كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الفصل الثاني
في شرح ما يلاحظ هذه الكلمات وهي: يا حياتنا ولذتنا
† الجزء الثالث †
في أن مريم البتول الحلوة اللذيذة، تجعل الموت عذباً للمتبعدين لها
أنه مكتوبٌ: أن الصديق يكون محباً في كل زمانٍ وأن الأخ يعرف في حين الشدائد: (أمثال ص17ع17) فالأصدقاء المحقون والأقرباء الخصيصون، لا يعرفون جيداً في زمن السعادة، بل في حين المصائب والتعاسة. فأما الأصدقاء العالميون فلا يهملون صديقهم طالما هو في السعة والنجاحات، ولكن إذا سقط هو في محنةٍ، ألمت به شدة لا سيما عندما يدنو من الموت، فحينئذٍ يتركونه حالاً معرضين عنه. وأما مريم البتول فلا تتصرف هكذا مع عبيدها، لأن هذه السيدة الصالحة والأم العطوفة، لا تهمل خدامها الأمناء المتعبدين لها. ولا تتغافل عنهم في أوقات احتياجاتهم، لا سيما عند موتهم الذي هو الوقت الأكثر احتياجاً، لأنه زمن الشدة الأمر من كل شدائد العالم، وبحسبما أنها صارت علة حياتنا في مدة سكنانا في الأرض التي نحن فيها منفون، فهكذا توضح ذاتها أنها هي تعزيتنا ولذتنا حين موتنا، باكتسابها لنا ميتةً حلوةً مغبوطةً، لأن هذه السيدة منذ ذاك اليوم العظيم الذي فيه حصلت هي على الحظ السعيد، وعلى الحزن الشديد معاً، بحضورها تحت صليب ابنها عند موته، فإذا كان هو رأس المنتخبين للمجد، فقد اكتسبت هي هذه النعمة، وهي أن تحضر عند جميع المختارين حين موتهم، ولذلك تصيرنا الكنيسة المقدسة أن نتوسل إلى هذه البتول الطوباوية، بأنها تساعدنا بنوعٍ خاص في ساعة موتنا، بقولنا لها في السلام الملائكي: صلي لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفي ساعة موتنا آمين.*
فشدائد المنازعين هي كثيرةٌ وأحزانهم مرةٌ، أولاً: لأجل توبيخ ضمائرهم عن الخطايا التي فعلوها. ثانياً: لأجل الخوف من المحاسبة والدينونة القريب حدوثها، ثالثاً: من قبل عدم معرفة حقائق أمر خلاصهم الأبدي. ففي ذاك الوقت بنوعٍ أخص تثب على تلك النفس المنازعة قوات الجحيم متسلحةً ضدها، والشيطان يبذل كل استطاعته في اكتسابها حصته قبل أن تدخل إلى الأبدية، لمعرفته أن زمناً وجيزاً بقي له في محاربتها. وأنه إذا نفذت هي من يده في تلك الساعة، فلا يعود يمكنه أن يكتسبها أبداً. كما هو مكتوبٌ في الأبوكاليبسي (ص12ع12): الويل للأرض والبحر لأن ابليس نزل إليكما، وله غضبٌ عظيمٌ، لأنه يعلم أن زمناً قليلاً بقي له. ولذلك فالشيطان الذي اعتاد أن يجرب تلك النفس في مدة حياتها، فلا يكتفي بأن يجربها هو وحده في حين انفصالها من الجسد، بل يستدعي معه آخرين من رفاقه، كما قال أشعيا النبي: وتمتلئ بيوتهم تنانين: (ص13ع21) أي أنه حينما يدنو الإنسان من الموت، فيمتلئ بيته من الشياطين الذين يتحدون معاً لمحاربته وخسارته.*
