رسالة قداسة البابا بندكتس السادس عشر
بمناسبة
الاحتفال بيوم السلام العالمي
الفاتيكان، الثلاثاء 22 ديسمبر 2009 zenit.org
ننشر في ما يلي رسالة قداسة البابا بندكتس السادس عشر
بمناسبة الاحتفال بيوم السلام العالمي الذي يحتفل به في أول كانون الثاني (يناير) 2010.
قام بتعريبها انطوان لايق وربيع أبي عبدالله من القسم العربي في إذاعة الفاتيكان.
إذا شئت زرع السلام، فاحمِ الخليقة
- مع مطلع السنة الجديدة أرغب بتوجيه أحر أمنيات السلام للجماعات المسيحية والمسؤولين عن الأمم والرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة في العالم كله. لقد احترت لهذا اليوم العالمي للسلام الثالث والأربعين موضوع: إذا شئت زرع السلام، فاحمِ الخليقة. إن احترام الخليقة له مكانة عظيمة إذ إن “الخليقة هي البداية وأساس كل أعمال الله” 1 كما أن حمايتها تمسي جوهرية اليوم بالنسبة للتعايش السلمي للبشرية. وإذا كانت التهديدات المحدقة بالسلام والنمو البشري الكامل والأصيل ـ الحروب، النزاعات الدولية والإقليمية، الأعمال الإرهابية والتعديات على الحقوق الإنسانية ـ،كثيرة بسبب قسوة الإنسان على الإنسان فليست أقل خطورة التهديدات وليدة عدم العناية ـ إن لم نقل الإفراط ـ بالأرض وبالخيرات الطبيعية التي منحنا إياها الله. ولهذا السبب لا بد للإنسانية من تجديد وتقوية “التحالف بين الكائن البشري والبيئة، الواجب أن يكون مرآة لمحبة الله الخالق الذي منه نتأتى ونحوه نسير”. 2
- لقد أوضحت في الرسالة العامة المحبة في الحقيقة أن النمو البشري الكامل مرتبط بشكل وثيق بالواجبات المتأتية من علاقة الإنسان مع البيئة الطبيعية لكونه عطية من عند الله للجميع ويقتضي مسؤولية مشتركة تجاه الإنسانية بأسرها وخصوصا تجاه الفقراء والأجيال الآتية. لقد لاحظت أيضا أنه عندما نعتبر الطبيعة، وبالدرجة الأولى، الكائن البشري ثمرة الصدفة أو حتمية التطور يتقلص في الضمائر وعي المسؤولية.3 أن نرتأي بالمقابل الخليقة كعطية من عند الله للبشرية أمر يساعدنا على فهم دعوة الإنسان وقيمته . بإمكاننا باندهاش بالغ أن نعلن مع صاحب المزامير: “عندما أرى سمواتك صنع أصابعك والقمر والكواكب التي ثبتها ما الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده؟” (مز 8/4-5). أن نتأمل في جمال الخليقة حافز للإقرار بمحبة الخالق، تلك المحبة التي “تحرك الشمس والنجوم الأخرى”. 4
- لعشرين سنة خلت وإذ كرس البابا يوحنا بولس الثاني رسالة يوم السلام العالمي لموضوع السلام مع الخالق، السلام مع الخليقة كلها، لفت الانتباه إلى علاقتنا مع الكون الذي يحيط بنا لكوننا خلائق الله. ” يشعر المرء في أيامنا ـ كتب البابا ـ بالإدراك النامي أن السلام العالمي مهدد … حتى من عدم الاحترام الواجب للطبيعة”. ويضيف أن الضمير الإيكولوجي “يجب ألا يُخنق بل أن يُعزز لكي ينمو وينضج عبر تعبير ملائم عنه في برامج ومبادرات عملية”.5 لقد أشار كثير من أسلافي