كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الخامس
فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: نحوكِ نتنهد نائحين وباكين في هذا الوادي، وادي الدموع
*وفيه جزءان*
† الجزء الأول †
في عظم احتياجنا إلى شفاعة مريم البتول في شأن خلاصنا الأبدي
أن الاستغاثة والتضرع إلى القديسين، وبنوعٍ خاص إلى سلطانتهم كافةً مريم الكلية القداسة، لكي يستمدوا لنا من الله نعمه الإلهية هو شيء ليس فقط جائزٌ بل أيضاً مفيدٌ حميدٌ مقدسٌ، وهذه هي قاعدةٌ من قواعد الإيمان محددةٌ في المجامع المقدسة، ضد الأراتقة الذين يرفضونها كأنها ذات افتراءٍ على يسوع المسيح الذي هو الوسيط الوحيد فيما بيننا وبين الله أبيه، على أنه أن كان إرميا النبي بعد موته بسنين هكذا عديدة صلى أمام الله، متضرعاً من أجل خلاص مدينة أورشليم من يد نيكانور قائد جيوش الملك ديمتريوس، كما هو مدون في الإصحاح الخامس عشر من سفر المكابيين الثاني، وإن كانت الشيوخ المذكورون في سفر الأبوكاليبسي يقدمون لله صلوات القديسين، وإن كان الطوباوي بطرس الرسول وعد تلاميذه بأن يذكرهم بعد موته، والقديس أستفانوس صلى من أجل مضطهديه. والقديس بولس تضرع من أجل رفاقه، وبالإجمال إن كان القديسون يستطيعون أن يصلوا من أجلنا. فكيف لا نقدر أن نتوسل إليهم لكي يتضرعوا من أجلنا لدى الله. فالقديس بولس يطلب من تلاميذه أن يصلوا لأجله قائلاً: يا إخوتي صلوا عنا: (تصالونيكيه أولى 5ع25) والقديس يعقوب الرسول يحرض المؤمنين على أن يصلي بعضهم من أجل بعضٍ بقوله: وليصلي بعضكم على بعضٍ لتخلصوا: (يعقوب جامعه ص5ع16) فإذاً نحن أيضاً يمكننا أن نصنع ذلك.*
فأي نعم إنه لا ينكر أحدٌ أصلاً أن يسوع المسيح هو وسيط العدل الوحيد، الذي بواسطة استحقاقاته قد اكتسب لنا المصالحة مع الله، ولكن بالضد منكرةٌ هي بل أثمةٌ نفاقيةٌ هذه القضية وهي، أن الله لا يتنازل لأن يهب أنعامه قبولاً منه لتضرعات القديسين، لا سيما والدته مريم الكلية القداسة، التي يرغب فادينا يسوع رغبةً عظيمةً أن يراها محبوبةً ومكرمةً من كل أحدٍ، فترى من يمكنه أن يجهل أن الكرامات التي تعطى للأمهات هي راجعةٌ للبنين كما هو مكتوب: إن فخر الأولاد هو أباؤهم: (أمثال ص17ع6) فمن ثم يقول القديس برنردوس: لا يفكر أحدٌ بأن من يمدح كثيراً الأم فيظلم إشراق مجد الابن، لأنه بمقدار ما تعظم الأم فبأكبر من ذلك يمدح الأبن: ويقول القديس أيدالفونسوس: إن الكرامات بأسرها التي تتقدم للأم وللملكة فهي راجعةٌ للابن وللملك، على أنه لا يرتاب أحدٌ في أنه بقوة استحقاقات يسوع قد أعطى لمريم أستطاعةٌ عظيمةٌ جداً على أن تكون هي وسيطة في أمر خلاصنا، لكن لا وسيطة العدل بل وسيطة النعمة والشفاعة، فبهذه الصفة بالحصر يسميها القديس بوناونتورا بقوله: أن مريم هي وسيطة خلاصنا الأمينة: والقديس لورانسوس يوستينياني يقول: كيف لا تكون ممتلئةً نعمةً التي هي سلم الفردوس، وهي باب السماء وهي الوسيطة الحقيقية فيما بين الله والبشر.*
فلهذا حسناً ينبه القديس أنسلموس بأنه حينما نحن نتوسل الى العذراء المجيدة في أن تستمد لنا النعم، لا نيأس من الرحمة الإلهية، بل بالأحرى أننا نيأس من استحقاقنا، ونتضرع إلى مريم لكي تستعمل علو شأنها ورتبتها العظيمة في عيني الله، متممةً نقص استحقاقنا نحن الأذلاء الحقيرين:*
فإذاً لا ريب ولا أشكال في أن الالتجاء إلى شفاعة مريم البتول سوى شيءٌ مفيدٌ ومقدسٌ، ولا ينكر ذلك إلا أولئك الذين نقص منهم الإيمان، غير أن الشيء الذي نحن ههنا نهتم في إثباته هو، أن شفاعة مريم هي ضروريةٌ أيضاً لأمر خلاصنا. ولكن لكي نتكلم كما يجب فنقول أن شفاعتها هي ضروريةٌ لخلاصنا لا ضرورةٍ مطلقةٍ، بل بضرورةٍ أدبيةٍ، مبرهنين بأن هذه الضرورة الأدبية هي صادرةً عن إرادة الله نفسه، الذي شاء أن النعم كلها التي هو يوزعها بسخائه الإلهي تجتاز إلينا عن يد مريم. كما يرتأي القديس برنردوس، وهذا الرأي يمكن حسناً أن يقال عنه أنه هو الآن رأيٌ عموميٌ فيما بين اللاهوتيين والعلماء كما يسميه رأياً عاماً مؤلف الكتاب الملقب: مملكة مريم: وقد اعتنق الرأي المذكور العلماء فاغا، وماندوتسا، وباجيوكالى، والسنيري، وبواره. وكواسات، مع لاهوتيين آخرين ماهرين لا يحصى عددهم، حتى أن الأب ناطاليس اسكندر الرجل العلامة المدقق جداً في تعاليمه وإيراداته، يقول هو عينه في الرسالة السادسة والسبعين من المجلد الرابع من لاهوته النظري: إن إرادة الله هي أن النعم كلها نحن ننتظرها بواسطة شفاعة مريم البتول الكلية الاقتدار التي نحن نستغيث بها. ثم أنه يستشهد في تأييد هذا الرأي كلمات القديس برنردوس الشهيرة وهي قوله: هكذا هي إرادة الله أن كل شيءٍ نحن نفوز به فنناله بواسطة مريم. وهذا نفسه يرتئيه الأب كونتانصونه، وذلك في تفسيره كلمات يسوع المسيح التي قالها لتلميذه الحبيب يوحنا وهو على الصليب أي: ها أمك: وكأنه يقول أنه ليس أحدٌ يشترك باستحقاق دمي مستفيداً إلا بشفاعة أمي، فجراحاتي هي ينابيع النعم ولكنها لا تتصل هذه الينابيع إلا بواسطة مريم أمي التي هي القناة. وأنت يا يوحنا تلميذي ستكون محبوباً مني بمقدار المحبة التي أنت بها تحبها:*
فهذه القضية أي أن كل الخيرات التي تتصل إلينا من الرب، فتأتي علينا كافةً بواسطة مريم، لم تكن مرضيةً جداً لمعلمٍ من المحدثين الذي ولئن كان يتكلم بحسن ديانةٍ، وبقواعد علميةٍ في تمييزه العبادات الصادقة من الباطلة. فمع ذلك إذ يتعاطى الكلام عن العبادة المختصة بهذه الأم الإلهية، فقد أظهر على ذاته البخل الزائد في أن لا يخصص هذه البتول القديسة بصفةٍ هي مجيدةٌ لها، مع أن القديسين جرمانوس، وأنسلموس، ويوحنا الدمشقي، وبوناونتورا، وأنطونينوس، وبرنردينوس السياني، ثم الأنبا كالاس المكرم، مع علماء آخرين كثيرين لم يجدوا أدنى صعوبة في أن يخصصوها بها بقولهم، أنه لأجل السبب المذكور آنفاً، فشفاعة مريم البتول المجيدة ليس فقط هي مفيدةٌ للخلاص، بل أيضاً هي ضروريةٌ أدبياً لنواله، أما المعلم المنوه عنه فيقول أن قضيةً هذه صفتها وهي، أن الله لا يمنح نعمةً ما إلا بواسطة مريم العذراء هي قضيةٌ متسعةٌ جداً غير محدودةٍ. وهي نوعٌ من المبالغة قد جاءت على أفواه البعض من القديسين بحرارة عبادتهم، وأننا إذا أردنا أن نفهم معنى قولهم بنوعٍ مستقيمٍ، فيمكن من هذا القبيل فقط أن تصدق كلماتهم، وهو من كوننا بواسطة مريم، قد حصلنا على يسوع المسيح متجسداً، الذي باستحقاقاته نحن نقتبل جميع النعم، وإلا فعلى زعمه أنه لضلالٌ هو الاعتقاد بأن الله لا يقدر أن يعطي النعم من دون تضرعات مريم، لأن الرسول بولس يقول: إن الله واحدٌ هو والوسيط بين الله والناس واحدٌ هو الإنسان يسوع المسيح (تيموتاوس أولى ص2ع5) فهذا ما قاله المعلم المحدث المشار إليه*
