كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
الحزن الرابع: في مقابلتها إبنها ماضياً على جبل الجلجلة ماضيا ليموت مصلوباً على جبل الجلجة
أن القديس برنردينوس يقول:” أنه لكي يمكن أن يستحضر موضوع الحزن العظيم الذي شعرت به مريم البتول حين فقدانها ابنها الحبيب بالموت، فيلزم أن يصير التأمل في شدة الحب الذي كان قلب هذه الأم العذراء مغرماً به نحو ابنها”. فالأمهات كلهن يشعرن بالعذابات التي يتألم بها بنوهن كأنها عذاباتهن أنفسها. ولذلك حينما تضرعت الامرأة الكنعانية إلى مخلصنا بأن ينقذ ابنتها المعذبة من الشيطان قالت له: ارحمني يا رب يا ابن داود فإن ابنتي يعذبها الشيطان: (متى ص15ع22) ولم تقل له ارحم ابنتي. ولكن ترى أية أمٍ أحبت ابناً لها بمقدار ما أحبت مريم ابنها يسوع، فهو تعالى كان ولدها الوحيد، وهي ربته بأتعابٍ وأنصابٍ ومشقاتٍ فائقة الوصف. وهو ابنٌ موضوعٌ للحب الكلي وشديد الحب نحوها. وفي الوقت الذي فيه هو ابنها ففيه عينه هو إلهها. الذي إذ كان إنما جاء إلى الأرض ليشعل لهيب نار الحب المقدس. كما أعلن ذلك هو عينه بقوله: أتيت لألقي ناراً على الأرض ولا أريد إلا إضطرامها: (لوقا ص12ع49) فترى كم كان لهيب هذه النار التي أضرمها بشدةٍ عظيمةٍ في قلب والدته النقي الفارغ من كل انعطاف نحو الأشياء الأرضية. فالبتول المجيدة عينها قالت في الوحي للقديسة بريجيتا:” أن قلبي وقلب ابني بالحب كانا واحداً. فالحريق الذي أضطرم في لب هذه العذراء المباركة كان مؤلفاً من موضوعات حبها نحوه تعالى بحسب كونها له عبدةً وأماً، وبحسب كونه لها ابناً وإلهاً. وبكلٍ من هذه الموضوعات كان قلبها يلتهب حباً به. إلا أن هذا الحريق قد استحال فيها حين آلام ابنها إلى بحرٍ زاخر متموجٍ بالأحزان والأوجاع الغير المدركة. ومن ثم كتب القديس برنردينوس قائلاً:” أن أوجاع العالم بأسره وأحزانه كلها، إذا اجتمعت معاً، فلا يمكنها أن تصور في ذاتها حقيقة الحزن والوجع الذي تكبدته العذراء المجيدة”. وهذا هو أمرٌ صادقٌ، لأنه كما قال القديس لورانسوس يوستينياني: بمقدار عظمة الانعطاف والحب الذي به تعلق قلب هذه الأم الإلهية بمحبة هذا الإبن فبأكثر من ذلك تألمت هي متوجعةً عند مشاهدتها إياه متألماً، خاصةً حينما صادفته حاملاً صليبه مجذوباً إلى جبل الجلجلة ليمات بموجب الحكومة المبرزة ضده: وهذا هو سيف الحزن الرابع المختص الفصل الحاضر بالتأمل فيه.*
فقد أوحت هذه البتول المجيدة للقديسة بريجيتا بأنه حينما كان اقترب زمن آلام الرب، لم تكن عيناها على نوعٍ ما تنشفان من الدموع المتصلة، بتذكرها في أنه قريباً كان يلزمها أن تفقد ابنها الحبيب من هذه الأرض، وأنه من قبل الخوف الذي كان يشتملها عند تفكرها بالمشهد المزمع حدوثه بموت يسوع، كان العرق البار يقطر من أعضاء جسمها كافةً. فهوذا أخيراً قد بلغ الزمن المرسوم لهذا العمل العظيم، وجاء يسوع عند والدته لكي يودعها ويمضي إلى الموت. فالقديس بوناونتورا إذ كان يتأمل فيما صنعته حينئذٍ العذراء في تلك الليلة، قد خاطبها هكذا