إلى العلاقة القائمة بين الإنسان والبيئة. فعلى سبيل المثال، في عام 1971، ولمناسبة الذكرى الثمانين للرسالة العامة الشؤون الحديثة للبابا لاوون الثالث عشر، أكد البابا بولس السادس أنه “من خلال استغلال مفرط للطبيعة قد يجازف (الإنسان) بتدميرها وقد يقع ضحية لهذا الخراب”. وأضاف أنه في تلك الحالة “لا تصبح البيئة المادية تهديدا مستديما وحسب: التلوث والنفايات، أمراض جديدة، قوة دمار كامل إنما الإطار البشري حيث يفقد الإنسان السيطرة عليه ما يؤدي بالتالي إلى نشأة بيئة مستقبلية قد لا يقبل بها: معضلات اجتماعية ذات أبعاد واسعة تتعلق بالأسرة البشرية بكاملها”.6
- إن الكنيسة “الخبيرة في شؤون الإنسانية” إذ تتحاشى البت في حلول تقنية خاصة تصر بقوة على لفت الانتباه إلى العلاقة بين الخالق، الكائن البشري والخليقة. في عام 1990 تحدث البابا يوحنا بولس الثاني عن “أزمة إيكولوجية” وإذ أكد على طابعها الأدبي أشار إلى “الضرورة الأدبية الملحة لتضامن جديد”.7 يصبح هذا النداء أكثر إلحاحا اليوم أمام تنامي أشكال أزمة لا بد من اعتبارها بطريقة مسؤولة. كيف البقاء لا مبالين بالمعضلات المتأتية عن ظواهر شأن تبدل المناخ، التصحر، تدهور وتقلص قطاعات إنتاجية زراعية واسعة، تلوث الأنهر والمياه الجوفية، فقدان التنوع البيولوجي، ازدياد ظواهر طبيعية قصوى، إزالة الغابات في المناطق المدارية والاستوائية؟ كيف لنا تجاهل ظاهرة “لاجئي البيئة” المتنامية: أشخاص يضطرون، بسبب تردي البيئة التي يعيشون فيها، لمغادرتها ـ حاملين ما يملكون في غالب الأحيان ـ ولمواجهة مخاطر وتبعات انتقال قسري؟ كيف لنا ألا نتصرف حيال نزاعات دائرة وأخرى مرتبطة باقتناء الموارد الطبيعية؟ إنها مسائل تحمل تأثيرا قويا على ممارسة حقوق الإنسان، شأن الحق في الحياة والتغذية والصحة والنمو.
- على كل حال لا يمكن تقييم الأزمة البيئية بشكل منفصل عن المسائل المرتبطة بها لعلاقتها القوية بمفهوم النمو نفسه وبرؤية الإنسان وعلاقاته مع أمثاله والخليقة. لذا من الحكمة إجراء مراجعة عميقة وبعيدة النظر في نموذج النمو والتفكير بمعنى الاقتصاد وغاياته لتصحيح ما يشوبه من خلل وعيوب. هذا ما يقتضيه وضع الكوكب الإيكولوجي وما تتطلبه خصوصا الأزمة الثقافية والخلقية للإنسان التي تبرز أعراضها منذ زمن في أنحاء العالم كافة.8 تحتاج الإنسانية إلى تجدد ثقافي عميق وإعادة اكتشاف تلك القيم التي تشكل الأساس الصلب لبناء مستقبل أفضل للجميع. إن الأزمات التي تجتازها الإنسانية حاليا ـ أكانت ذات طابع اقتصادي، غذائي، بيئي أو اجتماعي ـ هي أيضا في العمق أزمات خلقية مرتبطة فيما بينها إذ تجبرنا على إعادة رسم مسيرة البشر المشتركة. أزمات تلزمنا بالأخص بنمط حياة مطبوع بالاعتدال والتضامن مع قواعد وأشكال التزام جديدة تتطلع بثقة وجرأة إلى الخبرات الإيجابية وتنبذ بحزم تلك السلبية. على هذا النحو فقط تصبح الأزمة الحالية مناسبة للتمييز ولتخطيط جديد.
