبة العصمة (145) أولئك الذين وكل إليهم نقل هذه الحقيقة وتعليمها (146)، – على ما حدّد ذلك المجمع الفاتيكاني الأوّل (147) وأكدّه من بعده المجمع الفاتيكاني الثاني (148) – ومنح، علاوة على ذلك، شعب الله كلّه حاسة الإيمان الفريدة (149).
فأصبحنا بالتالي شركاء المسيح النبي في هذه المهمّة التي بفضلها نخدم معه الحقيقة الإلهية في الكنيسة. والالتزام الواجب بهذه الحقيقة، معناه أن نحبّها ونعنى بها ونتعمّق في معرفتها ونقترب منها كل الاقتراب بما لها من قوة خلاصيّة وبما يسطع فيها من بهاء وبما تتميّز به من عمق وبساطة. وهذه المحبّة الحقيقية وهذا الإنكباب على التعمّق فيها يجب أن يسيرا معاً قُدُماً، على ما تشهد به أعمال القديسين في الكنيسة، هؤلاء القدّيسين الذين كانوا يستنيرون بهذا النور الأصيل الذي يعكس الحقيقة الإلهية ويضع أمام الأذهان واقع الله بالذات، ذلك إنهم اعتنقوا هذه الحقيقة باحترام ومحبّة: قبل كلّ، محبّة المسيح الكلمة الحيّ بالحقيقة الإلهية، وفي الوقت عينه، محبّة ظهوره الإنسانيّ المعلن في الإنجيل والتقليد واللاهوت. ولا بد الآن من مثل هذا التفهّم لكلمة الله وشرحها، ولا بدّ من مثل هذا اللاهوت. وكان اللاهوت دائماً ولا يزال له أهميته لأنه يمكّن الكنيسة، شعب الله، من الاشتراك اشتراكاً خصيباً مثمراً في مهمة المسيح، ولهذا عندما يخدم اللاهوتيون الحقيقة الإلهية، بانكبابهم على الدرس والبحث، بغية التعمّق في فهم هذه الحقيقة، يجب ألاّ يغيب عن بالهم ما هو معنى خدمتهم في الكنيسة التي يعرب عنها “مبدأ فهم الإيمان”. ولهذا المبدأ قوة مزدوجة – إذا صحّ التعبير – وفقاً للقول المأثور: “افهم لتؤمن وآمن لتفهم: (150). وعندئذ تظهر قوة هذا المبدأ عندما يَسعى اللاهوتيون إلى خدمة السلطة التعليمية الموكولة إلى الأساقفة المرتبطين بخليفة بطرس برباط التسلسل، وعندما يبدون اهتمامهم بالعقيدة وبممارسة الوظيفة الرعوية، وعندما يساندون ما يقوم به شعب الله بأجمعه من خدَم رسولية.
وعلى اللاهوتيين والمتضلّعين من العقائد، كما كان في سالف الأيّام، وكما هو اليوم أيضاً – ولعلّ اليوم أكثر من ذي قبل – أن يقرنوا الحكمة بالعلم وأن يعملوا على تداخل هذه جميعها فيما بينها تداخلاً أشدّ، على ما نقرأ في الصلاة الطقسية التي تُتلى في ذكرى القدّيس البرتوس، ملفان الكنيسة، وقد تعاظم هذا الأمر اليوم لما حصل من تقدّم في العلوم الإنسانية وأساليبها واختراعاتها الهادفة إلى معرفة العالم والإنسان. وهذا يتناول العلوم الطبيعية الدقيقة والعلوم الإنسانية والفلسفة التي ذكّر المجمع الفاتيكاني الثاني بالرباط الذي يشدّها إلى اللاهوت (151).
وفي نطاق هذه المعرفة الإنسانية التي تتّسع وتتشعّب باستمرار، يجب الإنكباب على تعميق النظر في الإيمان بإظهار ما في سرّ الوحي من اتساع، وبالسعي إلى تفهم الحقيقة التي مصدرها الأسمى هو الله ذاته. وإذا جاز – وهذا ما نتمنّاه – أن يُعتمد في القيام بمثل هذا العمل العظيم في هذا المجال نوع من التعدّدية، فلا يجوز أن ينأى هذا العمل عن الوحدة الأساسية في تعليم عقيدة الإيمان والآداب، وهذه الوحدة هي غاية هذا التعليم الخاصّة. فلا بد إذن للاّهوت من أن يمدّ السلطة التعليمية بما يساندها في عملها. وعلى كلّ لاهوتي أن يعي تماماً ما أعلن السيّد المسيح يوم قال: “وكلمتي هذه ليست لي، بل للآب الذي أرسلني” (152). فلا يجوز بالتالي لأيّ كان أن يعالج اللاهوت كما لو كان الأمر يتناول مجموعة مبادئ شخصيّة، لكن يجب أن يعلم أنّ عليه أن يبقى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بوظيفته التعليمية هذه، وبوظيفة تعليم الحقيقة التي تقع على عائق الكنيسة.
وهذا الاشتراك مع السيّد المسيح في الوظيفة النبوية يفرغ حياة الكنيسة كلّها في قالبها الأساسي. ويشترك رعاة الكنيسة الذين يعلّمون عقائد الإيمان وقواعد الآداب المسيحية ويعلنونها باستمرا وبمختلف الطرق وينقلونها، اشتراكاً خاصاً في هذه الوظيفة. ويساهم هذا التعليم، سواء أكان إرسالياً أم عادياً في جمع شعب الله حول السيّد المسيح ويعدّ النفوس للاشتراك في الإفخارستيا ويرشد إلى الطريق التي تفضي إلى ممارسة الأسرار وقبول الحياة. وقد وجّه مجمع الأساقفة المنعقد سنة 1977 عناية خاصّة إلى التعليم المسيحي في عالم اليوم، وستنشر بالطبع عمّا قريب في وثيقة حبرية، حصيلة المناقشات والاختبارات والاقتراحات التي جرت في المجمع، وذلك تلبية لرغبة الآباء الذين اشتركوا فيه. ويشكّل التعليم المسيحي، دونما شكّ، وجهاً من النشاط الدائم الأساسي الذي تقوم به الكنيسة والذي تتجلّى فيه هبتها النبوية. ولا سبيل إلى الفصل بين الشهادة والتعليم. وبرغم أنّ الأمر يتناول بالدرجة الأولى، هنا الكهنة، فلا يمكننا إلاّ أن نذكر العديد من الرهبان والراهبات الذين ينصرفون، بدافع من محبّتهم للمعلّم الإلهي، إلى إلقاء التعليم المسيحي، كما لا يسعنا إلاّ أن ننّوه بالعديد من العلمانيّين الذين يعربون بهذا العمل، عن إيمانهم ووجدانهم الرسولي.
وفضلاً عن ذلك لا بدّ من بذل المزيد من الاهتمام لكي تظهر صيغ التعليم المسيحي على اختلافها في شتّى المجالات – بدءاً من صيغة التعليم المسيحي “العائلية” التي يلقّن الآباء بموجبها الأبناء هذا التعليم – اشتراك شعب الله بكامله في وظيفة السيّد المسيح النبويّة.