غير أني بروح السلام ذاته الذي هو يعلمني به في كتابه عينه أجاوبه بأنه شيءٌ هو وسيط العدل بقوة الاستحقاقات، وشيءٌ آخر هو وسيط النعمة بطريقة التضرع والشفاعة، وكذلك شيءٌ هو القول أن الله لا يقدر أن يعطي النعم من دون شفاعة مريم البتول، وشيءٌ آخر هو القول أنه لا يريد تعالى أن يمنحها من غير شفاعتها، فنحن نعترف جيداً بأن الله هو ينبوع كل خيرٍ، وأن الرب هو حرٌّ مطلقٌ في منح النعم، وأن مريم العذراء لم تكن وليست هي شيئاً آخر سوى خليقةٍ محصنةٍ، وبأن كل ما تناله هي من الله فأنما تناله نعمةً مجانيةً منه عز وجل، ولكن ترى من يمكنه أن ينكر أنه أمرٌ صوابيٌ عادلٌ لائقٌ جداً هو القول، أن الله لكي يرفع شأن هذه المخلوقة الجليلة، التي قد كرمته وأحبته في مدة حياتها أكثر من المخلوقات كلها، وأنه جلت خيريته إذ انتخب هذه البتول القديسة أماً حقيقيةً بالجسد لأبنه الوحيد والمخلص العام. فيريد أن النعم كلها التي يهبها للأنفس المفيداة بدم ابنه عينه تتوزع بواسطة هذه الأم الإلهية. ثم إننا نعترف حقاً بأن يسوع المسيح هو وسيط العدل الوحيد حسبما بينا آنفاً، وأنه باستحقاقاته الغير المتناهية قد اكتسب لنا النعم والخلاص، ولكن نحن نقول أن مريم هي وسيطة النعمة، وأنه ولئن كان جميع ما تناله هي فإنما تناله بقوة استحقاقات يسوع المسيح، فمع ذلك كل النعم التي نحن نلتمسها نحصل عليها بواسطة شفاعة هذه السيدة.*
ففي هذا الرأي لا يوجد بالحقيقة شيءٌ مضاد للقضايا الدينية المقدسة، بل بالأحرى هو مطابقٌ لها بكل أجزائه، وهو حسب تعليم الكنيسة التي في صلواتها المشاعة المثبتة منها تعلمنا بأن نلتجئ باتصالٍ إلى هذه الأم الإلهية، وبأن نستغيث بها. وبأن ندعوها: شافية المرضى: ملجأ الخطأة: معونة المسيحيين: حياتنا: رجانا: ثم من حيث أن الكنيسة عينها في صلوات الفرض الإلهي المرسومة تلاوته في أعياد مريم البتول، تخصصها بالكلمات المدونة في الكتاب الإلهي عن الحكمة، فبهذا تعلمنا أننا في مريم نحن نجد كل رجاءٍ: فيَّ أنا كل رجاء حياةٍ وفضيلة: في مريم كل نعمةٍ: فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ: وبالإجمال في مريم الحياة والخلاص الأبدي: من شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية: إن الذين يعملون بي لا يخطئون: من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من عند الرب. فهذه كلها هي أشياء توضح لنا الضرورة التي من أجلها نفتقر إلى شفاعة مريم من أجلنا (وهي مسجلة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر حكمة ابن سيراخ وفي الاصحاح الثامن من سفر الأمثال).*
فهذا هو ذاك الرأي الذي يوطدنا فيه آباء قديسون كثيرون جداً، وعلماء لاهوتيون جزيلوا العدد، ولذلك ليس هو عادلاً قول المعلم الحديث المشار إليه آنفاً، وهو أن البعض من القديسين لكي يرفعوا شأن مريم أوردوا هذه القضية الواسعة الغير المقيدة، وأنها جاءت في أفواههم كألفاظ مبالغةٍ، والحال أن ذلك يوجب الزيغان عن الحق الأمر الذي لا يجب أن نقوله عن أنامٍ قديسين قد تكلموا بروح الله الذي هو روح الحق. وهنا فليسمح لي بأن أدخل حاشيةً مختصرةً موضحاً بها رأيي. وهو أنه حينما يوجد رأيٌ أو حكمٌ يكون راجعاً لكرامة البتول مريم الكلية القداسة، ويكون له أساسٌ ما، ولا يتضمن تضاداً ما لا لقواعد الإيمان، ولا لمراسيم الكنيسة الجامعة وأوامرها، ولا للحق، فعدم التمسك بتلك الحكومة أم الرأي، أو مقاومته سنداً على أن الرأي المضاد يمكن أن يكون حقيقياً. فهذا يعلن قلة العبادة لوالدة الإله. أما أنا فلا أريد أن أكون من عدد هؤلاء الأشخاص القليلي العبادة لها، وأشتهي أن لا تكون ولا أنت أيها القارئ العزيز من مصافهم، بل بالأحرى أن تكون من عدد أولئك الذين يعتمدون بثبات العزم وبملو التصديق على كل شيءٍ يمكن من دون ضلالٍ أو غلطٍ أن تعتقد به في شأن تمجيد مريم وتكريمها، كما يتكلم عن ذلك الأنبا روبارتوس الذي يضع فيما بين التكريمات المقبولة من هذه الأم الإلهية، الاعتقاد بثباتٍ في كل ما يلاحظ عظمتها ومجدها. على أنه إذا لم يكن عندنا نموذجٌ آخر في أن نمدح مريم المجيدة بتقريظاتٍ وتكريماتٍ ما، ونكون أمينين من الخوف من أن نتجاوز بذلك الحدود الواجبة، فيكفينا نموذج الأب العظيم فيما بين آباء الكنيسة الجامعة، وهو القديس أوغوسطينوس الذي يقول: أننا حينما نورد في مديحنا مريم كل شيءٍ ممكن أن يقال من المديح والوصف والتقريظات والتكريمات، فهذا جميعه هو قليلٌ وجزئيٌّ بالنسبة إلى ما تستحقه رتبتها السامية، وشرف حال كونها والدة الإله: ثم أن الكنيسة المقدسة وضعت في خدمة القداس الإلهي المختص بمريم الطوباوية هذه الكلمات وهي: لأنكِ أنتِ سعيدةٌ ومستحقةٌ في الغاية أيتها البتول القديسة مريم المدائح والتقريظات والتسابيح كلها.*
ولكن فلنرجعن الآن إلى موضوعنا، ولنسمعن ماذا يقول القديسون في شأن الرأي المقدم ذكره، فالقديس برنردوس يتكلم هكذا قائلاً: أن الله قد أملأ مريم من النعم جميعها لكي يقتبل البشريون بعد ذلك بواسطة مريم عينها، كأنها مجرى أو قناةٌ، كل ما يتصل إليهم من الخيرات. ثم أن القديس المذكور يضيف إلى ذلك هذه الملاحظة المعتبرة أيضاً ومن ثم يقول: أن نهر هذه النعم الإلهية لم يكن موجوداً في العالم ولا جارياً إلى الجميع قبل أن تخلق هذه البتول الكلية القداسة، وذلك لأنه لم يكن بعد وجد هذا المجرى، ولا كونت هذه القناة المشتهاة في الغاية… ولهذا قد أعطيت مريم للعالم، حتى أنه بواسطة هذه القناة تجري إلينا على الدوام النعم الإلهية.*
