كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الثاني
في شرح ما يلاحظ هذه الكلمات وهي: يا حياتنا ولذتنا
وفيه ثلاثة أجزاء
† الجزء الثاني †
أن مريم هي حياتنا كونها تستمد لنا نعمة الثبات في البر
أن نعمة الثبات الأخيرة هي موهبة إلهية عظيمة جداً، وكما حدد المجمع التريدنتيني المقدس هي موهبةٌ مجانيةٌ مطلقاً، لا يمكننا أصلاً أن نستحقها بذواتنا، بل كما يعلّم القديس أوغوسطينوس أن كل أولئك الذين يلتمسون من الله نعمة الثبات فينالونها، وحسبما يقول سوارس أنهم حقاً ينالونها من دون خللٍ، طالما يداومون على أن يطلبوها من الله باجتهاد لحد نهاية حياتهم، لأن هذا الثبات على التماسها يومياً. كما يقول الكردينال بالارمينوس يعتبر كبرهان على أنهم يومياً ينالونها. فإن كان أمراً حقيقياً هو أن كل النعم التي تفاض علينا من الله. فتتوزع علينا بواسطة مريم البتول. حسب الرأي الكائن الآن رأياً عاماً، والذي أنا أعتده صادقاً، كما سأبرهن عنه في الفصل السادس من هذا القسم، فكذلك يكون أمراً حقيقياً هو أننا بواسطة مريم فقط. يمكننا أن نرجوا نعمة الثبات الأخيرة هذه العظمى وأن نفوز بها. ومن دون ريبٍ نحن ننالها إن كنا نطلبها بدالةٍ وبحسن اتكالٍ دائماً من هذه القديسة، التي هي نفسها وعدت بأن تمنحها لكل أولئك الذين يخدمونها بأمانةٍ في هذه الحياة. حسبما تستخدم الكنيسة المقدسة عن لسانها في خدمة عيد الحبل بها، كلمات العدد الثلاثين من الإصحاح الرابع والعشرين من سفر حكمة ابن سيراخ، وهي هذه: أن الذين يعملون فيَّ لا يخطئون، ومن شرحني تحصل لهم الحياة الأبدية.*
فلكي ننحفظ نحن في حياة النعمة الإلهية، فضروري لنا هو أن نكون حاصلين على القوة الروحية، ليمكننا أن نصادم كل أعداء خلاصنا، فهذه القوة نحن نقدر أن نحصل عليها بواسطة مريم فقط، كما جاء عنها في العدد الرابع عشر من الإصحاح الثامن من سفر الأمثال بهذه الكلمات: لي هي القوة بي تتملك الملوك: فإذاً مريم تقول أن هذه القوة هي لي. لأن الله قد دفع في يدي هذه الموهبة لكي أوزعها أنا على المتعبدين لي. وبي تتملك الملوك، أي أن عبيدي بواسطتي يتملكون مسلطين على حواسهم كلها، وعلى آلامهم، وبهذه الصورة يؤهلون لأن يملكوا فيما بعد الملك السماوي إلى الأبد. فيا لها من قوة عظيمة هي تلك الفائز بها المتعبدون لهذه السيدة الكلية العظمة، وبها ينتصرون على تجارب الجحيم كلها. ثم أن مريم العذراء هي ذاك البرج المدون عنه هكذا: أن عنقكِ هو كبرج داود المبني بالمحاصن المعلق عليه ألف ترسٍ وكافة أسلحة المقتدرين: (نشيد الانشاد ص4ع4) فهي نظير البرج الحصين المستدير بالأسوار لمحافظة محبينها الملتجئين إليها لتحامي عنهم، والمتعبدون لها يجدون في هذا البرج الذي هو مريم، كل الأسلحة التي بها يحاربون عن ذواتهم ضد قوات الجحيم.*
