كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الثالث:
الفصل الخامس عشر
عن أن على النفس المسيحية أن تفتش على التسلية في وسط الآلام التي تتكبدها في سبيل الفضيلة وفي الضيق الذي يسببه لها طول منفاها على الأرض
العبد
في أي شيئ كنت تضعين تسليتك أيتها البتول القديسة إبان الاضطهادات التي كانت تعصف على الكنيسة الجديدة وتعذبك أنت أيضاً مع سائر أبنائها؟
مريم
يابني: إننا كنا نجد سلواننا في تذكر آلام يسوع التي لم ينسنا إياها لا مجد قيامته ولا أبهى صعوده. إنني كنت أتفقد الأماكن المقدسة التي تمت فيها أسرار الفداء وخاصة الجلجلة حيث كنت أتأمل فضائل وإحسانات يسوع، وقساوة وعدم معروف البشر الذين أماتوه على الصليب. وهل كان في وسعي أن أبتغي حياة هدوء. وتنعم ورفاه أو أن أشتهي كذا حياة اشتهاء وقد بقيت ماثلة أمامي القساوة التي عومل بها يسوع من قبل البشر؟
يابني: ضع جل تأملك وتفكيرك في معاملة العالم ليسوع ابني الحبيب وفاديك الإلهي. وستجد في هذا التفكير ما يفيدك ويشجعك في وسط الأحزان التي عليك أن تواجهها في العالم بسبب أمانتك معه تعالى. أن يسوع قد سلك طريقاً وعرة ومضنكة حباً بك. ولم يحد عنها حتى لما أحاط به الهوان والإهانات. ولهذا فحين يدعوك لتتبعه يذكرك بوجوب التألم لأجل محبته. وقد يخشى إلا تكون حقيقية تلك الفضيلة التي لا تصادف مقاومة أومعاكسة من قبل العالم، إذ أن من نصيب خدام الله أن يكونوا محبوبين في نظر السماء ومبغوضين لدى العالم. كم يجب أن تتضاعف فينا قوة التحمل، بل وكم يجب أن نتسلى عندما نقدر أن نقول ونردد: لا يكون التلميذ أفضل من معلمه، وإذا قد أضطهدوا يسوع فسيضطهدونا نحن أيضاً. إني أتألم مثل يسوع ومع يسوع! إنه مثالي وسيكون قوتي ومكافأتي!
العبد
إن عذاباً آخر كان محفوظاً لك أيتها الأم القديسة أكثر مما لغيرك من القديسين. وبالحقيقة من لنا أن يصف عظم تعطشك وحنينك إلى الاتحاد مع يسوع حبيبك في السماء؟ يسوع يملك في مجده وأمه تتنقل في أرض المنفى! إن بقاءك كل المدة في الحياة وابتعادك عن موضوع محبتك الوحيد كان لك يامريم بمثابة موت متواصل. غير أن تمتعك بأقتبال يسوع يومياً في باطنك بواسطة التناول كان لك موضوع تسلية غزيرة. أن مار لوقا يؤكد لنا بأن المسيحيين الأولين كانوا مواضبين معاً على كسر الخبز، فلا نشك في كونك كنت تقتبلين يومياً جسد يسوع ودمه الكريمين أنت التي فقت جميعهم بمحبتك إياه.
مريم
اي نعم يابني: أنني كنت أستقي يومياً من التناول قوى جديدة لأتحمل طول وقساوة منفاي! يالها من ساعات حلوة تلك التي كنت أقتبل فيها أحشائي من جديد ذاك الذي حملته فيها مدة تسعة أشهر، وكان لي الحظ السعيد في أن أعيش معه سنين عديدة! وفي تلك الساعات كنت أناجي حبيب نفسي مستحلفة إياه بحرارة متفاقمة بأن يريني مسكن راحته ويعجل عليّ الوقت لأتمتع إلى الأبد بلذة حضوره بعد أن أمتلكه نهائياً كنت أسجد لإرادة الله مفضلة تكميلها على تكميل إرادتي. ألا أن التناول كان تسليتي وقوتي في وسط كفاحي اليومي المتواصل. إن الشيئ الوحيد الذي كان يضع الاتزان في اندفاع أشواقي نحو السماء ويخمد من شدة تعطشي إليها إنما كان استسلامي لمشيئة الرب. وماعسى أن تكون يابني تلك المحبة التي لا يهمها غياب الحبيب والتي تطلب من الله يومياً أن يأتي مكلوته دون أن تشعر بميل ما إلى إتمام ما تطلبه؟ إن المسيحي الصادق في حبه ليسوع هوذاك المسيحي الذي بالرغم من شعوره بشدة النفور الطبيعي من الموت يكون مستعداً لأن يضحي بكل ثمين على الأرض كي يذهي ويتحد بيسوع في السماء، ويتلهف متحسراً لبعده عنه تعالى، ولن يستقر فيه سرور إلا متى أضحى معايناً لمحده. إنه يصرخ مع النبي في اندفاع حبه المتكرر: عطشت نفسي إليك يا إلهاً حياً، متى آتي فأرى وجهك؟ إن المسيحي الحقيقي يشعر بضنك من طول منفاه ويعتبره أعظم وأقسى محنة يعانيها، ولا يجد تخفيفاً لآلمه هذا إلا بالخضوع التام واقتبال جسد ودم المخلص بتواتر على قدر ما يسمحه له من يقوم مقام الرب على الأرض ويعرف استعداده. ومن وراء ستار الأشكال الأوخارستية يزوره ويكلمه هذا الحبيب الإلهي الذي يوجد تحت هذه الأشكال وجوداً حقيقياً مثلما يوجد في السماء، ويتحد قلبهما اتحاداً صحيحاً. وعما قليل يزاح هذا الستار فيظهر يسوع ذاته مثلما هو!.
No Result
View All Result
Discussion about this post