فلذلك كما أن اليفانا قائد جيوش بختنصر ملك الأشوريين حينما حاصر مدينة بيت فالوا أمر غلمانه بأن يهدموا قناة الماء الجاري إلى المدينة، فالشيطان على هذه الصورة يعتني بكل جهده واستطاعته في أن يجعل الأنفس أن تخسر حسن تعبدها لوالدة الإله، لكي يغلق بذلك قناة النعم. وهكذا بسهولةٍ كليةٍ يمكنه أن يكتسب تلك الأنفس لذاته ويضعها تحت حوزته. وفي هذا الصدد ينبه القديس برنردوس عينه المؤمنين بقوله: تأملي أيتها الأنفس المسيحية بكم من الحب والانعطاف وحسن التعبد يريد الرب منا أن نكرم ملكتنا هذه، بألتجائنا دائماً الى حمايتها، وبأعتصامنا بالرجاء في شفاعاتها، لأنه تعالى قد أدخر فيها ملء الخيرات كلها، حتى أننا نعلم أن جميع ما يوجد عندنا بعد ذلك من الرجاء والنعم والخلاص، فإنما نحصل عليه بواسطة مريم. وكذلك يقول القديس أنطونينوس: أن المراحم كلها التي استعملت نحو البشر، فجميعها جاءتهم بواسطة مريم.*
ومن ثم مريم: هي لقبت بالقمر، فيقول القديس بوناونتورا: أنه كما أن القمر هو كائنٌ فيما بين الشمس والأرض. وأن الشيء الذي يقتبله هو من الشمس (أي الأشعة والضياء) يمنحه هو للأرض، فهكذا مريم تقتبل من السماء أشعة أنعام الشمس الإلهية لكي تفيضها علينا نحن القاطنين في الأرض.*
ولهذا هي قد لقبت أيضاً بباب السماء كما تدعوها الكنيسة المقدسة بقولها: افرحي يا باب السماء السعيد. فحسبما يبرهن القديس برنردوس نفسه: بأنه كما أن كل مرسومٍ ملوكيٍ يمنح بقوته الملك نعمةً ما، يلزم أن يخرج من باب ديوانه الملوكي، فكذلك نحن أعطينا مريم كباب يجتاز إلينا بواسطتها جميع ما نحصل عليه. ويضيف إلى هذا القديس بوناونتورا قائلاً: أن مريم تسمى باب السماء لأنه لا يمكن لأحدٍ أن يدخل إلى السماء من دون أن يجتاز بواسطة مريم التي هي الباب.*
ثم أن القديس إيرونيموس يوطدنا في هذا الرأي في عظته على صعود البتولة (ولئن كان حسب رأي البعض أن هذه العظة هي لرجلٍ قديم مجهول الأسم وأندرجت فيما بين تأليفات هذا القديس) حيث يقول: أن في يسوع المسيح وجد ملء النعم كلها كوجوده في الهامة،… ومن هذه الهامة تتصل إلينا نحن أعضاء جسده السري كل الأرواح الحية، أي المعونات الإلهية لكي نحصل على الخلاص الأبدي، ثم أنه في مريم أيضاً قد وجد ملئ هذه الأنعام عينها كوجودها في العنق أو الرقبة. التي بواسطتها تلك الأرواح الحية تجتاز من الرأس إلى الأعضاء، وهذا الرأي قد توطد من القديس برنردينوس السياني الذي قد فسر القول المقدم ذكره تفسيراً ذا إيضاحٍ أبلغ بقوله: أنه بواسطة مريم ترسل إلى المؤمنين الذين هم جسد يسوع المسيح السري جميع نعم الحياة الروحية، التي تنحدر على هذه الأعضاء من يسوع المسيح الذي هو رأسها.*
وهنا القديس بوناونتورا يورد السبب مبرهناً بقوله: أنه إذ كان الباري تعالى قد ارتضى بأن يسكن في مستودع هذه العذراء القديسة، فعلى نوعٍ ما قد اكتسبت هي تولياً على النعم كلها، لأنه من حيث أن من مستودعها الطاهر المقدس قد خرج يسوع المسيح، فقد خرجت منها صحبته أنهر المواهب الإلهية كأنها من بحرٍ محيطٍ. ونظير ذلك يقول القديس برنردينوس السياني بأفصح عبارةٍ هكذا: أنه من حينما حبلت هذه الأم البتول بالكلمة الإلهي متجسداً في أحشائها. فقد اكتسبت هي (لكي نقول على هذه الصورة) حجةً ما وحقاً خصوصياً على المواهب التي تنحدر علينا من الروح القدس، بنوعٍ أنه فيما بعد لم تتصل الى خليقةٍ ما من الخلائق ولا نعمةٌ واحدةٌ من الله، إلا بواسطة مريم وعن يدها:*
وهكذا أحد العلماء (من كراسات في كتاب العبادة لمريم) قد فسر على هذا النوع نفسه كلمات النبي أرميا (ص31ع22) المقولة منه عن تجسد الكلمة الأزلي من مريم بقوله: أن الرب خلق شيئاً جديداً في الأرض أنثى تحيط رجلاً: حيث يبرهن قائلاً: كما أنه من النقط الكائن في وسط دائرةٍ ما لا يخرج ولا خط ما من الخطوط المتحدة به خارجاً عن الدائرة، من دون أن يجتاز قبلاً بالخط المحيط على الدائرة نفسها، فهكذا ولا نعمةٌ من النعم تخرج ممنوحةً من يسوع المسيح الذي هو ينبوع النعم والخيرات كلها مفاضةً علينا، من دون أن تجتاز بمريم التي أحاطت به تعالى، بعد أن اقتبلته في مستودعها ومن ثم نحن ننال النعم بواسطة هذه الأنثى التي أحاطت رجلاً.*
ولهذا يقول القديس برنردينوس عينه: أنه لأجل ذلك كل المواهب وجميع الفضائل وسائر النعم تتوزع عن يد مريم، على أولئك الذين هي تروم أن تمنحهم إياها. وفي الأوقات التي هي تشاء منحها، وبالأنواع التي هي تريد توزيعها، وكذلك ريكاردوس يقول: أن جميع الخيرات التي يصنعها الله مع خلائقه، فيريد أن تجتاز عن يد مريم موزعةً عليهم بواسطتها: ومن هذا القبيل الأنبا جالاس المكرم يحرض كل أحدٍ على أن يلتجئ الى خازنة النعم هذه. كما هو يسميها هكذا: لأنه بواسطتها فقط ينبغي أن يقتبل العالم وكل البشر الخيرات بأسرها التي يمكنهم أن يرجوها. فمن هذا جميعه يتضح جلياً أن القديسين والعلماء الموردة أقوالهم آنفاً، المصرحين بأن كل النعم التي تأتينا من الله إنما تتوزع علينا بواسطة مريم، لم يقصدوا بذلك أن يبينوا هذا فقط. وهو أننا من مريم قد حصلنا على يسوع المسيح كلمة الله متجسداً، الذي هو ينبوع النعم والخيرات كلها. الأمر الذي قصد المعلم الحديث المنوه عنه في بدء هذا الجزء أن يفسر به أقوالهم بل أنهم قد أكدوا لنا هذه الحقيقة أيضاً، وهي أن الله بعد أن أعطانا ابنه الوحيد يسوع المسيح، يريد أن النعم كلها التي توزعت وتتوزع على البشر من حين تجسد ابنه إلى منتهى العالم، ممنوحةً لهم باستحقاقات هذا الابن الإلهي نفسه، تكون معطاة لهم وهم يفوزون بها عن يد مريم وبواسطة شفاعاتها لديه.*
فإذاً يختتم القول الأب سوارس بأنه في هذه الأيام قد أضحى الرأي المذكور رأياً عاماً في الكنيسة، وهو أن شفاعة مريم البتول هي لا مفيدةٌ فقط لنا لأجل نوال الخلاص الأبدي، بل هي ضروريةٌ أيضاً لذلك، لا ضرورةٍ مطلقةٍ كما نبهنا في محله، لكن بضرورةٍ أدبيةٍ، لأن وساطة يسوع المسيح هي وحدها ضروريةٌ لخلاصنا بضرورةٍ مطلقةٍ، على أن الكنيسة ترى مع القديس برنردوس بأن الله قد رسم مريداً أن النعم كلها من دون استثناءٍ تتوزع علينا بواسطة مريم، بنوع أنه ولا نعمةٌ منها تعطى لنا إلا عن يدها، وقبل القديس برنردوس قد أثبت هذا الرأي القديس أيدالفونسوس بقوله نحو والدة الإله: يا مريم أن الرب قد حكم بأن يسلم بيديكِ كل الخيرات التي أعدها هو لأن يوزعها على البشر، ولذلك قد ائتمنكِ على الخزائن كلها وعلى كنوز النعم جميعها. ولهذا يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله لم يرد أن يتجسد متأنساً إلا برضا مريم أولاً: لكي نوجد كلنا ممنونين لها بنوعٍ عظيمٍ من المنة.