فمن ثم تدعى البتول الكلية القداسة شجرة الدلب كما جاء عنها القول في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع19) هكذا أنني كالدلب ارتفعت على شط الماء في الشوارع. فالكردينال أوغون يفسر ذلك، بأن شجرة الدلب لها أوراقها بصورة الأتراس، وبذلك يتضح المعنى بأن مريم تتخذ على ذاتها حماية كل أولئك الذين يلتجئون إليها مستغيثين بمعونتها وترد عنهم قوة أعدائهم. ثم أن الطوباوي آماداوس (في ميمره الثامن) يعطي هذا النص تفسيراً آخر وهو: أن مريم تسمى شجرة الدلب، لأنه كما أن هذه الشجرة هي ذات كبرٍ وأغصانٍ ضخمةٍ وأورقٍ مدغمةٍ، وبالتالي تعطي تحتها وحولها ميداناً واسعاً، فيه يستظل المسافرون عابروا الطريق مستترين بفيها من حرارة الشمس، ومحتمين تحتها من الأمطار. فهكذا تحت أذيال حماية مريم وعنايتها، يجد البشريون ميداناً فيه يلتجئون من حرارة نيران الشهوات والآلام، ومن شدة عواصف التجارب:*
فيا لتعاسة تلك الأنفس التي تبتعد عن هذا الملجأ الأمين، وتهمل التعبد لهذه السيدة. وتتغاضى عن الاستغاثة بها في حين الاحتياج، فيقول القديس برنردوس: ترى كيف يكون حال العالم سوى ظلمةٍ حالكةٍ دائمةٍ مكروهةٍ. إذا افترضنا أن الشمس لا تعود تشرق في جلد السماء، فكذلك إذا خسرت نفسٌ ما عبادتها لمريم، فحالاً تضحى تائهةً في تلك الظلمة المقال عنها من المرتل: جعل الظلمة فكان ليلٌ وفيه تعبر سائر وحوش الغاب: (مزمور104/ع20) أي حينما لا يشرق في نفسٍ ما النور الإلهي، فيصير ظلامٌ وتضحى النفس مربضاً لوحوش الخطايا كافةً وللشياطين أيضاً. فالويل إذاً (يقول القديس أنسلموس) ثم الويل لأولئك الذين يحتقرون ضياء هذه الشمس، أي يرفضون التعبد لمريم محتقرينه: ومن ثم بالصواب كان القديس فرنسيس بورجيا يرتاب في إمكانية أن يفوز بنعمة الثبات الأخيرة، أنفس أولئك الذين لا توجد فيهم عبادةٌ خصوصيةٌ نحو البتول الطوباوية، فهذا القديس يوماً ما دخل عند المبتدئين في الرهبانية، وأخذ يفحصهم سائلاً كل واحدٍ منهم عن القديس الذي كانت له نحوه عبادةٌ أشد حرارةً، ومن ذلك عرف أن البعض منهم لم تكن فيهم هذه العبادة لمريم العذراء، فأستدعى معلم المبتدئين وحرضه بالسهر بنوعٍ خاص على تصرفات المشار إليهم، الذين قد تحقق عنهم فيما بعد بالعمل أنهم أضاعوا أثمار دعوتهم بتعاسةٍ. لأنهم خرجوا من الرهبنة. فإذاً ليس من دون برهان راهن كان القديس جرمانوس يسمي والدة الإله: نسمة حياة المسيحيين: مبرهناً ذلك بقوله (في خطبته على والدة الإله): أنه كما أن الجسد لا يمكنه أن يحميى من غير التنفس فهكذا النفس لا يمكنها أن تحميى من دون أن تلتجئ الى مريم، التي بوساطتها نحن بالحقيقة نكتسب النعمة الإلهية حياة النفس وننحفظ بها. فقد اتفق يوماً ما أن الطوباوي ألانوس قد حصل في تجربةٍ لفعل الخطيئة، ومن كونه تغاضى عن أن يلتجئ إلى والدة الإله مستغيثاً بمعونتها، فكاد عما قليلٍ أن يتكردس متهوراً في هوة الإثم، إلا أن هذه السيدة قد ظهرت له، ولكي تجعله في المستقبل أكثر حرصاً، قد لطمته على خده قائلةً له: أنك لو كنت أستدعيتني لمعونتك حالاً، لما كنت حصلت في هذا الخطر المبين.*