وينبغي في هذا المجال أن يشترك الجميع، يوماً بعد يوم، وبطرق متباينة، في القيام بوظيفة الكنيسة تجاه الحقيقة الإلهية. وما القول عن رجال الاختصاص في مختلف أنواع العلوم وعن المتضلّعين من الطبيعيّات والآداب، وعن الأطبّاء ورجال القانون والفن والتقنية وعن المربّين البارزين على مختلف المستويات والبارعين في فروع الاختصاص؟ لهؤلاء جميعاً، بوصفهم أعضاء شعب الله، دورهم في وظيفة المسيح النبوية، ومهمة خدمة الحقيقة الموكولة إليه، وهو دور يقومون به بتصرّفهم بصدق تجاه الحقيقة حيثما وجدت، وبتلقينهم سواهم إيّاها وبتعليمهم إياهم أن ينضجوا في المحبّة والعدالة. وهكذا فإنَّ واجب الضمير تجاه الحقيقة هو أحد المجالات الرئيسية التي تلتقي فيها الكنيسة أياً كان من الناس، وهو أيضاً أحد المقتضيات الأساسية التي تحدّد دعوة الإنسان في جماعة الكنيسة. ويجب أن تظلّ كنيسة عالم اليوم بوعيها واجبها تجاه الحقيقة أمينة لطبيعتها الخاصّة التي ترجع إليها الوظيفة النبوية الصادرة عن المسيح عينه القائل: “كما أرسلني الآب أنا أيضاً أرسلكم… اقبلوا الروح القدس” (153).
- إفخارستيا وتوبة
في سرّ الفداء، أي عمل الخلاص الذي أتمّه المسيح، لا تشترك الكنيسة في إنجيل معلّمها بأمانتها للكلمة وخدمة الحقيقة وحسب، بل تشترك أيضاً بطاعتها الملأى بالرجاء والمحبّة في قوة الفداء التي أعرب عنها السيّد المسيح في كلّ الأسرار ووضعها فيها، وعلى الأخص في سرّ الإفخارستيا (154)، ولهذا يعتبر سرّ الإفخارستيا محور الحياة النابعة من الأسرار وقمّتها، ويتقبّل كلّ مسيحي بواسطة هذه الحياة قوة الفداء الخلاصية، بدءاً من سرّ العماد الذي نُكفّن فيه بالموت مع المسيح، لنشترك بقيامته على ما يعلّم الرسول (155). وفي ضوء هذه العقيدة، يتضح لنا اتّضاحاً متزايداً لماذا تبلغ حياة الكنيسة وحياة كلّ مسيحي النابعة من الأسرار ملئها وكمالها في سرّ الإفخارستيا، ذلك أنّ في هذا السرّ تتجدّد، بإرادة المسيح ودونما انقطاع، الذبيحة التي قدّم المسيح فيها ذاته لأبيه على مذبح الصليب، وقد قبل الأبّ هذه الذبيحة، ومقابل هبة ابنه ذاته هبة كاملة، بعد أن صار “مطيعاً حتى الموت” (156)، جاد هو بدوره بهبته الأبوية أي هذه الحياة الجديدة غير المائتة بفضل القيامة. ذلك أنّ الأبّ هو ينبوع الحياة الأول وواهب الحياة منذ البدء. وأصبحت هذه الحياة الجديدة التي تحمل معها التمجيد الجسدي للمسيح المعلّق على الصليب، علامة فاعلة لهذه الهبة الجديدة المعطاة للناس، والتي هي الروح القدس. وبواسطة هذا الروح يُمنح جميع الناس المتّحدين بالمسيح الحياة الإلهية الكامنة في الأب والمعطاة للابن (157). وأكمل أسرار الاتّحاد، إنما هو الإفخارستيا، لأننا فيما نحتفل بالإفخارستيا ونشترك فيه، نتّحد بالمسيح الأرضي والسماوي الذي يشفع بنا لدى أبيه (158)، ولكنّنا لا نتحد به إلاّ بعمل ذبيحته، عمل الفداء الذي افتدانا به بحيث أصبحنا: “مشترين… بثمن” (159)، وبعد فإنّ “ثمن فدائنا العظيم” يظهر القيمة التي يعطيها الله الإنسان ويثبّت كرامتنا في المسيح. ولمّا كنّا أصبحنا “أبناء الله” (160) وأبناء التبنّي (161)، فقد أصبحنا في الوقت نفسه على صورته “مملكة كهنة” وتقبّلنا “الكهنوت الملوكي” (162). وهذا معناه أنّنا صرنا شركاء في إعادة الناس والعالم إلى الآب بطريقة فريدة لا رجعة عنها. وهي إعادة قام بها الابن الأزليّ (163) والإنسان الحقّ مرة واحدة وإلى الأبد. فسرّ الإفخارستيا إذن هو السرّ الذي يعرب إعراباً كاملاً عن حياتنا الجديدة، والذي “يشهد” فيه المسيح عينه ودونما انقطاع وبطريقة دائمة جديدة، بالروح القدس لروحنا (164). على أنّ كلاًّ منا بوصفه مشتركاً في سرّ الفداء، يمكنه الاقتراب من ثمار أبناء المصالحة مع الله (165) التي أتمها المسيح ولا يزال يتمّها باستمرار فيما بيننا بواسطة خدمة الكنيسة.
وهذه حقيقة أولية لا تتناول العقيدة وحسب بل الوجود بالذات أيضاً، وهي أن سرّ الإفخارستيا يبني الكنيسة (166) وينشئها بوصفها جماعة شعب الله الحقيقية ومجموعة المؤمنين المطبوعة بطابع الوحدة التي اشترك فيها الرسل وتلامذة الربّ الأول. وهو يجدّد دائماً بناء هذه الجماعة وهذه الوحدة ويثبتّه دائماً ويعيد صنعه بواسطة ذبيحة المسيح لأنها تذكّر بموته على الصليب (167) الذي اشترانا بثمنه. ولهذا فإنّنا في سرّ الإفخارستيا نلمس، إذا صحّ القول، سرّ جسد الرب ودمه على ما يشهد به الكلام الجوهري الذي استعمل يوم رسم سرّ الإفخارستيا والذي أصبح بقوة هذا الرسم الكلام الذي يستعمله دائماً لدى الاحتفال بالإفخارستيا أولئك الذين يُدعون في الكنيسة إلى هذه الوظيفة.
وإنّ الكنيسة تحيا من الإفخارستيا، وتحيا من ملء هذا السرّ الذي غالباً ما توضّح السلطة الكنسية التعليمية جوهره العجيب ومعناه منذ أقدم العصور حتى أيامنا (168). ويمكننا القول على وجه التأكيد أن شرح هذه العقيدة الذي يسانده اللاهوتيّون بأبحاثهم الدقيقة، والمؤمنون بإيمانهم العميق وصلواتهم، والمتوحّدون والمتصوفون بما يظهرون من أمانة لسرّ الإفخارستيا، يبقى وكأنّه وقفة على عتبة هذا السرّ الذي يستحيل إدراك أغواره والتعبير عنه بالكلام وفهم معنى ما يحدث فيه. حقاً إنّ سرّ الإفخارستيا هو سر لا يوصف. وبعد، فإنّ مهمة الكنيسة التي لا غني عنها وما تزخر به من نعمة منظورة على الأخصّ وما تفيض به من قوة فائقة الطبيعة بوصفها شعب الله تقوم على الثبات على الحياة والتقوى النابعتين من سرّ الإفخارستيا وعلى تعمّقها فيهما باستمرار وإحرازها تقدماً روحياً في مناخ سرّ الإفخارستيا. ولهذا السبب فإنّه لا يجوز لنا – لا من حيث التفكير ولا من حيث طريقة الحياة ولا من حيث الأعمال والتصرّف – أن ننتقص مما لهذا السرّ المقدّس من طبيعة تامّة ولا ممّا له من معنى خاص. وهو في الوقت عينه سرّ وذبيحة، سرّ واشتراك، سرّ وحضور. وبرغم أنّ سرّ الإفخارستيا، وهذا مؤكّد، كان دائماً ويجب أن يبقى أكبر دليل ظاهر على ما بين تلامذة المسيح وأتباعه من رابطة أخوة إنسانية، فلا يمكن أن يُنظر إليه على أنه “مناسبة” للإعلان عن هذه الأخوة. ولدى الاحتفال بسرّ جسد الربّ ودمه، لا بد من المحافظة في الوقت عينه على ما يجب لهذا السرّ من احترام بالغ وعلى ما لهذه العلامة السرّية من قوة وهي علامة يقيم فيها المسيح الحاضر في الواقع “وتمتلئ النفس معها من النعمة ونُعطى عربون المجد الآتي” (169). ومن هنا ينشأ واجب إتمام القواعد الطقسية وكلّ ما يدلّ على العبادة التي تقدّمها جماعة المؤمنين لله ولا سيّما أنّ الربّ، بواسطة هذه العلامة السرّية، يسلّم ذاته بثقة غير متناهية كما لو كان لا يأبه لضعفنا البشري ولا لحقارتنا ولا لعاداتنا و تصرّفاتنا اليومية وحتى للانتهاكات التي قد تحصل. وينبغي على الجميع في الكنيسة ولا سيّما الأساقفة أن يسهروا على أن يتّخذ سرّ المحبّة هذا مركز الصدارة في حياة شعب الله، وأن تؤول جميع أعمال العبادة الواجبة إلى تأدية “المحبّة بدل المحبّة” للمسيح وأن يصبح المسيح حقاً حياة نفوسنا (170). ولا يمكننا من جهة ثانية أن ننسى البتة هذه العبارة التي فاه بها القديس بولس: “فليحاسب الإنسان نفسه قبل أن يأكل من هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس” (171).