ثانياً: لكي نفهم أن العناية بأمر خلاصنا أجمعين قد فوضت لهذه البتول القديسة:*
فمن ثم إذ تأمل القديس بوناونتورا في كلمات أشعيا النبي المدونة منه في بدء الإصحاح الحادي عشر من نبؤته وهي: ستخرج عصا من أصل يسى وتصعد زهرةٌ من أصله وتستريح عليها روح الرب. فقال هو أي القديس بوناونتورا عن ذلك هذه الألفاظ الجليلة وهي: أن كل من يرغب مشتهياً أن ينال نعمة الروح القدس، فليفتش على الزهرة في العصا، أي على يسوع في مريم، لأننا بواسطة العصا نجد الزهرة وبواسطة الزهرة نجد الله: ثم يضيف إلى ذلك قائلاً: فإن كنت يا هذا تريد أن تحصل على هذه الزهرة، فاهتم بواسطة التضرعات في أن تجتذب إلى صالحك عصا الزهرة، وهكذا تفوز بالزهرة عينها. وألم تفعل ذلك يقول الأب المعلم السرافيمي بوناونتورا في تفسيره الكلمات الإنجيلية وهي أن المجوس، دخلوا البيت فوجدوا الصبي مع مريم أمه. (متى ص2ع11) فلا تحصل على يسوع الذي لا يوجد إلا مع مريم وبواسطة مريم: ويختتم قوله بأنه: عبساً ومن دون فائدةٍ يطلب أن يجد يسوع ذاك الذي لا يفتش على أن يجده مع مريم. ومن ثم يقول القديس أيدالفونسوس هكذا: أنا أريد أن أكون عبداً للابن، ومن حيث أنه لا يكون أصلاً أحدٌ عبداً الأبن أن لم يكن عبداً للأم، فلهذا أنا أبذل كل اهتمامي في تعبدي لمريم:*
* نموذج *
لقد أخبرنا المعلمان بالواجانسه وكيساريوس عن شابٍ ما ذي أصلٍ شريفٍ، بأنه بعد أن كان أصرف جميع الغنى الواسع المخلف له ميراثاً من أبيه مبدداً إياه في المعاصي والقبائح، قد حصل أخيراً فقيراً سبروتاً فاقداً كل شيءٍ، حتى أنه اضطر لحفظ حياته لأن يدور متوسلاً يجتذئ صدقةً، ولذلك أي لخجله من حاله تلك سافر من وطنه إلى بلدةٍ أخرى ليكون فيها مجهولاً، ففي مسافة هذا السفر قد صادف في الطريق أحد أولئك الذين كانوا عبيداً لأبيه، فلما شاهد ذاك العبد ابن سيده في تلك الحال السيئة من الفقر مملؤاً من الحزن والاكتئاب، تقدم إليه معزياً وشرع يطمئنه موعداً إياه بأنه مزمعٌ أن يقوده أمام أحد الأمراء المعظمين، الذي يهتم به في كل ما كان يعوزه، فهذا العبد كان رجلاً ساحراً منافقاً، ومن ثم جاء في اليوم المعين منه عند ذاك الشاب. فأخذه وذهب به إلى البرية ودخلا في حرشٍ كائنٍ بجانب بحيرةٍ. وهناك بدأ يتكلم مع شخصٍ غير منظور، فلهذا سأله الشاب مستفهماً بقوله له: مع من أنت تتكلم، فأجابه ذاك: أنني أتكلم مع الشيطان، ولكنه إذ رأى الشاب امتلأ خوفاً من هذا الجواب فأخذ يشجعه ويطمئنه. وهكذا استمر يخاطب الشيطان قائلاً له: يا سيد أن هذا الشاب قد بلغ إلى أقصى الفقر والقلة، ويريد أن يرجع إلى سعادة حاله الأولى: فالعدو الجهنمي أجاب وقال له: أنه لما يريد الشاب أن يطيعني فأنا سأرجعه أكثر غنىً من ذي قبل، ولكن قبل كل شيء يلزمه أن ينكر الله: فالشاب استوعب اشمئزازاً ونفوراً من هذا الطلب، إلا أن ذاك الساحر اللعين قد اجتذبه لأن يكفر به تعالى فكفر به، ثم أن الشيطان أردف كلامه بقوله: أن هذا لا يكفي بل يلزمه أن ينكر مريم البتول أيضاً، لأن هذه هي تلك التي نحن نعرف جيداً أن خسارتنا هي صادرةٌ من قلبها بالأكثر، فكم وكم هي تختطف من أيدينا من الأنفس وتردها إلى الله وتخلصها: فالشاب قال له: كلا، أنا لا يمكن أن أنكر مريم أمي لا هذه هي رجائي بأسره بل أني أرتضي بالأحرى بأن أدور أتسول بحال الفقر الكلي جميع أيام حياتي من أني أفعل ذلك. قال هذا وانصرف من ذاك المكان، ففي رجوعه أتفق له أن يمر من على باب إحدى الكنائس المشيدة على اسم والدة الإله، فدخل إليها مملوءاً من الحزن والغم، وجثا أمام أيقونتها باكياً، وأخذ يتوسل إليها بحرارةٍ في أن تستمد له غفران خطاياه، فهذه الأم الرؤوفة شرعت تطلب من أجله إلى ابنها الإلهي، أما يسوع ففي الابتدا قال لها: أن هذا الخائن قد نكرني يا أمي، ولكن عندما نظر أن والدته لم تزل تتضرع إليه فأخيراً قال لها: أنني أنا قط ما نكرت عليكِ شيئاً، فليكن لهذا الشاب الغفران عن خطاياه لأجل طلبتكِ: فالرجل الغني الذي كان في ما مضى اشترى من ذاك الشاب جميع أملاكه ومقتناه رويداً رويداً، وهو أي الشاب كان أصرف أثمانها في الرذائل، قد شاهد بمنظرٍ سريٍ هذا الحادث، ولاحظ الرأفة المصنوعة من والدة الإله نحو هذا المسكين. فأرسل استدعاه إليه وقدم له ابنته الوحيدة عروسةً له وزوجه بها، وجعله وريثاً لجميع الغنى الذي كان يملكه، وعلى هذه الصورة قد اكتسب الشاب نعمة الله ومعاً حصل على خيراتٍ أرضيةٍ غنية بأبلغ مما كان قبلاً.*
† صلاة †
تأملي يا نفسي كم هي جليلةٌ فضيلة الرجاء بالخلاص والحياة الأبدية التي منحكيها الرب، بإعطائه إياكِ رحمةً منه الثقة والرجاء في شفاعة أمه وحمايتها، هذا بعد أنكِ لأجل خطاياكِ قد استحقيتِ مراتٍ كثيرةً سقوطكِ من نعمته تعالى، وحصولكِ تحت غضبه معدةً للهلاك في جهنم، فأشكري إذاً إلهكِ وأمدحي شفيعتكِ مريم التي تنازلت لأن تقبلكِ تحت ستر حمايتها، حسبما تحقق لكِ كثرة النعم التي حصلتِ عليها لحد الآن بواسطتها، أي نعم أنني أشكركِ يا أمي المحبوبة مني جداً من أجل جميع الخيرات التي صنعتيها معي أنا الشقي المستحق جهنم، فكم هس كثيرة الأخطار التي أنتِ قد نجيتيني منها يا ملكتي. كم من الأنوار وهبتيني وكم من المراحم أفضتِ عليَّ مستمدةً لي ذلك جميعه من الله. ولكن أية مكافأةٍ بالخير صنعت معكِ وأية تكرمةٍ قدمت لكِ، أنتِ التي بهذا المقدار اعتنيتِ بي وأفضلت عليًّ.*
فإذاً خيريتكِ وحدها هي التي اجتذبتكِ لذلك، فمن يعطيني أن أبيح من أجلكِ دمي وحياتي، بل أن هذا هو شيءٌ قليل بالنسبة لما أنا ملتزمٌ به لكِ، وللمنة التي لكِ عليَّ. لأنكِ قد أنقذتني منالموت الأبدي، وقد صيرتيني أن أكتسب من جديد كما أؤمل النعمة الإلهية التي كنت فقدتها بخطاياي، وبالإجمال أنني أعترف بأن سعادتي كلها هي آتية من قلبكِ ومسببة لي منكِ، فأنا يا سيدتي المحبوبة في الغاية لا أستطيع أن أكافئكِ بشيءٍ آخر، سوى بأن أبارككِ وأسبحكِ وأمدحكِ دائماً، فلا تأنفي من أن تقبلي مني ذلك أنا الخاطئ الذليل المغرم بمحبة صلاحكِ، فإن يكن قلبي غير مستحقٍ أن يحبكِ لأنه غير نقي بل مملوءٌ من الانعطافات نحو الأشياء الأرضية، فيخصكِ أنتِ أن تغيريه، ثم أتحديني بإلهي وشدي وثاق حبي إياه بنوع أني لا أعود أقدر أن أنفصل عن محبته، فهذا هو الشيء الذي أنتِ تطلبينه مني وهو أن أحب إلهكِ، وهذا أنا أطلبه منكِ، فاستمدي لي منه أن أحبه حباً شديداً على الدوام، وغير ذلك أنا لا أشتهي آمين.