فيورد عن القديس أندراوس أفالينوس، أنه حينما دنت ساعة موته، قد جاءت إليه عشرة آلاف شيطاناً ليحاربوه بالتجارب. ولذلك قد حصل هو في حين نزاعه على معركةٍ قويةٍ جداً من القوات الجهنمية بهذا المقدار هائلة، حتى أن جميع الرهبان الذين كانوا محيطين به قد ارتاعوا خوفاً، وقد شاهدوا وجه القديس قد انتفخ بزيادةٍ من شدة المجاهدة، واستحال إلى السواد. ونظروا أعضاء جسده كلها ترتعش فرقاً بانزعاجٍ قويٍ، وعينيه مدرفةً تياراتٍ من الدموع، ورأسه يختبط باغتصابٍ، وهذه العلامات كلها كانت تدل بكفايةٍ على شدة المعركة التي كان القديس يحارب بها قوات الجحيم. فالجميع طفقوا يبكون من التوجع له، ويضاعفون الصلوات والابتهالات من أجله، في الوقت الذي فيه كانوا يرتجفون من شدة الخوف والهلع اللذين ألما بهم، عند مشاهدتهم ديساً يموت على هذه الحال، غير أن تعزيتهم الوحيدة كانت قائمةً في أنهم، كانوا يشاهدونه مراتٍ مترادفةً يحول بعينيه نحو أيقونة والدة الإله الموجودة بالقرب من فراشه كمن يلتمس منها المعونة، متذكرين ما كان يقوله هو لهم في مدة حياته مراتٍ كثيرةً، بأن مريم البتول مزمعةٌ أن تكون ملجأه في ساعة موته. فقد ارتضى الله أخيراً بأن عبده هذا البار يفوز بالانتصار الكامل المجيد، لأن جسمه قد هدأ من اختباطه، وزال انتفاخ وجهه، وارتد إلى لونه القديم، وأحدق بنظره بعبادةٍ في تلك الأيقونة محنياً لديها رأسه باحترامٍ، كمن يشكر فضلها، (ويظن بالصواب أن البتول المجيدة قد ظهرت له حينئذِ) وهكذا بكل هدوءٍ وسلامٍ قد انتقل إلى الحياة الأبدية، مسلماً نفسه بيدي هذه السيدة الجليلة بعذوبةٍ سماويةٍ، وفي تلك الساعة عينها كانت إحدى الراهبات الكبوجيات مدنفةً على الموت، فهتفت نحو الراهبات الحاضرات عندها قائلةً: يا أخواتي إتلون السلام الملائكي، لأنه الآن قد مات قديسٌ:*
فيا لها من تعزيةٍ عظيمةٍ وهي أن المردة الجهنميين يهربون عند حضور هذه الملكة، فإن كنا نحن نحصل على مريم عند ساعة موتنا محاميةً عنا، فأي خوفٍ يمكن أن يعترينا من قوات الجحيم كلها. فالنبي والملك داود عندما ألم به الخوف من التفكر في ساعة موته، قد شجع ذاته بقوة الرجاء باستحقاقات موت مخلصه العتيد، وفي قوة شفاعة مريم البتول، ومن ثم هتف مرتلاً: إن أنا مشيت في وسط ظلال الموت فلا أخشى الشر لأنك معي، عصاك وقضيبك هما يعزياني (مزمور 22/3) فالكردينال أوغون يفسر هذه العصا بعود الصليب الذي عليه مات فادينا، ويعني بالقضيب مريم البتول، التي قيل عنها: يخرج قضيبٌ من أصل يسى، وتصعد زهرةٌ من أصله: (أشعيا ص11ع1) ثم يقول القديس بطرس داميانوس: أن هذه الأم الإلهية هي ذاك القضيب الذي به تغلب اغتصابات الأعداء الجهنميين. ولذلك أنطونينوس يشجعنا بقوله: إن تكن مريم معنا فمن يقدر أن يقاومنا. فالأب عمانويل باديال اليسوعي حينما أدنف