74- كنيستنا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وكنائس الغرب
بعد هذا العرض الموجز لتاريخ الكنيسة في الغرب، ما دار فيها وما انتهت إليه من تفريعات بروتستانتية تفرعت هي الأخرى إلى شجرة من الأفرع ابتعدت كلها عن الإيمان الأرثوذكسي القديم وشاهدنا صورا لا تليق برجال الدين أو بالكنيسة أدت بلا شك إلى ثورة واستنكار من أبنائها لها ولقادتها، ورأينا كيف كانت الغلبة باستمرار إلى الماضي إلى التقليد إلى بساطة الكنيسة الأولى.
كل هذا وكانت الكنيسة الأولى هي هنا في مصر ببساطتها وتقليدها وألحانها وقداسها كانت تمر بها أحيانا سلبيات ولكنها كانت تتداركها بغير خروج على الإيمان أو انحراف عن الرأي المستقيم، قاست الكثير من الاضطهادات ولكنها ظلت حلبة مؤمنة بربها وبشخصيتها حتى وصلت إلى اليوم، فارهة سوداء جميلة، شمس التجارب قد لوحتها، ولكنها رغم الدموع والأنين أوصلت الأمانة الأرثوذكسية كاملة نامية إلى أيدينا، بعد أن دفعت الثمن دما ودمعا وصلاة مستمرة.
سعت الكنيسة الأوروبية أخيرا إلى فصل الدين عن الدولة بعد صراعات كثيرة بينهما كقوانين تلوننا تارة بالسياسة وأخرى بالدين، في حين كانت كنيستنا القبطية بعيدة عن السياسة فظلت محترمة نفسها على طول المدى.
كثرت ثورة الكنيسة الغربية وبالتالي زاد جاهها، فاتفقت حتى وصلت إلى تجنيد الجيش وأخيرًا انفجرت من كثرة الشبع، في حين أن كنيستنا بجوعها وفقرها قدمت البركات من: صلوات – قديسين – كتب ومؤلفات في جميع الأفرع، قضت على الجهل الذي كثيرا ما يفرض عليها وفي يوم أن بدأت كنائس الغرب تفيق بعد صراعها مع الشبع والثروة تارة ومع الانفجارات في داخلها تارة أخرى، بحيث وجدت أنها فقدت تراثها، ولم تجد من يسلفها غير الكنيسة القبطية.
ولكن مظاهر الحقد التي كانت تسيطر على الغرب تطرق إلى الكنيسة، فبدأت غارات الكاثوليك على كنيسة مصر الأرثوذكسية منذ أزمان طويلة، فبعد بدعة الحروب الصليبية (حروب الفرنجة) التي قام بها الغرب برفقه من كنيسة لتخص مآسيها وتغطى أخطائها، دفعت كنيسة الأقباط الثمن على اعتبار أنها كلها مسيحية واحدة في نظر المسلمين، أولئك المسلمون الذين ما لبثوا أن تبينوا الحق من الباطل وعادوا أدراجهم إلى العلاقات الطيبة مع مسيحي مصر من الأقباط ثم نجد أن الكاثوليك في عدة موجات يغيرون على الأقباط لإدخالهم في مذهبهم ويفشلون ففي عهد البابا يوحنا 16 البطريرك المائة والثالث حضر إلي مصر سنة 1692 فاضل فرنسي يدعى مولبيه (مولييه)، وكتب كتابا عن مصر وعن الأقباط. قال فيه عنهم أنهم أقل جهلًا وغشومة ولكنهم متشبثون بما يحسبه غيرهم هرطقة” ثم أورد شاهدا على ذلك فقال “إن المرسلين اللاتيني مع ما كانوا عليه من الجهارة والجدارة لم يستطيعوا أن يجذبوا إليهم واحدا منهم رغم طول بقائهم بينهم وعمل كل ما في وسعهم لإقناعهم” وقال “إنه لم يقوّ المرسلون على اجتذاب القبط إليهم بالإقناع، فدبروا حيلة أخرى عندما وزعوا صدقات نقدية على من يحضر منهم إلى كنيستهم فالتجأ إليهم جمع غفير من الفقراء، ولما استبدل رئيس المدير بغيره ألغى التصرف بهذه الكيفية، فتركه هؤلاء الفقراء”.
ومما رواه هذا الكاتب عن شدة تمسك الأقباط بعقيدتهم أن لويس الرابع عشر ملك فرنسا طلب منه أن تتجنب ثلاثة من شبان الأقباط الأذكياء من عائلات طيبة ويرسلهم إلى فرنسا ليتعلموا على نفقة الحكومة الفرنسية، فلم يرض أغنياء الأقباط ولا فقراؤهم أن يسلموا أولادهم خوفا من أن يغيروا عقيدتهم، وكان المرسلون الآتين قد فتحوا مدارس لتعليم الشبان، فبمجرد إشاعة الخبر منع الأقباط أولادهم عنها، فأصبحت خاوية ولم يبق مع الكاثوليك إلا نفر قليل من الفقراء، الذين أخذوهم من والديهم وهم أطفال وربوهم منذ نشأتهم على المعتقد الكاثوليكي.