- أليس من الصحيح أن وراء ما نسميه بالمعنى الكوني “طبيعة” “مخطط محبة وحقيقة”؟ العالم “ليس صنع إحدى الحتميات، صنع قدر أعمى أو صدفة … العالم يصدر عن إرادة حرة لله الذي أراد أن يشرك الخلائق في كينونته وحكمته وجودته”.9 إن سفر التكوين، وفي أولى صفحاته، يعود بنا إلى المخطط الحكيم للكون، ثمرة فكر الله، حيث في الذروة الرجل والمرأة المخلوقان على صورة الله ومثاله “ليملأوا الأرض” و”ليخضعوها” “كوكلاء” عن الله نفسه (تكوين 1/28). إن التناغم بين الخالق، الإنسانية والخليقة، الذي يصفه الكتاب المقدس، شوهته خطيئة آدم وحواء، خطيئة الرجل والمرأة اللذين شاءا أن يحلا محل الله ورفضا الإقرار بكونهما من خلائقه. وكانت النتيجة إفساد مهمة “إخضاع” الأرض “وفلاحتها وحراستها” ونشأ نزاع بينهما وباقي الخليقة (تكوين 3/17-19). جعل الكائن البشري الأنانية تسيطر عليه ففقد معنى دعوة الله واستغل علاقته مع الخليقة فشاء فرض سيطرته المطلقة عليها. إن المعنى الحقيقي لوصية الله الأولى، كما جاء في سفر التكوين، لا يكون في منح سلطة وحسب إنما في دعوة إلى المسؤولية. كانت حكمة القدماء تقر بأن الطبيعية في تصرفنا لا “ككومة من النفايات المبعثرة بشكل عرضي”10، فيما أفهمنا الوحي البيبلي أنها هبة الخالق الذي حدد لها أنظمتها الجوهرية ليستمد منها الإنسان التوجيهات اللازمة كي “يفلحها ويحرسها” (تكوين 2/15).11 كل ما هو موجود ملك لله الذي أوكله إلى البشر شرط ألا يتصرفوا به بطريقة اعتباطية. “وعوض أن يضطلع الإنسان بدوره معاونا لله في عمل الخلق نراه يغتصب محله تعالى فيفضي بذلك إلى تفجير ثورة الطبيعة وقد أمست خاضعة لتحكمه لا لحكمه”.12 من هنا واجب الإنسان في ممارسة إدارة مسؤولة للخليقة ليحرسها ويفلحها.13
- نلاحظ للأسف أن أشخاصا كثيرين في بلدان ومناطق مختلفة من العالم يعانون من صعاب متزايدة بدافع إهمال أو رفض كثيرين ممارسة إدارة مسؤولة للبيئة. يقول المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: “لقد أعد الله الأرض وكل ما فيها لخدمة جميع الأفراد والشعوب”14 لذا فإن إرث الخليقة ملك للإنسانية كلها لكن الوقع الحالي للاستغلال يعرض للخطر توفر بعض الموارد الطبيعية ليس للأجيال الحاضرة فحسب إنما خصوصا لتلك الناشئة.15 ليس من الصعب إذن أن نلحظ أن التدهور البيئي غالبا ما يكون ثمرة غياب مشاريع سياسية بعيدة البصيرة أو السعي وراء مصالح اقتصادية ضيقة تتحول للأسف إلى تهديد خطير للخليقة. وللتصدي لهذه الظاهرة، انطلاقا من أن “كل قرار اقتصادي له تبعات ذات طابع أدبي”،16 من الضروري أن يحترم النشاط الاقتصادي البيئة بشكل أفضل. عندما تتوفر الموارد الطبيعية تجب حمايتها من خلال تقييم مدى تأثيرها ـ بالمعنى البيئي والاجتماعي ـ، على النشاطات الاقتصادية. ويعود إلى الجماعات الدولية والحكومات الوطنية إعطاء المؤشرات الصحيحة للتصدي بشكل فاعل لوسائل استخدام البيئة التي تلحق الضرر بها. لا بد لحماية البيئة وصيانة الموارد والمناخ من التصرف ضمن احترام قواعد دقيقة حتى من وجهة النظر القانونية والاقتصادية من جهة، ومن جهة أخرى، التضامن مع سكان المناطق الأكثر فقرا والأجيال الطالعة.