وتشير دعوة الرسول هذه، على الأقلّ بطريقة غير مباشرة، إلى ما بين الإفخارستيا والتوبة من ارتباط وثيق. وفي الواقع إذا كانت أولى عبارات تعليم المسيح وأولى كلمات الإنجيل – أي الخبر السارّ – هي “توبوا وآمنوا بالإنجيل”, فإنّ سرّ الآلام والصليب والقيامة يثبّت على ما يبدو بطريقة خاصة هذه الدعوة ويوطّدها في نفوسنا. وهكذا تظهر الإفخارستيا والتوبة، على نحوٍ ما، وكأنهما وجهان متلازمان تلازماً حميماً للحياة الحقّ وفقاً لروح الإنجيل: أي الحياة المسيحية الحقيقية. ذلك أنّ المسيح الذي يدعونا إلى وليمة الإفخارستيا هو عينه من يحضّنا على التوبة فيما يردّد “توبوا” (173. وإنّ الاشتراك في الإفخارستيا، إذا انتفى معه العزم المستمرّ المتجدّد دائماً على الارتداد إلى الله، يحرم ما له من فاعلية فداء تامّة. ويضيّع، أو على الأقلّ، يفقد هذا الاستعداد الخاصّ لتقدمة الذبيحة الروحية لله (174) التي يتجلّى فيه اشتراكنا في كهنوت المسيح بطريقة جوهرية شاملة. وفي المسيح يقترن الكهنوت بذبيحته الخاصّة وبتقدمته ذاته لأبيه: وهذه التقدمة، بما أنها لا حدّ لها، من شأنها أن تحملنا، نحن البشر الذين نعاني من مضايقات عديدة، على الاتجاه إلى الله اتجاهاً فيه نضج أكثر بفضل ارتداد مستمر دائماً أعمق.
وفي هذه السنوات الأخيرة بُذلت جهود كثيرة وفقاً للتقليد الكنسي المتقادم العهد، لإبراز طابع التوبة الجماعي وعلى الأخصّ طابع سرّ التوبة جرياً على عادة الكنيسة، وهي جهود جليلة الفائدة ولا شكّ وستساعد كثيراً على إغناء كنيسة عصرنا في ممارستها للتوبة. ولكنه لا يجوز أن يغرب عن البال أنّ الارتداد إلى الله عمل داخلي يتميّز بسموّ فريد يستحيل فيه أن يقوم أحد مقام أحد ويتعذّر معه على “الجماعة” عينها أن تقوم مقام كلّ من الناس. وبرغم أنّ جماعة المؤمنين الأخوية التي يحتفل أفرادها بالتوبة معاً، تساعد كثيراً على الارتداد إلى الله، فإنّه من الواجب في النهاية، أن يفصح كلّ من الناس في هذا العمل عينه، عن مكنونات وجدانه وعن شعوره التامّ بخطئه وعن ثقته بالله فيقف أمامه وقفة المرتّل ليعترف قائلاً: “لك وحدك أخطأت” (175). ولهذا، فإنّ الكنيسة فيما تحافظ بأمانة على ممارسة سرّ التوبة أي ممارسة الاعتراف الشخصي المصحوب بالندامة وقصد الاصلاح والتكفير، وذلك على مرّ القرون، فإنها تحامي عن حقّ النفس البشرية الخاصّ أي حقّ كلّ من الناس بلقاء خاصّ مع المسيح المعلّق على الصليب، المسيح الغافر الذي بلسان خادم سرّ المصالحة يعلن قائلاً: “مغفورة خطاياك” (176) امضِ ولا تخطئ بعد (177). وإنّه لواضح أنّ هذا هو أيضاً حقّ المسيح بالنسبة إلى كلّ إنسان افتداه وهو حقّ اللقاء مع كلّ منا في هذا الوقت الحاسم من حياة النفس أي في ساعة العودة إلى الله وساعة المغفرة. وفيما تحافظ الكنيسة على سرّ التوبة، تعترف جهاراً بإيمانها بالفداء اعترافها بواقع حقيقي حيّ ينسجم مع حقيقة الإنسان الباطنية، ومع شعوره الإنساني بالخطأ ومع رغبات الضمير الإنساني “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ فإنهم سيشبعون” (178). ذلك أنّ السرّ أداة للتوبة يشبع الإنسان بواسطته من هذا البرّ النابع من الفادي عينه.
وتلتفّ الكنيسة، على الأخصّ في أيامنا، حول الإفخارستيا وترغب في أن تصبح الجماعة الأصيلة من المؤمنين الذين يغتذون بالإفخارستيا، علامة، تدلّ على ارتباط جميع المسيحيين ارتباطاً ينضج يوماً بعد يوم. فمن الضرورة والحالة هذه أن تشتدّ الحاجة في الكنيسة إلى التوبة سواء أكان في شكل سرّ (179) أم في شكل فضيلة. وقد شرح الحبر الأعظم البابا بولس السادس هذا الشكل الأخير في دستور رسولي مطلعه “توبوا” (180). وإنّ من واجب الكنيسة أن تضع موضع العمل هذه العقيدة المعروضة في هذا الدستور. وهذا موضوع يتوجّب علينا أن نتعمّق في بحثه في تفكير مشترك، ويجب أن تؤخذ بشأنه قرارات بروح المشاركة الجماعية الرعوية، وبعد رعاية مختلف التقاليد القائمة حوله وبعد رعاية مختلف ظروف حياة الناس في عصرنا. ومهما يكن من أمر، فقد اتّضح أنّ كنيسة زمن المجيء الجديد، الكنيسة التي تعدّ نفسها باستمرار لمجيء الربّ الجديد، يجب أن تكون كنيسة الإفخارستيا والتوبة. فوفقاً لهذه الرؤية الروحية التي تتبيّن الكنيسة معها حيويتها ونشاطها، تكون كنيسة إرسالية، كنيسة في حالة رسالة، على ما أظهر عليه المجمع الفاتيكاني الثاني وجهها.