قائلاً:” أنكِ لقد أجزتِ تلك الليلة من دون رقادٍ بالكلية، وفي الوقت الذي فيه الآخرون كانوا نائمين فأنتِ استمريتِ ساهرةً”. فلما صار الصباح كان تلاميذ الرب الواحد بعد الآخر يأتون عند هذه الأم الإلهية المحزونة، وكلٌ منهم كان يخبر عما يكون شاهده أو سمع به. ولكن من المعلوم أن جميع هذه الأخبار كانت محزنةً. ووقتئذٍ قد كملت عن هذه السيدة حقيقة كلمات أرميا النبي بقوله: باكيةٌ بكت في الليل ودموعها على خديها ليس من يعزيها من جميع أحبائها: (مراثي ص1ع2) فإذاً البعض كانوا يأتون بأخبار الإهانات التي عومل بها يسوع في دار قيافا، وغيرهم بخبرية الاحتقار الذي احتقره به هيرودس مع جنده. ثم جاء أخيراً القديس يوحنا الرسول (لأني أترك جانباً باقي الملاحظات لكي أصل من دون إسهابٍ إلى الموضوع المقصود) وأعلمها بأن بيلاطس الفاقد كل عدالةٍ قد حكم على يسوع ظلماً بأن يموت مصلوباً وإنما قلت عن بيلاطس فاقد كل عدالةٍ أو بالحري كلي الظلم، لأن القديس لاون الكبير يقول عنه:” أنه أبرز الحكومة بالموت ضده وهو نفسه، أي بيلاطس اعترف مشهراً براءته، وأعلن أنه لم يجد فيه علةً تستوجب الموت”. فإذاً قال لهذه السيدة القديس يوحنا الحبيب: أيتها الأم المملوءة أحزاناً إن الحكومة بالموت قد أعطيت ضد ابنكِ، وهوذا الجند قد حملوه صليبه على عاتقه وخرجوا به من دار الولاية ذاهبين نحو جبل الجلجلة ليصلبوه هناك. (كما أن هذا الإنجيلي دون ذلك هو نفسه فيما بعد بقوله: فحينئذٍ بيلاطس أسلمه إليهم ليصلبوه، فأخذوا يسوع وخرجوا به وهو حامل صليبه وجاءوا به إلى موضع يسمى الجمجمة وبالعبرانية يسمى الجلجلة: (يوحنا ص19ع16) فإن كنتِ إذاً تريدين أن تنظريه وتودعيه المرة الأخيرة، تعالي لكي نذهب إلى إحدى الطرقات المزمع أن يجتاز هو منها عابراً.*
فخرجت مريم البتول صحبة القديس يوحنا من البيت الذي كانت مقيمةً فيه، وإذ شاهدت في الطريق نقط الدم الواضحة قد استدلت منها على أن الجند كانوا اجتازوا بيسوع من هناك إلى ما قدام. فهكذا أوحت هذه السيدة للقديسة بريجيتا قائلةً:” أنني قد عرفت أن ابني قد كان مر من تلك الطريق وجاز عند نظري أثره من قبل إنصباغ الطريق بدمه”. فالقديس بوناونتورا يقول: أن الأم الإلهية الموعبة حزناً، عند علمها أن يسوع كان اجتاز من تلك الطريق، فهي أسرعت من طريقٍ أخرى قليلة المسافة وسبقت ووقفت عند رأس المسلك لملاقاة ابنها الحبيب المتألم المزمع أن يمر من هناك”. فيا لها من والدةٍ متوجعةٍ في لجة الأحزان، ويا له من ابنٍ غارقٍ في بحر الآلام: يقول القديس برنردوس: ففي مدة وقوفها هناك ترى كم سمعت من اليهود الذين كانوا يعرفونها، من التكلم بالإهانة والإفتراء ضد ابنها الحبيب، وربما ضدها هي أيضاً. ولكن أواه كم كان سهم الحزن جارحاً قلب هذه الأم عند مشاهدتها خدام الشريعة مارين من هناك قبل يسوع، بالمسامير والمطارق والحبال وسائر الأشياء المقتضية لإتمام حكومة الموت. وكيف صارت حالها حينما سمعت المنادي أمام ابنها الحبيب يعلن مشهراً كالعادة مضمون الحكومة المبرزة بالموت