- يبدو في الواقع أمرا ملحا التوصل إلى تضامن صادق بين الأجيال. ينبغي ألا تتحمل أجيال المستقبل ثمن استخدام الموارد البيئية المشتركة: “لكوننا ورثة الأجيال الغابرة نستفيد من عمل أبناء زمننا تقع على عاتقنا واجبات تجاه الجميع ولا يسعنا بالتالي ألا نكترث بالأجيال الآتية لتوسيع حلقة الأسرة البشرية. كذلك أيضا يشكل واجبا التضامن الجامعي الذي هو واقع ونفع لنا. إنها مسؤولية الأجيال الحاضرة تجاه الأجيال الآتية تقع أيضا على عاتق الدول الأفراد والمجتمع الدولي.17 استخدام الموارد الطبيعية يجب أن يحصل بشكل لا تحمل فيه المنافع الآنية تأثيرات سلبية على الكائنات الحية، بشرية كانت أم لا، حاضرة أم آتية، وينبغي ألا تعيق حماية الملكية الخاصة مشاعية الأرزاق18 وألا يعرّض تدخل الإنسان للخطر خصب الأرض لما فيه خير يومنا وغدنا. إلى جانب التضامن الصادق بين الأجيال لا بد من التأكيد على الضرورة الأدبية الملحة لتضامن متجدد بين الأجيال، لاسيما في العلاقات بين البلدان النامية والمصنعة: للجماعة الدولية مهمة أساسية ألا وهي إيجاد الطرق المؤسسية لتنظيم استغلال الموارد غير المتجددة مع مشاركة بلدان فقيرة بهدف التخطيط معا للمستقبل” 19. تدل الأزمة الإيكولوجية على ضرورة حضور تضامن يتمطى في الفضاء والزمن. من بين أسباب الأزمة البيئية الحالية لا بد من الإقرار بالمسؤولية التاريخية للبلدان المصنعة. مع ذلك فإن البلدان الأقل نموا وخصوصا منها النامية ليست معفية من مسؤولياتها تجاه الخليقة لأن من واجب الجميع تبني، بشكل تدريجي، إجراءات وسياسات بيئية فاعلة. قد يحصل هذا بسهولة أوفر لو توفرت حسابات أقل مصلحة في تقديم العناية ونقل المعرفة والتكنولوجيات النظيفة.
- لا شك أن إحدى العقد الرئيسة التي ينبغي على الجماعة الدولية مواجهتها تتعلق بموارد الطاقة من خلال إيجاد إستراتيجيات مشتركة ومستدامة تلبي احتياجات أجيال اليوم والغد للطاقة. ولبلوغ هذا الهدف من الأهمية بمكان أن تكون المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا مستعدة لتشجيع تصرفات يطبعها الاعتدال بتخفيض احتياجاتها للطاقة وتحسين ظروف استخدامها. ولا بد، في الوقت نفسه، من تعزيز البحوث واعتماد طاقات تكون أقل تأثيرا على البيئة “وإعادة توزيع موارد الطاقة بطريقة تسمح للدول المحرومة منها بالحصول عليها”20. الأزمة الإيكولوجية إذن تقدم لنا فرصة تاريخية لإعداد تجاوب جماعي يرمي إلى تحويل مسار نموذج النمو العالمي صوب احترام الخليقة ويصب في صالح نمو بشري متكامل مستوحى من قيم المحبة في الحقيقة. أتمنى بالتالي تبني نموذج نمو يرتكز إلى مركزية الكائن البشري وتعزيز ومقاسمة الخير المشترك وإلى المسؤولية وإدراك ضرورة إحداث تبدل في أنماط الحياة وإلى الحذر، الفضيلة التي تشير إلى ما يجب فعله اليوم مع ترقب ما يمكن أن يحصل غدا.