على الموت، قد ظهرت له مريم العذراء مشجعةً إياه بقولها له: هوذا الآن قد جاءت الساعة التي فيها تفرح معك الملائكة مقدمين لك التهنئة وقائلين: يا لها من مشقاتٍ وأتعابٍ سعيدةٍ، ويا لها من إماتاتٍ وتقشفاتٍ قد كوفئت حسناً: ثم في الوقت عينه قد شوهد عددٌ جزيلٌ من الشياطين هاربين برجزٍ وصارخين: أواه يا لتعاستنا أننا ما عدنا نقدر أن نصنع شيئاً، لأجل أن تلك التي هي بريئة من العيب تحامي عنه. ومثل ذلك الأب كاسبار هيافود قد وثبت عليه الشياطين ساعة موته بتجربة قوية جداً ضد الإيمان، أما هو فألتجأ حالاً إلى والدة الإله الكلية القداسة. وبعد ذلك سمع صوته هاتفاً أنني أشكركِ يا مريم لأنكِ أتيتِ لمعونتي:*
أما القديس بوناونتورا: فيقول: أن مريم ترسل زعيم الملائكة ميخائيل مع ملائكته ليحاموا عن عبيدها في ساعة موتهم، ويصدموا عنهم عاجلاً محاربة الشياطين، ولكي يتسلموا أنفسهم كافةً، لا سيما أولئك الذين كانوا يلتجئون اليها على الدوام.*
وأما أشعيا النبي فيقول: أن الجحيم من أسفل تمرمر من تلقاء مجيئك أثار لك الجبابرة: (ص14ع9) أي أنه عند خروج الإنسان من هذه الحياة يقلق الجحيم، ويرسل الشياطين الأشد رداوةً لكي يجربوا تلك النفس قبل انفصالها من الجسد، ثم ليرافقوها بعد خروجها منه إلى المحكمة الإلهية، حيث مزمعة أن تحاكم من يسوع المسيح ليشتكوا عليها هناك. إلا أن ريكاردوس يقول: أنه حينما تكون تلك النفس في حماية مريم العذراء، فالشياطين لا يتجاسرون ولا على أن يشتكوا ضدها، لمعرفتهم أن القاضي قط لم يكن قبلاً حكم بالهلاك، على نفسٍ ما تكون والدته العظيمة قد حامت عنها، بل ولا هو عتيدٌ أن يحكم مثل ذلك على نفسٍ توجد تحت حمايتها. والقديس أيرونيموس كتب في رسالته الثانية إلى البتول أوسطوكيو: أن مريم تساعد عبيدها المحبوبين وتعينهم. ليس في ساعة موتهم فقط، بل إنها تأتي أيضاً لملاقاتهم في دخولهم إلى الحياة العتيدة، لكي تشجعهم وترافقهم إلى المحكمة الإلهية، وهذا هو مطابق لما قالته والدة الإله عينها للقديسة بريجيتا، بتكلمها عن المتعبدين لها حينما يدنون من ساعة موتهم هكذا: أنني بحسب كوني سيدتهم وأمهم المكرمة منهم، أعتني بهم حين موتهم وأملأهم من التعزية والنعيم. ويضيف إلى ذلك القديس فينجانسوس فراري بقوله (في عظته على عيد نياحها): أن هذه الملكة الكلية الحب تقتبل تحت برفيرها أنفس عبيدها، وهي ذاتها تقدمهن لدى ابنها الديان، وبهذا النوع تستمد لهن الخلاص من دون ريبٍ. وهذا نفسه قد حدث لكارلوس ابن القديسة بريجيتا، وهو أنه إذ مات هذا الشاب حينما كان خادماً بالوظيفة الجندية المخطرة، في مكانٍ بعيدٍ عن والدته القديسة، فهذه قد حصلت في ارتيابٍ بأمر خلاصه، إلا أن الطوباوية مريم البتول قد أوحت إليها، بأن كارلوس قد فاز بالخلاص، لأجل الحب الذي كان