القسم الثاني / الفصل الثالث
القدّيسة فيرونيكا و علم التكفير (التعويض)
إنّ علم التكفير على جانب كبير من الأهميّة في عالمنا المعاصر.
فالمجتمعات الحاليّة “المؤلّهة للجسد”، والباحثة عن رغد العيش، لا تستطيع أن تتقبّل هذا العلم، لكونه يتعارض مع مبادئها وقيمها القائمة على البحث عن اللذة والانكباب الجامح على كلّ ما تشتهيه الحواس والرغبات، على كلّ ما “يلذ لنا”.
فإنّ علم التكفير هذا، يهذّبنا ويحثّنا ليس فقط على تقبّل آلام وصعوبات الحياة، بل أيضًا على البحث الطوعي عن التجرّد، وحرمان الذات والإماتة.
ما المنابع التي استُقي منها هذا العلم؟
قبل الغوص في الكتاب المقدّس واللاهوت، خصوصًا بعد ما أثبتناه في الفصل السابق من حقائق حول جهنّم، لا يسعنا أبدًا أن نتغاضى عن ذكر العبارة الشهيّة في الرسالة التي وجّهتها والدة الله إلى البشريّة جمعاء عبر الأطفال الثلاثة الذين عاينوا ظهورات فاطمة. وهي عبارة تختصر بمضمونها مفهوم عام التكفير أو التعويض، وقد ورد فيها: “العديد من الأنفس تسقط في جهنم لعدم وجود من يصلّي ويقوم بالإماتات لأجلها”.
في هذه العبارة نجد أسس علم التكفير الشهير، خاصّة في كتابات القدّيس بولس الرسول – الذي كانت القدّيسة تدعوه “رسولي القدّيس بولس”، كما قد ذكرنا – خاصّة في الرسالة إلى أهل كولوسي 1/24 : “إنّني أفرح بالآلام التي أقاسيها من أجلكم، وأكمّل في جسدي ما نقص من آلام المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة”
كذلك في الرسالة الأولى للقدّيس بطرس الرسول 2/21: “المسيح قد تألّم عنكم تاركًا لكم مثلاً تقتدون به”.
فما أعظم اقتداء القدّيسة فيرونيكا بالآم السيّد المسيح.
إنّ حياة القدّيسة فيرونيكا التي عبّرت عنها كتاباتها خير تعبير، مطبوعة بكلّيتها برائحة علم التكفير هذا،
حتّى أنّ الكاردينال بالاتسيني، بعدما أعلن أنّ رسالة القدّيسة فيرونيكا لم تبدأ بعد في الكنيسة، لم يتورّع عن الاعتراف بضرورة التوقّف عند مبدأ التكفير الذي له منـزلة كبيرة في يوميّات القدّيسة، والذي يعطينا الحقّ بأن نعتبرها المعلّمة الأسمى لعلم التكفير”.
فمنذ مركاتيلّو، وهي لا تزال طفلة، كان يسوع قد قال لها:
“إنّك لي. وأنا لك. ستكونين عروستي، مشاركتي في عمل الفداء”.
ولقد تسنّى للقدّيسة فيرونيكا التعمّق أكثر في دعوة التكفير بالألم. فها إنّ يسوع يشرح لها قائلاً: إنّ الإنسان الذي خُلق بفعل الحبّ”. لأجل الحبّ، قد هان “الحبّ” بكبرياء الروح وبتمرّد الجسد.
أنا قد ضمّدت الجرح المُلحق بالحبّ الخالق، وضمّدته بواسطة الألم الأقصى. من يريد على مثالي أن يعوّض عن الحبّ الخالق؟ من سوف يريد أن يكمّل في ذاته ما نقص من آلامي الفدائيّة؟ أتحبّيني؟”
أجابته فيرونيكا: “ها آنذا يا ربّ! إنّي أريد صليبك.
أريد فيّ كلّ العذابات التي أصابتك؛ فمعك، وعلى مثالك، أريد أن أعوّض عن الحبّ الخالق؛ وبالأكثر، فإنّني أبتغي كلّ السيوف التي اخترقت قلب مريم شريكة الفداء، أريدها أن تخترق قلبي. إنّكَ تسألني: “أتحبّيني؟ آه! كم إنّي أحبّك يا ربّ! فإنّني أقول لك فعلاً: أصلب فيرونيكا”.