- إن الإنسان مدعو، لتوجيه الإنسانية نحو إدارة شاملة للبيئة ولموارد الأرض، إلى توظيف فطنته في حقل البحث العلمي والتكنولوجي وتطبيق الاكتشافات وليدة هذه البحوث. إن “التضامن الجديد” الذي اقترحه يوحنا بولس الثاني في رسالة يوم السلام العالمي 1990 22 و”التضامن الشامل” الذي أشرت إليه في رسالة يوم السلام العالمي 2009 23 موقفان أساسيان لتوجيه الالتزام بحماية الخليقة بواسطة نظام لإدارة موارد الأرض من خلال تنسيق أفضل على الصعيد الدولي وخصوصا في وقت تبرز فيه بوضوح أكبر العلاقة الوطيدة القائمة بين مكافحة التدهور البيئي وتعزيز النمو البشري المتكامل. إنها ديناميكية لا يمكن التغاضي عنها إذ إن “النمو المتكامل للإنسان لا يتحقق بدون النمو المتكافل للبشرية”.24 كثيرة هي الإمكانات العلمية ودروب التجديد المحتملة التي يمكن بفضلها طرح حلول مرضية ومتجانسة للعلاقة بين الإنسان والبيئة. فعلى سبيل المثال لا بد من تشجيع البحوث الآيلة إلى الكشف عن وسائل أكثر فعالية لاستخدام القدرات الهائلة للطاقة الشمسية. الاهتمام نفسه يعود لمسألة المياه التي باتت تعني الكوكب كله وللنظام الهيدرو جيولوجي العالمي الذي لدورته أهمية كبرى بالنسبة للحياة على الأرض وحيث استقراره مهدد بقوة من قبل التغيرات المناخية. ولا بد من إيجاد إستراتيجيات ملائمة للتنمية الريفية تتمحور حول المزارعين الصغار وأسرهم ووضع سياسات كفيلة بإدارة الغابات وتصريف النفايات وتقييم التناغم بين التصدي للتغيرات المناخية ومكافحة الفقر. ولا بد أيضا من إعداد سياسات وطنية طموحة يرافقها التزام دولي يحمل معه منافع هامة لاسيما على المدى المتوسط والبعيد. من الأهمية بمكان الخروج من منطق الاستهلاك المحض لتعزيز أشكال من الإنتاج الزراعي والصناعي تحترم نظام الخليقة وتتجاوب مع الاحتياجات الأولية للجميع. ينبغي ألا ننظر إلى المسألة الإيكولوجية بمنظار الاحتمالات المخيفة التي يرسم معالمها في الأفق التدهور البيئي وحسب إنما يجب أن يحركها قبل كل شيء تضامن أصيل على مستوى عالمي مستوحى من قيم المحبة والعدالة والخير المشترك. من جهة أخرى، وكما ذكرت سابقا، “التقنية ليست أبدا تقنية فقط إذ إنها تعبّر عن الإنسان وتطلعاته نحو النمو وتعكس ميل النفس البشرية نحو تخط تدريجي للارتهانات المادية. وبالتالي تندرج التقنية في إطار “فلاحة الأرض وحراستها” (تكوين 2/15) مهمة أوكلها الله للإنسان ولا بد أن توجه نحو توطيد التحالف بين الكائن البشري والبيئة الواجب أن يكون مرآة لمحبة الله الخالقة”. 25
- يبدو بصورة جلية أن موضوع التدهور البيئي يتعلق بتصرفات كل واحد منا، بأنماط الحياة ونماذج الاستهلاك والإنتاج السائدة حاليا والمرفوضة غالبا من وجهة النظر الاجتماعية، البيئية وحتى الاقتصادية. بات من الضروري تبدل في الذهنية يحمل الجميع على تبني أنماط حياة جديدة “يكون فيها البحث عن الحق والجمال والصلاح والتعاون مع الغير في سبيل نمو شامل عناصر تحدد خيارات الاستهلاك والتوفير والتوظيف”. 26 لا بد من التربية على بناء السلام انطلاقا من خيارات واسعة المدى على مستوى شخصي، عائلي، جماعي وسياسي كوننا مسؤولين عن حماية الخليقة والعناية بها وهي مسؤولية لا تعرف حدودا. وفقا لمبدأ التكافل من الأهمية بمكان أن يلتزم كل واحد منا على مستواه الشخصي ويعمل في سبيل تخطي تفوق المصالح الخاصة. ودور التوعية والتنشئة يقع بنوع خاص على عاتق مختلف مكونات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية الساعية بحزم وسخاء لنشر مسؤولية إيكولوجية تكون أكثر ارتباطا باحترام “الإيكولوجيا الإنسانية”. ينبغي بالتالي تحسيس وسائل الإعلام في هذا الإطار من خلال طرح نماذج إيجابية تكون مصدر وحي لها. الاهتمام بالبيئة يقتضي رؤى واسعة وشاملة للعالم وجهدا مشتركا ومسؤولا للعبور من منطق يستند إلى المصلحة القومية الأنانية إلى رؤية تطال احتياجات جميع الشعوب. لا يسعنا البقاء غير مبالين بما يحصل حولنا لأن تدهور أي شطر من الأرض يعود بالضرر على الجميع. من هنا ضرورة أن تكتسب العلاقات بين الأشخاص والفرق الاجتماعية والدول، شأن العلاقات بين الإنسان والبيئة، طابع الاحترام “والمحبة في الحقيقة”. الأمنية في هذا السياق أن تجد صدى فعالا لها جهود المجتمع الدولي الرامية إلى تحقيق نزع السلاح بشكل تدريجي وعالم خال من الأسلحة النووية التي يهدد حضورها حياة الأرض وعملية النمو الكامل للإنسانية الحاضرة والآتية.