هو يحبها به، ولذلك هي عينها قد ساعدته، وحركته إلى إبراز أفعال الفضائل الضروري فعلها من المسيحيين في تلك الساعة، ثم أن القديسة قد رأت في الوقت عينه يسوع المسيح جالساً على العرش، وأن الشيطان قد أمتثل أمامه متشكياً من قضيتين، وهما أن البتول مريم قد منعته عن أن يجرب كارلوس في ساعة موته، وأنها هي أحضرت نفسه في المحكمة الإلهية وخلصتها من دون أن تعطيه زمناً لأن يقدم ضد هذه النفس، البراهين التي لأجلها كان يقتضي على زعمه أن تهلك وتكون خاصته، ثم شاهدت أخيراً أن الديان الإلهي قد طرد الشيطان من أمامه مقصياً، وأن نفس كارلوس قد أخذت إلى السعادة الأبدية.*
فيقول يشوع بن سيراخ (ص6ع29و31): أن رباطاتها هي رباطة الخلاص: فإن في أواخرك تجد الراحة بها: فالطوبى لك أيها الأخ أن كنت في آخر حياتك ساعة الموت، توجد مقيداً بقيود الحب العذبة نحو والدة الإله، لأن هذه السلاسل هي رباطات الخلاص، التي تضمن لك أمر سعادتك الأبدية، وتجعلك أن تتمتع حين موتك بتلك الراحة والسلام وبالهدوء المغبوط الذي يكون هو بدء السلام الدائم والنعيم السرمدي. فيخبرنا الأب بيناتي بأنه إذ اتفق له أن يحضر عند أحد المتعبدين لمريم الأتقياء حين موته، فقد سمع هو من فمه قبل رقوده هذه الكلمات وهي: آه لو كنت يا أبتي تعلم حقيقة التعزية العظيمة والسرور الباطن، اللذين أشعر أنا بهما لأجل أني خدمت والدة الإله الكلية القداسة، فأنا لا أستطيع أن أشرح لك ماهية الابتهاج والتهليل الحاصلين في قلبي الآن في ساعة الموت: والأب سوارس لأجل أنه كان حاراً جداً في عبادته لهذه الطوباوية (حتى أنه كان يقول أن استحقاق تلاوة السلام الملائكي مرةً واحدةً هو لديه أشرف من علومه كلها) فقد حصل ساعة موته على فرحٍ بهذا المقدار عظيمٍ، حتى أنه تفوه بهذه الكلمات حال انفصال نفسه من جسده قائلاً: أنني لم أكن قط أتصور بعقلي أن الموت بهذ المقدار هو لذيذٌ. فمن دون شكٍ أنك أنت أيضاً أيها القارئ المتعبد لمريم، ستشعر بهذه التعزية والسرور حين موتك، أن كنت في تلك الساعة تفتكر في أنك قد أحببت في حياتك هذه الأم الصالحة، التي لا تعرف أن لا تكون أمينةً نحو أولادها، الذين يكونون أمينين في خدمتها، ويكرمونها بزيارات كنائسها أو أيقوناتها وبتلاوة ورديتها وبصياماتٍ ما. وبأكثر من ذلك بتقدمة الشكر لها مراتٍ كثيرةً، وبمدائحها وبالالتجاء المتكرر إلى كنف وقايتها وطلب معوناتها.*
