كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
في تفسير الكلمات الأولى من الصلاة الآتي ذكرها وهي:
السلام عليك أيتها الملكة أم الرحمة، السلام عليك يا حياتنا ولذتنا ورجانا، إليكِ نصرخ نحن المنفيين أولاد حواء ونحوك نتنهد نائحين وباكين في هذا الوادي وادي الدموع، فأصغي إذاً إلينا يا شفيعتنا وأنعطفي بنظرك الرؤوف نحونا وأرينا بعد هذا المنفى يسوع ثمرة بطنك المباركة، يا شفوقة يا رؤوفة يا مريم البتول الحلوة اللذيذة آمين.
الفصل الأول
تفسير السلام عليك أيتها الملكة أم الرحمة والرأفة
*ويشتمل هذا الفصل الأول على أربعة أجزاء*
† الجزء الأول †
في كم يجب أن يكون رجانا وطيداً في مريم والدة الإله من حيث أنها هي الملكة أم الرحمة
إنه لأجل أن مريم البتول الكلية القداسة قد حازت من الله هذه الرتبة الكلية السموّ، وهي أنها صارت والدةً لملك الملوك وسيد الممالك جميعها، فبكل عدلٍ واستحقاقٍ قد كرمتها الكنيسة بصفة ملكة، وتريد من الجميع أن يكرمونها بهذه الصفة المجيدة. على أنه يقول القديس أثناسيوس: إن كان الابن هوملكاً فيلزم بكل عدلٍ أن تدعى والدته ملكةً وتعتبر كذلك. ويضيف إلى هذا القديس برنردينوس السياني (في العدد الحادي والخمسين من المجلد الثاني) قائلاً: أنه من الوقت الذي فيه قد ارتضت مريم البتول بأن تكون أماً للكلمة الأزلي، فقد استحقت منذ تلك الساعة أن تصير ملكة العالم وكل المخلوقات. والأنبا القديس أرنولدوس يبرهن هكذا بقوله: أنه إن كانت لحمان جسم العذراء المجيدة لم تكن متميزة عن لحمان ابنها يسوع، فكيف يمكن أن يكون شخصها منفصلاً عن صفة التملك في مملكة ابنها، مع كونها أمه. ولذلك يلزم أن يقال أن مجد المملكة ليس فقط هو مشتركاً فيما بين الابن ووالدته ومشاعاً لهما، بل أيضاً هو خاص لكلٍ منهما*
ويقول الأنبا روبارتوس: أنه إن كان يسوع المسيح هو ملك الكائنات أجمع. فمريم والدته هي أيضاً ملكة المخلوقات بأسرها: فمن ثم كتب القديس برنردينوس المار ذكره: إن كل المخلوقات التي تخدم الله يلزمها أن تخدم مريم أيضاً، لأن جميع الملائكة والبشر وكل الموجودات في السماء والأرض، فبحسب كونهم مخضعين لمملكة الله فهم مخضعون لسلطان مريم البتول أيضاً (ف 61 كتاب 2) فلهذا يتجه الأنبا غواريكوس نحو هذه الأم الإلهية مخاطباً إياها هكذا: فداومي إذاً يا مريم على ممارسة سلطان تملكك أمينةً مطمئنة، وتصرفي كما تشائين بخيرات ابنكِ جميعها، لأنكِ من حيث كونكِ أماً وعروسةً لملك العالم فيلزم أن تخضع لكِ المملكة. إذ أنكِ ملكةٌ ويخصكِ التولي على المخلوقات بأسرها.*
