كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الثالث:
الفصل الثالث
عن الصبر
كم كانت عظيمة أحزان مريم أم الكلمة المتجسد حين رأت فلذة كبدها صائراً رجل الآلام والأوجاع، مسلماً بين يدي سلطان الظلام، مسوقاً أمام المحاكم، معتبراً رجلاً مضلاَ، مضروباً بقساوة زمرة جنود لا يعرفون للشفقة معنى، مجلوداً ومكللاً بالشوك، معتبراً أكثر إثماً من برابا ذاته، محكوماً عليه بالموت، محملاً الصليب آلة عذابه، ساقطاً تحت ثقله! وكذلك حين بلغ سمعها صوت المطرقة تغرس المسامير في أيدي وأرجل هذا الابن الحبيب، وحيت رأته مرفوعاً فوق الصليب بين لصين، مذللاً ومهاناً من قبل أعدائه الذين كانوا يفاخرون بتمكنهم من قتله والذين لم يقدموا له مايبرد به عطشه إلا خلاً ومرارة! وأخيراً عندما عاينته يلفظ نفسه الأخير فوق عود الصليب وحين وقع بصرها على طعنة الحربة التي غرسها أحد الجنود في جنبه للتحقق من موته. وفي كل هذه الأحزان والأوجاع المتأتية عن الآلآم ابنها الحبيب عرفت كيف تلوذ بأعظم صبر بطولي، فلم تبد من فمها كلمة تذمر واحدة! لقد تمسكت فوق الجلجلة بعين الصمت الذي تمسك به يسوع في بيت عظيم الكهنة حيث كان محاطاً بشهود يقرفونه زوراً وبهتاناً، وكان صمت يسوع متأتياً ليس فقط عن عدم رغبته في أن يبعد عن ذاته حكم الموت الذي اختاره حباً بنا. أيتها النفس المتألمة، هوذا مثالك! وإذا كان ولا بد أن تتكلمي في وسط اآامك فليكن كلامك حينئذ بحلاوة وهدوء وسلام.
وإذا لا يصغي إليك حين تتشكين فاحتملي بأناة، مقابلة التعدي بالصبر المسيحي عن روح تدين، لا بالصبر البشري الذي مبعثه السياسة والمجاملة أو رخاوة الطبع. فالذين يتضعون بين يدي الرب ويسجدون لعدالته أو لرحمته في وسط الضربات التي ينزلها بهم ويتخذون صبر يسوع ومريم مثالاً لصبرهم، هؤلاء يتألمون تالم المسيحي الحقيقي، فليكن صبرك وتحملك من هذا القبيل. من حمل ليبه بتذمر وقلة صبر جعله الصليب أكثر ثقلاً وزاد اثماً فوق الألم! ان طريق الصليب هوطريق السماء الوحيد، وكل القديسين قد اجتازوه ويجتازه كذلك كل الأبرار الذين على وجه الأرض. كثيرة هي مصائب الصديق لأن الرب يعد لصبره أكليلاً بهياً. تعساً لاولئك المسيحيين الذي يستخدمون لهلاكهم ما كان يجب أن يستخدموه لخلاصهم، متشبهين بذلك اللص الذي مات بجانب يسوع على الصليب وهو يجدف، فنزل رأساً من الصليب الى الجحيم! وإذا من جهة لم نثر على الله ومن جهة أخرى سمحنا لذاتنا بالتذمر من الصليب الذي وضعه على منكبينا حينئذ نكون قد استحقينا منه قصاصاً آخر وهوأن ينزع عنا هذه الواسطة العظيمة الفعالية لتقديسنا.
كثيراً مانلح على السماء ملتمسين منها إنقاذنا من صلباننا ونحن لانعلم ماذا نطلب. إن هذه الصلبان بمثابة ينبوع استحقاق غزير. لايمكن أن نقطف ثما القداسة الغزيرة أوالفضائل السامية إلا في ظل الصليب والجلجلة. إن الصبر على الآلام يستحق لنا في أيام قليلة ما لا نستحقه في سنين نقضيها في ممارسات التقوى الهادئة. كثيراً ما تتسرب محبة الذات إلى الممارسات التقوية فتفسدها، وأما في الحياة المتألمة فالأستحقاق يعظم بقدر ما يقل تدخل الميل الطبيعي فيها، فيكون فيها كل شيئ لله. ولا نفضل صليب على صليب بقولنا بأننا نريد الصليب الفلاني وليس الفلاني لنتحمله بصبر. أيتها النفس المسيحية، لا صليب يوافقك إلا هذا الذي وضع على منكبيك. إنه تعالى يعرف أكثر منك ما يوافقك. ولو ترك لك اختيار الصليب لضللت في الاختيار. فهو عاسمه لا يسلط علينا الصلبان إلا بعد أن يكون قد راعى مسبقاً نسبة احتياجنا ونواياه فينا.
No Result
View All Result
Discussion about this post