تابع يسوع كلامه قائلاً: “بواسطة جراحاتي ضمّدت الجرح المُلحق بالحبّ الخالق. من سيبتغي أن يطيّب الجراحات الملحقة بي، أنا الحبّ الفادي”؟
وترى فيرونيكا يسوع مخضّبًا بالدماء: دم في عينيه، في فمه، وعلى جسده كافّة. يا إلهي، تصرخ من بدّل أحوالك على هذا النحو؟ فيجيبها: الخطأة، الهراطقة؛ وخاصّة الذين ينكرون عليّ صفة الحبّ”.
فتتقدّم بيدٍ مرتجفة، وهي تشهق بالبكاء: سأكون أنا فيرونيكا خاصّتك، المعوّضة والمعزيّة. إنّي أهب دمي تعويضًا عن دمك… أهب ذاتي لكيما يسمّرني الخطأة بدلاً عنك… سأكون رسولتك. إنّني أحبّك”.
وفي موضع آخر، يُظهر لها يسوع قيمة الألم، فتبادر إلى كتابة نشيد إكرامًا للألم:
“إنّ درهمًا من الألم تفوق قيمة كلّ ثروات وكلّ أفراح العالم. لو كان لي ألف لسان لما استطعت أن أعبّر عن الخير الذي يجلبه الألم للنفس… إنّ الألم هو مفتاح الحبّ… من يسير في درب الألم الحقّ، ليس لديه رغبة سوى في أن يخدم الله بحبّ صافٍ، والحبّ النقيّ يزداد بقدر ما يزداد الألم الحقّ… صلبانًا أعطني! صلبانًا أريد!
إرادتي هي ألاّ أحيا دون عذاب؛ دون عذاب لا أستطيع أن أحيا… أيّها الصليب الصالح، تعالي إليّ! أيّها الصليب العزيز، خذني وسمّرني عليك! أيّها الكنـز العظيم، يا سرير الحبّ، إجعلني أرتاح بين ذراعيك! أيّها الصليب العزيز، تعالَ إليّ! أنت وحدك من أتوق إليك، أنت وحدك من انتقيته سندًا لي ومتّكأ.
لماذا ارتضت فيرونيكا هذه الحياة؟
لدى تصفّحنا يوميّاتها، يتّضح الأمر جليًّا:
لأجل الذين يخطئون، لأجل الذين لا يحتشمون، لأجل الذين يتلذّذون، لأجل الذين لا يصلّون، لأجل الذين لا يحبّون، لأجل هؤلاء جميعًا ينبغي التكفير، التستّر، التألّم، الصلاة، والحبّ.
كانت تشعر دائمًا بأنّها مدعوّة لأن تقدّم للعريس السماويّ عذابات اختياريّة إضافيّة، لكيما تكفّر عن ذاتها أوّلاً، – كما كان يطيب لها أن تكرّر – وعن الخطأة ثانيًا.
لذا فإنّنا نجد في حياتها أصنافًا وألوانًا عديدة من الصلوات ومن الإماتات، بأساليب متعدّدة وعلى درجات متفاوتة نذكر منها:
أ – درب الصليب: كانت فيرونيكا تحمل صليبًا ثقيلاً على كتفها، أو جذع شجرة، أو مقعدًا ثقيلاً. كانت تركع على الحجارة وعلى الثلج، تقوم بتطوافات ليليّة، صاعدة الأدراج على ركبتيها، ودماؤها تسيل.
ب – السهر الطويل: كانت تحيي السهرات الطويلة المليئة بالإماتات والتقشّفات. تنام قليلاً متمدّدة على لوح خشبي أو على أغصان العريش. كانت تخيط في ثوبها أشواكًا، متذكّرة إكليل الشوك الذي كان يجلّل رأس المصلوب.
ج – الصوم: في فترات الصوم، كانت تمارس فعل الحرمان، وترتدي المسوح، وتجلد نفسها لتضعف فيها الجسد، تكفيرًا عن خطايا عديدة يرتكبها البشر.
د – أساليب التكفير: لقد تفنّنت فيرونيكا في اختراع أساليب التكفير،
والأمثلة أكثر من أن تحصى: إذا تفوّه لسانها بكلمة بطّالة أو جارحة، كانت تعاقبه بوضع حجر فوقه ردحًا من الزمن. لذلك، كانت تسجن ذاتها في وضعيّات غير مريحة للغاية، لكي تكفّر عن تمادي الآخرين في استعمال حريّتهم.