فإذاً مريم البتول هي ملكةٌ، ولكن فليعلم كل واحدٍ لأجل التعزية العمومية، أنها هي ملكةٌ كلية العذوبة والحلاوة والحلم والشفقة، منعطفةٌ لصنيع الخير معنا نحن المساكين الأذلاء ولذلك تريد منا الكنيسة أن نسلم عليها بهذه الصلاة مسمين إياها: ملكة الرحمة: ثم إن صفة ملكة تشير كما يقول الطوباوي البرتوس الكبير إلى الحنو والعناية نحو الفقراء خلافاً لتسمية مسلطة مقتدرة المشيرة إلى الصرامة والخوف. فسينكا الفيلسوف يعلّم قائلاً: أن جلالة الملوك والملكات إنما تتلألأ في إسعافهم المساكين وإحسانهم إليهم. أما المغتصبون المختطفون الكراسي الملوكية اختلاساً واغتصاباً، فإنما غايتهم هي خير ذواتهم لا غير. وأما الملوك الشرعيون فيلزم أن تكون غايتهم خير رعاياهم. ولذلك جرت الرسوم في أن تدهن هامة الملك يوم احتفال تتويجه بزيتٍ، دلالةً على الليونة والرحمة والرأفة، لكي يتذكر التزامه في أن يلاحظ فضلاً عن كل شيءٍ ما به يصنع الرحمة والإحسان مع المخضعين لولايته*
فمن ثم تلتزم الملوك بأن يجتهدوا بالوجه الأول في أعمال الرحمة، ولكن ليس بنوعٍ هذا حدّه، حتى أنهم يتناسون أن يمارسوا واجبات العدل في عقاب المذنبين حينما يحتاج الأمر لذلك. غير أن تصرف مريم البتول ليس هو على هذه الصورة. لأنها ولئن كانت هي ملكةً، فمع ذلك ليست هي ملكةً مؤدبةً معاقبةً منتقمةً من المذنبين بل هي: ملكة الرحمة: المنعطفة إلى الشفقة وصنيع الرحمة فقط وإلى منح الغفران للخطأة. ولهذا قد شاءت الكنيسة تقصداً أن ندعوها نحن بالحصر: ملكة الرحمة. فعندما كان يتأمل المعلم جرسون العظيم أول مسجلي الديوان الملوكي في مدينة باريس، تلك الكلمات الداودية الموردة من المرتل في العدد الثاني عشر من المزمور الحادي والستين وهي قوله: مرةً واحدةً تكلم الرب وهاتين الاثنتين سمعت أن العزة لله ولك يا رب الرحمة لأنك أنت تجازي كل واحدٍ نظير أعماله: فقد فسرها هو هكذا قائلاً في البحث الرابع من القسم الأول من تأليفه):” أنه إذ كانت مملكة الله قائمةً ومتوقفةً على هاتين الاثنتين وهما العدالة والرحمة. فالرب قد قسم لذاته ملك العدل، حافظاً لشخصه فقط الانتقام، ووهب قسم مملكة الرحمة لمريم والدته، راسماً بأن المراحم كلها التي يمنحها للبشر تكون موزعةً منه بواسطة ملكة الرحمة هذه حسبما تشاء هي وتريد”. وقد أثبت ذلك القديس توما اللاهوتي في مقدمته على الرسائل القانونية بقوله: أن البتول القديسة حينما حبلت في أحشائها بالكلمة الأزلي وولدته تعالى، فقد حازت نصف مملكة الله بصيرورتها ملكة الرحمة. وحفظ يسوع ابنها لذاته صفة ملك العدل*