وبالعكس (تقول مريم): مغبوطٌ هو الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبوابي ويحفظ أوزان مداخلي: (سفر الأمثال ص8ع34: كما ترتل الكنيسة في عيد الحبل بهذه السيدة) أي الطوبى لذلك الإنسان الذي يصغي إلى صوتي، ولذلك يلبث مستيقظاً ويأتي بأتصالٍ ليقرع أبواب رحمتي، ويستمد مني الاستنارة والمعونة. على أن البتول مريم تهتم في أن تستميح من الله لهذا المتعبد لها نوراً وقوةً. ليمكنه أن يخرج من عوائده الرديئة، ويسلك في سبل الفضائل، ولذلك نعتت العذراء المجيدة من الحبر الأعظم أينوشانسيوس الثاث في عظته الثانية على صعودها إلى السماء بهذه الكلمات وهي: أن مريم هي قمرٌ في الليل، ونجمةٌ في الصبح، وشمسٌ في النهار: فهي قمرٌ لمن هو أعمى في ليل الخطيئة. لكي تنيره لمعرفة الحال الشقية الكائن هو بها المؤدية إياه إلى الهلاك. وهي نجمة الصبح أي (سابقة الشمس ومنذرة بقرب أشراقها) لمن قد أستنار عقله. وعرف سوء حاله، لكي تصيره أن يخرج من هوة الآثام ويرجع إلى حال النعمة الإلهية، وهي أخيراً شمسٌ لمن هو حاصلٌ على نعمة التقديس، لكيلا يرجع متهوراً بالسقوط في خطيئةٍ ما.*
ثم أن العلماء يخصصون مريم الطوباوية بتلك الكلمات المقولة في حكمة ابن سيراخ وهي: أن رباطاتها هي رباطات الخلاص: (ص6ع31): فما هي رباطات الخلاص (يسأل القديس لورانسوس يوستينياني، ويجيب هو على سؤاله بقوله) هي أن مريم توثق عبيدها برباطات الحفظ الخلاصية، لكيلا يتوهوا في طريق الرذائل: والقديس بوناونتورا في تفسيره الكلمات الأخرى وهي في جمهور القديسين مقامي: (ابن سيراخ ص24ع16) يقول هكذا: أن مريم ليس فقط أن مقامها هو في جمهور القديسين، بل أيضاً هي تحفظ القديسين (أي الأبرار الأحياء في العالم) لكيلا يرجعوا الى الوراء متقهقرين. وتحفظ فضائلهم كيلا تنقص فيهم، وتمنع الشياطين لكيلا يضروهم بشيء رديء:*
وقد يقال أن المتعبدين لمريم هم متردون بأثوابٍ مضعفةٍ، كما هو مكتوب: أن أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضاعفةً (أمثال ص31ع21) فكورنيليوس الحجري يفسر ما هي هذه الثياب المضعفة بقوله: أن البتول القديسة تزين عبيدها الأمناء بفضائل أبنها وبفضائلها هي أيضاً، وإذ يكونون على هذه الصورة لابسين أثواب الفضائل. فينحفظون في نعمة الثبات: ولذلك القديس فيلبس نيرى كان دائماً يرشد تلاميذه قائلاً لهم: يا أولادي إن كنتم ترغبون نعمة الثبات الأخيرة. فكونوا حسني العبادة لمريم العذراء: وكذلك كان يقول الطوباوي الأخ يوحنا باركمانس اليسوعي: أن من يحب مريم ينل نعمة الثبات الأخيرة: ونعما الرأي هو ما يلاحظه الأنبا روبارتوس في مثل الابن الشاطر بقوله: أنه لو كانت أم هذا الابن المتمرد بعد حيةً. فأماً أنه لم يكن قط ابتعد عن بيت أبيه. وأما أنه لما كان تأخر عن الرجوع كل ذاك الزمان المستطيل: ويعني بهذا أن من هو ابنٌ لمريم البتول. فأما أنه لا يبتعد أصلاً عن الله. وأما إذا ابتعد لسوء حظه فلا يبطؤ عن الرجوع إليه تعالى بالتوبة.*