ثم لا يمكن أن يعدمك هذا الابتهاج الباطن تفكرك بحال كونك في زمنٍ ما قد كنت خاطئاً، هذا أن كنت منذ الآن فصاعداً تهتم في أن تعيش بسيرةٍ صالحةٍ، وفي أن تخدم هذه السيدة الكلية الحنو والإشفاق والأمينة نحو عبيدها، فهي في حين شدائدك، وفي أوقات التجارب التي يثب عليك بها الشيطان لكي يسقطك في قطع الرجاء تعضدك وتشجعك، حتى أنها هي نفسها تحضر عندك ساعة موتك لتسعفك. فالقديس بطرس دامانوس يخبر بأن شقيقه مرتينوس، قد مضى يوماً ما أمام هيكل والدة الإله، ليكرس ذاته أسيراً لها، من أجل أنه كان يعرف ذاته أنه أغاظ الله بفعلٍ أثميٍ، ثم وضع زناره في عنقه علامة أسره لها قائلاً: يا مرآة الطهارة سيدتي، إني أنا الخاطئ التعيس قد أهنت إلهي وأغظتكِ بأثلامي ختم العفة، فلا يوجد عندي دواءٌ آخر سوى أن أقدم ذاتي أسيراً لكِ، فهوذا أني اليوم أكرس نفسي عبداً لكِ، فأقبلي هذا اليائس العاصي المتمرد ولا تعرضي عنه مستكرهةً منه: ثم وضع عند درج الهيكل كميةً من المال، واعداً بأن يقدم مثلها كل سنةٍ بمنزلة جزيةٍ وخراجٍ تأكيداً لكونه أسيرها. فبعد مدةٍ من الزمان قد مرض مرتينوس المرض الأخير، ولكن قبل أن يموت قد سمعه البعض في أحد الأيام صباحاً يتكلم هكذا: قوموا ناهضين، انتصبوا واقفين وقدموا الإكرام منحنين لسيدتي: ثم بعد ذلك قال: ما هذه النعمة العظيمة يا ملكة السماء، أهكذا أنت تتنازلين مرتضيةً بأن تزوري هذا العبد الخاطئ، فباركيني يا سيدتي، ولا تسمحي بأن أمضي هالكاً بعد أنكِ شرفتيني بحضوركِ عندي: وإذ دخل حينئذٍ إليه أخوه القديس بطرس، فمرتينوس قد أخبره بمجيء والدة الإله عنده، وبأنها باركته، إلا أنه تشكى له من أن أولئك الأشخاص الذين كانوا حاضرين عنده، استمروا جالسين على الكراسي بحضرة هذه السيدة الجليلة، قال هذا وبعد برهةٍ رقد بالرب بسلامٍ وعذوبةٍ هادياً. فعلى هذه الصورة ستكون ميتتك أيها القارئ العزيز، إن كنت تعيش أميناً في عبادتك لمريم. هذا ولو كنت فيما مضى أغظت الله بآثامك، فمع ذلك هي تعتني في أنك تحصل على ميتةٍ صالحةٍ حلوةٍ لذيذةٍ. واذا أتفق أنك في حين الموت تمتلئ خوفاً ورعدةً، ويضعف رجاؤك عند تأملك كثرة خطاياك، فهذه الأم الحنونة تأتي إليك لتشجعك وتقويك، كما فعلت مع أدولفوس صاحب مقاطعة الساتسيا، الذي بعد أن كان هجر العالم وترهب تحت قانون القديس فرنسيس، كما يورد في تاريخ هذه الرهبنة. فقد أضحى كلي التعبد لوالدة الإله، فلما بلغ إلى أيام حياته الأخيرة، وحضرت أمام عينيه عقلياً جميع تصرفاته التي كان مارسها في العالم، وما عامل به الرعايا الذين كانوا مخضعين له، ثم تأمل صرامة دينونة الله العادلة، فبدأ يخاف كثيراً من الموت، لارتيابه في أمر خلاصه الأبدي. فحينئذٍ مريم (التي لا تنام حين وجود عبيدها في الشدائد) قد جاءت إليه مرافقةً من عددٍ وافرٍ من القديسين، وإذ أخذت تشجعه قالت له هذه الكلمات المملؤة عذوبةً هكذا: يا أدولفوس العزيز لدي جداً، أنت هو خاصتي. وقد أعطيت لي، فالآن لماذا تخاف بهذا المقدار من الموت: فوقتئذٍ عبد مريم المذكور عندما سمع منها هذه الألفاظ قد زال عنه كل خوفٍ وأستوعب بهجةً، وهكذا تنيح مسروراً بسلامٍ.*