فالآب الأزلي انما أقام يسوع المسيح ملكاً للعدل، ولذلك جعله قاضياً ودياناً مطلقاً للعالم بأسره. ومن ثم يهتف المرتل قائلاً: اللهم أعط حكمتك للملك وعدلك لابن الملك مزمور72 ع1) فهنا أحد مفسري الكتاب المقدس البارعين يخاطب الله بقوله: أيها الرب إنك إنما أعطيت ابنكَ مملكة العدل، ووهبت مريم البتول والدته مملكة رحمتك. والقديس بوناونتورا يغير الألفاظ الداودية المذكورة كموجب هذا التفسير قائلاً: اللهم أعط عدلك للملك ورحمتك لأم الملك. وكذلك يقول السيد أرباسطوس رئيس أساقفة براغا: أن الآب الأزلي قد خصص الابن بوظيفة قاضٍ معاقبٍ بالعدل. ومنح الأم وظيفة الاشفاق والرحمة نحو المساكين والسعي في اسعافهم: ومن ثم فالنبي داود نفسه سبق مشيراً الى أن الله قد مسح (لكي يقول هكذا) مكرساً مريم البتول ملكة الرحمة بزيت البهجة (مزمور.ع 45) لكي نبتهج نحن بأجمعنا أولاد آدم الأشقياء المساكين، ونتهلل عند تذكرنا أن لنا في السموات ملكةً ممسوحةً بزيت الرحمة، مملؤةً من الرأفات والاشفاق نحونا، حسبما يقول القديس بوناونتورا (في الفصل7): أن مريم هي ممتلئةٌ من مسحة الرحمة ومن زيت الرأفة كما قيل أن الله قد مسحك بزيت البهجة*
ففي هذا الموضوع حسناً جداً يخصص الطوباوي البرتوس الكبير بوالدة الإله خبرية أستير الملكة، التي قد كانت رسماً وصورةً لملكتنا الشريفة. ففي الإصحاح الرابع من سفر أستير يورد. أنه إذ كان متملكاً أحشوروش الملك قد خرج أمرٌ إلى جميع حدود مملكته في قتل اليهود جميعاً، فحينئذٍ مردخاي الذي كان هو واحداً من هؤلاء المقضى عليهم بالموت. قد استخدم أستير شفيعةً في أمر مصائبهم، لكي تدخل واسطةً مع الملك، وتجتذبه لأن ينقض الحكومة المبرزة ضدهم. فهذه الملكة قد رفضت في الأول أن تتداخل في هذه القضية، لخوفها من أن تسبب للملك أحشوروش زيادة الغيظ. غير أن مردخاي قد عنفها وأرسل يقول لها بأنها لا تفتكر في أن تخلص نفسها فقط معرضةً عن أبناء جنسها. في الوقت الذي فيه إنما رفعها الرب إلى كرسي الملك، لكي تنال الخلاص لليهود كافةً. فهكذا قال مردخاي وكذلك نحن الخطأة الأذلاء يمكننا أن نقول لملكتنا مريم المجيدة: لا تفتكري أيتها السيدة بأن الله قد رفعكِ إلى مرتبة ملكة العالم لكي تعتني في شأن خيركِ أنتِ وحدكِ، بل حتى إنكِ إذ حصلتِ عظيمةً سامية الاقتدار، تستطيعين أن تترأفي مشفقةً علينا ومهتمةً في إسعافنا نحن البائسين*
فأحشوروش الملك حينما شاهد أستير ماثلةً أزائه قد سألها بحبٍ قائلاً: مالكِ يا أستير الملكة وما هي طلبتكِ: فأجابته وقالت له: إن وجدتُ في عيني الملك نعمةً وإن رأى الملك أن يهب لي نفسي في سؤالي وأمتي في طلبتي:: فالملك قد قبل ألتماسها. وأمر حالاً بأن لا تبلغ مفعولها مراسيمه المبرزة ضد اليهود. فإذاً ان كان الملك احشوروش قد استجاب طلبة أستير لأجل حبه إياها، ووهب اليهود نعمة الخلاص من الموت إكراماً لها. فكيف يمكن للباري تعالى ؟