أمل و صلاة لسيدة الوردية المقدسة
عندما نتأمّل بتاريخ المسبحة الورديّة، من البديهي أن نتوقّف عند اهتمام العذراء الكبير فيها، وإلحاحها الشديد على تلاوتها في كلّ رسائلها الموجّهة للعالم.
وهذا ما يثبت لنا فعاليّة هذه الصلاة وتأثيرها العميق في الحياة الروحيّة، ومدى وقعها الطيّب والمستحبّ على قلب مريم.
وبالتالي رضى الله تعالى وموافقته على أخذها كصلاة إلهيّة لها دور كبير في السمو والكمال الروحيّ وخلاص النفوس. وما يثبت لنا رفعة وشرف هذه الصلاة أيضًا، أقوال الأحبار والملافنة المشجّعة لها، ومديح من أصبحوا قدّيسين فكانت قداستهم شهادة وبرهانًا قاطعًا على سمو هذه الصلاة العجائبيّة، التي اقبل على تلاوتها المؤمنون عبر الأجيال فخصّوها بمنـزلة رفيعة، وعاشوا تأملاتها، ووصلوا بفضلها إلى أسمى المراتب الروحيّة: وهي الاقتداء بالمسيح والاتحاد به. وأنّ العجائب الكثيرة الباهرة والنعم الغزيرة التي حصل عليها من واظب على تلاوتها، لا تحصى ولا تعدّ وأخبارها تتناقلها الأجيال ونسمعها من آبائنا وأجدادنا، فتُخبر عن مجد وعظمة السيّدة العذراء سلطانة الورديّة المقدّسة، تلك الأم الحنون وشفيعة من طلب شفاعتها واحتمى بكنفها.
فكانت تلك الثوابت ردًّا على كلّ من سمحت له نفسه بإنكار فعاليّة وأهميّة هذه الصلاة، أو الاستخفاف بها، ونقضًا لكلّ الأقاويل الخاطئة وخصوصًا منها، لمن يدّعون بأبناء العصر المتمدّن والمتقدّم، قولهم: بأنّ المسبحة هي “موضة قديمة” وبالتالي فهي “للعجائز وللراهبات في الأديرة”. وفي الحقيقة إنّ هؤلاء تقدّموا في كلّ الأمور إلاّ الأهمّ والأسمى منها ألا وهي الناحية الروحيّة.
لذلك يجب أن لا نتأثّر بهذا التيار الملتوي، فنعود دومًا إلى الينابيع الروحيّة، إلى تاريخ المسبحة، إلى أقوال السيّدة العذراء وإلى حياة آبائنا وأجدادنا، فنجد الحقيقة ساطعة سطوع الشمس. وهكذا لا يبقى لنا عذر بعدم الثقة بحماية العذراء، وبعدم التمسّك بالورديّة كسلاح نستعمله ضدّ قوى الشرّ التي تحاول باستمرار أن تربح كلّ النفوس لها، ومحاربة الأضاليل، وكفّ الهراطقة عن ضلالهم، وسحق البدع التي عمّت كلّ الأرجاء وانتشرت في كلّ النواحي بسبب قلّة الإيمان وعدم الوعي الروحيّ.
فنصبح عندئـذٍ بالفعل أبناءً لمريم نستحق شفاعتها ونتّخذ كلام السيّد المسيح إلى تلميذه يوحنّا “هذه أمّك” فيكون كلّ واحد منّا “يوحنّا” وتصبح مريم أمّنا جميعًا، متميّزين بإقبالنا على تلاوة الورديّة بحرارة وخشوع، لأنّها علامة من علامات بنيها وأحبّائها.
وهكذا نجدّد معها الإيمان بالمسيح لأنّه خلاصنا الوحيد، لا سيّما في هذه الأيّام الصعبة من تاريخ العالم حيث الفساد عمّ المعمورة، والكوارث والويلات تحصد كلّ يوم مئات ومئات الضحايا، وحيث الأمراض الخبيثة القاتلة تتفشّى بين الشعوب، وحيث كثرت البدع والهرطقات في عصر الكفر والإلحاد، فتحصد معها الكفار والمؤمنون معًا،
وحيث الإيمان يضمحل ويذوب بعدما فقد قوّته في النفوس، وحيث الميول والأهواء كلّها متّجهة نحو الملذات الأرضيّة والشهوات الجسديّة الفانية قاتلة النفس، وحيث هملت الواجبات الدينيّة وأصبح كلام الله ذا وقع ثقيل على المسامع، فاستبدل بالأحاديث الفارغة التافهة التي تفرغ الإنسان حتّى من آخر القيم الروحيّة.