- الدعوة المسيحية: خدمة وملوكية
ولما كان المجمع الفاتيكاني الثاني قد رسم، انطلاقاً من قواعده الخاصّة، صورة الكنيسة فوصفها بأنها شعب الله مشيراً إلى وظيفة المسيح المثلثّة التي نصبح حقاً، باشتراكنا فيها، شعب الله، فقد أبرز هذه الصفة الخاصّة بالدعوة المسيحية التي يمكن تسميتها “ملوكية”. ولا بدّ لإظهار ما في عقيدة المجمع من غنى وكنوز، من العودة تكراراً إلى فصول وأجزاء كثيرة من الدستور المبدوء بعبارة: “نور العالم” وإلى سواه من وثائق مجمعيّة. ولكن يبدو في إطار هذا الفيض من العقائد أنّ احداها تبرز، بصورة خاصة، وهي عقيدة الاشتراك في وظيفة المسيح الملوكية أعني اكتشاف كلّ من الناس في نفسه وفي سواه كرامة دعوتنا الخاصّة التي يمكن تسميتها “بالملوكية”. وتظهر هذه الكرامة في الاستعداد التامّ للخدمة على مثال الذي ما جاء “ليُخدَم، بل ليَخدُمَ” (181). وعليه إذا كان لا “يملك” إلاّ من “يخدم” على مثال المسيح، فإنّ وظيفة الخدمة تقتضي هذا النضج الروحيّ الذي يجب القول معه أنّ من “يخدم يملك”. وعلى من أراد أن يخدم الناس بكرامة وفاعلية أن يضبط نفسه ويقتني من الفضائل ما يمكنه من ذلك. ويرتبط اشتراكنا برسالة المسيح الملوكية وعلى وجه الضبط “بوظيفته الملوكية”، ارتباطاً وثيقاً بدائرة الأخلاق المسيحية والإنسانية.
وعندما قدّم المجمع صورة شعب الله وأبان أي مكان يحتلّ فيه لا الكهنة وحدهم وحسب، بل العلمانيون أيضاً، ولا أصحاب السلطة الكنسية وحسب بل أعضاء مؤسّسات الحياة المكرّسة لله، فلم يستخرج هذه الصورة من مبادئ علم الاجتماع، لأنّ الكنيسة بوصفها مجتمعاً بشرياً يمكن أن تخضع للبحث والتحديد وفقاً للقواعد والمقاييس التي يستعملها رجال العلم بالنسبة إلى كلّ مجتمع بشري. ولكنّ هذه القواعد لا تكفي، لأنّ القضيّة بالنسبة إلى جماعة شعب الله وبالنسبة إلى كلّ من أعضائها ليست قضية “رباط اجتماعي” نوعي خاص، ولكن ما لا بدّ منه لكلّ من الناس ولهم جميعاً إنما هو “الدعوة الخاصّة”. ذلك أنّ الكنيسة بوصفها شعب الله، و فقاً للعقيدة التي علّمها القديس بولس وأشرنا إليها وشرحها بيوس الثاني عشر شرحاً رائعاً، هي في الواقع: “جسد المسيح السرّي” (182)، وينبع حقّ الانتساب إلى هذا الجسد من دعوة خاصّة يدعمها عمل النعمة الخلاصي، فإذا كنّا نرغب في أن ندرك ماهية جماعة شعب الله على ما هي عليه من اتّساع وتنوّع، علينا أن نتأمّل، قبل كلّ، في المسيح الذي كأنّه يقول لكلّ عضو من هذه الجماعة: “هلّم اتبعني” (183). هذه هي جماعة التلاميذ التي يتبع كلُ منها المسيح بطرق متباينة، منها ما هو حيناً واعٍ ثابت، ومنها ما هو أقلّ وعياً وثباتاً. ولهذا يتضح ما لهذا المجتمع من صفة شخصية مميّزة، لأنّه، برغم كل ما في حياته الجماعية من نقص، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى بشري، فهو مجتمع يؤلّفه أعضاؤه مع المسيح وعلى الأقلّ يحملون في نفوسهم علامة لا تمحى وهي علامة تميّز كلّ من هو مسيحي. وقد بذل هذا المجمع الفاتيكاني الثاني قصارى الجهد لكي يشرح كيف يجب أن تصبح الجماعة الكيانية، جماعة التلاميذ والمعترفين أكثر وعياً حتى من الناحية التبشيرية لطبيعتها الخاصّة ولنشاطها. وقد استمرّت مبادرات المجمع من خلال الأعمال اللاحقة التي تحمل طابعاً مجمعياً ورسولياً وتنظيمياً. ويجب أن نضع نصب أعيننا هذا، وهو أنّ أيّة مبادرة لا تسهم في تجديد حقيقي للكنيسة وتسعف على إشاعة النور الحقّ الذي هو المسيح (184) إلاّ بقدر ما تعتمد على وعي صحيح للدعوة وللواجب تجاه هذه النعمة الفريدة، الوحيدة، غير القابلة للتجديد، التي يبني معها أيّ مسيحي، في جماعة شعب الله، جسد المسيح. وهذا المبدأ الذي هو القاعدة الأساسية للحياة المسيحية ولنشاطها، أي الحياة الرسولية والرعوية والحياة الباطنية والاجتماعية، يجب تطبيقه في نطاق نسبي معقول، على جميع الناس وعلى كلّ منهم، ويجب أن يطبقه على نفسه حتى الحبر الأعظم وكلّ أسقف، ويجب على الكهنة أيضاً والرهبان والراهبات أن يخضعوا لهذا المبدأ. وعلى الأزواج والأهل والرجال والنساء على اختلاف الحالات والمهن بدءاً من الذين يشغلون في المجتمع أرفع الوظائف حتّى الذين يقومون بأوضع الأعمال، أن يبنوا حياتهم وفقاً لهذا المبدأ. وهو مبدأ “الخدمة الملوكية” الذي يقبل معه، كلّ بمفرده، على مثال المسيح، الواجب الذي يقضي على كلّ منا أن يطالب نفسه بما هو مدعو إليه وبما هو ملزم به لكي يستطيع، بعون من الله ونعمته. أن يلبّي دعوته الخاصّة. وهذه الأمانة للدعوة التي قبلناها من الله بواسطة المسيح تحمل معها هذا الواجب الضميري المشترك تجاه الكنيسة جمعاء وهو الواجب الذي قصد المجمع تلقينه جميع المسيحيين. ولكلّ في الكنيسة، بوصفها جماعة شعب الله يديرها الروح القدس، “موهبة خاصّة” (185)، على ما يعلّم القديس بولس. “وهذه الموهبة”، برغم أنها دعوة شخصية وطريقة يصبح معها أحد الناس شريكاً في عمل الكنيسة الخلاصي، تفيد أيضاً الآخرين وتبني الكنيسة والجماعات الأخوية في مختلف قطاعات الحياة البشرية على الأرض.
والأمانة للدعوة أي الاستعداد الدائم “للخدمة الملوكية” لها شأن كبير في هذا البناء المعقّد وعلى الأخصّ في ما يتعلّق بالمهمّات الكبيرة التي لها تأثيرها العميق على حياة القريب والمجتمع بكامله. ويجب أن يمتاز الأزواج بهذه الأمانة لدعوتهم الخاصّة على ما تقتضيه طبيعة الزواج غير المنفصم. وهكذا يليق بالكهنة أن يتفرّدوا بأمانة مماثلة لدعوتهم الخاصّة. وهذا ما يقتضيه الوسم الأبدي الذي يطبعه سرّ الدرجة في نفوسهم، لأننا عندما نقبل هذا السرّ نُلزم نفوسنا عن وعي وحرية، في الكنيسة اللاتينية بأن نعيش في البتولية. ولهذا على كلّ منا أن يعمل على قدر طاقته، وبالاعتماد على نعمة الله، على إظهار امتنانه لهذه الهبة وأمانته للواجب الذي قيّد نفسه به إلى الأبد. وهذا ما يجب أن يفكّر به أيضاً الأزواج الذين يلتزمون بالسعي بكلّ ما أوتوا من قوّة، إلى الثبات في الرباط الزواجي وإلى بناء الخليّة العائلية بما يؤدّون من شهادة محبّة، وإلى تربية الأجيال الطالعة من الرجال الذين يعملون بدورهم على تكريس حياتهم بكاملها لدعوتهم الخاصّة أي “الخدمة الملوكية” التي قدّم لنا عنها يسوع المسيح أفضل مَثَل وقدوة. وقد قامت كنيسة المسيح التي نحن نؤلّفها من “أجل الناس” أي لنتمكّن على مثال المسيح (186) وبمساعدة النعمة التي أعطاناها، من أن “نملك” أي من أن نصوغ في كلّ منّا إنسانية ناضجة. والإنسانية الناضجة تعني الاستعمال التامّ لهبة الحرية التي قبلناها من الخالق عندما دعا إلى الحياة الإنسان المخلوق على “صورته”. وتكمل هذه الهبة على أفضل وجه في هبة الذات بكاملها ودونما شرط بدافع من محبّة زواجية، للمسيح ومع المسيح، تشمل جميع الذين أرسل هو إليهم الرجال والنساء الذين تكرّسوا له وفقاً للمشورات الإنجيلية. وهذه خير صورة عن الحياة الرهبانية ارتضتها لذاتها الرهبانيات و الجمعيات، قديمها وحديثها، والمؤسّسات العلمانية.