فليت كل البشر يحبون هذه السيدة الكلية الأشفاق والمحبة، وفي حين محاربتهم من التجارب يلتجئون إليها سريعاً، فإذا فعلوا ذلك أهل يسقط أحدٌ منهم في الإثم، أو هل يمضي أحدٌ منهم هالكاً، كلا، بل إنه يسقط في هوة الخطيئة وينحدر إلى هاوية الجحيم من لا يلتجئ الى هذه الملكة. فالقديس لورانسوس يوستينياني يخصص بوالدة الإله تلك الكلمات المقالة في سفرحكمة ابن سيراخ (ص24ع8) وهي: في أمواج البحر مشيت: ثم يجعلها أن تتكلم هكذا: أنني أمشي جملةً مع عبيدي فيما بين العواصف حيث هم يوجدون، لكي أساعدهم معينةً، وأخلصهم منجيةً من هوة الآثام ومن بحر الخطيئة.*
فيخبر الأب برنردينوس البوسطي أن البعض من مربي الطيور المناغية كان علم طيراً صغيراً هذه الكلمات وهي: السلام لكِ يا مريم: ليناغي بها. فيوماً ما أنقض الطير الخطاف وهو الباشق على ذاك الطير الصغير ليخطفه ممزقاً، إلا أنه حالما الطير صرخ السلام لكِ يا مريم: فالباشق سقط في الأرض مائتاً، فبهذا الحادث أراد الباري تعالى أن ينبهنا، على أنه أن كان طيرٌ عديم التعقل قد خلص من الموت، لتلفظه بأسم مريم، فكم بأولى حجةٍ ينجو من التجارب ومن وثبات الشياطين. ذاك الذي يهتم في أن يعود ذاته على الالتجاء إلى هذه السيدة مستغيثاً بها. فيقول القديس توما الفيلانوفي (في عظته على ميلاد البتول) أنه لا يلزمنا أن نصنع شيئاً آخر في حادث التجارب حينما تأتي ضدنا الأبالسة لتجربنا، سوى ما تصنعه فراخ الدجاجة حينما ترى الطير الخطاف، أي أنها تهرب سريعاً وتختفي تحت جناحي الدجاجة، فهكذا نحن عندما نشعر بقدوم التجربة وبالهواجس الرديئة، فمن دون إبطاءٍ ومن غير أن نتكلم شيئاً ما عن التجربة. فلنسرع واضعين ذواتنا تحت كنف هذه الأم الإلهية: (ثم يقول أيضاً): وأنتِ أيتها السيدة أمنا يلزمكِ أن تحمينا منجيةً لأنه لا يوجد لنا بعد الله ملجأٌ آخر سواكِ، فأنتِ هي رجاؤنا الوحيد والمحامية عنا الفريدة، وبكِ نثق مطمئنين.*
فلنختتم إذاً الأيراد مع القديس برنردوس (في ميمره على أنجيل البشارة) بقوله: أيها الإنسان من أية رتبة كنتَ، فأنتَ تعلم أنك في هذه الحياة لا تزال سائراً في بحرٍ عجاجً فيما بين الأخطار والتهلكات المملوءة منها هذه الأرض، فإن كنت لا تريد أن تغرق هالكاً، فلا تحد نظرك عن هذه النجمة التي هي مريم، بل تفرس فيها واستغث بها، ثم في أخطار الخطايا، وفي حدوث الانزعاجات والمصائب والتجارب والارتيابات، وفي الأشياء التي يلزمك أن تمارسها وتعتمد عليها، افتكر دائماً في أن مريم تقدر أن تعينك، ولذلك أدعها إليك مستغيثاً بها، فهي تعضدك