ضد يسوع. ولكن بعد أن اجتازوا بآلات الصلب ومر المنادي وخدام الشريعة هوذا أمام عيني هذه الأم المحزونة مجتازاً ذاك الشاب المكتسى جسمه من الرأس إلى القدمين من الجراحات القاطرة الدماء من كل ناحيةٍ من جسده، وعلى هامته حزمةٌ من الشوك. وصليب ذو خشبتين محمولٌ على منكبيه. فنظرت إليه، أواه يا له من منظرٍ محزنٍ يفتت الأكباد، وكأنها لم تعرفه. كما قال عنه أشعيا النبي: ورأيناه ولم يكن منظرٌ ولا جمالٌ مهاناً وآخر الرجال، رجل الأوجاع مجرباً بالأمراض وكان وجهه مكتوماً ومرذولاً… ونحن احتسبناه كأبرص ومضروباً من الله: (ص53ع2) لأن الجراحات الموجودة في جسمه. والدماء المسفوكة منها قد صيرته كأبرص مضروبٍ بالقروح. إلا أن الحب أخيراً قد حقق لهذه الأم أن ذاك الإنسان هو يسوع ابنها بعينه. فوأسفاه واحسرتاه كم كان شديداً سهم الحزن الذي طعن قلبها فيما بين الحب والخوف معاً (كما يقول القديس بطرس دالكانتارا في تأملاته) لأن الحب من الجهة الواحدة كان يجتذبها لأن تتفرس في وجه حبيبها يسوع لتراه جيداً، والخوف من الجهة الثانية كان يصدها عن مشاهدة منظرٍ كافٍ لأن يميتها من شدة الحزن. ولكن أخيراً قد نزع يسوع عن عينيه الدم الجامد الذي كان يمنع نظره (كما أوحى للقديسة بريجيتا) وشاهد والدته جيداً وهي شاهدته. أواه يا لها من مشاهدةٍ قد جرحت بسهامها هاتين النفسين الجميلتين. فمرغريتا أبنه توما موروس عندما رأت أباها ماراً في الطريق مجذوباً إلى القتل، فلم تقدر أن تقول له سوى هاتين الكلمتين: يا أبي يا أبي: ثم سقطت في الأرض غائبةً عن حواسها كمائتةٍ، أما مريم فحينما شاهدت ابنها في تلك الحال ذاهباً الى جبل الجلجلة ليصلب فلم تغب عن حواسها، لأنه لم يكن لائقاً بهذه الأم الإلهية أن تفقد الانتباه والمعرفة. حسبما قال الأب سوارس، ولا ماتت من شدة الحزن، لأن الله كان يحفظها لاحتمال آلامٍ أمر، ولكن ولئن لم تمت فمع ذلك قد ألم بها حزنٌ كافٍ لأن يميتها ألف ميتةٍ.*
فيقول القديس أنسلموس أن مريم حينئذٍ اقتربت من يسوع مريدةً أن تعانقه، إلا أن خدام الشريعة صدوها عن ذلك بإهانةٍ وعنفٍ واغتصبوا يسوع على المشي مجتازين به، ووقتئذٍ هذه الأم أتبعته لاحقةً. أواه أيتها البتول القديسة إلى أين تذهبين، أهل إلى جبل الجلجلة. ولكن أيمكنكِ أن تثقي بذاتكِ في أنكِ تقدرين أن تشاهدي معلقاً على الصليب ذاك الذي هو حياتكِ. كما قيل في تنبيه الأشتراع: وتكون حياتك كالمعلقة قدامك: (ص28ع66) فالقديس لورانسوس يوستينياني في تأملاته يخاطب هذه السيدة كأن ابنها يسوع يقول لها حينئذٍ هكذا: يا أمي لماذا تقتربين مني وإلى أين تريدين أن تذهبي، فإن كنتِ تأتين برفقتي إلى حيث أنا ماضٍ فتتعذبين بشدة عذاباتي عينها. وأنا أتألم بآلامكِ نفسها. ولكن ولئن كانت هي عارفةً أن ذهابها معه ومشاهدتها إياه يموت على الصليب كانت مزمعةً أن تسبب لها آلاماً فائقة الوصف. فمع ذلك لم ترد أن تفارق موضوع حبها الوحيد، بل أن ابنها كان يسير أمامها وهي كانت تتبعه لتصلب معه. كما يقول عنها غوليالموس: أن مريم حملت