ويُعتقد أحياناً خطأ في أيامنا هذه، أنّ الحرية هي غاية ذاتها وأن الإنسان حرّ عندما يستعمل حريته على هواه وإنه من الواجب السعي إلى بلوغ هذه الغاية في حياة الأفراد و المجتمعات. ولكنّ الحرية هي هبة عظيمة عندما نعرف كيف نستعملها بوعي وفطنة في سبيل الصلاح. ويعلّمنا السيّد المسيح أن خير ما نستعمل فيه الحرية إنما هو المحبّة التي تتحقّق في البذل و الخدمة. وبهذه الحرية حرَّرنا المسيح (187) وهو يحرّرنا دائماً. ومن هنا تنهل الكنيسة دونما انقطاع التشجيع والنخوة والاندفاع للقيام بوظيفتها الخاصّة وخدمتها بين جميع الناس. فتمام الحقيقة إذن عن الحرّية كامن في سرّ الفداء. وفي الواقع أنّ الكنيسة تخدم البشرية عندما تحافظ على هذه الحقيقة بهمة لا تعرف الكَلَل وبمحبّة مضطرمة وعن قصد واعٍ ثابت، وعندما تنقل هذه الحقيقة وتجسّدها في حياة الناس لدى جماعتها كلّها ومن خلال أمانة كلّ مسيحي لدعوته. وهذا يثبت ما أشرنا إليه أيضاً وهو أنّ الإنسان هو “طريق” الكنيسة ويصبح دائماً “طريق” الكنيسة في حياتها اليومية.
- أمّ رجائنا
عندما نوجّه في مستهلّ هذه الحبرية الجديدة، أفكارنا وقلبنا إلى فادي الإنسان، نودّ بهذه الطريقة أن ندخل في مجرى حياة الكنيسة ونوغل في صميمه. وإذا كانت الكنيسة تحيا حياتها الخاصّة فهذا مردّه إلى أنها تنهل هذه الحياة من معين المسيح الذي لا يرغب إلاّ في أن “تكون لنا الحياة وتكون لنا أوفر” (188) وملء الحياة هذه الذي في المسيح، يعود بالفائدة، في وقت معاً، على الإنسان. ولهذا فإنّ الكنيسة بما أنها تشترك في ما في سرّ الفداء من غنى عميم، تصبح كنيسة أناس أحياء ويحيون لأن عمل “روح الحق” (189) يحييهم من الداخل لأنّ المحبّة التي يفيضها الروح القدس في القلوب (190) تزورهم، وغاية كلّ خدمة في الكنيسة سواء أكانت رسولية أم رعوية أم كهنوتية أم أسقفيّة، هي المحافظة على هذا الرباط الحيّ، رباط سرّ الفداء بكلّ إنسان.
وإذا كنا نعي الواجب، نظهر إذ ذاك أنّنا نفهم ما معنى أن الكنيسة هي أمّ (191) وكم تحتاج الكنيسة دائماً وعلى الأخصّ في أيامنا هذه، إلى أمّ. وعلينا أن نزجي إلى آباء المجمع الفاتيكاني الثاني شكراً خاصاً لكونهم أعربوا في الدستور المبدوء بعبارة “نور الأمم” عن العقيدة المريميّة الغنية التي تضمّنتها هذه الوثيقة المجمعية (192). ولمّا كان بولس السادس قد استلهم هذه العقيدة، فأعلن أمّ المسيح، “أمّ الكنيسة” (193). وقد لاقى هذا اللقب رواجاً كبيراً، فليُسمح لخلفه الحقير في الجزء الأخير من هذه الخواطر التي كان من المناسب أن يعرضها في مستهلّ خدمته الحبرية، أن يتوجّه إلى مريم بوصفها أمّ الكنيسة. ومريم هي أمّ الكنيسة لأنها بفضل اختيار الآبّ الأزلي الفائق الوصف (194) وبقوة خاصّة فاعلة من روح المحبّة (195) أعطت الحياة البشرية ابن الله الذي من أجله وبه كان كلّ شيء (196) والذي منه قَبِل كلّ شعب الله نعمة الاختيار وكرامته. وقد أراد ابنها أن يبسط بوضوح أمومة أمّه – وأن يبسطها بحيث تتجلّى بسهولة لجميع الناس والقلوب – عندما أظهر من على الصليب التلميذ الذي أحبّه كثيراً ابناً لها (197). وقد ألهمها الروح القدس البقاء في العلية، بعد صعود ربّنا، منقطعة إلى الصلاة، مقيمة على الانتظار مع الرسل حتى يوم العنصرة الذي ولدت فيه الكنيسة ولادة منظورة كما لو أنها خرجت من الظلمة إلى العلن (198). ومنذ ذلك الحين يقبل بالروح أجيال الرسل وجميع الذين يعترفون بالمسيح ويحبّونه، بين خاصّتهم (199)، على مثال يوحنا الرسول، هذه الأمّ التي دخلت هكذا منذ البدء، أي منذ زمن البشارة، تاريخ الخلاص ورسالة الكنيسة. فنحن إ ذن جميعاً الذين نؤلّف جيل تلاميذ هذا العصر، نودّ أن نلوذ بها بطريقة خاصّة. وهذا ما نفعله متعلّقين شديد التعلّق بالتقليد القديم ومظهرين في الوقت عينه الكثير من الاحترام والمحبة لأعضاء جميع الجماعات المسيحية.
وهذا ما نفعله بدافع من الإيمان والرجاء والمحبة. وإذا كنا في واقع الحال، نشعر في هذه الفترة العصبية من تاريخ الكنيسة والعالم التي تستوجب تلبية داعي الضمير، بحاجة إلى التوجّه إلى السيّد المسيح الذي هو بقوّة سرّ الفداء سيّد كنيسته وسيّد تاريخ العالم، فإنّا نعتقد عن حقّ أنّ ما من أحد مثل مريم يمكنه أن يُدخلنا في ما لهذا السرّ من بُعد إلهي وبشري. وما من أحد أدخله الله ذاته فيه كمريم. هذا ما يولي ما لنعمة الأمومة الإلهية من طابع فريد. وليست كرامة هذه الأمومة هي نسيج وحدها بحيث لا سبيل إلى تكرارها في تاريخ البشرية وحسب، ولكن اشتراك مريم، على ما في عملية هذا الاشتراك من عمق وشمول، في مقاصد الله بواسطة هذه الأمومة وعن طريق سرّ الفداء هو أيضاً نسيج وحده.