وتنقذك، فلا يبرح من قلبك اسمها المقتدر بحسن الاتكال، ولا ينتزح عن شفتيك باستدعائك اياها لمعونتك، فإن كنت تتبع هذه السيدة لاحقاً، فلا تضل في الطريق تائهاً عن سبيل الخلاص، وطالما أنتَ ملتجٍ اليها. فلا يمكن أن تخيب من رجائك، وإذا هي مسكتك بيدها، فلن تسقط أبداً، وإن هي حامت عنك، فليس لك أن ترتاب في خلاصك، وإن هي قادتك، فمن دون تعبٍ أنت تبلغ الى السعادة الأبدية، وبالإجمال إن كانت مريم تهتم في أمورك، فمن دون ريب أنت تمتلك السماء.*
* نموذج *
أنها لشهيرة هي حياة القديسة مريم المصرية المدونة في الكتاب الأول من سير الآباء. فهذه إذ كان عمرها اثنتي عشرة سنةً، هربت من بيت أهلها ومضت إلى المدينة الاسكندرية حيث عاشت بسيرة هكذا قبيحة، حتى أنها صارت حجر عثرةٍ لجميع سكان المدينة. فبعد أن أستمرت على عمل القبائح مدة ست عشرة سنة، مضت إلى أورشليم في زمن الاحتفال بعيد رفع الصليب المقدس. وتحركت لأن تدخل هي أيضاً إلى الكنيسة بروح التفرج أحرى مما بروح العبادة، ولكن عندما دنت من باب المعبد الإلهي، شعرت بيدٍ غير منظورة كانت تردها غصباً إلى الوراء كيلا تدخل داخلاً، وإذ أمتحنت الأمر مرةً ثانيةً ثم ثالثةً ورابعةً، ومنعت بقوةٍ فائقة الطبيعة عن الدخول إلى الكنيسة. فحينئذٍ قد انفردت في ناحيةٍ من النرتكس، وعرفت الشقية ليس من دون أشراق النور الإلهي في عقلها، أن الله لأجل قبائح سيرتها قد كان يرذلها من كنيسته أيضاً، فلأجل حسن حظها قد رفعت عينيها حيث كانت، فرأت أمامها على الحائط أيقونة العذراء المجيدة، فأتجهت نحوها بدموع قائلةً: يا والدة الإله ارحمي هذه الخاطية المسكينة، فأنا ألاحظ أنه لأجل كثرة خطاياي لا أستحق أن تنظري إليَّ، ولكن أنتِ هي ملجأ الخطأة، فعينيني حباً بأبنكِ يسوع، واجعليني أن أدخل الكنيسة، لأني أريد أن أغير سيرتي، وأمضي فأمارس أفعال التوبة حيثما تريدين: فحينئذٍ قد شعرت كأن البتول القديسة كانت تقول لها باطناً: أنه لأجل أنكِ التجأتِ إليَّ قاصدةً أن تتوبي عن مآثمكِ، فأنهضي وأدخلي الكنيسة لأن بابها عاد مفتوحاً لكِ: فقامت ودخلت بيت الرب وسجدت للصليب المقدس وبكت على خطاياها، ثم رجعت أمام الأيقونة قائلةً: يا سيدتي أوضحي لي أين أنفرد لعمل التوبة. إذ أني مستعدةٌ لأن أتمم ما ترسمينه عليَّ: فأجابتها العذراء الطوباوية بقولها: اذهبي إلى جايز الأردن، وهناك تجدين مكان راحتكِ: فانطلقت وأعترفت بخطاياها وتناولت القربان الأقدس واجتازت نهر الاردن، ودخلت إلى القفر الذي فهمت هي أنه فيه كان يلزمها أن تباشر أفعال التوبة. ففي مدة السبع عشرة سنة الأولى التي مكثت بها في ذلك القفر، قد احتملت محارباتٍ شديدةً من التجارب الشيطانية، ولكن ماذا كانت تصنع هي حينئذٍ، إنها لم تكن تفعل شيئاً آخر سوى الالتجاء المتصل لوالدة الإله. وهذه الأم الرؤوفة قد استمدت لها من الله قوةً لأن تقاوم الأرواح