فلنتشجع نحن أيضاً ولئن كنا خطأة، ولنسلح ذواتنا بهذا الرجاء وهو أن مريم عتيدة أن تأتي لمعونتنا في ساعة الموت، ولتعزيتنا بحضورها عندنا، هذا إن كنا نخدمها بأمانةٍ ومحبةٍ في زمن حياتنا الباقية لنا على الأرض. فملكتنا هذه إذ خاطبت يوماً ما القديسة ماتيلده، قد وعدت بأنها تأتي في ساعة الموت عند جميع المتعبدين لها، الذين يكونون في زمن حياتهم خدموها بأمانةٍ لكي تسعفهم وتعينهم، وهذه هي كلماتها:” إني أريد بحسبما أنا أمٌ كلية الحنو والإشفاق، أن أحضر من غير نقصٍ في ساعة الموت، عند جميع أولئك الذين يكونون في حياتهم خدموني بحسن عبادةٍ، لكي أحامي عنهم وأعزيهم”. فيا لها من تعزيةٍ لا توصف تكون لنا في ذلك الوقت الأخير، الذي يداركنا فيه قيام الدعوى المعلقة بها الحكومة الأبدية على أنفسنا وهي، أن نشاهد عندنا ملكة السماوات مساعدةً لنا، ومشجعةً إيانا بوعدها لنا في أن تحامي عنا في تلك المحكمة الرهيبة. فما عدا النموذجات المتقدم إيرادها في شأن مساعدة مريم عبيدها ساعة الموت، توجد مدونةً في كتبٍ كثيرةٍ ومختلفةٍ، أخبارٌ غير محصاة عدداً تحقق لنا ذلك. وفيما بين الآخرين قد فازت بهذه النعمة القديسة كياره، والقديس فيليكوس الكبوجي، والطوباوية كياره التي من جبل فالكو، والقديسة تريزيا، والقديس بطرس الكانتراوي. ولأجل زيادة تعزيتنا نشير الى هؤلاء الآخرين أيضاً بأختصارٍ. فيخبر الأب كراسات بأن القديسة مريم أونياجانسه، قد رأت البتول الطوباوية واقفةً عند فراش امرأةٍ أرملةٍ مدنفة على الموت في مدينة فيلامبروى، التي كانت متعوبةً جداً من شدة الحمى الحاصلة لها، فمريم الكلية القداسة كانت تعزيها وترطب عنها سعير الحمى بواسطة مروحةٍ كانت بيدها. والقديس يوحنا دي ديو الذي كان جزيل التعبد لهذه السيدة، قد كان ينتظر حضورها إليه ساعة موته، وإذ لم ير ذاته حاصلاً على إتمام هذا الأمل قد اعتراه الغم الشديد، وربما أنه أخذ يشكو من ذلك، إلا أنه في الزمن المرسوم قد حضرت عنده هذه الأم الكلية الطوبى، وكأنها أرادت أن تؤنبه على ضعف رجائه. فقالت له هذه الكلمات الجليلة التي ينبغي أن توعب قلوب جميع عبيد مريم شجاعةً وتعزيةً وهي: أنه ليس من عادتي يا يوحنا أن أترك في ساعة الموت المتعبدين لي: وكأنها كانت تقول له بماذا كنت تفتكر يا يوحنا خاصتي، أهل أنك ظننت أني تغافلت عنك، أما تعلم أني لا أعرف أن أترك في ساعة الموت المتعبدين لي مهملةً إياهم، فأنا ما أتيت إليك قبل هذا الوقت، لأنه لم يكن بعد جاء الزمن، وأما الآن فإذا حضرت الساعة، فهوذا أني جئت لأخذك، فهلم معي لنذهب إلى الفردوس السماوي: وبعد ذلك ببرهةٍ قد رقد القديس بالرب وارتقت نفسه إلى النعيم الأبدي لتشكر فضل ملكتها الكلية الحب. (وهذا جميعه هو مدون في مجموع البولانديستي تحت اليوم الثامن من شهر آذار).*
* نموذج *
