القسم الثاني :
تعاليم القديسة فيرونيكا جولياني
الآن وقد استطاع القارئ الورع، بحسب اعتقادنا، أن “يلمس لمس اليد” مستوى القداسة الفريدة الذي بلغته هذه القدّيسة الساروفيميّة، وأن يتبيّن عظمة وغنى الكنوز الإلهيّة المختبئة في طيّات سيرتها، وفي “يوميّاتها”، فلا شكّ أنّ القارئ العزيز يوافق الأب “أرياتي”
في قوله بأنّنا “أمام ظاهرة فيرونيكا جولياني، لا يمكننا أبدًا أن نقف موقف ذوي الروحانيّة الزائفة” الذين يركضون باحثين دومًا عن الفائق الطبيعة، وأيضًا موقف رجل العلم الذي لا يمكنه تخطّي الأطر التحليليّة، بل موقف موسى أمام العلّيقة المشتعلة دون أن تحترق:
“أريد أن أقترب لأرى هذا المشهد العظيم” (خروج 3/3)؛ ومن المؤكّد أنّ القارئ أيضًا يوافق الأب المذكور في إعلانه أنّ متصوّفة شيتّا دي كاستيلّو الكبّوشيّة هي حالة فريدة من نوعها بين القدّيسين.
إنّها كذلك أوّلاً لأجل تعدّد وفرادة اختباراتها الصوفيّة! فليس هنالك من ظاهرة روحيّة أو جسديّة من الظواهر المسجّلة في سير القدّيسين، إلاّ واختبرتها ووصفتها؛ وقد امتازت بظواهر أخرى غير معروفة إطلاقًا.
أفليس في دعوتها للمشاركة في عذابات السيّد المسيح أو في سرّ الآلام، وفي سوى ذلك، خروج عن المألوف؟ فما من أحد تألّم على هذا الحدّ، أو تمتّع بالألم بمقدار ما تمتّعت به قدّيستنا.
نعلم إنّنا نستطيع الآن أن نتقبّل بجديّة أكبر قول الكاردينال بلاتزيني: “لا مناص من يصبح لرسالة القدّيسة فيرونيكا شأن في الكنيسة؟ وهي رسالة قد أعلن الربّ نفسه أنّها ستكون “لانتصار المحبّة وتثبيت الإيمان”.
ولنستمع إليه وهو يقول أيضًا: “إنّ رسالة القدّيسة فيرونيكا هي رسالة نبويّة كبيرة، يبدو وكأنّها أُعدّت خصّصيًا لزمننا هذا:
لتصحيح التواءات خطرة، للذين يجدّون السعي في البحث عن مسيحيّة دون صليب،
والذين يتأقلمون بطيب خاطر في فيض الخيرات الاستهلاكيّة التي دعا السيّد المسيح الجميع إلى الاكتفاء بالضروري منها، والأقوياء إلى التجرّد عنها”.
لكنّها أيضًا، وفوق كلّ شيء، رسالة نبويّة بوجه “العقلانيّة” التي تبحث عن معرفة أو عن جهل، عن تفريغ الإيمان من بُعده الفائق الطبيعة:
لأنّ العقل يبقى مذهولاً ومرتبكًا أمام تدفّق العنصر الإلهيّ في الأحداث اليوميّة التي كانت تحياها القدّيسة في ظواهر جسديّة متكرّرة، غير قابلة للنكران ولا للتفسير.
إنّه الله الذي يريد، منذ ذلك الحين، وبقدرة لا مثيل لها، إرباك العقلانيّة من خلال امرأة ضعيفة، وإخجالها، والسخرية منها، من خلال الوقائع الثابتة.
فإن كان صحيحًا أنّ الإيمان والعقل لا يتضادّان، فمن الصحيح أيضًا أنّ على العقل أن يعترف بمحدوديّته، حانيًا رأسه أمام الإلهيّات.
لذا، ونحن نتأمّل التعاليم المستقاة من قراءة اليوميّات”، لا بدّ من التأكيد على الحقائق الآتية:
أوّلاً: الطاعة لله وللكنيسة المقدّسة. فعندما كانت لا تزال معلّمة ابتداء، كانت تعلّم المبتدئات “التعليم المسيحيّ”، حتّى قبل الروحانيّة الخاصّة. كانت تكتب بحزم:
“أؤمن بما تؤمن به الكنيسة الرومانيّة”؛ وبالأخصّ الطاعة لممثّلي الله: رؤساء، معرّفين، سلطات كنسيّة، كانت تدعوها كلّها: “نائب الله على الأرض”: إنّ جرح قلبها، على سبيل المثال، كان ينفتح ويلتئم بحسب رغبة الطاعة، وإنّ مشاهدة الآلام كانت تتجدّد بحسب رغبة الرؤساء…
بالطاعة وحدها، بلغت فيرونيكا درجة الشفاء والموت. فبالنسبة إليها، أضحت الطاعة للمعرّف كـ “ختم الأمانة لله ولمريم الكليّة القداسة”، حتّى أنّها غدت توقّع تحت هذا الاسم: “ابنة الطاعة”.
ثانيًا: التواضع: ليس أجدى من التعمّق في تواضع القديسة: فرغم قداستها الجليّة، كانت تلتجئ لشفاعة القدّيسين، متوسّلة إليهم، متأمّلة —- أمام الله، كانت تعتبر ذاتها غير أهل للعيش مع أخواتها، فكيف بالحريّ أن تكون أمًّا رئيسة.
كم كان يصعب عليها الكتابة عن ذاتها في “اليوميّات”، وكم كانت تخجل من تلك العلامات الخارجيّة”، أي من “السمات”، طالبة من الله إخفاءها: كانت تبحث حقًّا عن درب الخفاء…
فالطوبى لها! كم من العِبَر لإنسان اليوم المتكبّر، المحبّ الأباطيل، الذي يذهب باحثًا عن السلطة، والشهرة، والمجد الباطل!!
ثالثًا: حبّ الفقر: إنّ حبّ فيرونيكا للفقر وعيشه بأمانة وقداسة، سببّا لها عناء كبيرًا، وأحدثا سوء فهم مع الآخرين. وعندما كانت تستشفّ تجاوزات من قبل أخواتها، غالبًا ما كانت تسترجع تأنيبات القدّيس فرنسيس والقدّيسة كلارا:
تستعمل الرقّة حينًا، والحزم أحيانًا، مرفقين دومًا بالفطنة، وكانت تنتصر…
كانت تعتبر الفقر الشرط الضروري للوصول إلى الحبّ، وقد باتت مثلاً حيًّا لتوبيخ الساعين إلى الرفاهية والرخاوة التي يحيا العالم بها في أيّامنا هذه، حتّى في ما بين المكرّسين والرهبان أحيانًا كثيرة.
رابعًا: التعبّد للثالوث الأقدس: منذ طفولتها، تعبّدت القدّيسة فيرونيكا للثالوث الأقدس تعبّدًا شديدًا، وقد استحقّت عن جدارة أن تدعوها مريم الكليّة القداسة:
“ابنة الآب، وعروسة الابن، وتلميذة الروح القدس”.
خامسًا: القربان الأقدس: اختراع الحبّ الكبير: هذا ما كانت القدّيسة فيرونيكا تطلقه على القربان الأقدس.
ولطالما كانت تلتجئ إليه طالبة النعم الأكثر صعوبة، وقد حصلت على إذن اقتباله كلّ يوم، وكم من المرّات اقتبلته على أيدي الملائكة… أو مريم الكليّة القداسة… بات لزامًا علينا أن نقرأ “اليوميّات”، لندرك مدى قلّة احترامنا للقدوس”، وقلّة إيماننا بالحضور الحقيقيّ والفاعل لله في هذا السرّ العظيم، حتّى ملامسة حدود هتك الأقداس. وبالعودة إلى القربان الأقدس، فهو مصدر جميع الثمار الروحيّة: “في كلّ مرّة تقتبله فيها في سرّ القربان الأقدس، يعود الله ويولد من جديد في الأنفس البارّة التي تخدمه من قلبها، وتتقبّله بطهارة”. يكفينا أن نذكر بأنّها كانت تُختطف متّحدة بالله بعد كلّ مناولة تقريبًا…
سادسًا: الصلاة: كان هاجسها الأساسيّ تحسين الصلاة وتطويرها، ويكفي أن نذكر أنّها رأت، في إحدى الليالي، الربّ جالسًا قربها في الخورس، مصلّيًا مع الجماعةة فرض نصف الليل؛ وكانت تراه هي وحدها؛
لقد قدّم يسوع هذه الصلاة تعويضًا عن النقائص والهفوات التي كانت القدّيسة قد ارتكبتها في الصلوات الطقسيّة… يا لها من مرآة تعكس حاجتنا القصوى لتقديم العبادة.
يطول بنا الأمر كثيرًا لو تابعنا تعداد فضائل القدّيسة فيرونيكا، غير أنّنا في استقرائنا “لليوميّات”، وإمعانًا في سبر أغوار محبّتها وفضائلها،
سنتوقّف عند بعض التعاليم الواردة فيها، لما فيها من كشف للتصدّي للعقلانيّة، إضافة إلى أنّها تكتسب أهميّة بالغة في حياتنا المعاصرة. هذه التعاليم يمكن إدراجها في أربعة فصول:
1. حبّ الله اللامتناهي.
2. الواقع المخيف لجهنّم وللأرواح المتمرّدة (الشياطين)
3. علم التكفير.
4. دور العذراء مريم الكليّة القداسة الذي لا يُستغنى عنه.
جمعيّة “جنود مريم”
Discussion about this post