†
† الجزء الثاني †
* في موضوع الجزء الأول نفسه*
في عظم احتياجنا إلى شفاعة مريم البتول في شأن خلاصنا الأبدي
أن القديس برنردوس يقول: أنه كما أن رجلاً وامرأة قد اشتركا بالعمل الذي صدر عنه خرابنا وتعاستنا وإبادتنا، فهكذا كان. من الصواب والواجب بلياقةٍ أن رجلاً آخر وامرأةً أخرى يشتركان بالعمل الذي منه يحصل لنا اكتساب ما كنا فقدناه، وهذا قد تم بواسطة الشخصين العظيمين وهما يسوع المسيح ومريم البتول والدته، فلا ريب ولا أشكال في أن يسوع المسيح وحده هو كلي الكفاية لأن يفيدنا، ولكن الأليق هو أن خلاصنا يكون مسبباً من شخصين رجلٍ وامرأةٍ، كما أن هلاكنا كان مسبباً من شخصين رجلٍ وامرأةٍ:*
فمن ثم البارتوس الطوباوي يسمي مريم: المشتركة بالعمل في سر الافتداء. فهذه البتول عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا بأنه كما أن آدم وحواء قد باعا العالم لأجل تفاحةٍ، فهكذا هي وابنها يسوع بقلبٍ واحدٍ فيهما قد افتديا العالم، ثم يقول القديس أنسلموس: أن الله قد استطاع جيداً أن يخلق العالم من العدم ولكن حينما هلك العالم ضائعاً بالخطيئة. لم يرد تعالى أن يكمل إصلاح العالم وخلاصه من دون أن تكون مريم مشتركةً في هذا العمل:*
أما الأب سوارس فيفسر ذلك بأن مريم قد اشتركت بعمل سر الافتداء لأجل خلاصنا على ثلاثة أنواعٍ. وهي أولاً لكون هذه البتول قد استحقت باستحقاق اللياقة والمناسبة تجسد الكلمة الأزلي في أحشائها. ُثانياً لأجل أنها اهتمت كثيراً بالتضرعات من أجلنا حينما كانت عائشةً على الأرض. ثالثاً لكونها اختيارياً قدمت لله حياة ابنها ضحيةً لأجل خلاصنا، فلهذا قد رتب الرب عدلاً أنه لأجل اشتراكها، بحبٍ عظيمٍ في عمل خلاص البشر كافةً الأمر الصادر عنه مجدٌ إلهيٌ هكذا سامٍ فالبشر أجمعون بواسطة شفاعاتها ينالون الخلاص الأبدي.*
فمريم تسمى: شريكة عمل تبريرنا: لأن الله ائتمنها على النعم كلها لتوزعها علينا، ولهذا يبرهن القديس برنردوس مثبتاً بقوله: أن جميع البشر الماضين والحاضرين والمستقبلين يلزمهم أن يلاحظوا مريم بمنزلة واسطة لخلاص كل الأجيال. والموضوع الملائم لذلك.*
ثم أن مخلصنا يسوع المسيح يقول في إنجيله المقدس: أن ما من أحدٍ يقدر على الأتيان إليَّ إلا من اجتذبه الآب الذي أرسلني: (يوحنا ص6عدد4) أي أنه لا يمكن لأحدٍ أن يحصل على فادينا ويكون من خاصته ألم يمنحه الآب نعمته الإلهية، فهكذا يقول مخلصنا عن والدته. حسبما يورد ريكاردوس في تفسيره العدد الثالث من الإصحاح الثاني من سفر النشيد: ما من أحدٍ يقدر على الأتيان إليَّ إلا من اجتذبته أمي بواسطة تضرعاتها لدي من أجله: على أن يسوع هو ثمرة أحشاء مريم. حسبما هتفت القديسة أليصابات قائلةً نحوها: مباركةٌ هي ثمرة بطنكِ: ( لوقا ص1ع42) فلما كان يلتزم كل من يريد أن يحصل على الثمرة أن يمضي ساعياً نحو الشجرة، فهكذا إذاً كل من يروم أن يحصل على يسوع فيلزمه أن يذهب إلى مريم. ومن يجد مريم فمن دون ريبٍ يجد يسوع. فالقديسة أليصابات حينما رأت البتول الكلية القداسة داخلةً إلى منزلها، لم تعد هي تعلم بأية ألفاظٍ تقدم لها الشكر عن هذه الزيارة، سوى أنها باتضاعٍ عميقٍ هتفت نحوها قائلةً: من أين لي مثل هذا أن تأتي أم ربي إليَّ: (لوقا ص1ع43) ولكن هنا لقائلٍ أن يقول كيف يكون هذا. أهل أن أليصابات كانت تجهل أن ليس مريم وحدها دخلت منزلها، بل يسوع أيضاً جاء ليزورها، فإذاً لماذا قالت عن ذاتها أنها لم تكن مستحقةً مجيء مريم إليها، ولم تقل بالأحرى أنها غير مستحقةٍ دخول يسوع إلى بيتها. فالجواب هو أن القديسة المذكورة كانت تعلم جيداً أنه حينما تأتي مريم، فتأتي بيسوع أيضاً معها. ولذلك قد أكتفت هي بأن تقدم الشكر للأم من دون أن تذكر الأبن.*
ثم أنه قد كتب عن الامرأة الشجاعة: أنها صارت كمركب تاجرٍ ومن بلدةٍ بعيدةٍ جمعت خبزها: (أمثال ص31ع14) فمريم هي هذا المركب السعيد الذي جلب إلينا من السماء يسوع المسيح الخبز الحي النازل من السماء ليعطينا الحياة الأبدية. كما يقول هو تعالى: أنا هو الخبز الحي الذي نزلت من السماء ومن أكل من هذا الخبز يحيى إلى الأبد (يوحنا ص6ع51) فمن ثم يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن في بحر هذا العالم يباد غارقاً كل أولئك الذين لا يوجدون مقتبلين داخل هذا المركب، أي الذين لم تكن مريم محاميةً عنهم، فكل مرةٍ نوجد نحن في خطر الغرق. أما من قبل التجارب التي تثب علينا، وأما من قبل الآلام المتجندة في أعضائنا، فيلزمنا أن نصرخ ملتجئين الى مريم ونهتف نحوها قائلين. عينينا عاجلاً أيتها السيدة، وخلصينا أن كنت لا تريدين أن تشاهدينا هالكين: يا سيدة نجينا فإننا نهلك. فلاحظ هنا كيف أن ريكاردوس المذكور لم يكن يتوسوس من أنه يمكن القول لمريم البتول: يا سيدة نجينا فإننا نهلك، خلافاً لما كان يضع من الصعوبات الكثيرة المعلم الحديث المشار إليه في الجزء السابق ضد هذا القول، بل أنه كان يمنع مطلقاً أن يقل نحو العذراء المجيدة: يا مريم خلصينا. زاعماً أن خلاصنا هو مختصٌ بالله وحده. ولكن فليقل لنا هذا المعلم. أهل لا يمكن لإنسانٍ محكومٍ عليه بالموت أن يقول لرجلٍ من المحبوبين عند الملك: خلصني بوساطتك لدى الملك متشفعاً بي في أن يعفي عني واهباً لي الحياة، فإن كان ذلك ممكناً بدون ريبٍ فلماذا نحن لا نقدر أن نقول نحو والدة الإله خلصينا باستمدادكِ لنا من الله نعمة الحياة الأبدية. فالقديس يوحنا الدمشقي لم يجد صعوبةً في أن يهتف نحو هذه العذراء المجيدة (في خطبته على مديحها): أيتها الملكة البريئة من الدنس خلصيني منقذةً إياي من الهلاك الأبدي: والقديس بوناونتورا يسميها: خلاص المستغيثين بها: والكنيسة المقدسة قد ثبتت بالعملية الدائمة يومياً استدعاء مريم بصفة شافية المرضى وخلاص السقماء. ومع ذلك جميعه أيمكن لنا أن نتوسوس من قولنا: خلصينا يا مريم: مع أنه لا يفتح باب الخلاص لأحدٍ إلا بواسطتها: كما يقول العلامة باجيوكالى، بل قبل هذا كان القديس جرمانوس نفسه قال: أنه لا يخلص أحدٌ إلا بواسطتكِ أيتها العذراء (كما هو مدون في خطبته على وضع زنارها)*