أن لا يقبل طلبات مريم البتول، مع أنه يحبها حباً غير متناهٍ. أو كيف يمكن أن يرفض توسلاتها في شأن خير الخطأة الذين يلتجئون إليها مستغيثين بشفاعاتها حينما تقول هي له عز وجل. إنني إن كنت وجدت لدى عينيك نعمةً أيها الملك. فهبني شعبي الذين أتوسل إليك من أجلهم (هذا مع أن البتول الأم الإلهية تعلم جيداً أنها هي وحدها المباركة في النساء والطوباوية في جميع البشر لأنها وجدت النعمة التي هم أضاعوها. وتعرف أنها هي كلية القبول لدى سيدها، ومحبوبة منه أفضل حباً من جميع الملائكة والبشر معاً) فهل هو ممكن أنها تلتمس منه تعالى قائلةً:” إن كنت تحبني أيها السيد فأمنحني واهباً هؤلاء الخطأة الذين أتضرع إليك من أجلهم”. وهو جلت قدوسيته لا يقبل طلبتها. فمن تراه يجهل مقدار قوة تضرعات هذه السيدة أمام الله. مع أن شريعة الرحمة في لسانها كما قيل عنها في العدد 26 من الإصحاح 31من سفر الأمثال: فكل تضرعٍ تصنعه هي فهو محسوبٌ بمنزلة شريعةٍ مرسومة من الله. بأن توهب الرحمة والنعمة لكل أولئك الذين تتوسل هي من أجلهم. فالقديس برنردوس في تفسير هذه الصلاة أي: السلام عليكِ يا ملكة الرحمة: يسأل كمستفهمٍ لماذا أن الكنيسة تسمي مريم العذراء ملكة الرحمة، ثم يجيب هو نفسه على سؤاله هذا قائلاً: لأننا نحن نوقن معتقدين بأنها هي تفتح أبواب رحمة الله التي لا قرار لعمقها، وتهب هذه الرحمة لمن تريد وحينما تشاء وبالنوع الذي ترومه. ولهذا لا يوجد أصلاً خاطئ ما مهما كانت مآثمه متفاوتة كل الشناعات يمضي هالكاً، إن كانت مريم تحامي عنه*
ولكن أهَل نستطيع نحن أن نخاف من أن هذه الأم الإلهية، لا تتنازل لأن تدخل وسيطةً وشفيعةً لدى الله من أجل الخاطئ، لأجل أنها تشاهده حاملاً وسقاً ثقيلاً من خطايا كثيرة. أو هل ربما أننا نستوعب رهبةً وارتجافاً من سمو جلالة مقام هذه الملكة، ومن علوّ قمة القداسة الحاصلة هي عليها. لا لعمري، لأنه كما يقول القديس غريغوريوس الكبير (في الرسالة 47من كتابه1): أنه بمقدار ما أن هذه الملكة هي عالية الشأن وسامية في القداسة، فبمقدار ذلك هي ذات عذوبةٍ أفضل وحنوٍ أعظم وإشفاقٍ أكمل، نحو إسعاف الخطأة الذين يرومون النجاة من مآثمهم تائبين، ويقصدون شفاعاتها مستغيثين. فأي نعم أن عظمة سطوة الملوك، وسمو جلالة الملكات، يسببان في قلوب رعاياهم الرهبة، ويصدانهم عن سهولة الامتثال أمامهم في البلاط الملوكي لخوفهم منهم. إلا أنه يقول القديس برنردوس: أي خوفٍ يمكنه أن يعتري الخطأة البائسين من أنهم يلتجئون إلى ملكة الرحمة هذه. في الوقت الذي فيه لا تظهر هي شيئاً من الرعدة أو الصرامة ضد من يتقدم اليها مستغيثاً بها. بل تعلن له ذاتها بكليتها مملؤةً من العذوبة والرفق والحنو، وهي نفسها تقدم للجميع لبناً وصوفاً: أي أنها ليس فقط تمنح السائل مسألته، بل أيضاً هي عينها تقدم لنا جميعاً لبن الرحمة، لكي تشجعنا على توطيد الرجاء في شفاعاتها، وصوف الحماية الذي إذا ما تردينا به فننجوا من صواعق انتقام العدل الإلهي*