الجهنمية في بحر تلك السنين وتنتصر عليها، وهكذا عند نهاية السبع عشرة سنة قد هدأت عنها التجارب، واستمرت هي في ذلك القفر إلى حد السنة السابعة والخمسين من انفرادها فيه. فلما بلغت إلى السنة السابعة والثمانين من حياتها. فبعنايةٍ إلهيةٍ قد وجدها هناك الأنبا القديس زوسيموس، الذي أخبرته هي بسيرة حياتها كلها، وتوسلت إليه بأن يأتيها في السنة المقبلة بالقربان الأقدس. كما تمم هو مطلوبها برجوعه اليها وبمناولته اياها السر المسجود له، ثم بعد ذلك تضرعت اليه بأن يزورها في السنة الأخرى أيضاً. الا أنه حينما رجع إليها في الميعاد قد رآها مائتةً، وكان جسدها محاطاً بأشعةٍ نورانيةٍ، ورأى مكتوبةً عند رأسها هذه الكلمات وهي: أدفن في هذا المكان جسدي أنا الخاطئة المسكينة وصلي من أجلي لدى الله. فقد دفنها عندما جاء إليه أسدٌ وحفر له الأرض، ثم رجع إلى ديره وأخبر بعجائب الرحمة الإلهية التي صنعها الله مع هذه التائبة السعيدة.*
† صلاة †
أيتها الفائقة القداسة أم الرأفة مريم البتول، هوذا عند قدميكِ منطرحٌ الإنسان الخائن. الذي لأنه أوفى بئس المكافأة، بل بنكران لجميل النعم التي نالها من الله بواسطتكِ، فحصل خائناً لله ولكِ، ولكن أعملي أيتها السيدة أن شقاوتي هذه ليس فقط لا تنزع مني رجاي فيكِ، بل أيضاً توطده وتزيدني أملاً وثقةً بكِ، لأني أعتبر أن شقاوة حالي تضاعف فيكِ الشفقة نحوي. فأظهري ذاتكِ يا مريم، أنكِ أنتِ بالنسبة اليَّ هي تلك الرحومة عينها نحو كل أولئك الذين يستغيثون بكِ، المملوءة من السخاء والرأفة، فيكفيني أن ترمقيني بنظركِ العطوف وأن تشفقي عليَّ، فإن كان قلبكِ يحنو عليَّ، فلا يمكنكِ أن لا تحامي عني. واذا صرت أنا في حمايتكِ فممن أخاف، كلا أنني لا أخشى من شيءٍ أصلاً، لا من قبل خطاياي، لأنكِ أنتِ قادرةٌ أن تصلحي فيَّ الضرر الذي حدث، ولا من الشياطين، لأنكِ أنتِ أقوى من الجحيم بأسره، ولا من قبل أبنكِ المغتاظ عليَّ بعدلٍ، لأنه تعالى بكلمةٍ واحدةٍ تتوسلين بها لدية من أجلي يهدأ غضبه. فأنا إنما أخاف من شيءٍ واحدٍ فقط، وهو أني أنسى أن ألتجئ إليكِ حينما تداهمني التجربة، وهكذا أهلك، ولكن هذا هو الشيء الذي أريد اليوم أن أعد به، وهو أني دائماً أسرع اليكِ ملتجئاً، فأنتِ ساعديني على أن أتمم ذلك، ثم لأحظى هذه الفرصة الجيدة التي فيها أنتِ ترغبين أن تكملي مسرتكِ، وهي أن تسعفي أحد البائسين الأذلاء الذي أنا هو.*
فرجائي هو فيكِ عظيمٌ يا والدة الإله، ومنكِ أنتظر نوال النعمة بأن أبكي على خطاياي كما هو متوجبٌ عليَّ. وبأن أفوز بالقوة على أن لا أرجع إلى الخطيئة، فإن كنت أنا سقيماً، فأنتِ قادرةٌ على أن تشفيني أيتها الطبيبة السماوية، وإن كانت مآثمي قد صيرتني ضعيفاً، فمعونتكِ تجعلني قوياً، فأنا أرجو كل شيء منكِ يا مريم المجيدة، لأنكِ تقدرين على كل شيءٍ لدى الله آمين.*
†
Discussion about this post