فإذا أردنا أن يحلّ السلام سريعًا بين الناس وبين الأمم، وأن تزول المصائب والويلات، وأن تكون المحبّة عنوان التعامل بين البشر، فلنستمع لصوت العذراء أمّنا. وإذا أردنا في وسط هذه الضائقة الاقتصاديّة والتردّي الاجتماعي والخلقي أن تبادر إلى معونتنا وتكون حاميتنا،
فلنستعمل الوسيلة العمليّة التي فرضتها وهي صلاة الورديّة بخشوع وورع. فنتأمّل جيّدًا بأسرارها التي هي موجز لحياة يسوع وأمّه، لكي نستطيع أن نقتدي بهما. فنكون قد حقّقنا غاية التأملات؛ يقول القدّيس أغوسطينوس: “إنّ خير تكريم للقدّيسين. إنّما هو الاقتداء بفضائلهم”.
ولا نخف من إذاعة هذه الصلاة ونشرها، ومن تشجيع من نجد فيه آذانًا مصغية لاقتبال نصيحتنا. فالورديّة التي تتلى بروح التوبة، تجذب الكثيرين لإتمام واجباتهم الروحيّة. فعندئذٍ نحصل على نعمٍ كثيرة خصوصيّة وعموميّة، زمنيّة وروحيّة.
لنصلّ دائمًا المسبحة الورديّة، وتحت رعاية أمنا العذراء وملكتنا وبروح الندامة الصادقة. ولنتأمّل في كلّ سرّ من أسرارها سيّدنا يسوع المسيح طريق الحقّ ونور العالم. وعندما نعرفه حقّ المعرفة فلا نفتّش إلاّ عن السلام الحقيقيّ الوحيد “سلام المسيح في مملكة المسيح”.
صــلاة
أيّتها العذراء مريم، يا سلطانة الورديّة المقدّسة، يا من تحقّقت فيك جميع النبوءات وتحقّق وعد الله للبشر. فتشرّفت بحمل الإله مخلّص العالم وقدس الأقداس، وكنت له أمًّا حنونة رافقته طوال حياته على الأرض: فرحت بفرحه وحزنت بحزنه وتمجّدت بمجده.
استحققت أن ندعوك شريكة في فداء العالم وخلاصه. فكنت أمًّا لجميع البشر منتَخَبة من الله لتكوني رسولة محبّة وسلام لأبنائه، تحقّقين رغبته وهي إنهاض البشر من الخطيئة وإزالة روح الشرّ من النفوس. أدركت سرّ الفداء فكان خلاص البشر عنوان رسالتك الطويلة وأسرعت بكلّ غيرة لإنقاذ أولادك من براثن الخطيئة. كيف لا! ولأجل ذلك تألّم ابنك ومات وتألّت معه. كانت جراحاته تطعن قلبك الطاهر الذي ما برح ينـزف دمًا بسبب خطايا العالم ومعاصيه، هذا العالم الذي يميل نحو الشرور ويسير بعكس إرادة الله ومشيئته.
ولكنّكِ الأم الشفوق الغيورة على خلاص أبنائك لا تريدين أن يهلك أحد منهم، فكانت ورديّتك التي تجسّد محبّتك لنا، سلاحًا لمحاربة الشرّ، عندما أصبح العالم ينهار رازحًا تحت نير الخطيئة.
نسألك أيتها الأم العطوف أن لا تدعينا نهلك وكوني لنا العون الدائم، واطلبي لنا من الله الرحمة والصفح عمّا فعلت أيدينا من مآثم. وكما استمعت لتضرّعات القدّيس عبد الأحد نسألك أيضًا أن تقبلي تضرّعاتنا، وتساعدينا أن نسير على خطاه، فنجعل من ورديّتك المقدّسة سلاحنا الدائم ضدّ كلّ الأخطار وتجارب الشرير. فنصلّيها بكلّ خشوع وحبّ لكي نستحقّ أن ننال بها شفاعتك وحبّك وحنانك وعطفك.
أيتها الأم الرؤوف كوني دومًا معنا ليكون السلام في بيوتنا ومجتمعاتنا، سلام المسيح الذي أحبّ العالم محبّة لا متناهية، فدفع ثمن خلاصه دمه وحياته.
اجعلينا يا مريم أن نسلك طرق الربّ القويمة وكوني شفيعتنا رغم تناسينا لك، لأنّنا ضعفاء، قوّينا بقوّة الروح القدس الذي حلّ عليك، فنكون رسلاً وشهودًا لكلمة الله القدّوس نحملها في قلوبنا وتكون الوحيدة على ألسنتنا لأنّ لا شيء أرفع وأسمى وأقدس منها.
عرّفينا يا أمّنا حقارة الأرض وبهاء السماء، لندرك مدى السعادة التي تنتظرنا. فيكون هذا العالم فقط مسرح جهاد يوصلنا للملكوت حيث السعادة الحقيقيّة بقرب خالقنا. فنستحقّ أن نشاهد مجده وعظمته، ويكون لنا شرف تسبيحه وتمجيده برفقة الملائكة والقدّيسين إلى دهر الدهور. آمين.
من كتاب :
الورديّـــة نشأتها وتاريخها
دورُها وأهميّتها في الحياةِ الرّوحيّة
جمعيّة “جنود مريم”
No Result
View All Result
Discussion about this post