فيخبرنا سفاسطونيوس عن الملك تيطس قيصر بأنه لم يكن يعرف هذا الملك أن يرفض إيهاب نعمةٍ ما عن أي من كان يلتجئ اليه في طلبها منه، بل الأبلغ من ذلك أنه هو نفسه بعض الأحيان كان يعد بإيهاب النعم بأكثر مما كان ينتظر منه، وكان من عادته أن يعطي الجواب لمن كان يجتهد في تهذيب هذا السخاء فيه قائلاً له: أنه يلزم الملك أن لا يصرف أحداً من حضرته غير راضٍ منه بعد أن يكون سمح له بالحضور أمامه وباستماع طلبته:
نعم إن هذا الملك كان يقول هكذا، إلا أنه بالحقيقة كان يتفق له مراتٍ كثيرةً أن يستعمل الافك. أو يخرم في مواعيده غير متممٍ |إياها. ولكن ملكتنا هذه الإلهية لا يمكنها أن تكذب، بل وتستطيع أن تستمد لعبيدها كل ما تريده لهم. ويضاف إلى ذلك (كما يقول عنها لودوفيكوس بلوسيوس في الرأس12 من كتابه4) إنها هي حاصلةٌ على قلبٍ بهذا المقدار موعب حنواً ورأفةً، حتى أنها لا تستطيع أن تحتمل هذا الأمر. وهو أن أحداً مهما كان في ذاته، من الذين يتضرعون إليها يمضي من أمامها غير راضٍ، وغير متعزٍ بنوال مطلوبه: بل أن القديس برنردوس (في تفسيره الصلاة المار ذكرها) يخاطب هذه السيدة هكذا قائلاً: ترى كيف تقدرين يا مريم أن ترفضي اسعاف البائسين المستغيثين بكِ، في الوقت الذي فيه أنتِ هي ملكة الرحمة. وترى من هم أولئك الرعايا المخضعين لملكة الرحمة سوى الفقراء المساكين الأذلاء. فأنتِ هي ملكة الرحمة وأنا هو الخاطئ الأكثر دناءةً من الجميع. فإذاً أنا هو الأكبر فيما بين الرعايا المخضعين لمملكتكِ، ولذلك يلزم أن تكون عنايتكِ بي أشد فاعليةً من اهتمامكِ في جميع الآخرين*
فارحمينا إذاً يا ملكة الرحمة واهتمي في خلاصنا، ولا تقولي لنا أنكِ لا تستطعين إسعافنا لأجل أن خطايانا هي كثيرةً جداً، إذ أنكِ حاصلةً على سلطانٍ هكذا عظيمٍ ومطلقٍ. وعلى قلبٍ بهذا المقدار حنون ومترفق، حتى أن مآثمنا مهما كانت عدبيدةً ومتكاثرة، فلا يمكنها أن تسمو على سلطانك وأشفاقك، فلا شيءٌ من الأشياء يمكنه أن يقاوم سلطتكِ، لأن خالقكِ ومبدعنا أجمعين إذ كان يريد إكرامكِ بحسب كونكِ أماً له. فيعتد شرفكِ وتكريمك راجعين لشخصه، على أنه (كما ينتج واضحاً من أقوال القديس غريغوريوس النيكوميدى، في خطبته على نياح مريم البتول، وعنه هي مأخوذة الألفاظ المتقدم إيرادها) ولئن كانت هذه السيدة مملؤةً من الالتزام ومعرفة الجميل نحو ابنها الإلهي على ما أنعم هو به عليها برفعه إياها إلى مقام والدةٍ حقيقيةٍ له، فمع ذلك أمرٌ غير قابل الإنكار هو أن هذا الابن عينه هو ملتزمٌ ليس بالقليل لامه هذه، لأجل إعطائها إياه الطبيعة الإنسانية من دمائها النقية، فمن ثم لكي يكافئ يسوع المسيح والدته ويفي على نوعٍ ما التزامه نحوها، فيسر بتمجيدها وإكرامها في أنه بنوعٍ خاصٍ يستجيب دائماً طلباتها كلها*