- للكنيسة مسؤولية تجاه الخليقة وتشعر بواجب ممارستها حتى في الحقل العام للدفاع عن الأرض والمياه والهواء التي وهبها الله الخالق للجميع وقبل كل شيء لحماية الإنسان من خطر القضاء على ذاته. في الواقع إن تدهور الطبيعة مرتبط ارتباطا وثيقا بالثقافة التي تصقل التعايش البشري لذا “عندما تحترم “الإيكولوجيا الإنسانية” داخل المجتمع يعود ذلك بالفائدة على الإيكولوجيا البيئية”.27 لا يمكن أن نطلب إلى الشبان أن يحترموا البيئة إن لم يجدوا المساعدة داخل أسرهم وفي مجتمعاتهم على احترام أنفسهم: فكتاب الطبيعة واحد أكان فيما يتعلق بالبيئة أم بالخلقية الشخصية، العائلية والاجتماعية.28 تتأتى الواجبات تجاه البيئة من واجبات الشخص تجاه نفسه وفي علاقته مع الآخرين. يطيب لي بالتالي أن أشجع التربية على مسؤولية إيكولوجية تصون، كما ذكرت في رسالتي العامة المحبة في الحقيقة، “إيكولوجيا إنسانية” أصيلة وتؤكد باقتناع متجدد عدم المساس بالحياة الإنسانية في مختلف مراحلها وظروفها، كرامة الشخص ورسالة الأسرة اللا بديل لها حيث التربية على محبة القريب واحترام الطبيعة.29 لا بد من حماية الإرث البشري للمجتمع، إرث القيم الذي يجد أصوله في الشريعة الأدبية الطبيعية، أساس احترام الشخص البشري والخليقة.
- لا ننسى أخيرا أن كثيرين يجدون الطمأنينة والسلام ويشعرون بأنهم أكثر حيوية في علاقتهم مع جمال الطبيعة وتناغمها. هناك ضرب من التبادلية: إننا إذ نعتني بالخليقة نلاحظ أن الله، بواسطة الخليقة، يعتني بنا. ومن جهة أخرى فإن مفهوما سليما لعلاقة الإنسان بالبيئة لا يؤدي إلى إعطاء الطبيعة بعدا مطلقا أو اعتبارها أكثر أهمية من الشخص نفسه. وإذا تعبّر تعاليم الكنيسة عن شكوك حيال مفهوم للبيئة مستوحى من مبدأي البيئة محور كل شيء والرؤية الطبيعية للكون إنما تفعل هذا بدافع كون هذا المفهوم يزيل الفارق الأونطولوجي وعقيدة القيم بين الشخص البشري والكائنات الحية الأخرى ما يعني بالتالي محو هوية الإنسان ودوره الأعلى وتسهيل رؤية متساوية “لكرامة” جميع الكائنات الحية. يطرح هذا الوضع نوعا جديدا من مذهب وحدة الوجود مع معالم وثنية جديدة تجعل خلاص الإنسان يتأتي من طبيعتها بالمعنى الطبيعي الصرف. إن الكنيسة تدعو إلى معالجة المسألة بشكل متّزن ضمن احترام “القواعد” التي وضعها الله في تصميمه إذ أوكل إلى الإنسان دور الحارس والمسؤول عن الخليقة، وهو دور يجب ألا يفرط في أدائه، ولا يمكنه التنصل منه. في الواقع يصبح الموقف المخالف أي إعطاء التقنية والسلطة الإنسانية بعدا مطلقا تعديا خطيرا ليس فقط على الطبيعة إنما أيضا على الكرامة البشرية ذاتها”. 29