غير أن هذه الطريقة التي عمدوا إليها لم تنجح، وان كثيرين من أولاد الأقباط الذين علموهم في روما عندما عادوا إلى أوطانهم عز عليهم ترك معتقدهم الأصلي فرجعوا إليه ثانية فضلا عن ذلك فإنه لما أدرك الأقباط أن المرسلين الكاثوليك لا يأخذون أولادهم لتعليمهم شفقة عليهم وإنما ليلقنوهم المذهب الكاثوليكي امتنعوا عن تقديم أولادهم إليهم حتى الفقراء منهم”.
وقال المسيو كذلك “وحتى الذين كانوا يتضورون جوعًا، وكنا نعطيهم طعاما امتنعوا عن المجيء إلينا خوفا من أن تكلفهم”.
وكان بعض الأقباط التابعين لأسقف روما قد غشوه بأن بطريرك الأقباط اظهر رضاءه عن مدارس الإيطاليين، أمر رعيته بتعليم أبنائهم فيها، فلما أطلع مولبيه على الحقيقة أفهمه بأن البطريرك القبطي لم يكن يعترف بأعمال ولا بوجود المرسلين الإيطاليين، بل كان يفترض عدم وجودهم تماما في البلاد العربية.
ولما رأى الآتين عدم نجاح مساعيهم في مصر حولوا التفاتهم مرة أخرى للحبشة فبعد أن أرسلوا ثلاث إرساليات أخرها كانت سنة 1706 أرسلت بإيعاز من الملك لويس التاسع عشر ملك فرنسا طبيبًا للحبشة يدعى (دى رول) ليقدر بحسن سياسته مع ملكها تمهيد الطريق إلى سنار القبطي الحاكم هناك عليها، وحجز الطبيب لديه بينما أطلق سراح الترجمان لكي يذهب للملك ويطلب منه السماح بدخولهما إلى بلاده ولكن ملك الحبشة رد عليه بأن إذا كان قادمًا بصفته سائح فلا بأس من ترك الحرية له ليدخل بلاده، وأما إذا كان من اليسوعيين فلا يدخل الحبشة، وهكذا منع من الوصول إلى جيشه إلا أن الكاثوليك لم يعدموا الحيلة في الدخول إلى مصر، ففي عهد الحملة الفرنسية على مصر 1798 – 1801 دخل بدخولهم كثير من الإفرنج واستقروا فيها حتى بعد خروج الحملة منها، وتمتعوا بحماية فرنسا. ولما تولى محمد على حكم مصر 1805 استخدم هؤلاء في مصالح عديدة، فتتابعت في أثرهم الإرساليات اللاتينية من: الفرنسيسكان والفرير والجزويت، وقدسوا في أيام محمد على بضم كنيسة مصر إلى كنيسة روما، لأن التنظيمات الجديدة التي صارت في مصر كان يقوم بها فرنسيون، فلما رأى محمد على نفسه مغمورا بعطف الفرنسيين أراد أن يقابلهم بمثل هذا المعروف، فنصحه أحد قواد جيشه وكان كاثوليكيا أن يسعى في ضم نصارى مصر إلى كنيسة روما فيكون هذا أكبر جميل يصفه الفرنسيين حُماة الكاثوليكية في العالم في ذلك الوقت.
فقام محمد على باستدعاء المعلم غالي الذي كان كبير الكتاب في ذلك الوقت وأمره أن يفعل ذلك أي يتبع الكاثوليك، فاضطرب المعلم غالى جدا، وخاف من وقوع الفتنه بين الطائفتين فأجاب الباشا “إن استحالة الطائفة جميعًا إلى مذهب كنيسة روما دفعة واحدة لا تنتهي بدون قلاقل وسفك دماء كثيرين، فنرى الأحسن أن يكون ذلك بسياسة وتدريب أننا نعتنق نحن أولا المذهب الباباوي بشرط ألا نكره على تغيير طقوسنا وعاداتنا الشرقية وبذلك أن تميل افرد الطائفة رويدا رويدًا، فقبل الباشا هذا الرأي وأخبر الإفرنج فرحبوا وانقلب المعلم غالى وابنه باسيليوس بك وجمع من أتباعهما في مصر وأخميم إلى الكاثوليكية بالظاهر وهم يأملون أنهم بعد حين سوف يعودوا إلى حضن الكنيسة الأم، ومع ذلك مازالوا يعتبرون كهنة أرثوذكسيين حق الاعتبار ويعمدون أولادهم عندهم.
No Result
View All Result
Discussion about this post