فكم ينبغي إذاً أن يكون رجاؤنا وطيداً في هذه الملكة، عند معرفتنا عظمة الاقتدار الحاصلة هي عليه لدى الله. ويضاف إلى ذلك تأملنا في كم هي غنيةً ومملؤةٌ من الرحمة، بنوع أنه لا يوجد انسانٌ يحيى على الأرض من دون أن يشترك بمفاعيل إشفاقها وإسعافها، الأمر الذي قد أعلنته هذه السيدة المجيدة نفسها للقديسة بريجيتا. (كما يوجد مدوناً في الرأس6 من الكتاب1 من سيرة حياة هذه القديسة) التي خاطبتها البتول والدة الإله قائلةً: أنني أنا هي ملكة السماء وأم الرحمة، وأنا هي فرح الأبرار والباب الذي بواسطته تدخل الخطأة إلى الله، فلا يوجد على الأرض خاطٍ ما يعيش هذا المقدار ملعوناً ويستمر خالياً من إسعاف رحمتي. لأنه إن كان كل أحدٍ لا يحصل من مفعول شفاعتي من أجله، شيئاً آخر، فينال قلما يكون هذه النعمة، وهي أن تقل عنه تجارب الشياطين، بنوع أنها لكانت ضده قويةً جداً لولا شفاعتي. فلا يوجد أحدٌ، بحيث أنه لا يكون قد لعن مطلقاً (أي باللعنة الأخيرة المحكوم بها من دون أمكانية نقض الحكومة) يمضي مطروداً من أمام الله، بعد أن يكون استدعاني إلى معونته مستغيثاً بي، ولا يرجع إليه تعالى ويتمتع برحمته الإلهية! فأنا قد سميت من الجميع أم الرحمة وبالحقيقة أن رحمة الله نحو البشر قد صيرتني هكذا شفوقةً رأوفةً نحوهم… فلهذا شقيٌ هو وسيكون شقياً على الدوام في الحياة العتيدة. ذاك الذي مع أمكانه أن يلتجئ إليَّ وهو في هذه الحياة. أنا التي بهذا المقدار شفوقةً نحو الجميع، وراغبةٌ عمل الخير مع الخطأة، فلا يستغيث بي بل يتكردس هالكاً*.
فلنلتح إذاً الى هذه الملكة الكلية العذوبة والرأفة. ولكن التجاءً متصلاً، إن كنا نريد أن نجعل أمر خلاصنا الأبدي في أمان. وإذا كان تأملنا في كثرة خطايانا يخيفنا ويضعف شجاعتنا، فلنفكر في أن مريم لأجل هذه الغاية عينها قد أقيمت من الله ملكةً للرحمة، وهي لكي تخلص بواسطة حمايتها الخطأة الأشد شقاءً والأوفر تيهاً في طريق الهلاك. الذين يلتجئون إليها. لأن هؤلاء عتيدون أن يكونوا لها في السماء نظير إكليلٍ مستديرٍ حولها. حسبما يخاطبها عروسها الإلهي في الإصحاح الرابع من سفر النشيد قائلاً: تعالي يا عروستي من لبنان، هلمي من لبنان تجيئين فتتكللين من صير الأسود ومن جبال النمورة. فترى ما هي صير الوحوش الضارية هذه سوى الخطأة الأشقياء الذين أضحت أنفسهم صيراً للمآثم التي هي وحوشٌ شنيعة الصور بنوعٍ متفاوت حدود الشناعة. فحسبما يفسر الأنبا روبارتوس (في كتابه3 على سفر النشيد) قائلاً: من صير هذه الأسود تتكللين، فخلاصهم يكون تاجاً لكِ: على أن هؤلاء الخطأة الأذلاء بالخصوص الذين يفوزون بالخلاص الأبدي بوساطتكِ أيتها الملكة العظيمة، فهم الذين عتيدون أن يكونوا إكليلاً لك في الفردوس السماوي، لأن خلاصهم هو تاجٌ لك. وبالحقيقة إنه لتاجٌ لائقٌ وملائمٌ واستحقاقيّ لمن هي ملكة الرحمة التي هي أنتِ.*