- إذا شئت زرع السلام، فاحمِ الخليقة. إن الإقرار المشترك بالعلاقة بين الله والكائنات البشرية والخليقة كلها يساهم في عملية البحث عن السلام من قبل جميع البشر ذوي الإرادة الحسنة. وإذ يتبعون تقليد الكنيسة ينيرهم الوحي الإلهي، يقدّم المسيحيون إسهامهم الشخصي. إنهم يرون الكون وعجائبه في ضوء عمل الآب المبدع وعمل المسيح الفدائي الذي بموته وقيامته تصالح مع الله “سواء في الأرض وفي السموات” (كول 20،1). لقد منح المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات عطية للبشرية روحه المقدِّس الذي يقود مسيرة التاريخ بانتظار مجيء يوم الله الرب حيث ستنفتح “سماوات جديدة وأرض جديدة” (2 بط 13،3) يقيم فيهما البر. وبالتالي فإن حماية البيئة الطبيعية لبناء عالم سلام واجب كل شخص. إنه تحد ملح لا بد من مواجهته بالتزام جماعي ومتجدد وفرصة مواتية لإعطاء الأجيال الجديدة تطلعات مستقبل أفضل للجميع. فليدرك المسؤولون عن الأمم والذين على مختلف المستويات يعلقون أهمية على مصائر الإنسانية أن حماية الخليقة وتحقيق السلام واقعان مرتبطان بشكل وثيق! أدعو جميع المؤمنين لرفع صلواتهم الحارة إلى لله الكلي القدرة، الخالق والآب الرحيم كي يدوي في قلب كل رجل وكل امرأة النداء الملح: إذا شئت زرع السلام، فاحمِ الخليقة.
عن الفاتيكان، 8 ديسمبر 2009
بندكتس السادس عشر
- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 198.
- بندكتس السادس عشر، رسالة يوم السلام العالمي 2008، 7.
- راجع رقم 48.
- دانتيه أليغييري، الكوميديا الإلهية، الفردوس، 32، 145.
- رسالة يوم السلام العالمي 1990، 1.
- الرسالة الرسولية الذكرى الثمانون، 21.
- رسالة يوم السلام العالمي، 10.
- بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقيقة، 32.
- التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 295.
- هرقليتس الأفسسي (535 ق.م ـ 475 ق.م) مقتطف 22ب124، هـ. ديلز ـ ف. كرانز، مقتطفات ما قبل سقراط، فايدمان، برلين 1952.
- بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقيقة، 48.
- يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة السنة المائة، 37.
- بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقيقة، 50.
- الدستور الرعوي فرح ورجاء، 69.
- يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 34.
- بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقيقة، 37.
- المجلس البابوي للعدالة والسلام، ملخص العقيدة الاجتماعية للكنيسة، 467؛ بولس السادس، الرسالة العامة ترقي الشعوب، 17.
- يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة السنة المائة، 30-31. 43.
- بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقيقة، 49.
- المرجع نفسه.
- القديس توما الأكويني، المختصر اللاهوتي، 2 ـ 2، 49، 5.
- راجع رقم 9.
- راجع رقم 8.
- بولس السادس، الرسالة العامة ترقي الشعوب، 43.
- الرسالة العامة المحبة في الحقيقة، 69.
- يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة السنة المائة، 36.
- بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقيقة، 51.
- المرجع نفسه، 15. 51.
- المرجع نفسه 28. 51. 61؛ يوحنا بولس الثاني، الرسالة العامة السنة المائة، 38. 39.
- بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة المحبة في الحقيقة، 70.
Discussion about this post