ولكن فلنعد إلى موضوعنا متأملين في ماذا يقول غير ذلك القديسون، كيف أن شفاعات هذه الأم الإلهية هي ضروريةٌ لنا، فالمجيد القديس غايطانوس سيوضح علانيةً: أنه أي نعم أننا نقدر أن نفتش على النعم. ولكن لا يمكننا أن نفوز بنوالها من دون شفاعة مريم من أجلنا: وهذا القول يثبته القديس أنطونينوس متفوهاً بهذه العبارة الجليلة وهي: أن من يطلب النعم ويريد أن يحصل عليها من غير شفاعة مريم، فهو كمن يدعي بأن يطير من غير جناحين. لأنه كما أن فرعون قال ليوسف البار: أن أرض مصر كلها هي في يدك: وكما أن كل أولئك الذين كانوا يلتجئون إلى فرعون طالبين الأسعاف كان هو يقول لهم: امضوا إلى يوسف، فهكذا الباري تعالى حينما نحن نلتمس منه النعم فيرسلنا إلى والدته بقوله لنا: امضوا إلى مريم: لأنه عز وجل قد رسم، حسبما يقول القديس برنردوس: بألا يمنح نعمة ما إلا عن يد مريم: فمن ثم يبرهن ريكاردوس الذي من سان لورانسوس قائلاً: إن خلاصنا هو في يد مريم بنوع أنه يمكننا نحن المسيحيين أن نقول لها بأفضل مما قاله المصريون ليوسف: إن خلاصنا هو في يدك. وكذلك يقول أيديوطا المكرم: إن خلاصنا هو في يد مريم. وهذا عينه يقوله كاسيانوس بأقوى عبارة هاتفاً: أن خلاص العالم كله قائمٌ في عناية مريم الوافرة: أي أن خلاص الجميع هو متعلقٌ بالإجمال في أن يكونوا مستعفين من مريم ومحامى منها عنهم، لأن من تحامي عنه مريم يخلص، ومن لا تحامي مريم عنه يهلك. ثم أن القديس برنردينوس السياني يقول نحو والدة الإله: أيتها السيدة إنكِ إذ أنتِ هي موزعة النعم كلها، ونعمة الخلاص إنما تعطى بواسطتكِ أنتِ فقط. فإذاً خلاصنا هو متعلقٌ بكِ:*
فلأجل هذا بالصواب يقول ريكاردوس: أنه نظير ما يسقط الحجر متكردساً في الحفرة، متى نقيت من تحته الأرض التي كانت تسنده، فكذلك النفس إذا عدمت إسعاف مريم إياها فتسقط أولاً في حفرة الخطيئة وبعد ذلك تهبط إلى هاوية جهنم: ويضيف إلى هذا القديس بوناونتورا قائلاً: أن الله لايهبنا نعمة الخلاص من دون شفاعة مريم… وكما أن الطفل الرضيع إذا عدم مرضعته لا يمكنه أن يعيش، فهكذا إذا عدم أحدنا أن تحامي عنه مريم وتساعده. فلا يمكنه أن يفوز بالخلاص. ولذلك أحرضك يا إنسان على حفظ هذه العبادة دائماً وإلا تهملها حتى تبلغ إلى السماء وهناك تقتبل من مريم البركة: ويقول القديس جرمانوس (في ميمره على عيد وضع زنار العذراء) هاتفاً نحوها: ترى من يعرف الله جيداً إلا بواستطكِ يا مريم الكلية القداسة، من تراه عتيدٌ أن يخلص، من هو ذاك الذي ينجو من الأخطار، من يمكنه أن يحصل على نعمةٍ ما إلا بواسطتكِ يا والدة الإله. يا أماً وبتولاً معاً يا ممتلئةً نعمةً: ثم يقول لها مخاطباً (في عظته على نياحها): أنكِ إذا لم تفتحي أنتِ للناس الطريق، فلا يوجد أحدٌ ناجياً من لسع أسنان اللحم والخطيئة:*
ثم أن القديس برنردوس يبرهن قائلاً: كما أنه لا يمكننا أن ندنوا من الله الآب الأزلي إلا بواسطة يسوع المسيح ، فعلى هذه الصورة ليس لنا طريقٌ بالدنو من هذا الابن الأزلي يسوع المسيح إلا بواسطة مريم أمه: وهوذا السبب الذي يورده القديس المذكور بأن الرب من أجله قد رسم في أننا كلنا نخلص بواسطة شفاعة مريم، وهو لكي نقتبل نحن في السماء بواسطة مريم ذاك المخلص نفسه الذي بواسطتها كان أعطى لنا في الأرض. ولهذا يسميها القديس: أم النعمة وأم خلاصنا: فمن ثم بالصواب يهتف القديس جرمانوس (في ميمره المذكور آنفاً) صارخاً نحوها هكذا: فإذاً ماذا لكان يحيق بنا، وأي رجاءٍ خلاصٍ لكان بقي لنا، لو كنتِ، تهملينا يا مريم أنتِ التي هي حياة المسيحيين أجمعين.*
إلا أن المعلم الحديث المشار إليه في الجزء السابق يتفلسف بقوله: أنه إن كانت النعم كلها تتوزع بواسطة مريم، فإذاً عندما نحن نلتجئ إلى القديسين طالبين منهم أن يسعفونا بتضرعاتهم من أجلنا، فيلزمهم أن يتجهوا نحو مريم عينها مستمدين منها نوال النعم، الأمر الذي لا يصدقه أحدٌ ولا حلم به إنسانٌ: فأجيب على ذلك أنه نظراً إلى تصديق هذه القضية لا يوجد شيءٌ من الضلال في الإيمان، ولا عدم لياقةٍ أو مناسبةٍ. فأية عدمية لياقةٍ يمكن أن يوجد في هذا، وهو أن الله لكي يكرم والدته المجيدة، بعد أن أقامها ملكةً على القديسين. وأراد أن النعم كلها تتوزع بيدها. يريد أيضاً أن القديسين يلتجئون إليها حينما يرغبون أن يستمدوا للمتعبدين لهم بعض النعم، وأما نظراً إلى القول بأن هذه القضية ما حلم بها إنسانٌ، فأنا ألاحظ أنها قد قيلت واضحاً من القديسين برنردوس وأنسلموس وبوناونتورا، ومع هؤلاء من الأب سوارس ومن كثيرين آخرين. فيقول القديس برنردوس: أنه عبثاً وسدى يلتمس أحدٌ بتضرعاته من القديسين الأخرين نعمةً ما يبتغي هو نوالها، أن كانت مريم لا تتوسط في أستمدادها له: وكذلك أحد العلماء في تفسيره كلمات النبي والملك داود بقوله: لوجهكِ يصلي كل أغنياء الشعب: (مزمور 45عدد13) يورد ما تقدم ذكره قائلاً: أن أغنياء شعب الله العظيم أنما هم القديسون الذين حينما يريدون أن يستمدوا نعمةً ما لأحدٍ من المتعبدين لهم، فيصلون لوجه مريم ملتمسين منها أن تهتم في نوال تلك النعمة المطلوبة. ومن ثم بكل حقٍ وصوابٍ يقول الأب سوارس: نحن نتوسل للقديسين في أن يصلوا لوجه مريم بحسب كونها ملكتهم وسيدتهم من أجل خيرنا وإسعافنا:*