لقد تمّ هذا السرّ، إذا صحّ التعبير، في قلب عذراء الناصرة، عندما قالت قولتها: “فليكن”. فمنذ ذلك الحين يتابع دائماً قلبها، قلب البتول والأمّ معاً، بقوة خاصّة فاعلة من الروح القدس، عمل ابنها فتذهب إلى لقاء جميع الذين شملهم المسيح ويشملهم باستمرار بمحبّته غير المتناهية. ولهذا السبب فإنّ قلب مريم يجب أن يكون أيضاً طافحاً بشعور والدي لا ينضب، وهذه المحبّة الوالدية التي تغمر بها والدة الله سرّ الفداء وحياة الكنيسة لها ميزة، وهي أنها قريبة جداً من الإنسان ومن جميع ظروفه. وهذا هو مكمن سرّ الأمّ. وترغب الكنيسة التي تنظر إلى العذراء بمحبّة خاصّة ورجاء وطيد، في سبر أغوار هذا السرّ لتتعمّق فيه، يوماً بعد يوم، وفي هذا أيضاً تتعرّف الكنيسة إلى طريق حياتها اليومية، وهذه الطريق هي كلّ إنسان.
ومحبّة الأبّ الأزلي التي تجلّت في تاريخ البشرية من خلال الابن الذي أعطاه الأبّ “لكيلا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (200)، تقدّمها لنا هذه الأمّ وتتخذ هذه المحبّة علامات تسهّل فهمها واستساغتها على كلّ إنسان. ويجب بالتالي أن نلقى مريم على جميع طرق حياة الكنيسة اليومية. وبفضل حضور الأمّ تتأكّد الكنيسة من أنها تحيا حياة معلّمها وسيّدها، وتحيا من سرّ الفداء بما فيه من ملء حياة وتوقن أنها تتأصّل في جميع حقول حياة الناس اليوم، على اختلافها، وتشعر، إذا صحّ التعبير، عن اختبار، بأنها قريبة من الإنسان ومن كلّ إنسان وبأنها كنيسته أي كنيسة شعب الله. وإنّا فيما نواصل القيام بهذه المهامّ التي نلقاها على طرق الكنيسة، هذه الطرق التي أرشد إليها بوضوح البابا بولس السادس في أولى رسائل حبريته، وفيما نعي كل الوعي الحاجة الماسّة إلى جميع هذه الطرق، برغم ما يعتورها من صعوبات، نشعر بأنّه لا بدّ لنا من رباط وثيق يشدّنا إلى السيّد المسيح. وإذا بالكلمات التي فاه بها ترنّ في أعماقنا وكأنها صدى أنشودة: “بدوني لا يمكنكم أن تصنعوا شيئاً” (201)، ولا نشعر بالحاجة وحسب، بل بالواجب الذي لا مناص منه والذي يحمل الكنيسة جمعاء على رفع صلاة شاملة، حارة، ملحّة يوماً بعد يوم، لأنّ الصلاة وحدها يمكنها أن تحول دون أن تصبح هذه المهامّ والصعوبات التي ترافقها، مصادر أزمات، بل تجعلها ينابيع أعمال جديدة ومنطلقات خيّرة تصير أنضج يوماً بعد يوم في مسيرة شعب الله نحو أرض الميعاد، في هذه الحقبة من الزمن التي نقترب فيها من سنة الألفين. وإنّا إذ نختتم هنا ما يشبه التأمّل داعين بإلحاح إلى صلاة متواضعة، نرغب في المواظبة على هذه الصلاة مع مريم أمّ يسوع (202) مواظبة الرسل عليها وتلامذة المسيح في علية أورشليم بعد صعوده (203).
وإنّا نبتهل بحرارة إلى مريم على الأخصّ أمّ الكنيسة السماوية، لكي تتنازل فتبقى في هذه الصلاة التي نرفعها في زمن مجيء البشرية الجديد، معنا، نحن الذين نؤلّف الكنيسة أي الجسد السرّي لابنها الوحيد آملين أن نقبل، بقوة هذه الصلاة، الروح القدس الذي يحلّ علينا (204) فنصبح هكذا شهوداً للمسيح “حتى أقاصي الأرض” (205) على مثال الذين خرجوا يوم العنصرة من علية أورشليم.
ونمنحكم بمشاعر المحبّة البَرَكة الرسولية.
أعطي في روما قرب القدّيس بطرس في اليوم الرابع من شهر آذار، الأحد الأوّل من الصوم الأربعيني 1979 الأولى لحبريتنا.
البابا يوحنا بولس الثاني
الحواشي:
1) يو 1، 14
2) 3 ، 16
3) عبر 1، 1 – 2
4) من صلاة ليل الفصح
5) يو 16، 7
6) يو 15، 26 – 27
7) يو 16، 13
8) رؤيا 2، 7
9) المجمع الفاتيكاني الثاني دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، مجلة الكرسي الرسولي 57 (1965)، 5
10) أفسس 3، 8
11) يو 14، 24
12) رسالة بولس السادس “كنيسته” مجلة الكرسي الرسولي عدد 56 سنة (1964)، 650
13) متى 11، 29
14) يجب التذكير هنا بأهمّ الوثائق التي أصدرها بولس السادس والتي نوّه هو ذاته ببعضها عندما كان يلقي عظته في القدّاس الذي احتفل به في عيد القديسين الرسولين بطرس وبولس سنة 1978: الرسالة التي عنوانها: كنيسته م ك ر 56 (1964) 609 – 659؛ غنى المسيح الذي لا تسبر أغواره م ك ر 57 (1965) 298 – 301؛ سرّ الإيمان: م ك ر 57 (1965) 753 – 774؛ رسالة في البتولية الكهنوتية: م ك ر 59 (1967) 657 – 697؛ الإقرار الإحتفالي بالإيمان: م ك ر 60 (1968) 433 – 445؛ رسالة في الحياة البشرية: م ك ر 60 (1968) 481 – 503؛ إرشاد رسولي: منذ خمس سنوات: م ك ر 63 (1971) 97 – 106؛ إرشاد رسولي: الشهادة الإنجيلية: م ك ر 63 (1971) 497 – 535؛ إرشاد رسولي: بعطف أبوي: م ك ر 67 (1975) 5 – 23؛ إرشاد رسولي: افرحوا بالرب: م ك ر 67 (1975) 289 – 322؛ إرشاد رسولي: وجوب التبشير بالإنجيل: م ك ر (1976) 5 – 76.
16) 1 اتيمو 2، 4
17) إرشاد رسولي لبولس السادس: التبشير بالإنجيل م ك ر 68 (1976) 5 – 76
18) يو 17، 21 ثم، 11. 22 – 23 و 10، 16، ولو 9، 49 – 50، 54
19) 1 كور 15، 10
20) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول. دستور عقائدي في الإيمان الكاثوليكي. ابن الله، قانون 3 في الإيمان عدد 6. قرارات المجامع المسكونية. منشورات معهد العلوم الدينية بولونيا (1973) صفحة 811.
21) اشعيا 9، 6
22) يو 21، 15
23) لو 22، 32
24) يو 6، 86 وأعمال 4، 8 – 12
25) أفسس 1، 10 – 22؛ 4، 25 كولسي 1، 18
26) ا كور 8، 6 راجع كولسي 1، 17
27) يو 14، 6
28) يو 11، 25
29) يو 14، 9
30) راجع يو 16، 7
31) يو 16، 7 – 13
32) كولسي 2، 3
33) روم 12، 5؛ 1 كور 6، 15؛ 10، 17؛ 12، 12 – 27 أفسس 1، 23؛ 2، 16؛ 4، 4، كولسي 1، 24؛ 3، 15
34) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم 1: م ك ر 57 (1965)، 5
35) متى 16، 16
36) طلبة قلب يسوع.
37) كور 2، 2
38) راجع تكوين 1 ومواقع مختلفة.
39) تكوين 1، 26 – 30
40) روم 8، 20 وفي المكان عينه 8، 19 – 22 والمجمع الفاتيكاني الثاني دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل 2، 13، م ك ر، 58 (1966) 1026؛ 1034 – 1035
41) يو 3، 16
42) راجع روم 5، 12 – 21
43) روم 8، 22
44) روم 8، 19
45) روم 8، 22
46) روم 8، 19
47) دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل 22، م ك ر، 58 (1966) 1042 – 1043
48) راجع روم 5، 11؛ كولسي 1، 20
49) مز 8، 6
50) راجع 1، 26
51) راجع تك 3، 6 – 13
52) راجع الكتاب المقدّس الروماني، صلاة الإفخارستيا الرابعة.
53) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة عالم اليوم: فرح وأمل 37: م ك ر، 58 (1966) 1054 – 1055. ودستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم 48: م ك ر، 57 (1965) 53 – 54.
54) راجع روم 8، 29 – 30؛ وأفسس 1، 8
55) يو 16، 13
56) راجع تيمو 5، 24
57) 2 كور 5، 21 راجع غلا 3، 13
58) 1 يو 4، 8، 16
59) راجع روم 8، 20
60) لو 15، 11 – 32
61) روم 8، 19
62) راجع روم 8، 18
63) راجع ما توما: المختصر اللاهوتي 3 مسألة 46، 1 جواب 3.
64) غلا 3، 28
65) من صلاة ليل الفصح.
66) يو 3، 16
67) راجع مار يوستينوس 1 – ابولوجيا 64، 1 – 4، 2 – ابولوجيا 7 (8) 1 – 4؛ 10، 1 – 3؛ 13، 3 – 4 مروج الآباء، 2 – بون 1911 ص ص 81، 125، 129، 133؛ اكليمنضوس الاسكندري طنافس 1، 19، 91، 94: س فصل 30 117 – 118؛ 119 – 120؛ المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار في نشاط الكنيسة الارسالي، إلى الأمم، 11: م ك ر 58 (1966) 960؛ دستور عقائدي في الكنيسة، نور العالم، 17: م ك ر 57 (1965) 21.
68) المجمع الفاتيكاني الثاني، اعلان في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية: عصرنا، 3 – 4 م ك ر 58 (1966) 741 – 743.
69) كولسي 1، 26
70) متى 11، 12
71) لو 16، 8
72) أفسس 3، 8
73) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني في علاقات الكنيسة مع الأديان غير المسيحية: عصرنا، 1 – 2؛ م ك ر 58 (1966) 740 – 741
74) أعمال 17، 22 – 31
75) يو 2، 25
76) يو 3، 8
77) راجع مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966) ص. 929 – 964
78) راجع يو 14، 26
79) بولس السادس: تحريض رسولي لنشر الإنجيل – 6 م ك ر 68 (1976) 9
80) يو 7، 16
81) راجع مجلة الكرسي الرسولي 58 (1966) 936 – 938
82) يو 8، 22
83) يو 18، 37
84) راجع يو 4، 23
85) يو 4، 23 – 24
86) رسالة “كنيسته”: م ك ر 56 (1965) ص. 609 – 659
87) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل 22: م ك ر 58 (1966) 1042
88) راجع يو 14 وما يتبع.
89) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح و أمل: 91 م ك ر 58 (1966) 1113.
90) المحل عينه 38 ص. 1056
91) المحل عينه 76 ص. 1099
92) راجع تك 1، 27>
93) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل 24 م ك ر 58 (1966) 1045.
94) تك 1، 28.
95) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 10: م ك ر، 58 (1966) 1032.
96) الموضع عينه، 10 ص. 1033.
97) الموضع عينه، 38 ص. 1056، بولس السادس، رسالة ترقّي الشعوب، 21: م ك ر 59 (1967) 267 – 268.
98) راجع تك 1، 28
99) راجع تك 1 – 2
100) تك 1، 28، راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار في وسائل الاعلام الاجتماعي بين المدهشات، 6: م ك ر، 56 (1964) 147، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 74، 78: م ك ر، 58 (1966) 1895 – 1096، 1101 – 1102.
101) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم 10، 36 م ك ر، 58 (1965 14 – 15، 41 – 42
102) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 35 م ك ر، 58 (1966) 1053، بولس السادس، خطاب للسلك الخارجي 7 ك2 1965، م ك ر، 57 (1965) 232، رسالة ترقّي الشعوب، 14، م ك ر، 59 (1967) 264.
103) راجع بيوس 12، خطاب مذاع بمناسبة مرور خمسين سنة على رسالة لاوون 13 “الشؤون الجديدة” (1 حزيران 1941): م ك ر 33 (1941) 195 – 205؛ خطاب مذاع بمناسبة الميلاد (24 ك1 1941): م ك ر 34 (1942) 10 – 21؛ خطاب مذاع بمناسبة الميلاد (24 ك 1 1942): م ك ر 35 (1943) 9 – 24؛ خطاب مذاع بمناسبة الميلاد (24 ك1 1943): م ك ر 36 (1944) 11 – 24؛ خطاب مذاع بمناسبة الميلاد (24 ك1 1944): م ك ر 37 (1945) 10 – 23؛ خطاب للكرادلة (24 ك1 1945): م ك ر 38 (1946) 15 – 25؛ خطاب للكرادلة (24 ك1 1946): م ك ر 39 (1947) 7 – 17؛ خطاب مذاع بمناسبة الميلاد (24 ك1 1947): م ك ر 40 (1948) 8 – 16؛ يوحنا 23، رسالة أمّ ومعلّمة: م ك ر 53 (1961) 401 – 464؛ رسالة السلام في الأرض: م ك ر 55 (1963) 257 – 304؛ بولس 6، رسالة كنيسته: م ك ر 56 (1964) 609 – 659؛ خطاب للجمعية العامة للأمم المتحدة (4 ت1 1965): م ك ر 57 (1965) 877 – 885؛ رسالة ترقّي الشعوب: م ك ر 59 (1967) 267 – 299؛ خطاب “لكامبزينوس كولومبيا” (23 آب 1968): م ك ر 60 (1968) 619 – 623؛ خطاب للجمعية العمومية لأساقفة اللاتين الأميركيين (24 آب 1968): م ك ر 60 (1968) 639 – 649؛ خطاب لمؤتمر منظمة الأغذية العالمية (16 ت2 1970): م ك ر (1970) 830 – 838؛ كتاب بمناسبة الثمانين: م ك ر 63 (1971) 401 – 441؛ خطاب للكرادلة (23 حزيران 1972): م ك ر 64 (1972) 496 – 505؛ يوحنا بولس الثاني، خطاب للمؤتمر الثالث للأساقفة اللاتين الأميركيين (28 ك2 1979): م ك ر 71 (1979) 187 وما يتبع؛ خطاب للهنود في غوليبان (29 ك2 1979): الموضع عينه ص. 207 وما يتبع: خطاب للعمال في وادي الحجارة (30 ك2 1979): الموضع عينه ص. 221 وما يتبع؛ خطاب لعمال مونترّي (3 ك2 1979) الموضع عينه ص. 240 وما يتبع؛ المجمع الفاتيكاني الثاني، إعلان عن الحرية الدينية الكرامة الإنسانية: م ك ر 58 (1966) 929 – 941؛ دستور رعوي في الكينسة في عالم اليوم فرح وأمل: م ك ر 58 (1966) 1025 – 1115؛ مجمع الأساقفة، في العدالة في العالم: م ك ر 63 (1971) 923 – 941.
104) راجع يوحنا 23، رسالة أمّ ومعلّمة: م ك ر 53 (1961) 418 وما يلي: رسالة السلام في الأرض: م ك ر 55 (1963) 289 وما يلي؛ بولس 6 رسالة ترقّي الشعوب: م ك ر 59 (1967) 257 – 299.
105) راجع لو 16، 19 – 31
106) راجع يوحنا بولس 2، عظة في سان دومنغ (25 ك2 1979، عدد3: م ك ر 71 (1979) 157 وما يلي؛ خطاب للهنود وللكامبزينوس في أواكزاكا (30 ك2 1979)، عدد2: الموضع عينه ص. 207 وما يلي؛ خطاب للعمال في مونترّي (31 ك2 1979)، في الوضع عينه ص. 242.