* نموذج *
أنه لمدونٌ في سيرة حياة القديسة كاترينا المختصة بالقديس أوغوسطينوس. أنه في المكان الذي فيه كانت موجودةً خادمة الرب هذه، قد كانت هناك امرأة اسمها مريم، التي إذ أنها منذ حداثتها قد كانت تمرغت في حمأة المآثم، وتأصلت فيها الرذائل الشنيعة. فحينما تقدمت في العمر والسنين لم تكن بعد تركت سيرتها الأولى الرديئة المدنسة بهذا المقدار من الخطايا حتى أن أهل بلدتها قد طردوها من وطنهم، ونفوها إلى مغارةٍ بعيدةٍ عنهم. كي تعيش هناك حيث ماتت فيما بعد مرذولةً منتةً، من دون تناول الأسرار المقدسة ولذلك قد دفنت جثتها في أحد الحقول كجثة وحشٍ مكروهٍ. فالبارة كاترينا التي كانت من عادتها أن تقدم تضرعاتٍ حارةً من أجل أولئك الذين كانت تسمع عنهم أنهم فارقوا هذه الحياة بالموت. فقد أهملت الصلاة من أجل نفس هذه الامرأة التعيسة لظنها فيها نظير ما كان ظن الجميع أنها قد ماتت هالكةً في الجحيم. فبعد أن مضى من الزمن أربع سنوات، وإذا يوماً ما بنفسٍ من الأنفس الكائنة في المطهر قد ظهرت للبارة كاترينا قائلةً لها: أيتها الأخت كاترينا كم هو تعسٌ حظي، فأنتِ دائماً تتوسلين لله من أجل إسعاف كل الأنفس التي تسمعين خبر انتقالها من هذه الدنيا. فكيف من أجلي أنا فقط لم توجد عندكِ شفقةٌ: فعبدة الرب كاترينا قد سألتها قائلةً: ومن هي أنتِ: فأجابتها هذه النفس بقولها: إني هي تلك المرأة المسكينة مريم، التي ماتت منفيةً في المغارة: فأردفت عليها السؤال كاترينا مستفهمةً بقولها لها: كيف جرى الأمر، أهَل أمكنك أن تخلصي من الهلاك: فأجابتها – نعم إنني فزت بالخلاص بواسطة مراحم مريم البتول. فقالت لها كاترينا: وكيف تم ذلك. فأخذت تلك تخبرها قائلةً: أنني حينما رأيت ذاتي مدنفةً قريبةً من الموت، فإذا تأملت في شقاوتي. وفي كم أنني مملؤةً من المآثم ومهملةٌ من الجميع، فقد اتجهت نحو والدة الإله قائلةً لها: إنك أيتها السيدة أنت هي ملجأ المتروكين المهملين، فأنت هي رجائي الوحيد وأنت وحدكِ تقدرين أن تعينيني، فأرحميني وترأفي عليَّ: فالبتول القديسة قد استمدت لي من الله نعمة الندامة الصادقة. وهكذا قد مت ونجوت من الهلاك، ثم أن القديسة ملكتي قد استماحت لي من الرب هذه النعمة أيضاً. وهي أن زمن إقامتي في العذابات المطهرية لا يكون مستطيلاً، بل اختصرته لي بنوع إني أتكبد العذاب مضعفاً، بدلاً مما كان يلزمني أحتمله أزمنةً مستطيلةً من السنين، ولذلك فأنا الآن لست محتاجةً، لأجل خلاصي من المطهر، سوى إلى بعض قداديس تتقدم لله من أجلي. فمن ثم أتوسل إليك بأن تهتمي في أن تصيري بعض الكهنة أن يتمم ذلك، وأنا أعدك بأن أتضرع من أجلك دائما لدى الله ولمريم البتول: فالبارة كاترينا من دون تأخيرٍ قد اجتهدت في تقدمة تلك القداديس عن نفس مريم المذكورة، التي ظهرت لها مرةً ثانيةً بعد أيام وجيزة ملحفةً بالأنوار الأكثر لميعاً من ضياء الشمس وقالت لها: أنني أشكر فضلكِ أيتها الأخت كاترينا، فهوذا أنا الآن منطلقةٌ إلى السماء لكي أسبح رحمة الله إلهي وأتضرع لديه من أجلكِ.*