فالآن نحن ننهي هذا الجزء بالنموذج الحاضر أيضاً، الذي منه يفهم إلى أي حدٍ من الحنو والرأفة والشفقة تتصل هذه الأم الصالحة نحو أولادها في ساعة موتهم (وهذا الخبر هو مدون في الرأس 38 من القسم3 من تأليف كريسوغونوس الملقب بالعالم المريمي) وهو أن خوري إحدى الكنائس إذ كان حاضراً عند أحد الأغنياء المدنف على الموت الذي كان كان قاطناً في دار مزينةٍ بأمتعةٍ ثمينةٍ مخدوماً من كثرةٍ من العبيد ومن الأقرباء والمحبين، فنظر الشياطين محتاطين بالمسكين بصورة كلابٍ ينتظرون موت ذاك الغني، ليأخذوا نفسه إلى الجحيم، كما قد تم لأنه مات في حال الخطيئة، ففيما كان الخوري مقيماً عنده حين منازعته قد دعي ليأخذ القربان الأقدس زوادةً أخيرةً إلى امرأةٍ فقيرةٍ من أهل رعيته مرضة. قد ألتمست أن تقتبل الأسرار المقدسة قبل أن يدركها الموت، فالخوري لأنه لم يمكنه أن يترك نفس ذاك الغني المحتاجة إلى المساعدة القصوى، قد أرسل بدلاً منه كاهناً آخر لخدمة تلك الأمرأة، فالكاهن أخذ القربان المقدس من الكنيسة وانطلق إلى بيت الامرأة التي حينما وصل الى مكان سكناها لم ير هناك لا عبيداً يخدمونها، ولا أصدقاء ومعزين، ولا أمتعةً غنيةً في البيت، لأن تلك الامرأة الصالحة كانت فقيرةً وربما راقدة على قليلٍ من التبن، ولكنه شاهد الأمر العجيب في الغاية، وهو أن البيت كان يلمع بإشراق أنوارٍ لا يحدق بها، وبجانب مرقد الامرأة كانت واقفةً والدة الإله المثلثة القداسة تعزي المريضة، وبيدها لفافة رفيعة كانت تمسح بها عرق الموت عن تلك المنازعة. فالكاهن عند نظره هذه السيدة أمتلأ تهيباً وتوقف عن الدخول إلى المخدع الراقدة فيه المريضة. إلا أن البتول القديسة أشارت إليه بأن يدخل، وهي نفسها قدمت له الكرسي الذي كان هناك ليجلس عليه ويستمع اعتراف عبدتها المريضة، التي حينئذٍ قد اعترفت لديه وبعده تناولت من يده القربان الأقدس بعبادةٍ كلية. وأخيراً سلمت نفسها بين يدي أم الرحمة متنحيةً بالرب.*
† صلاة †
أواه ترى كيف عتيدةً أن تكون ميتتي أنا الخاطئ التعيس يا أمي الكلية الحلاوة، فأنا عند تأملي في تلك الساعة التي فيها مزمعة أن تنفصل نفسي من جسدي. وتحضر إلى المحكمة الإلهية، فمنذ هذا الوقت أرتعد خائفاً وأجزع مرتعشاً، وأرتاب مشككاً في أمر خلاصي، لتذكري بأني مراتٍ كثيرةً قد سجلت أنا بعيني حكومة الهلاك على نفسي، أي كل مرةٍ أرتكبت الخطيئة المميتة، إلا أن رجاي كله مستندٌ على استحقاقات دم ابنكِ يسوع يا مريم الطوباوية. ومؤسس على اقتدار شفاعاتكِ، فأنتِ هي ملكة السماء وسيدة العالمين، ويكفي القول أنكِ والدة الإله، فاي نعم أنكِ لعظيمة الجلال، ولكن عظمتكِ لا تبعدكِ عن الانعطاف والتنازل لملاحظة شقاوتنا وذلنا، الذي هو نفسه يجتذبكِ للحنو نحونا. فمحبوا العالم عندما يرتفعون إلى مقامٍ عالٍ ويحصلون على مرتبةٍ شريفةٍ، فيبتعدون مستنكفين حتى من النظر أيضاً إلى أصدقائهم الأولين الفقراء الأذلاء… غير أن قلبكِ الشريف المملوء من الحب ليس هو كذلك، بل حيثما يشاهد الناس الأكثر مسكنةً، والأشد ذلاً، والأوفر احتياجاً، فهناك ينعطف أعظم انعطافاً لإسعافهم، فأنتِ حالما تستدعين منا، تسرعين إلى إغاثتنا، بل بالأحرى تسبقين تضرعاتنا بإيهابكِ إيانا ما نحتاج إليه، وتعزينا في حال أحزاننا، وتبددين عنا زوابع التجارب وعواصف المحن، وتصدين عنا أعداءنا، وبالإجمال لا تهملين فرصةً ما من أنت تسعي بها فيما يأول إلى خيرنا، فلتكن مباركةً تلك اليد القادرة على كل شيء، التي جمعت في شخصكِ الجليل، مع سمو العظمة والرفعة، شدة الانعطاف والحنو، ومع جلالة المرتبة والوظيفة، حرارة الحب والعناية، فأنا أشكر إلهي دائماً على هذه المواهب، وأفح بها متهللاً مع ذاتي، لأني أضع في سعادتكِ سعادتي أنا أيضاً، وأحتسب شرفكِ وحسن حظكِ كانه خاص بي.
فيا معزية الحزانى عزي حزيناً ملتجياً إليكِ، فأنا أشعر بالغم والحزن من قبل توبيخ ضميري المثقل بخطايا هكذا عديدة، التي لا أعلم إن كنت بكيت عليها ومن أجلها بكفايةٍ، وألاحظ أن أعمالي كلها مملوءةٌ من الوحل والحماة ومن النقائص الشنيعة. وأنظر أن قوات الجحيم هي منتظرة موتي لكي تشتكي عليَّ في المحكمة الرهيبة، وأتأمل في كيف أن العدل الإلهي المهان مني يريد حق الوفاء عن الأهانة، فما عساه أن يحل بي يا أمي، لأنه أن كنتِ لا تسعفيني فلا شك في أني أهلك، فماذا تقولين ألا تريدين أن تعينيني، فعزيني أيتها البتول الرؤوفة، واستمدي لي قوةً لأن أصلح سيرتي، ولأن أثبت أميناً نحو الله في المدة الباقية من حياتي. وعندما بعد ذلك أحصل في ساعة الموت، فلا تهمليني يا رجائي، بل أسعفيني حينئذٍ بأوفر عنايةٍ. شجعيني بألا أيأس عند نظري كثرة خطاياي التي من أجلها يقاومني الشيطان في المحاسبة، ثم أغفري لي يا سيدتي جرأتي في ألتماسي منكِ أن تأتي اليَّ وقتئذٍ أنتِ بذاتكِ، لكي تعزيني بحضرتكِ، فأنتِ منحت هذه النعمة لكثيرين، فإذاً أنا أيضاً أرغبها ملتمساً، وإذا كانت جسارتي بهذا الطلب هي باهظةً، فجودتكِ وصلاحكِ يفوقانها عظمةً، لأنكِ تفتشين على الأشد دناءة والأوفر ذلاً لتنعمي عليهم. ومن ثم أنا واثقٌ بصلاحكِ، فليكن مجد افتخاركِ مؤبداً في أنكِ خلصتِ نفساً من قعر الجحيم بعد أن كانت هلكت، واقتدتيها إلى مملكتكِ التي فيها أرجو أن أتعزى بوجودي دائماً أمام قدميكِ. لكي أشكركِ وأبارككِ وأحبكِ إلى الأبد. يا مريم أنا أنتظركِ، فلا تدعيني أن أمضي خائباً من هذه التعزية التي أرجو نوالها. فليكن فليكن كل تضرع تصنعه هي، فهو محسوبٌ بمنزلة شريعة مرسومة من الله، بأن توهب الرحمة والنعمة لكل أولئك الذين تتوسل هي من أجلهم. (أمثال31). آمين.
†
Discussion about this post