107) راجع بولس 6، كتاب بمناسبة الثمانين، عدد 42: م ك ر 63 (1971) 431.
108) راجع متى 25، 31 – 46
109) متى 25، 42، 43
110) 2 تيمو 4، 2
111) بيوس 11 رسالة السنة الأربعون: م ك ر 23 (1931) 213؛ رسالة لسنا بحاجة: م ك ر 23 (1931) 285 – 312؛ رسالة الفادي الإلهي: م ك ر 29 (1937) 65 – 106؛ رسالة ميت برنندر سورج: م ك ر 29 (1937) 145 – 167؛ بيوس 12، رسالة الحبرية العظمى: م ك ر 31 (1939) 413 – 453.
112) راجع 2 كور 3، 6
113) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل، 31: م ك ر 58 (1966) 1050 – 1051.
114) راجع م ك ر 58 (1966) 929 – 946.
115) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل 22: م ك ر 58 (1966) 1042.
116) راجع 1 كور، 6، 15؛ 11، 3؛ 12 – 13؛ أفسس 1، 22 – 23؛ 2، 15 – 16؛ 4، 4 – 5؛ 5، 30؛ كولسي 1، 18؛ 3، 15؛ روم 12، 4 – 5؛ غلا 3، 28.
117) راجع 2 بطرس 1، 4
118) راجع أفسس 2، 10؛ يو 1، 14 . 16.
119) يو 1، 12
120) راجع يو 4، 14
121) غلا 4، 4
122) يو 11، 25 – 26
123) مقدمة لقداس الموتى.
124) يو 6، 63.
125) اعترافات 1، 1
126) متى 12، 30
127) راجع يو 1، 12
128) غلا 4، 5
129) غلا 4، 6؛ روم 8، 15
130) راجع روم 15، 13؛ 1 كور 1، 24
131) راجع أشعيا 11، 2؛ أعمال 2، 38
132) راجع غلا 5، 22 – 23
133) كتاب القداس الروماني – العنصره.
134) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور العالم 16: م ك ر 57 (1965) 20
135) المرجع عينه1، المحل ذاته ص. 5
136) راجع روم 8، 15؛ غلا 4، 6
137) راجع روم 8: 15
138) راجع روم 8، 30
139) متى 20، 28
140) المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور العالم 31 – 36: م ك ر 57 (1965) 37 – 42
141) يو 14، 24
142) يو 1، 18
143) راجع دستور عقائدي، في الوحي الإلهي: كلمة الله 5، 10، 21: م ك ر 58 (1966) 819، 822، 827 – 828.
144) راجع المجمع الفاتيكاني الأول، دستور عقائدي في الإيمان الكاثوليكي ابن الله فصل 3 – دنزنغر 3009 راجع قرارات المجامع المسكونية – منشورات العلوم الدينية بولونيا (1973) ص. 807
145) راجع المجمع الفاتيكاني الأول، دستور عقائدي في الكنيسة المسيح الراعي الأزلي: دنزنغر 3050 – 3075. المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور العالم، 25: م ك ر 57 (1965) 30 وما يلي.
146) متى 28، 19
147) راجع المجمع الفاتيكاني الأول، دستور عقائدي في كنيسة المسيح الراعي الأزلي دنزنغر 3050 – 3075
148) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة نور الأمم 18: 27، م ك ر 57 (1965) 21 – 33
149) راجع المرجع عينه 12، 35، المحل عينه ص. 16 – 17؛ 40 – 41.
150) مار اغسطينوس عظة 43، 7 – 9: أباء لاتين 38، 257 – 258.
151) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور رعوي في الكنيسة في عالم اليوم: فرح وأمل 47، 57، 59، 62: م ك ر 58 (1966) 1064 – 1065؛ 1077 – 1078؛ 1079 – 1080؛ 1082 – 1084. قرار في التنشئة الكهنوتية: 15 م ك ر 58 (1966) 722.
152) يو 14، 24
153) يو 20، 21 – 22
154) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني في الليتورجيا المقدسة: المجمع المقدّس 10: م ك ر 56 (1964) 102.
155) راجع روم 6، 3 – 5
156) فيلبي 2، 8
157) راجع يو 5، 26؛ 1 يو 5، 11
158) عبر 9، 24؛ 1 يو 2، 1
159) راجع 1 كور 6، 20
160) يو 1، 12
161) راجع روم 8، 23
162) رؤيا 5، 10؛ 1بطرس 2، 9؛ 11، 27؛ 5 مر 1، 11
163) راجع يو 1، 1 – 1804؛ متى 3، 17؛ 11، 27؛ 17، 5؛ مر 1، 11؛ لو 1، 32. 35؛ 3، 22؛ روم 1، 4؛ 2 كو 1، 19 1 يو 5، 5 . 20؛ 2 بطر 1، 17؛ عبر 1، 2.
164) راجع 1 يو 5، 5 – 11
165) راجع روم 5، 10 – 11؛ 2 كو 5، 18 – 19؛ كولسي 1، 20 – 22
166) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم: 11، م ك ر 57 (1965) 15 – 16 راجع بولس 6 خطاب في مقابلة عامّة في 15 أيلول 1965 تعليم بولس 6: 3 (1965) 1036.
167) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني في الليتورجيا: المجمع المقدّس 47: م ك ر 56 (1964) 113.
168) راجع البابا بولس السادس، رسالته سرّ الإيمان: م ك ر 57 (1965) 553 – 574.
169) المجمع الفاتيكاني، دستور في الليتورجيا: المجمع المقدّس 47: م ك ر 56 (1944) 113.
170) راجع يو6، 52 – 58؛ 14، 6؛ غلا 2، 20
171) ا كو 11، 28
172) متى 1، 15
173) المكان عينه.
174) راجع 1 بطرس 2، 5
175) مز 50 (51)، 60
176) مر 2، 5
177) يو 8، 11
178) متى 5، 6
179) راجع مجمع عقيدة الإيمان، قواعد رعوية حول منح الحلة بطريقة جماعية: م ك ر 64 (1972) 510 – 514؛ بولس السادس خطاب لبعض أساقفة الولايات المتحدة في زيارة الأعتاب (20 نيسان 1978): م ك ر 70 (1978) 328 – 332؛ يوحنا بولس الثاني خطاب موجّه إلى بعض الأساقفة كندا في زيارة الأعتاب الرسولية (17 ت2 1978): م ك ر 71 (1979) 32 – 76.
180) م ك ر 58، (1966) 177 – 198.
181) متى 20، 28.
182) بيوس 12 رسالة: الجسد البشريّ مجلة الكرسي الرسولي 35، (1943) ص. 193 – 248.
183) يو 1، 43
184) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم: م ك ر 57 (1965) 5.
185) ا كو 7، 7 راجع 12، 7 – 27؛ روم 12، 6؛ أفسس 4، 7.
186) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 36: م ك ر 57 (1965) 41 – 42.
187) غلا 5، 1 راجع 5، 13.
188) يو 10، 10
189) يو 16، 13
190) راجع روم 5، 5
191) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 63 – 64: م ك ر 57 (1965) 64.
192) راجع المجمع عينه 52 – 69: م ك ر 57 (1965) 58 – 76.
193) بولس السادس، خطاب لدى اختتام ثالث دورة للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (21 ت2 1964): م ك ر 56 (1964) 1015.
194) راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة: نور الأمم، 56: م ك ر 57 (1965) 60.
195) المحل عينه.
196) عبر 2، 10
197) راجع يو 19، 26
198) راجع أعمال 1، 14؛ 2.
199) راجع يو 19، 27.
200) يو 3، 16.
201) يو 15، 5
202) راجع أعمال 1، 14
203) راجع أعمال 1، 13.
204) راجع أعمال 1، 8
205) المحل عينه.
الموسوعة العربية المسيحية
Discussion about this post