وهذا هو مطابقٌ لما وعد به القديس برنردوس للقديسة فرنسيسكا الرومانية، كما يخبرنا الأب مركيزة بقوله: أن القديس برنردوس ظهر يوماً ما للقديسة فرنسيسكا الرومانية، وإذ اتخذ على ذاته حمايتها والمناضلة عنها، فوعدها بأن يتوسل من أجلها لدى الأم الإلهية: ويضيف إلى هذه القضية إثباتاً القديس أنسلموس مخاطباً للقديسة والدة الإله هكذا: أن ذاك الشيء الذي يمكن نواله بواسطة شفاعات هؤلاء القديسين كلهم المتحدة معكِ، فهذا يمكن نواله جيداً من دون مساعدتهم بواسطة شفاعتكِ أنتِ وحدكِ: فلماذا أنتِ وحدكِ حاصلةً على اقتدارٍ هكذا عظيمٍ، فإنما ذلك هو لأنكِ أنتِ وحدكِ والدة الإله مخلصنا العام أجمعين، وأنتِ هي عروسة الله، وأنتِ هي سلطانة السماء والأرض العامة. فإن كنتِ أنتِ لا تتضرعين من أجلنا ولا تتكلمين في صالحنا، فلا أحدٌ من القديسين يصلي من أجلنا أو يساعدنا، ولكن أن انعطفتِ أنتِ لإغاثتنا، فالجميع يصلون عنا ويسعفونا، أي أن القديسين كافةً حينئذٍ يجتهدون في خيرنا: فمن ثم الأب السينيري (في كتابه الملقب بالتعبد للعذراء) يخصص مع الكنيسة المقدسة بوالدة الإله تلك الكلمات المدونة في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع8) وهي: أنا درت دائرة السماء وحدي: قائلاً: أنه كما أن الفلك الأول يحرك بواسطة حركته سائر الأفلاك الأخرى معاً، فهكذا حينما تتحرك مريم لأن تتضرع من أجل نفسٍ ما فبحركتها تجعل سكان السماء كافةً أن يتحركوا بالصلوات معها: وبأبلغ من ذلك يقول القديس بوناونتورا: أن مريم حينئذٍ بحسب كونها ملكةً تأمر كل الملائكة والقديسين بأن يتحدوا معها. وبأن يضيفوا إلى صلواتها تضرعاتهم أيضاً.*
ثم على هذه الصورة أخيراً يفهم السبب الذي من أجله تحثنا الكنيسة المقدسة. على أن ندعوا هذه الأم الإلهية ونسلم عليها بتسميتنا إياها بهذا اللقب العظيم قائلين نحوها: يا رجانا: فلوتاروس المنافق كان يقول أنه لم يكن يستطيع أن يحتمل تصرف الكنيسة الرومانية بتسميتها مريم: رجانا: مع أنها أنما هي خليقةٌ محصنةٌ، ولذلك كان يصرخ قائلاً: لا أقدر أحتمل أن أدعو مريم رجائي وحياتي، لأن الله وحده ويسوع المسيح بحسب كونه الوسيط عنا فهما رجانا، بل أن الله يعلن عن لسان أرميا النبي من يضع رجاه في الخليقة بقوله: ملعون الرجل الذي يتوكل على الإنسان: (أرميا ص17ع5) إلا أن الكنيسة المقدسة تعلمنا أن نستغيث بمريم في جميع الحوادث وأن نسميها رجانا بقولنا لها: السلام عليكِ يا رجانا: فأي نعم أنه بالحقيقة ملعونٌ هو ذاك الذي يضع رجاه في الخليقة من دون تعلقٍ أو أضافةٍ إلى الله بالكلية، لأن الله هو وحده ينبوع كل الخيرات وموزعها. والخليقة من دون الله ليس عندها شيءٌ مطلقاً، ولا تقدر أن تعطي شيئاً، ولكن الأمر هو بالخلاف اذا كان الله عينه قد رسم كما ابنا فيما تقدم شرحه. بأن مريم تكون رجانا نظراً إلى رسمه تعالى بأن النعم الإلهية كلها تتوزع علينا منه بواسطة مريم: ولذلك كان القديس برنردوس يدعوها: علة رجائه بأسره: ومثله كان يقول القديس يوحنا الدمشقي. الذي بمخاطيته البتول المجيدة يهتف قائلاً: أنني لقد وضعت يا سيدتي فيكِ رجائي كله، ومنكِ أنا أنتظر خلاصي انتظاراً متصلاً. ويقول القديس توما اللاهوتي: أن مريم هي كل رجاء خلاصنا: والقديس أفرام السرياني يقول نحوها هكذا: أيتها البتول الكلية القداسة أقبلينا تحت حمايتكِ، إن كنتِ تريدين أن تشاهدينا مخلصين، لأنه لا يوجد عندنا رجاءٌ آخر في أمر خلاصنا إلا بواسطتكِ.*
فلنختتم إذاً الإيراد مع القديس برنردوس القائل: فلنجتهدن في أن نكرم بعواطف قلوبنا الأشد حباً هذه الأم الإلهية مريم الكلية قداستها. لأن هذه مشيئة الرب الذي أراد أن نقبل من يدها كل خيرٍ. ولذلك فكل مرةٍ نشتهي راغبين الحصول على نعمةٍ ما. فلنهتم في أن نستمدها من الله بواسطة مريم. محسنين اتكالنا ورجانا وثقتنا في أننا ننال بوساطتها ما نبتغيه، ثم يقول القديس المذكور نفسه: أنك إن كنت يا هذا لا تستحق من الله نوال تلك النعمة التي أنت تلتمسها منه، فمريم هي مستحقةً لديه حسناً أن تكتسبها لك… على أن كل شيءٍ نقدمه نحن لله أن يكن أعمالاً وأن يكن صلواتٍ. فلنجتهد في أن نقدمه لديه تعالى عن يد مريم وبواسطتها، هذا إن أردنا أن الرب يقبل منا ذلك.*
* نموذج *