يطول بنا الأمر إن ابتغينا وضع لائحة أساليب واختراعات أخرى تفوقها تقشّفًا بعد… إنّنا ندعو القرّاء أن يكتشفوها بالرجوع إلى كتب أكثر إسهابًا. وحريّ بنا أن نستمع إلى مقاطع كتبتها القدّيسة في هذا الشأن:
– شعرت بقلبي يشتعل توقًا… ذهبت ودعوت إحدى الأخوات، واقتدتها إلى الحديقة؛ فتلونا في كابيلا القدّيس فرنسيس الورديّة بأكملها لأجل ارتداد الخطأة. بقيت الأخت باسطة ذراعيها، بينما كنت أضرب ذاتي بالمجلدة. ومن ثَمّ ردّدنا صلوات أخرى على النوايا نفسها.
– “لدى انتهاء القدّاس الإلهيّ، كنت أشتعل كأتون. رتّلت فرض الصبا بصوت جهوريّ أكثر من المعتاد. ثمّ دعوت بعض الأخوات لاتّباعي إلى الحديقة.
فلحق بي تسعٌ منهنّ… قلت للأخوات: لنمضِ وندعُ الخطأة. وعلى هذه النيّة تلونا “طلبة العذراء” و”السلام عليك” يا نجمة البحر… لدى وصولنا إلى كابيلا القدّيس فرنسيس جلدنا أجسادنا؛ ثمّ عدنا إلى الكنيسة منشدين. هنا كرّرنا عمليّة الجلد ونحن نردّد ثلاثة وثلاثين دعاء إلى مخلّص العالم… ثمّ طلبت المغفرة عمّا سبّبته من شكوك، وحَذت الأخوات حذوي باكيات.
بعد ذلك عادت الأخوات إلى قلاّياتهنّ، أمّا أنا فعدت إلى البستان حيث مكثت مطوّلاً. الثلج كان عاليًا… لم يكن صوتي يطاوعني لدعوة النفوس، فعزّزته بصوت المجالد، الحبال، والأشواك؛ ومع كلّ ضربة كنت أدعو الخطأة للتوبة، وكذلك الهراطقة والأتراك…”.
كم في “اليوميّات” من تعاليم وأمثلة في غاية الأهميّة! هي التي كانت تنخطف بتواتر بشكل فائق الطبيعة، نراها دائمًا تلتجئ إلى الصلوات، والمسيرات، والإماتات البسيطة والمشتركة التي هي بمتناول الجميع.
هل ندرك مدى أهميّة روح التعويض والتكفير لدى القدّيسة فيرونيكا في زمننا الحاضر؟
تعويض يتخطّى شخصها ليضحي تكفيرًا جماعيًّا كما رأينا. ولا يكفي ذلك، بل كم من مرّة كانت تحضّ الرؤساء على ذلك. فلنذكر على سبيل المثال، عندما أراها الله الخطر الذي يتهدّد مدينتها بالذات، لأجل تكاثر الخلافات والخطايا، أقنعت الأسقف أوستاكي بتنظيم مسيرة توبة… فسكن غضب الله.
إنّ لغة القدّيسين، رغم بساطتها، عملة غير متداولة في عالمنا. أفلسنا بحاجة ماسّة إليها؟ أين هي اليوم مسيرات التوبة؟ هل نسينا نتائج النذر الذي أقامه البابا بيوس الثاني عشر لعذراء “الحبّ الجميل” في حال خلّصت روما من القصف (في الحرب العالميّة الثانية)؟ وقد خلّصتها! وهل نسينا صلاة الورديّة التي طلبها البابا القدّيس بيوس الخامس أثناء معركة “ليبانتو”؟
لم تخذله العذراء مريم! ربّما لم نعد نفكّر حتّى بالنبي يونان وبتوبة أهل نينوى! ألا زلنا نؤمن بذلك؟ أم نخشى أن ينتقدنا مجتمع عقلاني، أناني ومتكبّر؟
إنّ من أولى واجباتنا أن نحترم حكمة القدّيسين، ونستفيد منها. أكان القدّيس يوحنّا الإنجيلي يعلّم بأنّنا لا نستطيع أن نحبّ الله الذي لا نراه؟ ألم نحبّ القريب الذي نراه (1 يو 4/20-21)،
فكيف نستطيع أن نكون عارفين أوّلاً لجميل القدّيسين الذين هم أعضاء في جسده السرّي، والذين عانوا وتحمّلوا هم أيضًا الكثير لخلاصنا؟ هم الذين أكملوا في أجسادهم ما نقص من آلام المسيح، لأجل جسده الذي هو الكنيسة، والذي هو نحن.
فشكرًا إذًا أيّتها القدّيسة فيرونيكا! وشكرًا لكم جميعًا أيّها القدّيسون! وشكرًا بالأخصّ لوالدة الله القدّيسة وأمّنا مريم العذراء شريكة فداء العالم.
جمعيّة “جنود مريم”
Discussion about this post