صليبها واتبعت يسوع لتصلب هي أيضاً معه. فقد كتب القديس يوحنا فم الذهب قائلاً: أننا نوجد متحننين على الحيوانات أيضاً، وهذا هو شيء حقيقي، لأننا إذا رأينا مثلاً أسدةً تجري وراء شبلها المأخوذ من الصيادين للقتل، فلئن كانت هي وحشاً مفترساً مبغوضاً منا فمع ذلك مشاهدتنا إياها متألمةً في تلك الحال تحركنا إلى التوجع من أجلها، أفما نحزن إذاً متوجعين عند تأملنا والدة الإله النعجة الطاهرة تابعةً ابنها الحمل البريء من العيب مجذوباً للذبح: فلنشاركها بأحزانها إذاً متألمين معها، ولنجتهد في أن نتبع ابنها وإياها لاحقينهما نحن أيضاً حاملين بصبر ذاك الصليب الذي يفتقد الرب كلاً منا به. فالقديس يوحنا فم الذهب يسأل كمستفهمٍ: لماذا سيدنا يسوع المسيح في جميع آلامه الأخرى أراد أن يكون وحده من دون أن يسعفه أحدٌ بشيء، وأما في حمله الصليب شاء أن سمعان القانوي يعينه في حمله: وهو نفسه يجيب عن سؤاله قائلاً: إنما ذلك هو من كون صليب المسيح وحده لا يفيدك يا هذا من دون أن تحمل أنت أيضاً صليبك: فإذاً لا يكفينا للخلاص صليب يسوع أن كنا نحن لا نحمل إلى ساعة موتنا الصلبان التي يريد الله أن نحملها بحسن تسليم الإرادة.*
* نموذج *
إن مخلصنا ظهر مرةً ما للبارة ديوميرا الراهبة التي من فيورنسا وقال لها:” افتكري بي وحبيني، وأنا أفتكر بكِ وأحبكِ: وفي الوقت ذاته قدم تعالى لهذه الراهبة باقةً من الزهور جملةً مع صليبٍ، مشيراً بذلك إلى أن تعزيات القديسين في هذا العالم، ينبغي أن ترافق على الدوام بالصليب، الذي من شأنه أن يتحد الأنفس بالله”.
ثم أن الطوباوي أيرونيموس أميليانوس الذي كان قبلاً جندياً مملوءاً من الرذائل. فهذا إذ وقع في أيدي الأعداء وقيد منهم أسيراً في أحد الأبراج، فتحرك من قبل هذه التجربة مستنيراً باطناً بالضياء السماوي إلى أن يتوب عن شروره ويصلح سيرته، ومن ثم أخذ بالتضرعات إلى والدة الإله الكلية القداسة في أن تعينه. وحينئذٍ بشفاعات هذه السيدة قد ابتدأ بالسير في طريق القداسة، حتى أنه استحق فيما بعد أن يكشف له الله بالرؤيا المكان السعيد المهيئ له في السماء… وصار بعد ذلك مؤسساً للرهبنة الصوماسكية. وأخيراً رقد بالرب بميتةٍ مقدسةٍ. ومنذ مدةٍ ليست مستطيلة قد أحصي قانونياً من الكنيسة المقدسة في عدد الطوباويين.*
† صلاة †
يا أمي المحزونة أنني أتوسل إليكِ بحق التألم الشديد الذي تكبدتيه عند مشاهدتكِ ابنكِ يسوع الحبيب مساقاٌ إلى الموت، بأن تستمدي لي من الله نعمةً، وهي أن أحتمل أنا أيضاً بتسليم الإرادة وبصبرٍ تام، كل الصلبان التي يرسلها لي الباري تعالى. فالطوبى لي أن كنت أنا كذلك أحمل صليبي وأرافقكِ حتى الموت، فأنتِ البارة وابنكِ المنزه عن كل زلةٍ قد ارتضيتما بأن تحملا صليباً بهذا المقدار ثقيلاً، فهل أني أنا الأثيم الذي مراتٍ عديدةً استحقيت الجحيم أرفض أن أحمل صليبي. فمنكِ أرجو أيتها البتول البريئة من العيب أن تعينيني لكي أحتمل بصبرٍ الصلبان التي يرسلها لي الله آمين.*
†
No Result
View All Result
Discussion about this post