أنها لشهيرةٌ هي خبرية ثاوفيلوس المعرقل المدونة من البطريرك القسطنطيني أوتيكانوس، الذي كان هو شاهداً عيانياً على حقيقة الأمر الآتي إيراده المثبت من القديس بطرس داميانوس أيضاً. ومثله من القديسين برنردوس وبوناونتورا وأنطونينوس، ومن غيرهم آخرين كما يوجد مدوناً من الأب كراسات. فقد كان ثاوفيلوس هذا رئيس شمامسةٍ في كنيسة مدينة أدنه من إقليم كيليكيا وكان حاصلاً عند الشعب على اعتبارٍ عظيمٍ، حتى أن الرعية كانت تريد ارتسامه عليها أسقفاً، غير أنه قد رفض هو قبول هذه الدرجة تواضعاً منه، ولكن إذ حدث بعد ذلك أن البعض قدموا ضده شكاياتٍ، ومن جرائها قد عزل هو عن وظيفته، فأستحوذ عليه من ثم غمٌ بهذا المقدار شديدٌ، حتى أن الآلام النفسانية قد أعمت قلبه وروحه. ولذلك مضى إلى أحد السحراء اليهود طالباً معونته، وهذا الساحر المنافق قد صيره أن يحصل على خطابٍ مع الشيطان مشافهةً مستمداً منه العون في أمر مصيبته، أما الشيطان فطلب من ثاوفيلوس هذا الشرط الأثيم إن كان هو يريد منه الإسعاف، وهو أن ينكر قبل كل شيءٍ يسوع ومريم أمه. وأن يدون رفضه إياهما في صكٍ محررٍ بخط يده ويدفعه إليه، فثاوفيلوس قد أرتضى بهذا الفعل الكلي النفاق وسطر الصحيفة بخطه وسلمها للعدو الجهنمي. ففي اليوم المقبل إذ أن أسقف المدينة فحص جيداً دعوى ثاوفيلوس. وعرف أنه كان بريئاً من تلك الشكايات، قد استدعاه إليه واستغفر منه وأرجعه إلى وظيفته كما كان قبلاً، فحينئذٍ ثاوفيلوس شعر بتوبيخ ضميره شديداً بمرارةٍ كانت تمزق أحشاه على الفعل الأثيم الذي صنعه، وشرع يبكي تياراتٍ من الدموع الحارة باتصالٍ. ثم انطلق إلى إحدى الكنائس وانطرح أمام أيقونة والدة الإله الكائنة هناك. مغرقاً الأرض بالدموع المنسكبة منمقلتيه وهتف قائلاً: يا والدة الإله أنا لا أريد أن أقطع رجائي بعد أن لي شخصكِ مملوءاً من الرأفة والحنو ومقتدراً على إعانتي: ثم واظب على التضرعات والبكاء مدة أربعين يوماً يلتمس الغوث من هذه الأم الإلهية التي بعد ذلك ظهرت له في الليل قائلةً: ماذا صنعت يا ثاوفيلوس، لقد رفضت صداقتك وحبك لأبني ولي أنا أيضاً متنازلاً عنهما، وذلك بين يدي عدوي وعدوك الجهنمي: فأجاب ثاوفيلوس وقال لها: أنه يخصكِ أنتِ أيتها السيدة أن تغفري لي وأن تستمدي لي الغفران من ابنكِ: فإذ لاحظت هذه السيدة الرحوم قلبها حسن ثقة ثاوفيلوس ورجاه فيها قالت له: كن مطمأناً متعزياً لأني أريد أن أتوسل لله من أجلك: فثاوفيلوس إذ تشجع من هذا الوعد قد ضاعف أفعال التوبة وسكب الدموع والصلوات من دون أن يفارق مكانه أمام تلك الأيقونة، وهوذا العذراء المجيدة قد ظهرت له ثانيةً فرحةً وقالت له: ابتهج يا ثاوفيلوس مسروراً، لأني قدمت أمام الله صلواتك ودموعك وهو تعالى قد قبلها وقد غفر لك، ولكن يلزمك منذ الآن فصاعداً أن تكون عارف الجميل وأميناً نحوه عز وجل: فأجاب ثاوفيلوس قائلاً: يا سيدتي إن هذا لا يكفيني ليعزيني بالتمام لأن الشيطان لم يزل حافظاً عنده الصك الذي دفعته إليه مدوناً فيه رفضي ابنكِ وإياكِ، فأنتِ تقدرين أن تلزميه بأن يرد لي هذا الصك: فبعد ثلاثة أيامٍ إذ نهض ثاوفيلوس صباحاً من رقاده، قد رأى الصك نفسه موضوعاً على صدره، ومن ثم مضى في اليوم عينه إلى الكنيسة حيث كان الأسقف حاضراً مع شعبٍ غفيرٍ، وانطرح على قدمي هذا الراعي معترفاً جهاراً بما كان صنعه، ومخبراً بحقيقة الأعجوبة. ومسلماً بيد الأسقف ذاك الصك الذي حرقه الأسقف حالاً أمام جميع الشعب. الذين بدموعٍ غزيرةٍ من شدة الفرح كانوا يقدمون الشكر لله ممجدين رأفته ورحمته، ومسبحين حنو والدته أم الرحمة على ما فعلته مع ذاك الخاطئ، الذي من هناك رجع إلى كنيسة والدة الإله مملوءاً من الفرح. وبعد ثلاثة أيامٍ فقط انتقل من هذه الحياة وهو مكرر التسابيح والشكر ليسوع ولأمه الطوباوية.*
† صلاة †
يا أم الرحمة وسلطانة الرأفة الموزعة النعم على كل أولئك الذين يلتجئون إليكِ بسخاءٍ هكذا عظيمٍ بحسبما أنتِ ملكةٌ وبمحبة هذا حد حرارتها بحسبما أنتِ أمٌ لنا كلية الحب، فأنا اليوم أقصد فضلكِ ملتجياً إليكِ أنا المقفر جداً من الاستحقاقات والفضائل، والمثقل بالديون التي عليَّ للعدل الإلهي، فيا مريم أنتِ حافظةٌ في يديكِ مفاتيح الرحمة الإلهية الغير المتناهية فلا تنسي حال فقري واحتياجي، ولا تتركيني سبروتاً بائساً هكذا في أقصى حدود المسكونة، فأنتِ بهذا المقدار سخيةٌ جوادةٌ نحو الجميع حتى أنكِ اعتدت أن تهبي أكثر مما يلتمس منكِ، فكوني نحوي أنا أيضاً نظير الآخرين. يا سيدتي حامي عني وهذا هو كل ما أطلبه منكِ، لأنكِ إذا قبلتيني تحت حمايتكِ مناضلةً عني، فلا يمكن أن أخاف من أحدٍ. أي لا أخشى من الشياطين لأنكِ أنتِ أشد قوةً من الجحيم بأسره، ولا من خطاياي لأنكِ تقدرين أن تستمدي لي من الله غفراناً عاماً عنها، وذلك بكلمةٍ واحدةٍ تقولينها لله في صالحي، بل أني إن حزت محاماتكِ عني فلا أخاف حتى ولا من غضب العدل الإلهي ضدي، لأن الله لأجل تضرعٍ واحدٍ تقدمينه لديه من أجلي يهدأ رجزه عني ويسترضي. وبالإجمال إذا حصلت أنا تحت ظلكِ معضداً منكِ فعندي الرجاء في أن أنال كل شيءٍ أبتغيه. لأنكِ تقدرين على كل شيءٍ، فأمرٌ معلومٌ عندي يا أم الرحمة أنكِ تسرين مبتهجةً وتفتخرين ممجدةً في إعانتكِ الفقراء الأكثر احتياجاً والأشد شقاوةً، بحيث أنكِ لا تشاهدينهم مصرين على عمل الإثم وبذلك تقدرين أن تسعفيهم، فأنا إنما خاطٍ ولكنني لست مصراً على الخطيئة بل أريد أن أغير سيرتي وأصلحها. ومن حيث أنكِ تقدرين أن تعينيني، فإذاً عينيني وخلصيني، ها هوذا أنا في هذا اليوم أضع ذاتي بجملتها في يدكِ، فقولي لي ماذا ينبغي أن أصنع لكي أرضي الله، لأني أريد حالاً أن أتممه موملاً صنيعه بمعونتكِ يا مريم أمي ونوري وتعزيتي وملجأي ورجائي آمين.*
†
No Result
View All Result
Discussion about this post