† صلاة †
يا سيدتي ووالدة إلهي مريم الطوباوية، إن مسكيناً مقرحاً بالجراح مستكرهاً منظره يتقدم أمام ملكةٍ عظيمة الجلالة. فأنا هو هذا المسكين، وقد امتثلت أمامكِ أنتِ التي هي ملكة السماوات والأرض، متوسلاً لديكِ بألا تكرهي أن تنظري إليَّ من علو السدّة التي أنتِ جالسةٌ فوقها، بل أرمقيني بعين رأفتكِ أنا العبد الخاطئ الذليل، فإنما الله قد جعلكِ غنيةً لكي تسعفي البائسين، وأقامكِ ملكةً للرحمة ليمكنكِ أن تترأفي على الأشقياء التعيسين، فأنظري إذاً إليَّ، وأشفقي عليَّ، لاحظيني بطرف رأفتكِ، ولا تتركيني ألمَّ تنقليني من حال كوني خاطياً الى حال القداسة. فأنا أعلم ذاتي يقيناً أنني لا أستحق شيئاً من ذلك، بل بالأحرى أنني مستأهل لأجل عدم معرفتي جميل المحسن إليَّ، أن أعرى من النعم كلها التي حزتها من الرب بواسطتكِ. ولكن من حيث أنكِ أنتِ هي ملكة الرحمة، فلا تفتشين ولا تطلبين استحقاقاتٍ، بل تفحصين عن الأشقياء المهملين لكي تسعفيهم: فترى من هو أكثر مني احتياجاً وأشد مني شقاوةً*
فأنا أعلم أيتها البتول العالية الشأن، إنكِ بحسب كونكٍ ملكة المخلوقات بأسرها، فأنتِ هي ملكتي أنا أيضاً. إلا أنني أريد بنوعٍ أخص وأشد إلتزاماً أن أكرس ذاتي بجملتي لخدمتكِ وعبادتكِ، لكي تتصرفي بي حسبما تشاءين وتريدين. ومن ثم أتفوه نحوكِ بكلمات القديس بوناونتورا قائلاً: أنني أريد أن أسلم ذاتي لولايتكِ أيتها السيدة لكي تعضديني وتدبري أحوالي كلها، وأن لا تتركيني على هواي: فعينيني أنتِ يا ملكتي وأحفظيني ولا تهمليني على هوى نفسي، أمريني واستخدميني كما ترومين، بل عاقبيني أيضاً بالتأديب حينما لا أسلك ضمن حدود الطاعة لكِ، لأن القصاصات التي تأتيني من يدكِ هي مفيدةٌ خلاصيةٌ لي في الغاية، فأنا أفضل حال كوني عبداً لكِ، وأعتبره أشرف لي من أن أكون متملكاً على الأرض كلها، أنا لكِ فخلصيني. أقبليني خاصتكِ، وبحسب أنني أنا لكِ فأنت أفتكري في أن تخلصيني. فأنا لا أريد بعد الآن أن أكون لذاتي، بل أنني أهبكِ نفسي وأن كنت فيما مضى قد خدمتكِ بئس الخدمة. لأني أهملت الفرص والموضوعات المفيدة التي كان يمكنني أن أكرمكِ بها، فأرغب منذ الآن فصاعداً أن أتحد مع عبيدكِ المتمسكين بحبكِ أشد تمسكاً، والمستحرين في عبادتكِ أكثر حرارةً، بل لا أرتضي بأن أحداً منهم يسبقني في تكريمكِ وحبه لكِ أيتها الأم ملكتي المحبوبة في الغاية. فهكذا أعد وكذلك أرجو أن أتمم وعدي بواسطة معونتكِ آمين*
†
Discussion about this post